1 - نشأتي الأولى
2 - اشتغالي بالسياسة
3 - اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
4 - لورد كرومر أمام التاريخ
5 - ردي على اللورد كرومر
6 - طالبنا بالاستقلال التام فقالوا خرجتم على الباب العالي
7 - أربعة رجال عرفتهم
8 - رحلتي إلى أوربا وإلى المدينة المنورة
9 - مع سعد زغلول والخديو عباس
10 - عرفت تولستوي وفتحي زغلول
11 - موقفنا من الحرب سنة 1914
12 - في ثورة سنة 1919
13 - من الجامعة إلى الوزارة
14 - من الوزارة إلى المجمع اللغوي!
15 - الأخلاق وكيف ينبغي أن تكون لتحقيق سلام عالمي
1 - نشأتي الأولى
2 - اشتغالي بالسياسة
3 - اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
4 - لورد كرومر أمام التاريخ
5 - ردي على اللورد كرومر
6 - طالبنا بالاستقلال التام فقالوا خرجتم على الباب العالي
7 - أربعة رجال عرفتهم
8 - رحلتي إلى أوربا وإلى المدينة المنورة
9 - مع سعد زغلول والخديو عباس
10 - عرفت تولستوي وفتحي زغلول
11 - موقفنا من الحرب سنة 1914
12 - في ثورة سنة 1919
13 - من الجامعة إلى الوزارة
14 - من الوزارة إلى المجمع اللغوي!
15 - الأخلاق وكيف ينبغي أن تكون لتحقيق سلام عالمي
قصة حياتي
قصة حياتي
تأليف
أحمد لطفي السيد
الفصل الأول
نشأتي الأولى
(1) في قرية مصرية
نشأت في أسرة مصرية صميمة لا تعرف لها إلا الوطن المصري، ولا تعتز إلا بالمصرية، ولا تنتمي إلا إلى مصر؛ ذلك البلد الطيب الذي نشأ التمدن فيه منذ أقدم العصور، وله من الثروة الطبيعية والشرف القديم ما يكفل له الرقي والمجد.
وقد ولدت في 15 يناير سنة 1872م بقرية «برقين» من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية، وهي قرية صغيرة كان تعدادها في ذلك الحين يبلغ مائة نفس، ويشاع بين أهل الريف أن اسمها «النزلة» وربما سميت باسم «برقين» الفلسطينية، وقد تضاعف سكانها، فأصبح عددهم الآن نحو ألفي نفس، وهم زراع ماهرون مشهورون بالجد والنشاط والاستقامة، وقد اعتادوا أن ينطقوا القاف «جافا»، والجيم جيما معطشة كسائر أهالي مركز السنبلاوين، وما زالت هذه اللهجة تغلب علي في حديثي.
وكان والدي «السيد باشا أبو علي» عمدة هذه القرية كوالده «علي أبو سيد أحمد»، وقد كان يجيد حفظ القرآن الكريم كله، وعرف بشخصيته المهيبة، وقوة شكيمته، وعدالته في معاملته، وعطفه على أهل قريته وغيرهم ، وأذكر أنه ما قسا يوما علي، ولا وجه إلي كلمة نابية أو عبارة تؤلم نفسي، بل كان - طيب الله ثراه - عطوفا حكيما في تربية أبنائه، يعتني بالقدوة الحسنة، وحسن التوجيه والإرشاد.
ولما بلغت الرابعة من عمري أدخلني كتاب القرية، وكانت صاحبته سيدة تدعى «الشيخة فاطمة»، فمكثت فيه ست سنوات تعلمت فيها القراءة والكتابة، وحفظت القرآن كله، وكنت أجلس مع زملائي على الحصير، ونصنع الحبر بأيدينا، وإلى هذه السيدة يرجع فضل تنشئتي الأولى في تلك السنين.
ضرب العمد والأعيان
وقد كنت في العاشرة حينما أتممت حفظ القرآن في هذا الكتاب، فاشترى لي والدي «مهرة» من بادية الشام لم تألف رؤية قطار السكة الحديدية، فكنت أركبها للنزهة ولقضاء بعض الأعمال، وقد نصحني والدي بالابتعاد عن السكة الحديدية حتى لا يمسسني مكروه، وذات يوم امتطيت المهرة وذهبت إلى عزبة لنا في «طرانيس العرب»، وفاتني أن أعمل بنصيحة والدي، فسرت بها على طريق السكة الحديدية، وبينما أنا سائر بها؛ إذ فاجأني القطار فوثبت من فوقها وتركتها وحدها فجرت مسرعة حتى عادت إلى برقين، فذعر أهلي، وهاجت القرية، وظن الجميع أني أصبت بمكروه، وكنت وقتئذ وحيد والدي، فزاد ذلك من اهتمامهم وقلقهم، وما كاد القطار يقترب منهم حتى رأوا السائق يشير إليهم بمنديل أبيض، فاطمأن بالهم، ثم أخبرهم السائق بما فعلت، فبعثوا إلي بحمار عدت عليه إلى بلدتي، غير أني خشيت أن يعاقبني والدي، فهربت خوفا من «علقة» تصيبني، وجاء رجل من أهل القرية يدعى «عوض بدران» يهنئه بسلامتي ويقول له: «بركة عيشك يا بو علي»، وهو يعني «الحمد لله على السلامة»!
وجيء بي إلى والدي وأنا خائف أترقب، ولكنه - كعادته معي رحمه الله - ربت على كتفي قائلا: «لا تخالف أمري يا ولدي، ولا تسر مرة أخرى على السكة الحديد.» فأثر ذلك في نفسي، وازددت إعجابا به وحبا له.
وعلى ذكر «العلقة»، أذكر أن الضرب في ذلك الزمان كان مباحا، حتى ضرب العمد والأعيان! وكان هذا بعض ما يحدث في القرى المصرية من القسوة والاستبداد ، وقد رأيت بنفسي غير مرة؛ إذ كان لوالدي صديق يدعى أحمد كامل بك، وكان مفتش «تفنيش شاوى»، فكنت - وأنا بمدرسة المنصورة - أذهب إلى بيته يوم الجمعة، فأرى حوش التفنيش مرشوشا، والبيك المفتش قاعدا في صدره وقد وقف اثنان من «القواسة» يحملان الكرباج و«الفلقة» لضرب العمد الذين يتأخر أهالي قراهم في دفع الإيجار، وكانت هذه طريقتهم في ذلك الحين، فانظر كيف كانت الحال بالأمس، وكيف هي اليوم!
نوبار باشا: مسلم!
بعد أن أتممت حفظ القرآن الكريم رغب والدي في أن يبعثني للدراسة في الأزهر، وصادف في ذلك الوقت أن جاء يتغدى عندنا إبراهيم باشا أدهم - مدير الدقهلية سابقا - فدخلت لتحيته، فسأل والدي إلى أين يبعث بي للدراسة، فأجاب: «إلى الأزهر الشريف إن شاء الله»، فأشار عليه أن يبعث بي إلى مدرسة المنصورة الابتدائية، وكانت المدرسة الحكومية الوحيدة في الدقهلية كلها، وقد عين المرحوم أمين سامي باشا ناظرا لها، وكان معروفا بالدقة والنظام والشدة وعدم التسامح في أي تقصير يبدو من أحد التلاميذ، ومع ذلك فقد كنا نحبه ونحترمه ونشعر بأبوته الرحيمة، وكان بالمدرسة قسم داخلي، فالتحقت بالسنة الثانية بامتحان؛ لأني كنت - عدا حفظي للقرآن الكريم - أعرف قواعد الحساب الأربعة، و«سورة الفدان» من صراف بلدنا «المعلم حنين» وكان يلبس جبة وقفطانا.
وأذكر على سبيل الفكاهة أن أحدهم سأله يوما عن رئيس الوزارة نوبار باشا، فقال له: «قول لي يا معلم حنين، نوبار باشا مسلم؟»
فأجابه خبثا أو بسلامة نية: «نعم، مسلم وموحد بالله»! (2) العدس والفول فقط!
وكانت سنة 1882م حينما التحقت بمدرسة المنصورة الابتدائية، ولما اختطلت بزملائي التلاميذ شعرت بعد أيام بشيء من القلق؛ لأنهم كانوا يضحكون مني حينما أنطق القاف جافا كأهل بلدتي! هذا إلى أن الضرب والحبس في «الزنزانة» كانا من أنواع العقاب في هذه المدرسة، وقد رأيت في الأيام الأولى تلميذا وضعت رجلاه في الحديد؛ لأنه ارتكب ذنبا، وكانت روح الجندية هي السائدة على نظام المدارس في ذلك الحين، وكنا نخرج كل يوم جمعة «طوابير» نطوف في شوارع المدينة ثم نعود إلى عنابرنا، وكانت عيشة المدرسة عيشة شظف وخشونة، وقد كانوا في وجبة الفطور يقدمون لكل تلميذ رغيفا فقط، وعليه أن يشتري من جيبه الخاص ما يأتدم به من جبن أو حلاوة، وكان العدس أو الفول هو وجبة الغداء والعشاء، وفي بعض أيام الأسبوع يقدمون لنا شيئا من اللحم والفاكهة.
وجاء والدي كعادته لزيارتي يوم الجمعة، فأبديت له أسباب تعبي وضيقي من هذه المدرسة، وقلت: «إنني غير مبسوط، وأخشى أن أنسى فيها القرآن الكريم فيعاقبني الله بالنسيان، وقد قال تعالى:
كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى ...» فابتسم رحمه الله وقال لي: «وانت تنسى القرآن ليه؟! اقرأ كل يوم جزءا منه وأنت لا تنساه، وخليك في المدرسة»، فاستمعت لنصيحة والدي، ومكثت بالمدرسة، وقد حبب إلي البقاء فيها أستاذ اللغة العربية «سيد أفندي محمد»، وكان مشهورا بالقدرة والتفوق في تربيته وتعليمه، وكان تلاميذه أقوى زملائهم في اللغة العربية، وعلى يديه نبغ كثيرون. (3) من المنصورة إلى الخديوية
أمضيت ثلاث سنوات في مدرسة المنصورة الابتدائية، وأتممت تعليمي الابتدائي في سنة 1885م، ولم تكن شهادة الابتدائية ولا البكالوريا قد وجدتا بعد، بل كان الانتقال من مرحلة إلى أخرى بالنجاح في امتحان المدرسة، وكان بمدرسة المنصورة فرقة تجهيزية واحدة فألغيت في ذلك العام، واضطررت للسفر إلى مصر لألتحق بالمدرسة الخديوية.
ولقد أصبت نعمة كبرى في هذه المدرسة بصحبة صديقي وأخي عبد العزيز فهمي، من أول يوم التقيت به في عنبر المدرسة، وذلك في مناقشة أثيرت بيننا وبين بعض الطلبة في النحو، فاتفق رأيه ورأيي ضد الآخرين، ومن تلك الليلة صرنا صديقين حميمين، ولا أذكر أن أحدنا قصر في حق صديقه أو قال عنه ما يسوؤه، أو وجه إليه كلمة تؤلمه، ولو على سبيل المزاح.
ولما انتظمنا في المدرسة رتبونا بالطول، فقصار القامة في السنة الأولى، والأطول منهم في السنة الثانية، وهكذا، وكان وزير المعارف يومئذ عبد الرحمن رشدي باشا، ووكيلها يعقوب باشا أرتين وناظر المدرسة صادق بك شنن، وكان هذا الناظر معروفا بحبه لأهل البيت ، وإذا وبخ أحدا قال له: «يا يزيد!» وقد عز على صديقي عبد العزيز فهمي باشا - وقد أمضى سنة في تجهيزية مدرسة طنطا - أن يكون تلميذا في السنة الأولى، فاحتج على هذا الوضع، فقبل احتجاجه بصعوبة ونقل إلى السنة الثانية، ولما لم تكن شهادة البكالوريا قد وجدت في ذلك الحين؛ فقد شاء عبد العزيز فهمي، وهو في السنة الثالثة، أن ينتقل إلى مدرسة الحقوق، فذاكر في الإجازة لامتحان القبول بها ونجح، أما أنا فبقيت في الخديوية إلى أن حصلت على البكالوريا سنة 1889م وكان نظام الشهادات العامة قد وضع قبل ذلك بعام. (4) عصر «الفتوات»!
وفي المدرسة الخديوية عرفت عيشة الترف بالنسبة لمدرسة المنصورة، فكنا نأكل بيضا ولحما وحلوى وفاكهة كل يوم، ولم تكن نفقاتها تزيد على نفقات مدرسة المنصورة، وكانت في سراي مصطفى باشا بدرب الجماميز، هي ومدرسة الترجمة والمهندسخانة ووزارة المعارف، وكان طلبة المهندسخانة يختلفون عنا بزيهم العسكري الكامل، ويحملون إلى جانبهم سيوفا، فكانوا يشيعون بمنظرهم الرهبة في نفوس الطلبة الآخرين وبخاصة الغرباء، وكان مما يخيفني بالقاهرة حوادث «الفتوات» في ذلك الزمان؛ فقد كان في كل حارة عصابة على رأسها «فتوة»، وكثيرا ما كانت تحدث معارك دامية بين هذه العصابات، وقد امتدت عدوى الفتوة إلى الطلبة أنفسهم حتى ظهر بيننا طالب «فتوة» يدعى «منصور» كان يعلم زملاءه «التحطيب»، ولهذا كنت أوثر البقاء في المدرسة أيام العطلة الأسبوعية، وقد مكثت في أول عهدي بالقاهرة ثلاثة أشهر لا أخرج من الخديوية، قرأت فيها كتاب «أصل الإنسان» لداروين، الذي ترجمه المرحوم «شبلي شميل»، وحفظت كثيرا من المعلقات وأشعار بعض كبار الشعراء، وكان من مدرسى اللغة العربية في هذه المدرسة: الشيخ حسين والي، والشيخ محمد حسنين البولاقي والد المرحوم أحمد حسنين باشا، وكنا وقتئذ نقرأ كتابا مطولا في النحو لمؤلف يدعى الشيخ محمود العالم.
وكانت مدرسة الخديوية تجري كل شهر اختبارا لتلامذتها، فرغب تلامذة البكالوريا أن تعفيهم المدرسة من الاختبارات الشهرية؛ لينصرفوا إلى المذاكرة للامتحان العام، وأجمع رأيهم على أن يطلبوا إلى وزير المعارف علي باشا مبارك إعفاءهم منها، واختاروني للذهاب لمقابلته، فذهبت إليه، وكان من عادته أن يضع سبورة في مكتبه لاختبار كل من يتقدم إليه من الطلبة في حاجة يريدها، ولا يجيبه إلى حاجته إلا إذا أجابه إجابة صحيحة فيما يختبره فيه من المسائل الرياضية أو العلمية، فلما مثلت بين يديه طلب مني أن أقف أمام السبورة لأبرهن على النظرية الهندسية التي حاصلها «أن مربع وتر المثلث القائم الزاوية يساوي مجموع مربعي الضلعين الآخرين»، فأثبتها أمامه، فأجابني إلى الرغبة التي أوفدني إليه زملائي من أجلها، وقد كان رحمه الله أبا للتلاميذ، محبا لهم، عطوفا عليهم، وكثيرا ما كان يختلط بهم في وقت الفراغ، ويفسح لهم منزله للزيارة، وكان منزله في الحلمية الجديدة بشارع «نور الظلام» مقصدا لأهل العلم وطلابه. (5) إلى مدرسة الحقوق
وقد كنت في التعليم الثانوي متوسطا، فلم أكن من المتقدمين ولا من المتأخرين، على أني كنت متفوقا في العلوم العربية والرياضيات حتى لفت ذلك صابر باشا صبري، وأحمد كمال بك، في اللجنة الشفوية لامتحان الرياضة في البكالوريا، فنصحاني أن أدخل المهندسخانة، فأجبتهما إلى ذلك، غير أني قرأت في الإجازة أن المهندسخانة تقبل ساقطي البكالوريا فلم أجد من كراماتي أن ألتحق بهذه المدرسة، وتغلب في نفسي نزق الشباب والعزة الكذابة على حبي للرياضيات، فقلت لأبي: «أنا لا أرغب في المهندسخانة، ولا أعرف أية مدرسة توافقني، وأجدني في حيرة من ذلك.» فقال والدي: «علينا بالقرعة.» فأجرينا فخرجت مرتين على مدرسة الحقوق!
التحقت بمدرسة الحقوق سنة 1889م، وكانت المدرسة وقتذاك يمكن أن تسمى «كلية حقوق» و«كلية آداب» معا؛ فقد كان الطلبة يدرسون فيها إلى جانب العلوم القانونية علوما أدبية كآداب اللغة العربية، وقواعد النحو والصرف والبيان والمعاني والبديع والعروض والقوافي، وتفسير القرآن الكريم، وآداب البحث والمناظرة، والمنطق، وكانت مدة الدراسة بها خمس سنوات، وكان وكيلها عمر لطفي بك، وكان يدرس لنا قانون العقوبات، ومن أساتذتها مسيو تستو مدرس القانون المدني والأستاذ شارل ولوزينا والشيخ حسونة النواوي الذي تولى بعد ذلك مشيخة الأزهر، وحفني ناصف بك وسلطان بك محمد، وكنت في ذلك الحين أسكن في حارة (عمر شاه) التي يسكن بها الشيخ حسونة النواوي، وكنت أتردد على منزله، وكثيرا ما يبعث إلي لأقرأ له درس الفقه الذي كان يلقيه في الأزهر في بكرة الغد.
وفي مدرسة الحقوق عرفني الشيخ محمد عبده والشيخ حسن الطويل، وكانا مع الشيخ عبد الكريم سليمان في لجنة امتحان العلوم العربية، وأذكر أنه في لجنة امتحان السنة الثالثة طلب منا أن نكتب في موضوع «حق الحكومة في معاقبة الجاني»، فتناولت الموضوع من جميع نواحيه، فكتبت المذاهب الأربعة التي أنشأها علماء الجنايات في شروحهم على قانون العقوبات، ثم نقضت كل مذهب منها، وخلصت في النهاية إلى أن الحكومة ليس لها حق معاقبة الجاني؛ لأن كل حكومة نشأت بالقوة، والقوة لا تعطي الحق وإنما الذي يعطيه هو العقد فقط، وليس هناك أي عقد بين أية حكومة وبين أمتها!
ولما خرجنا من الامتحان، وذكرت ذلك لزميلي محمود عبد الغفار، أسف جدا لما فعلت، وقال لي: «يا لطفي أنا مش عارف فلسفتك دي حاتودينا فين!»
وقد ألقى في روعي أني أخطأت في هذا العمل ووثقت أني سآخذ «صفرا» على هذا الجواب، ولكن حينما دخلت الامتحان الشفهي وجلست أمام اللجنة قال لي الشيخ محمد عبده: «إني أهنئك بما كتبت وقد أعطيناك أعلى درجة، لا على ثورتك على الحكومات، ولكن على الإنشاء!»
وأظن أن هذه الكلمة هي التي شجعتني على أن أنشئ فيما بعد «مجلة التشريع» بالاشتراك مع المغفور لهم إسماعيل صدقي (باشا)، وإسماعيل الحكيم (بك)، وعبد الهادي الجندي (بك)، وعبد الخالق ثروت (باشا) ومحمود عبد الغفار.
ولقد هويت منذ كنت طالبا في الحقوق الكتابة في الصحف، فعاونت في جريدة «المؤيد»، بترجمة تلغرافاتها الخارجية، عندما كان الأستاذ محمد مسعود بك مريضا. (6) معركة لغوية
وأذكر أن المرحوم الشيخ حمزة فتح الله اللغوي المعروف استشهد يوما على صرف اسم «عمر» ببيت هو:
إلى عمر بن أبي غبقة
بيليل يهدي ربحلا رجوفا
فاستنكر ذلك اللغوي الكبير الشيخ محمد الشنقيطي هو وجماعته ومنهم الشيخ البكري، وأحمد زكي باشا، وكتب الشنقيطي مقالا في جريدة «المقطم» يتحدى فيها الشيخ حمزة فتح الله، وينفي وجوده في الشعر العربي، ويقول: «لو دلني أحد على مكان هذا البيت واسم قائله لأهديت إليه عشر نسخ من لسان العرب.» وكان هذا الكتاب قد طبع حديثا، فرد عليه الشيخ حسن الطويل، وكان أستاذا بدار العلوم، فقال له إن صحة البيت هكذا:
إلى عمرين إلى غيقة
فيليل يهدي ربحلا رجوفا
وإن قائله صخر الهذلي، وأنه في صفحة كذا من لسان العرب، وطالب الشنقيطي بالجائزة، فكتب الشيخ الشنقيطي يقول: «وقف لنا الشيخ حسن الطويل بين السماطين يطالبنا بالجائزة كأنما أعددنا الجائزة لمن يخطئ لا لمن يصيب.» فكتب الطويل يقول: «روي البيت خطأ فصححناه، وزيد الصحيح هو عينه زيد المريض.»
فكتب أحمد زكي باشا ينصر الشيخ الشنقيطي على الشيخ الطويل، وفي ذلك الحين قابلت الشيخ الطويل ومعه سلطان بك محمد، فسلمت عليهما، فقال لي الشيخ الطويل: «لماذا لم تنصرني؟» فكتبت رسالة في «المقطم» نظرت فيها إلى النزاع من ناحيته القانونية، وانتصرت فيها للشيخ الطويل وقلت: إنه يستحق الجائزة. ولكن الشنقيطي أبى أن يدفعها! (7) في إستانبول
وفي صيف سنة 1893م سافرت إلى إستانبول، وكنت ما أزال طالبا بالحقوق، فالتقيت بزميلي وصديقي المغفور له إسماعيل صدقي (باشا)، وكان الخديو عباس حلمي الثاني يزور وقتئذ العاصمة العثمانية، فكنا فيها نحن الاثنين كأنما نمثل الطلبة المصريين في الاحتفال بالخديو.
وذات يوم كنت سائرا مع «إسماعيل صدقي» نتنزه على «كوبري غلطة»، وكان به شيء من القدم والتهدم، فأخذ «إسماعيل» يتساءل: أين ميزانية الدولة؟ وينتقد بطء التعمير والإصلاح، ويظهر أنه كان يسير وراءنا - دون أن نشعر - جاسوس عثماني، كما كانت الحال في ذلك الزمان، فأبلغ رؤساءه هذا الانتقاد.
وبعد بضعة أيام ركبنا معا حصانين، وذهبنا للتفرج في «بيوكدره» ولما عدنا إلى المرفأ لنركب «الحميدية» إلى إستانبول قال لي إسماعيل صدقي: «أرجو أن تنتظرني حتى أمر بأمين باشا.» فانتظرته على ضفة البوسفور حتى عاد من زيارته، فوجدته ممتقع اللون واجما حزينا، فسألته عن أمره، فأجاب: «سأقول لك متى دخلت المركب.» ثم قال لي ونحن في «الحميدية»: «إن أمين باشا كان في «المابين» (المعية السنية) فسمع من رجاله أن شابا مصريا اسمه إسماعيل صدقي تكلم ضد الدولة العلية وسياستها.» وكان جزاء من يثبت عليه ذلك أن ينفى في بغداد حتى يموت، ولكن أمين باشا أجابهم: «إن هذا الشاب الذي تعنونه ليس غير تلميذ صغير في المدرسة لا يعبأ بكلامه.»
فقالوا له: «إذن ما دام يهمك، فليسافر في أول سفينة تقوم من إستانبول.» فسافر إسماعيل صدقي في صباح اليوم التالي، ووصل إلى مصر في 12 يوما.
أما أنا فبقيت في إستانبول مدة إجازة الصيف أتتلمذ على جمال الدين الأفغاني.
الفصل الثاني
اشتغالي بالسياسة
(1) تتلمذت على جمال الدين
في اليوم التالي لسفر إسماعيل صدقي (باشا) - وكان ذلك في صيف سنة 1893 - مررت بأحد مقاهي الأستانة، فلقيت فيها بعض المصريين، وفيهم سعد زغلول بك (باشا) وكان وقتئذ قاضيا بالاستئناف، والشيخ علي يوسف، وحفني بك ناصف، وقد تأهبوا لزيارة السيد جمال الدين الأفغاني، فصحبتهم إلى منزله، وكنت أعرف طرفا من حياته، ولكني لم أكن قد اجتمعت به من قبل، وكان قد ذاع صيته في الشرق الإسلامي كمصلح ديني، وفيلسوف جليل، وسياسي خطير، ونزل مصر سنة 1871، وأقام بها حتى أواخر سنة 1879، وعلى يديه نبغت طائفة من العلماء وكبار الكتاب في القطر المصري، وقد رحل إلى الهند وإيران والعراق وأوربا، ثم أقام في أواخر حياته بالأستانة، فنزل ضيفا على السلطان عبد الحميد في منزل يدعى (المسافرخانة) موفور العيش ووسائل الاطمئنان، وقد قوبل من العلماء ورجال السياسة الأتراك بالحفاوة والإكرام، وكان يخرج عصر كل يوم للرياضة والنزهة في أطراف المدينة على عربة سلطانية خاصة.
ولما ذهبت إليه مع إخواني، ألفيته رجلا مهيب الطلعة قوي الشخصية لا نظير له بين أهل عصره في علمه وذكائه وألمعيته، وكان أبيض اللون، ربعة، ممتلئ البنية، أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، جذاب المنظر، يلبس عمامة وجبة وسراويل على زي علماء الأستانة.
وأظهر ما رأيته فيه سعة الاطلاع، وقوة الحجة والإقناع، فكان يستوي في مجلسه الطالب مثلي وأساتذته الحاضرون.
وفي اليوم التالي ذكرت لسعد زغلول رغبتي في التلمذة على السيد جمال الدين، وسألته عن السبيل التي أسلكها لأكون تلميذا له، فأجاب سعد: اذهب اليه، واطلب منه ذلك.
فقصدت إليه، فما كدت أقبل عليه حتى قام لتحيتي كالمعتاد، فقلت له: أنا لست زائرا، ولكني تلميذ ...
فسر رحمه الله بذلك، وأخذ علي عهدا بأن ألازمه طول إقامتي بالأستانة، وقد فعلت.
اشرب يا ولدي، اشرب!
وأهم ما أظن أني انتفعت به من السيد جمال الدين في تلك المدة أنه وسع في نفسي آفاق التفكير، وهداني إلى أن المرء لا يستطيع أن يربي نفسه إلا إذا حاسبها آخر كل يوم على ما قدمت من عمل، وما لفظت من قول، وما خطر لها من خاطر.
وكان جمال الدين ميالا للسياسة يتحدث عنها كثيرا، وكأنه يريد أن يقيم في الشرق دولة تضارع إنجلترا في الغرب.
وكان رحمه الله شديد النقمة على الإنجليز؛ لسياستهم في البلاد الإسلامية، وهدمهم لدول الإسلام، ولما وجده من اعتداءاتهم عليه، وإخراجهم له من الهند، ودسهم له في مصر حتى أخرج منها في عهد الخديو توفيق، وهو الذي كان يتمتع في عهد الخديو إسماعيل بكرم الضيافة المصرية، وكان يجرى له راتب شهري، وقد روى لي قصة سعيه الحثيث في ذلك العهد للإفراج عن لطيف سليم باشا ومن معه من الحبس حينما قاموا بالثورة العسكرية في مدة الوزارة المختلطة.
وكان رحمه الله يقدر تلميذه «الشيخ محمد عبده»، وإذا ذكر اسمه في مجلسه أعرب عن احترامه له، وتقديره لذكائه وعلمه، وكان يعيب على المصريين تخاذلهم وتفرقتهم ونزاعهم وسط ما يلم بهم من الحوادث الجسام، ويردد قوله: «اتفق المصريون على ألا يتفقوا.»
وكان طيب الحديث، لطيف المعشر، حلو الفكاهة، وأذكر من حوادث مزاحه الطريف أنه قدم لي يوما سيجارة فدخنتها، فأعطاني الثانية، فاعتذرت، فقال لي: ألا ترى أن الإنسان منذ نشأته إلى الآن يأكل ويشرب ويلبس على خلاف في الصورة في العصور المتغيرة، ولكن الجوهر واحد، فما الذي جد عليه حتى علا نفسه في القرنين الأخيرين، فاستكشف البخار والكهرباء، إلخ، لا أظن أنه جد عليه شيء إلا شرب الدخان، اشرب يا ولدي، اشرب! (2) جمعية سرية لتحرير مصر
أتممت الدراسة سنة 1894 وحصلت على شهادة ليسانس الحقوق، فعينت في صيف ذلك العام أنا وجميع زملائي كتبة في النيابة بمرتب خمسة جنيهات في الشهر، وكان تعيينى في هذه الوظيفة لأول مرة بالقاهرة، ثم نقلت إلى الإسكندرية، فمكثت بها أشهرا، عينت بعدها سكرتيرا للأفوكاتو العمومي حسن باشا عاصم، ثم انتدبت معاونا للنيابة ببني سويف، وسرني ذلك؛ لأني وجدت بها صديقي عبد العزيز فهمي (باشا) وكيل النيابة وقتئذ، وفي سنة 1896 عينت وكيلا للنيابة بمرتب عشرة جنيهات، وكان صديقي عبد العزيز ما زال بها أيضا، فأقمنا معا في هذه المدينة، وكنا نفكر في حالة مصر، وما تعانيه من الاحتلال البريطاني، وفي ذلك العام أنشأنا جمعية سرية غرضها «تحرير مصر».
وكانت هذه الجمعية مؤلفة من: عبد العزيز فهمي، وأحمد طلعت رئيس النيابة (أحمد طلعت باشا فيما بعد)، وحامد رضوان وكيل النيابة، ومحمد بدر الدين وكيل النيابة، والدكتور عبد الحليم حلمي، وأنا، ثم ضممنا إليها علي بهجت بك، ومحمد عبد اللطيف الذي كان صيدليا بطنطا. (3) حزب وطني برياسة الخديو
وذات يوم كنت بالقاهرة بعد تأليف تلك الجمعية، فالتقيت بمصطفى كامل، فقال لي: «إن الخديو عباس يعلم كل شيء عن جمعيتكم السرية وأغراضها، وأظن أنه لا تنافي بينها وبين أن تشترك معنا في تأليف حزب وطني تحت رياسة الخديو.»
فأجبته: «لا مانع عندي من ذلك.» وأبلغ مصطفى الخديو هذا القبول، واستأذن لي في مقابلة سموه، وذهبت إليه، فتحدث معي سموه عن أغراض الحزب الذي يريد تأليفه، وطلب مني أن أسافر إلى سويسرا؛ لكي أكتسب الجنسية السويسرية، ثم أعود إلى مصر لأحرر جريدة تقاوم الاحتلال البريطاني، والسبب في اختيار سويسرا دون أية دولة، أن التجنس بجنسيتها قريب المنال لا يكلف الراغب فيه إلا إقامة سنة واحدة بها.
وكان الخديو عباس يظن وقتئذ أن فرنسا تستطيع أن تؤلب الدول على إنجلترا؛ لتجلو عن مصر، والذي أطمعه في ذلك زيارة «المسيو ديلونكل» النائب الفرنسي لسموه ووعده له بذلك.
وبعدما خرجت من مقابلة الخديو عباس، اجتمعت أنا ومصطفى كامل وبعض زملائنا في منزل محمد فريد، وألفنا الحزب الوطني كجمعية سرية رئيسها الخديو، وأعضاؤها: مصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعيد الشيمي ياور الخديو، ومحمد عثمان «والد أمين عثمان باشا»، ولبيب محرم (شقيق عثمان محرم باشا)، وأنا.
ومن طرائف ما يذكر عن هذا الحزب أن الخديو كان اسمه بيننا: «الشيخ» ومصطفى كامل «أبو الفداء»، وأنا «أبو مسلم»! (4) إقامتي في جنيف
سافرت بعد ذلك إلى جنيف لأكتسب الجنسية السويسرية حسب الاتفاق، وكان معي كتابان من علي بهجت بك إلى المستشرق «ماكس فان برشم» والأستاذ «نافيل» الأثري المعروف، فلما قابلت الأستاذ «ماكس» سهل لي استخراج جواز الإقامة، وأدخلني ندوة الفنانين، وكان مكلفا من الحكومة الفرنسية بجمع الآثار الإسلامية في مصر والشام ودراستها، ووضع مؤلف بها، فأخذت أقضي معه وقتا في مساعدته على استجلاء معاني النقوش العربية التي جمعها من الآثار، وأما المسيو نافيل الذي كان مشهورا بعلاقاته برجال السياسة في سويسرا وفي الخارج؛ فقد جاءني في الفندق بعد خمسة عشر يوما، وجرى بيني وبينه حديث طويل انتهى بقوله: لا تظن أن أوربا تساعدكم على إنجلترا، وأرى أن لا يحرر مصر إلا المصريون!
مع الشيخ عبده بجنيف
مكثت في جنيف سنة 1897 أقضي الأشهر الأولى في الدراسة وحضور بعض المحاضرات بالجامعة، وأتعلم «الشيش» في أوقات الفراغ حتى أقبل الصيف، فجاءني فيها الشيخ محمد عبده، وسعد زغلول، وقاسم أمين، فلم أخبرهم بمهمتي السياسية، وكان قاسم وقتئذ يؤلف كتابه «تحرير المرأة»، فقرأ علينا فصولا منه مدة إقامته بيننا، ثم سافر مع سعد زغلول من سويسرا، وبقي معي الشيخ عبده، وكانت جامعة جنيف قد أعدت فصلا صيفيا لدراسة الآداب والفلسفة للحائزين على درجة الليسانس فدخلت فيه، ولما ذكرت ذلك للشيخ محمد عبده أحب أن يحضر دروسه ، فقدمته إلى مدير الجامعة باعتباره قاضيا في الاستئناف وأحد مديري الأزهر، فقبله بهذا الوصف فمكثنا نتردد على هذه الدراسة.
والد محمد فريد يبكي
وأذكر أنني والشيخ محمد عبده في جنيف ذهبنا لزيارة محمد ثابت باشا الذي كان مهردارا للخديو إسماعيل - أي حامل أختام الخديو - وهو يساوي رئيس الديوان، وكان معه أثناء الزيارة أحمد فريد باشا والد محمد فريد، وكان ناظرا للدائرة السنية، ومن كبراء مصر المعدودين، فلما استقر بنا المقام أخذ فريد باشا يشكو ابنه إلى الشيخ محمد عبده، ويبكي، وكان وقتئذ مريضا، ويقول للشيخ: هل يصح يا سيدي الأستاذ أن يهزئني محمد فريد في آخر الزمن، ويفتح دكان أفوكاتو (مكتب محام)؟!
وكان محمد فريد قبل ذلك وكيلا للنيابة، وحدثت واقعة شركة التلغرافات التي اتهم فيها الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد، وقدم إلى المحاكمة من أجل نشر هذه التلغرافات في جريدته، وحضر محمد فريد الجلسة، فبدرت منه ألفاظ ضد الحكومة عدتها جارحة لها، فأمرت بنقله إلى الصعيد، فاستقال من وظيفته بعد استشارة رياض باشا، وفتح مكتبا للمحاماة بالاشتراك مع محمود أبو النصر، وأنشأ مجلة «الموسوعات» وكنت أنا أحرر فيها من وقت لآخر، وأذكر أنني كتبت بها عدة مقالات تحت عنوان «مشخصات الأمة» ناديت فيها بإصلاح الحروف العربية؛ كي يقرأ القارئون اللغة قراءة صحيحة من غير أن يتعلموا النحو والصرف ...
فلما سمع الشيخ محمد عبده شكوى أحمد فريد باشا لاشتغال ابنه بالمحاماة أخذ يهدئ من نفسه، ويعرب له أنه يخالفه في رأيه، ويرى أن الاشتغال بالمحاماة ليس فيه ما يجرح الكرامة وما يخل بالشرف على نحو ما يظن الناس، وما كان مألوفا في فهمهم لهذه المهنة في ذلك الزمان! (5) الخديو يغضب مني
كان الخديو عباس لا يميل إلى الشيخ محمد عبده، ويظهر أن بعض الناس أبلغ الخديو أنه كان يعايشني في جنيف، فلما عاد إلى مصر جاءني مصطفى كامل، وأفضى إلي بأن الخديو مغضب مني لأسباب؛ منها: اتصالي بالشيخ عبده، ثم قال مصطفى: «... ومع ذلك لم ننجح في الحصول على موافقة الباب العالي على تجنسك بالجنسية السويسرية!»
رجعت من سويسرا، ولما وصلت إلى الإسكندرية أرسلت تقريرا ضافيا إلى الخديو عباس دونت فيه أبحاثي السياسية بجنيف، وقلت: «إن مصر لا يمكن أن تستقل إلا بجهود أبنائها، وإن المصلحة الوطنية تقضي أن يرأس سمو الخديو حركة شاملة للتعليم العام.» ثم سافرت من الإسكندرية إلى الفيوم عائدا لوظيفتي بالفيوم، ولم أتصل بالخديو، وكان صديقي عبد العزيز فهمي قد انتقل منها لوزارة الأوقاف وأنا بأوربا، فبقيت في الفيوم مدة انتقلت بعدها وكيلا للنيابة بميت غمر سنة 1900 ثم نقلت منها إلى الفيوم ثانيا، ثم إلى المنيا.
وكانت سنة 1905، فاستقلت من النيابة؛ لخلاف في الرأي القانوني بيني وبين النائب العمومي كوربت بك، ولم تكن الاستقالة الأولى من النيابة، بل استقلت قبل ذلك مرة أخرى؛ لخلاف قانوني أيضا، ولكني لم أنجح في الإصرار عليها.
