قصة الكتابة‏

نشأة الأدب‏

الأدب القديم وبدايته‏

1 - الأدب في الشرق القديم‏

2 - الأدب العبري‏

3 - الأدب اليوناني‏

4 - الأدب الروماني‏

الأدب في العصور الوسطى‏

1 - الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى‏

2 - الأدب الفرنسي في العصور الوسطى‏

3 - الأدب الألماني في العصور الوسطى‏

4 - الأدب الإيطالي في العصور الوسطى‏

5 - الأدب العربي في العصور الوسطى‏

6 - الأدب الفارسي الإسلامي‏

قصة الكتابة‏

نشأة الأدب‏

الأدب القديم وبدايته‏

1 - الأدب في الشرق القديم‏

2 - الأدب العبري‏

3 - الأدب اليوناني‏

4 - الأدب الروماني‏

الأدب في العصور الوسطى‏

1 - الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى‏

2 - الأدب الفرنسي في العصور الوسطى‏

3 - الأدب الألماني في العصور الوسطى‏

4 - الأدب الإيطالي في العصور الوسطى‏

5 - الأدب العربي في العصور الوسطى‏

6 - الأدب الفارسي الإسلامي‏

قصة الأدب في العالم (الجزء الأول)

قصة الأدب في العالم (الجزء الأول)

تأليف

زكي نجيب محمود وأحمد أمين

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه «قصة الأدب في العالم» بعد قصة الفلسفة اليونانية، و«قصة الفلسفة الحديثة»، عرضنا فيها للآداب العالمية قديمها وحديثها، شرقيها وغربيها، في أسلوب أقرب ما يكون إلى القصص، وعرفنا بأشهر رجالها، ولخصنا أشهر نتاجهم، وقدمنا بعض نماذج من آدابهم.

ودعانا إلى هذا العمل ما رأينا من حاجة الأدب العربي إلى أن يضع عينه على الآداب الأخرى، يستفيد من موضوعاتها واتجاهاتها، ويستلهم بعض نماذجها كما تفعل كل أمة حية الآن، فلم تترك أدبا من الآداب الشرقية والغربية إلا أعلمت قومها به ووقفتهم عليه، وذكرت لهم خصائصه، وعيوبه ومميزاته، ونقلت شعره شعرا ونثره نثرا، وعرفتهم بأشهر رجاله، وترجمت أقوم آثاره؛ فلو شاء إنجليزي أو فرنسي أو ألماني أن يعرف أي أدب؛ صيني أو ياباني أو هندي أو فارسي أو عربي، أو أي أدب آخر غربي، لوجد من كل ذلك الأدب الكثير بلغته، ووجد المطولات والمختصرات، والمجموعات والمتفرقات. واستغل أدباء كل أمة هذه الآداب المعروضة خير استغلال، فاستغلوا ألف ليلة وليلة، ورباعيات الخيام، والشعر الجاهلي، والقصص الهندي. وكل يوم يزيدون من ثروتهم ونتاجهم؛ أخرجوا المجموعات الواسعة في قصص العالم، ومختارات من الكتب الدينية في العالم، والكتب الكبيرة في أهم آداب العالم، وهكذا حتى لم يعد الأدب ملك الأمة التي أنتجته، بل أصبح ملكا مشاعا لكل أمة يقظة تستثمره وتستغله. وأصبح شأن الآداب شأن البريد، وغلات العالم، والمستكشفات الطبية والعلمية ليست ملكا لأحد حتى ولا مخترعها، بل هي ملك لكل أحد شاءها واستطاع الاستفادة منها.

ومما يؤسف له أن النهضة العربية في عصر الدولة العباسية أسست نهضتها على الترجمة، وكان هذا طبيعيا، ولكنها أضربت عن ترجمة الأدب، فترجمت الفلسفة والطب والرياضة والفلك وكل شيء، واستغلت كل معارف اليونان والرومان وغيرهم، حتى إذا وصلت إلى الأدب أغمضت عينها عنه، وسدت الباب في وجهه لأسباب عرضنا لها في ثنايا هذا الكتاب. ولكن مهما كانت الأسباب فقد كان ذلك خسارة كبيرة، نشأ عنها أن صار الأدب العربي - وخاصة الشعر - لا يجري إلا في المجرى الذي شقه الأدب الجاهلي في أوزانه وقوافيه وموضوعاته، فإن فعل ما أتي بعده من أدب شيئا فهو أنه وسع المجرى القديم، ولكنه لم ينشئ مجري جديدا، ولا حفر روافد جديدة تمد المجرى الأصيل، ولو فعلوا لكان لنا تنويع في البحور وتنويع في الموضوعات، ولكان لنا شعر ملاحم وشعر تمثيل، وروايات وقصص استلهم فيها الأدب اليوناني والروماني وغيرهما.

