জীবনের গল্প
قصة حياة
জনগুলি
وكانت للمدرسة عناية خاصة بطعام فريق الكرة، فكانت مائدتهم حافلة مثقلة، بل كانت المدرسة تشترى لهم «المخلل» فى سلطانيات صغيرة لتشحذ رغبتهم فى الطعام وكان عملها هذا يستدعى منها التساهل مع بقية التلاميذ، فكان كل من معه قرش منا يقف عند حاجز البوابة قبيل وقت الطعام وفى يده القرش أو الملاليم ويصيح بعم أحمد «الطرشجى» هكذا «هات شوية بنكلة» أو بأكثر أو أقل، فيناوله سلطانية فيها ما طلب فيرتد بها، ويظل يحملها حتى يدق الجرس فيدخل بها حجرة الطعام، ولم أر مثل هذا فى مدرسة أخرى من مدارس الحكومة.
الفصل التاسع
مرض أبى بعد شهور قليلة من دخولى مدرسة القربية الحكومية، وصار كل من فى البيت يلغط بأن زوجته التركية سمته، أو هى لم تسمه، وإنما دأبت على إطعامه لحم الأرنب بعد أن يعالجه رجل مشعوذ، بما لا يعرف أحد، ليحبب أبى فى هذه الزوجة، ويبغض إليه أمى، وكان أبى يعتقد أن هذه خرافات وأباطيل، وأنها مما يلفقه الخيال بتأثير الغيرة ولكن أمى كان قد أصابها سقم شديد واضطراب عصبى عنيف فعنى أخى الأكبر بما أشيع من أن هذا بعض ما جره سحر المشعوذ عليها، فراقب بيت هذه الزوجة التركية فرأى يوما شيخا يدخل، فتبعه من حيث لا يشعر فصعد الشيخ إلى غرفة فوق السطح، وأوقد نارا، وذبح أرنبا، وكتب على لحمه كلاما وعلقه فى الهواء، ورمى فى الموقد بخورا فأطلقه وراح يقرأ ويعزم، وأخى يرقبه، ثم خطر له أن يطلع أبى على ذلك فأغلق عليه الغرفة وأوصد باب البيت أيضا وحمل مفتاحه معه وذهب فجاء بأبى وأراه ما رأى فشق الأمر على أبى فطلق المرأة.
ولكنه مرض بعد ذلك لا أدرى بماذا؟ ولزم البيت بضعة شهور كان الطبيب يعوده فيها كل بضعة أيام مرة، ولكنه كان فيما يبدو لى صحيحا معافى، لا سقم به، فقد كان يشرب القهوة علي عادته، ولا ينفك يدخن سجائره المألوفة ويأكل طعامه المعهود - السمك المسلوق والأرز والفاكهة - وكل ما تغير من أمره واختلف من حاله أنه كف عن النزول إلى المكتب. وأن الكاتب وأخى كانا يصعدان إليه بالأوراق فيطلع عليها ويشير بما يرى.
وعدت من المدرسة عصر يوم، فلقينى الكاتب على الباب وسألنى «أين عم محمد» فقلت لم أره، فأخبرنى أنه ذهب ليجىء بى من المدرسة لأن أبى يريد أن يرانى فيظهر أنه ذهب من طريق وعدت أنا من طريق.
ودخلت البيت فألفيت فى فنائه نفرا من أقاربنا جلوسا على الكراسى فسلمت فقال أحدهم «اصعد. اصعد. أبوك يطلبك.»
فلم أفهم، وصعدت على مهل، ودخلت على أبي، وأنا أنتظر أن أراه قاعدا على «الكنبة» فإذا به راقد على مرتبة مفروشة له فى وسط الغرفة، وعند رأسه مصحف، فأدرت عينى فى الغرفة، فألفيت النساء من أهلى قاعدات حول المرتبة، مطرقات، وفى أيديهن مناديل، يرفعنها إلى عيونهن ويكفكفن بها الدموع، فنطرت إلى أبى، فأشار إلى بعينيه فانحنيت عليه فقبلنى، ونهضت، وأنا غير فاهم وهممت بأن أدور وأخلع ثيابى، وإذا النساء يصحن ويولولن، وإذا بأمى تتناولنى وتميل على رأسى وهي تقول «أبوك مات».
أبى مات!
لم أفهم هذا، ولم يحدث الخبر فى ذهنى صورة ما، فقد رأيت أبى، كما اعتدت أن أراه، لم يتغير وجهه، ولا نظرته، ولا ابتسامته، ولم يختلف شىء سوى أنه راقد على مرتبة، بدلا من السرير حتى بعد أن ولولت النساء، رددت عينى إليه، فرأيت ابتسامته مرتسمة على شفتيه وفى عينيه، فثنيت طرفى إلى الباكيات النائحات، ثم عدت أنظر إلى أبى فراعنى أن الابتسامة ثابتة، كأنها متحجرة، وأن العين لا بريق فيها ولا ضوء، وأنها كالزجاجة، وأن المعنى الذى لمحته لما انحنيت عليه ليقبلنى قد خبا وانطفأ فبهت ولكن منظرا جديدا شغلنى وصرفنى عما وقع فى نفسى من هذا الموت العجيب فقد تشددت جدتى وتحاملت على نفسها، وركعت إلى جانب ابنها وأدنت أصابعها برفق من عينيه فأطبقت عليهما الجفون ولثمت جبينه ونهضت تشهق وتكاد تختنق.
ولم يبق لى مقام بين هؤلاء الباكيات، فانحدرت إلى فناء البيت حيث الرجال وكانوا يبكون ولكن في صمت، ففى الوسع احتمالهم، وضمنى أخى الأكبر وأجلسنى إلى جانبه ويده على كتفى والدموع تنهمر من عينيه، وأنا كالصنم وأذكر أنى خجلت، وحاولت أن أبكى ودعكت عينى بأصابعى ولكن العبرة لم تسعفنى ولم تنجدني وكنت لا أزال غير فاهم هذا الموت الذى أثار هذه الضجة الشديدة فى بيتنا - فوق وتحت - وترك النساء يلطمن والرجال يبكين مثل النساء.
অজানা পৃষ্ঠা