أما طريقة لين بول في التأليف فجامعة بين التحقيق العلمي وربط الحوادث بعضها ببعض، وتأدية قصة الأندلس كاملة متصلة الأواصر، في أسلوب شائق وسياق رائع، فإنه بعد أن قرأ تاريخ الأندلس في مراجع شتى بين عربية وإفرنجية، ولقي ما لاقى في اجتياز ذلك الخضم المضطرب بالروايات والحوادث - استطاع أن يخرج للأدب والتاريخ قصة بديعة الأسلوب، متماسكة الحلقات، لها - مع صدق حقائقها - كل ما للقصص الخيالية من فتنة وسحر.
وقد يداخلك بعض الريب في أن المؤلف متعصب للعرب، محتطب في حبلهم؛ لأنك تراه يقتنص الفرص أو يخلقها للإشادة بدينهم، وسياستهم للأمم، ثم بآدابهم ومدنيتهم التي يعدها شعلة النور في أرجاء أوربا بعد أن خمدت مدنية الرومان، وزالت حضارة اليونان، ثم إنه رسم لعبد الرحمن الداخل، والناصر، والمنصور بن أبي عامر صورا من القوة والحزم، والعدل والدهاء، لم يستطع مؤرخ عربي أن يجمع ألوانها، وإذا غمز بعض المحسنين من الأمراء بنقد، كان خفيف المس رفيقا، حتى إنه لم يبخل بفضلة من عطفه على ملوك الطوائف الذين بددوا شمل الدولة، فأحسن رثاء دولتهم، وبكى فيهم الهمة والسخاء، وإنهاض العلوم، وإعلاء شأن الأدب والشعر، أما حديثه عن مملكة غرناطة وأفول شمس العرب بالأندلس، فلم يكن إلا أنات وزفرات ودموعا.
وقف على أطلال الأندلس كما يقف العاشق المحزون، فبكى مدنية زالت، وفنونا بادت، وعزا طاح مع الرياح، وملكا كأن لم يمض عليه إلا ليلة وصباح، ومجالس أنس كانت نغما في مسامع الدهور، ودروس علم هرعت إليها الدنيا وتلفتت العصور.
نعم، إن إستانلي لين بول كان يحب العرب حقا، ولكن هذا الحب لم يجاوز به الحق، ولم يخدعه عن نفسه، ولم يسلبه صفة المؤرخ المحقق، وكل ما في الأمر أنه كان صريحا في نشر الحقائق، فصدع بها حين أنكرها أو شوه من جمالها كثير ممن يكتمون الحق وهم يعلمون، إن لين بول لم يكن متعصبا للعرب، ولكنه كان لهم منصفا، وعلى تاريخهم أمينا، ولهم أخا وصديقا، حين قل الأخ وعز الصديق، على أن في الكتاب عتابا في مواطن العتاب، ولوما في مواضع اللوم، وتعنيف المحب المخلص حين يحسن التعنيف.
ومما تجمل الإشارة إليه أن المؤلف في حديثه عن الإسبان خاصة وأهل أوربا عامة، إنما كان يتحدث عن حياة قوم في العصور الوسطى، أو في أيام حكم البربون، قبل أن يتسع نطاق المدنية، وينبلج فجر العصر الحديث الذي غير كثيرا من أخلاق الناس وعقولهم ونظرهم إلى الأشياء، فإذا نقد المؤلف رجال العهود الماضية بأوربا وإسبانيا، فإنه لن يتردد اليوم في الحكم بأن الزمن دار دورته، وأن التاريخ لو نظر إلى الخلف لرأى مدنية جديدة وقوما آخرين.
وقد قصدت في ترجمة هذا الكتاب إلى ترجمة المعاني مع الحرص على الروح التي أملته، فإن لكل لغة بيانا، وحسب النقل أن يدرك الغاية، ويصيب اللباب، والله سبحانه المستعان.
علي الجارم
جزيرة الروضة
7 من أكتوبر سنة 1944
آخر أيام القوط
অজানা পৃষ্ঠা