وكان من نتيجة هذا الإضراب عن استغلال الآداب الأخرى أن توجه كل النشاط الأدبي إلى الأنواع المأثورة لا الأبواب المفتوحة، فأصبح الأدب العربي غنيا كل الغنى في بعض أبوابه، فقيرا كل الفقر في بعض أبوابه، مما لا مجال هنا لبيان ذلك، فلعل القارئ يصل إلى هذه النتيجة بنفسه إذا هو قرأ هذا الكتاب.

أملت ألا تقع نهضتنا الحديثة في الخطأ الذي وقعت فيه نهضتنا القديمة، وتمنيت أن تنقل إلينا الآداب الأخرى كاملة، فيكون لنا كتاب بل كتب في الأدب اليوناني، ومثلها في الأدب الروماني، ومثلها في الأدب الهندي، وكتاب في الأدب الإنجليزي الحديث، ومثله في الأدب الفرنسي، ومثله في الألماني، ويقوم بوضع كل كتاب المتخصصون في موضوعه، وأشرف على هذا العمل وأوجه إليه؛ ولكني رأيت هذا العمل مع كماله وقيمته يتطلب السنين الطوال، والمجهود المحفوف بالعقبات والصعاب. ومع هذا فقد لا يكون هذا العمل أوجب شيء الآن، ولا بد أن يبدأ بألف باء قبل قراءة الجمل؛ ورأيت أن ربما كان من الخير أن نبدأ بعرض الآداب المشهورة عرضا قريبا، حتى إذا استساغه القراء وتفتحت نفوسهم لمادة أوسع وغذاء أوفى، كان ذلك الخطوة الثانية بعد الخطوة الأولى، وقام بها من يأتي بعدنا، ويكون أوسع في الأدب والعلم حظا منا؛ سنة التطور الطبيعي.

ولكن خفنا - إذا نحن اعتمدنا على الكتب الإفرنجية التي كتبت في هذه الموضوعات - أن نقع في أخطاء قد تكون هذه الكتب وقعت فيها، أو أن تكون قد انحرفت عما ينبغي أن يختار، أو نحو ذلك من وجوه الزلل. ولسنا ندعي التخصص في كل أدب، ولا العلم العميق في كل فن، فرأينا - توفيقا بين الرغبة في إنجاز هذا العمل الهام، وبين الأمانة العلمية - أن نعرض كل فصل على المتخصصين فيه؛ فعرضنا فصل الأدب العبري على الدكتور فؤاد حسنين، وقد أعاننا كثيرا على تحضيره، كما عرضناه على الأستاذ عطية الإبراشي فأقره. وعرضنا الأدب اليوناني على الدكتور محمد مندور، فقرأه بعناية، وأفادنا فيه فوائد كثيرة، ولم يوافقنا على وجهة نظرنا في فصل التاريخ، فكتبه من جديد كما نشر في هذا الكتاب. وعرضنا فصل «دانتي» على الدكتور حسن عثمان؛ وعرضنا الأدب الفارسي القديم على الدكتور عبد الوهاب عزام، فزاد فيه، وكتب فصل الأدب الفارسي في العصور الوسطى، فلهم جميعا منا وافر الشكر.

ومع هذا فمحال أن يخلو مثل هذا المشروع الضخم من خطأ بل أخطاء، فقد نكون أجملنا حيث يجب التفصيل، أو فصلنا حيث يجب الإجمال، أو اخترنا ما غيره خير منه، أو اعتمدنا في الترجمة على نص إنجليزي، والنص اليوناني الأصيل يخالفه بعض المخالفة، أو نحو ذلك. ولكن هذا مدى جهدنا، وهو ما استطعنا، ولنا الشرف أن نسمع نقد الناقد والمرشد إلى الخطأ والموجه إلى الصواب.

