أما أن ما تثيره فينا الإرادة من رغبات ينتهي عادة بالفشل، وأنه حتى إذا تحققت الرغبة، فإنها تبعث وراءها رغبة ثانية وهلم جرا، فلسنا ندري أين العيب في هذا؟ أولم يدر «شوبنهور» أن لذة الحياة في الكفاح حتى ولو أخفق؟ وماذا علينا في أن تبعث الرغبة المتحققة رغبة أخرى؟ إنه خير لنا من غير شك ألا نقنع ونرضى، فالسعادة كما قال القدامى: هي في حالة السعي وراءها لا في حالة الرضا والتشبع، والرجل الكامل لا ينشد السعادة بقدر ما يبحث عن ظرف سانح يمارس فيه ملكاته وقواه، فإذا كان لزاما عليه أن يدفع عناءه وشقاءه ثمنا لهذا، فما أرخصه من ثمن، إننا لفي حاجة إلى المقاومة لكي نرتفع كما ترتفع بالمقاومة الطائرة والطائر، نحن بحاجة إلى العقبات لترهف بها قوانا، فليست الحياة الهينة جديرة بالإنسان. (4)
ولقد زعم «شوبنهور» أن الزيادة من المعرفة تستتبع الزيادة في الألم، وأن أرقى الكائنات هي أشدها معاناة للألم، وهذا صحيح لا ريب فيه، ولكن أليس صحيحا كذلك أن زيادة المعرفة تزيد الألم، وأن أرقى الكائنات يتمتع وحده بأسمى الملاذ كما يعاني ألذع الألم؟ لقد أصاب «فولتير» حين آثر لنفسه أن يشقى بالحكمة عن أن ينعم نعيم الجهالة والسذاجة. إننا لا نتردد في أن نعالج من الحياة أقواها وأعمقها، حتى ولو كان ذلك على حساب ما نقاسيه من ألم. (5)
أما أن اللذة سلبية كما يقول «شوبنهور» فلا نظن ذلك صحيحا على إطلاقه. إن اللذة هي انسجام ما تقوم به غرائزنا من عمل، فلا تكون اللذة سلبية إذا كانت الغريزة الدافعة إليها غريزة تقهقر وتراجع. لا تقدم وإقدام، كلذة الهرب والراحة والخضوع والأمن والوحدة والهدوء، فهذه كلها لذات سلبية؛ لأنها ناشئة عن غرائز سلبية، فهي ألوان من الفرار والخوف، ولكن من ذا يزعم أن الملاذ التي تنشأ عن الغرائز الإيجابية كغرائز التحصيل والامتلاك والحكم والسيادة والاجتماع والحب، ملاذ سلبية؟ من ذا يخطئ فيظن أن الضحك ومرح الطفولة وأغنية الطير لأليفه والاستمتاع بالفن ملاذ سلبية؟ (6)
ويقول فيلسوفنا إن الموت مروع مفزع، فهل كان يرضيه ألا نموت؟ من ذا يغبط «أهاسورس»
Ahasuerus
الذي أرادت الآلهة أن تنزل به أمر ما ينزل بإنسان من عقاب، فأرادت له ألا يموت؟ ثم لماذا يكون الموت مفزعا إذا لم تكن الحياة حلوة مريئة؟ هذا، وإن امرأ نيف على السبعين من عمره لا يحق له أن يدعي أنه صادق في تشاؤمه، وفي ذلك يقول «جوته»: إن الإنسان لا يتشاءم قبل العشرين ولا بعد الثلاثين؛ لأن التشاؤم في حقيقته فيض الشعور بالذات وما لها من أهمية وخطر، وإنما يشعر بهذا الشعور شاب انسلخ لتوه من صدر أسرته الحنون المملوء حبا وتعاونا وأمنا، إلى عالم لا يعرف إلا التنافس بين الأفراد وما يلازمه من شراهة وجشع، عندئذ يحس مثل ذلك الشاب شر الحياة وسوءها، حينما يشهد مثله العليا تنهار واحدة بعد واحدة. أما قبل العشرين فتكون لذة الجسد، ثم تكون لذة العقل بعد الثلاثين. (7)
ويظهر أن «شوبنهور» لم يصب حين ارتأى أن إرادة الحياة هي القوة الحقيقية الدافعة لهذا الوجود ، فبماذا نعلل الانتحار؟ (8)
ولقد زعم أن النبوغ مرتبط بالجنون، فما قوله في «سقراط» و«أفلاطون» و«أرسطو» و«سبينوزا» و«بيكون» و«نيوتن» و«فولتير» و«جوته» و«دارون» وغيرهم؟
ولكن مهما يكن في فلسفة الرجل من أخطاء، فما ذلك إلا كالكلف في الشمس، ولقد أفلح في أن يفرض فلسفته على الوجود فرضا، وفي أن يضيف اسمه إلى سجل الخالدين. (4-3) هربرت سبنسر
Herbert Spencer (1) «كومت» و«دارون»
অজানা পৃষ্ঠা