فلما وقع هذا الخلاف بيني وبين النائب العمومي، أصررت على الاستقالة على الرغم من أنه نزل عن رأيه الذي كونه من خطأ وقع فيه وكلاؤه في تكييف الوقائع؛ لأني ضقت باحتمال جو خانق بالنيابة؛ إذ كنا مكلفين بألا نتصرف في الجنايات الكبرى إلا بعد أخذ رأي النائب العمومي، وقد عزمت على أن أعيش في بلدي، وكنت متأثرا وقتئذ بما كنت قرأته من مؤلفات تولستوي، ولكن صديقي عبد العزيز فهمي - وكان قد استقال من الأوقاف واشتغل بالمحاماة - ألح علي في الاشتغال معه، فأجبت رغبته واشتغلت بها فترة قصيرة ثم اعتزلتها؛ لأنصرف إلى العمل بالسياسة والتحرير في صحيفة «الجريدة».
الفصل الثالث
اشتغالي بالصحافة ورأيي في الخديو عباس
أسلفت أني عدت من سويسرا بعد أن أبلغني مصطفى كامل أن الخديو مغضب مني لأسباب؛ منها: اتصالي بالشيخ محمد عبده في جنيف، وكان سموه لا يميل إليه، وقد قدمت لسموه تقريرا عن أبحاثي السياسية بعد عودتي إلى الإسكندرية، ثم سافرت إلى وظيفتي بالنيابة، ومكثت بها بضع سنوات حتى كانت 1905 فاستقلت منها لخلاف في الرأي القانوني بيني وبين النائب العمومي «كوربت بك»، وعلى الرغم من نزوله عن رأيه؛ فقد أصررت على الاستقالة؛ لأني ضقت باحتمال جو خانق بالنيابة؛ فقد كنا مكلفين فيها بألا نتصرف في الجنايات الكبرى إلا بعد أخذ رأي النائب العمومي خلافا لما كان العمل جاريا عليه من قبل، وعزمت بعد ذلك على أن أعيش في بلدي؛ لأني كنت وقتئذ متأثرا بما قرأته من مؤلفات تولستوي، ولكن صديقي عبد العزيز فهمي - وكان قد استقال من الأوقاف واشتغل بالمحاماة - ألح علي في الاشتغال معه، فأجبته إلى رغبته، واشتغلت بالمحاماة بضعة أشهر
1
ثم اعتزلتها؛ لأنصرف إلى العمل بالسياسة والتحرير بالجريدة. (1) أصحاب المصالح الحقيقية
وفي ذلك الحين وجدت مشكلة «العقبة» بين مصر وتركيا، وكان الأتراك يدعون أنها لهم، والإنجليز يقولون: إنها ملك لمصر، وكانت الجرائد الوطنية تنصر الأتراك على الإنجليز في هذه المشكلة، كما كانت الحال في مسألة «فاشودة»، فإن المصريين كان ضلعهم مع الفرنسيين ضد الإنجليز الذين كانوا يطالبون بفاشودة باسم مصر، وهذا المعنى لا يمكن تفسيره إلا بأن البلاد ثقل عليها الاحتلال فأصبحت تبغضه وتبغض معه ما يأتي به، ولو كان فيه الخير لمصر. (2) فكرة إنشاء «الجريدة»
وفي هذه الأثناء تحدثت في حالنا السياسية مع صديقي محمد محمود باشا - وكان وقتئذ سكرتيرا لمستشار نظارة الداخلية - وكان حديثي يتناول مسألة «العقبة» وما يجب لمصر في ظروفها السياسية من إنشاء جريدة مصرية حرة، تنطق بلسان مصر وحدها، دون أن يكون لها ميل خاص إلى تركيا أو إحدى السلطتين الشرعية والفعلية في البلاد، وقد رأينا أن تكون هذه الجريدة ملكا لشركة من الأعيان أصحاب المصالح الحقيقية الذين كان يصفهم اللورد كرومر وغيره من الإنجليز بأنهم راضون عن الاحتلال، ساكتون عن حقوق مصر، وأن الحركة المعارضة للاحتلال إنما يقوم بها من ليس لهم مصالح حقيقية في البلاد كالشبان الأفندية والباشوات الأتراك!
لهذا الغرض دعوت في «الكونتننتال» أصدقاءنا: محمد محمود، وعمر سلطان وأحمد حجازي، ومحمود عبد الغفار، وتحدثنا في الأمر، وقد لاحظنا في حديثنا وأبحاثنا أن الأمل الذي كان المصريون يعقدونه على فرنسا في المساعدة على زوال الاحتلال قد تبدد وانتهى أمره بالاتفاق الودي بين فرنسا وإنجلترا الذي عقد في أبريل سنة 1904، وكانت السياسة الفرنسية قبل هذا الاتفاق ترمي إلى مناوأة السياسة الإنجليزية في مصر بعد أن فازت إنجلترا دونها باحتلال وادي النيل، وكانت فرنسا تعاني في ذلك الحين مصاعب في مراكش، وخشيت أن يؤدي فشل إدارتها هناك إلى تدخل الدول وبخاصة إنجلترا وإسبانيا.
ولكن إسبانيا كانت مشغولة بمتاعبها في المنطقة الإسبانية، وكانت إنجلترا هي الدولة التي يخشى منها، ولهذا أرادت فرنسا أن تحصل على حيادها، وكان الثمن الطبيعي لذلك أن تحصل إنجلترا على حياد فرنسا في شئون مصر، فعقدت الدولتان هذا الاتفاق، وأهم ما نص عليه:
أن تعترف الحكومة الإنجليزية أنها لا ترغب في تغيير نظام مصر السياسي، وتعترف الحكومة الفرنسية من جانبها أنها لا تعرقل أعمال إنجلترا في مصر بسؤالها أن تحدد موعد الجلاء أو بأية طريقة أخرى.
وبعبارة أخرى اعترفت فرنسا بالاحتلال الإنجليزي لمصر، وتركت لإنجلترا حرية أكثر مما كان لها في الشئون المصرية، وكان من نتيجة ذلك أن انهار أمل المصريين في فرنسا، وتحققوا أنه لا يمكن الاعتماد عليها، ولا على أية دولة في المسألة المصرية، وأن على مصر أن تعتمد على نفسها في المطالبة بالحرية والاستقلال.
تأليف شركة «الجريدة»
تبادلنا الرأي نحن المجتمعين في هذا الموقف، ووضعنا الخطة التي نسير عليها، وعينا المبادئ التي تقوم عليها جريدة حرة مستقلة غير متصلة بسراي الخديو، ولا بالوكالة البريطانية، وأخذنا نسعى في إقناع أصدقائنا ومعارفنا من أعيان البلاد، وألفنا في بيت محمود باشا سليمان شركة «الجريدة»، وانتخبت أنا مديرا لها ورئيسا لتحريرها لمدة عشر سنوات.
وكان رئيس الشركة محمود باشا سليمان، ووكيلها حسن باشا عبد الرازق الكبير.
وبعد تأليف هذه الشركة أخذت الجرائد المتصلة بالخديو عباس تتهمنا بأننا متصلون بالإنجليز، وأننا نمالئهم ضد الخديو، وقد كان لهم عذر في هذا الاتهام؛ لأنه كان بين شركائنا في «الجريدة» - عدا الأعيان - طائفة من كبار الموظفين المصريين في الوقت الذي سيطر فيه الإنجليز على الحكومة، ومن هؤلاء أحمد فتحي زغلول باشا رئيس محكمة مصر ، وأحمد عفيفي باشا المستشار بالاستئناف، وعبد الخالق ثروت باشا عضو لجنة المراقبة وصاحب الأثر الكبير في وزارة العدل.
ومن الطريف أن كانت هناك جريدة يصدرها وقتئذ حافظ عوض باسم «خيال الظل» فنشرت أبياتا ينسبها بعضهم إلى أحمد شوقي جاء فيها:
ما في «الجريدة» من نرجيه سوى «لطفي» فردوه لنا وكلوها!
وقد بقيت هذه التهمة عالقة بالجريدة حتى ظهرت بعد ستة أشهر من تأليف الشركاء في 9 مارس سنة 1907.
وقد افتتحتها بمقال تضمن أغراضها ومبادئها، جاء فيه:
ما الجريدة إلا صحيفة مصرية، شعارها الاعتدال الصريح، ومراميها إرشاد الأمة المصرية إلى أسباب الرقي الصحيح، والحض على الأخذ بها، وإخلاص النصح للحكومة والأمة بتبيين ما هو خير وأولى، تنقد أعمال الأفراد وأعمال الحكومة بحرية تامة، أساسها حسن الظن من غير تعرض للموظفين والأفراد في أشخاصهم وأعمالهم التي لا مساس لها بجسم الكل الذي لا ينقسم، وهو الأمة.
لا يكون من أهل الوطن الواحد أمة إلا إذا ضاقت دائرة الفروق بين أفرادها واتسعت دائرة المشابهات بينهم، وإن أظهر المشابهات في حالة الأمة السياسية هو التشابه في الرأي بين الأفراد وهذا ما يسمونه بالرأي العام.
والناس بطبائعهم أشتات في الرأي، كما قيل: «للناس عدد رءوسهم آراء» وهم في البلاد الحديثة العهد بالرقي، ينصرف كل منهم غالبا عن التفكير في الأمور العامة إلى تدبير حاجتهم الخاصة، حتى ترشدهم الصحف كل يوم إلى أن لهم فوق وجودهم الخاص وجودا عاما، وأن بهذا الوجود العام كما لا يجب أن يرقى إليه بعمل الأفراد ... إلخ.
وكان من عادتي أن أكتب افتتاحيات الجريدة، ما كاد يمضي على صدورها غير أيام، حتى انتهت مهمة اللورد كرومر في مصر، فخطب خطبته المشهورة في «الأوبرا»، وعلقت «الجريدة» عليها تعليقا لا يقل عنفا عن الجرائد المتصلة بالخديو عباس، وسارت في طريقتها وعلى مبادئها تنقد أعمال السلطة الفعلية التي كانت للإنجليز، كما تنقد أعمال السلطة الشرعية؛ سلطة الخديو عباس.
وقد يحسن هنا أن أتحدث بإيجاز عن هاتين السلطتين ليقف القارئ على حالة مصر، ومركز كل من الخديو واللورد كرومر في ذلك الحين . (3) الخديو عباس
كان الخديو عباس حلمي الثاني قوي الإرادة لا يحتمل أن يرى غيره يتصرف في حقه، فعندما ولي الخديوية المصرية أظهر صفات القوة الشخصية والشجاعة الأدبية والعزة اللائقة بالملوك، فأنكر على الإنجليز تصرفهم في حقوقه واستئثارهم بالأمر دونه، وعز عليه أن يصدر كل شيء باسمه على غير ما يختار، فنفر من معاملتهم إياه معاملة المغفور له والده، وعارض في كثير من المسائل بشدة، فتنبه لذلك الشعور الوطني، وقال الناس: «إن هذا الأمير سيعيد لنفسه مجد أبيه الأكبر محمد علي باشا.»
وقد رأى أن وزارة مصطفى فهمي باشا هي من أكبر وزارات «الوفاق» أو «الاستسلام»، فأسقطها، ونصب وزارة حسين فخري باشا في 16 يناير سنة 1893، ولكن إنجلترا أرغت لهذا التصرف وأزبدت وعارضت في تنصيب الوزارة الجديدة، وأكرهت «الخديو» على إسقاطها، فلم تلبث في الحكم غير ثلاثة أيام! ولكن ذلك لم يفل من عزم الأمير المطالب بحقه، فسار في سياسة الخلاف كلما حانت الفرصة، حتى انتقد الجيش في بعض نظمه، وكان على رأسه «كتشنر» حينما تفقده الخديو في الحدود المصرية، فغضبت الحكومة الإنجليزية، وطلبت الترضية فوقف سموه موقف المتمسك بحقه من إبداء رأيه في جيشه، ولكن الوزارة المصرية الجديدة برياسة مصطفى رياض باشا قد اضطرت يومئذ إلى إجابة مطالب إنجلترا، فكانت النتيجة أن شكر سموه الجيش ترضية للسردار كتشنر!
وبعد ذلك جاءت سياسة «شبه الوفاق» من سنة 1894، فأكثر الإنجليز من عدد مستشاريهم وموظفيهم في النظارات، وأخذت «عابدين» و«قصر الدوبارة» كلتاهما تحمي من يلجأ إليهما من الموظفين من الجهة الأخرى، وترتب على حادثة الحدود وما سبقها نتيجة مساوية للنتيجة التي ترتبت على رضا الخديو السابق توفيق باشا بإلغاء قرار مجلس انتظار القاضي بالاستغناء عن خدمات «مستر سكوت»، ثم أعقب ذلك إمضاء اتفاقية السودان التي جعلت إدارته شركة بين الحكومة المصرية والحكومة الإنجليزية، ولكن المصريين فطنوا إزاء تلك الحوادث، إلى أنه يستحيل عليهم أن يتقدموا في سبيل المدنية خطوة إلى الأمام إلا بمشاركة الأمة المحكومة في الأعمال العامة، فأخذ كتابنا وكبراؤنا يشعرون بضرورة طلب الدستور عن طريق التدريج، فحنق الإنجليز - رغم إشادتهم بالحرية - من هذه المطالب، ولم يقتصروا على مناوأتهم للأمير الذي لا يريد أن يكون الاتفاق معهم سببا في انتقاص سلطته الشخصية، بل نالوا من الأمة أيضا بالتشهير، فلما أن جاءت حادثة «العقبة» رأى الإنجليز أن المصريين يتبرمون بهم، فأرادوا أن يعطوهم درسا أليما بأحكام حادثة دنشواي سنة 1906؛ ظنا منهم أن تلك السياسة - سياسة القسر - تصرف المصريين عن آمالهم في الدستور، وتقطع ألسنة الخاطبين، وتكسر أقلام الكاتبين لترشيح الأمة للدستور، ولكن النتيجة جاءت على العكس مما قدروا؛ فإن هذه الحادثة جعلت مصر تزيد اقتناعا بأن حياتها موقوفة على نيل الدستور بقدر ما يسمح به مركزها السياسي، فازدادوا طلبا له وتشبثا به، فقلل الإنجليز من حدتهم، وألانوا من جانبهم، وجنحوا إلى استرضاء الخديو عباس بسياسة الوفاق.
وفي أثناء تلك الحرب السجال بين السلطة الشرعية والسلطة الفعلية - أو بين الخديو واللورد كرومر واختلافهما على أيهما يكون له الأثر الفعلي في الأمة المصرية - قامت «الأمة» بين السلطتين تثبت شخصيتها غير المعترف بها من الفريقين، وتؤدي في سياسة البلاد واجبها حتى لا تكون متاعا لكل غالب، ملتزمة في ذلك طريق الحكمة والسلام.
هوامش
الفصل الرابع
لورد كرومر أمام التاريخ
(1) أعمال اللورد كرومر
في أوائل سنة 1907 استقال اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر، وذلك بعد أن مضى على حادثة دنشواي الشهيرة نحو عام، تلك الحادثة التي أبرزت سياسته الاستبدادية للعالم بصورة بشعة، وأوضحت أعماله الاستعمارية لمصلحة قومه وبلاده بحالة لا تتفق مع مكانة دولة متمدنة، ومع ذلك فإن هذه الاستقالة عزيت إلى سبب آخر هو ضعف صحته، ومهما يكن هذا السبب فإنه لو كان قد بقي لورد كرومر عاما واحدا في منصبه لعيد عيده الذهبي في خدمة دولته؛ لأنه صرف حتى يوم استقالته تسعة وأربعين عاما في خدمة المصلحة البريطانية، ولقد أصدرت من صحيفة «الجريدة» في ذلك الحين ملحقا ذكرت فيه لمعة من ترجمته، ثم فصلت أعمال ذلك السياسي بما له وما عليه، فقلت: تنقسم أعمال اللورد في مصر إلى قسمين: أعمال مالية واقتصادية، وأعمال سياسية. (2) أعماله المالية والإقتصاية
أما أعماله المالية الاقتصادية فيبتدئ تاريخها في مصر سنة 1877 إذ عين عضوا إنجليزيا في صندوق الدين المصري، فأظهر لدولته من صدق النظر وسعة الاطلاع في المسائل المالية ما أنساها القاعدة القائلة: إن الذي يربى بين البنادق والمدافع كالشاب «أفلن بارنج» لا يميل به طبعه إلى المالية أو السياسة.
وفي سنة 1879 اتفقت الحكومتان البريطانية والخديوية على تعيينه مراقبا عاما للمالية المصرية؛ لأن إنجلترا كانت تهتم مع فرنسا أشد اهتمام بالمالية المصرية؛ صونا لأموال الإنجليز والفرنسيين، فأظهر براعة كبيرة، وكان في جملة الذين مهدوا السبيل لإصدار قانون التصفية
1
الذي ضمن للدائنين الأوربيين أموالهم مع فائدتها، وقبل أن يصدر ذلك القانون حدث أن مالية الهند ارتبكت ارتباكا شديدا فعينته حكومته عضوا ماليا في المجلس الهندي، وهناك لم يفعل إلا ما زاد حكومته ثقة به.
ولما تقرر أن يغادر السير إدوارد مالت معتمد إنجلترا في القطر المصري، لم تجد الحكومة البريطانية رجلا أخلق بمنصبه من لورد كرومر (وكان لا يزال اسمه السير أفلن بارنج)، ولما اجتمع مؤتمر لندرة سنة 1884 للنظر في المالية المصرية كان فيه مندوبا محترم الرأي، وكان يقول مثل كل عاقل: إنه لا يمكن الإصلاح في مصر قبل أن تقوم المالية فيها على أساس متين، ولا تقوم المالية على ذلك الأساس إلا إذا زادت مواردها ووثقت بها أوربا، ولا تزيد مواردها إلا إذا تحسنت أحوال الري على الأخص، فأصبحت أرض مصر تنبت من الخيرات كل ما تقدر على إنباته، وأما الموارد الأخرى كالجمارك والسكك الحديدية والبوستة، وسائر مصادر الدخل فإنها تأتي في المقام الثاني، ولذلك أفرغ كل جهده لدى الدول حتى حملها على عقد قرض خص جزءا منه بالري.
وما إن جاء سنة 1899 حتى صار دخل الحكومة (11415000 جنيه) وكان كلما زاد التحسن في المالية، زاد في المساعدة على تخفيف الضرائب، غير أن النفقات كانت طائلة بسبب فوائد الديون ونفقات المشروعات.
وكان لدى لورد كرومر مشروعان يؤلمانه ويشكو منهما؛ أولهما: صندوق الدين، والثاني: وهو متعلق بتخصيص ما قيده قانون التصفية بالديون كالدائرة السنية والدومين ونحو نصف دخل السكك الحديدية، فلم يجد وسيلة للخلاص من هذين المشروعين سوى الاتفاق مع فرنسا أولا، وحدث أن الملك إدوارد مال إلى هذا الاتفاق، وحببه إلى حكومته، فاغتنم كرومر الفرصة، وأيده بما استطاع، كما ذكر أخيرا في حديثه مع مراسلي الطان.
أما السبب الذي حمل لورد كرومر على الشكوى من صندوق الدين مرارا في تقاريره، فهو أن الصندوق لم يكن يقدم كل ما تطلبه الحكومة المصرية من الأموال اللازمة للإصلاح، وقيل: إن لورد كرومر لما أذن بتأسيس البنك الأهلي، وأيده تأييدا معروفا كان يؤمل أن يقوم يوما مقام صندوق الدين، وها نحن أولاء نرى هذا الأمل يوشك أن يتحقق. •••
ولما تم الاتفاق الودي سنة 1904
2
بين فرنسا وإنجلترا كان أول ما فكر فيه اللورد كرومر حل عرى صندوق الدين، فرضيت فرنسا بالشروط التي عرضها عليها، ثم وافقت الدول الأخرى التي لها أعضاء في ذاك الصندوق.
ولقد بات لورد كرومر في راحة عظيمة من الوجهة المالية بفضل ذلك الاتفاق، فلم يعد يرى فرنسا تعاكسه كما عاكست في مسألة تحويل الدين، ولا تشاكسه كما فعلت مع روسيا حين أخذت نصف مليون جنيه من صندوق الدين لحملة السودان، اضطر إلى رده بحكم من المحكمة المختلطة، ولا يشك أحد في أن لورد كرومر فاز فوزا ماليا عظيما بإدخال ما أراده من المواد المتعلقة بالمالية المصرية في ذلك الاتفاق، كما فاز مع حكومته فوزا سياسيا بحمل فرنسا على التعهد لهم فيه: «بأنها لا تقيم أقل عقبة في سبيل إنجلترا بمصر سواء كان بطلب تعيين موعد للجلاء أو غيره».
وكان من سياسته المالية أيضا، أن يرفع أثقال الربا الفاحش عن عواتق الفلاحين، فأنشأ البنك الزراعي بعد إنشاء البنك الأهلي ونصح للحكومة المصرية وللبنك الأهلي بأن يساعداه حتى يقدم للفلاحين مبالغ صغيرة تسهل عليهم سبيل المعاش، فأنشئ هذا البنك، وجعل من مواد قانونه أن يسلف الفلاحين من عشرة جنيهات إلى 500 جنيه بفائده 9 في المائة ، غير أن بعضهم ينتقد البنك المذكور في بعض أمور ليس هنا محل إيرادها.
وليس في وسع أحد أن ينكر النتيجة التي وصلت إليها مصر بفضل تلك السياسة المالية، وإذا كان بعضهم ينتقد تفاصيل معينة في بعض المصروفات، فإن كل عاقل ينظر نظرة شاملة صادقة إلى تلك السياسة، يحكم بأن لورد كرومر من خيرة الاقتصاديين وأكابر الماليين، فكم زادت مساحة الأرض المزروعة منذ سنة 1883 إلى اليوم، وكم زادت قيمة الأرض الزراعية وأرض البناء بفضل سياسته، فليس بعجيب أن تعظم ثقة الأوربيين باللورد حتى صاروا يعدون كلمته حجة، أما خلاصة آرائه في الحالة الحاضرة، فهي أن هذا النجاح الاقتصادي قائم على قواعد راسخة، غير أنه يجدر بالمصريين وغيرهم ألا يتهوروا في الإقبال على إحدى الشركات قبل أن يدققوا ويفحصوا، ويستشيروا حتى يعلموا إذا كانت ثابتة القواعد قوية الأركان. (3) أعماله السياسية
لا ينكر أحد على لورد كرومر أنه سياسي محنك بعيد النظر رحب الصدر، طويل الأناة كما يجب على كل سياسي، غير أن سياسته لا تخلو من أثر العسكرية التي صرف فيها شبابه، نريد أنه شديد المراس في مطلبه، عظيم الإصرار على أمره، يبقى سنوات عديدة يسعى إلى غاية واحدة، ويتخذ من كل سانحة حجة وبرهانا لتأييد رأيه، ولا يدلنا على هذا كله مثل الحوادث التي جرت منذ 1884 إلى اليوم، ولو اتخذنا من تلك الحوادث مسألة الجلاء فقط مثلا، لكانت برهانا كافيا على خطته، فانظر كيف أنه كان يجاهد جهادا متواصلا حتى يستنبط في كل زمن وسيلة جديدة لإرساخ قدم دولته في وادي النيل، فسير حملة السودان، وكان في كل ساعة يستنجد الدماء الإنجليزية التي أريقت في أم درمان على كل إنجليزي أن يلفظ كلمة الجلاء، حتى استمال إلى رأيه كبار الأحرار والمحافظين، فأيده لورد روزبري، كما أيده لورد سالبري، واستمال إليه لورد لانسدون، كما استمال سير إدوارد جراي، وبات الأسطول البريطاني حارسا لما قرره في المسألة المصرية، فما رأينا حكومته ترد له طلبا، أو تستنكر عليه سياسة، ولو بلغت أقصى درجات الشره ، وإننا نورد للقارئ هنا مثلا واحدا لتلك الثقة العظمى بسياسته:
لما وقع الخلاف بينه وبين الخديو عباس على تعيين حسين فخري باشا خلفا لمصطفى فهمي باشا سنة 1893، ذهب لورد كرومر إلى عابدين، واعترض اعتراضا شديدا على تعيين فخري باشا، وأظهر للخديو أن إصراره على رأيه يجعل الأمر خطرا، وأبرز له تلغرافا من اللورد روزبري ناظر الخارجية يؤيد قوله.
3
فإن معتمدا سياسيا يجد من حكومته مثل هذه المساعدة في هذا الحادث، يستشعر من نفسه حزما وإن يكن بلا حزم، فكيف برجل عسكري كاللورد كرومر؟! وإذا أراد المطالع برهانا آخر على تقديس الحكومة الإنجليزية لكل رأي من آراء لورد كرومر في المسائل المصرية، فليذكر حادثة فاشودة
4
التي كادت تضرم نار الحرب بين إنجلترا وفرنسا، وما تلك الحادثة وطرد كولونيل مرشان ورجاله من الجزء الذي احتله من السودان إلا تاييدا لسياسة كرومر، وما الاتفاق الذي عقد بين فرنسا وإنجلترا بعد تلك الحادثة على مناطق السودان إلا بناء على رأي لورد كرومر أيضا؛ تمهيدا لاتفاق أكبر وخطوة أوسع في سبيل التقرب بعد ذلك التباعد بين الدولتين.
ولما عقد ذاك الاتفاق، أي اتفاق سنة 1904، استراح اللورد من المسألة المالية الدولية في هذا القطر، كما استراحت دولته من المعارضة السياسية، ثم التفت إلى المسألة الدولية القانونية، فكتب قبل استقالته بعام فصلا طويلا عن وجوب تغيير الطريقة القديمة في الامتيازات الأجنبية، ثم نشر فصلا ضافيا في هذا الموضوع، أطلع عليه الناس وقتئذ ... فكانت حملاته على طريقة الامتيازات متتابعة كحملاته على صندوق الدين قبل أن ينال مراده.
وليس بنا من حاجة إلى زيادة الإسهاب في هذا الباب، فإن كل خطبة لرجال الحكومة الإنجليزية، وكل تقرير من تقارير لورد كرومر، وكل أثر من آثاره السياسية، يظهر حقيقة تلك السياسة التي اتبعها الشيخ الراحل، ولقد كان تقريره الأخير كوصية سياسية قبل رحيله عن هذا الوادي، وفي تلك الوصية لا ينصح دولته ببسط الحماية على مصر الآن؛ لأن بسطها يقضي بتغير في الحالة السياسية مع أن إنجلترا تعهدت في الاتفاق الإنجليزي الفرنسي، بأنها لا تغير شيئا من تلك الحالة، كما تعهدت فرنسا بأن تطلق يد إنجلترا في القطر المصري.
نتيجة تلك السياسة
فما هي نتيجة تلك السياسة كلها؟
نتيجتها أننا إذا نظرنا إليه بعين إنجليزي فلا يسع الناظر سوى الثناء عليه، وأما إذا نظرنا إليه بالعين التي يجب على المصري أن ينظر بها إلى مصلحة وطنه، فلا يمكننا أن نصوغ له شيئا من الثناء على عمله السياسي في مصر، فإنه حرم مصر من حياة سياسية تطمح إليها كل أمة حية، وإذا كنا لا نستطيع سوى الاعتراف بأن اللورد وسع نطاق الحرية الشخصية، فلا يمكننا أن ننكر أنه فعل العكس كل العكس مع موظفي الحكومة من المصريين فنزع حريتهم وسلطتهم ونفوذهم، وألقاها في أيدي الموظفين الإنجليز، فبات كثير من أذكياء الشبان المصريين ينفرون من وظائف الحكومة، ولا أدل على هذا كله من شدة احتياج الحكومة إلى موظفين ومستخدمين، ولا نظن أن قلة الكفاءة التي يذكرها اللورد في تقريرة إلا نتيجة التعليم الناقص، وسوء معاملة الموظفين والمستخدمين في الحكومة، وربما كان يرى خذلان التعليم الصالح موافقة لمصلحة بريطانيا العظمى؛ لأن اللورد كان ينظر في كل أمر إلى مصلحة دولتة قبل كل شيء؛ سنة الوطني الغيور على وطنه.
وإنه لمن هذا الطراز كلامه عن الوحدة الإسلامية وعن وجود التعصب لها في القطر المصري، مع أن التعصب ليس له فيه أثر على الإطلاق، ولكن المصلحة البريطانية، تريد أن تمثله هائلا مخيفا، ومن هذا الطراز أيضا كل عمل وكل اتفاق، وكل خطوة وكل حركة لذلك السياسي الإنجليزي العظيم.
وربما كان في وسع اللورد أن يحصل لدولته على أكثر من الفوائد التي حصل عليها، لو أنه صرف همته أيضا في كسب ولاء المصريين الذين وصف نفسه بأنه صديقهم، ولو أنه وضع للتعليم العام قواعد تجعله منتجا مفيدا للأمة، ودفع عن المعارف العمومية من كان يناهضها، واعتمد في الإصلاح على أكفاء المصريين، ورشحهم بحرية العمل إلى حسن الإدارة، ورغب عن محو الجنسية المصرية الصميمة بما قال من إنشاء جنسية دولية لمصر.
لا شك أنه بذلك كان يكسب لدولته صداقة الأمة المصرية، ولشخصه ثناء من المصريين يعادل ثناءهم عليه لعمله على نمو الحرية الشخصية واحترام الحق والمساواة بين طبقات الأمة. (4) خصائص السياسة الإنجليزية
للسياسة الإنجليزية عدة خصائص أو بالأولى عدة قوى متماسكة متضامنة يتألف من مجموعها تلك السياسة التي تحكم على خمس العالم، وإحدى تلك المميزات أنها لا تنقل سفيرا في دولة ولا حاكما في مستعمرة ولا معتمدا في بلد، إلا إذا قضت الدواعي القاهرة كما حدث للورد كرومر معتمدها في القاهرة؛ فإن هذا السياسي الكبير يقيم في العاصمة المصرية منذ بضعة وعشرين عاما، ولولا طول إقامته لما تمكن من إظهار مقدرته؛ لأن النقل يقطع على السياسي سلسلة أفكاره التي يتمكن بها من الصعود إلى أعلى مراتب العلاء.
فلورد كرومر كان كبيرا بثلاث: مقدرته الشخصية، ومساعدة دولتة له بكل قواها، وسعة الوقت الذي انفسح له في مصر، وكان من يرسل نظرة شاملة إلى أعمال لورد كرومر منذ تعيينه معتمدا لدولته في هذا الوادي، يجد أن تلك المزية في السياسة الإنجليزية ساعدته أعظم مساعدة؛ لأنها مكنته من إتمام سلسلة أعماله حلقة فحلقة، والرجل كان يشهد له الخصوم قبل الأحباب بأنه بعيد مرمى النظر، طويل حبل الصبر، فكان كل عمل يأتيه تمهيدا لما يأتي بعده، وتوطئة للغرض الذي وضعه نصب عينيه، فما وافق على ترك السودان في أوائل عهد الاحتلال إلا ليبقي استئناف الحملة على السودان وسيلة جديدة بين يدي الاحتلال يتوصل بها لزيادة توطيد القدم الإنجليزية عند الفرصة الموافقة، وقد عرضت له تلك الفرصة سنة 1895 حين علم بسير القائد الفرنسي مارشان نحو السودان المصري، وما عقد بعد فاشودة من الاتفاق السوداني مع فرنسا إلا ليزيل ما بقي من آثار الاستياء في نفوس الفرنسيين بعد تلك الحادثة ويمهد السبيل لإطلاق يد الاحتلال في المالية داخل القطر، وإطلاق يد حكومته من الوجهة السياسية، فكان له ما أراد باتفاق سنة 1904 مع فرنسا، ثم بموافقة سائر الدول صاحبات الشأن في صندوق الدين على ما يتعلق بمصر، فتزعزع من تلك الساعة أساس هذا الصندوق.
وما مد اللورد يمين المساعدة في ذاك الاتفاق اكتفاء بمزاياه فقط، بل قال في نفسه: نحن نغنم ما يقدمه من المزايا السياسية والمادية، ثم نجعله تمهيدا جديدا لمشروع آخر عظيم هو تغير تلك الامتيازات في مصر، وحصر السلطة التشريعية في قبضة بريطانية، وما نيل هذا المراد بالأمر المستحيل ما دام الاتفاق الودي موجودا بين لندن وباريس.
هوامش
الفصل الخامس
ردي على اللورد كرومر
المصريون في رأي اللورد كرومر
على إثر استقالة اللورد كرومر نشر تقريرا عن آرائه وأفكاره وما قام به من أعمال في القطر المصري، وقد تناول هذا التقرير طبيعة المصريين وأخلاقهم وأفكارهم، كما تناول ميولهم نحو الجامعة الإسلامية التي كانت تجول في خواطر بعض المصريين في ذلك الحين، وقد قمت في مايو سنة 1907 بالرد على ما حواه هذا التقرير من أخطاء وادعاءات، وإني ألخص هذا الرد في الصفحات التالية:
ليس من موضوعنا أن نبحث عن قيمة الشرقي على العموم من جهة الأخلاق الثابتة وآثار التطوير المدني في تلك الأخلاق، ولا من جهة كفاءته السياسية لتدبير شئونه وحكم نفسه، ولا من جهة تاريخ الشرق في التمدن، ولا من جهة أن اليابان من بلاد الشرق كما استثناها اللورد كرومر في تقريره معتذرا بعدم معرفتها، ولكنا نتعرض إلى تفسير تلك الجملة المبهمة الكثيرة المعاني القليلة الألفاظ التي صدر بها هذا الموضوع في تقرير اللورد.
قال الأستاذ سايس: «إن الذين أقاموا في الشرق وحاولوا الاختلاط بأهله يعلمون حق العلم أنه يستحيل مطلقا على الأوربي أن يتحد في النظر مع الشرقي، ومن المحقق أن الأوربي بادئ الأمر يظن أنه هو والشرقي يتفاهمان ولكنه يأتي وقت - عاجلا أو آجلا - يرى الأوربي نفسه يحس فجأة أن ذلك كان حلم نائم، ويجده أمام إنسان ذي ملكات عقلية غريبة بالمرة؛ حتى ليظنه من سكان زحل!»
وبهذا الرأي يدين اللورد كرومر، ويحكم به على الشرقيين الذين يعرفهم لا على اليابانيين والصينيين.
صدق الأستاذ سايس إذا كان قوله منصرفا إلى أن الأخوين: الشرقي والغربي مختلفان في النظر جدا فيما يتعلق بتفضيل المنفعة المادية على المنفعة الأدبية، أو بعبارة أخرى إن الشرقي بذكائة وأطوار تمدنه، ولغاته المملوءة بضروب المجازات، ووجوه القليل الاضطرابات، وطبيعة أوطانه، وما ألفه من التقاليد الدينية العريقة في نفسه ومواعظ أسلافه الغالب فيها تفضيل الزهادة؛ كل ذلك يجعله يميل بطبعه إلى أن يجعل للفضائل الأدبية كالإحسان والكرم والوفاء والإخلاص الديني المقام الأول في حياته الدنيا، ويفضلها على المنافع المادية، فعيب الشرقي قد يكون في سهولة أخلاقة وسلاسة انقياده، كما وصف به أرسطو سكان آسيا الذين يشهد لهم بالذكاء المقتضي صحة الإنتاج، ولكنه عاب عليهم ما ينتجه تأصل طبائع الاستبداد في حكوماتهم، ولا يظن المطلع على تقرير اللورد أنه أراد بقوله الإشارة إلى تلك الفضائل، خصوصا أنه ليس في مقام مدح الشرقي، ولكن الذي يطلع على هذا الموضوع من التقرير يرى أنه يريد بيان مسألتين:
أولاهما: أن أفكار المصريين عقيمة غير منتجة إلى حد أنه يصعب معرفة مقاصدهم وآمالهم السياسية، وأقام على ذلك دليلا هو أن أفكارهم بعيدة عن تطبيق هذه القاعدة: «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة»؛ لأن بعضهم يظهر له الرغبة في الرضا عن نتائج الاحتلال دون الرضا عن الاحتلال، وأن أحدهم طلب إليه تعيين مهندس إنجليزي لتقسيم الماء، وبعضهم طلب قاضيا إنجليزيا للفصل في قضية، ولا نتعرض هنا لذكر الأشياء التي حملت هؤلاء الأشخاص على مثل هذه الطلبات - على فرض أن طلباتهم تؤخذ على شعور المصريين جميعا - بل نرجئ هذا البحث إلى الفصل الخاص بالموظفين، وغاية ما نورده هنا هو مناقشة القاعدة «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».
وجد الاحتلال الإنجليزي في مصر بعلة إطفاء الثورة وتأييد سلطة الخديوية المصرية والمحافظة على المصالح الأوربية، ثم تدرجت العلة إلى إصلاح شئون الأمة المصرية وإعدادها لتحكم نفسها بنفسها، وليأمن الإنجليز على حقوقهم التي كسبوها في مصر، ثم ينصرف عنها الاحتلال.
متى كان هذا هو غرض الاحتلال، وكانت أعمال الاحتلال الظاهرة الحسية تؤيد هذا الغرض ، فيكون المصري الذي يرضى بالنتائج (أي بالإصلاح الذي لأجله جاء الاحتلال) ولا يرضى بالاحتلال هو إنسان عقيم النظر حقيقة.