وتأتي عقبة أخرى شائكة جدا، وهي ترجمتنا النماذج اليونانية أو الرومانية أو الهندية أو غير ذلك إلى اللغة العربية، فقد بذلنا في ترجمتها جهدا شاقا، وحاولنا أن ننغمها جهد طاقتنا، ثم بعد ذلك قد لا يستسيغها القارئ، وقد لا يحس من جمالها ما يحس قارئ الأصل بلغته، وهذا طبيعي، وخاصة الشعر؛ فقد أدرك كل من حاول ترجمته أن من المحال نقل جماله من لغة إلى لغة، فكل كلمة شعرية لها معنى معجمي (تفسره المعاجم)، ولها هالة حولها تكونت من وسطها وبيئتها ودلالتها الالتزامية وغير ذلك. وللبيت في لغته نغمة موسيقية وحلاوة صوتية، وإشارات اجتماعية، وأساليب تقليدية، وإيماءات تبعث إلهامات، فإن استطاع المترجم أن ينقل المعاني المعجمية، فلا يستطيع أن ينقل الهالات والنغمات والإيماءات. ومع هذا فشيء خير من لا شيء، وعصفور في اليد خير من كركي في الجو.

ومعذرة لرجال الآثار المصرية، فقد رأينا ما ترجموه، قد راعوا فيه الترجمة العلمية، فحولنا ما اخترنا من تراجمهم إلى لغة أدبية لتناسب موضوع الكتاب، كما رأينا ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية لا يتفق والذوق الأدبي للغة العربية، لا من حيث لغته، ولا من حيث أسلوبه، فأنشأنا ما اخترناه إنشاء عربيا جديدا مع المحافظة على المعنى ما وسعنا.

وحزرنا أن يقع الكتاب في ثلاثة أجزاء: الجزء الأول في أدب العصر القديم وأدب العصور الوسطى، والجزء الثاني في الأدب من بدء النهضة إلى أول القرن التاسع عشر، والجزء الثالث في أدب القرن التاسع عشر إلى اليوم. وسنذكر في آخر الكتاب المصادر التي اعتمدنا عليها إن شاء الله.

والله المسئول أن ينفع به، ويعين على إتمامه.

أحمد أمين

5 جمادي الثانية سنة 1362ه

8 يونيه سنة 1943م

قصة الكتابة

أرأيت إلى صفحة مطبوعة تنشرها أمامك؟ إنها لتنشئ فصلا رائعا من قصة ممتعة ترجع فصولها الأولى إلى الماضي السحيق، وهي قصة بلغت من السعة والعمق مبلغا يستحيل على إنسان واحد أن يلم بأطرافها. ومن ذا الذي يدري متى وأين بدأت هذه القصة في الظهور، وماذا تبديه في مستقبل الأيام؟ وما ظنك بقصة كتبتها الإنسانية كلها منذ دب على ظهر الأرض إنسان؟

بل إننا اليوم أجزاء حية من هذه القصة ، فلنبدأ حيث نقف اليوم، ثم لنعد مع السنين القهقرى حتى نبلغ من الرواية بدايتها؛ فعيناك قد ألفتا أن تنظرا إلى صفحات مطبوعة، حتى لم يعد يستوقف هذا الضرب من الكتابة منك النظر. وعلام تعجب وأنت ترى الصحيفة اليومية المطبوعة في انتظارك كل صباح على مائدة الإفطار؟ دراهم معدودة كفيلة أن تأتيك بآية الآيات من رفيع الأدب، مطبوعة في كتاب أنيق جميل، فأصبحت وكأنما إخراج المطابع للكتب أمر مألوف لا دهشة فيه ولا عجب، مع أنه في حقيقة أمره يستثير كل عجب وإعجاب. انظر إلى هذه الوسائل التي تتوسط بين قلم الكاتب وعقل القارئ؛ فلعل أعجبها هي المطبعة التي قد يكون لها من الأثر في المدينة الحديثة ما ليس لعامل آخر على الإطلاق؛ وقبل أن تدور من المطبعة عجلاتها لا بد أن تكون آلات أخرى قد أخرجت الأحرف مسبوكة جميلة الرسم بديعة التنسيق؛ ولا خير في هذه الأحرف إن لم تكن مصانع الورق قد أخذت تخرج من لباب الشجر وبالي الخرق مثل هذا الذي تسرح فيه بصرك من ورق صقيل جميل. فإذا ما أعد ذلك كله، أخذت المطبعة تفيض بأوراقها المطبوعة لتسلمها إلى آلات تطويها فتغلفها بين جلدتين، فإذا هي كتاب منشور بين يدي قارئ في ناحية من نواحي الدنيا الفسيحة الأرجاء.

