ويل لك يا قرطبة، ويل لك يا بؤرة الفساد ونذير الزوال، يا موطن الفجائع والاضمحلال، لقد أصبحت بلا صديق أو حليف، ستحل مصيبتك حينما يصل إلى أبوابك القائد الكبير الأنف، الدميم الوجه، الذي يحرسه المسلمون من أمامه والكافرون من خلفه، فإن في وصول ابن حفصون إلى أسوارك القضاء المبرم والفناء المحتوم.
وحينما ازدادت الأمور حلكة وظلاما، سطع شعاع من الأمل لليائسين من سكان قرطبة، فإن الأمير عبد الله الذي تملكه اليأس كما تملك رعيته حاول أول مرة أن يعزم على عمل سياسي جريء، وأن يخرج من المأزق الذي وضع فيه نفسه، فنهض بما عزم
5
على الرغم من تثبيط أتباعه له وكثرة عدد الأعداء المحيطين به من كل جانب، ولكنه بعد قليل عمل خيرا من كل هذا، عمل ما كان يجب أن يعمله لأمته من زمن بعيد، ذلك أنه مات في الخامس عشر من أكتوبر سنة 912م/300ه بعد أن بلغ الثامنة والستين، وبعد أن قضى في الحكم أربعة وعشرين عاما كلها حزن وشقاء؛ فقد رأى بعينيه من تدهور سلطان الأمويين - وكان تدهورا سريعا مفاجئا - ما يصعب علاجه على المصلحين، ولكن الله قدر لحكم خليفته أن يرى أيضا لهذا السلطان بعثا سريعا مفاجئا كاملا شاملا.
كان الخليفة عبد الرحمن الناصر حفيدا لعبد الله، وقد ولي الحكم في الحادية والعشرين من عمره، وكان يظن أن يزاحمه عمه وأقاربه على الإمارة وهو في هذه السن وفي هذا الوقت العصيب، ولكن شيئا من ذلك لم يكن، واستقبلت الأمة ولايته بصيحات الاستبشار والرضا من كل ناحية.
وكان الخليفة الجديد محبوبا من الشعب ورجال القصر، تضافرت وسامة طلعته، وحسن سمته، وكرم أخلاقه، وقوة إدراكه، على أن تجعل منه خليفة تعشقه الجماهير، وأحس القرطبيون - وهم البقية الباقية من رعيته - بتجدد الأمل فيهم وهم يرقبون بواكير أعماله.
ولم يحاول عبد الرحمن إخفاء مراميه ومآربه، فقد هجر سياسة جده إلى غير عودة، وكان تناوحها بين الضعف والقوة سببا في دمار البلاد، وأعلن مكانها في صراحة أنه لن يسمح بأي عصيان في أي جزء من أجزاء المملكة الأموية، ثم دعا الساخطين ورؤساء القبائل إلى الخضوع لسلطانه بعد أن أرسلها كلمة صريحة بأنه لن يترك جزءا من مملكته يتحكم فيه العصاة، وكان في برنامجه من الجرأة ما ينعش آمال أكثر المتفائلين، وإن خاف كثير منهم من أن هذا البرنامج قد يؤلب العصاة في جميع أنحاء المملكة، ويجمعهم عصبة واحدة لسحق هذا الأمير الشاب العنيد، ولكن عبد الرحمن كان يعرف أخلاق أهل مملكته، فلم يكن في جرأته عابثا أو متهورا.
لقد مضى جيل منذ أن رفع ابن حفصون وأشياعه علم الثورة، واعتقد أكثر الناس أن فيما نالهم من أوزارها ما يكفي، وفوق الذي يكفي، وبردت تلك النار التي كانت تتأجج في قلوب الإسبان المتسلمين والمسيحيين وتدفعهم إلى الكفاح في سبيل الاستقلال، وأمثال هذه البدوات لن تعيش إلا إذا بلغت غاية الفوز عند أول اشتعالها، لقد كان الزعماء الآن بين ملحود لا يعود،
6
وشيخ لا يرجى، فهدأت الروح الثائرة في نفوس أتباعهم، وأخذ الناس يسائلون أنفسهم عما حصلوا عليه من جراء ثوراتهم؟ إنهم لم يطهروا الأندلس من الكفار، ولكنهم على النقيض أسلموها إلى أكثر من الكفار شرا، إلى زعماء اللصوص والمجرمين المخاطرين؛ فقد منيت المملكة في جميع جهاتها بعصابات من اللصوص أتلفت الزرع والكروم، وتركت الأراضي وراءها قفرا يبابا، وأحس الناس أن كل شيء كيفما كان خير من تحكم هذه العصابات، وأن الأمير لن ينقل الأمور إلى أسوأ مما هي عليه؛ لذلك اتجهوا إليه ينظرون إلى ما يستطيع عمله لإصلاح هذه الحال.
অজানা পৃষ্ঠা