أما وقد رأى المصري رأي العين أن الاحتلال لم يثبت له بالحس أن علة وجوده في مصر هو تأهيل مصر لأن تحكم نفسها بنفسها، بل رأى بين الغرض من الاحتلال وبين كثير من أعمال الاحتلال في مصر بونا بعيدا فأشكل عليه الأمر إلى حد أن المصري المنصف الكثير التدبر والتروي، الذي لا يشوب حكمه على الأمور في مصر غرض من الأهواء، يكاد كلما طابق بين علة الاحتلال وبين عمله يقع في روعه أن للاحتلال مقصدا خفيا غير ما يقول الساسة الإنجليز، ولا شك في أن مثل هذا معذور إذا رضي بنتائج الاحتلال دون الاحتلال الذي أشكل المقصود منه على العقول. •••
بشر المصري آماله حين رأى احترام الحكومة للحرية الشخصية التي نشرها الاحتلال وإلغاء السخرة وغيرها، والقيام بالأعمال النافعة، ولكنه لم يلبث أن رأى الاحتلال بعد ذلك بقليل قد ظهر في كثير من المواطن بمظهر المعاند، فأخذ أولا يقتسم هو والخديوية المصرية آراء الناس وميولهم، فأخذ الناس أيضا بمقتضى هذه المعاندة بين السلطتين أن يلتجئ كل إلى ما يرى في الالتجاء إليه مصلحته الذاتية؛ لأن المصلحة العامة هي في ألا يلتجئ الناس إلى أحد الطرفين دون الآخر؛ لأن انتشار ذلك يضيع شخصية الأمة، ويجعلها كما كانت لا حق لها إلا الطاعة للأمير - (إن سميت الطاعة حقا) - ولا ينكر أحد أن تنازع السلطتين من طبعه أن يجعل العناد يتخلل كثيرا من أعمال كلتيهما؛ كلما ظفر الاحتلال بالسلطة قرب كثيرا من الذين لا يهمهم إلا مصالحهم أو رواتبهم، ثم التفت إلى التعليم العام في المدارس الأميرية فوصل بها إلى هذا الحد الذي نراه اليوم، والذي جعل الحكومة نفسها تشكو قلة الأكفاء بل ندرتهم، ثم مال إلى النفوذ الشخصي للحكام الوطنيين فجردهم منه، وانحصر عملهم في الطاعة لغيرهم من الإنجليز سواء أكانوا رؤساء أم مرءوسين، ثم لم يستبدله بمشاركة الأمة له في الحكم، فاعتقد المصريون أو أغلبهم أن الاحتلال هو لمصلحة إنجلترا وأوربا بالذات، حتى لقد غلا بعضهم في تقدير فهمه العدل الذي جرى على يد الاحتلال، فقال: إن إنجلترا مهما كانت نياتها لمصر، لا يمكنها إلا أن تعدل ما دامت ترى أن لا مصلحة لها في الظلم.
فهل يكون المصري غير منتج إذا بنى فكره على الأعمال المشاهدة من خير وشر، واستنتج من هذه الأعمال نتيجتها اللازمة، وهي أن الاحتلال قد جاء ببعض الفوائد، ولكن تمشيه على طريقة حرمان الأمة من الحياة السياسية خطر على الأمة يوجد الضجر والقلق وسوء الظن بالاحتلال، كما قدمنا، فتكون النتيجة أن تطبيق القاعدة المذكورة على وجود الاحتلال (وهو الوسيلة) وعلى فوائده (وهي المطلب) من الصعوبة بحيث لا يمكن تطبيقها من غير تعسف إلا إذا أبان الاحتلال لمصر أنه يسعى في منح مصر حياة سياسية بالتدريج، والمؤمل أنه يعمل على ذلك، ولا ينكر منصف أن الحكومة اهتمت في هذه السنين الأخيرة بأمر نشر التعليم بين طبقات الفلاحين، ونجحت في تذليل كثير من الصعوبات التي كانت تقف في طريق تعليم البنات، ولو أضافت إلى ذلك منح الأمة شيئا من الاشتراك معها في العمل لاقتنع الناس بأن الاحتلال مؤقت وأنه لا يقيم إلا ريثما تصلح مصر لحكم نفسها بنفسها، ولأمكن بعد ذلك القول بحق أن «من يبغ المطلب يبغ الوسيلة».
ولكن هناك أمرا آخر لا يصح إغفاله؛ لأنه قد زاد من الاحتلال إبهاما على إبهام، وهو ما ذكره اللورد كرومر في خطبته الأخيرة في حفلة الوداع، تلك الخطبة التي هي منصبة في أغلب معانيها على الغرض السياسي الخطر الذي يحاول إقناع العالم به، وهو جعل مصر مستعمرة أوربية مختلطة يكون للأوربيين فيها الغنم، وعلى المصريين منها الغرم، فكان مهر قبول هذه الفكرة لدى الأوربيين أن صرح في خطابه بأن الاحتلال باق في مصر إلى ما شاء الله، فكان في هذا التصريح التباس جديد على الناس ... ولكن مع ذلك نرى أن هذا التصريح ليس من شأنه أن يؤثر تأثيرا جوهريا في السياسة المصرية؛ لأن وقت التفكير فيه لم يحن بعد.
ومن هذا يرى القارئ أن عدم صحة الفكر المصري في الإنتاج لم تأت من طبيعة له ولا من عرض ملازم له، بل أتت من إمكان الحكم على مقاصد إنجلترا من الاحتلال.
المسألة الثانية هي: الجامعة الإسلامية
إن فكرة الوحدة الإسلامية قد تجول أحيانا بخواطر بعض الناس الذين لا يزالون بعيدين عن الاشتغال بالسياسة والنظر في الأمور العامة بشيء من التدقيق، ولكن تلك الفكرة لم تخرج عن حيز الخواطر، تظهر وتختفي تبعا للحوادث، فكلما رأى المصريون اتفاق رجال السياسة الأوربية على شيء يضر بمصلحة مصر، أو يبعد ميعاد استقلالها أو يفيد استمرار الاحتلال إلى الأبد، قارنوا بين مصر وبين غيرها من ولايات البلقان التي استقلت، واستنتجوا من ذلك أن ذنب مصر أنها أمة إسلامية، وأن أوربا لا تساعد في الشرق إلا الأمم المسيحية، فتمنى بعضهم لو كان للمسلمين وحدة كما في أوربا هذه الوحدة التي يتخيلون وجودها، وأنها كانت الحامل لأوربا على التداخل في أمر ولايات البلقان وأرمينية، نقول ذلك ونحن لا نعرف أنه يوجد في اللغة كلمة جامعة مسيحية «بانيكريستيانزم» كما خلقت كلمة جامعة إسلامية «بانيسلامزم».
على أن عقلاء المصريين لا يرون لكلتيهما وجودا في العالم، ولكن السياسة تخلق ما تشاء، فليس لأوربا أن تتوجس خيفة من فكرة ساذجة كهذه، بعيدة عن أن تؤدي إلى اعتداء من جهة المصريين، ولا أن تسبب قلق المستعمرين من الأوربيين، بل يرى هؤلاء العقلاء أن الذي خلق هذا الخاطر الساذج هو مظاهر السياسة الأوربية في الشرق.
أما كون الجامعة الإسلامية موجودة وجودا حقيقيا، أو أنها مقصد من المقاصد التي يسعى المسلمون لتحقيقها، فهذا لا دليل عليه مطلقا، كما أنه لو حوول إيجادها لاستحال ذلك بالمرة على طلابه.
علمنا التاريخ وطبائع البشر أنه لا شيء يجمع بين الناس إلا المنافع، فإذا تناقصت المنافع بين قلبين استحال عليهما أن يجتمعا لمجرد قرابة في الجنسية، أو وحدة في الدين، وإن أبلغ مثال على ذلك هو انشقاق المسلمين على أنفسهم في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مما هو مشهور ومأثور، إن أحسن ما قرأنا في الجامعة الإسلامية، هو ما ذكره الأستاذ براون في خطبته التي ألقاها في جامعة كيمبردج سنة 1903 وأبان فيها أن الجامعة الإسلامية هي خرافة ابتدعها دماغ مكاتب التيمس في فينا، قال الأستاذ براون:
إنه ليس من السهل تعريف معنى البانيسلامزم بعبارة تنطبق على المثل العربي المشهور «خير الكلام ما قل ودل» ومع الأسف إننى استشرت أحد أصدقائي المسلمين في هذا الموضوع، فعرفني معنى «بانيسلامزم» بلا تردد في بضع كلمات، وهي «أن البانيسلامزم هي خرافة خلقها دماغ مكاتب التيمس في فينا.
وإن تجسيم الأمر في نفس عميد الاحتلال في مصر إلى حد أنه قد جعله تعصبا للدين لا محل له بالمرة، إلا إذا كان الغرض منه بعث القلق إلى نفوس السياسيين من الأوربيين، حتى لقد جره ذلك الغرض إلى التعريض بأحكام الدين الإسلامي، وادعى أنها غير صالحة إلى أن تطبق في هذا الزمان.
قال ذلك بتصريحات كان من عادته أن يتوقاها؛ مراعاة لاحترام الدين الإسلامي، وتفاديا من جرح شعور المسلمين، نقول: على غير عادته؛ لأنه كثير الاحترام للدين الإسلامي، كثير الحيطة في التعبير عنه بشيء يتعلق به، وكل تصريحاته مستفيضة في هذا المعنى؛ فقد قال في خطبته في كلية غوردون في 4 يناير سنة 1899:
ولا يخفى عليكم أن جلالة الملكة ورعاياها المسيحيين من أشد الناس استمساكا بعروة دينهم، ولذلك فهم يعرفون وجوب احترام دين غيرهم، على أن حكم جلالتها يظلل من المسلمين عددا أكثر مما يظلل حكم أي ملك في الأرض، وهم مع ذلك في عيشة هنية، وسعادة تحت حكمها الكثير الخيرات، دينهم موقر، وعاداتهم الشرعية محترمة كل الاحترام ... إلخ.
وقد يؤثر عنه أنه كان يشير إلى أن المسلمين لا تصلح حالهم إلا إذا تمسكوا بدينهم الصحيح، وقد ذكر في تقرير سنة 1905، وفي تقرير سنة 1906، ما يفيد امتداح الذين يقومون بخدمة الدين وتخليصه من الدخائل التي متى خلص منها كان موافقا لحاجات الناس في التمدن الحديث، وخص منهم بالذكر فقيد الإسلام المرحوم الشيخ محمد عبده، والسيد أحمد منشئ كلية عليكرة، ولهذه المناسبة نورد للقارئ نص الخطاب الذي ألقاه اللورد كرزون في كلية عليكرة في شهر مايو سنة 1901 مشيرا فيه إلى فوائد الدين الإسلامي، والاعتراف بما للمسلمين من الفضل والمدنية:
نعم يمكن للمسلمين أن يسابقوا غيرهم إذا هم تعلموا كيف يسابقون، وهو ما عرفوه مرة قبل هذا الوقت في أيام كان فيها للمسلمين السطوة والسلطان، وكان قضاتهم يحكمون بالعدل بين الناس، وفلاسفتهم وأئمتهم يؤلفون الكتب النفيسة.
وإن عدول اللورد كرومر عن خطته من عدم التعرض للطعن على الدين الإسلامي بأي صورة، ومخالفة لبعض ساسة الإنجليز مثل اللورد كرزون في الآراء المتعلقة بأن الشريعة الإسلامية أسمح من أن تعيق عن حاجات التمدن الحاضر، كل ذلك جعل الناس يكادون يجمعون على أن اللورد أراد أن يصور المصريين - للإنجليز خصوما، ولأوربا عموما - بصورة أمة غير قابلة للرقي؛ لتسهل بذلك الموافقة على محو الجنسية المصرية الصميمة التي يحاول محوها منذ عامين؛ لذلك قصد تجسيم الجامعة الإسلامية، وعزا لها ما عزا.
التعصب الديني
بعد أن رأى القارئ أن الجامعة الإسلامية لا أثر لها في مصر ولا نظن لها وجودا في غير مصر، وأنها على هذه الصفة من العدم ليس من شأنها أن تزيد الجفاء بين الشرق والغرب، ولا أن تصلح ذريعة لرجال السياسة الأوربية يتخذونها سترا يستر أعمالهم في الشرق، قد يكون من المفيد جدا في هذا المقام أن نتعرض إلى مناقشة تلك التهمة الثانية التي يربطها بالجامعة الإسلامية رابطة النسب أو رابطة العلة والمعلول، وهي تهمة التعصب الديني.
والدين الإسلامي يأمر بالتعاون والتعاضد والائتلاف بين أفراد الأمة، كما يأمر بالعدل والإحسان، ويوصي خيرا بالمتحالفين له من أهل الأديان الأخرى على الصور المستفيضة في الفقه، وليس من مبادئه مطلقا التعصب الشائن الذي يعبر عنه الإفرنج «بالفاناتيزم».
أهل الدين الواحد يوجد بينهم بحكم وحدة الاعتقاد حب ومعاونة، تختلف وجوه استعمالها باختلاف الصور العديدة التي تصورها لهم أفهامهم في الدين، وإن هذه الجاذبية الدينية تماثل الجاذبية التي تولدها وحدة العنصر أو وحدة اللغة، ونظن أن الأوربيين لم يقصدوا يوما «بالفاناتيزم» هذه الجاذبية بوجه ما، ولكنهم يقصدون بالتعصب الديني معنى عدائيا هو التحرش بغير المسلمين وحضارتهم، والتربص بهم فلا يبقون عليهم، وهذا المعنى لا أصل له في الدين، كما لا أصل له في نفوس المسلمين الذين كل جنايتهم أمام أوربا أنهم أخذوا يفكرون في أن ترقى عقولهم بالتعليم ونفوسهم بالحرية، وأن يدفعوا بجميع الطرق السلمية كل مبدأ أو قوة تعمل على الحيلولة بينهم وبين ما يشتهون من الرقي العقلي؛ ليسابقوا غيرهم في الحياة المدنية، وأنهم يتعلمون الآن من الأوربيين، فكيف يمكن أن يضمروا لهم ما يتجنى له هؤلاء عليهم؛ ليبعدوهم عن كل مدنية، وليسهلوا لأنفسهم دوام الاستفادة منهم دون أن يفيدوهم، أظن أن وجه المسألة على هذه الصورة مقلوب الوضع، وأن المسلمين هم أولى بأن يتهموا الأوربيين بالتعصب، ولكنهم لا يريدون، ولا يستطيعون.
التعصب الديني شعور لا يمكن للمنصف أن يحكم بوجوده إلا بآثاره، ومن المشاهد أن الأقباط في مصر يعيشون مع المسلمين مختلطين في المصالح والمساكن متكاتفين في المزارع والأعمال، متجاورين على مقاعد المدارس، متشاركين في الوظائف والمرافق، ولم يسمع من زمان بعيد أن المسلمين الذين قد أمرهم الدين بحسن المعاملة هاج هائجهم على إخوانهم، أو أظهروا يوما بما يقتضيه وجود التعصب الديني في النفوس من الحقد الذي يقدح زنده الاشتراك في المصالح، ومن المشاهد أيضا أن الرومي يجيء به طلب الرزق إلى مصر منفردا، يدخل إحدى قراها البعيدة عن مراكز الحكومة فيتزلف إلى كبار أهلها فيفسحون له في مساكنها ملجأ يأوي إليه، فلا يزال بتجارته الرابحة من بيع الزيتون والجبن بأضعاف القيمة بثمن آجل حتى يصبح ذا مال يقرضه إلى الفلاحين بالربا الفاحش، ولا يلبث على هذه الحال قليلا من الزمان إلا هو دائن لأغلب أهل البلد ينزع ملكية أرضهم ويستخدمهم فيها عمالا بسطاء، وكل هذا لم يحرك في نفوسهم ذلك التعصب الديني الموهوم، أليس ذلك إلا لأن هذا التعصب عديم الأثر في نفوس مسلمي مصر؟
أقام اللورد كرومر على هذه التهمة الشنعاء التي اتهم بها المصريين دليلين؛ أحدهما مسطور في تقريره عن سنة 1905 بمناسبة حادثة الهماميل في الإسكندرية، وكان فيها أن مصريا ويونانيا تشاجرا على مشتري قطعة من الجبن، فطعن اليوناني المصري طعنة بسكين فقضى عليه، وأعقب ذلك أن يونانيا أراد قتل يوناني آخر بغدارة فأخطأه وأصاب وطنيا، فمات، فاجتمع رعاع الفريقين، وقال بعض فريق المسلمين «اقتلوا النصارى».
والثاني حادثة العقبة التي جعلت بعض الجرائد أو بعض الناس يظهرون ميلهم إلى تركيا بمناسبة الخلاف بينها وبين الحكومة المصرية على تحديد التخوم المصرية في تلك الناحية.
أما الحادثة الأولى فلا تثبت من التعصب شيئا؛ لأن من الأمور الطبيعية أن الناس ينتصرون للمظلوم خصوصا إذا كان من بني جنسهم، وقد روت روتر في ذلك الحين أن روسيا في باريس أطلق الرصاص على جنديين فرنسيين، فهم الأهالي بقتله لولا أن رجال البوليس أنقذوه من أيديهم، ولم يقل أحد بأن انتصار الأهالي في باريس للجنديين كان سببه التعصب الديني، فانتصار الوطنيين للقتيل، وانتصار الأروام وغيرهم للقاتل هو من الأمور الطبيعية التي لا تثبت وجود التعصب الديني عند المصريين.
لم يبق بعدئذ إلا قول بعضهم: «اقتلوا النصارى» فلو صحت نية هؤلاء الصائحين بهذه الصيحة وقابلوا مسيحيين من المصريين أو من السوريين لما مسوهم بسوء، ولكن لفظة النصارى في لغة الرعاع مرادف للإفرنج أو نحو ذلك، فإن كان في نفوسهم عصبية لكانت عصبية جنسية لا عصبية دينية.
أما حادثة العقبة، فيحسن بنا أن نلفت نظر القارئ إلى سبب الحركة الفكرية التي جرت في مصر إبان حادث العقبة، كان من جرائها أن أساء الإنجليز الظن بالمصريين وافتكروا أن هؤلاء يتبرمون بهم ويودون لو استبدلوا الاحتلال التركي بالاحتلال الإنجليزي، وأن مثار هذا التبرم هو التعصب الديني من المصريين للترك، وقد جر هذا الفهم إلى نتائج مشئومة، ولكنا نظن أن الإنجليز متى عرفوا السبب الحقيقي لهذه الحركة وأنصفوا، يقلعون عن تهمة المصريين بالتعصب، تلك التهمة التي تسوءنا أكثر مما ساءتهم.
نلتمس علل الأشياء بقياسها على أشباهها ونظائرها، فإذا أردنا أن نلتمس علة هذه الحركة الفكرية الحقيقية التي وجدت بمناسبة حادث العقبة حسن بنا أن نرجع بها إلى نظائرها من الحوادث، ولا نجد حادثة أشبه بها من جميع الوجوه أكثر من حادثة فاشودة؛ فإن الإنجليز كانوا يدفعون الترك عن العقبة باسم الحكومة المصرية لمصلحتها، ومصلحة الحكومة الإنجليزية، كما كانوا يدفعون الضابط مارشان عن فاشودة باسم الحكومتين المصرية والإنجليزية ولمصلحتهما أيضا، وكان النزاع بين الإنجليز وبين الترك على الحدود الشرقية كما كان بينهم وبين الفرنسيين على الحدود الجنوبية المصرية، فماذا كان ميل المصريين وقتئذ بالنسبة لحادثة فاشودة؟
كان في مصر حركة أفكار تتجه في مجموعها إلى اجتذاب الناس إلى فرنسا أو إلى مارشان وجماعته؛ فكيف جاء هذا الشعور؟ وما مصدره؟
هل كان مصدره في النفوس أيضا تعصبا دينيا لفرنسا، أوجب استبدال الاحتلال الفرنسي بالاحتلال الإنجليزي؟!
لا هذا ولا ذاك، ولكن من الطبائع العمرانية أن الأمة متى أبعدت عن إدارة حكومتها وجهلت مقاصد حكامها، أو ظهر لها منهم عين لاستئثار بالمنفعة دونها، وحملها على ما تهوى وما لا تهوى من غير أن تستشار، كل ذلك يدعو بها إلى أن تتبرم بحكومتها إذا كانت حكومة وطنية، فإذا كانت أجنبية يكون التبرم والمقاطعة من باب أولى.
ومثال ذلك الحركة الفكرية للأمة في أوائل الثورة العسكرية سنة 1882، فإن الأمة كانت قلقة تحب الخروج من ذلك الاحتلال الفعلي الشركسي وإن كان قلقها هذا لم يتعد حد القلق؛ لأنه لم تكن لها في الثورة العسكرية فكرة ثابتة ولا مشاركة حقيقية، فهل كان هذا القلق والضجر من حال الحكومة، ومن قانون العسكرية، مترتبا على تعصب ديني من المسلمين ضد المسلمين؟ لا شيء من ذلك أيضا؛ فلو استقرأنا كل العلل الممكنة التي ولدت حركة الأفكار في سنة 1881 وسنة 1898 بمناسبة حادثة فاشودة، وسنة 1906 بمناسبة حادثة العقبة استقراء صحيحا خاليا عن الغرض، لوجدنا أن العلة في كل ذلك واحدة، وهي قلق من عدم إشراك الحكومة إياها في شيء من الحكم.
ولكن ذوي الأغراض - عن جهل أو سوء قصد - جاءوا يصورون تلك الحركة الفكرية لعميد الاحتلال في صورة التعصب الديني، وهو قد صورها في الصيف الماضي لأوربا بصورة مزعجة؛ كل ذلك، والأمة هادئة بعيدة عن التعصب وآثاره.
الفصل السادس
طالبنا بالاستقلال التام فقالوا خرجتم على الباب العالي
(1) الاستقلال والدستور
بعد ظهور صحيفة الجريدة ببضعة أشهر تألف «حزب الأمة» في 21 ديسمبر سنة 1907، وقد تضمن منهاجه عدة مبادئ في رأسها المطالبة بالاستقلال التام
1
والمطالبة بالدستور، وأقل درجاته توسيع اختصاص مجلس شورى القوانين، ومجلس المديريات؛ تدرجا إلى إيجاد مجلس نيابي تتمثل فيه سلطات الشعب، وقد اختير محمود سليمان باشا رئيسا لهذا الحزب، وحسن عبد الرازق باشا الكبير، وعلي شعراوي باشا وكيلين له، واخترت أنا سكرتيرا عاما.
وقد اتخذت بعض الصحف من مطالبة هذا الحزب بالاستقلال التام ذريعة للتشنيع عليه، واتهامة بالخروج على الباب العالي صاحب السيادة على مصر في ذلك الحين، ولكننا لم نأبه لهذه التهمة، ومضينا في طريقنا، وكان لنا كثرة أو شبهها في مجلس شورى القوانين، فأخذت في مهاجمة الحكومة الاستبدادية والمطالبة بالدستور، وقدم محمود سليمان باشا وحسن عبد الرازق باشا إلى رئيس الحكومة مشروعا بتوسيع اختصاص مجالس المديريات، فقدمت الحكومة مشروعا آخر أقل سعة من مشروعنا، وقد سرنا أنها سارت في هذه الطريق للوصول إلى تحقيق إرادة الأمة، والتحرر من سلطة الحكومة الشخصية، تلك الحكومة التي لا تستمد وجودها إلا من أصل واحد هو عبادة البسالة، عبادة القوى، عبادة القهر والغلبة والاستبداد، وما يجتمع حول تلك العبادة من الأوهام التي تتجسم في رءوس العامة، وقد جاء العلم، ففتح للناس أسرار العالم وأصبح العالم بذلك هو موضوع الإعجاب والإكبار، وصار العظماء أمام هذا العالم الطبيعي وقوته لا نصيب لهم من ذلك الإعجاب والإكبار، فتجردوا بهذه المثابة عن الأصل الذي كانوا يستخدمونه في إنشاء الممالك المستبدة، ولكنه مع ذلك قد بقي في نفوس الناس طرف غير قليل من الأوهام القديمة، تلك الأوهام التي كانت في كثير من الأزمان كافية لإخضاعهم لشخص واحد يتصرف في دمائهم وأموالهم من غير أن ينزل لسماع أقوالهم أو الإصغاء لرغباتهم، لذلك كنا ننادي بتوسيع اختصاص الهيئات النيابية؛ توصلا للحصول على الدستور الذي تتقرر به سلطة الحكومة الشخصية أو حكومة الفرد. (2) انتخابي لمجلس المديرية
وفي عام 1908 أراد حزبي أن أكون مع أعضائه في مجلس شورى القوانين، فرشحت نفسي لمجلس مديرية الدقهلية؛ لأن عضو مجلس الشورى كان ينتخبه أعضاء مجلس المديرية من بينهم فلم أنجح في هذا الانتخاب، ثم رشحت نفسي في الانتخاب الذي بعده سنة 1911 فنجحت، ولكن طعن في بأني لست مقيما في بلدتي «برقين» وألغت محكمة الزقازيق الانتخاب فعدت للانتخاب مرة أخرى، فنجحت بأصوات أكثر من الأولى، وكان الخديو - فيما يقال - يرتاح إلى الطعن في انتخابي، وذات يوم خاطبني بالتليفون عبد الله وهبي باشا ودعاني إلى الشاي في بيته، فوجدت عنده جاد بك مصطفى الطاعن في انتخابي، فتحادثنا في شئون الانتخاب، فقال لي رحمه الله: «إن صداقتي لأبيك، وتقديري لك يجعلاني أتنازل عن الطعن بشرط أن تأتي أنت ووالدك، وشكري باشا المدير للغداء عندي في قريتي «صدفة» يوم الجمعة المقبل.»
فأجبته إلى رغبته.
وفي ذلك الوقت عاد الدكتور محمد حسين هيكل من أوربا، بعد أن حصل على إجازة الدكتوراه، أخذته معي في زيارة لكثير من القرى لأقف على حالة التعليم الأولى، وأقدم بذلك تقريرا لمجلس المديرية، وقد فعلت.
ومن طريف ما يذكر هنا، أننا مررنا بكتاب في إحدى القرى، فوجدنا قلة في عدد التلاميذ، فقلت للشيخ: «أظن أنك صرفت الأطفال لتنقية الدودة!»
فقال: «ليس في بلدنا دودة؛ لأني أذنت الأذان الشرعي في الجهات الأربع للقرية، فامتنعت الدودة بإذن الله تعالى.»
قال هذا وكنا نشم رائحة الدودة حولنا في المزارع! (3) بيع الرتب والنياشين
قلت: إن الحكومة الشخصية - أو حكومة الفرد - تستمد وجودها من عبادة البسالة والغلبة والاستبداد، وأزيد هنا أن الفرد من أبناء الأمة في ظل هذه الحكومة، ليست له حياة ظاهرة ولا شرف معترف به إلا بالإضافة لشخص الحاكم، ما دام الأفندي لا ينقلب زيه يوم العيد إلى زي بطل من أبطال القرون الوسطى، كل صدره قصب يبرق ، وتعلق عليه نياشين تلمع، ويحمل بعد ذلك سيفا لا يستطيع أن يجرده، ولا السيف صالح أن يجرد، فمهما يكن له من شرف المولد، ورفعة الأخلاق، وسعة العيش فإنه لا يكون شريفا إلا إذا حصل على رتبة أو نيشان.
من أجل هذا الشرف الوهمي تهافت الناس على الرتب والنياشين، وصارت تباع في ذلك العهد، وتحدثت بها الصحف سنة 1908، وقد كان لها سماسرة يسعون في الحصول عليها لمن يدفع الثمن، وأصبحت تعطى لا مكافأة على عمل من أعمال البسالة كما يكون من رجال الجيش، ولا على خدمة كبرى من الخدمات العامة، بل لعملاء السماسرة الذين يشترون ألقاب التشريف، وكان السمسار يأخذ المقدم من المشتري، فإذا تم التشريف يأخذ المؤخر، وكانت الحكومة في ذلك الوقت تسكت عن هذه الحال؛ لتجعل الناس دائما يهتمون برضاها عنهم، فهي تلعب بأهوائهم وشهواتهم وتأسرهم بها، وتلك عادة الحكومة الاستبدادية القديمة قد تسربت إلى الحكومات الحديثة، فكانت أثرا من الآثار الاستبدادية الأولى، وقد عرفت الحكومات الديمقراطية الراقية أن تتخلص منها، ولكنها ما تزال في بعض الشعوب من أهم المؤثرات في الأخلاق خصوصا في الشعب المصري. (4) سياسة الوفاق وسياسة الخلاف
في سنة 1908 أيضا كان قد مضى عام على تعيين سير الدون غورست معتمدا بريطانيا في مصر خلفا للورد كرومر الذي اعتزل منصبه في أبريل سنة 1907، وقد عرف بعهد سياسة الوفاق، وهي السياسة التي عادت للمرة الثانية بعد أن حلت محلها سياسة الخلاف بين الخديو عباس واللورد كرومر.
وتبدأ سياسة الوفاق من عهد الخديو محمد توفيق؛ فقد دخل الإنجليز مصر على وفاق بينه وبينهم، فألغوا الجيش المصري، واستبدلوا به جيشا صغيرا ضباطه من الإنجليز، ثم محوا العلوم الحربية الواسعة في المدرسة الحربية، فبدلا من أن يرقوها حتى تخرج ضباطا كما تخرج مدارس إنجلترا وفرنسا قصروها على تخريج ضباط بدرجة، هم أنفسهم يريدونها، درجة تجعل الضابط المصري مرءوسا دائما، ثم أخذوا يخرجون من الجيش العامل كل ضباط الإنجليز، وقد دل هذا التصرف في الجيش على أن الغرض منه إضعاف مصر لا تقويتها، وتلك كانت إحدى نتائج الوفاق والتسليم للإنجليز بعمل ما يريدون.
لقد جاء الإنجليز مصر فوجدوا فيها جيشا ثائرا ومجلس نواب، فألغوا الجيش الثائر واستعاضوا به غيره، وألغوا كذلك مجلس النواب، وكان حقهم أن يبقوه فلم يفعلوا، بل لم يستعيضوا به غيره، نقول على وجه التسامح: إنهم ألفوا مجلس شورى ضئيلا؛ ليكبر بالزمان فمضى كل عهد سياسة الوفاق، ولم يفكر الإنجليز في تعديل مادة من مواده حتى يسيروا به إلى الأمام، وذلك يدل على أنهم كرهوا لمصر أن تتدرج في الحكم الدستوري.
وإذا كان الإنجليز لم يعملوا وقتئذ للإنسانية وعملوا لتقوية الحكومة بأي شكل، فكان من مقتضى ذلك أنهم حين أضعفوا حكومة الدستور أن يقووا الحكومة الشخصية أي الحكومة الخديوية ولكنهم لم يفعلوا بل أضعفوها هي أيضا.
ومن الشواهد على ذلك أن ناظر الحقانية وقتذاك، سعادة حسين فخري باشا، رفع تقريرا إلى مجلس النظار باستغناء النظارة عن المستشار القضائي مستر سكوت، وكان الخديو توفيق في سياحته بالوجه القبلي، فانعقد مجلس النظار وقرر عدم استمرار المستر سكوت مستشارا في الحقانية، وأرسل بذلك للخديو الذي أرسل لمجلس النظار تلغرافا بالموافقة والارتياح، فلم يكن إلا قليل حتى أكرهه اللورد كرومر على إلغاء ذلك القرار، ونتج عن ذلك تمكن الضعف من قلوب النظار المصريين وزيادة الاستسلام من جانب الخديو، ووقعت الحكومة كلها في يد المعتمد البريطاني يفعل بها ما يشاء، وكان الغرض من ذلك إضعاف السلطة الأهلية سواء في ذلك سلطة الحكومة وسلطة الأمة.
كان يجري كل هذا التصرف الذي من شأنه إعدام كل سلطة أهلية من الأمة والحكومة معا والسياسة العالية تجري في مجراها على هذا النحو أيضا، وأكبر الأمثلة على ذلك التخلي عن السودان وتركه، وكان ما كان من معارضة الرجل الكبير محمد شريف باشا الذي كان أحق وزراء مصر على الإطلاق بالتمجيد، ولكنه لما لم ينجح استقال، وجاءت وزارة نوبار باشا فأخلت السودان، ثم فتح على أنه شركة في الإدارة بين مصر وإنجلترا كما تعرفون .
التقرب من الإنجليز
بعد أن جردت الأمة من سلطتها والحكومة الأهلية من هيبتها، آمن المصريون بأن الإنجليز طامعون لا مصلحون، وأخذ كل موظف يحتمي برئيس إنجليزي، وأخذ العمد والأعيان يستعينون في قضاء أعمالهم غير المتناهية بالتقرب من الإنجليز تقربا وقتيا دعا إليه قضاء المصلحة الشخصية من القادر القاهر، ولكن هذا التقرب من طبيعته أن يزول بانقضاء تلك المصلحة، ثم يتجدد كلما جاءت مصلحة جديدة، فنتج عن سياسة الوفاق هذه فتور عام في فكرة الاستقلال وتراخي مفاصل الوطنية الصحيحة، وانصرفت النفوس طبعا عن التعلق بالخديو الذي كان ينسب كل تصرف سيئ للإنجليز إلى رضاه عنه وإقراره عليه، وكان اللورد كرومر والجرائد الإنجليزية لا تدع فرصة تمر إلا انتهزتها للثناء على الخديو وإطرائه بأبلغ الإطراء.
وقد بقيت سياسة الوفاق في مصر، وزادت وضوحا منذ فشلت معاهدة سنة 1887 لتحديد شروط الجلاء، وكان للإنجليز في هذه السياسة الغنم وعلى مصر الغرم، للإنجليز فيها السؤدد والمنفعة، وللمصريين فيها المذلة والخسارة، وانتهى عهدها الأول بوفاة الخديو توفيق، وابتداء عهد سياسة الخلاف منذ تولية الخديو عباس حلمي الثاني على الأريكة المصرية، ثم تجددت سياسة الوفاق ثانية في عهده عند تنصيب وزارة نوبار باشا سنة 1894، ولكن هذا الوفاق الأخير لم يكن بينه وبين الوفاق الحقيقي المبني على الثقة والمنفعة المتبادلة إلا شبه من الطلاء الظاهري؛ لأنه كان مسببا على الاستسلام للقوة، ثم لم يلبث أن توترت العلاقة بين سمو الأمير واللورد كرومر فانكشفت عن جفاء مستحكم الحلقات، ثم تجددت سياسة الوفاق بعد مبارحة كرومر مصر وتعيين السير الدون غورست مكانه، وكان من نتائج هذه السياسة أن تدخل المعتمد البريطاني لم يقل عما كان عليه من قبل، بل ربما زاد وامتد إلى بعض المصالح الأهلية الصرفة. (5) قانون المطبوعات
في سنة 1909 أرادت الحكومة بعث قانون المطبوعات الذي كان قد صدر إبان الثورة العرابية، وهو قانون بالغ القسوة على حرية الرأي، فحملت أنا وزملائي الصحفيون، على ذلك القانون حملة قوية، ولكننا لم نوفق؛ لأن بعض أعضاء مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية كانوا قد طلبوا شيئا من هذا فيما سبق، وعارض فيه اللورد كرومر، ثم لما أريد إحياء هذا القانون وافق عليه الإنجليز ووافق عليه مجلس الشورى بالأغلبية مع الأسف، وفي صيف ذلك العام سافرت إلى أوربا للاستشفاء، وعزمت على مقابلة «سير إدوارد جراي» وزير الخارجية الإنجليزي لأشكو له تصرف الإنجليز في حرية الصحافة وأعطاني صديقي محمد محمود باشا رحمه الله كتابا لأستاذه المستر سميث عميد كلية «بلبول» بأكسفورد ليقدمني لوزير الخارجية البريطانية الذي كان تلميذا له، فلما سافرت إلى أكسفورد، وكان أخي سعيد وقتها طالبا بها، قابلت المستر سميث فطلب مني أن أكتب مذكرة بما أريد، ثم نسافر في اليوم التالي أنا وهو إلى لندره ليقدمني إلى «السير إدوارد جراي»، وفي اليوم التالي ذهبنا إلى لندره، ثم إلى وزارة الخارجية، فاعتذر الوزير عن استقبالي بسبب مناورة بحرية، وأحالني إلى وكيل الوزارة - وأظنه المستر ماليت - فقدمت له المذكرة، وبينت له وجوه الخطر على الحرية من هذا القانون، فوعدني خيرا. (6) مد امتياز قناة السويس
وفي نفس السنة - 1909 - أرادت شركة قناة السويس أن تمد امتيازها أربعين سنة جديدة مقابل أربعة ملايين من الجنيهات تدفعها إلى الحكومة المصرية، وكان المستشار المالي يميل للأخذ بهذه الفكرة، وكذلك «سير ألدون غورست» وبطرس غالي باشا، فتحدثت في ذلك إلى حسين رشدي، وسعد زغلول باشا، فأحالاني على رئيس الوزارة بطرس باشا وعلى المستشار المالي الإنجليزي، فذهبت إلى المستشار، واعترضت على المضي في هذا الموضوع، وطلبت منه عرضه على الجمعية العمومية، وهي أكبر هيئة نيابية وقتئذ في البلاد، ولكنني لم أوفق لإجابة طلبي، فتركته وذهبت إلى رئيس الوزارة في بيته بالفجالة، فاستقبلني بما كنت أعهده من لطف وأدب، وحادثته في الأمر، وطلبت منه باسم حزب الأمة أن تعرض مسألة امتياز قناة السويس على الجمعية العمومية، فأجابني بقوله: «يا لطفي أما تنزل من السحاب؛ لنكون معا على الأرض؟!»
وأبى أن يقتنع برأيي، فتركته وسرت في حملتي على هذا الموضوع، وبعد ذلك أظن أن شركة القناة اشترطت أخذ رأي الجمعية؛ لما رأت من هياج الرأي العام ضد هذا المشروع. فاستدعاني بالتليفون لأحضر عنده في وزارة الخارجية ليلقي إلي حديثا صحفيا في مسألة القناة، وعلى ظني أنه هو الحديث الوحيد الذي أخذته من وزير أو رئيس وزراء طول مدة اشتغالي بالصحافة.
ولما دخلت على بطرس باشا، وجدت عنده فتحي زغلول باشا وكيل وزارة الحقانية، فبادرني بطرس باشا قائلا: «هأنذا أجيب طلبكم وأحيل الأمر على الجمعية العمومية تقضي فيه بما تشاء.»
وكانت الجريدة هي أول من نشر هذا الخبر، وقد عرض الموضوع على الجمعية، فقررت رفضه.
بعد ذلك في سنة 1910، كنت في منزل صديقي علي شعراوي باشا، ومعنا فتحي زغلول باشا، وإبراهيم الهلباوي بك، فدخل علينا بطرس باشا غالي بلا موعد سابق ولا استئذان؛ لأنه كان صديقا لشعراوي باشا، فقال لنا: «علام تتآمرون؟»
فقال الهلباوي بك: «نتآمر على الحكومة؛ لأننا نريد إثارة البلاد لطلب الدستور.»