سر خطوة قصيرة إلى الوراء لتبلغ عصرا كان يجهل قوة البخار والكهرباء، فكانت المطابع - كسائر آلات الصناعة - تدار بالأيدي، فماذا ترى؟ ترى القوم يخرجون الكتب متقنة الصنع جميلة الشكل، إذ كانت تطبع على ورق من ألياف التيل، فعوض آباؤنا من قلة النسخ المطبوعة من الكتاب الواحد متانة الصناعة التي تؤدي إلى طول البقاء؛ وهكذا حسنات الرقي كثيرا ما تتبعها السيئات، ونواحي الإصلاح كثيرا ما تلاحقها نواح من الفساد. فلئن كان آباؤنا قد طبعوا كتبهم بمطابع الأيدي، على ورق من صنع الأيدي، فلقد أخرجوا كتبا أقوى بناء من معظم ما تخرجه مطابع اليوم، وأبقى على وجه الدهر؛ إذ الورق الذي نستخدمه اليوم مصنوع من لب الخشب، ممزوجا بأحماض قوية، فسرعان ما يصفر وجهه وتضعف قواه، ولولا تلاحق الطبعات للكتاب الواحد لأسرع إليه الزوال. على أن آباءنا إلى جانب ما كان لهم من كتب متينة، كانت لهم طباعة رديئة، فكم صغرت الأحرف ودقت حتى أجهدت أبصار القارئين، اقتصادا للورق، فضلا عن قلة الكتب وارتفاع ثمنها، فلم يكن في مستطاع كثير من الناس أن يقتنوها.

إلى هنا قد خطونا إلى الوراء خطوتين هما: عهد المطبعة تدار بالكهرباء، وعهد المطبعة تدار بالأيدي. ثم قف لحظة وقفة إكبار وإعجاب أمام دكان صغير لرجل ألماني عاش في منتصف القرن الخامس عشر، وهو يوحنا جوتنبرج،

1

الذي يعد - بحق - أبا الطباعة غير مدافع؛ فهو الذي ابتكر وسيلة لصب الحروف بحيث يمكن نقلها وتحريكها، فيسهل رصها في سطور وصفحات. وليتنا ندري أي كتاب أخرج هذا الطباع الخالد، فليس في المتاحف كلها كتاب يحمل اسم جوتنبرج؛ غير أن الأناجيل اللاتينية التي ما يزال بعضها باقيا، يرجع الفضل في طبعها إليه مع نفر من الأعوان والأتباع. ولنذكرها عبرة من عبر الزمان أن هذا المخترع العظيم - ككثير غيره من رجال الاختراع ممن يدين لهم العالم بالفضل الجزيل - قد دفعته الحاجة أن يرزح تحت عبء من الدين، لم يكن له بوفائه قبل، فجاءه الدائن وانتزع منه ما يملك من أدوات وأحرف، وخلفه لفاقة فموت. وليس من شك في أن ذلك الدائن قد انتفع بما أخذ من جوتنبرج، فلم يمض على الدنيا نصف قرن من الزمان حتى انتشرت الطباعة على وجه أوروبا من الشمال إلى الجنوب.

ثم ماذا قبل المطبعة والطباعة؟ تابع الرحلة إلى الماضي البعيد حتى تبلغ عهدا لم تعرف فيه أوروبا كيف يكون الورق، أو عرفت منه القليل الضئيل؛ إذ الورق صنيعة أهل الصين، ثم أهل مصر، وعنهم أخذ العرب الذين علموا صناعته لجيرانهم من أهل الغرب؛ فالأوروبيون مدينون بهذه المادة - التي لها من القيمة في تقدم العلوم ما لها - لثلاثة أجناس من أجناس البشر، وهم الصينيون والمصريون والعرب.

