ولم يضر طبعه الهادئ ومزاجه العلمي مملكته كثيرا، فقد كان ابن الخليفة العظيم حقا حينما كان يقود جيوشه لمحاربة نصارى ليون إذا نقضوا عهودهم، وكان الرعب الذي غرسه أبوه في القلوب عظيما، والشعور بقوة الخلافة شاملا، حتى إن أمراء نصارى الشمال ألقوا بزمام أمورهم إلى الحكم، وقدم أحدهم إلى قرطبة يتوسل إليه ويرجوه في إعادته إلى عرشه.
وتم الصلح بين النصارى والمسلمين فاتسع الوقت للحكم، فعاد إلى جمع الكتب لخزائنه، وكان يرسل رسلا إلى كل بقاع الشرق ليبتاعوا له المخطوطات النادرة ويعودوا بها إلى قرطبة، وكان رسله ينقبون عن الكتب العزيزة المنال عند وراقي القاهرة، ودمشق، وبغداد، وإذا لم يستطع الحصول على كتاب بأي ثمن أمر بنسخه، وكان يسمع أحيانا بكتاب لا يزال في دماغ مؤلفه، فيرسل إليه بهدية ثمينة ويسأله أن يبعث بالنسخة الأولى إلى قرطبة، وقد جمع بهذه الوسائل ما لا يقل عن أربعمائة ألف كتاب، وذلك في وقت لم تعرف فيه الطباعة، وحين كان الخطاطون يلاقون عنتا في كتابة الكتب بالخط الواضح الجميل.
ولم يكتف الحكم بالحصول على هذه الكتب، ولكنه خالف جميع جماعي الكتب بقراءتها جميعا والتعليق عليها، وكان واسع العلم حتى إن تعليقاته كانت تعد عند العلماء من أجل ما يكتب وأنفسه، وكان تدمير البربر لقسم عظيم من هذه الخزائن كارثة على الأدب العربي.
وكان مما يطمئن له الظن أن يستريح خلف الخليفة العظيم وينعم بما جناه له أبوه من ثمار النصر ويمتع نفسه بالدراسة الهادئة، بينما كان أعداؤه في الخارج يرقبون غزوه لبلادهم من حين إلى حين؛ لأن العمل الذي أتمه عبد الرحمن الناصر لم يستطع خليفة واحد أن ينقضه، ولم ينتقض إلا بعد أن تداوله خليفتان بعده، حينذاك هوى ذلك الملك الأثيل إلى الأرض مرة أخرى.
حكم الحكم المستنصر بالله أربع عشرة سنة،
1
وحين مات كان ابنه هشام المؤيد في الثانية عشرة
2
حينما جلس على العرش، ولا يستطيع حادس أن يقدر ما كان يكون عليه هذا الخليفة الصغير لو لقي ممن حوله حبا وإخلاصا، والتاريخ يذكر له بعض المخايل التي كانت تبشر بالذكاء وحسن الرأي، وبأنه باستعداده جدير بأن يترسم خطوات جده،
3
অজানা পৃষ্ঠা