وقد كتبت الفتاة إلى أبيها حينما شعرت بجسامة الكارثة، ودعت غلاما تثق به وأوصته أن يسرع بالكتاب، وأن يصل ليله بالنهار حتى يضعه في يد أبيها، ثم منته الأماني.
ولم يكن يوليان يحب لذريق؛ لأن صلته بالملك المعزول - أو المقتول على الأرجح - صدته عن الميل إلى الغاصب، ثم جاء العبث بشرف ابنته فزاد نار حقده اشتعالا، وأغراه بالكيد والانتقام، وقد استطاع أول الأمر أن يقف في وجه غارات العرب، ولكنه عزم الآن على ألا يدفع عن مملكة أثيم ثلب عرض ابنته، وصمم على أن يترك العرب يملكون إسبانيا إذا أرادوا، ثم زاد فقرر في قرارة نفسه أن يرشدهم إلى الطريق، فأسرع وحب الانتقام يملأ صدره، إلى لذريق - بعد أن أسكت غضبه وأخفى ما في نفسه - فأحس الملك بشيء من الندم، ووثق في نفسه من أن فلورندا كتمت سره وسرها، وأخذ يغمر يوليان بصنوف من الإجلال والتكريم، ويستشيره في كل ما يتصل بحماية المملكة، ويصيخ إلى ما يزوق له من الخديعة والختل، حتى إنه أرسل أكرم خيوله وخير عتاده إلى الجنوب؛ لتكون تحت إمرة يوليان إذا هجم الفاتحون.
وغادر الكونت طليطلة ومعه ابنته، محفوفا بعطف الملك ورضاه، وطلب لذريق منه عند افتراقهما أن يرسل إليه نوعا خاصا من البزاة المعلمة، فأجاب يوليان بأنه سيرسل إليه بزاة لا عهد له بها، وبهذه الإشارة الخفية إلى قدوم العرب عاد أدراجه إلى سبتة.
وما كاد يصل إليها حتى زار موسى بن نصير، الوالي من قبل الخليفة على شمال إفريقية، الذي طالما اشتبكت سيوفه بسيوفه في حروب مشتعلة الأوار، فأخبره أن الحرب بينهما قد وضعت أوزارها، وأنهما منذ اليوم صديقان حميمان، ثم أخذ يملأ أذني القائد العربي بأحسن القصص عما في إسبانيا من الجمال والثروة، ويحكي عن أنهارها ومروجها، وأعنابها، وزيتونها، وعظمة مدنها وقصورها، وما فيها للقوط من كنوز، ثم قال إنها أرض تموج باللبن والشهد، وليس على موسى إلا أن يخطو فينالها بقبضته، وأخذ يوليان على نفسه أن يرشده إلى الطريق، ويعد له السفن، وكان القائد العربي داهية شديد الحذر، فخشي أن تكون هذه الدعوة خديعة واستهواء إلى الوقوع في شرك أو كمين؛ لذلك أرسل إلى الخليفة بدمشق رسلا ليرى رأيه في الأمر، واكتفى فيما بين ذلك سنة 710م/91ه بإرسال خمسمائة رجل بقيادة (طريف) أبحروا في أربع سفن ليوليان للإغارة على شاطئ الأندلس، ولم يرض موسى أن يعرض من رجاله للخطر أكثر من هذا العدد؛ لأن العرب لم يكونوا قد اعتادوا بعد الإبحار في بحر الروم.
عاد طريف في شهر يوليه بعد أن نجح في الغرض الذي أرسل من أجله، فقد أرسى سفنه في المكان الذي لا يزال يسمى باسمه، ونزل الجزيرة الخضراء وانتهبها، ورأى بعينه ما كفى لاقتناعه بصدق ما قاله الكونت يوليان من فقدان وسائل الدفاع بإسبانيا، وبأن إخلاصه للفاتحين لا يقبل الشك.
ولكن موسى على الرغم من هذا لم تمل نفسه إلى المخاطرة في سبيل فتح جديد، وجاء كتاب من الخليفة بدمشق يأمره بألا يقذف بجيش المسلمين في أخطار مجهولة العاقبة، وعهد إليه أن يكتفي بإرسال فرق قليلة من آن لآن للإغارة المفاجئة.
ولكنه بعد أن ملأه نجاح طريف ثقة بالنصر والتغلب، عزم على أن يوسع نطاق غزوه.
فحين علم في سنة 711م/92ه أن لذريق مقيم بشمال مملكته لقمع ثورة البشكنس، أرسل أحد قواده، وهو طارق البربري، ومعه سبعة آلاف رجل جلهم من البربر للإغارة على الأندلس، فنال من هذه الإغارة فوق ما كان يتوقع؛ فإنه أرسى سفنه عند صخرة الأسد التي حملت اسمه منذ ذلك الحين، فدعيت جبل طارق، وبعد أن ملك كارتية توغل في داخل البلاد، ولم يسر بعيدا حتى رأى جيوش القوط بقيادة لذريق تقترب لنزاله، فالتقى الجيشان على شاطئ نهير سماه المسلمون وادي بكة، بالقرب من نهر وادي لكة الذي يصب في المضيق عند رأس الأغر.
5
وتقص علينا الأساطير أن الملك لذريق قبل هذه الموقعة كان جالسا على سرير ملكه بمدينة طليطلة، فدخل عليه رجلان جلل الشيب رأسيهما، وهما في ثياب بيض من نسج قديم، وكان حزاماهما مزينين بصور مواقع النجوم وما لها من شأن في تصاريف القدر، وقد علق بهما كثير من المفاتيح، فلما مثلا بين يدي الملك قالا له: اعلم أيها الملك أن هرقل منذ الزمن القديم، وحين نصب صنمه عند مضيق البحر أنشأ حصنا قويا بالقرب من طليطلة القديمة، وأخفى فيه طلسما جعل عليه بابا من الحديد ثقيلا، له أقفال من الصلب توكيدا لحفظه، ثم إنه أمر أن يقوم كل ملك جديد بإضافة قفل جديد لهذا الباب، وأنذر بالويل والثبور كل من يهم بكشف هذا الطلسم، وقد قمنا وقام أسلافنا بحراسة باب الحصن منذ أيام هرقل إلى هذه الساعة، وعلمنا أن بعض الملوك حاول كشف هذا الطلسم فكانت عاقبة أمرهم الموت أو الجنون، ولم يصل واحد منهم إلى أبعد من عتبة بابه، وقد جئنا الآن أيها الملك لنرجوك أن تضع قفلك على باب الحصن كما فعل جميع الملوك قبلك، ثم انصرف الشيخان.
অজানা পৃষ্ঠা