وقبل أن يذيع استخدام الورق، كانت تكتب الكتب والوثائق والرسائل على نوع خاص من الجلد؛ والجلد بطبعه طويل البقاء بطيء البلى، فما نزال نرى في المتاحف صفحات من الجلد خطت كتابتها منذ ثلاثة آلاف عام على أقل تقدير؛ فالغنم والأبقار التي تغذي أجسامنا بلحومها، قد أتمت على الإنسان نعمتها فوهبته جلودها، لا لينتعلها ولا ليلبسها فحسب، بل ليتخذ منها حافظا أمينا يصون له ذخر الآداب مدى آلاف السنين.

وكان الفرس يكتبون في جلود الجواميس والبقر والغنم. وكانت العرب تكتب في أكتاف الإبل وفي العسب - وهو جريد النخل يكشفون الخوص عنه ويكتبون في الطرف العريض منه - كما كانوا يكتبون في اللخاف، وهي الحجارة البيض الرقيقة، وأحيانا يكتبون في الجلد. وفي هذا كله كتب القرآن الكريم أول ما نزل في عهد النبي، فكانوا يكتبون الآيات في العسب واللخاف وعظام الأكتاف والأضلاع والأدم (الجلد).

ولقد حفظت لنا الكتب المكتوبة على الجلد الجزء الأعظم من تراث الأدبين اللاتيني واليوناني، كما حفظت أكثر ما خطه الإنسان في القرون المسيحية الوسطى التي امتدت أربعة عشر قرنا؛ فقد أخذ النساخ يكتبون على صفحات من الجلد المتين ما وجدوه مكتوبا على أوراق البردي المهلهلة من آيات الأدب القديم، وكان هؤلاء النساخ - من الرهبان والقساوسة - يتخذون من الأديرة ملاذا للعمل والمأوى، تلك الأديرة التي ظلت قرونا عدة آمن ما يلوذ به رجال العلم من مكان. وليس من شك في أن هؤلاء النساخ قد وجهوا همهم الأكبر فيما ينسخون إلى الكتب المقدسة، فنسخوا الإنجيل وسائر المخطوطات التي منحوها التقديس. على أن بعض هؤلاء النسخة من الرهبان قد اتجهوا إلى إحياء الآداب القديمة؛ فكم من راهب أنفق جهده في إخراج كتاب أدبي، أو في تحقيق نص مجهول. وها هي ذي متاحف الفن ودور الكتب تحوي نماذج فخمة من هذا العمل الجليل الجميل، ولا نزال نشاهد بعض هذه الكتب التي نشروها وزخرفوها بأحرف مذهبة وألوان ناصعة كأنما نقشت بالأمس القريب.

ولئن كان استخدام الجلد للكتابة يرجع عهده إلى ماض سحيق، إلا أنه لم يكن شائعا؛ فلو كنت ممن عاشوا في روما أو أثينا قبل القرن الرابع الميلادي وأردت أن تبتاع نسخة من كتاب لفرجيل

2

أو هومر،

3

لما ظفرت به مكتوبا على صفحات الجلد، بل لوجدته يباع مكتوبا على مادة من الورق صنعت من ألياف نبات جاف هو البردي؛ والبردي نبات مائي قوي ينمو في مصر، تؤخذ سوقه وتشق وتضغط وتجفف، ثم تصنع منها الأوراق. وكانت مصر تبعث بهذه الأوراق البردية إلى اليونان وإلى روما وغيرهما من البلدان المجاورة، وعلى هذه الأوراق كانت تكتب روائع الأدب اليوناني والأدب اللاتيني، حتى شاع استخدام صحائف الجلد.

إن العالم إذ يذكر قدماء المصريين بالإعجاب، يرى أول ما يستثير إعجابه أهرامهم الشوامخ، وما خلفوا من أنفس الذخائر في مقابر ملوكهم، ولكن تلك الآثار على جلالها وخلودها لم تضف إلى المدنية ما أضافته هذه اللفائف الضئيلة الهزيلة من أوراق البردي، التي أتاحت للمصريين وسائر أمم البحر الأبيض أن يسجلوا أفكارهم فيخلدوها. ولم يقف فضل المصريين على المدنية فيما يتصل بالكتابة أن صنعوا الورق في صورته الأولى، بل لعلهم كذلك أول شعب ابتكر كتابة تمثل الحروف المنطوقة، فأثروا بذلك في سير المدنية تأثيرا قويا مباشرا.

