وجاءت طائرة كانت لبضعة أيام تعاودنا في مثل تلك الساعة من كل صباح، جاءت مسبوق بصوتها، تسمعه آذاننا قبل أن تراها عيوننا، وهي تحتال قريبة من أسطح المباني، تكاد تلمسها بعجلاتها، تنفث وراءها سحبا من الدخان، وقيل: إنه دخان يحمل معه قاتلات للذباب، فطافت برأسي رغبة مجنونة، وهي أن أتعقب تلك الذبابة الواحدة التي كانت تجول على زجاج نافذتي؛ لأعرف مصيرها في سحابة الغاز، وبالطبع لم يكن مصيرها في ذاته هو مبعث اهتمامي، بل كان مبعث الاهتمام في الحقيقة هو أن أعلم مقدار تأثير الغاز الذي تنفثه الطائرة في الذباب.
وقفت خلف الزجاج؛ لأرقب من قريب، فرأيت الذبابة وقد أخذتها ارتعاشة عصبية أول الأمر، لا تكاد تتجه نحو اليمين حتى ترتد فجأة نحو اليسار، ثم ما هو إلا أن تقف في مكانها هامدة أو كالهامدة، وانقطع الدخان المسموم، وعاد إلى الهواء صفاؤه، ولم تكن إلا بضع دقائق، حتى بدأت الذبابة تحرك من بدنها ساقا هنا وقرنا هناك، إلى أن امتلأت بنشاطها، وعادت تجول وتقفز وتطير، وللذباب أحيانا نقلات سريعة خاطفة بحيث تراها وقد غيرت مكانها دون أن تراها وهي في طريق طيرانها إلى مكانها الجديد.
رجعت إلى مجلسي، أنفذ ببصري مرة أخرى خلال الزجاج الشفاف، لكنها كانت - هذه المرة - هي النظرة الشاردة التي تصاحبها خيوط متفرقة من أفكار متقطعة، لا تستقر على موضوع واحد، وفي مثل هذه الحالة لا تدري عن أفكارك من أين تأتي ولا إلى أين تنتهي، فهي أفكار أقرب إلى أحلام اليقظة منها إلى التفكير المركز، ولكم يحدث لأحلام اليقظة وما يشبهها من الخواطر السارحة أن تجمع لصاحبها الأفكار - في غدوها ورواحها - بحيث ينظر صاحبها إلى الحصيلة التي تجمعت له، فإذا بين يديه قصة بحذافيرها، أو موضوع متكامل الأطراف، لا ينقصه - أو ينقصها - إلا أن تكتب على الورق.
فلأمر ما تخيلت الطائرة النافثة لمواد التطهير، وكأنها تمثل الحركة الفكرية التي تحرك بها أعلام نهضتنا منذ قرن كامل أو يزيد، فما انفكوا طوال الأعوام المائة - أو ما يزيد على الأعوام المائة - ينشرون في الناس أفكارا كان من شأنها - لو فعلت فعلها - أن تطهر جماجم الناس من خرافات كانت تملؤها حتى فاضت عن حوافيها؛ لتعشى بها الأبصار، فماذا صنع الإمام محمد عبده إذا لم يكن قد أدخل في تلك الجماجم أشعة من ضياء «العقل» تطارد خفافيش الخرافة؟ وماذا صنع العقاد وهو يعد - بحق - استمرارا للشيخ محمد عبده في جهوده التي أراد بها أن يمزج وجدان الإيمان بمنطق العقل؟! وماذا صنع لطفي السيد الذي أوشك أن يتحول كيانه إلى «عقل» مجسد يهتدي هو بمنطقه أولا، ثم يأمل أن تسري منه العدوى إلى الآخرين؟ وماذا صنع طه حسين إذا لم يكن قد حاول أن يعلم الناس كيف يقبلون الرأي وهم على حذر؛ حتى لا تنزلق بهم أقدامهم إلى باطل؟! وماذا صنع فلان؟ وماذا صنع من بعده علان من حملة المشاعل خلال مائة عام مضت أو ما يزيد على المائة عام؟
لا، لا، إنه لم يعد يكفيني أن ألقي السؤال هكذا في عمومه؛ لأكتفي له بجواب يغلفه الغموض، وإلا فما أسهل أن نقول: إن تلك الحركة الفكرية التي تحرك بها أولئك الرواد نحو نظرة عقلية حاولوا أن يشيعوها في الناس، بمواقفهم أولا، وبما كتبوه ثانيا، قد أثمرت ثمارها، بل لا بد من تعقب الذبابة الواحدة على لوح الزجاج؛ لنستوثق من بلوغ الرسالة إلى الفرد الواحد؛ لأن دمج الفرد في مجموعة لتغرقه مع غيره قد يوهمنا بغير الواقع.
وخبرتي في مهنة التعليم شاهد على ذلك؛ فالفرق بعيد بين أن تلقي سؤالا على المجموعة ليأتيك الجواب من خليط الأصوات المتنافسة المتزاحمة، وأن تلقي السؤال نفسه على فرد بعينه، وهو وحده، ففي الحالة الأولى كثيرا جدا ما نتوهم بأن المجموعة تعرف الجواب الصحيح، على حين أنك - في الحالة الثانية - يغلب أن تجد الأفراد عاجزين عن الجواب.
وإذن فلنتعقب أثر أعلامنا - جهابذة النهضة العقلية - في أفراد؛ لنرى كم زال من الخرافة التي حاربوها وكم بقي؟
نحن الآن في سنة 1977م وتسمع الحوار الآتي يدور بين جماعة هي من طبقاتنا الفكرية في أعلى عليين، وكان الحديث حول مريض يراد أن تجرى له عملية جراحية في جزء باطني لم أعلم ما هو:
فلان :
دع الجراحة والجراحين جانبا، وخذ هذا العنوان فابدأ بصاحبه.
অজানা পৃষ্ঠা