فقال شعراوي باشا: «من أين جئت يا بطرس باشا؟» فأجاب: «كنت أتنزه ماشيا في الجزيرة.» فلامه شعراوي باشا على أنه كان يسير بلا حرس، فقال بطرس: «قد يكون معك الحق؛ لأني تلقيت منذ أيام كتبا يهددني فيها كاتبوها بالقتل!»
فقلت له: «يا باشا أظن أن الذي يريد أن يقتل لا يهدد!»
وقد أخطأت الظن لأنه رحمه الله قتل بعد ذلك بأيام، وكان لهذا الحادث رنة أسف بليغ، وعلى الخصوص في البيئات المتعلمة. (7) قضية الجريدة
قدمت أن الخديو عباس حلمي لم يكن راضيا عن شركة «الجريدة» ولا عن حزب الأمة، وأن بطانته كانت تعارض «الجريدة» وتعمل لحل الشركة، وقد أفلحت هذه البطانة في إقناع بعض الشركاء بالخروج على الشركة، وطلب حلها سنة 1910 ثم رفع هذا البعض دعوى أمام المحكمة المختلطة طالبا هذا الحل، وقد دفعت مصاريف الدعوى - على ما علمت - من الخاصة الخديوية، وأنعم على هؤلاء المدعين بالرتب، وكان المحامي الذي رفع الدعوى هو محامي الخاصة، فكتبت مذكرة بكل هذه التصرفات وأعطيتها للأفوكاتو جرين المحامي عن الشركة.
وقد كان الأمير حسين كامل (السلطان حسين) رئيسا لمجلس شورى القوانين وقتذاك؛ فدعا محمود باشا سليمان، وعلي شعراوي باشا ، وأنا، ولما استقر بنا الجلوس، قال الأمير حسين: «أنا لا أفهم أنكم ترفعون دعوى على خديو البلاد!»
فقلت له: «يا أفندينا وأنا كذلك، ولكن سمو الخديو هو الذي رفع علينا الدعوى.»
وما كدت أسرد له أدلتي حتى دخل علينا بطرس غالي باشا رئيس الحكومة، واتفقنا في المجلس على أن يطلب المدعون تأجيل الدعوى إلى أجل غير مسمى، وما زالت مؤجلة حتى الآن! (8) محاضرات في «الجريدة»
وقد كانت صحيفة «الجريدة» عدا ما تقوم به من خدمة وطنية وسياسية تقوم برسالة ثقافية بين الشباب المتعلم، فكان يؤم دارها كثير منهم للاستماع إلى محاضرات عدد من كبار الأساتذة والمحامين المصريين، وقد اتفق وقتئذ أن ناظر مدرسة الحقوق الإنجليزي - وكان أستاذ القانون المدني بها - لم يكن من الحاصلين على شهادة الليسانس بل سقط في امتحان الليسانس في باريس، فأخذت «الجريدة» تطالب الحكومة أن تستبدل به غيره، فلم تجب إلى طلبها، فدعوت المرحوم الأستاذ أحمد عبد اللطيف ليدرس القانون المدني للطلبة في دار الجريدة، فقبل هذه الدعوة، وكان يؤم دروسه الكثيرون، ومن تلامذته كامل البنداري باشا، وأحمد صديق باشا، وغيرهما.
وفي ذلك العام - عام 1910 - وضع حزب الأمة مشروعا للدستور، وفكر في أن يقدم للخديو عريضة من أهالي البلاد بطلب الدستور، وقد حررت هذه العريضة، وأخذ الأهالي في إمضائها، وهنا لا أنسى مكرمة للمرحوم حسن باشا رضوان، وكان وقتئذ مديرا للغربية؛ فقد قابلته في وزارة الداخلية، وأسررت له الأمر، وطلبت إليه أن يغض الطرف عن هذا العمل الذي سنبتدئ به في مديرية الغربية، فأجابني: «كلا، لن أغض الطرف، بل سأساعد على إمضاء العريضة من الأهالي!» وقد وفي هذا المدير الوطني بوعده!
هوامش
الفصل السابع
أربعة رجال عرفتهم
حسن عاصم باشا
قبل أن تجمعني الصداقة بالمرحوم حسن عاصم باشا، جمعني العمل معه في النيابة العمومية، وكان وقتئذ «أفوكاتو» عموميا، عرفته رئيسا، وعرفته صديقا، ثم عرفته مستشارا، ثم سر تشريفاتي لسمو الخديو عباس حلمي الثاني، ثم رئيسا للديوان الخديوي، فما وجدت رجلا أظهر ثباتا على المبادئ، وأقوى تمسكا بنهج الاستقامة من هذا الرجل، فمن عرفه عرف خلقا صريحا لا يتلون، وسيرا قويما لا يعوج، ومبادئ راسخة لا تتغير، حتى لقد كان يرميه بعضهم بالتطرف، وشدة التمسك بالحق، ويعدون ذلك عليه جفاء في الأخلاق، وما به جفاء، ولكن الطاعة للمبدأ كالطاعة لقائد الجيش في ميدان القتال.
كان عاصم باشا رجلا أسمر اللون، قصير القامة، جذاب الطلعة، مقتصدا في حركاته عند الحديث، جهوري الصوت يميل في لبسه دائما إلى السواد على طراز واحد، وقورا في ملبسه، وقورا في مجلسه، لا يخرج إلا نادرا، قليل الضحك كثير التبسم، ويمتاز عن كثير من أمثاله بأنه لا يغلو في إرضاء الناس بالقول، ولا يعد بعمل ما لا يريد.
وقد اشتغل رئيسا لنيابة الإسكندرية، ثم لنيابة طنطا، ثم مفتشا في لجنة المراقبة، ثم عين أفوكاتو عموميا، وبقي منتدبا في لجنة المراقبة فلما طلب إليه مظلوم باشا ناظر الحقانية وقتئذ والسير سكوت مستشارها، أن يباشر عمله الجديد رفض الاشتغال بوظيفة الأفوكاتو متى كانت خلوا من العمل الجدي؛ لأن مسيو لوجريل لم يكن يريد مشاركة غيره في العمل، فوعده الناظر والمستشار أن سيكون له عمل معين، وأنه لن يبقى إلا بضعة أشهر، ثم يعين نائبا عموميا بدل المسيو جريل.
ولكن الحال قد تبدل، واتهم عاصم بأنه معاد للإنجليز، فأمر اللورد كرومر المستشار السير سكوت بفصله من وظيفة الأفوكاتو العمومي، وكان سكوت من العدالة في الأخلاق بحيث يعز عليه تنفيذ هذا الأمر في حق رجل، عرف هو والناس أجمعون مكانه من الفضل والعمل، وموضعه من أصالة الرأي والاستقامة، فكان المستشار في مركز حرج بين تنفيذ أمر المعتمد البريطاني ومعاملة عاصم بما يقتضيه العقل وتوجيه المصحلة من أن يرقيه، كما وعده، لا أن يفصله من غير ذنب، فبقي الأمر بين البقاء والإقصاء، كل هذا وعاصم يعمل بغيرته المعروفة وجده الزائد من غير أن يهتم بفصله أو ترقيته.
ومما يدل على ما كان له من علو في النفس، وقوة في الخلق أنه في هذه الفترة بين الفصل وعدمه وضع مشروعا يقضي بنقل نحو خمسة وثلاثين كاتبا باليومية في محكمة الاستئناف التي غصت بالكتبة إلى المحاكم الابتدائية التي كانت في أشد الحاجة إلى الموظفين، فدخل عليه باشكاتب المحكمة بخطاب نقل هذا الجم الغفير، وقال له: «ما لك ولهذا العمل؟ والأمر بفصلك تحت الختم.» فأجاب: إني لا أشتغل إلا للأمة، وما دمت في وظيفتي ولم يصدر أمر فصلي، فلا مندوحة عن القيام بواجباتي.
بقي أمر الفصل تحت التقديم إلى مجلس النظار حتى وجدت وظيفة مستشار من الدرجة الثانية في محكمة الاستئناف فعين فيها، ولم يلبث فيها طويلا، ثم عين سر تشريفاتي لسمو الخديو، فوضع للتشريفات نظاما وقواعد، ثم رقي إلى وظيفة رئيس الديوان الخديوي، وما لبث أن تغيرت ثقة سموه فيه من غير ذنب أتاه إلا حب محافظته على مبادئه وإخلاص النصح لسموه، فقوبل على ذلك بالإبعاد والإحالة إلى المعاش، ثم تفرغ لأعمال الجمعية الخيرية الإسلامية التي له من الفضل في إيجادها وبقائها القسط الكبير.
أما مذهبه السياسي، فكان رحمه الله يرى رأي حزب الأمة، ويعمل لنشر مبدئه، وهو الاعتدال والدأب على أن تنال الأمة الاعتراف بشخصيتها لتنال الاستقلال التام.
مصطفى كامل باشا
لا أريد أن أطيل القول في مصطفى كامل، فحياته معروفة مشهورة، ولكني أقول موجزا:
إن مصطفى كامل كان شعاره الوطنية، ووسيلته الوطنية، وغرضه الوطنية، وكلماته الوطنية، وكتابته الوطنية، وحياته الوطنية، حتى لبسها ولبسته، فصار بينهما التلازم الذهني والعرفي، فإذا ذكرت مصطفى كامل بخير، فإنما تطري الوطنية، وإذا قلت: الوطنية، فإن أول ما يتمثل في خيالك شخص مصطفى كامل، كأنما هو والوطنية شيء واحد!
ولقد تمثل ذلك يوم وفاته في هذه المظاهرة التي لم نعرف لها في ذلك الزمان مثيلا؛ فقد اشترك جميع أفراد الأمة في أمر واحد، على رأي واحد، بصورة واحدة مع اختلافهم فيما عداه.
كل هذا دل على أن الشعور الذي قادهم ليس مذهبا سياسيا، ولا طريقة من طرائق المنازعة السياسية، بل هو أعلى من ذلك؛ هو التضامن القومي، والجامعة الوطنية.
إن مصطفى كامل كان تمثال الوطنية، ولقد دعوت في اليوم التالي لوفاته على صفحات الجريدة إلى إقامة تمثال له يشهد بالاعتداد بفضله في عمله، وتخليدا لذكره، واعترافا من الأمة لكل عامل يقف نفسه على خدمتها، وتجسد لهذه الروح الطاهرة.
وقد شاعت هذه الفكرة بين جميع الطبقات، وفتحنا الاكتتاب على صفحات «الجريدة» وتكلفنا بالقيام بهذا العمل، ولو أننا لم نكن من حزبه السياسي؛ لأن مصطفى كان مصريا لجميع المصريين.
قاسم أمين بك
كان قاسم أمين من أصل كردي؛ لأن جده أمير من أمراء الأكراد، أخذ ابنه رهينة في الأستانة لخلاف كان بين الأكراد وبين الدولة العثمانية، وكان ذلك الرهينة هو المرحوم أمين بك والد قاسم بك، فجيء به إلى مصر في زمن إسماعيل باشا، ودخل في الجيش المصري، حتى رقي إلى رتبة أميرالاي، وتزوج بكريمة المرحوم أحمد بك خطاب فكان أكبر أولاده قاسم.
ربي قاسم بك التربية المعتادة لأمثاله في مدارس الحكومة، وكان ممتازا دائما بجده وحدة ذهنه وقوة ذكائه، فلما أتم دراسته بمصر أرسل في بعثة إلى فرنسا، فأتم دروس الحقوق ودخل خدمة الحكومة في سنة 1885 وكيلا للنائب العمومي في محكمة مصر المختلطة، ثم لم يبق بها غير عامين حتى عين مندوبا بقلم قضايا الحكومة بنظارة المالية، ثم عين بعد أشهر رئيسا لنيابة بني سويف، ثم لنيابة طنطا ثم نائب قاض، فمستشارا في الاستئناف.
من يلم بهذا التاريخ المختصر لحياة قاسم، يجده تاريخا عاديا غير مملوء بالعواصف التي تلازم عادة حياة كبار الرجال، فيستفيدون منها قوة وشجاعة، ويتعلمون من تجاربها ما يجعلهم يفوقون غيرهم في سلامة الحكم على الحوادث، ولكن على الرغم من ذلك، كانت نفسه بطبيعتها مستعدة لأن تتعلم وتكمل من الملاحظة الذاتية والتجارب، فإن قاسم قال:
أقل مراتب العلم ما تعلمه الإنسان من الكتب والأساتذة، وأعظمها ما تعلمه من تجاربه الشخصية في الأشياء والناس.
كان قاسم بك اجتماعيا لا كبقية الاجتماعيين الذين يجعلون أدمغتهم محافظ لآراء الغير، فإذا حضرتهم المناقشة، أو دعتهم الكتابة إلى موضوع اجتماعي، أخذوا يسردون عليك محفوظاتهم من المؤلفين السابقين من غير أن يكون لعقلهم في الموضوع نصيب من الرأي، لا، لم يكن كذلك أبدا، بل كان مفكرا بالأصالة، نقادا لا يستغني عن أفكار الغير، ولكنه لا يعتنقها إلا إذا اعتقدها، وصارت له بما قام في نفسه من الأدلة اليقينية.
بحث قاسم أمين في المسائل الاجتماعية على العموم، فكان رأيه فيها أنها خاضعة دائما للقوانين الطبيعية، قوانين التحليل والتركيب، والنمو التدريجي، والانتقال.
وبحث في المسألة الاجتماعية لمصر على الخصوص، فوجد أن حلها متوقف على نظام العائلة المصرية، ووجد أن المرأة هي الأساس الأول لبناء العائلة، فأخذ يفكر كيف يرقي المرأة المصرية، وأطال في ذلك التفكير، وأخذ يجمع قوته وعدته ليفك هذا الإنسان الضعيف من سلاسل الأسر التي قيدته بها العادة، وليهدم هذا السجن العميق الذي حبس الاستبداد في غيابته عقول نصف المصريين، وحجب ذلك الضوء الساطع، ضوء روح السيدة المصرية، عن أن ينتشر بين سمائها الصافية وأرضها المخصبة انتشارا يضيء للرجال طريق السعادة المنزلية، ويوصلهم من غير عناء إلى ذروة المجد والاستقلال.
أجل، ليفك أسر المرأة التي أوقعوها فيه باسم الدين، وما هو من الدين في شيء، فالدين أسمى مما يظنون، فكتب كتاب «تحرير المرأة»، ثم قفاه بكتاب «المرأة الجديدة»، كتبهما فهد ركن سجنها، وأضاء لها ظلمات الحياة المنزلية والزوجية، وجعلها تحس أنها أم الرجل لها احترامه، وأخته لها عطفه وحنانه، وزوجه لها منه محبة لذاتها واعتباره لمركزها، كما هدى إلى ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كتب فأجاد، ولم يخش منتقدا ولا لائما، ولم ينزله خوف الانتقاد عن فكرة من أفكاره ولا لفظ من ألفاظه؛ ذلك لأنه يعتقد اعتقادا كاملا بصحة ما كتب، ويغريه الانتقاد في حب البلاد بألا يعبأ بالانتقاص الذي وجه لشخصه، بل صيره متينا في رأيه ومكينا في اعتقاده مجاهرا به في كل يوم حتى ساعة وفاته.
أخذ قاسم على عاتقه حمل هذا العبء الثقيل، عبء السعي بالمرأة المصرية إلى نظام العائلة، وبنظام العائلة إلى الرقي الاجتماعي المنشود ، وبهذا الأخير إلى استقلال البلاد.
وقد كان يربأ بنفسه عن أن يكون حاله كحال أولئك الأذكياء المجازفين الذين إذا ضم أحدهم مجلس طرحت فيه فكرة أو مناقشة، انحدر انحدار السيل يفيض في القول صوابا أو خطأ من غير تدبر كأن معانيه وألفاظه لا قيمة لها في نظره يجود بها إسرافا وتبذيرا، فأما قاسم، فإن كل من عرفه أو سمعه يتكلم أول ما يخطر في باله أنه لم ينطق إلا عن روية وفكرة طويلة سابقة؛ شأن الرجل المتحرج في ذمته لا ينشر بين الناس إلا ما قام له الدليل الواضح على صحته.
وإن الذي يدرك معاني قاسم أمين، أو أغراضه، وتوجهه بكليته إلى العلم والفكر، ربما يظن أنه ككثير من العلماء والمفكرين فاتر الطبع، ساكن الأعصاب، كلا، لم يكن كذلك، بل كان ملتهبا في الدفاع عن دينه ووطنه، بل إن بينه وبين الباقين بونا بعيدا؛ فإنهم إذا حضرتهم هذه الوطنية انفعلوا، ولكنه إذا جاءته هو انفعل، وانفجر انفعاله على قلمه ولسانه.
كتب «الدوق داركو» كتابا هجا فيه المصريين وأنحى على دينهم، وسفه أحلامهم وقبح عاداتهم وأخلاقهم، فانبرى له قاسم، ووضع كتابا باللغة الفرنسية مكينا في معناه، ساحرا في أسلوبه، قويا في تركيبه، دفع فيه عن الدين الإسلامي التهم التي هو براء منها، وقارن بين حال المسلمة وحقوقها في الإسلام وبين حال المرأة الأوربية المتمدنة، فكان لهذا الكتاب صدى في عالم الكتابة الأوربية.
وقابلت قاسم أمين بعد وفاة المرحوم مصطفى كامل باشا فقال: «ما أنت وهذه الحركة القائمة؟» قلت: «على ما قد قرأت.» قال: «إنهم يقولون إنك بالغت في وصف الروح الوطنية، وإنك تعلق عليها آمالا، وقد لا تكون صادقة.» قلت: «والله ما اخترعت، ولا بالغت فيما كتبت، ولكني رأيت رأي العين شعور التضامن يتجلى أمامي على رءوس الناس في الشوارع والطرقات، فما فعلت شيئا أكثر من أني أرسلت الألفاظ لتلبس هذا المعنى الطاهر وسطرتها على صفحات «الجريدة»، وهل أنت تقول: إني بالغت مع القائلين؟»
فانبرى يقول: «إني أتهمك بالتقصير في وصف هذه الحال الشريفة، ولو كنت أخفف عليك في الحكم، لقلت: إنك في نظري أميل إلى التقصير في هذا الموضوع منك إلى الغلو والإغراق، إن هذا الشعور الوطني الشريف، هذا المولود الحديث الولادة الذي خرج من دم الأمة وأعصابها، هذا هو الرجاء في المستقبل، هذا هو الذي يجب عليكم جميعا أن تباركوا عليه وتتعهدوه حتى يصير شابا، هناك تنالون الاستقلال.»
أحمد عرابي باشا
في سنة 1911 توفي أحمد عرابي باشا قائد الثورة العرابية التي نشبت سنة 1882، أيام كنت صبيا في العاشرة من عمري، ولما كان - غفر الله له - من نوابغ المصريين وقد لعب دورا مهما في تاريخ مصر، أود أن أسجل رأيي فيه في هذه المذكرات:
لقد كان مستقبل مصر طوع يدي هذا الرجل، إن أصاب الفكرة، وحزم الرأي، وأتقن العمل، جعله مستقبلا سعيدا، وإن عجل ولم يتدبر وانقاد لشهواته أو شهوات زملائه وقعت مصر في التعاسة، ومن نحس الطالع أن الذي جرى هو آخر الفرضين!
لعرابي حسنات قبل الثورة، له حسنة رضيت عنها الأمة وفرحت بها، رضيها الخديو توفيق باشا، وسار عليها العمل، تلك الحسنة الكبرى هي الدستور؛ فالدستور المصري من عمله، ومن صنع يده، ومن آثار جرأته، طلبه عرابي، لا بوصف أنه عسكري ثائر، ولكن بوصف أنه وكيل وكلته الأمة في ذلك، فإن عريضة طلب الدستور كانت ممضاة من وجهاء الأمة ومشايخها، فأما كون القوة العسكرية هي التي كانت الآلة لتنفيذ إرادة الأمة في ميدان عابدين، فذلك - إن لم يكن مشروعا قانونا - فإنه مشروع بتقاليد الأمم؛ لأنه هكذا جرى في كثير من البلاد، وكان القائد للحركة الدستورية في كل بلد يحمل على الأكتاف، ويهتف باسمه في الشوارع والنوادي والمجالس، فعرابي حقق آمال الأمة بالدستور، ولم يرتكب في ذلك جريمة، ولم يسفك دما، بل كانت الحركة في حقيقتها سلاما لابسا كسوة عسكرية.
لا يجوز لنا أن نغمط حق الرجل في إنالتنا الدستور، بل يجب علينا أن نردد له ثناء آبائنا يوم صدر قانون الانتخاب، وقانون مجلس النواب، فإن كانوا بعد ذلك لم يستطيعوا حفظ مراكزهم، أو إذا كانت إنجلترا أغلقت المجلس، وألغت قانونه يوم دخولها؛ فذلك ليس من خطأ عرابي المباشر، ومع ذلك إذا كان في أخريات الأمر أو في عهد الثورة لم يحترم استقلال المجلس، وضغط عليه بقوة السيف، فذلك عمل آخر يحسب عليه بعد أن يحسب له كسب الدستور.
لعرابي سيئات بعد ذلك، فيما يتعلق بخروجه على خديو هادئ من غير مصلحة عامة للأمة، وفي عدم تقديره حالة أمته من القوة والضعف تقديرا صحيحا، وفي الجهل بالمقارنة بين قوته الحربية وقوة إنجلترا، وفي الانخداع ببعض المهيجين الإنجليز، وبكلمات بعض نوابهم الأحرار. •••
عرابي له حسنة كبرى، وسيئة كبرى، حسنة عمدية، ومعظم سيئته خطأ وجهل، فأما الخيانة، فذلك أمر لا نعرفه في زعمائنا المصريين المحسنين والمسيئين على السواء، وكان من شأن هذه السيئة التي عوقب عليها أن تأكل الحسنة الأولى التي أسداها، وهي الدستور، فيصبح بعد ذلك على الأقل إنسانا لا له ولا عليه كبقية خلق الله، ولكن كان الأمر على غير ذلك، فإن الرجل عاش في منفاه مذموما عند قومه، فلما جاء من منفاه، وهو شيخ أشيب، لم يحترم له شيء من حسن نيته، ولم يحفظ له شيء من تاريخه الطيب، بل اتهم ضميره بالخيانة! ولا يعلم الضمائر إلا الله.
الرجل ما قابلته أبدا ولا جالسته مطلقا، ولكني أظن أن سوء مقابلته من أصحابه ومواطنيه غيرت قلبه، وحطت من همته، فأخذ يدافع عن نفسه بعض الأحيان دفاعا أقل تناسبا مع اسمه وملكاته، ولا ينطبق على قائد كبير مثله قابله الدهر باليد العسراء، وجعل الفشل قيدا لجهاده في خدمة بلاده.
لا أنكر أن عرابيا أساء إلى وطنه وأمته، ولكن يجب أن أسارع بأنه أساء غير قاصد إساءته، أساء من حيث أراد أن يحسن، وأضر من حيث أراد أن ينفع، فله ثواب النية، وعليه مسئولية النتيجة.
نعم عليه مسئولية النتيجة، ولكن ما أظنه منفردا بها؛ لأن الحكومة يجب أن تتحمل منها نصيبا أيضا، ومجلس النواب يجب أن يتحمل منها نصيبا، كل على قدره، بل أعيان البلاد وتجارها يجب عليهم أن يتحملوا من المسئولية شيئا.
يقولون: إن عرابيا أخافهم بحد السيف! والواقع أننا ما سمعنا أن رجلا واحدا قتله العرابيون؛ لأنه تنبأ بسوء العاقبة، وأنذر وحذر، ووقف لهم في طريق الثورة موقف الخصم الألد، فعرابي لا يصح أن يكون وحده هو المسئول عن جميع الأعمال التي كونت الثورة، وأدت إلى هذه النتيجة السوداء ...
الفصل الثامن
رحلتي إلى أوربا وإلى المدينة المنورة
(1) فوائد السفر
في السفر ما يملأ العقل راحة، والنفس رضا، ويفرج عن القلب هما، وما أكثر هموم المصري، وكيف يرتاح ويسري عنه الهم والنظام الاجتماعي مختل، والأمة تشقى بأمراضها الثلاثة: الفقر، والجهل، والمرض، ومصر ما زالت محتلة بالأجنبي، والحكم غير مستقر؟!
في السفر ما ذكرت من الرضا، ولكن فيه أيضا ما يميت القلب، ويشغل الفهم إذا قارن المصري بين ما كان يراه في بلده من فشل الأمة في حقها، وبين ما يراه في غير مصر من ديمقراطية صحيحة كاملة، فيها الفرد يساوي الفرد حقيقة، ولا فضل لأحد على أحد إلا بمقدار نفعه لقومه، وليس لأحد من السلطة إلا ما أرادت الأمة أن تعطيه لا هبة ولا مكافأة، بل واجبا وفرضا يحاسب عليه حسابا عسيرا.
في السفر ما رويت في الحالين، وكذلك في الحياة، لا شيء إلا يدور بين النفع والضرر، ولا حال بين النعيم والشفاء.
ليس علي أن أدخل للقارئ من باب الشعراء، فأتكلف له وصف السماء وما تفعل الريح في وجه الماء، ولكن علي أن أنقل له الوقائع في رحلتي إلى باريس سنة 1909 كما رأيتها منذ نحو ثلاثة وخمسين عاما.
في البحر كما في البر الناس هم الناس، لا ينزلون عن شيء من طبائعهم الأصلية، ولا ما صار لهم بحكم العادة والتقاليد، فإذا جاء الغروب نزلوا جميعا كل إلى مخدعه؛ ليمضي وقتا غير قليل في تنظيف وجهه وما علاه من غبار، وفرق شعره، ثم لبس السواد المعروف «بالإسموكن» للرجال، وتلبس النساء خير ما لديهن، وخيره واسع الطوق، وليس هذا عندي بمنتقد في ذاته، فما كانت النظافة إثما ، ولا التجميل عيبا، ولكني أرى بوجه عام أن فكرة الزينة تأخذ من الناس مأخذها حتى لقد يفضلها المرء على راحته، ويغلو في المحافظة عليها حتى لقد أصبحت من حاجاته، وما هي منها في شيء، ولكن الغلو في الزينة، وإرضاء شهوة التجمل بالعريض تجعل للإنسان حاجيا ما ليس بحاجي، فتزيد في مقدار أسره، وتقوي حلقات القيود والعادات التي يربط بها نفسه في هذه الحياة.
حكم العادة
اختلف منا اثنان قال أحدهما: «إن العادة القومية هي جزء مهم من مقومات الفرد من حيث كونه فردا في أمة معينة، فالتنازل عن العادة هو تنازل عن إحدى المقومات، وليس من عادتنا أن نلبس ملابس خاصة للعشاء، فما أنا بمغير ملابسي.»
قال الآخر: «إنا بين قوم نعيش فيهم الآن، فمن اللياقة أن نشاكلهم فيما يصنعون بما لا يذهب بالمروءة أو تحرمه العادات الشرقية، ولو أن لنا شركات ملاحة مصرية تنقل الناس من قارة إلى قارة والتزمنا فيها عاداتنا لاتبعها الذين يركبون مراكبنا.»
على ذلك كانت أغلبيتنا - نحن المصريين - تتراوح في العمل بين هذا الرأي وهذا الرأي، أعجبني هذا التسامح من الفريقين إلا أن المبادئ التي يطرقها لنا العلماء والكتاب كل يوم؛ لتكون لنا أصلا للسلوك في هذه الحياة، قل أن تخلو من خطأ، بل من النادر جدا أن تخلو قاعدة عامة من الاستثناء والتخصيص، صدق الإمام الشافعي إذ يقول: «ما من عام إلا وخصص، حتى هذه القاعدة!»
وإني أسوق هذا الحديث لبيان ما استطرد إليه بحث المتناظرين من الأسف على فقدان ما كان لمصر من بحارة وبحرية لو كانت دامت وتبعت الرقي الزمني لولدت كفاءات بحرية تكون مصدرا لتأسيس شركات الملاحة والنقل.
وصلنا إلى «مرسيليا»، فإذا هي هادئة على ما فيها من الاعتصاب الذي يدعو إلى الأسف؛ لما يسببه من الخسائر، ولكنه من جهة يدعو إلى الإعجاب بقوة التضامن بين عمال البحر، وتضافرهم على الوصول إلى حقهم مهما مسهم من جراء الاعتصاب من الفقر والعذاب.
وبعد ذلك وصلنا إلى مدينة «ليون» مهد الجد والعمل، وموطن الحرير وكثير من صنوف المصنوعات الفرنسية، وأهم ما لفت نظري في هذه المدينة هذه المرة ملاحظة بسيطة جدا أجعلها أساسا للمقابلة بين ما تعمل حكومة الأمة، وما تعمل حكومة الفرد:
هذه المدينة العظيمة تخللها جنات كثيرة في معظم ميادينها، بعضها صغير، وإن كان وارف الظل، نافعا جدا ليكون ملعبا للأطفال آخر النهار، وبعضها كبير جدا «كالروضة الكبرى»، دخلت في كثير من هذه الرياض الجميلة التي يظهر من تخطيطها وتقسيمها أنه ينفق لحفظها مبالغ طائلة، فما رأيت على أبوابها بوابا يعترضني، فيطالبني بدفع رسم كما كان يقف بواب الأزبكية يطالب الصغير والكبير والغني والفقير بدفع رسم معلوم! إن حكومتنا غنية عن جمع رسم ضئيل، مثل هذا الرسم لا ينفعها، ولكنه يضر الفقراء، وهم الأغلبية العظمى من الشعب، الذين يحتاجون إلى التمتع بالحدائق التي أنشئت من أموال الشعب. (2) ما كل باريس لهو
وصلت إلى باريس، وفي هذه المدينة كثير من الأشياء غير أسباب اللهو، ودواعي الطرب، وميادين اللعب، ولكن بعض كتاب الشرق قد اعتادوا أن يصفوا ما ظهر لأعينهم لأول وهلة في شوارع الزينة دون ما بطن في جوف المصانع الكبيرة والصغيرة من المخترعات، وما امتلأت به معاهد العلم من التقريرات والبحوث في العلوم والفنون، فما كل باريس لهو، ولا عيب عليها فيما به يرمونها، ولكن العيب على من يكتفي من النظر إلى الأشياء بلمحة، وفي الحكم عليها بمسحة من الظاهر.
كذلك كان يصنع بعض كتابنا، وكذلك كان يطبق أغلب كتاب الغرب علينا الحكم بالظواهر، وقد يكون ذلك بغلو وببعد عن حدود المعقول، ويقرب سياحاتهم من قصص ألف ليلة وليلة؛ يتفق لأحدهم أن يرى جماعة يصلون على النبي، فينقل عن مصر أن معبودها «محمد بن عبد الله»! •••
لا يظنني القارئ أنني قد وقعت من المبالغة فيما أحذر منه، ولكن بين يدي كتاب من صديق فرنسي جاء فيه أنه قابل إنكليزيا على ظهر الباخرة، انتقل بهما الحديث من موضوع إلى موضوع حتى وصل العرب، قال الإنكليزي وأكد تأكيد ذي الرابطة بين قومه وبين العرب: «إن العرب يعبدون الشمس!»
واستدل على ذلك بأنهم يصلون لها عند الشروق وعند الغروب!
وزارتني في باريس سيدة تشتغل بتحضير محاضرة عن وصف مصر، ومن جملة ما أشكل عليها من المسائل الاجتماعية بل المسائل المتعلقة بتحديد مركز مصر السياسي، هو: كيف أن النساء المصريات محجوبات عن الرجال غير المحارم، ومع ذلك فإنهن غير محجوبات عن الخدم والأتباع الذين هم بالضرورة أجانب عنهن؟! واستنتجت فكرتها هذه من كونها رأت في أبواب البيوت المصرية وأفنيتها رجالا يروحون ويغدون، ولما لم تكن تدخل إلى باطن البيوت لتعرف أن هناك «حرملكا» خدمه نساء، و«سلاملكا» خدمه رجال؛ فقد حكمت حكمها على الظاهر.
انظر كيف كان يجني الظاهر على أمانة النقل وعلى الناس في الحكم، لا أنكر أن السائح من مشارق الأرض أو مغاربها إذا سألته عن قصده وكان من أهل اللهو أجابك أنه يقصد باريس، ولكني لا أنكر أيضا أن السائح يأتي من اليابان والصين وغيرهما ليتتلمذ على أساتذة باريس، ويعرف منهم أسرار الحكمة وقواعد الحق والواجب وسبيل الاقتصاد.
أجل إن باريس تؤخذ عنها مودة الأزياء، ولكنها تؤخذ عنها أيضا أسعار البورصة في جميع أنحاء العالم، وإذا كانت الأولمب، والمولان روج وما بينهما من محلات اللهو، فإنها مدينة السوربون والكليات، ومدينة التجارة والصناعات.
ولئن اشتهرت بجمال النساء وتبرجهن؛ فقد اشتهرت أيضا بكاتباتها الفضليات، ولا يغرنك خفة روح الباريسي وميله إلى النكات والمزاح؛ فإن في نفسه ذكاء يتأجج لتحصيل العلم والنبوغ فيه.
ولا يدلك على ذلك أكثر من أن باريس تملك شهرتها هذه من مئات من السنين، فلم يتقلص مجدها، ولم تسبقها غيرها من المدائن إلى صفتها الجامعة بين دواعي الجد ودواعي الهزل! •••
وقد زرت باريس في سنة 1896 و97 و1906 وفي غير هذه المرات، ويهمني أن أشير هنا أنني كنت في أول مرة زرت فيها هذه المدينة أختلط بطلبتنا المصريين وأناقشهم وأتحرى معلوماتهم وأتسمع على حالة أخلاقهم وسلوكهم الشخصي من مخالطيهم، وأشهد أني وجدتهم هذه المرة أكثر إقبالا على العلم وأشد اقتناعا بالمسئولية التي يحملونها أمام ضمائرهم وأهليهم وأمتهم.
آنست منهم أنهم يعلمون جيدا أنهم ما جاءوا باريس إلا لينقلوا العلم إلى القاهرة، وما تغربوا عن أوطانهم إلا ليشرفوها ويجعلوها قوية محترمة، لمحت في وجوههم آمالا كبارا من حيث نشر العلم في مصر وزرع المبادئ العالية في بقاعها الخصبة، وأقل همومهم فيما يحاولون المسألة السياسية، لذلك عجبت من مقدار جهل حكامنا في ذلك الزمان بسير هؤلاء الطلبة الراشدين، وكيف كانوا يظنون أن طلب العلم بباريس بركان الهياج والقلاقل، وما هو إلا خير ونور وسلام! (3) الإنجليز في بلادهم
سافرت إلى لندرة وأنا لا أعرف من الإنجليزية ما يكفي لاستبقاء أبسط الأحاديث موضوعا، ولكني مع ذلك كنت معتمدا على أن اللغة الفرنسية معروفة هناك في كثير من الطبقات؛ خصوصا طبقة الكتاب والطبقة التي لا غنى للسائح عن محادثتها، فإن أمثالهم في الفنادق الكبرى يتكلمون لغتين أو ثلاثا؛ إحداها الفرنسية، وكان يذهب عني الحيرة بعد ذلك أن لي في لندرة وغيرها من المدن الإنجليزية أصدقاء من المصريين.
فلما كنا في كاليه الميناء الفرنسية انقلبت الحال فجأة حتى إن الحالمين الفرنسيين أخذوا يخاطبوننا باللغة الإنجليزية، وكانت الفرنسية قد غسلت من الوجود على شاطئ المانش، فشق ذلك على رجل فرنسي كان معي في العربة، وقد قال للحمال الذي بادرنا بالإنجليزية: «نحن نعرف من الفرنسية ما يكفينا للحديث عند الضرورة!» قالها ساخرا معنفا هذا الحمال الذي يعدل عن لغته لغير ضرورة، فانقلب الحمال بفضل هذه الجملة فرنسيا يفهمنا ونفهمه!
وقد ذكرني ذلك ببعض المصريين الذين يتكلمون الفرنسية أو الإنجليزية بينهم في بلادهم وما هم بذلك بمحتقري لغتهم، ولكنهم يتراطنون باللغة الأجنبية حتى يظنهم سامعهم أنهم قليلو الاعتداد بلغتهم وقوميتهم.
أنانية الإنجليز
فرغنا من الحمال بهذه الملاحظة، ودخلنا السفينة التي تجوز بنا المانش إلى دوفر، فأذكر أنني رأيت في الركب رجلا هنديا يجتنب الناس، ويقترب مني، وكان كلانا يشعر بجاذبية نحو الآخر، ولم يكن في المركب من اللون الأسمر سوانا، وكفى بالتقارب في اللون، وبالشرقية جامعا بيننا نحن الاثنين، وكانت حادثة الشاب الهندي «دنجرا» الذي قتل السير كورزون في لندرة جديدة العهد وقتذاك، فوقع في نفسي أني سأشارك جاري الهندي في استقبال النظر الشزر من الإنجليز الذين اشتهروا في العالم بأنانيتهم حتى اضطر حكيمهم «هوبز» إلى أن يقول: إن أصل الخير والشر في هذا العالم هو حب الذات، وإنه هو أساس علم الأخلاق عنده، كما اشتهروا بالتضامن الشديد وحبهم لكبار رجالهم مثل السير كورزون القتيل.
عولت على ألا أبعد عن جاري الهندي وقلت في نفسي: «إن عادة المصري أن يكون ضحية لغيره، وما كانت بلادنا أيضا إلا ضحية يضحى بها على مصالحة القوي!» للإنجليز مصلحة في أقرب طريق إلى الهند، فماذا جنت مصر حتى تكون هي الضحية لتلك المصلحة؛ فقد قال أحد ساستهم يوم فتح قناة السويس: «الآن لزم احتلال مصر.»
