ليس علي أن أدخل للقارئ من باب الشعراء، فأتكلف له وصف السماء وما تفعل الريح في وجه الماء، ولكن علي أن أنقل له الوقائع في رحلتي إلى باريس سنة 1909 كما رأيتها منذ نحو ثلاثة وخمسين عاما.
في البحر كما في البر الناس هم الناس، لا ينزلون عن شيء من طبائعهم الأصلية، ولا ما صار لهم بحكم العادة والتقاليد، فإذا جاء الغروب نزلوا جميعا كل إلى مخدعه؛ ليمضي وقتا غير قليل في تنظيف وجهه وما علاه من غبار، وفرق شعره، ثم لبس السواد المعروف «بالإسموكن» للرجال، وتلبس النساء خير ما لديهن، وخيره واسع الطوق، وليس هذا عندي بمنتقد في ذاته، فما كانت النظافة إثما ، ولا التجميل عيبا، ولكني أرى بوجه عام أن فكرة الزينة تأخذ من الناس مأخذها حتى لقد يفضلها المرء على راحته، ويغلو في المحافظة عليها حتى لقد أصبحت من حاجاته، وما هي منها في شيء، ولكن الغلو في الزينة، وإرضاء شهوة التجمل بالعريض تجعل للإنسان حاجيا ما ليس بحاجي، فتزيد في مقدار أسره، وتقوي حلقات القيود والعادات التي يربط بها نفسه في هذه الحياة.
حكم العادة
اختلف منا اثنان قال أحدهما: «إن العادة القومية هي جزء مهم من مقومات الفرد من حيث كونه فردا في أمة معينة، فالتنازل عن العادة هو تنازل عن إحدى المقومات، وليس من عادتنا أن نلبس ملابس خاصة للعشاء، فما أنا بمغير ملابسي.»
قال الآخر: «إنا بين قوم نعيش فيهم الآن، فمن اللياقة أن نشاكلهم فيما يصنعون بما لا يذهب بالمروءة أو تحرمه العادات الشرقية، ولو أن لنا شركات ملاحة مصرية تنقل الناس من قارة إلى قارة والتزمنا فيها عاداتنا لاتبعها الذين يركبون مراكبنا.»
على ذلك كانت أغلبيتنا - نحن المصريين - تتراوح في العمل بين هذا الرأي وهذا الرأي، أعجبني هذا التسامح من الفريقين إلا أن المبادئ التي يطرقها لنا العلماء والكتاب كل يوم؛ لتكون لنا أصلا للسلوك في هذه الحياة، قل أن تخلو من خطأ، بل من النادر جدا أن تخلو قاعدة عامة من الاستثناء والتخصيص، صدق الإمام الشافعي إذ يقول: «ما من عام إلا وخصص، حتى هذه القاعدة!»
وإني أسوق هذا الحديث لبيان ما استطرد إليه بحث المتناظرين من الأسف على فقدان ما كان لمصر من بحارة وبحرية لو كانت دامت وتبعت الرقي الزمني لولدت كفاءات بحرية تكون مصدرا لتأسيس شركات الملاحة والنقل.
وصلنا إلى «مرسيليا»، فإذا هي هادئة على ما فيها من الاعتصاب الذي يدعو إلى الأسف؛ لما يسببه من الخسائر، ولكنه من جهة يدعو إلى الإعجاب بقوة التضامن بين عمال البحر، وتضافرهم على الوصول إلى حقهم مهما مسهم من جراء الاعتصاب من الفقر والعذاب.
وبعد ذلك وصلنا إلى مدينة «ليون» مهد الجد والعمل، وموطن الحرير وكثير من صنوف المصنوعات الفرنسية، وأهم ما لفت نظري في هذه المدينة هذه المرة ملاحظة بسيطة جدا أجعلها أساسا للمقابلة بين ما تعمل حكومة الأمة، وما تعمل حكومة الفرد:
هذه المدينة العظيمة تخللها جنات كثيرة في معظم ميادينها، بعضها صغير، وإن كان وارف الظل، نافعا جدا ليكون ملعبا للأطفال آخر النهار، وبعضها كبير جدا «كالروضة الكبرى»، دخلت في كثير من هذه الرياض الجميلة التي يظهر من تخطيطها وتقسيمها أنه ينفق لحفظها مبالغ طائلة، فما رأيت على أبوابها بوابا يعترضني، فيطالبني بدفع رسم كما كان يقف بواب الأزبكية يطالب الصغير والكبير والغني والفقير بدفع رسم معلوم! إن حكومتنا غنية عن جمع رسم ضئيل، مثل هذا الرسم لا ينفعها، ولكنه يضر الفقراء، وهم الأغلبية العظمى من الشعب، الذين يحتاجون إلى التمتع بالحدائق التي أنشئت من أموال الشعب. (2) ما كل باريس لهو
অজানা পৃষ্ঠা