43

أقول: إن لغز العلاقة بيني وبين الأحدب قد ازداد إلغازا حين قابلت إبراهيم على شاطئ البحر؛ فمنذ سمعت صوته يناديني بنبرة هي نفسها نبرة الصوت عند الأحدب، ثم حين جلس معي يوجز لي جهوده الدراسية التي اضطلع بها من تلقاء نفسه بعد التخرج، وجدت هذا الشعور العجيب يملؤني؛ فمحال ألا تكون هنالك علاقة لا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب بيني وبين الأحدب، ثم بيننا وبين إبراهيم؛ فلقد أحسست كأننا ثلاثة أعضاء من كيان عضوي واحد؛ أسمع عن الأحدب أخباره فأحب أن أسترجع أخبار الماضي الذي عشته، ثم يتحدث إلي إبراهيم عن جهوده فيخيل إلي أنه إنما يذكرني بنفسي، فمن أين جاء هذا الخلط العجيب بين أشخاصنا الثلاثة؟

تركني إبراهيم لأرسل بصري إلى الأفق البعيد، مسترجعا لنفسي شريط الأحداث كما وقعت لي بعد التخرج من مدرسة المعلمين العليا، فإذا المشهد أمامي ينشق إلى ثلاثة فروع تنبثق كلها من أروقة واحدة؛ ولا فرق عندي بين أن يكون هذا هو الماضي كما وقعت بالفعل، وبين أن يكون من خلق أوهامي، وحسبي أنها صورة صحيحة في أساسها وفروعها.

فلقد توهمت حين أرسلت البصر إلى الأفق البعيد أن أمامي ثلاثة رجال، سار كل منهم في طريق، لكن الطرق الثلاثة كانت تلتقي عند رأس واحد، فهنا رجل إلى اليسار قد أخذ في مشية متعثرة خفيفة الخطى، تقوس ظهره وكأنه الأحدب الذي عرفته، يتلفت يمنة ويسرة كأنه العصفور المذعور يخشى هجمة العقاب المفترس، وهناك رجل آخر إلى اليمين قد سبق بخياله مواقع قدميه، ونظر إلى بعيد فمرت الدنيا تحت أنفه وهو لا يراها لأنه انشغل بغده عن يومه، تبين الرجلين ثالث قيده الأمر الواقع بقيوده، فسار وكأن لم يكن أمامه أفق بعيد يرسل إليه البصر، وكأن لم يكن بعد يومه غد يرتجيه.

وكان لكل من الرجال الثلاثة نشاطه الخاص؛ الأول مدفوع بغرائز الفطرة، وكانت فيه بذور الأديب والفنان ؟ والثاني طموح، وجد نفسه يسكن الطابق الأرضي الذي لم يكن فوقه طابق يعلوه، فأراد أن يقيم بيديه الطوابق العليا واحدا فوق الآخر ليصعد إلى هواء نقي نظيف؟ وأما الثالث فهو يعمل كسبا للقوت، راضيا بما قسمه له خالقه من دنياه، أو لعله ركن إلى جناحيه الأيسر والأيمن ليكملا له جوانب النقص؛ فالأيسر منهما يطير بنا في دنيا العاطفة حتى ولو كانت هوجاء عمياء، والأيمن منهما يبني بالعقل الصرف صرحا هو في حاجة إلى بنائه لتعلو به مدارج الإدراك وإن لم يتبع ذلك علو في مدارج الحياة؛ فقل إنهم ثلاثة رجال، أو قل إنهم رجل واحد في ثلاثة شخوص؛ فالقولان سيان.

ولقد جاءت هذه الخواطر بصورة الأحدب إلى صفحة ذهني، فوجدتني مشوقا إلى لقائه، ولم أضيع دقيقة من وقتي بعد أن فرغت من مهمتي التي من أجلها ذهبت إلى الإسكندرية، وعدت مسرعا، وقصدت إلى مسكنه فور وصولي إلى القاهرة، كنت أصعد سلم داره، لافتا وجهي إلى أعلى إبان الصعود؛ وقبل أن أبلغ من «السلالم» نصفها، سمعت وقع قدميه هابطا، ولمحت أطراف سراويله، فوقفت حيث كنت، قدم أعلى وقدم أدنى، ويد ممسكة بالحاجز الخشبي.

رآني فأسرع الهبوط حتى كاد ينكفئ على وجهه، ولقيني والبشر يملؤه على نحو لا عهد لي به.

قال: أهلا، أين كنت؟ لقد طال غيابك عني، مع أن لدي من المفاجآت ما أردت أن أحدثك عنه.

قلت: مفاجآت في حياتك أنت؟!

قال: في حياة من تريد؟! لقد وجدتها بعد كل هذه الأعوام الطوال.

قلت: وجدت من؟

অজানা পৃষ্ঠা