وقد كان ... وعلى هذا القياس كان أمر بلادنا الجميلة الخصبة في التاريخ القديم، لما ذكرت ذلك أني من قوم هم ضحايا الكرم والصبر، توقعت أن يضايقني الإنجليز بصفتي هنديا مع صاحبي الهندي، ولكن لم يكن مما توقعت شيء، فلم أر أحدا بان عليه أثر لما قد ظننت من تأففهم لرؤية الهندي، فأكبرت أخلاقهم، غير أني لما خرجت بعد ذلك إلى البر، وكان يوم المرافعة في قضية الهندي صرت أسمع نقلا عن المجالس صحة ما كنت أظن، فإن الهنود كانوا مضايقين من البوليس السري، وإن كثيرا من الإنجليز كانوا يكررون ما قاله بعض كبرائهم أن طرائق التربية الغربية - تربية الحرية والعلم - مفسدة للشرقيين، وأنه لا بد لصلاحهم (يعنون بالصلاح: رضاهم عن حكم الغربي فيهم وتسلطة على بلادهم) تركهم على ما هم عليه، فإن ذلك خير طريق لسعادتهم أو (دوام استعمار الأوربيين لبلادهم).
أمة صنعت مجدها
وجست خلال إنجلترا، وكان أطول ما قطعت مسافة من لندرة إلى ليفربول، يمر القطار فيها بقرى ومدائن لا يدل منظرها على حب الشذوذ، ولا على الابتكار الذي أخذ من فكرة الأوربيين مأخذا عظيما حتى صار مقياسا لشخصية الفرد وعلامة على النبوغ، فإن الكاتب الذي لا يولد لغته أسلوبا جديدا لا يعد كاتبا، وكذلك الشاعر الذي لا يأخذ خياله من الطبيعة أفكارا حديثة ومقاصد أبكارا لا يعد شاعرا عاديا، كذلك لا يلفت النظر إلى شيء إلا غرابته وجدته، ولكن على الرغم من ذلك رأيت المدن والقرى الإنجليزية وقتئذ متشابهة جدا في تخطيط الشوارع وارتفاع الأبنية وألوانها حتى كان يخيل للرائي أنها بنيت على فكرة المحافظة، أو في حكومة المحافظين، على أن الفرد الإنجليزي في فكره وعمله مبتكر طبعا أو كما يسميه أوربيو القارة «أوريجينال».
مر بنا القطار بغير المدائن، مر بحقول جميلة فسيحة قليلة الغلة معظمها كلأ ترعاه الأنعام، والقليل مزروع حنطة، والأقل منه مزروع خضرا وفواكه، فخطر في نفسي لمشهد هذه الأرض القليلة الغلة كيف أن الإنجليز بهذه الأرض أغنياء؟
خطر لي هذا الخاطر السريع غير الناضج؛ لأني فلاح من قوم كل ثروتهم مما تنبت الأرض، ولم ألبث أن لحظت موارد الثروة الإنجليزية الطائلة من الصناعة التي كنا - نحن المصريين - نحتقرها بعض الشيء، والتجارة التي كنا نأباها بعض الشيء؛ بسمت لهذا الخاطر، وذكرت ذلك المثري المصري الذي كان لا يجلس إليه أحد إلا سأله: كم فدانا يملك؟ أو كم فدانا من القطن يزرع هذا العام؟ وأمثال ذلك مما يشف عن فكرته في أن قيمة الرجل في ثروته، وأن كل الثروة هو ما يملك من الأرض وما يزرع فيها من القطن، فلقد كان مثلي مثل ذلك المثري المصري، وذهلت عن حقيقة اجتماعية من أكبر الحقائق؛ وهي: أن غنى الأمة وسعادتها ليسا في خصب أرضها ولا في صفاء جوها، واعتدال منطقتها، وليس بضخامة مدائنها، بل بمقدار عدد المهذبين من أبنائها، فهم الذين يبنون مجدها، وهم الذين يخلقون غناها، نعم إذا أعوزتها خصوبة الأرض خلقوا لأمتهم بعقولهم وعلمهم من الصناعة والتجارة والاعتماد على الذات والمخاطرة في سبيل المنفعة ثروة تفوق الثروة الزراعية أضعافا ومجدا طارفا لا يطاوله المجد التليد.
تمثال نلسون
دخلت لندرة، وأول ما يلفت النظر فيها تمثال نلسون؛ تمثال أقيم على قاعدة عالية جدا على غير المألوف بحيث لا يطاوله في مكانه الرفيع تمثال أمير من الأمراء أو ملك من الملوك، فإن رءوس أولئك مهما علت لا تطول ربع القاعدة التي يقف عليها نلسون بقدميه، أجل إنه كان في الحياة رجلا عاليا، فأعلى قومه مكانته في الممات على كل من عداه.
كذلك يجل الإنجليز رجالهم ما دامت أعمالهم تشرفهم وترفع أقدارهم على أقدار الذين نالوا الشرف بمجرد الميلاد.
لا يغشى السائح مجلسا من مجالس السمر في الأدب إلا ترى الإنجليز يتحدثون عن شاعرهم شكسبير بلسان الفخر، والإجلال والاحترام؛ ترى تمثاله في المتاحف، وتسمع ذكره في الأندية، وتشهد رواياته على المسارح، ولم يمنعه أنه كان ممثلا من أن يكون في قلوب الإنجليز أعلى مكانة من ملوكهم الأولين.
هايدبارك والأزبكية
في أبناء الإنجليز عادات تأصلت في نفوسهم، وصارت لهم أخلاقا، أزعم أنها هي وحدها السبب في قوتهم؛ تلك القومة المستفادة من جدهم في العمل وتقديسهم لمعنى الواجب، ومن أخص ما لاحظت من تلك الصفات حرية القول والاستماع لكل قائل من غير أن يصادر أحد حريته، من ذلك أني رأيت خطباء كثيرين يخطبون في حديقة «هايدبارك» بعضهم واقف على الأرض، وبعضهم يعلو منبرا متنقلا، منهم الشيخ ومنهم الشاب، بعضهم على مقربة من بعض حتى نقدت عليهم سوء اختيارهم لهذه المزاحمة المادية للمكان، والمسرح فسيح الأرجاء لا يضيق بآلاف الخطباء، وتمر جماهير الناس بهؤلاء الخطباء، ويقف كل واحد منهم على الخطيب الذي يعجبه، فيصفق له مع المصفقين.
ليس الهايدبارك هذا منبرا خاصا بأولئك الخطباء العاديين الذين قد يبدأ الواحد منهم خطابته على فرد أو فردين أو ثلاثة، بل هو أيضا منبر عام لكبار الساسة والخطباء المفوهين؛ فقد كان غلادستون كلما ضاقت قاعة البرلمان بصوته العالي وأغراضه الكبيرة عمد إلى هذه الروضة العامة يخطب فيها الألوف من الناس ساعات متوالية فيحول الأمة من فكرة إلى فكرة، ويخرجها من مقصد إلى مقصد، وكذلك كان «كرهاردي» ونحوه من خطباء الإنجليز إلى اليوم يخطبون في الناس من غير ملاحظة رسوم أو نظام أو اشتراط دعوة حتى تكون الأمة واقفة بواسطة هذه الألسن الرسمية على أحوال الحكومة، فلا يفوت فردا من الأفراد أي مقصد من المقاصد الكبيرة للحكومة، كإعلان حرب أو سلم، أو تقريب بين أمتهم وأمة أخرى أو ضرب ضريبة عامة، أو إعطاء النساء حق الانتخابات بحيث إن العامل البسيط في لندن يعرف من خطب الوزراء والنواب في «الهايدبارك» طرفا أو نتفا من قواعد مصالح الأمة التي مصلحته الشخصية بعض منها، ولكن كان وزراؤنا ونوابنا - سامحهم الله - يجتنبون الكلام حتى في سياستنا الداخلية إلا ما يكون من التهامس في الآذان في الخلوات والنوادي بينهم وبين أخصائهم الأقربين.
هذا كله إذا عرفوا جليا مقصد الإنجليز أو مقصد السراي في مشروع من المشروعات، فهل منهم من يقف يوم الجمعة في حديقة الأزبكية فيبين للناس مقاصد الحكومة في أي أمر من الأمور العامة؟
كلا! إن رجال حكومتنا لم يكن يهمهم إيقاف الأمة على مشروع أو إقناعها برأي أو فكرة ولكن الذي كان يهمهم أن يكسبوا من مجلس الشورى كل مشروع يريدونه بأية طريق.
إذا كانت أمتنا ليست كأمة الإنجليز، فإن من وزرائنا من تعلموا مع وزراء الإنجليز في مدرسة واحدة، فهل من رأيهم أيضا أن «الشرق شرق والغرب غرب»؟ أم هم في القربى من الأمة لوزراء الإنجليز - زملائهم في المدنية الحديثة - مقلدون؟ (4) إلى المدينة المنورة
في سنة 1911 وقبيل الحرب التركية الإيطالية بليبيا سافرت مع أبي إلى المدينة المنورة، وإن أنس لا أنس وقفتي في مكتبي لوداع ولدي؛ إذ وقف كلاهما على كرسي ليستطيع عناقي من غير كلفة على هواه، ولئن أنكر على الرجل أن يصف المشاهد التافهة العادية التي تقع لجميع الناس، فإني من الذين يعطون المقام الأول لمشاعر الحنان بين الآباء والأبناء، وآلام الفراق والشوق إلى التلاقي وحب الأوطان، والميل إلى مسامرة الأشباه ومودة الأقرباء والأصدقاء، ورحمة الفقراء، ومواساة الضعفاء، ومداراة السفهاء، واحترام الكبراء، تعجبني روايات هذه المشاعر، ولا أجد حقا للذين يحتقرونها بجانب مشاعر البسالة ووصف آثار القدرة والشجاعة، ومآزق الخوف والفزع والصفات الاستثنائية التي لا تتفق إلا لعدد محدود جدا من بني آدم لا يخطئهم العد، وإن الناس لمعذورون في الولع بقصص مشاعر البسالة؛ لأنها غير عادية، وقليل أن يجد المرء في العادة لذة، ولكن تلك المشاعر العامية المتواضعة لا ذنب لها إلا أنها عادية، وإن كانت في الحقيقة هي المؤلفة لحياتنا اليومية، وهي التي بها، ولها نحيا ونحب الحياة.
فما أنس وقفة وداع ابني؛ إذ ينظر أكبرهما إلي بملء عينيه مفتوحتين جامدتين، يسألني كم يوما أغيب في هذه السياحة؟ فأجبته: ثلاثين. فإذا أنا بابنتي الصغرى وهي لا تجهل عد الأيام تجول في عينيها قطرات الدمع، فقلت: لا؛ بل شهرا واحدا. ولولا أني كنت عزمت نهائيا على السفر وارتبطت به لأرجأته إلى أن يعتاد ولداي على خبره فيخف عليهما أمره؛ لأنه كان فجائيا لا يعلمانه إلا يوم سفري، تركتهما ولا شغل لي في الساعات التالية إلا تدبر هذا الشعور واستقصاء أصله في نفس الحي، ومقدار فائدة الطبيعة من إيجاده في قلوبنا الضعيفة.
جعلت أتساءل: كيف يغفل والد عن ولده المحبوب بهذا المقدار، فيتركه في معترك الحياة البشرية أعزل لا سلاح له من العلم والتربية؟ عجبت لرجل يحب ولده حبا جما، فيجعل حبه وقفا على ما يضره دون ما ينفعه، يأمره بالكذب لتحصيل خير مزعوم أو دفع شر موهوم، والكذب مهلكة، يطبعه على الملق والرياء والنفاق، وكلها مهالك، يضرب له بفعله شر الأمثال من الاستهانة بالكرامة وحب البقاء إلى حد الجبن، والتبرم بالعهود إلى حد اللؤم، فأخلق بهذا الحب الأبوي أن يسمى «الكره الأبوي»!
أبناؤنا أجزاؤنا وصنع أيدينا، هم بررة إذا أردنا، وهم على ما عودناهم، والمرء أسير عاداته، إنهم إن قست قلوبهم، وفسدت طباعهم، وكسدت عقولهم؛ فالمسئولية في ذلك على ما أورثناهم إياه من دمائهم وأمزجتهم، وما دعوناهم إياه بعد ذلك من انتهاك حرمات الفضيلة، وما قصرنا عنه من تصحيح عقولهم بتعليم العلم، وإذا نحن تدبرنا وتحرينا الأصلح لمستقبلهم، فربيناهم على الفضيلة، وصححنا بالعلم أحكامهم على الأشياء، وهذبنا أذواقهم ، وقوينا في نفوسهم ملكة الأخذ عن الغير وملكة الفهم وملكة الإنتاج، أخرجناهم إلى الحياة العملية مسلحين يغلبون ولا يغلبون.
ما أنس لا أنس تلك الوقفة وذكراها يثيرها في نفسي نداء الصغار «يا بابا» و«يا أبي» و«يا أباه» تبعا للهجات البلاد، فأشعر بفيض من الحنان لا يدع لغيره من المشاعر محلا من قلبي إلى أن أرجع النظر في هذه الحقيقة المعنوية الحسية معا، فلا أفهم معنى ولا أرى وجها لأولئك الذين يدعون الله لأنفسهم أو عليها بالعقم أو بقلة الولد؛ لأنهم يخافون الإملاق، وما يتمنونه أقبح من الإملاق، وما ضر أحدهم أن يبقى فقيرا بماله غنيا بولده، فيا طالما كان الولد قرة العين ومدفع الفقر ومناط الراحة والهناء، أوليس من الحمق أن يخشى الفقير كثرة الولد ليخسر زينة الحياة الدنيا بطرفيها: المال والبنين؟! ذلك هو الخسران المبين.
من هؤلاء أيضا المتفلسفة المتطيرون الذين يأخذون على ظاهره قول ملك المفكرين أبي العلاء المعري، يجأرون بالشكوى من سوء العيش، يغلون في تقدير متاعب الزواج، ويجبنون على احتمال العناية بالأولاد، ويفضلون الرهبنة والعقم، لا خوفا من الفقر، ولا فرارا من الذل، بل حرصا على راحتهم وإرضاء لأنانيتهم، يأخذون من الوجود ولا يعطون، يستدينون ولا يؤدون، كأني بأولئك لا يرون الولد إلا ثمرة لذة طائفة، ولا يشعرون بمكانة الأبوة وطهارتها ولذتها التي لا تعدلها لذة عند الذين أوتوا قلوبا تعرف أن تحب، وصدورا رحبة تسع اللذائذ والآلام على السواء، ونفوسا كبيرة تستحي أن تكون مدينة للوجود لا دائنة، مستهلكة غير منتجة، أولئك هم الآباء الأكفاء لشرف الأبوة، وأولئك هم أسعد الإنسانية الأكرمون.
في مقام الرسول
صلى الله عليه وسلم
ولا أريد في الحديث عن زيارتي للمدينة المنورة أن أتصدى لوصف معاهدها؛ قديمها وحديثها، ولا أخوض في وصف الحرم المدني والحجرة الشريفة، ولا أنقل طرفا من العادات؛ لأني إذا فعلت لا أكون إلا مكررا لما ذكره الأستاذ الفاضل لبيب البتانوني في رحلته المعروفة، غير أني أنقل هنا بعض ما شعرت به نفسي في مقام الرسول محمد عيه الصلاة والسلام، فأقول:
متى خرج المسافر من «تبوك» مستقبلا الحجاز، موجها وجهه نحو المدينة موطن الهجرة، ومهبط الوحي، ومقام الرسول
صلى الله عليه وسلم ، تنفعل نفسه انفعالات شتى، مرجعها إلى طبيعة الأرض التي يمر فيها من «تبوك» إلى مدائن صالح إلى المدينة المنورة، سهول قليلة مجدبة، وجبال كثيرة جرد مختلف ألوانها، لا ترى عليها شجرا قائما، ولا نابتا، ولا طائرا، ولا شيء إلا الفضاء والسكون، منها جبال حمر وسود وزرق ضاربة إلى الخضرة كلها موحشة لا يؤنسها إلا محطة السكة الحديد المسافة بعد المسافة، إن تجردت عن جمال الطبيعة المعروف لدينا، والمصطلح عليه بيننا، كجنات دمشق، أو مزارع سهل البقاع، أو مختلف مناظر لبنان؛ فقد بقي لها من الطبيعة جلالها، ولا شك في أن الجلال قد يكون له في النفس ما يفضل أثر الجمال، تعطيك هذه الطبيعة الجرداء المهيبة إكبار الصعوبات التي لاقاها النبي العربي محمد بن عبد الله في سبيل القيام بتبليغ رسالته في هذه المناطق المترامية الأطراف العديمة الماء، النادرة العشب، الكثيرة الأوعار والأجبال، فإذا وصلت إلى مدخل المدينة تكتنفها الجبال، ولحظت على الشمال دار عثمان بن عفان، ثم رأيت مقام سيدنا حمزة تحت جبل أحد، على قرب من مصرعه، ثم شرفت على المدينة ورأيت القبة الخضراء المضروبة فوق مقام المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ثار في نفسك ثائر ذكرى ذلك المجد العربي القديم، وأشرق على روحك نور تلك المبادئ الشريفة التي كان هذا الحرم مهدها، ومصدر تشععها على أطراف العالم من أقصاه إلى أقصاه، هنالك تعذر الذين يقولون: رأينا النور من المدينة فوق القبة الخضراء يشق طبقات الهواء إلى السماء. لم نر ذلك النور الحسي بالعين الباصرة، ولكن هناك نورا لا يحتاج في انبعاثه إلى هواء يحرك ذراته وينقلها، ولا إلى أجسام ينعكس عليها نور العلم والفضل، نوري الهدى، إنهم لا يرون نورا حسيا كما يقال وكأنهم يرون نور الهدى يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون: ربنا أتمم لنا نورنا، واغفر لنا إنك على كل شيء قدير.
دخلنا الحرم المدني لأول مرة من باب السلام في زحام الزائرين مختلفي اللغات والألوان والأزياء والأجناس، دخلنا ذلك الفناء الرحب، فناء الرجل العظيم، والنبي الكريم، والرسول الأمين، فما هي إلا نظرة إلى ما نحن فيه، وتذكرة لما مضى من الأثر حتى يمتلئ القلب هيبة من الحضرة العالية، ويأخذ النفس الخضوع حتى يبتل الجبين عرقا من الوقوف أمام مقام من لا يطاوله في مجده مطاول، ولا يضارعه في مقامه واحد من بني حواء، فكلهم لديه سواء، مغترف من بحر علمه، ومستنير بهديه، أو معترف له بسؤدده ورفعة مقامه، فالذين آمنوا بمحمد وما أنزل عليه، يرونه بحق سيد الخلق على الإطلاق، والذين لم يؤمنوا، لا يجادلون في أنه الرجل كل الرجل فضلا وكرما، والشارع الحكيم أحاط بالعظائم والدقائق من أحوال الناس، والشجاع عديم المثال، هاجر إلى المدينة وهو لا يملك من الدنيا إلا نفسه وصحبة صديقه وهو على هذه الحال، وفي تلك البلاد المجدبة وبين الأعراب لد الخصام، على هذه الحال قد أخاف الأكاسرة والجبابرة أصحاب الأموال والعروش والجنود أولي القوة بكل أسبابها ومظاهرها، ولم يكن له مما في أيديهم شيء، ولكن الله آتاه العلم والحكمة والنبوة والرسالة، فكان له النصر، وما النصر إلا من عند الله.
فمن ذا الذي يعرف تقدير النسب بين الأشخاص والأشياء، ثم يزور قبر محمد، ولا تخضع نفسه لهيبته، أو لا يقصيه الأدب عن مس المقصورة أو إطالة المكث على مقربة منها، إلا على نحو ما يصنع فقيه المسلمين عبد الله بن عمر؛ إذ كان يعقل بعيره في خارج الحرم، ثم يدخل فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي حفصة، ثم يقفل راجعا من حيث أتى! على أني مع ذلك أجد عذرا لهؤلاء العوام الذين يقتربون من الحجرة، ويخرون على الأعتاب للأذقان سجدا، ثم يتمسحون بقوائمها، ويدخلون شفاههم من الشباك يسرون كلاما طويلا أو قصيرا؛ فإن المحبة قد تجب كل ما عداها من الملكات في تلك العقول، التي نمت في أحضان القلوب لا في أحضان العلوم ، فيذهلون عن تقدير النسب، ويجاوزون حدود اللياقة، ومع ذلك فإن من الأعراب من لاحظت من هيئتهم الوقوف عند حدود التأدب، سواء كان ذلك في زيارة قبر الرسول، أو في زيارة الشهداء.
من ذلك أننا زرنا نحن وأصحابنا مقام سيدنا حمزة صبح يوم زيارته، فلما فرغنا من زيارتنا وقطعنا ميدانا فسيحا من الرمل، حيث كانت عرباتنا تنتظرنا في الجهة المقابلة، إذا بنا نرى الأعراب زمرا راكبين جمالهم حاملين أسلحتهم، كلهم يعلق في كتفه بندقية، ويشد في وسطه خراطيش رصاص، وقد يكون إلى جانبه غدارة أو خنجر، وسيفه إلى جانبه، مع ذلك كله وقفنا ننظر ماذا يفعلون، فإذا هم يفدون من المدينة جماعة جماعة، ينتظر بعضهم بعضا في ذلك الميدان الفسيح تحت مسجد سيدي حمزة حتى كملوا أربعمائة هجان وقفوا وأمامهم علم أخضر يظل رجلا منهم هو خليفة السنوسي في مكة والحادي يحدو لهم شعرا بصوت جميل، وهم يرددون عليه هذين البيتين:
سيدي حمزة ويا عم الرسول
قد أتينا في حماك
نرتجي منك الشفاعة والقبول
لا تخيب من أتاك
يردد هذا الجمع الكبير هذين البيتين في آن واحد على نغمة ما أجملها، فما علمت غناء في مثل هذا الظرف أشجى نغمة ولا آخذ بالقلب من هذا الغناء الذي سمعته، يفعلون ذلك على بعد من المسجد تحية القدوم، ثم يترجلون فيدخلون للزيارة، وسألت عنهم، فقيل لي: إن الخليفة السنوسي حضر من مكة للزيارة في هذا الموسم، مولد سيدي حمزة، وليلة المعراج، فلا يحل بأرض قبيلة من قبائل الطرق إلا دعوه للاستراحة عندهم، ثم يتبعه من مريديه جماعة، فلا يصل المدينة إلا وهو في مثل هذا الجيش من العربان المسلحين من تلاميذ الطريقة السنوسية، يالله، ما أفعل الاعتقاد في القلوب، وما أقرب البدوي من السير وراء اعتقاده!
على هذا الحرم الشريف تخيم السكينة، فتزيده هيبة على هيبته، ووقارا على وقاره، ومع أنه غاص دائما بالناس من مختلفي الأجناس، لا تسمع فيه صوتا فيما بين أوقات الصلاة إلا تقريرات المدرسين في زوايا الحرم، وحفيف الحمائم تنتقل من الحصباء إلى ذرى الحرم لا يهولها كثرة الناس، فهي في غاية الأنس، لا تعرف كيف يهاج الطائر، ولا تتصور الوقوع في حبائل الصيادين، نواعم لا تعرف بؤس العيش، آمنة لا يأتيها فيما حرمه النبي خوف، فإنه حرم من دخله كان آمنا، فإذا جاء وقت الصلاة انقلب السكون ضجة، وهرع كل من في المدينة رجالا ونساء إلى الحرم؛ لشهود صلاة الجماعة.
وللنساء هناك مصلى خاص بهن لا يتعدينه إلا إذا كثر عنه عددهن، وضاق عن احتوائهن كما كان ذلك وقت صلاة العصر التي بعدها، احتفل في صحن الحرم بقراءة قصة المعراج، وقتئذ كان كثير من الناس في المسجد إلى جانب الرجال، على كره من أغوات الحرم على ما نظن، فإني رأيت بعضهم يحتفظ جدا بجعل النساء لا يتجاوزن حدود مصلاهن إلا للزيارة، ولما قرئت قصة المعراج قام بعض الأعراب الجالسين على الحصباء في صحن المسجد يحصب بعضهم بعضا وهو يقول: «حجينا حجينا» كأنه يشهد الناس أيضا على زيارته للرسول في هذا الموسم.
وللناس في المدينة عناية بحضور الدروس؛ فقد تجد في الحلقة، من غير الطلبة، كثيرا من المستمعين، أما نحن فقد كنا نغشى الوقت بعد الوقت درس الأستاذ الكبير الشيخ حمدان الونيسي مدرس الحديث والبيان بالحرم الشريف، ولمناسبة ذكر المدرسين يمكننا أن نصرح بأنهم يدرسون هناك التماسا للبركة، لا يطلبون على عملهم جزاء ولا شكورا.
غير أن من ألزم الأشياء تشجيع العلم في منبته، أي في الحرم المدني، وذلك قل أن يكون إلا بمكافأة أولئك المدرسين، لا ليزيد اجتهادهم في تعليم الناس شريعة محمد حول مقامه الكريم، ولكن لتستمر مجاورتهم؛ لأن المدرس مهما كثر اجتهاده إذا ضاق به العيش في المكان الذي يقطنه اضطر اضطرارا لهجرته، وليس ذلك من مصلحة العلم، حقيقة أنهم يؤتون بعض الرواتب سواء من الدولة أو من الوقف، ولكنها رواتب زهيدة جدا لا تفي بشيء من حاجات المدرس المنقطع للتدريس، بحثت في ذلك فتلقفت أطرافا من الروايات مرجعها جميعا إلى أن المزورين المطوفين وهم الذين يتصدرون لتعليم الناس كيف يزورون، وماذا يقولون وبماذا يدعون، هؤلاء وهم من غير العلماء بالدين ولا بالتاريخ، ولا بغيرهما، يأخذون هذه الوظائف بالوراثة، ومما بلغنا من غير سند، أنه إذا جاء الحرم رزق يخصص للعلماء، قال المطوفون: إنهم هم العلماء، فإذا كان للأشراف قالوا: إنهم هم الأشراف!
مصر والحرب التركية الإيطالية
وما كدنا نعود من المدينة المنورة - أبي وأنا - حتى كانت الحرب التركية الإيطالية قد نشبت في ليبيا، وأغارت إيطاليا على طرابلس، فظننت أن هذه فرصة لتحقيق ما كنت أدعو إليه من أن مصر يجب أن تكون للمصريين، وقد أخذت أنبه - على استحياء - إلى واجب مصر في هذه الحرب، وهو أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها مضرة، ولا تستطيع أن تنقذها من الاحتلال البريطاني الذي لا يمكن الخلاص منه إلا بتضافرنا والاعتماد على أنفسنا.
وقد أغضب هذا الموقف بعض الناس، ولكني لم ألتفت إلى غضبهم، واتفق أن جاءني كتاب من تاجر بدمياط لا أعرفه، يقول فيه: إن الطليان احتجزوا له سفينة محملة بالأرز في عرض البحر؛ لأنها تحمل العلم التركي، وهو علم مصر، فذهبت إلى حسين رشدي باشا وزير الخارجية وقتئذ وأطلعته على الخطاب، وطلبت إليه التوسط للإفراج عن السفينة، فخابر ممثل إيطاليا في مصر، فأفرج الطليان عنها، وعادت السفينة إلى صاحبها.
الفصل التاسع
مع سعد زغلول والخديو عباس
العلم المصري والاستقلال
في سنة 1912 استقال سعد زغلول من وزارة الحقانية وخلفه عليها حسين رشدي باشا، وتولى يوسف وهبة باشا وزارة الخارجية، فذهبت إلى رشدي باشا أطلب إليه أن نبدل بالعلم العثماني علما مصريا يرفعه المصريون على سفنهم وبواخرهم؛ اتقاء لمثل ما وقع لتاجر دمياط، وكان وهبة باشا حاضرا الحديث، فقال: إن هذا العمل سابق لأوانه، ثم رجعت مرة أخرى إلى رشدي باشا أطلب إليه أن تعلن مصر استقلالها عن الدولة العثمانية، وأن تنصب الخديو ملكا عليها، ويعترف لها الإنجليز بهذا الاستقلال، ورجوته باسم حزب الأمة أن يعرض هذا على الخديو عباس واللورد كتشنر المعتمد البريطاني في مصر، وطلبت إليه ألا يخبر محمد سعيد باشا رئيس الوزارة في ذلك الحين، وبعد يومين استدعاني، وأخبرني أن الخديو مسرور جدا من هذه الفكرة، وأما اللورد كتشنر فقد رفضها؛ لأن إنجلترا لا تريد مضايقة تركيا، وقال لي: إنه أخبر بها سعيد باشا، فقال: «هذه هي الخيانة العظمى.» فذهبت إلى اللورد كتشنر وحادثته في الأمر، فقال لي: «لقد بسطنا يدنا لتركيا، فبصقت عليها، وولت وجهها شطر ألمانيا، ولو أنها كانت قبلت مودتنا لتغير الموقف كثيرا، ومع هذا فإني لا أجد الوقت مناسبا لقبول فكرتك.»
تأليف أول وفد مصري
رجعت إلى رشدي باشا بعد ذلك، وكان قد قابل الخديو مرة ثانية، فقال لي:«إن الخديو يرى أن يؤلف وفد من عدلي باشا، وسعد باشا، وأنت للذهاب إلى لوندره للسعي لتحقيق هذا الأمر مباشرة مع الحكومة الإنجليزية والرأي العام الإنجليزي، وعليه النفقات!»
واجتمعنا في بيت سعد زغلول باشا نحن الثلاثة لندبر الخطة، وأخذت أنا أنشئ حملة في هذا المعنى تحت عنوان: «سياسة المنافع لا سياسة العواطف».
هذه الأحداث امتدت أسابيع، في أثنائها قام الأمير عمر طوسون، وبعض الكبراء والأعيان لجمع التبرعات لمساعدة تركيا في هذه الحرب، وأخذوا يطوفون البلاد لهذا الغرض، ويشترون المؤن والأسلحة ويرسلونها للجيش التركي بطرابلس.
وكانت الصحف المصرية - عدا «الجريدة» - تشجع هذه الحركة، وتنشر أخبارا عن هذه التبرعات تنبئ أن الأمة كلها مع تركيا، فتداولنا نحن الثلاثة - سعد، وعدلي، وأنا - في هذا الموقف العسير؛ لأن الأمة وهي بهذه الحال من تأييد تركيا والإقبال على مساعدتها والتبرع لها، لا يمكن أن تريد الانفصال عنها، ولهذا لم ينجح المشروع، وسقط في الماء.
استقالة سعد زغلول من الوزارة
في أبريل سنة 1912 استقال سعد من وزارة العدل التي خلفه عليها رشدي باشا في الوزارة محمد سعيد باشا، وقد وقفت إلى جانبه في هذه الاستقالة التي تسببت عن حادث - لا داعي لذكره - يهم عابدين وقصر الدوبارة على السواء، وكان الطرفان متبرمين بسعد لصراحته التي كان يبديها في مجلس الوزراء، وصلابته في الحق والعدل، وحرصه على أداء واجبه، وأنا من الذين ينتصرون لاستقالة الوزراء والموظفين إذا لم يستطيعوا أن يؤدوا واجبهم؛ لأني أعتقد أن الوظيفة مهما يكن نوعها ضريبة على الموظف، لا منحة له، فإذا عجز بأي سبب عن أن يؤدي إلى أمته أكثر ما يستطيع أداءه من خدمة حقوقها وتحقيق المبادئ التي يعتقد صلاحها، فالواجب عليه أن يستقيل، وتكون استقالته مشرفة لشخصه، مشرفة لقومه، ودرسا نافعا للناس، ومثلا صالحا للصدق والإخلاص في خدمة المجموع، وليست الوظيفة لمصلحة الحاكم، ولكنها لمصلحة المجموع، وإن السلطة التي في يد الموظف إنما هي لمصلحة الأمة لا لمصلحة شخصه ولا يجوز أن يكون منها لمصلحة شخصه شيء إلا شعور الرضا؛ ذلك الشعور الذي يحسه الرجل عندما يقوم بالواجب عليه لقومه، فما دمنا نصدر عن هذه القاعدة، فلا عجب أن نصبنا أنفسنا أنصارا لفكرة استقالة الوزير أو الموظف كلما وضعت العراقيل أمام حريته في العمل، فأصبح يشعر بأنه لا يؤدي للأمة أكثر ما يستطيع أداءه من الخدمة، بل قد تطرق الغلو إلى اعتقادنا هذا، فجعلنا لا نكره استقالة الرجل العامل ذي العقل الناضج والإرادة القوية من خدمة الحكومة ولو لسبب شخصي لا علاقة له بالعمل ولا بالحكومة؛ لأننا في بلادنا لم نكن قد وصلنا بعد إلى الموازنة بين الأمة والحكومة في عدد الرجال الأكفاء المستعدين لأن يبنوا بأيديهم مجد أمتهم.
ليس هذا وحده ما فسر انتصاري لاستقالة سعد زغلول في ذلك الحين، بل أضيف إليه أنه استقال وترك الوزارة بين الثناء والإعجاب، وألقى درسا نافعا للحاكمين والمحكومين على السواء؛ فقد دخل سعد زغلول الوزارة بين تصفيق الأمة بأسرها واستحسانها، ولا معنى لإجماع الطبقات على استحسان دخوله الوزارة بكل ما عهدناه لوزير غيره عند تعيينه إلا ليكون ناصرا للأمة، مدافعا عن الحق، متشددا فيه.
ممثل المتعلمين الأحرار
كان «سعد» قد دخل الوزارة ليمثل فيها طبقة المتعلمين الأحرار الذين ليس على عقولهم سلطان إلا للحق، ولا على قلوبهم إلا حب الوطن ونفعه، فحقق في المعارف سلطة المصري، وملأ كرسي الوزير، وتمكن بقدرته وعلو نفسه من وضع مستشار وزارته عند حد القانون، وسوى بين الموظفين الأجانب والوطنيين، وحقق آمال الأمة في أكثر ما طلبت، فجعل التعليم باللغة العربية، وجعل لغة التعليم هي لغة الامتحان، وأعاد عهد البعثات، وجعل للنظامات المدرسية قوانين لا بد من عرضها على مجلس شورى القوانين، إلى غير ذلك من المشروعات التي أعادت إلى المعارف عهد وزيرها المرحوم علي مبارك باشا.
وكان من أعمال سعد إنشاء مدرسة المعلمين، ومدرسة القضاء الشرعي التي وجد في إنشائها صعوبات جمة كانت محكا لشجاعته الأدبية، وقدرتة الوزارية ودهائه السياسي، فلما تولى وزارة الحقانية لم يفرط في حقه بصفته وزيرا، ولم يكن فيها بأقل غيرة على إقامة العدل منه في نظارة المعارف على نشر التعليم حتى كان دفاعه عن اعتقاده مجلبة لمخالفة السلطة وتبرم الخديو والإنجليز به.
وقد اتهم سعد في استقالته بأنه قد نقصه الدهاء اللازم للوزير لإرضاء السلطة، وهي تهمة عجيبة، على أنه نجح كثيرا في حمل السلطة على الرضا برأيه وتحقيق مشروعاته.
ومهما قيل في ذلك الزمان من أن الوكالة البريطانية كانت تعاضده، فمن المحقق أن الرجل كان في كل أعماله لا يخالف اعتقاده، ولم يداج فيها، بل كان يدافع عن رأيه أمام السلطة الشرعية والسلطة الفعلية حتى إنه لما اتفقا معا عليه لم يتحول عن موقفه، وفضل الاستقالة المشرفة التي قال عنها بعضهم: إن استقالته تعتبر استقالة للوزارة.
وحدة مصر وسورية
في نحو سنة 1911 ظهرت لأول مرة بوادر ما يسمونه «البنارابيزم» أو الجامعة العربية، وفي هذا الحين وفد على مصر رجلان من أعيان الشام ولبنان، هما السيد شكري العسلي من دمشق، والسيد ثابت من أعيان بيروت، وكانا نائبين في مجلس المبعوثان باستامبول، وكان الغرض الذي جاءا من أجله السعي لضم سورية إلى مصر، وقد لقياني مرارا فيمن لقيا من المشتغلين بالسياسة وأهل الرأي، ولم أكن متفقا معهما في هذا الرأي؛ لا لتعذر هذا الطلب فحسب، بل لأني لم أره في مصلحة مصر، وأذكر أن السيد شكري العسلي كان متحمسا لفكرته إلى حد أنه كان يدافع عنها بصراحة غلبته على كل اعتبار حتى قال لنا أنا وعبد العزيز فهمي باشا ومحمود بك أبو النصر في مأدبة بمنزلي: مصر فيها مال وسورية فيها رجال!
وذلك في مقام التدليل على فائدة وحدة سورية ومصر، وقد انتهى الأمر بأنهما لم ينجحا في هذا المسعى. •••
وكنت منذ زمن طويل أنادي بأن مصر للمصريين، وأن المصري هو الذي لا يعرف له وطنا آخر غير مصر، وأما الذي له وطنان يقيم في مصر، ويتخذ له وطنا آخر على سبيل الاحتياط، فبعيد أن يكون مصريا بمعنى الكلمة، وقد دعوت السوريين في مصر إلى أن يسجلوا أسماءهم في المحافظة؛ ليكونوا مصريين، وبعث إلي شكور باشا مدير بلدية الإسكندرية، وعبد الله صفير باشا مدير المطبوعات بالداخلية يعززان هذا الرأي، ولم أقصد السوريين فقط، ولكني كنت أريد أن يتحمل كل قاطن في مصر من الواجبات ما يتحمله المصريون لتحقيق القومية المصرية؛ فقد كان من السلف من يقول بأن أرض الإسلام وطن لكل المسلمين، وتلك قاعدة استعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع في توسيع أملاكها ونشر نفوذها كل يوم فيما حواليها من البلاد، تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوي الذي يفتح البلاد باسم الدين، ويحب أن يكون أفراده كاسبين جميع الحقوق الوطنية في أي قطر من الأقطار المفتوحة؛ ليصل بذلك إلى توحيد العناصر المختلفة في البلاد المختلفة حتى لا تنقض أمة من الأمم المفتوحة عهدها، ولا تتبرم بالسلطة العليا، ولا تتطلع إلى الاستقلال بسيادتها على نفسها، أما الآن وقد أصبحت أقطار الشرق غرضا لنفوذ الغرب، وانقطع أمل هذه الأمم الشرقية في الاستعمار ووقفت أطماعهم عند حد المدافعة لا المهاجمة، والاحتفاظ بسلامة كل أمة في بلادها من أن تنمحي جنسيتها، ويفنى وجودها، فإن أكبر مطمع لكل أمة شرقية هو الاستقلال.
