من أجل هذا كله عملنا على أن نقدم لجمهرة المثقفين في هذه «السلسلة» صورة مصغرة لنواحي التفكير الفلسفية، عسى أن تبعث فيهم رغبة في التعمق وشوقا إلى الاستزادة، وعسى يكون من وراء ذلك غزارة في الأدب، وعمق في الإنتاج، وعسى أن يكون من وراء ذلك باعثا للقادرين على أن يخرجوا كتبا أوفى بالغرض، وأكثر تحقيقا للفكرة.
والله أسأل أن يمدنا بتوفيقه، ويشملنا برعايته، ويكلل عملنا بالنجاح.
أحمد أمين
2 أبريل سنة 1935
مقدمة
مدارس أثينا. تبين الصورة مجموعة من فلاسفة المدارس الفلسفية اليونانية المختلفة (بريشة رفائيل). (1) كيف بدأت الفلسفة
لم يكد يظهر الإنسان على وجه الأرض، حتى دأب يسعى ويلح في السعي كلما ألحت عليه غريزة حب البقاء، ولم تكن الحياة حين ألقت به سخية كريمة، فلم تبسط يدها في العطاء بحيث تمنحه من قوى الفكر ما يحصل به ضرورات العيش ويرد به عادية الطبيعة في سهولة ويسر، بل كانت مقترة مسرفة في التقتير، اكتفت من ذلك بالحد الأدنى الذي يحتمه مجرد البقاء، فجاء الإنسان وكل بضاعته من التفكير شعاع خافت ضئيل، يعينه على جمع القوت، وتحصيل الضروري من أسباب الحياة.
ولكن الزمان الذي يغير كل شيء، قد أخذ بيد الإنسان فأخرجه قليلا قليلا من تلك الحياة التي كانت تقنع بدفع الخطر، وما زال به حتى شحذ مواهبه، ووسع من نطاق إدراكه، فمرن على القيام بأعباء الحياة، ولم يعد يصدر في ذلك عن شعور ووعي يستنفدان كل ما يملك من قوة ومجهود، ثم لا يبقى له من دهره شيء، بل أصبح كثير من شئون العيش عادة آلية يديرها اللاشعور، وبذلك استطاع أن يظفر بشيء من الفراغ الفينة بعد الفينة، ينعم به بعد جهد العيش الجهيد، فأخذ يحلم بهذا الكون الذي يحيط به، والذي يبعث في النفس اللذة والخوف في آن واحد، ولكن ماذا عساه أن يقول عن ظواهر الكون لكي يرضي خياله الساذج الغرير سوى أساطير ينسجها له الخيال فيرويها، لتكون له عقيدة وأدبا وعلما وما شئت من فنون الإنتاج، وهكذا كانت «الميثولوجيا»
1
أول الأمر، ثم يمضي الزمن ويمعن في مضيه، فيدفع معه في تياره الجارف هذا الإنسان، فإذا الخيال تضيق دائرته وتضيق، وإذا العقل يتسع ويتسع، ثم إذا بالإنسان قد هانت عليه أعباء الحياة، وخف عنه العذاب الذي كانت تسلطه عليه الضرورات ليدأب في جمع القوت ودرء الخطر، واستقبل عهدا جديدا رأى فيه اللذة والفراغ بجانب عناء العمل، وانتقل من حياة تملؤها الضرورات القاسية، إلى حياة يمازجها شيء من ترف الفكر وإبداع الفن، وإذ ذاك تغير موقفه، فلم يعد عبدا يذله قانون الحياة وكفى، عليه أن يستمع لأمره فيطيع، بل أخذ يساهم في تعديل قانون الحياة، وأخذ يفكر في خلق السموات والأرض، ويسائل نفسه: لماذا كان هذا هكذا ولم يكن غيره؟ وكيف نشأ ذلك كذلك؟ فبدأت بذلك الفلسفة. (2) متى بدأت الفلسفة
অজানা পৃষ্ঠা