وكان المفتاح الذي يفتح مغاليق كتابتهم مفقودا مدى قرون طوال، ثم أراد الله لأصحاب العلم أن يفكوا تلك الرموز في عهد حديث، لا يذهب في الماضي إلى أكثر من قرن واحد، وذلك حين وجد «بوسار»

4 - وهو مهندس في حملة نابليون على مصر - حجر رشيد المعروف، وهو حجر نقش عليه بيان طويل أصدره القساوسة المصريون تكريما لأحد ملوكهم. والبيان منقوش على الحجر في ثلاث لغات: نقش بالأحرف الهيروغليفية، وباللغة الديموطيقية - وهي لغة كان يتكلمها أهل مصر حين نقش الحجر - كما كتب باللغة اليونانية. ولما كانت اليونانية لغة معروفة مألوفة، أمكن بعد جهد طويل أن تقارن بها الكتابة المصرية وتحل رموزها. ويرجع الفضل في هذه المقارنة وفك الرموز إلى العالم الفرنسي شامبليون.

5

وأصبح اليوم يسيرا على عالم الآثار المصرية أن يقرأ المكتوب على المسلات والتوابيت، بل استطاع علماء اليوم أن ينطقوا أبا الهول بعض سره المكتوم.

فإذا جاوزت مصر إلى ما يجاورها من بلاد الشرق، ألفيت فينيقيا على الساحل الشرقي للبحر الأبيض، وصادفت في أبنائها شعبا يعمل ويتاجر، ولا يخصص من مجهوده للثقافة إلا قليلا. ومع ذلك فقد أريد لهؤلاء الفينيقيين أن يكونوا بحق أصحاب الفضل علينا في كل كتاب نطالعه، لأنهم هم الذين أنشئوا حروف الهجاء مكان الكتابة المصورة التي اصطنعها المصريون من قبل! ولا بد أن تكون هذه الأحرف الهجائية قد نشأت عندهم قبل الميلاد بما يقرب من ألف عام؛ حيث كان استخدام البردي شائعا معروفا؛ وأتاح وجهه الصقيل للكاتب أن يجري عليه كتابة مرنة سهلة كهذه الكتابة التي ابتكرها الفينيقيون، ومن يدري؟ فلعل الفينيقيين أن يكونوا قد اتخذوا من هذه الكتابة سلعة تباع فتعود على أصحابها بربح وافر؛ فقد كانوا يشترون من مصر فيما يشترون أوراق البردي، ثم يبيعونها إلى اليونان وغيرهم مضافا إليها ما ابتكروه من أحرف الهجاء.

فإذا خطوت في أغوار الماضي خطوة أخرى قبل عهد البردي، بلغت زمانا كانت مادة الكتابة فيه من الجوامد الثوابت التي لا تكاد تنتقل من مكانها، وذلك هو بمثابة العصر الحجري للعلوم والآداب؛ إذ كان المصريون الأوائل وغيرهم من الشعوب القديمة ينحتون ما يكتبون على عمد وجدران؛ ولكن لولا أن أسعفت الكتب هاتيك الأحجار لفني ما خط عليها في عهد قريب أو بعيد، لأن الزمان الذي يأكل كل شيء يبيد جلاميد الصخر فيما يبيد. زد على هذا أن الكتب قد يسرت للعلم المنقوش على الحجر أن يدور بين قراء العالم في سهولة ويسر؛ وإلا فكيف كانت تكون مكتبة جدرانها من الصخر ومكنوناتها من الصخر؟ وكيف تكون مثل هذه المكتبة ذات نفع لقارئ يطالع في داره مستدفئا بنار مدفأته، أو مستلهما هدوء مكتبته؟

ولئن كان المصريون الأولون ينقشون آثارهم على جلاميد الصخر، فقد كانت بابل تكتب آثارها على ألواح من الطفل، وهي أيسر من تلك حملا وأخف ثقلا، وإن كانت أسهل كسرا، ولكن على الرغم من خفتها فأين هي من الكتاب المطبوع؟ وإن أردت أن تقدر نعمة هذا العصر - عصر المطبعة - فسائل نفسك كيف يكون الأمر إذا أنت طلبت إلى بائع الكتب في عصر الكتابة على ألواح الطفل أن يبعث إليك بنسخة من كتاب جديد؟ عندئذ تجيئك عربات مثقلات بأحمال من اللبنات! قد يسأل: وهل كان يحدث ذلك أيام البابليين؟ والجواب أنه لم يحدث، لأن القراءة الشعبية لم يكن لها وجود، ولم يكن يعرف القراءة والكتابة إلا نفر قليل من القساوسة والنساخ، وكانت الكتابة مقصورة على موضوعات الدين وأعمال الملوك.