ولهذا أصبحت هذه القاعدة لا حق لها من البقاء؛ لأنها لا تتمشى مع الحال الراهنة للأمم الإسلامية وأطماعها، فلم يبق إلا أن يحل محلها المذهب الوحيد المتفق مع أطماع كل أمة شرقية لها وطن محدود، وهو مذهب الوطنية!
لا يفهم مما أقول أنني كنت أدعو إلى التفريق بين العناصر المؤلفة لكتلة السكان المصريين، بل على ضد ذلك كنت أدعو للجامعة المصرية، دعوت الذين يتبرمون بالجنسية المصرية التي كسبوها بالإقامة في مصر أن لا يفروا بأحاديثهم وبأعمالهم من الانتساب إلى هذه الجنسية الشريفة، يقيمون بأجسامهم في مصر، وعقولهم وقلوبهم تتجه غالبا خارج حدودها؛ إلى الأوطان التي ضنت عليهم بخيرها.
إن مصريتنا تقضي علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا وأن نكرم أنفسنا ونكرم وطننا فلا ننتسب إلى وطن غيره، ونخصه بخيرنا، والانتساب إلى مصر شرف عظيم؛ فقد ولدت التمدن مرتين، ولها من الثروة الطبيعية والتاريخية ما يكفل لها الرقي متى كرم أهلوها، وعزت نفوسهم، وكبرت أطماعهم، فاستردوا شرفها وسموا بها إلى مجد آبائهم الأولين.
أول نقابة للصحافة
في نحو سنة 1912 دعونا إلى تأليف نقابة للصحافة المصرية، وقد استجاب الصحفيون على اختلاف ألوانهم إلى هذه الدعوة، واجتمعت الجمعية العمومية، ثم انتخبت مسيو كانيفيه صاحب جورنال «الريفورم» بالإسكندرية نقيبا، وانتخبت الأستاذ فارس نمر وإياي وكيلين، كما انتخبت كلا من جبرائيل تقلا صاحب «الأهرام»، ومسيو فيزييه صاحب جورنال «لوكير» سكرتيرا، وأذكر أني مثلت هذه النقابة أنا ومسيو فيزييه في حفلة افتتاح معصرة كوم إمبو، وقد خطب في هذه الحفلة كل من: يوسف قطاوي باشا، وأحمد شفيق باشا، ولم تعمر هذه النقابة طويلا؛ لأن الحرب العالمية الأولى أتت عليها، ولكنها كانت أول محاولة لنقابة الصحفيين في مصر.
في انتخابات الجمعية التشريعية
في سنة 1913 ألغي مجلس شورى القوانين وحل محله نظام الجمعية التشريعية، وكان لا بد لي من الدخول في عضويتها لأزيد صوتا على أصوات حزبنا في الجمعية، فدخلت في انتخاباتها، وكان صديقي فتحي باشا زغلول يعلم أن الإنجليز أوعزوا بإسقاطي أنا وسعد زغلول باشا في هذه الانتخابات، فأشار علي بألا أتقدم إليها حتى لا يذهب سعيي سدى، فقابلت مستشار الداخلية مستر جراهام وسألته عما بلغني في ذلك، فأكد لي أن الانتخابات ستكون حرة وأن الحكومة ستكون على الحياد، ولشد ما كان عجبي حين وجدت على باب مركز السنبلاوين عربة سعيد باشا ذو الفقار وزير المالية الجديد، وعلمت وقتئذ أنه لما عين وزيرا بعد أن كان مديرا للدقهلية طلب إليه أن يدير هو الانتخابات دون المدير الجديد حافظ حسن باشا الذي كانت الحكومة تعلم أنه صديقي، وعلى هذا الوضع سقطت في الانتخابات، ولكن سعد باشا زغلول نجح بالقاهرة في دائرتين، وأرسل إلي تلغرافا يقول لي فيه:
لئن سقطت في الانتخاب، فلك عطف العقلاء.
وقد أشيع أن الذي أسقطني هو دعوتي إلى الديمقراطية التي كانت تؤول تأويلات بين الناخبين فيها خروج على الدين الإسلامي، ولكني لا أعرف شيئا عن هذه الإشاعة التي قيل: إنها شاعت بين الناخبين، كما لا أعرف سببا لسقوطي في الانتخابات إلا تدخل الحكومة، وعملها لإسقاطي!
الصلح مع الخديو
في أوائل سنة 1914 طلب إلي محمد سعيد باشا مرة، وسعد زغلول باشا مرة أخرى أن أطلب مقابلة الخديو عباس؛ لأنه يرغب في لقائي، فكانت إجابتي دائما: «إذا كان الخديو يريد أن يتفضل بلقائي فليدعني هو إلى ذلك.»
وفي إحدى التشريفات قال الخديو عباس لوالدي: «أحب أن أراك ومعك لطفي بسراي القبة يوم السبت.»
فاستجاب أبي إلى هذه الدعوة وسر بها، وطلب مني أن أصحبه إلى سراي القبة، فذهبت معه، فأحسن الخديو استقبالنا، وتكلمنا يومئذ في بعض الشئون العامة، وقال لي: «أنا مسرور لحضورك، والأستاذ جرين كلمني عنك كثيرا.» والأستاذ جرين هو المحامي الذي قدم مذكرة ضد الخاصة الخديوية في قضية شركة الجريدة.
ثم تكلم الخديو عباس عن وزارة محمد سعيد باشا، وكان برما بها، ويريد تغييرها، وسألني عن رأيي في الرجال الذين يصلحون لوزارة جديدة، فذكرت له أسماء عدة؛ منها: سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعدلي، وثروت.
ولما انفض المجلس خرج معنا ليودعنا، وهو يقول لي: «قد عرفت الطريق، فتعال عندي كل يوم سبت.»
فقلت له: «يا مولاي ما شأن الكاتب والاتصال بالسلطات؟!»
فقال: «إذن أنت لا تريد أن تأتي عندي!»
قلت: «الواجب علي يا مولاي أن أجيء كلما دعيت.»
فدعا الخديو حافظ بك عوض الذي كان يعمل وفتئذ سكرتيرا خاصا له وطلب منه أن يدعوني كل يوم جمعة، لأحضر إليه يوم السبت، وكذلك كان. •••
وفي يوم من أيام السبت عرضت عليه أن نحمل حملة على الإنجليز نطالبهم فيها أن يساعدونا على أن تكون جزيرة «طشيوز» باليونان تابعة لمصر كما كانت في زمن إسماعيل؛ فإنه كان يرسل إليها دائما قاضيا مصريا وبوليسا مصريا لإدارة الأمن، ثم تراخى الأمر بعد ذلك إلى أن صارت تابعة لتركيا، ثم أصبحت لليونان، فوافق الخديو على هذه الفكرة فطلبت إليه الإذن بأن أطلع على الفرمانات الخاصة بها في السراي، فكلف شفيق باشا بأن يأمر بترجمة هذه الفرمانات إلى اللغة العربية، فترجمت، وبدأت في «الجريدة» حملة على هذا الوجه، مؤداها أن الإنجليز إذا لم يحمونا من اليونان، فممن يحموننا؟! وما كدت أسير في هذه الحملة حتى قال لي في يوم سبت آخر: يخشى أن تقع «سالونيك» ومعها «طشيوز» في حوزة البلغار، وعلى ذلك يكون من الأصلح أن نستبدل بها أطيانا في الضلمان بالأناضول.
وكان غرضه من ذلك أن يوسع بهذه الأطيان تفتيشه في تلك البلاد، فقلت له: يا مولاي لست أدري في المسائل الاقتصادية شيئا يذكر. وطويت أوراقي وصرفت النظر عن «طشيوز».
بعد ذلك اعتزم الخديو عباس أن يسافر إلى استامبول، ورغب في زيارة مديريات الوجه البحري قبل السفر، مظاهرة كان يريد بها إقناع الإنجليز بأن البلاد تحبه وتتعلق به، فدعاني إليه عثمان مرتضى باشا رئيس الديوان الخديوي في ذلك الحين، وقال لي: إن سمو الخديو يحب في سفرته هذه أن يزور والدك في البلد، فهل لكم بيت في السنبلاوين؟
قلت: «نعم»، قال: «إذن تستقبلونه هناك.»
فقلت: «وهو كذلك.»
وشكرت للخديو هذا العطف ودعوت له بطول البقاء.
ثم قام الخديو بزيارة الوجه البحري، واستقبلناه بالسنبلاوين في حفل من العمد والأعيان، وسر أبي سرورا عظيما بهذه الزيارة، وصحبناه إلى الإسكندرية حتى ركب البحر .
الفصل العاشر
عرفت تولستوي وفتحي زغلول
(1) ليو تولستوي
في نوفمبر سنة 1910 توفي رجل الإنسانية والسلام ليو تولستوي، وكنت وقتئذ في قريتي، فبعثت إلى الجريدة برأي في هذا الرجل العظيم بمناسبة وفاته في ذلك الحين فقلت: أحاول أن أكتب كلمة عن تولستوي؛ حيث أنا الآن في قريتي، تحيط بي أشباه المناظر التي كان يحبها تولستوي، يحبهم ويتفطر قلبه إشفاقا عليهم، رحمة بهم أن يقتربوا من المدائن فتحرقهم نار الشهوات، وتلعب بقلوبهم البريئة شياطين الأطماع الخسيسة، فتغير مجرى فطرتهم الصالحة إلى عادات البذخ والترف، وتجري ألسنتهم على الكذب وتسكن أمزجتهم إلى رؤية الزور، وسماع الهجر من القول والصبر على الباطل.
أكتب عن هذا الرجل الكبير، حيث أنا فيما كان يحبه، رحمه الله من السكينة، لا أسمع إلا حفيف الهواء، وصهيل الخيل، وصياح الدجاج، ونعيق الغراب، وصفير العصافير، فلا شك أني في أليق ظرف من الزمان والمكان.
أحاول الكتابة عن تولستوي، وإن لم يكن تحت يدي ولا مؤلف واحد من مؤلفاته الكثيرة، وإني على ذلك لا أجدني برثائه خليقا، إلا كما يرثي امرؤ هذه الأرض الواسعة قد خلت من أحد مصابيحها ذوات الضوء الساطع، أو كما يشفق أحد بني آدم من فقد هاد من هداة الفضيلة، وواعظ من أكبر الواعظين.
أشعر بأن مصيبة العالم في هذا الرجل ليست كالمصائب التي تفجع لها القلوب، وتألم لها الأنفس بحزن حار، يجري الدموع ويسلم اللسان لهذيان من فرط الجزع، لا أشعر بذلك، بل أشعر بأن المصيبة بفقد هذا الحكيم مصيبة كبيرة، واقعة في النفوس وقعا فاترا، لا تدمع عينا ولا تخفق قلبا، ولا تحرك ألما من آلام الأحزان، كأنما هي تقع على العقول لا على القلوب.
فأولى بوفاة تولستوي أن تشبه بكسوف الشمس أو بخسوف القمر، أو بأية ظاهرة من تلك الظواهر الطبيعية، التي أكثر ما تهتم لها عقولنا لتدبرها، وتعرف آثارها في الوجود.
لم يكن هذا الرجل روسيا فقط، بل كان إنسانا قبل كل شيء، يحب أمته، ويحب أعداء أمته، يحب السلام على الدوام، يحب أيام السلام وأيام الحرب على السواء، يكره الحرب سواء كانت الغلبة فيها لقومه أو على قومه!
ولم يكن كذلك مسيحيا محدود المشاعر بحدود النصوص أو التقاليد، بل كان مسيحيا لا حد لتسامحه، يسع صدره الرحيب آراء موافقيه في الدين ومخالفيه، يرى في الدين أنه طهر للنفس والمشاعر، وحب القريب والغريب، ويرى في العمل به السعادة في هذه الدار الدنيا والآخرة.
فإذا كان تولستوي رجل روسيا وحدها، بل رجل العالم والسلام، وإذا كان تولستوي ليس مسيحيا محدودا بمذهب معين متعصبا له، بل متسامحا يقبل دين الفضيلة حيثما وجد من غير تحرج بحدود مذهب غير مذهبه الواسع، فأخلق بمصيبة تولستوي أن تكون كما قدمنا خسارة عالمية، لا خسارة روسية، أو خسارة مسيحية!
إن الله يبعث الجيل بعد الجيل على هذه الكرة رجالا من الناس يؤتيهم طرفا من حكمته وقبسا من نور أسراره ينصرون الحق على الباطل، ويشعرون بنور هديه في الأزمة المظلمة والمكان القفر، يتبعون سنن الأنبياء في إرشاد الناس، ويقفون نفوسهم وملكاتهم على بلوغ ما يريدون من خير للإنسانية، فإذا مات أحدهم كان موته خسارة تتأثر لها الحقائق العلمية ومكارم الأخلاق، ولم يكن تولستوي إلا أحد هؤلاء، فمن بعده للفقراء والمساكين يقف لهم في وجه الظلم والبؤس والنفي والعقاب على غير جريرة، ومن للدين ينصره بشجاعة فائقة لا تقف أمامها انتقادات المنتقدين، ورمي الرامين له بالزندقة والخروج عن القصد، بل من للمساواة والمعاملة بالعدل ينصرها من تعدي الطبقات القوية عليها في كل مظاهرها السياسية والاجتماعة والاقتصادية، بل من يهدي الرجال إلى العمل الصالح، وقد مات الرجل؟!
اشتغل تولستوي بالفلسفة، فلم ير رأي النظريين بجملته، ولا رأي الماديين أو الوضعيين، كان عقله الواسع يأبى، دائما، وفي كل شيء، أن يتقيد بالقيود المذهبية التي يستحيل أن تخلو من التعسف.
اشتغل بالسياسة فكان يكره الاستبداد، وينفر منه، ويغلب إرادة الجماعة على إرادة الفرد، يقول بسلطة الأمة، ويعمل بنفسه وبأنصاره وتلاميذه (وهم أكثر من الكثير) على تحقيقها وقد تحققت في بلاده أو كاد يتم تحققها بالفعل.
اشتغل علما وعملا بالاقتصاد، فكان مذهبه اجتماعيا قريبا جدا من الاشتراكية أو كان هي بعينها، وهو وإن كان لم ينجح في تجربة، إلا أن ذلك ليدل كثيرا على عقله المرتب الذي ظهرت آثاره متجانسة في جميع الفروع المختلفة التي اشتغل بها.
اشتغل بالدين، فنفى منه كثيرا جدا من التقاليد الكنائسية المادية على الأخص، واتخذ له إنجيلا خاصا به اتبعه كثيرون في تعاليمه.
وقد كان تولستوي على ذلك كله يجب أن يحسب في كتاب الحقيقة (كتاب الواقع) لا كتاب الخيال (الذين يكتبون عن الإنسان باعتبار ما يجب أن يكون لا باعتبار ما هو في الواقع)، فإني أذكر أن قصته الموسومة ب «البعث» لم يكن فيها عن الشهوات إلا حقائق عريانة، لاحظ فيها تغليب الشهوة على النبل في نفس بطل الرواية، ثم أظهر فيها أغلاط العدل الإنساني على صورتها التي كانت قد فارقته مؤقتا عند استحكام الشهوة، وذلك ما نجده عاما في الإنسان كل يوم، ثم رجع إلى تأثير الوسط، وتغلب ميول النساء مما لا يشذ كثيرا عن الأمثلة اليومية التي يجدها مخالطهن، ولو كان غير عمار ذي كناز الذي قال فيهن:
أراح الله عمارا
من الدنيا ومن هن
قريبان بعيدان
فلا كانا ولا كن
يمنين الأباطيل
ويجحدن الذي قلن
كذلك كان وصفه لحال الزوجية في قصصه «لاسونانت اكرتزر» غير ناب عن الواقع، وإن وصفه فيه غير عام في العائلات مع السرور، ولقد سبب له هذا الكتاب امتعاض السيدات منه، واتهامهن له فيما كتب، وأرسلن له خطابات الانتقاد والشتم، وعندنا أنه في هذا الكتاب لم يكن خياليا، ولا كاتب واقع إلا كما كان (إميل زولا) في كتاب: (الاسوموار)؛ فإن عيشة الناس ليست كلها سكرا، وليست كل الأبنية، ولا غالبها في المدائن حانات وخمارات! كما أن جميع النساء لسن على تلك الحال التي وصفها، ولا ريب في أن تولستوي أراد أن يبين عيوب التربية الحاضرة وقتئذ، وأنماطها المتخذة لتعليم البنين والبنات، فكتب هذا الكتاب؛ ليجعل الناس يلمسون بالحس نقص تلك التربية؛ ليلفتهم إلى التربية التي لها قاعدة من الاعتقاد الديني ترتكز عليها لتأتي بنتائج السعادة المنشودة في العائلة، أقول: إن هذا النظر لا يخرج تولستوي من كتاب الواقع، كذلك يؤكد زعمنا سؤاله: «ما العمل؟» و«الذي يجب عمله»، وإن كان له ما يصح أن يجعله من كتاب الخيال كبعض قطع «الايمبتاسيون» و«حرب وسلام»، فكذلك لا يكون إلا لأن عادة عدم التقيد بالمذاهب الضيقة التي اتخذها شعارا له قد غلبت عليه، وليس لنا أن ندخل في بحث موضوعاته الدينية، وتعاليمه اللاهوتية، بل نترك الحكم على ذلك لغيرنا. (2) فتحي زغلول
أرى من الوفاء لمبادئ الحرية وخادميها أن اذكر صديقا عظيما عمل لنشر هذه المبادئ، هو المرحوم أحمد فتحي زغلول باشا؛ فقد نظر نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها، فرأى أنها أحوج ما تكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي تبغي الوصول إليه من نظمها السياسية والاجتماعية حتى تتحد أطماعها الوطنية على طريقة عامة واضحة، ورأى فوق ذلك أن أول خطوة يخطوها المصلحون العلماء هي نقل العلم إلى أوطانهم بالترجمة ... إن هذه الطريقة كانت هي ألف باء النهضة العلمية في كل أمة وفي كل زمان.
هذه النظرية الصادقة كانت رائد فتحي باشا في خدمته لوطنه منذ خرج من المدرسة إلى أن مات، فإنه في سنة 1888 أخذ يترجم كتاب «العقد الاجتماعي» لجان جاك روسو، فلم يتمه، ولكنه ترجم بعد ذلك «أصول الشرائع» لبنتام، و«خواطر وسوانح في الإسلام» للكونت هنري دي كلترى، و«روح الاجتماع» و«سر تطور الأمم» لجوستاف لوبون، و«جوامع الكلم» لجوستاف لوبون، وقد نشرت هذه الكتب كلها، وله فوق ذلك كتاب «بورجار» في الاقتصاد السياسي، و«تمدن العرب» لجوستاف لوبون، و«جمهورية أفلاطون» و«الفرد ضد المملكة» لسبنسر.
أما مؤلفاته، فهي كتاب المحاماة، ورسالة في التزوير، وشرح القانون المدني، وقد ألف قبيل وفاته كتابا في «التربية العامة».
نابغة في الترجمة
عرفت مترجماته وقرأت المنشور منها، وتصفحت غير المنشور، وأستطيع أن أقول من غير تردد: إن فتحي زغلول كما كان نابغة في الفقه، كان نابغة في الترجمة يمسك الكتاب يقرؤه أولا، ثم يدخل بنظره الحاد في طيات نفس الكاتب، فيظهر أسرارها بقلمه العربي المبين، ومن التراجم ما تترجم الألفاظ تحمل معانيها خالية من روح الكاتب وحرارته، فلا يكون لها تأثير، أما مترجمات فتحي زغلول، فإنك تقرأ فيها المعاني والأغراض كأنك تقرأ كاتبها من غير فرق.
دخلت عليه في بيته يوما بمصر الجديدة في يوم حر شديد، فألفيته يضع شرح القانون المدني، وإلى جانبه «سر تطور الأمم» وقد فرغ من ترجمته في بضعة أسابيع لازم بيته فيها لمرض أصابه، فأشفقت عليه من هذا الجهد الشاق في ذلك الجو المحرق، على ما نعهده فيه من رقة في الصحة وعمل دائم طول سنة العمل، وقلت له: «أبهذا ترتاض يا سيدي الباشا؟!» فأجاب: «نعم، هذه هي رياضتي!»
فعجبت لجلده وصبره وتفانيه في خدمة العلم وخدمة بلاده.
شخصية ممتازة
كان لفتحي باشا شخصية ممتازة في طريقة أسلوبه البياني، ولم يكن يترجم ليترجم، ولا طلبا للشهرة والمال من وراء ذلك، وكان حسبه شهرة مناصبه العالية وكفاءته التي ما كانت يوما موضعا للشك من أحد، سواء في ذلك أصدقاؤه وحساده، وعارفوه وغير عارفيه، ولكننا إذا أجملنا مترجماته دلنا مجموعها على أنه كان له غرض ثابت يرمي إليه من وراء نشر هذه الكتب.
غرضه نشر مبادئ الحرية: حرية الفرد، وحرية الأمة، وتنبيه أطماع الأفراد والأمة جميعا إلى اتخاذ مثل أعلى قبلة لهم في آمالهم الوطنية.
منذ سنة 1882 كان يرى الأمة تتقلب في أحوال متناقضة مبهمة، فكانت تسوءه هذه الأحوال، ويود لو أن الشعور الوطني الذي كان وقتئذ في حذر مستمر ولى وجهه قبل الاستقلال على نحو منتج، كان يود لو تدرك الأمة أن إبهام الغرض وعدم إدراكه بوضوح يجعله مستحيل المنال، لذلك أراد أن يقدم للجمهور «العقد الاجتماعي» لروسو حتى يتبين الجمهور حق الأمة وما يجب أن يكون لها من السلطان.
وللأسف لم يظهر هذا الكتاب مع أنه بلغ من ترجمته مبلغا كبيرا، ولكنه أصدر بعد ذلك ترجمة بنتام في أصول الحقوق والواجبات، حتى جاء الزمن الأخير فظهر الشعور الوطني بمظهر جميل، ولكنه لا يزال في مقاصده بعض اللبس حتى فيما هو مكتوب من المبادئ في الصحف، وما الصحف إلا ترجمان الرأي العام.
إيمانه بالاشتراكية الديمقراطية
ولعل فتحي باشا أمام هذه المشاهد أشفق على حرية الأفراد، وتربية الأمة من الميل الظاهر إلى ما يشبه الاشتراكية؛ فإن الناس لم يقتصروا في طلبهم على حقوق الأفراد من الحرية وحق الشعب من السلطة، بل أخذوا مع ذلك يطالبون الحكومة أن تقوم لهم بكل شيء، ومهما كان في أساليب هذه المطالب من الانتقاد الضمني إلا أن مثل هذه الحركة من شأنها أن تجعل الحكومة هي كل شيء، والفرد لا شيء!
الاشتراكية قد تكون معقولة إذا كان للشعب شأن في تنصيب الحكومة، وإلا فهي اشتراكية معكوسة النتائج، فأخذ فتحي زغلول عن بعد يهدي الأفراد إلى وجوب الاستمساك بشخصيتهم، ويبين لهم أن التربية الشخصية هي التي كانت سر تقدم الإنجليز السكسون، فطلب إلى المصريين أن يتشبهوا بهؤلاء، وألا يفنوا شخصيتهم، فيفني وجودهم، واستطرادا في هذا النظر تصدى لترجمة «الفرد ضد الأمة» و«روح الاجتماع»، و«سر تطور الأمم»، كل ذلك لينشر في الجمهور الأسس العلمية للرقي حتى يطبق الناس حالهم على هذه الأصول، فينتفعوا بتجارب الأمم.
إن توفيق فتحي باشا في اختيار مترجماته يدل فوق ما قدمت على أنه كان يعتنق مذهب الاشتراكيين الديمقراطيين، سواء أكان ذلك في التربية والتعليم أم في الأصول الاجتماعية والسياسية بل الاقتصادية أيضا.
ولو شئنا أن عقائده من منتجاته وأحاديثه لضاق بنا المقام، ولكني أكتفي بالإشارة إلى أن بين اختياره لتلك المؤلفات، وبين مذهبه الديمقراطي الاشتراكي في محاولة الإصلاح الاجتماعي والسياسي نسبا متصلا جد الاتصال.
رجل تطور
من ذلك نعلم أن فتحي زغلول كان رجل تقدم تطوري، فكما أنه كان يرى أن خير القوانين ليس هو القانون الحسن في ذاته، ولكنه القانون الذي يحتمل الشعب تطبيقه، كذلك كان يرى أن خير المبادئ الاجتماعية والسياسية ما كان بينه وبين طبائع الشعب وعاداته نسب يكمل ما فيها من نقص، ويقوم ما بها من اعوجاج.
كان فتحي يسترشد بهذه الآراء الحرة، فإذا لم يكن نشرها يتفق مع مركزه في الحكومة؛ فقد نشرها بالترجمة ليرضي دواعي ضميره، وليثابر على تربية قومه تربية صالحة على قواعد ثابتة مع معرفة الحقوق والواجبات، فليس فتحي على ذلك من أصحاب المناصب، بل هو من أرباب المذاهب.
ومن كان كذلك من شأنه أن يكون شقيا معذبا، يكاد لا يكون له من راحته ووقته نصيب، فهو مقسم بين الأعمال الرسمية الشاقة، وبين خدمة العلم، يعمل في التأليف والترجمة شطرا من الليل، وأحيانا طول الليل ومدة العطلة، فإذا لامه في ذلك أصدقاؤه هز كتفه هزة الفيلسوف لا يبالي مات اليوم أو مات غدا.
نعم، كان العالم المفكر فتحي زغلول يرى أن الحياة تقدر بما يتم فيها من العمل الصالح، لا بعدد السنين والأيام.
مثال الموظف المتفاني
وقد كان فتحي زغلول أصغر أنجال المرحوم الشيخ إبراهيم زغلول من أعيان أبيانة، ولد في تلك القرية في ربيع الأول سنة 1279ه، ومات أبوه إذ كان رضيعا، وكان شقيقه سعد زغلول فطيما، خلفهما أبوهما في حضانة والدتهما التي هي إحدى عقائل عائلة بركات الشهيرة بالغربية، وكانت وقت وفاة زوجها لا يتجاوز عمرها العشرين، فقامت على ولديها، ووقفت نفسها على تربيتهما تحت إشراف أخيهما الكبير لأبيهما المرحوم الشناوي أفندي زغلول الذي عني بتعليمهما على أحسن ما تعلم به أبناء الأعيان.
تعلم «فتح الله» الصغير في كتاب البلد، ثم في مدرسة رشيد، ثم في المدرسة التجهيزية، ثم في مدرسة الألسن، فاتفق أن زارها المرحوم أحمد خيري باشا ناظر المعارف العمومية، فأعجب بذكاء الشاب «فتح الله» وأعطاه اسم أحمد، ونحت من فتح الله «فتحي» وأصدر أمرا رسميا إلى المدرسة بتسميته أحمد فتحي، وبأن يرد إليه ما دفع من المصاريف المدرسية، وبأن يتعلم بالمجان، فلما كانت سنة 1884 أرسلته نظارة المعارف إلى فرنسا لدرس الحقوق، فحصل على شهادة الليسانس ورجع سنة 1887، فوظف بقلم قضايا الحكومة، ثم رئيسا لنيابة أسيوط، ثم رئيسا لنيابة الإسكندرية، ثم مفتشا بلجنة المراقبة فرئيسا لمحكمة الزقازيق ، ثم رئيسا لمحكمة مصر، ثم وكيلا لنظارة الحقانية، وهي الوظيفة الأخيرة التي مات وهو قائم بها.
كان فتحي مثال الموظف المتفاني في أداء واجباته، القائم بعمله وعمل غيره أحيانا، ولم يمنعه ذلك من أن يكون مترجما أمينا ومؤلفا كبيرا.
إن شدة الذكاء وقوة النفس وحسن الإخلاص - تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض - راجع معظمها إلى التأثر الوراثي من أبويه، وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل وبما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
ولا عجب فأمهاتنا نحن القرويين منهن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارف على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق، وعزة النفس، والذوق السليم في الحكم، والطيبة والتقوى في المعاملات، ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي، فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية، ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق.
فللأمهات القرويات أن يقبلن شكر الجيل الحاضر، وعلينا أن نعترف علنا بما للأمهات من الأهمية العظمى في توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى.
وأمامنا المثل الحسي: إن هذه الوالدة القروية ينسب إليها الفضل الأكبر في أنها أخرجت لمصر نابغتين عظيمين: سعد زغلول وشقيقه فتحي زغلول.
الفصل الحادي عشر
موقفنا من الحرب سنة 1914
(1) معظم النار من مستصغر الشرر
وقع ما كان يخشاه العالم بأسره، وعم الخطب سنة 1914 ولم يبق بعد سبيل إلى السلام، ولم يكن لينتظر أن الخلاف المحلي الذي قام بين النمسا والصرب يصل إلى النتيجة التي وصل إليها، وهنا نورد المثل المشهور:«معظم النار من مستصغر الشرر.»
عجزت السياسة والمفاوضات السياسية، والوساطات الملوكية والإمبراطورية عن تأييد السلم وحقن الدماء، وحماية مصالح الناس، وانفرد الشر بالحكم في أوربا؛ إذ نفخ في صوره ففزعت لدعوته الملايين، وانقلبوا عن صورهم المدنية، فأصموا آذانهم عن دعوة الإخاء الإنساني، واستدبروا نهائيا مبادئ المحبة والغفران والسلام، وغشي الغضب أبصارهم، فلم يعودوا يفكرون في الخسارة الكبرى التي يجنيها المحاربون من وراء الحرب؛ سواء فيهم الغالب والمغلوب، واستهانوا بالأضرار التي تلحق العالم بأسره من وراء هذه الحركة، التي ليس فيها من البركة شيء.
تلك حرب لم تكن كحروب القرون الأولى، فإن المدنية الحاضرة قد جعلت الكرة الأرضية أشبه بالوطن الواحد في المنافع الاقتصادية التي هي أساس العمران، بل علة الحياة، أجزاؤه متضامنة في الخير والشر، أقفلت أسواق أوربا وميزان الحركة الاقتصادية العامة معلق بين أصابعها، فأخلت بالموازنة في كل شيء حتى في أسعار الأقوات في كل البلاد، وأصبحنا في مصر - ونحن بمركزنا الاستثنائي بعيدون عن هذه الحركة الحربية - نشعر من أول يوم بالرجات الشديدة التي انتابت سوقنا المالية، وعلى هذا القياس كل أنحاء الكرة الأرضية، أفلا يعلم الذين يعلنون الحروب بكلمة من أفواههم، مقدار المسئولية التي يحملونها بهذه الكلمة الكبرى التي تسفك دماء الملايين من الأبرياء بالمعنى الصحيح، الذين يتمثلون بقول القائل:
لم أكن من جناتها علم الل
ه وإني لحرها اليوم صالي
يقاد أحدهم من الدار إلى النار؛ لا دفاعا عن وطن مهدد، ولكن إرضاء لشهوات العظماء، إرضاء لرؤساء الأحزاب، إرضاء لكلمات ضخمة مجوفة ترن رنين تمثال آمون وليس في بطنها من الحقيقة شيء، رحم الله «جوريس» أول قتيل لهذه الحرب، وأول ضحية من ضحاياها الذاهبة في سبيل الحق والسلام. (2) قلت لرشدي
هذا وقد كان لمصر وقتئذ مصالح يجب أن نرعاها، وكانت الوزارة الرشدية بالإسكندرية، فاتصلت برئيسها صديقي المرحوم حسين رشدي باشا عن طريق التليفون، وما كدت أخاطبه في أمر عادي حتى قال لي: دع عنك هذا، فإن إنجلترا أعلنت اليوم الحرب على ألمانيا.
ودعاني للقائه في اليوم التالي ببيته بالقاهرة.
وذهبت للقائه، فوجدت معه عدلي يكن باشا وزير الخارجية وهما يحلان تلغرافا بالشفرة من زميلهما محمد محب باشا، وكان وقتئذ بصحبة الخديو عباس حلمي باستامبول، فقال لي رشدي باشا: إن إنجلترا قد دخلت الحرب، وقد كتبنا هذا بإعلان الأحكام العرفية في البلاد.
وسلمني إعلانا، فقلت له: أتدخل الحرب مجانا يا باشا؟!
قال: بل احترزنا مما تخاف، بأن قلنا: «نظرا للاحتلال الفعلي لإنجلترا في مصر.»
فقلت له: أخشى أن يقول الناس: إن هذه سذاجة سياسية. فإذا كانت إنجلترا تريد أن تجرنا معها إلى هذه الحرب، فلتعترف لنا أولا بالاستقلال!
قال رشدي: لم يفت وقت ذلك!
واتفقنا نحن الثلاثة على السعي لتعترف إنجلترا باستقلالنا، ونكفل لها مصالحها إلى حد أن نعاونها بدخولنا معها الحرب إذا كان هذا ضروريا.
وقد كان أكثر رجال الوكالة البريطانية وقتئذ في أوربا بالإجازة، ثم كان «سير ريجنلد ونجت» أول من حضر منهم، فكلمه رشدي باشا في ذلك، وصارحه بأن مصر مستعدة لمناصرة بريطانيا العظمى بشرط أن تعترف باستقلالنا، فارتاع «ونجت» لهذه الفكرة ووعد بأن يعرض الأمر على حكومته، ثم جاء بعد ذلك مستشار الداخلية «سير جراهام» فلقيته وقلت له: إن مركزنا الآن دقيق، فنحن تابعون لتركيا، وهي ستدخل الحرب مع ألمانيا وأنتم محتلون بلدنا الذي أعلنت حكومته الحكم العرفي تضامنا معكم، فلا بد لنا من تنظيم هذه الحالة، ولست أرى طريقا لذلك إلا أن نعلن استقلالنا وننصب الخديو ملكا علينا، وأنتم تعترفون بذلك.
فقال: تركيا لن تدخل الحرب، وعندنا على ذلك ضمانات.
قلت: إن لم يكن دخول تركيا الحرب راجحا، أفلا يكون محتملا؟
قال: كل شيء محتمل!
قلت: إذن ماذا يكون؟
فلما ألححت عليه في الاستدلال على ضرورة دخول تركيا الحرب وسوء مركزنا في ذلك الوقت، قال: يا صاحبي نحن نعرفكم كما تعرفون أنفسكم؛ فحين ظهور أول طربوش تركي من القنال تتركوننا وتجرون وراءه!
وانقطع الحديث عند ذلك فأخبرت رشدي باشا بما حدث، فقال لي: إنه كلمه كذلك فلم ينل منه طائلا!
وحدث أن دعا رشدي باشا سير «ستورس» السكرتير الشرقي للوكالة البريطانية؛ ليتغدى معه بالكونتننتال، وعلم بذلك محمد محمود باشا، فدعاني أن أتغدى معهم إلى جانبهم؛ كي نعلم بعد الغداء من رشدي باشا ماذا دار بينهم، ولما انتهينا قال لنا رشدي باشا: إن ستورس يؤيد فكرتنا كالسير ريجلند ونجت، ووعدني بأنه سيخابر أباه العضو في البرلمان البريطاني؛ ليثير هذه المسألة عند الحكومة البريطانية . (3) كسرت قلمي
وكنت وقتئذ أتردد على عدلي باشا؛ لأعرف إلى أي حد وصلت مسألتنا، وذات يوم ألفيت به فوجدته متشائما، وبادرني بقوله: ليس عندي أمل في نجاحنا!
فخرجت من عنده مكتئبا كاسف البال، وزارني بعد أيام نجيب باشا غالي وكيل الخارجية في ذلك الحين، فسألني قائلا: ما هو الأمر الذي تتردد من أجله على عدلي باشا؟
فأفضيت له بما عندي، وقلت: «إن الأمر قد انتهى بالفشل، ولهذا سأكسر قلمي، وأذهب إلى بلدي، وأعتزل السياسة.»
وفي اليوم التالي كلمني ستورس بالتليفون، وقال لي: لا تيأس!
ثم كلمني بعد دقائق نجيب غالي باشا يدعوني إلى العشاء عنده أنا وستورس - وكان اللورد كتشنر قد عين وزيرا - فقلت لنجيب باشا: إني أقبل الدعوة بشرط أن يحضر معنا عدلي باشا فأجابني إلى ذلك، واجتمعنا نحن الأربعة في بيت نجيب باشا وحدثنا ستورس حتى ظننا أن النجاح في متناول يدنا، فوضعنا في بيت نجيب باشا صورة المعاهدة بيننا وبين بريطانيا العظمى تتضمن اعترافها باستقلالنا واعترافنا بمصالحها في مصر وفي قنال السويس.
كل ذلك في شهر أغسطس سنة 1914 وكان الأمل يحدونا جميعا.
ذهبت بعد أيام قلائل إلى عدلي باشا بديوان الخارجية فوجدته قد يئس نهائيا من تحقيق مطلبنا، فخرجت من عنده وأنا مصمم على اعتزال السياسة، ثم قدمت استقالتي من رئاسة «الجريدة» لرئيسها محمود سليمان باشا، وسافرت إلى بلدتي «برقين»، وكان هذا آخر عهدي بالعمل الصحفي.
عدت موظفا في الحكومة
ما كادت تمضي على إقامتى في برقين مدة طويلة حتى عزل الخديو عباس، وأعلنت الحماية على مصر، ونصب الأمير حسين كامل سلطانا عليها.
