وكان الأغلب على السياسة الأسبوعية أن تنقل عن الثقافة الفرنسية، كما كان يغلب على البلاغ الأسبوعي أن ينقل من الثقافة الإنجليزية، أو هكذا كان انطباعنا بحكم أن الأولى كانت تنشر لطه حسين ومحمد حسين هيكل وغيرهما من الذين تلقوا العلم في السوربون، وأن الثانية كانت تنشر للعقاد الذي وإن لم يتلق العلم في إنجلترا، إلا أن مصادره الرئيسية كانت من الأدب الإنجليزي.
بدأنا نحن نكتب المقالات في هاتين الصحيفتين، وأذكر أن أول مقالة كتبتها في حياتي الأدبية كانت تعليقا على الأغاني التي شاعت في ذلك الحين وامتلأت أصواتها - ولا أقول كلماتها؛ لأنها كانت في بعض أجزائها أصواتا بغير كلمات - أقول: إن مقالتي الأولى كانت تعليقا على تلك الأغاني التي امتلأت أصواتها بما يوحي بالدعارة؛ ونشرت لي تلك المقالة الأولى في السياسة الأسبوعية سنة 1927 فيما أذكر.
أقول: إننا أحسسنا برغبة قوية في أن نتصل بالصحافة، أنا وأخي ومعنا ثلاثة من مجموعة الأصدقاء ذوي الهواية الأدبية، واتفقنا بادئ الأمر على تكوين جمعية أدبية تنمو مع الزمن، وأقمنا عليها من بيننا رئيسا وسكرتيرا وأمينا للصندوق؛ أي إنه لم يبق منا إلا عضوان فقط بغير ألقاب، كنت أنا أحدهما، وقررنا في أول جلسة من جلساتنا التي كنا نعقدها في منزل الرئيس، أن يكون الاشتراك الشهري عشرة قروش - وهو كل ما كنا نستطيع الاستغناء عنه - كما قررنا أن نبدأ في تكوين مكتبة للجمعية تنمو هي الأخرى مع الزمن، وبدأنا بشراء كتاب كان قد صدر حديثا وارتجت له الصحافة الأدبية، هو كتاب «عصر المأمون» للدكتور فريد الرفاعي، ثم ماذا؟ ثم حزمنا أمرنا ذات يوم، وصممنا على أن نعرض أنفسنا للخدمة مجانا في الصحيفة التي تقبل العرض.
وبدأنا بجريدة الأهرام، ودخلنا نحن الخمسة على رئيس التحرير، يقودنا رئيسنا ونتبعه في صف كأننا جماعة من الطلاب جيء بها أمام ناظر المدرسة مشكوة، ويراد بها التحقيق فالعقاب، فكان هذا الدخول المتعثر المتخاذل الضعيف كفيلا وحده بأن يوحي إلى رئيس التحرير بالرفض السريع: ماذا تريدون؟ - نحن جمعية أدبية تريد الاشتغال بالصحافة (وكان المتحدث هو الرئيس)، وهو أجرأنا في توجيه نظره نحو من يحدثه في غير خجل، ولا عجب أن كان هو الوحيد من مجموعة الأصدقاء كلها، الذي صعد فيما بعد إلى مناصب الوزارة أكثر من مرة، وعمل في منصب من أعلى المناصب في منظمة العمل التابعة لهيئة الأمم المتحدة لفترة دامت عدة سنين)، ونحن لا نريد أجرا على عملنا - هكذا مضى رئيسنا في توجيه الخطاب إلى رئيس التحرير - وكل ما نريده هو أن يؤذن لنا بالاشتراك مع هيئة التحرير، نطيع ما نؤمر به، لتكون لنا بذلك فرصة للتدريب حتى إذا ما تخرجنا جعلنا الصحافة مهنتنا عن خبرة ودراية.
فقال رئيس التحرير في نغمة العطف، لكنها في الوقت نفسه نغمة المستخف بأحلام شباب نمر ساذج: أتمنى لكم التوفيق، لكن يحسن أن تنصرفوا إلى دروسكم، وأن ترجئوا هذا الحديث إلى ما بعد التخرج.
أجاب رئيسنا: ولكننا لو تركنا أمورنا تجري مجراها الطبيعي، فقد يجرفنا التيار، ونشتغل بالتدريس الذي نعد من أجله، مع أننا ذوو ميول أدبية واضحة، وربما ضاعت هذه الميول إذا نحن وأدناها في براعمها.
فأجاب رئيس التحرير بلهجة حاسمة: لا، لا، معاذ الله أن تفهم مني إنني أدعوكم إلى إهمال مواهبكم العظيمة، لكن صحيفة الأهرام تعتذر لأنها لا تستطيع قبول ما تعرضونه عليها.
وخرجنا من عنده صفا متعثرا متخاذلا ضعيفا كما دخلنا، وكل ما هنالك من فرق بين الحالتين، هو أن رئيسنا هذه المرة كان في مؤخرة القافلة، وما كدنا نخرج من دار الأهرام إلى الطريق حتى وقفنا قليلا إلى جوار الجدار، ونظر بعضنا إلى بعض ثم انفجرنا ضاحكين، إلا الرئيس فلم يضحك، بل قال في عزم: هلموا إلى صحيفة أخرى، تعالوا نذهب إلى جريدة السياسة.
وتبعناه إلى جريدة السياسة في شارع المبتديان، وطلبنا مقابلة رئيس التحرير، فلم يكن في مكتبه ذلك المساء، ولكن أمرا حدث لم نتوقعه؛ وذلك أن الدكتور حافظ عفيفي أرسل إلينا من يستوقفنا ونحن نهبط السلم خارجين، وعدنا لنجده يستقبلنا استقبال الرائد للمسترشد، وأمر ففتحت لنا الغرفة المقابلة لغرفة رئيس التحرير، ودخلناها لنجدها «صالونا» فاخرا فرش كله بالقطيفة الحمراء؛ بساط وستائر وكراسي وأرائك، وجلسنا على أطراف المقاعد، وجلس أمامنا حافظ عفيفي، فقال في صوت هادئ: ماذا تريدون؟
فأجاب رئيسنا: نحن جماعة أدبية ... إلى آخر القصة.
অজানা পৃষ্ঠা