لكن الآداب والعلوم مدينة في تقدمها - أيضا - لاستخدام مادة للكتابة فيها خفة ونعومة ومرونة، لتهون الكتابة عليها، فيسهل تسجيل الأفكار فيها وتبادلها. وثمة مادة توفرت لها المتانة والخفة وسهولة الاستعمال، وتلك هي الخشب؛ فهو إذن جدير من هذه القصة بمكان ظاهر؛ فعلى ألواح شقت من أشجار الزان كان «السكسون» القدماء يكتبون؛ فاذكر بعد اليوم إن قرأت كتابا تحت شجرة أن من هذه الشجرة التي تمدك بالظل، جاء هذا الكتاب الذي يمدك بالنور.

فمن الصخر الذي نقش عليه الأقدمون، نبتت الشجرة التي كتب على أخشابها وقشورها المحدثون، وعلى أفنانها اتخذت الطيور أعشاشها، فاستمد الكاتب منها «ريشته»، وفي ظل هذه الشجرة - شجرة النور والعرفان - يجلس الإنسان ليقرأ الكتب وينشئ الأفكار.

قد تطالبنا الآن أن نقيس لك هذه الأعصر المتعاقبة بعضها إلى بعض، ونحن عن ذلك نجيب: تصور تلا من الكتب يرتفع ما ارتفعت إحدى نواطح السحاب، ثم اجعل هذا التل يمثل ما لبثه الإنسان على وجه الأرض من قرون؛ فالكتاب الذي في الذروة يمثل عصر الكتاب المطبوع، والكتب الثلاثة أو الأربعة التي تليه تمثل عصور الكتابة اليدوية على صحائف الجلد والبردي؛ والكتب الستة التي تجيء بعد ذلك تمثل عصور النقش على الصخر والآجر والخشب، فإن هبطت بعد ذلك في تل الكتب بضعة أقدام، صادفت ترقيما وتصويرا ونقشا، خلفه الإنسان الأول ولم ندخله في عصور الكتابة لأن تفسيره عز على أفهام العلماء. ثم ماذا في بقية التل وقد بقي جزؤه الأكبر؟ كلها كتب صحائفها بيض، إما لأنها تمثل عصورا طويلة لم يكتب فيها الإنسان، وإما لأن الزمان قد أتى على ما خط في صحائفها فمحاه من صفحة الوجود.

نشأة الأدب

انتهى بنا الفصل الأول إلى أن الجزء الأعظم من تاريخ الإنسان خلا من كتابة وكتاب، وأنه لو كان لأسلافنا الأولين أدب فقد ذهب أدراج الرياح؛ ولكنا نرجح أن ذلك العصر الطويل الذي خلا من الكتابة لم يخل من أدب؛ فليس من شك في أن القوم عندئذ كانوا يتفاهمون ويبعثون الرسل بالكلام المنطوق، وإن عز عليهم أن يثبتوه في مكتوب، فنحن على حق إن زعمنا أن الإنسان تكلم قبل أن يكتب.

لا بد أن تكون الأفكار - وهي أحد عناصر الأدب - قد أنشئت قبل أن تدون بزمان طويل؛ فقد كان آباؤنا الأولون الذين سكنوا الكهوف يجلسون حول النار يستدفئون، ثم يأخذون في قص الأقاصيص حول ما صادفهم من الحيوان في صيد النهار، وما وقع لهم مع جيرانهم من ضروب القتال والنزال. ولا بد أن يكون أولئك الآباء قد أنشئوا القصص حول آلهة الأنهار والأشجار. ومن ذا يشك في أن القوم كانوا بعد عناء النهار يجلسون فينشدون الأناشيد، وأنهم كانوا يلقنون الأبناء حكمة الآباء؟ صنعوا ذلك فوضعوا أساس الأدب، بل وضعوا كذلك أساس القانون والأخلاق والدين.