وشاع بعد ذلك في البيئات السياسية في مصر أن تركيا حكمت بالإعدام على السلطان حسين وأعضاء وزارة رشدي باشا، باعتبار أنهم قبلوا الحماية، وعلي أنا أيضا باعتبار أني أثرت حركة سنة 1911 ضد الأتراك!
وفي سنة 1915 كنت بالقاهرة، فجاءني أبي من «برقين» مذعورا وهو يقول: إنه قد أشيع عندنا أن سعد زغلول باشا قبض عليه، فخشي أن يكون قد قبض علي أيضا ثم ذهبت معه إلى بيت علي شعراوي باشا، فقال لي شعراوي: «إن ستورس سألني عنك، وسأل هل جففت دموعك من يوم إعلان الحماية على مصر أم لا؟» ثم قال لي: «إن السلطان حسين يرغب في أن تدخل وظائف الحكومة.»
كل هذه الظروف جعلت أبي يستحثني على أن أقبل الدخول في الحكومة حتى لا يقبض الإنجليز علي، فقبلت ذلك؛ إرضاء لوالدي رحمه الله، وعينت رئيسا لنيابة بني سويف؛ ليمكن ترشيحي قاضيا بالاستئناف، ولم ألبث في بني سويف غير أشهر، وأرسل إلي عدلي باشا بأن أحضر إلى الإسكندرية، ولما حضرت أخبرني أن السلطان حسين مصمم على أن أكون مديرا لدار الكتب المصرية خلفا للدكتور شادة المدير الألماني، فقبلت ذلك.
لماذا ترجمت أرسطو؟
نشأت من الصغر ميالا إلى العلوم المنطقية والفلسفية، وقد لفت نظري في أرسطو أنه أول من ابتدع علم المنطق، وأكبر مؤلف له أثر خالد في العلوم والآداب، ولما كنت مديرا لدار الكتب المصرية تحدثت مع بعض أصدقائي في وجوب تأسيس نهضتنا العلمية على الترجمة قبل التأليف كما حدث في النهضة الأوربية؛ فقد عمد رجال هذه النهضة إلى درس فلسفة أرسطو على نصوصها الأصلية، فكانت مفتاحا للتفكير العصري الذي أخرج كثيرا من المذاهب الفلسفية الحديثة.
ولما كانت الفلسفة العربية قد قامت على فلسفة أرسطو، فلا جرم أن آراءه ومذهبه أشد المذاهب اتفاقا مع مألوفاتنا الحالية، والطريق الأقرب إلى نقل العلم في بلادنا وتأقلمه فيها؛ رجاء أن ينتج في النهضة الشرقية مثل ما أنتج في النهضة الغربية.
وفي الحق إن أرسطو لم يكن كغيره معلما في نوع خاص من العلوم دون سواه، بل هو معلم في الفلسفة، معلم في السياسة والاجتماع، فهو كما لقبه العرب بحق «المعلم الأول» على الإطلاق، وكما وصفه دانتي في جحيمه «معلم الذين يعلمون».
وقد ترجمت في سنة 1924 عنه «كتاب الأخلاق»، وهذا الكتاب يعد مقدمة لكتاب السياسة، بل إن جانبا كبيرا منه يمهد لموضوع كتاب السياسة، فأردت أن أترجمه؛ ليستفيد منه قراء العربية. •••
أما القواعد التي وضعها أرسطو لعلم السياسة فما زالت هي القواعد السائدة بين الساسة، وهي القواعد التي يدرسها الآن طلبة العلوم السياسية في الجامعات، ونحن نسمع الآن كلمات الأتوقراطية والديمقراطية، والدكتاتورية، وهي كلها من تعبيرات أرسطو وابتداعه.
وقد قال أوغست كونت: «الواجب علي أن أنوه باسم أرسطو العظيم؛ فإن سياسته الخالدة هي بلا شك إحدى النتائج الباهرة للزمن القديم، على أنها إلى هذا الوقت هي المنوال الذي نسجت عليه أكثر الأعمال التي جاءت بعدها في هذا الموضوع.»
والسياسة عند أرسطو هي أشرف العلوم؛ لأنه يعرفها بأنها تدبير المدينة؛ ليكون سكانها فضلاء، ومن هذا التعريف ترجع إلى السياسة سائر العلوم، أو كما قال أرسطو: إن السياسة تبين ما هي العلوم الضرورية لحياة الممالك، وما هي العلوم التي يجب أن يتعلمها السكان، والى أي حد ينبغي أن يعلموها.
أول مجمع للغة العربية
في نحو سنة 1916 دعاني المرحوم إسماعيل عاصم المحامي مع عدلي باشا ورشدي باشا والأستاذ يعقوب صروف وآخرين في بيته وتحدثنا عنده في ضرورة إيجاد مجمع للغة العربية لا يكون تابعا لوزارة المعارف، ولكنها تأويه في دار الكتب المصرية، وتمده بمساعدة عمالها وموظفيها في أعماله الكتابية، ودعوت حفني بك ناصف وعاطف باشا بركات، ووضعنا قانونا للمجمع، وألفناه برياسة الشيخ محمد أبي الفضل الجيزاوي شيخ الجامع الأزهر، وكنت أنا سكرتير المجمع، وأذكر من أعضائه الشيخ محمد بخيت، والشيخ عبد الرحمن قراعة، وعاطف باشا بركات، والأستاذ يعقوب صروف، وحفني ناصف بك، والشيخ الإسكندري وحلمي عيسى باشا، ومن ألطف ما أذكره عن هذا المجمع أننا مكثنا سنة كاملة نتناقش في جواز التعريب!
وقد انطوى هذا المجمع ولم يعمر طويلا.
الفصل الثاني عشر
في ثورة سنة 1919
(1) لماذا طلبنا الاستقلال التام
في سنة 1919 نهضنا نطالب بالاستقلال التام، وقبل ذلك بزمن بعيد طلبناه ودعونا إليه؛ طلبناه على طرق متنوعة، وبصنوف مختلفة، طلبناه من فرنسا، ومن إنجلترا، ومن السلطة الشرعية، طلبناه بأقلام الكتاب، وبألسنة الزعماء.
طلبنا الاستقلال التام؛ لأن الحرية هي الغذاء الضروري لحياتنا، ولو كنا نعيش بالخبز والماء، لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية، ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا، ومن أجله نحب الحياة ليس هو شبع البطون الجائعة، بل إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية.
إنا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئا كثيرا، إنما نطلب ألا نموت، ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي لا يطلب إلا الحياة ووسائل الحياة، كما أنه لا أحد أقل كرما من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة.
لست أعجب من الذي يستهين بحياة الرجل، فيستعجل عليه القدر المحتوم، ولكني أعجب من الذي يبالغ في الرحمة بالإنسان فيريد له الحياة شبعان ريان معطل الحرية، قد ضرب بين عقله وبين الأشياء والمعاني بحجاب فلا يتناولها، وحيل بين مشاعره وبين موضوعات غذائها، فلا تتحرك بل تموت.
أعجب من الذي يظن الحياة شيئا والحرية شيئا آخر، ولا يريد أن يقتنع بأن الحرية، هي المقوم الأول للحياة، ولا حياة إلا بالحرية.
أجل، إن المرء يحفظ حرية الفكر، وحرية المشاعر، أي يحفظ حرية الطبيعة حتى في غيابه في السجن، يحفظها في كل حال هو عليها ما دامت روحه في جسده، إنه خلق حرا، حر الإرادة، حر الاختيار بين الفعل والترك، حرا في كل شيء حتى في أن يعيش وفي أن يموت متى قدر له.
لا فائدة من حرية معطلة
إن هذه الحرية الطبيعية لا فائدة منها إذا تعطلت من آثارها، فالذي سجن، والذي منع الكلام، والذي منع الكتابة؛ كل أولئك يحفظون حريتهم في نفوسهم، ولكنهم فقدوا الانتفاع بها؛ أي فقدوا بذلك الحرية المدنية.
لا أريد بذلك أن أتصدى للتعريفات الاصطلاحية لأنواع الحرية، ولكن جرنا إليه التدليل على أن الحرية المعطلة عن الاستعمال هي في حكم المفقودة، وأن الحرية الطبيعية الملازمة للإنسان لا يصح أن تسمى حرية إلا إذا كان ميسرا له استعمالها، رأيت أن المرء يرى الطريق بعينيه المكتوفتين، لكن العين المعصوبة واليد الموثوقة كلتاهما في حكم المعدومة، إنما يكون المرء حرا بمقدار ما لديه من وسائل استعمال هذه الحرية، وإنما يكون حيا بمقدار ما حاز من الاستمتاع بالحرية، فالحرية الناقصة حياة ناقصة، وفقدان الحرية هو الموت؛ لأن الحرية هي معنى الحياة.
طبعنا على حب الكمال
طبعنا على حب الكمال في حياتنا ومعاداة كل العوارض التي تعرض لنا في طريق المثل الأعلى للمعيشة المستكملة وسائل الحرية وآثارها، ولا خيرة لنا فيما طبعنا عليه، وسواء أكان هذا الشوق الطبيعي إلى حياة الحرية مصدر سعادة أم مصدر شقاء، فإنه على كل حال نار تتأجج بين ضلوع الحي لا تبرد أو تصل به إلى المرغوب، أجل، إن المثل الأعلى ليس نقطة ثابتة، ولا غرضا محدود المسافة يمكن بلوغه، بل كلما بلغناه انتقل شبحه أمامنا إلى نقطة أخرى على بعد مرمى النظر لسنا بالغيه ولا منصرفين عن التشبث بتركه، بل تسوقنا إليه حاجة لا قبل لنا بالصبر عن قضائها، ولو كلفنا أن نركب متن التعسف!!
ولهذا يستغلق علينا فهم الأباطيل القديمة التي كانت الغطرسة الجنسية تأخذ بها الكتاب؛ ليسقطوا في هاوية التناقض.
يقولون: إن بعض الناس خلق للسيادة أبدا، وبعضهم خلق للعبودية أبدا، ولا نزال نرى هذا خطأ يتردد في آراء الساسة المستعمرين على صورة أقل شناعة، وبعبارة أكثر ائتلافا مع مدنيتنا الحديثة، يضعون أصابعهم في أعينهم؛ إذ تكون النتيجة المنطقية النهائية لهذه المقدمات الصادقة هي هذه الجزئية: «بعض الإنسان لا إنسان.»
كذبت فلسفتهم
كذبت فلسفتهم، وصدق الذي يشعر به كل إنسان منا في نفسه من الميل إلى الرقي في كل شيء، وإلى الحرية قبل كل شيء، صدق هذا الأثر الذي نجده في طليق الأسير أو السجين يوم إطلاقه، وفي محاولة المعقول أن ينشط من عقاله، صدق ذلك الألم الذي يجده ذو الفكرة العلمية من حبس حريته عن التصريح بها، فتظل تجول في نفسه، ويغلي في صدره حب أبدانها، ويقلق ذلك خاطره، ويكد ضميره، ويحتوي على كل مشاعره، حتى يفضل الموت في إرضاء هذا الحب على الحياة في كتمانه، وكم من عالم استحب الموت على الحياة في سبيل حبه لحريته العلمية، فمنهم من قتل، ومنهم من أحرق، ومنهم من حبس أو عذب، وجلهم من تلك الأمم التي يقولون: إنها خلقت لغير السيادة. فإذا وجدت عبدا لم يؤثر الحرية على العبودية، ولم يطلب نفسا بالعتق من الرق، فذلك مثل من الأمثلة النادرة في بني الإنسان، وليس قاعدة يصح الأخذ بها.
إن الذي يراجع الماضي لا يجد أمة من الأمم المخلوقة للعبودية - كما يزعمون - إلا قاتلت عن حريتها، وإذا كان أصدق المعلومات هي تلك المعلومات التي تقدمها لنا المشاهدة الواقعة، فالإنسان - على الرغم من فلسفة المستعمرين - حر بطبعه، ميال إلى الحرية، ميال إلى الارتقاء فيها إلى المثل الأعلى، وفي سهولة الوسائل الموصلة إليه.
الحرية طبيعة
الحرية طبيعة وميل الناس إلى تحصيلها طبيعي بالضرورة، يشتد ويظهر مع القوة الحيوية ويضعف وتخمد آثاره مع الضعف، فكما أن القوي لا يموت جوعا كذلك لا يصبر على الحياة البعيدة عن المثل الأعلى للحرية.
ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأصلي الذي يأتلف مع شرف الإنسان في هذا الزمان؛ فقد أصبحنا نمتعض من كل فكرة ومن كل قانون ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية والمدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور، ومنا من لا يخشى أن يصرح بأن استقلال الأمة هو الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره، فلم يبق علينا للتدرج في مراقي الحرية والتقريب من مثلها الأعلى المتفق عليه بيننا، إلا الوسائل المنتجة؛ فإن إدارة الأمر شيء، والقدرة عليه شيء آخر.
أما القوة فإن طبيعتها تختلف في كل زمان ومكان؛ تبعا لطبيعة عيشة الأمة واعتقاداتها الدينية وعاداتها وأخلاقها، ونتيجتها تختلف دائما باختلاف طبيعة الوسائل التي يمكن استخدامها، وعندنا أن أول مظهر للقوة هي القوى المعنوية، قوة الحرية العلمية؛ فإن الآراء العلمية ليس من شأنها أن تجد من القوة القاهرة - خصوصا في الأزمان الحاضرة - معارضة تذكر، فإذا استخدم المتعلمون إرادتهم في إظهار حريتهم العلمية ، كان لهم من ذلك مرانة تنفعهم في تربية أخلاق الشعب وتعويده على حرية الرأي والصبر على الأذى الذي ينتج دائما عن حرية الرأي؛ سواء أكان من الحكام أم من المحكومين.
إن الذين يبخلون علينا بالقرب من المثل الأعلى من حريتنا التي أتانا الله إياها من فضله، يجدون أمثلة تقصيرنا في إظهار حرية الرأي في العلم وفي السياسة ما يحتجون به في إرادتنا على البقاء على ما نحن عليه، فإذا أحسوا من حريتنا في الآراء العلمية الإرادية قوة لا يقف أمامها استهزاء الجهلاء ولا غضب الكبراء ولا استدرار المنافع الخسيسة، لا يجدون مندوحة من التخلية بيننا وبين طريقنا إلى المثل الأعلى لحريتنا، ومن قصر النظر أن يظن أن هذه القوة المعنوية - قوة التمسك بالحرية والتماسك على نصرتها - غير كافية في تقريبنا من مثلها الأعلى، أقول وأؤكد أنها هي وحدها كافية في إنالتنا طلبتنا، فلنرض نفوسنا على الاستمساك بها ولننتظر النتيجة.
إن تقدمنا في نيل قسطنا الطبيعي من الحرية يستحيل أن يوجد ولو كانت في أيدينا أكبر معدات القوة الوحشية، وكان عددنا أضعاف ما نحن عليه، إذا كنا لا نتخلص من وصمة عبادة الآراء والأفكار من غير تمحيص؛ اعتمادا على مكانة قائلها، وإذا كنا لا نقطع بأيدينا تلك السلاسل التي قيدت عقولنا والأوهام التي أفسدت علينا الاستفادة من المبادئ الجديدة. إننا إذا جربنا أن نرفع منار الحرية في الميدان الذي لنا فيه حرية العمل وليس لنا فيه مزاحم ولا شريك كان ذلك فاتحة خير لإظهار شيء من القوة الضرورية لظهور الحرية وتأييدها. (2) الأصدقاء الخمسة
ولقد أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأعلى الذي يأتلف مع شرف الإنسان في هذا الزمان، وصرنا نمتعض من كل فكرة، ومن كل قانون، ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية أو يعطل استعمال الحرية المدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية، وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة الدستور وأن الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره ، هي الاستقلال التام.
لهذا نهضنا نهضة مباركة، وهدفنا هذا الغرض العظيم، وبدأنا نحن الاصدقاء الخمسة: «سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي، ومحمد محمود، وأنا»، نفكر في كيفية الاستفادة من المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس ويلسون رئيس جمهورية الولايات المتحدة، تلك المبادئ الحرة التي تنص في جملتها على أن كل أمة، مهما صغرت، لها الحق في اختيار مصيرها، وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها وحريتها.
وفي نوفمبر سنة 1918 بدأنا نؤلف الوفد المصري، واستقلت من دار الكتب المصرية، وأخذنا نعمل في ذلك الحين على ما جاء في «مذكرات صديقي عبد العزيز فهمي» باشا.
1
ولا أستطيع بالضبط أن أروي الآن ما جرت به الحوادث من وقت تأليف الوفد، وإن كنت قد كتبت بها يوميات لكني اضطررت لإحراقها، كما سأقص هنا:
بعد أن نفي إلى مالطة أصحابنا الأربعة: سعد زغلول، ومحمد محمود، وإسماعيل صدقي، وحمد الباسل، قامت في البلاد ثورة عنيفه في أوائل سنة 1919، كانت من الخطر بحيث لم نكن نتوقعها، حتى لقد ألفت في مديرية المنيا جمهورية برياسه الدكتور محمود عبد الرزاق بك الطبيب، وقطعت سكة الحديد بينها وبين القاهرة، وكذلك قيل عن تأليف جمهوريات في بعض مديريات الوجه البحري، فدعتنا نحن أعضاء الوفد الباقين السلطة العسكرية للمثول أمامها في فندق سافوي، وكان بين ضباطها العظام مستر إيموس، فلما مثلنا أمامها وجه القائد العام إلينا الكلام، محملا إيانا مسئولية الثورة، فكان جوابي على هذه التهمة: «إن الوفد بريء منها، وإن تبعتها تقع على السلطة العسكرية التي نفت أربعة من رجال الوفد المصري بلا ذنب أتوه إلا أن يطالبوا بحرية بلادهم، ثم قابلت المظاهرات البريئة بالمترليوز، فغضب أهالي البلاد لقتل أبنائهم، وقاموا بهذه الحركة، وإني أنصح للسلطة العسكرية أن تستدعي حسين رشدي باشا، أو عدلي يكن باشا، أو ثروت باشا؛ ليؤلف وزراة تعمل على ترضية الأمة ترضية كافية، وبهذا يقضى على الثورة.»
وبعد لقائنا لرجال السلطة العسكرية بأيام قلائل، كنت مع صديقي عبد العزيز فهمي مجتمعين في منزل علي شعراوي، فوفد علينا صديقنا الدكتور يوسف نحاس، فقال لنا: «إنه علم عن ثقة أن السلطة العسكرية الإنجليزية ستفتش بيوت أعضاء الوفد الباقين، وتقبض على أربعة منهم لتقتلهم بالرصاص في اليوم التالي، وتصادر أملاكهم.»
على هذا الخبر قمت أنا وعبد العزيز باشا، وركبنا سيارة شعراوي باشا، وأوصلت عبد العزيز إلى منزله بمصر الجديدة، وذهبت إلى بيتي بالمطرية، فأحرقت كل أوراقي السياسية؛ لأنه لم يكن عندي الوقت الكافي لفرزها، وكان من بينها يوميات الوفد التي لم تخل صحيفة منها من ذكر رشدي باشا وعدلي وثروت باشا، أحرقتها خوفا عليهم من أن يصيبهم ما سيصيبنا من عنت واستبداد ونكال. (3) ويلسون يوافق على الحماية
جلست بعد حرق هذه الأوراق في مكتبي، أنتظر التفتيش والقبض حتى الصباح، ولكن لم يكن من ذلك شيء، وفي هذا الحين عين المارشال اللنبي معتمدا بريطانيا في مصر، وأعلن أنه يقبل من أي كان ما يراه في أمر وقف الثورة القائمة، وعودة السكينة والسلام إلى البلاد، فأرسل إليه الوفد تقريرا شرح فيه أسباب الثورة، وعزا حدتها إلى تصرف السلطة العسكرية العنيف، ونصح بتنصيب واحد من الثلاثة المذكورين سالفا رئيسا للحكومة، والإفراج عن المنفيين الأربعة، وإعطاء البلاد الترضية الكافية.
وعلى إثر وصول هذا التقرير إليه استدعانا وأخذ يناقشنا، حتى اقتنع بما فيه، فتألفت وزارة برياسة حسين رشدي باشا، وصدر الأمر بالإفراج عن المنفيين، وأبيح لنا السفر إلى إنجلترا على باخرة عسكرية إنجليزية، ذهبت بنا إلى مالطة، فاصطحبنا زملاءنا: سعدا، ومحمد محمود، وصدقي، وحمد الباسل، حتى إذا ما وصلنا إلى مرسيليا جاءنا تلغراف بأن مستر ويلسون رئيس الولايات المتحدة قد وافق على الحماية الإنجليزية على مصر، فكانت صدمة قوية من هذا الذي نادى بحرية الشعوب، وأعلن مبادئه الحرة التي قوبلت في العالم أجمع بالغبطة والإعجاب، وبخاصة عند الشعوب المهضومة.
في مؤتمر السلام
ذهبنا إلى باريس، وتقدمان لمؤتمر السلام، فأغلق أبوابه أمامنا، وقابلنا أعضاؤه على النحو الذي أيأسنا منه، ووصفه صديقي عبد العزيز فهمي باشا في مذكراته.
ولما وقع الخلاف بين سعد وعدلي على رياسة المفاوضات ، وانتقل الأمر إلى خصومة كان مظهرها التلاحي، اعتزلت السياسة ، ثم عرض علي أن أرجع لدار الكتب المصرية، فرجعت إليها، وأخذت أشتغل بها وبترجمتي لمؤلفات أرسطو، وبالجامعة المصرية القديمة التي كان رشدي باشا رئيسا لها، وكنت وكيلا لها.
وأذكر أني في سنة 1922 وضعت منهاجا لهذه الجامعة باعتبارها كلية للآداب، وقابلت الملك فؤاد، وعرضت عليه هذا المنهاج، وطلبت أن تجعل الحكومة شهادتها كشهادات المدارس العليا، ما دام منهاجا يقضي بموافقة الحكومة عليه وتمثيلها في الامتحانات، فكان جواب الملك فؤاد: «إن الحكومة عازمة على إنشاء جامعة، فيمكن اعتبار الجامعة القديمة كلية آداب فيها.» فاغتبطت بذلك وجمعنا مجلس إدارة الجامعة العمومية؛ ليوكل رشدي باشا في التعاقد مع الحكومة بشروط وضعت لتحقيق هذا الانضمام.
هوامش
الفصل الثالث عشر
من الجامعة إلى الوزارة
(1) كيف أسسنا الجامعة
ذكرت أن الملك فؤاد قال لي: إن الحكومة عازمة على إنشاء جامعة تضم المعاهد والمدارس العليا، وإنه يمكن اعتبار الجامعة المصرية كلية آداب فيها.
على هذا الوعد عقدنا مجلس إدارة الجامعة في 12 ديسمبر سنة 1923 لتسليم الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف العمومية، وكتبنا بذلك عقدا أمضاه أحمد زكي أبو السعود باشا وزير المعارف في ذلك الحين، وحسين رشدي باشا رئيس الجامعة، وعنيت بأن أذكر في شروط هذا العقد أن يكون الدكتور طه حسين أستاذا في الجامعة الجديدة.
وقد يكون من المفيد أن أسجل في هذه الصفحات ذلك العقد وتلك الجلسة التاريخية التي تم فيها هذا التسليم على النحو الآتي:
محضر الجلسة
نظرا إلى أن الجامعة المصرية طلبت إلى وزارة المعارف العمومية أن تعتبر شهادتها كشهادات المدارس العالية التي تخول التوظف في الحكومة، فأجابت الوزارة بما يأتي: «ليس في وسع وزارة المعارف الاعتراف بالشهادة التي تمنحها الجامعة لمتخرجيها بالكيفية المرغوبة ما دامت بعيدة عن الإشراف على الدراسة فيها.»
ولما كانت الوزارة معتزمة إنشاء جامعة أميرية فسيكون بالضرورة بين أقسامها كلية للآداب قد تنافس كلية الآداب للجامعة المصرية، فإذا رأيتم - تلافيا لهذا التنافس - ضم كلية الآداب بالجامعة المصرية إلى وزارة المعارف، فإن النظام العام الذي يوضع للجامعة الأميرية سيكون شاملا لها فتصبح نواة لقسم الآداب بها.
ومتى تم هذا الضم شرعت الوزارة في فحص منهج الدراسة بهذه الكلية ونظام الامتحان بها؛ ليكون ذلك توطئة لتقدير درجة الشهادة التي تمنحها.
فإذا ما وافقت إدارة الجامعة على وجهة النظر هذه فإن وزارة المعارف مستعدة للنظر فيما يلزم لتحقيق هذا الغرض.
ونظرا إلى أن الجامعة المصرية المؤسسة في سنة 1908 تحت رئاسة سمو الأمير أحمد فؤاد - جلالة الملك فؤاد الأول - إنما كان الغرض منها القيام بأمر التعليم العالي الحر مقام الحكومة التي لم تكن وقتئذ لتوجه العناية الكافية إلى هذا الأمر.
ونظرا إلى أن الجامعة المصرية لقلة مواردها، ولعدم اعتبار شهادتها في التوظف بوظائف الحكومة، لا تستطيع أن تتم تكوينها بإنشاء الأقسام المختلفة للعلوم، بل هي بحيث لا تستطيع بسهولة أن توسع كلية الآداب إلى الحد المرغوب فيه.
ونظرا إلى أن الذي يهم القائمين بالجامعة، هو أن توجد بالبلاد جامعة مستقلة حرة يرتقي فيها التعليم العالي إلى المستوى الذي يأتلف مع أطماع البلاد في الارتقاء العلمي، لذلك رحبوا بفكرة توحيد الجهود التعليمية واندماج الجامعة المصرية في الجامعة الجديدة، وأهم ما اشترطوا لذلك ضمانة حرية الجامعة الجديدة في إدارتها المالية ووضع برامجها وتنفيذها، ثم استيفاء آثار الحركة القومية المباركة التي أوجدت الجامعة المصرية، ولهذا اقترح أحد عشر عضوا من أعضاء الجامعة المصرية على جمعيتهم العمومية أن تفوض مجلس إدارتها في تسليم الجامعة إلى وزارة المعارف بالشروط التي لا تخرج في شيء عن ضمانة حرية التعليم واستقلاله واستبقاء الحركة القومية نحو التعليم في سنة 1908، فقررت الجمعية العمومية ذلك بالإجماع وندب مجلس الإدارة إلى تحقيق هذه الغاية حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيس الجامعة المصرية.
بناء على هذه الاعتبارات
اجتمع حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيس الجامعة المصرية وحضرة صاحب المعالي أحمد زكي أبو السعود باشا وزير المعارف في يوم الأربعاء 12 ديسمبر سنة 1923 بوزارة المعارف العمومية لتحقيق هذه الغاية.
وبعد الاطلاع على الوثائق الآتية: (1)
كتاب وكيل الجامعة المصرية إلى وزارة المعارف العمومية المؤرخ في 14 نوفمبر سنة 1923. (2)
جواب وزارة المعارف العمومية المؤرخ في 20 نوفمبر سنة 1923 ردا على ذلك الكتاب. (3)
الاقتراح المقدم من أحد عشر عضوا من أعضاء الجامعة المصرية إلى جمعيتها العمومية. (4)
محضر جلسة الجمعية العمومية للجامعة المصرية المنعقدة في 9 ديسمبر سنة 1923. (5)
محضر جلسة مجلس إدارة الجامعة المصرية المنعقدة في 9 ديسمبر سنة 1923. (6)
مشروع لائحة الجامعة الجديدة. (7)
مشروع الأمر العالي بتأليف الجامعة المذكورة.
بعد الاطلاع على هذه الوثائق وإرفاق صورها بهذا المحضر.
وبعد تبادل النظر في كل جهة من جهاته بين الطرفين، تم الاتفاق على ما يأتي:
المادة الأولى:
قد تنازل باسم الجامعة المصرية حضرة صاحب الدولة حسين رشدي باشا رئيسها عن هذه الجامعة مع كل ما تمتلكه من منقول وعقار إلى وزارة المعارف العمومية على الشروط الآتية: (1)
تكون الجامعة المصرية معهدا عاما محتفظة بشخصيتها المعنوية وتدير شئونها بنفسها بكيفية مستقلة تحت إشراف وزارة المعارف العمومية كما هي الحال في جامعات أوربا. (2)
أن تقوم الحكومة بإتمام النظام الحالي الذي لا يشمل سوى كلية في الآداب بأن تدمج في الجامعة مدرستي الحقوق والطب بعد تحويلهما إلى كليتين، وأن تضم إليها كلية للعلوم، ويجوز أن تضم إليها كليات أخرى فيما بعد. (3)
أن تستعمل نقود الجامعة البالغ قدرها نحو ستة وأربعين ألف جنيه في البناء؛ احتراما لشروط بعض الواقفين. (4)
أن تحترم تعهدات الجامعة نحو أساتذتها وموظفيها الحاليين. أما فيما يتعلق بالدكتور طه حسين فقد رئي نظرا لحالته الشخصية أن يبقى أستاذا بكلية الآداب. (5)
أن يكون من مجلس إدارة الجامعة المصرية الحالي عضو أو أكثر في مجلس إدارة قسم الآداب وفي مجلس إدارة الجامعة، وذلك في الدور الأول من التشكيل؛ استيفاء لآثار النهضة القومية التي أوجدت الجامعة المصرية. المادة الثانية:
قبل حضرة صاحب المعالي أحمد زكي أبو السعود باشا وزير المعارف العمومية باسم هذه الوزارة هذا التنازل واستلام الجامعة المصرية وما تملك من منقول وعقار لإدماجها في الجامعة الجديدة بالشروط الخمسة المبينة بالمادة الأولى.
المادة الثالثة:
ينفذ هذا الاتفاق بعد التصديق عليه من مجلس إدارة الجامعة المصرية الحالي.
المادة الرابعة:
كتب من هذا الاتفاق نسختان؛ تحفظ إحداهما في وزارة المعارف العمومية، وتحفظ الثانية في محفوظات كلية الآداب التابعة للجامعة.
تحريرا بوزارة المعارف العمومية في 12 ديسمبر سنة 1923.
رئيس الجامعة المصرية
حسين رشدي
وزير المعارف العمومية
أحمد زكي أبو السعود (2) رسالة الجامعة
وعلى إثر تكوين الجامعة الجديدة وضعنا لها قانونا رأى الشارع فيه أن رسالة الجامعة يجب أن تكون أوسع مجالا من أن تحد بحدود معينة، فجاء نص رسالتها مرنا يتسع لكل ما تقدر عليه من الألوان المختلفة لخدمة العلم والقيام بالتعليم، وقد جاء في مادته الثانية: «إن اختصاص الجامعة يشمل كل ما يتعلق بالتعليم العالي الذي تقوم به الكليات التابعة لها، وعلى وجه العموم، فإن عليها مهمة تشجيع البحوث العلمية والعمل لرقي الآداب والعلوم في البلاد.»
واعتمادا على هذا النص المرن، الذي يتناول كل تطور جامعي لخدمة العلم والتعليم والآداب والفنون المختلفة في البلاد؛ اعتمادا على هذا النص كانت رسالة الجامعة متعددة النواحي.
فمن رسالة الجامعة أن تقوم البحوث العلمية في العلوم وفي الآداب التي تنتج عندنا كما أنتجت عند غيرنا الزيادة في النظريات العلمية التي هي في تطور مستمر، والتي تنتج الوصول إلى اكتشافات جديدة تضاف إلى ما اكتشفته الجامعات الأخرى مما له صبغة علمية بحتة، ومما له تطبيقات عملية تنفع الناس في أن تسخر لهم قوى الطبيعة وموارد الطبيعة، وليس خافيا أن الجامعة إذ تقوم بهذه الرسالة تحمل عن مصر واجبها من المشاركة العامة في رقي العلوم والمعارف في العالم.
ومن رسالة الجامعة تربية شبيبة الأجيال المتعاقبة لتهيئ للبلاد قادتها في جميع مرافقها، ولا شك أن قوة الأمة ومنعتها واحتمالها صنوف المزاحمة على الحياة ليست آخر الأمر إلا نتيجة لتربيتها الجامعية.
ومن رسالة الجامعة نشر الثقافة العلمية والأدبية في جميع الطبقات سواء أكان ذلك بإباحة الانتساب إلى معاهدها المختلفة من غير قيد ولا شرط، أم بإلقاء المحاضرات العامة في العلوم والآداب والفنون، أم بنشر المؤلفات في كل فرع من الفروع.
ومن رسالة الجامعة مساعدة التطور الاجتماعي بكل ما في وسعها من ضروب التجديد في اللغة، التجديد في النثر والشعر، التجديد في نظرة الناس إلى الفنون الجميلة، والبحث في وجوه ترقيتها وشيوعها، ولا يفوتني أن أنبه إلى أن هذه الرسالة تتناول أيضا الموسيقى والغناء؛ لما لهما من الأثر الطيب في الأخلاق، بل لأنهما كذلك لهو جميل لا بد منه، وعلى كل أمة أن ترقي أسباب لهوها المرح كما عليها أن ترقي أسباب جدها العابس.
وأخيرا، فإن الجامعة بما هي من أكبر الوحدات الاجتماعية عددا وأسماها مكانة، وأخطرها مسئولية، وأشملها رسالة؛ هي بكل أولئك مصدر إشعاع يشع منه التضامن القومي، ففي العائلة يولد التضامن، وفي المدرسة ينشأ، وفي الجامعة يشب ويؤتي كل ثمراته، ويضرب المثل الأعلى للتضامن في جميع طبقات الشعب. (3) البنات: كيف التحقن بالجامعة؟
وبهذه المناسبة أنبه على سبيل الاستطراد أن خطأ الجمهور في فهم رسالة الجامعة من أنها تنحصر في تحضير موظفين لإدارة الحكومة، والواقع أن هذا الفهم لا ينبعي أن يكون من أغراض الجامعة إلا عرضا.
ويتصل بخطأ الجماهير في فهم أغراض الجامعة، تلك المسألة التي كانت شائكة قليلة الأنصار في الرأي العام، وهي مسألة قبول الفتيات المصريات طالبات في الجامعة؛ لهن ما لإخوانهن الطلبة من الحقوق، وعليهن ما عليهم من واجبات، ولا أخفي أننا قبلنا الطالبات أعضاء في الأسرة الجامعية في غفلة من الذين من شأنهم أن ينكروا علينا اختلاط الشابات بإخوانهن في الدرس؛ فقد حدث أن طلب إلي بعض عمداء الكليات في أول سنة لافتتاح جامعة فؤاد أن نقبل فيها البنات الحائزات للبكالوريا، فأسررت لهم في ذلك الحين أن هذه المسألة شائكة، وأني أشك في رضا الحكومة عنها، وعلى ذلك قررنا فيما بيننا أن نقبل البنات الحائزات على البكالوريا، من غير أن تثار هذه المسألة في الصحف أو في الخطب، حتى نضع الرأي العام والحكومة معا أمام الأمر الواقع، وقد نجحنا في ذلك، وبعد أن سرنا في هذا النهج عشر سنوات حدث ما كنا نتوقعه؛ فقد قامت ضجة تنكر علينا هذا الاختلاط، فلم نأبه لها؛ لأننا على يقين من أن التطور الاجتماعي معنا، وأن التطور لا غالب له، ومعنا العدل الذي يسوي بين الأخ وأخته في أن يحصل كلاهما على أسباب كماله الخاص على السواء، ومعنا فوق ذلك منفعة الأمة من تمهيد الأسباب لتكوين العائلة المصرية على وجه يأتلف مع أطماعنا في الارتقاء القومي؛ كل أولئك جعلنا لا نحفل بهذه الضجة التي ما لبثت أن ذهب بها الزمان! (4) فكرة أصبحت حقيقة
وفي 7 فبراير سنة 1928 احتفلت الجامعة بوضع الحجر الأساسي لمبانيها الحالية بحضور جلالة الملك فؤاد وكان هذا اليوم تاريخا مشهورا، ففي منتصف الساعة الثانية عشرة أقيم احتفال كبير في المكان الجديد بالجيزة؛ دعي إليه علية القوم من الأمراء ورجال الدين والوزراء والآداب، وبعد أن وصل الملك فؤاد، وقف وزير المعارف في ذلك الحين علي الشمسي باشا، فألقى خطبة بين يديه، ودعا الملك لوضع الحجر الأساسي بيده، وألقيت أنا خطبتي كمدير للجامعة، وقد سجلت فيها الأدوار التي مر بها التعليم في مصر، وهي ثلاثة أدوار: دور الدعاية، ودور البدء في التنفيذ، ودور التمام، فأما الدور الأول فيبتدئ من يوم 12 أكتوبر سنة 1906؛ إذ اجتمع نخبة من أهل الغيرة على التربية في دار المرحوم سعد زغلول باشا وتعاقدوا على الدعوة لإنشاء الجامعة، وقرروا فيما قرروا أن تكون الجامعة بمعزل عن السياسة، وقد أقبل الناس على الاكتتاب فيها والتبرع لها، واجتمعت جمعية المكتتبين في ديوان الأوقاف في 20 مايو سنة 1908 تحت رياسة الأمير أحمد فؤاد (الملك فؤاد الأول) وسموها الجامعة المصرية، ونفحتها الحكومة إعانة سنوية، كما نفحتها الأوقاف خمسمائة جنيه إعانة سنوية أيضا.
أما دور التمهيد، فكانت بمحاضرات الثقافة العامة التي كان يشرف عليها يوميا رئيس الجامعة، وبإرسال بعثات علمية للجامعة بلغ عددها أربعة وعشرين للتخرج في العلوم، وليحضروا أنفسهم ليكونوا معلمين فيها.
وأما دور التمام، فكان بنقل الجامعة القديمة إلى الجامعة الجديدة على نحو ما وصفت في السطور السابقة، وقد بلغ عدد طلبة الجامعة في سنة 1928 ويوم تأسيس مبانيها 2341 طالبا، وقد تضاعف هذا العدد بعد ذلك حتى وصل إلى ما وصل إليه الآن .
الفصل الرابع عشر
من الوزارة إلى المجمع اللغوي!
