في اليوم التالي لسفر إسماعيل صدقي (باشا) - وكان ذلك في صيف سنة 1893 - مررت بأحد مقاهي الأستانة، فلقيت فيها بعض المصريين، وفيهم سعد زغلول بك (باشا) وكان وقتئذ قاضيا بالاستئناف، والشيخ علي يوسف، وحفني بك ناصف، وقد تأهبوا لزيارة السيد جمال الدين الأفغاني، فصحبتهم إلى منزله، وكنت أعرف طرفا من حياته، ولكني لم أكن قد اجتمعت به من قبل، وكان قد ذاع صيته في الشرق الإسلامي كمصلح ديني، وفيلسوف جليل، وسياسي خطير، ونزل مصر سنة 1871، وأقام بها حتى أواخر سنة 1879، وعلى يديه نبغت طائفة من العلماء وكبار الكتاب في القطر المصري، وقد رحل إلى الهند وإيران والعراق وأوربا، ثم أقام في أواخر حياته بالأستانة، فنزل ضيفا على السلطان عبد الحميد في منزل يدعى (المسافرخانة) موفور العيش ووسائل الاطمئنان، وقد قوبل من العلماء ورجال السياسة الأتراك بالحفاوة والإكرام، وكان يخرج عصر كل يوم للرياضة والنزهة في أطراف المدينة على عربة سلطانية خاصة.
ولما ذهبت إليه مع إخواني، ألفيته رجلا مهيب الطلعة قوي الشخصية لا نظير له بين أهل عصره في علمه وذكائه وألمعيته، وكان أبيض اللون، ربعة، ممتلئ البنية، أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، جذاب المنظر، يلبس عمامة وجبة وسراويل على زي علماء الأستانة.
وأظهر ما رأيته فيه سعة الاطلاع، وقوة الحجة والإقناع، فكان يستوي في مجلسه الطالب مثلي وأساتذته الحاضرون.
وفي اليوم التالي ذكرت لسعد زغلول رغبتي في التلمذة على السيد جمال الدين، وسألته عن السبيل التي أسلكها لأكون تلميذا له، فأجاب سعد: اذهب اليه، واطلب منه ذلك.
فقصدت إليه، فما كدت أقبل عليه حتى قام لتحيتي كالمعتاد، فقلت له: أنا لست زائرا، ولكني تلميذ ...
فسر رحمه الله بذلك، وأخذ علي عهدا بأن ألازمه طول إقامتي بالأستانة، وقد فعلت.
اشرب يا ولدي، اشرب!
وأهم ما أظن أني انتفعت به من السيد جمال الدين في تلك المدة أنه وسع في نفسي آفاق التفكير، وهداني إلى أن المرء لا يستطيع أن يربي نفسه إلا إذا حاسبها آخر كل يوم على ما قدمت من عمل، وما لفظت من قول، وما خطر لها من خاطر.
وكان جمال الدين ميالا للسياسة يتحدث عنها كثيرا، وكأنه يريد أن يقيم في الشرق دولة تضارع إنجلترا في الغرب.
وكان رحمه الله شديد النقمة على الإنجليز؛ لسياستهم في البلاد الإسلامية، وهدمهم لدول الإسلام، ولما وجده من اعتداءاتهم عليه، وإخراجهم له من الهند، ودسهم له في مصر حتى أخرج منها في عهد الخديو توفيق، وهو الذي كان يتمتع في عهد الخديو إسماعيل بكرم الضيافة المصرية، وكان يجرى له راتب شهري، وقد روى لي قصة سعيه الحثيث في ذلك العهد للإفراج عن لطيف سليم باشا ومن معه من الحبس حينما قاموا بالثورة العسكرية في مدة الوزارة المختلطة.
অজানা পৃষ্ঠা