وقد استقبل الخليفة بقصر الزهراء ملكة نافار وسانشو (شانجة) في حفل عظيم، وبه جلس ليحيي رسل ملك الروم الذين بعث بهم إلى حضرته، وقعد للقائهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة 338ه/949م في بهو المجلس الزاهر - قعودا حسنا نبيلا، وكان قد أمر كبار رجال الدولة وقواد الجيوش أن يعدوا لهذه المقابلة خير إعداد وأفخمه، وكان البهو في أكمل زينة، والعرش في وسطه يلمع ذهبه، وتتلألأ نفائس جواهره، ووقف إلى يساره أبناؤه، فالوزراء على مراتبهم يمينا وشمالا، ثم الحجاب من أهل الخدمة، وأبناء الوزراء والموالي ورجال خاصة القصر وغيرهم.
وقد فرش صحن الدار بعتاق البسط وكرائم الدرانك، وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملك الروم حائرين من بهجة الملك وفخامة السلطان، ثم تقدموا خطوات وقدموا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى، قسطنطين بن ليون، وهو في ورق سماوي اللون كتب بالذهب بالخط الإغريقي.
ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه ليذكروا جلالة مقعده وعظيم سلطانه، ويصفوا ما تهيأ من توطيد الخلافة في دولته.
وتقدم إلى الأمير الحكم ابنه وولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، وقام خطيب وأخذ يحاول التكلم فهاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة فلم يهتد إلى لفظة، وغشي عليه وسقط إلى الأرض، ثم قام آخر فحمد الله وأثنى عليه ثم انقطع به القول فوقف ساكتا مبهوتا،
10
وقد بذل الخليفة جهده في بناء الزهراء وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع ثلاث مرات متواليات، وحينما ذهب إلى المسجد بعد ذلك أنذره الخطيب بالعذاب الأليم في نار الجحيم لتعطيل الجمع.
11
ورونق قصور قرطبة وبساتينها - مع استهوائه القلوب - يغرينا بجمال آخر لا يقل عن رونقها الظاهر، فقد كانت عقول أهل قرطبة كقصورها في الحسن والروعة، فإن علماءها وأساتذتها جعلوا منها مركزا للثقافة الأوربية، فكان الطلبة يفدون إليها من جميع أنحاء أوربا ليتلقوا العلم عن جهابذتها الأعلام، حتى إن الراهبة «هروسويذا» - وهي بعيدة في ديرها السكسوني بجودرشيم - حينما أخبرت بشنق يولوجيوس لم تستطع إلا أن تثني على قرطبة وتسميها «ألمع مفخرة للدنيا»، وكان يدرس بقرطبة كل فرع للعلوم البحتة، ونال الطب بكشف أطباء الأندلس وجراحيها من النمو والازدهار نصيبا أعظم مما ناله قبلهم منذ أيام جالينوس، وكان أبو الطيب خلف جراحا ذائع الصيت في القرن الحادي عشر، وبعض عملياته الجراحية يطابق اليوم العمليات الحديثة، وجاء ابن زهر
12
بعده بقليل، فكشف عن أساليب كثيرة في العلاج والجراحة، أما ابن البيطار
অজানা পৃষ্ঠা