(1) كيف دخلت الوزارة
لما أسند الملك فؤاد الأول إلى محمد محمود باشا أمر تأليف الوزارة في يونيو سنة 1928 دعاني وقتئذ إلى الاشتراك معه في الحكم، فاعتذرت له؛ مؤثرا العمل كمدير للجامعة بعيدا عن السياسة ومشاكلها، فقال لي رحمه الله: وهل يرضيك يا صديقي أن تتركنى وحدي؟! فمست هذه العبارة شعوري، وقبلت الاشتراك معه في الوزارة، وكان من حظي أن أتولى وزارة المعارف، وهي الوزارة التي تتفق وميولي الشخصية وما أهدف إليه من خدمة الأمة عن طريق العلم والتربية والتعليم، طريق الحرية والاستقلال، فإن التعليم هو الأساس الذي يبنى عليه تحقيق الأطماع القومية، ولو أن العظمة القومية التي تبغيها مصر تنال بالجهل، وبتفكك الروابط القومية الدالة على عدم التربية، لكان ذنبا علينا أن نفكر في حال التعليم والأخلاق عندنا، ولا جدال في أن العلم ضروري لتقدمنا بل هو ضروري لحياتنا الحاضرة، وأنه هو السلاح الوحيد الصالح للانتصار في معترك الحياة للفرد، والعامل الوحيد للاكتشافات والاختراعات وقوام هذه المدنية الحديثة، كما أن تربية الأخلاق هي أساس قوة الأمم.
وقد قال جوستاف لوبون:
إن الرومانيين في زمن انحطاطهم كانوا أشد ذكاء من أجدادهم الأشداء، ولكنهم فقدوا الخواص الأخلاقية؛ كالصبر، والعزيمة، والثبات، والاستعداد لتضحية النفس في سبيل الغاية، والاحتفاظ باحترام القوانين، تلك الخواص الأخلاقية كانت هي سر عظمة آبائهم الأولين.
بعد ذلك أعود، فأقول: إن وزارة المعارف حين أسندت إلي ارتحت للعمل فيها، لما قدمت؛ فقد اهتممت أول ما اهتممت بتطبيق اللامركزية، وقسمنا العمل فيها باعتبار أن الوزير رجل سياسي، لا يشتغل إلا بالمشروعات الجديدة وتطبيق سياسة الوزارة، وليس له معرفة بموظفي الديوان، فأمرهم ينبغي أن يتعلق بوكيل الوزارة وشهادات المراقبين. (2) العودة للجامعة
لم أستمر طويلا في وزارة المعارف؛ لأن وزارة محمد محمود باشا لم يزد عمرها عن خمسة عشر شهرا وبضعة أيام؛ إذ تألفت في 25 يونيو سنة 1928 واستقالت في 2 أكتوبر سنة 1929 بعد عودة رئيسها من مفاوضاته بلندن مع مستر هندرسون، وقد اعتكفت بين كتبي وأوراقي حتى كانت أوائل سنة 1930 حين استدعيت للعودة مديرا للجامعة، فارتحت لاستئناف نشاطي بين أبنائي شباب الجامعة، وبين زملائي أساتذتها، واغتبطت كل الاغتباط؛ لأني أمضيت عهدا غير قصير في العمل الجامعي، وألفت هذه البيئة الجامعية التي تقوم على الإخلاص للعلم والتضحية في خدمته، والاستقلال في الرأي والفكر والعمل.
وأقول: الاستقلال؛ لأن أساس التعليم الجامعي حرية التفكير والنقد على وجه الاستقلال، ولأن التربية الجامعية قوامها حرية العمل والبعد عن التأثيرات الحكومية، وتأثيرات البيئات العامية، وعن تأثيرات البيئات السياسية المختلفة. (3) استقالتي من الجامعة
وقد حرصت منذ توليت منصب مدير الجامعة على أن تكون بعيدة عن هذه التأثيرات، وأن يكون استقلالها محل الاحترام والقداسة، ولكن حدث في مارس سنة 1932 أن اعتدت وزارة المعارف على هذا الاستقلال، فنقلت الدكتور طه حسين من عمادته بكلية الآداب إلى إحدى الوظائف بديوان الوزارة دون أخذ رأي الجامعة، وإن لم تكن الوزارة في ذلك قد جاوزت حدود القانون الجاري العمل به إلا أنها جاوزت حدود التقاليد الجامعية، فغضبت لهذا الاعتداء على هذه التقاليد، وقابلت دولة رئيس الوزراء في ذلك الحين إسماعيل صدقي باشا، وشرحت له هذا الموقف الذي يتنافى مع التقاليد الجامعية، ويسيء إلى الجامعة وقلت له: إن الجامعة لا تستغني عن طه حسين، واقترحت عليه - تلافيا للضرر، واحتراما لرأي الوزير حلمي عيسى باشا - أن يرجع الدكتور طه بك أستاذا بكلية الآداب لا عميدا، وقد وافقني رئيس الوزارة على اقتراحي، وفي اليوم التالي علمت برفض اقتراحي، وتنفيذ رأي الوزير، فلم أذهب إلى الجامعة، وحررت استقالتي وبعثت بها إلى وزير المعارف العمومية في هذا الكتاب التالي:
هليوبوليس 9 مارس سنة 1932
حضرة صاحب المعالي وزير المعارف العمومية
سيدي الوزير
أتشرف بإخبار معاليكم أني أسفت لنقل الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب إلى وزارة المعارف؛ لأن هذا الأستاذ لا يستطاع - فيما أعلم - أن يعوض الآن على الأقل، لا من جهة الدروس التي يلقيها على الطلبة في الأدب العربي ومحاضراته العامة للجمهور، ولا من جهة هذه البيئة التي خلقها حوله وبث فيها روح البحث الأدبي وهدى إلى طرائقه، ثم أسفت لأن الدكتور طه حسين أستاذ في كلية الآداب تنفيذا لعقد تم بين الجامعة القديمة ووزير المعارف، وعلى الأخص لأن نقله على هذه الصورة بدون رضا الجامعة ولا استشارتها - كما جرت عليه التقاليد المطردة منذ نشأة الجامعة فيما أعرف - كل ذلك يذهب بالسكينة والاطمئنان الضروريين لإجراء الأبحاث العلمية، وهذا بلا شك يفوت علي أجل غرض قصدت إليه من خدمة الجامعة.
من أجل ذلك قصدت يوم الجمعة الماضي إلى حضرة صاحب الدولة رئيس مجلس الوزراء، واستعنته على هذا الحادث الجامعي الخطير، واقترحت على دولته - تلافيا للضرر من ناحية، واحتراما لقرار الوزير من ناحية أخرى - أن يرجع الدكتور طه حسين إلى الجامعة أستاذا لا عميدا، خصوصا أنه هو نفسه ألح علي في أن يتخلى عن العمادة منذ شهر فلم أقبل، فتقبل دولة الرئيس هذا الاقتراح بقبول حسن، وأكد لي أنه سيشتغل بهذه المسألة منذ الغد، فاشتغل بها إلى أن علمت الآن أن اقتراحي غير مقبول، وأن قرار النقل نافذ بجملته وعلى إطلاقه.
ومن حيث إني لا أستطيع أن أقر الوزارة على هذا التصرف الذي أخشى أن يكون سنة تذهب بكل الفروق بين التعاليم الجامعية وأغيارها، أتشرف بأن أقدم بهذا إلى معاليكم استقالتي من وظيفتي، أرجو قبولها، كما أرجو أن تتقبلوا شكري على ما أبديتم من حسن المجاملة الشخصية مدة اشتراكنا في العمل، وأن تتقبلوا فائق احترامي.
ثلاث مخالفات
هذا هو خطاب استقالتي، وهو يدل على أن وزارة المعارف ارتكبت في حادث نقل الدكتور طه حسين ثلاث مخالفات
الأولى:
خاصة باستقلال الجامعة
والثانية:
خاصة بمصلحة التعليم الجامعي وحرمانه من هذا الأستاذ النابغ
والثالثة:
خاصة بالعقد الذي أبرم بين الجامعة القديمة ووزير المعارف حين نقلها إلى الجامعة الجديدة، وقد اشترط في هذا العقد أن يكون الدكتور طه حسين أستاذا بكلية الآداب.
قبلت استقالتي، ومكثت بعيدا عن الجامعة حتى أبريل سنة 1935 حين جاء نجيب الهلالي باشا وزيرا للمعارف في وزارة محمد نسيم باشا الثانية، فجاءني وطلب إلي العودة إلى الجامعة ، فاشترطت أن يعدل قانونها بحيث ينص فيه على أنه لا ينقل أستاذ منها إلا بعد موافقة «مجلس الجامعة»، وقد بر نجيب باشا بوعده، وطلب تعديل القانون، وعدل فعلا.
وفي تلك السنة طلبت أن يضم إلى الجامعة بعض الكليات فضمت كلية الهندسة، وكلية التجارة، وكلية الزراعة، وكلية الطب البيطري.
مكثت مديرا حتى أوائل أكتوبر سنة 1937، وفي ذلك الحين اشتد الخصام بين طلبة الجامعة على المسائل الحزبية؛ لأن الأحزاب كانت تتصل بهم اتصالا يضر بالإخاء الجامعي، ويسقط قيمة الشمائل الجامعية، فطلبت من وزارة الداخلية تعيين كونستبلات لحفظ النظام؛ لأن البوليس لا يجوز له أن يدخل الحرم الجامعي، فلم تجب الداخلية طلبي؛ لذلك استقلت للمرة الثانية.
وبعد ثلاثة أشهر - أي في 31 ديسمبر من تلك السنة - تألفت وزارة محمد محمود باشا الكبرى، وقد اشتركت فيها جميع الهيئات السياسية ما عدا الوفد، والهيئة السعدية، وكنت وزير دولة في هذه الوزارة، ثم أجريت الانتخابات، وكلف محمد محمود باشا مرة ثانية بتأليف الوزارة، فكنت بها أيضا وزير دولة، ثم وزيرا للداخلية بضعة أشهر، ثم ظهر لي أن المصلحة السياسية تقضي باشتراك الهيئة السعدية في الوزارة، فعرضت هذا العرض على خشبة باشا، وأصررت على أن أخرج من الوزارة لأفسح الطريق لغيري من السعديين.
ودعت الجامعة سنة 1941
وبعد ذلك بقليل زارني الدكتور محمد حسين هيكل باشا وزير المعارف في ذلك الحين، وطلب إلي الرجوع إلى الجامعة، فاعتذرت، ثم جاءني مرة ثانية من قبل محمد محمود باشا، وألح علي ورجاني أن أضع شروطي، فقلت: لا شروط لي إلا أن يبتعد رجال الحكومة عن الاتصال بالطلبة؛ لأن اتصالهم بهم كان يفضي دائما - كما ذكرت - إلى فقدان الإخاء الجامعي بينهم، وذلك من أضر الأشياء على التربية الجامعية.
فأجابوني لطلبي، وقبلت الرجوع إلى الجامعة، ولكن لم يمض قليل حتى أخبرني أحد الوزراء أن الطلبة متصلون بوزراء الأحرار الدستوريين فقدمت استقالتي لمحمد محمود باشا، فاعتذر، وأكد لي أنه لا يعلم ذلك وأنه سيصدر أمرا مشددا بعدم اتصال الطلبة بالوزراء لأغراض سياسية، فبقيت في الجامعة إلى سنة 1941؛ إذ عرض علي رئيس الحكومة وقتئذ حسين سري باشا أن أكون عضوا في مجلس الشيوخ، فقبلت ذلك؛ لأني أحسست بأني محتاج إلى الراحة بعض الشيء من أعمال الجامعة بعد أن خدمتها في عهدها القديم وعهدها الجديد زمنا طويلا، ثم توليت بعد ذلك رياسة «مجمع اللغة العربية» ومكثت فيه مع رجال أحبهم، وهم رجال اللغة والعلم والأدب.
الفصل الخامس عشر
الأخلاق وكيف ينبغي أن تكون لتحقيق سلام عالمي
(1) التعاون في سبيل السلام
1
التعاون العام بين أمم العالم موجود على وجه متقطع وكيفما اتفق أن يكون، ليس خاضعا لنظام معين، غير أن هذا ليس هو التعاون الذي يقصد إليه ميثاق الأطلنطي بل التعاون المقصود بهذا الميثاق هو التعاون المستمر الذي يمنع الاعتداء ويؤدي إلى السلام الدائم.
بادئ بدء لا ينبغي أن نخدع أنفسنا فيما يعترض هذا التعاون من صعوبات أعسرها تذليلا هو الإيمان به. فإذا نحن تشبثنا بسنن الماضي وما ألفناه من أخلاق الناس على العموم وأخلاق قادة الشعوب على الخصوص، وما سجل التاريخ من ألاعيب السياسة وغدرها وقدرنا قوة أنصار الحرب والعاملين عليها والمنتفعين من ورائها ويئسنا من أن نقطع الصلة بين ماضي الإنسانية وبين مستقبلها في هذا الصدد، فما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه التعاون الذي ندعو إليه بنظام جمعية الأمم الماضية! ولا يرى أنصار الاعتداء على كل هذه الجلية إلا أنها صلف تحت الراعدة.
أما إذا رجونا الخير وقدرنا ما نحن فيه اليوم من الضرورات الاجتماعية والحرج السياسي وقدرنا أن العالم أصبح لا يطيق بعد الآن حروبا على غرار الحرب الحاضرة، وقدرنا حق قدره الارتقاء الاجتماعي في العالم، ثم قدرنا أن هذا التعاون المرجو لم يأت طفرة بل هو فكرة اختمرت في ضمير العالم وتداولتها بالبحث وبالتجربة عدة أجيال، وقدرنا أن التجربة القاسية للأخطاء الماضية ستنفع العالم في تسديد خطاه إلى الخير؛ متى قدرنا كل ذلك وجب أن نتقبل مشروع التعاون المانع من الاعتداء والمفضي إلى السلام الدائم بغاية الارتياح وآمنا به وعملنا على تحقيق وسائله، فلقد آن لضمير العالم أن ينتبه ويجعل الإخاء الإنساني حقيقة واقعة بعد أن لم يكن إلى الآن إلا لفظا ليس له ما يدل عليه.
الواقع من أمر الناس في الأمم المختلفة وفي المدنيات المتعاقبة أنهم بوازع من قانون الأخلاق الذي نشأ بنشوء الدولة، وبوازع من سلطان البوليس والقضاء، وقد اعتادوا أن يتعاونوا في معيشاتهم المدنية بالحسنى وتركوا عاداتهم الأولى في العدوان والجري على أحكام «حق الأقوى» التي ألفوها أزمانا طوالا فيما قبل المدنيات المنظمة، هذا هو حال أفراد الناس الآن في الأمم المتمدنة؛ منازعاتهم يفصل فيها القضاء ويزع سلطان البوليس بعضهم عن الاعتداء على بعض، فأصبحوا يرون جريمة داعية إلى الاحتقار ومستحقة للعقاب ما كانوا في حال البداوة يتمدحون به ويجعلونه مناطا للعزة ومجلبة للشرف والفخار.
إذا ليس الظلم والعنف في الناس أمرا طبيعيا لا مناص منه كما قد يظن، إنما كان ذلك فيهم قبل نظام الدول عادة اعتادها آلافا لا تحصى من السنين، كان الأفراد في كل لحظة محلا لافتراس السباع، اقتضاهم ذلك أن تكون حياتهم في حرب متصلة ودفاع مستمر، فلما اطمأنوا من هذه الناحية استمرت عادة الهجوم والدفاع في أنفسهم غير أنها تحولت إلى أن تكون حربا بينهم حتى قضت عليها المدنية المنظمة بالبوليس والقضاء.
تلك حال الأفراد، وأما حال الأمم - أو بالأولى حال الحكومات - فلم تجد كما وجد الأفراد تحت ضغط الضرورات الاجتماعية قانونا للأخلاق ولا محاكم تفض النزاع بينها ولا بوليسا يمنع الحكومات من اعتداء بعضها على بعض، بقي فيها روح الفرد الأولى، روح القبيلة، روح الاعتداء على الغير؛ استعلاء عليه، واستعبادا له، وطمعا في أرضه ومرافقه، وبالجملة بقيت كل حكومة حتى في هذه المدنية الحاضرة تضمر أن تنتزع بالقوة من أمة أخرى ما لها من المرافق من غير وازع ولا حياء، وإذا فقد ظفرنا من المدنيات القديمة بأدب للأفراد ولم نظفر بأدب لحكوماتها يمنعها من الاعتداء والطغيان. (2) هل الحرب طبيعية؟
ومن العجيب أن الفلسفة اليونانية مع أنها استوعبت بحث الأشياء الإنسانية لم تتعرض ولا عن طريق التخيل إلى إمكان القضاء على الحرب بين الأمم، ولم تفكر في تحقيق الإخاء الإنساني العام، ولا في السلام الدائم، بل لعلها شجعت الحرب تارة، وقست في نتائجها تارة أخرى، كذلك الفلسفة الرومانية والفلسفة العربية لم يكن فيهما نظرة في ذلك الإخاء بين الأمم المختلفة كما نظرت كلتاهما في الإخاء بين أفراد الأمة الواحدة إلا ما سموه «السلم الروماني»، ومن الخير ألا نتعرض لذكره؛ لأنه لا يفيد شيئا في موضوع التعاون العالمي المنشود.
فأما الحرب من طبع الإنسان؛ فتلك فكرة انتزعها كتاب وفلاسفة مما هو الواقع، ومن طريف ما يؤثر عن أنصار الحرب ما نقله إيميل فاجي عن أحد التيازقة أو الصوفية القائلين بوحدة الوجود قال: «الحرب إلاهية في ذاتها؛ لأنها قانون العالم.» «الحرب إلاهية في المجد الخفي الذي يحيط بها وفي الجاذبية الخفية أيضا التي تجذبنا إليها.» و«الحرب إلاهية في الحماية الموهوبة للقواد العظام.» ... إلى أن قال: «الحرب إلاهية بنتائجها التي تعزب عن تقديرات الناس.» قال إميل فاجي كل هذه الجمل، تساوي أنه يقول: «الحرب إلاهية؛ لأنها سخيفة.»
وبالجملة فإن أهم دليل على طبيعتها هو قدمها، والدم من حيث هو لا يصحح فاسدا ولا يفسد صحيحا، والذي يراه أنصار السلام هو أن الحرب ليست من طبع الإنسان؛ كالعائلة والأبوة والعمل، بل هي عادة تأصلت في نفوس الناس يمكن القضاء عليها كما قضي على الرق ونحوه بوسائل التربية التي لا شك في أن العالم يتقدم في أمرها بنسبة ضميره على إثر تفكير المفكرين فيما يصلح حال الإنسان.
إذن كان لا بد من ثورة على القديم في هذه الناحية أيضا، وقد كانت هذه الثورة أول خاطر في موضوع السلام الدائم خطر لسوللي وزير هنري الرابع، ولكن سلامه الدائم لو أنه تحقق لما شمل إلا أوربا فقط، وكذلك كان مشروع الأب سان بير في أوائل القرن الثامن عشر، ولم تكن تلك إلا بوادر لم تفد شيئا، حتى كان آخر القرن الثامن عشر ؛ إذ انبعث صوت الإخاء الإنساني من جامعة كونجسبرج؛ حين اقترح أستاذ الفلسفة فيها إيمانويل كنت إنشاء حكومة أمم تمنع اعتداء بعضها على بعض؛ وجه نداء للأمم والملوك قال فيه: «ينبغي أن تنظم الأمم سلوكها في كل دولة على قواعد الأخلاق والقانون، كما يجب على الدول أن ترعى هذه القواعد المتبادلة مهما يكن من تمويه الاعتراضات التي تستنتجها السياسة من التجربة، وحينئذ لا تستطيع السياسة الحقة أن تخطو خطوة واحدة من غير أن تتبع فيها أوامر على الأخلاق، فإن السياسة متى اتحدت بعلم الأخلاق، لم تعد بعد ذلك فنا صعبا ولا معقدا.
إن الأدب يفك العقدة التي لا تستطيع السياسة حلها، يجب اعتبار حقوق الإنسان مقدسة ولو ضحى في ذلك الملوك بأكبر الضحايا، لا يمكن في هذا الصدد التنازع بين الحق وبين المنفعة، وإن السياسة يجب أن تركع أمام الأدب.
لكن هل استمع لهذا النداء الكريم الملوك والحكومات؟ نعم، أظن أن حكومات الأمم الكبرى التي اجتمعت في مؤتمر فينا بعد هذا النداء بتسعة عشر عاما قد استمعت لهذا النداء، لكن لا تفعل به حقيقة، بل لتخدع به الرأي العام للشعوب الوادعة الطيبة التي قلما تحتمل نصيبا من إجرام حكوماتها، وهاكم مذكرة الوزير جنز زميل مترنيخ رئيس المؤتمر المؤرخة في 12 نوفمبر سنة 1810:
إن أولئك الذين اجتمعوا في المؤتمر وكانوا يعلمون حق العلم طبيعته وأغراضه لا يكادون يخدعون على تطوره أيا كان رأيهم في نتائجه، إن الكلمات الفخمة مثل «إعادة النظام الاجتماعي»، و«تجديد المذهب السياسي لأوربا» و«السلام الدائم المؤسس على توزيع للسلطان» إلخ، إنما نطق بها لتطمين الناس ولتفيض على هذا الاجتماع الحافل كرامة وعظمة، لكن الغرض الحقيقي للمؤتمر، قد كان توزيع أسلاب المقهورين بين القاهرين. (3) أدب السياسة الدولية
هذا نموذج من أدب السياسة الدولية يتخذه الساسة لمجدهم ومجد ملوكهم وليلقوا به دروسا في الشر والظلم على الناس أجمعين، أفكان الذين اجتمعوا حول مائدة الصلح في فرساي أصلح نية وأصدق قولا من زملائهم في فينا من قبلهم بقرن كامل؟ لقد كان كتاب التاريخ السياسي يظنون أن مؤتمر فينا قد أخفق في مهمته مع أنه وقى العالم شر الحروب 39 سنة.
فهل كان مؤتمر فرساي أسعد حظا وأجدى على الإنسانية نفعا، مع أن سلامه لم يزد عمره على العشرين عاما حتى أمكن لأحد الساسة في الخريف الماضي أن يجمع بين الحرب ويسميها حرب الثلاثين من سنة 14 إلى سنة 44، وإذا لم يتغير الأدب السياسي عما كان في القرن الماضي، قال الكاتب المعروف «الدس هكسلي» عشية هذه الحرب الحاضرة: «إن أدب السياسة الدولية هو أدب القرصان، أدب الخداع، أدب الشيخ الفيكونت الفاست، بل لم يتغير هذا الأدب منذ عشرين قرنا حين قال الفيلسوف سنيك، هذا هو قانون الإنسانية: كل ما هو محرم عليك إتيانه وأنت فرد، مطلوب منك إتيانه وأنت مدافع عن الدولة.»
ترون من ذلك أن للأفراد أدبا جاءت به قوانين الاجتماع داخل كل بلد، فأين أدب السياسة والسياسيين، وإلى أي شيء مرده، إلى محكمة الضمير وقد جرى العرف على أن السياسة لا ضمير لها، أم إلى محكمة القانون العام وليس للسياسة الدولية محكمة إلا الحرب، قال برتملي سانتهلير لمناسبة نداء كنت:
لقد أعلن كنت هذه المبادئ القديمة منذ ستين عاما، ولكننا على رغم ما قطعت الأفكار العامة من مراحل التقدم في هذه المدة، ما أبعدنا إلى الآن عن الغرض الذي ترمي إليه حكمة الفيلسوف، والظاهر أن الملوك والأمم لم تتلق بعد دروسا قاسية.
نظن الآن أن العالم قد تلقى هذه الدروس القاسية منذ الحرب الماضية فشرع فعلا في إنشاء جمعية الأمم، ولكنها لما تنجح؛ لأنه عند تنفيذها كان الساسة قد نسوا ويلات الحرب، ورجعوا إلى أخلاق السياسة الدولية، فلم تنجح تجربتها وجاءت الحرب الحاضرة بويلاتها التي لا تطاق، تلقاء هذه التجربة القاسية صدر ميثاق الأطلنطي في أغسطس سنة 1941.
وهنا يتساءل أنصار السلام: هل إنشاء عصبة أمم جديدة خير من عصبة الأمم القديمة يمكن أن يوصل إلى الغاية النبيلة التي أشار إليها المستر إيدن بقوله: «إن غايتنا هي إنشاء نظام عالمي يحقق التقدم السلمي لجميع الشعوب.»
العقل والتجربة متفقان على أن عصبة الأمم التي لها قوة مسلحة لتنفيذ قراراتها ليس خير أداة للسلام الدائم وبالتبع للتعاون العالمي؛ لأن هذه الأداة متى كمل نظامها كانت كما يقول المستر الدس هكسلي: «كأنها عصبة مؤلفة للحرب لا للسلام.» والواقع أن العنف يولد العنف، ومع ذلك ليس أمام العمليين من أنصار السلام وسيلة سواها في الحال الراهنة.
غير أن هذه الوسيلة لا توصل إلى الغاية إلا إذا اقترن بها أبطال الاستعمار بجميع أسمائه وألوانه، على هذا الوضع يمكن أن تستل من نفوس الأمم الصغيرة تلك الأحقاد التي ولدها استعلاء قوم على قوم، وذلك هو أفسد ما يكون للأخلاق التي ينبغي أن تتخلق بها الأمم لتحقيق تعاون عالمي، وفي هذه الحالة الشعوب التي لا تستطيع أن تقوم بنفسها لا تتبع إدارة النظام العالمي الذي أشار إليه وزير الخارجية البريطانية تأخذ هذه الإدارة بيدها حتى تستكمل مشخصات الأمم التي تستطيع أن تكون عضوا مستقلا نافعا في التعاون العالمي. (4) يجب القضاء على الاستعمار
ما دام غرض التعاون العالمي هو القضاء على نظرية حق الأقوى مع فسادها في نظر المنطق القانوني، وما دام الاستعمار هو أظهر آثار حق الأقوى، فلا بد للتعاون العالمي من القضاء عليه بجميع أسمائه.
كما أن الفلسفات القديمة لم تتعرض لفكرة السلام الدائم كما ذكرت آنفا، كذلك هي لم تتعرض لفكرة استنكار الاستعمار، وأول من تعرض لها من الفلاسفة على وجه بين هو الفيلسوف بنتام؛ فإنه هو وأنصار مذهبه يبغضون الاستعمار ويرونه غير نافع للأمم المستعمرة، فوق أنه مفسد لأخلاق الأمم المستعمرة، قال برتران رسل: «إذ كانت الثورة الفرنسية في الصميم من أمرها، كتب بنتام رسالة إلى تالران عنوانها «حرروا مستعمراتكم»، ولم يكن ذلك رأيه في المستعمرات الفرنسية فحسب، بل رأيه كذلك في المستعمرات البريطانية، وأنه حمل صديقه اللورد لندون على اعتناق مذهبه فقال في مجلس اللوردات في سنة 1797: لا يمكن أن يسدى إلى إسبانيا خير؛ أفضل من تخليصها من لعنة مستعمراتها.»
وأخيرا في عهد جمعية الأمم السابقة عرض على الأمم المستعمرة في فرص عدة أن تنزل عن مستعمراتها؛ لتضعها تحت السيادة الدولية فرفضت كلها بلا استثناء، غير أنه ما دام على ظهرها أمم غالبة وأمم مغلوبة، فلا رجاء في التعاون بإخلاص، وكأني بالأمم المغلوبة على أمرها تقول للقاهرين دعاة السلام: أنظرونا نتحلل من ذل التبعية، ثم شأنكم والسلام الدائم؛ قرروا فيه ما تشاءون.
بقي أن نشير إلى أن بعض الكتاب السياسيين يرون أن الاستعمار والوطنية أمران متلازمان، وأن من العسير أن يحب قوم وطنهم دون أن يقترن هذا الحب بالاستعلاء على الأمم الضعيفة، أو دون أن يبغضوا غيرهم، هذا قد يكون حقا في أمر الوطنية الحادة الجامحة التي هي من سلالة عصبية القبيلة، أما الوطنية المدنية أو وطنية المستقبل التي يسيطر عليها التدبر العقلي فإنها لا تتنافى مع حب الإنسانية جمعاء، والواقع أننا نرى الرجل الفاضل مع حبه لنفسه يسعى إلى سعادة غيره، فلا مانع إذا يمنع قوما يحبون وطنهم، من أن يسعوا في إسعاد الأوطان الأخرى! (5) التعاون العالمي ممكن
أيها السادة، نسوق كل هذه المقدمات للوصول إلى نتيجتين:
الأولى:
أن التعاون العالمي ممكن متى اقترن به إلغاء الاستعمار على الوجه الذي ذكرناه.
الثانية:
أن أدب السياسة الدولية الذي جرى عليه العرف إلى الآن بعيد عليه أن يحقق التعاون العالمي، بل لا بد لهذا التعاون من أدب دولي جديد.
ونظرا لأن أسباب الحروب مهما اختلفت مردها كلها إلى الحالة البسيكولوجية للأمم وعلى الخصوص الحالة الأخلاقية لقادة الأمم، نظرا إلى ذلك قد بحث أنصار السلام في الوسائل التي تؤدي إلى منع الاعتداء من جانب أمة على أخرى، وإن أوفى بحث أعرفه في هذا الصدد تلك المحاولة الجريئة الموفقة التي حاولها الكاتب المعروف الدس هكسلي في كتابه «الغاية والوسائل»، لم يقنع هكسلي بطريقة «كنت» التي لا يزال الساسة يسيرون عليها سواء أكان ذلك في جمعية الأمم السابقة أم في النظام العالمي المستقبل، بل هو يرمي إلى أعمق من ذلك أثرا وأبقى على الزمان بقاء، وهو أن يسعى الأفراد والجماعات والحكومات إلى تربية الجيل على صورة تتدرج نتائجها للوصول إلى الإنسان المثالي، جعل هكسلي هذا المثل الأعلى في الإنسان الذي سماه «الإنسان اللامرتبط» في ذلك الإنسان غير المرتبط بإحساساته ورغباته الجسمية غير المرتبط بشهوته في السلطة والحيازات المختلفة، غير مرتبط بموضوعات هذه الرغبات المختلفة، غير مرتبط بغضبه وحقده، غير مرتبط بحياته الخاصة، غير مرتبط بالثروة ولا بالمجد ولا بالوضع الاجتماعي، غير مرتبط حتى بالعلم وبالفن وبالتأمل المجرد وبحب الإنسانية، بذلك يصل المرء إلى حيازة جميع الفضائل، وإن عالما مؤلفا كله أو جله أو على الأقل قادته من أفراد لهم هذه الفضائل، لجدير بأن يسمى العالم الكامل، غير أن هكسلي لم يخدع نفسه على إمكان الوصول إلى تلك الوسائل التي تربط نظريات السياسة الداخلية والسياسة الدولية والحرب والاقتصاد والتربية والدين والأدب؛ كل أولئك بنظرية الطبيعة الآخرة للحقيقة، بل قال في آخر كتابه: «لا شك أن هذه المهمة قد نفذت على وجه ناقص، على أني لا أعتذر عن محاولتي إياها فإن رسم مذهب ولو رسما جزئيا خير من العدم الكلي.»
ونحن من جانبنا نترك إلى الزمان الطويل تحقيق الرغبات الشريفة لهذا المؤلف، ونقبل على مذهب أقرب تناولا ونقنع بالهدف الحاضر، وهو التعاون العالمي الذي ارتضته السياسة الدولية للأمم المتحدة، فماذا ينبغي أن تكون الأخلاق لتحقيق هذا التعاون؟
إذا كان هكسلي يعتد هكذا بسمو النفس الإنسانية في طبيعتها إلى حد أنه يرى من الممكن أن تتحقق نظرياته، فليس في ذلك إلا قريبا جدا من رأي الفيلسوف «كنت» في سمو الطبيعة الإنسانية حين يقول: «ليس في الاستعدادات الطبيعية للإنسان شيء من مبدأ للشر، وإن السبب الوحيد للشر هو ألا يرد الطبع إلى قواعد، إلا أن الإنسان ليس فيه من أصل إلا للخير، ليس لهذا المعنى فقط أرى أن أختار منهاج «كنت» مرجعا لصورة هذا البحث الذي بحثه، بل أيضا لأنه صاحب فكرة الحكومة الدولية العامة، وبهذه المثابة قد يكون منهاجه الأخلاقي أقرب المناهج نسبا للتعاون العالمي، وقد يكون فوق ذلك هو المناسب لاعتقادات الناس في هذا الزمان.
لتحقيق التعاون العالمي ينبغي أن تقوم كل أمة بواجباتها نحو ذاتها، وواجباتها نحو الأمم الأخرى.
فأما فضائلها الذاتية أو واجباتها نحو ذاتها فالقيام بها أظهر ما يكون في التربية وفي صور الحكم.
أما التربية فإنها في كل العصور وسيلة لتحقيق غاية معينة، فترون الدكتاتوريات تنشئ أجيالها تنشئة إسبرطية محضة؛ لأن غايتها استكمال ما تستطيع من قوة لتبسط سلطانها على العالم كله أو بعضه، فتجردهم من حرية التفكير الشخصي وحرية النقد وحرية الاجتماع لتبادل الآراء وتنمي في أنفسهم مبادئ القومية الحادة والاستهانة بحقوق الغير والطاعة العمياء، وبالجملة تكون غاية التربية غاية حربية صرفة أو بعبارة أدق غاية الاعتداء على الأغيار وما في أيديهم، وليست الديمقراطيات مع الأسف بأحسن حالا من ذلك إلا قليلا؛ فإن التربية فيها مع ما بها من الحريات الفردية موجهة إلى الحرب أيضا، وفي مثلها العليا نماذج من أبطال الحروب الأولين والآخرين، فمناط المثل الأعلى في التربية الحاضرة بطل قتل في ساحة الحرب من إخوانه في الإنسانية أكبر عدد ممكن، لا شك في أن هذه التربية لا يمكن أن تكون غايتها التعاون العام أو السلام الدائم، بل لا بد للعالم، وقد اعتزم التعاون العام، أن يغير غاية التربية، فيستن نوعا من التربية يؤدي إلى حب السلام لا إلى حب الحرب، يؤدي إلى تحقيق الإخاء الإنساني، يؤدي إلى ترك المبالغة في الاعتزاز بالأجناس وترتيبها ترتيبا تحكميا عسى أن يكون الجنس الأخير منها خيرا من الجنس الأول المزعوم، وبالجملة ينبغي أن تترك إلى جانب عصبية الإنسان الأولى للقبيلة ولمعبودها المحلي الذي صنعه الإنسان بيده، إلى ما يقتضيه الإخاء الإنساني والتعاون العالمي من احترام لجميع الأجناس وسعي في إسعاد من قضت عليه المصادفات الشقية بأن يكون في سلم المدنية متأخرا عن سواه.
الإنسان المثقف
على هذا يجب على الأمة في تربية أبنائها أن تكون غايتها «الإنسان المثقف» ووسيلتها إلى ذلك: (1)
تثقيف ملكات الفرد الطبيعية: ملكات الجسم والعقل والنفس؛ بأن يقوم بمقتضيات حفظ الذات وحفظ النوع بالاعتدال التام ثم بواجب الصدق الذي يسبب له الاقتناع بكرامته، وواجب السخاء الشخصي بأن لا يقتر ولا يسرف، بل ينفق بالمعروف، وواجب كرامته من حيث هو إنسان فيرفض أن يكون تبعا لغيره في غير الحدود المفروضة عليه من جهة كونه عضوا في جمعية مدنية لها قوانين مرعية الأداء وواجب محاسبة نفسه على كل ما يخطر له من فكر أو يلفظ من قول أو يأتي من عمل، وضابط ذلك كلمة أفلاطون المعروفة «تعرف نفسك بنفسك» أن تعرفها بالدرس الدائم لحالها وسبر غورها في أعمق طياتها، ثم ينبغي أن يؤخذ الناشئ بتثقيف ملكات عقله بأن يتعلم ما هو ميسر له من العلوم والفنون، قال «كنت»: من ليس مثقفا فهو بهيمة، ومن ليس مؤدبا فهو متوحش. (2)
كذلك ينبغي أن تؤخذ الأفراد في التربية بتعلم القيام بواجباتهم نحو الغير، مثل حب الإنسانية ويعنى به العدل ورعاية الغير وعرفان الجميل والسخاء والمواساة في الضراء واحترام الأغيار في أشخاصهم وشرفهم وأموالهم، واحترام قوانين البلاد سرا وعلانية، وينبغي في تثقيف هذه الثلاثة الأنواع من الملكات الطبيعية أن يكون ذلك على يد أساتذة أحرار في مدارس حرة ليست تابعة مباشرة لسياسة الحكم كلما أمكن ذلك.
وأما واجبات الأمة من حيث صورة الحكم لتكميل ذاتها فينبغي أن تكون الأمة دائما مصدر السلطات في وطنها وأن يشترك أفرادها في حكمها على الطرق الديمقراطية وأن يكون الحكم فيها لمنفعة المحكومين لا لمنفعة الحكام، وأن تكون ولايات الحكم ضرائب يؤديها الأكفاء من أبنائها لا مزايا يختص بها المقربون من السلطات، ويتفرع على ذلك أن طالب التولية لا يولى.
هذا ما ينبغي من فضائل الأمة أو واجباتها نحو ذاتها.
وأما واجبات الأمم بعضها نحو بعض، فأول ما ينبغي هو إبطال هذا المذهب العتيق للسياسة الدولية مذهب الارتياب والدسائس والتجسس، وأن يستبدل به نقيضه؛ بأن تحل محل هذا المذهب الواجبات الأدبية التي يفرضها قانون الأخلاق على الفرد نحو غيره، وهي تتلخص في احترام حقوق الغير والسعي في إسعاده.
على هذا النحو - وعلى هذا النحو وحده - يتحقق التعاون العالمي، وتشمل نعمة السلام كل بني الإنسان.
هوامش
অজানা পৃষ্ঠা