إن هذا الذي نزعمه قائم على أساس متين من الشاهد والبرهان؛ فأولا: ليست أقدم القصص المكتوبة التي وصلت إلينا صبيانية فارغة، بل هي مملوءة بالحكمة وتجارب الأيام، ولا يمكن للإنسان أن يخلق مثل هذه القصص بين عشية وضحاها، بل لا بد لها من قرون طوال تنشأ فيها وتنمو؛ وثانيا: لا يزال يعيش في أنحاء الأرض هنا وهناك أقوام من البشر في طور الجاهلية الأولى، فهم لذلك يشبهون أولئك الأسلاف الأولين؛ ولهؤلاء الأقوام قصص وقوانين يرثونها جيلا عن جيل، من غير تسجيل؛ فالأرجح أن يكون أسلافنا كهؤلاء: فكروا وعبروا قبل الكتابة والتدوين.

إذن فقد لبث الأدب زمنا طويلا يعتمد على الرواية قبل أن يعتمد على الكتابة، ولا يزال الجبليون الأجلاف في أمريكا يرددون القصائد الطوال التي هبطت إليهم من أجدادهم النازحين من إنجلترا في ماض بعيد. ولقد قام بعض العلماء بمقارنة ما ينشده هؤلاء الجبليون من القصائد بأصلها، ليروا كم أصابها من التلف حين اجتازت هذا الشوط البعيد في ذاكرات الحافظين، فوجدوها محتفظة بروحها الأولى، وإن يكن قد أصاب ألفاظها تبديل يسير. وكلنا يعلم كم ظل الأدب العربي يرويه اللسان ولا يكتبه القلم، وحسبنا ذلك دليلا على أن الأدب قد يزدهر بين قوم لا يكتبون.

وإذن فلم تخل حياة الإنسان من أدب في مرحلة من مراحلها؛ غير أن الإنسان قد أنشأ الشعر وأنشده قبل أن يكتب نثرا فنيا؛ فالشعر لغة الوجدان والنثر الفني لغة العقل. وإن الإنسان ليشعر بوجدانه قبل أن يفكر بعقله.

فالهمجي الذي عاش قبل التاريخ عاريا في الغابات، يتسلق أشجارها ويقفز بين أغصانها صائحا: «را، را، را، بو، بو، بو» هو الواضع الأول لأساس الشعر المنظوم؛ فقد أخذت هذه الصيحات الأولى تصاغ في أناشيد قبل أن يبتكر الإنسان ألفاظ اللغة للتعبير عن أفكاره؛ حتى إذا ما جاء طور اللفظ، كانت قد أعدت قوالب الشعر وأوزانه، فانصب فيها اللفظ الجديد، فكان منه شعر منظوم مفهوم، بعد أن كان الشعر صيحات يمرحون بها في الرقص، ويهتفون بها في الغضب، ليهب الناس للقتال، ويناغمون بها وقع المجاديف في الماء، أو وقع أقدام الإبل في الصحراء.

كان الشعر - إذن - أول مراحل الأدب، فلما سارت الإنسانية في طريق المدنية شوطا، وبلغت حد الترف والفراغ، هدأت العاطفة الحادة بعض الشيء، وزاد التفكير المنظم، فلما عبر الإنسان عن تلك الأفكار جاء تعبيره نثرا. ولسنا بالطبع نعني بهذا أن الإنسان بدأ يتكلم شعرا بل هو بدأ يتكلم نثرا غير فني، ولكنه لما أراد أن يعبر عن عواطفه بطريقة فنية عبر عنه شعرا ثم نثرا فنيا، كما أنا لا نعني أن الشعر ظهر ثم زال ليفسح المجال للنثر الفني، بل إن الإنسان - في كل عصر حتى في عصر المدنية - كلما جاش صدره بالعواطف الحادة لجأ إلى الشعر، وقد يزخرفه بمحسنات صناعية تجعل للألفاظ والأنغام وقعا في آذان السامعين، فقد ظل الشعر ألوفا من السنين يقرض لينشد في صوت مسموع، لا ليقرأ في صمت على ورق مطبوع؛ فكان الشاعر بمثابة الممثل، يتفنن في إخراج اللفظ ليبلغ الغاية في امتلاك القلوب.

ويكاد الشعر يتطور في مراحل معينة في كل عصر وفي كل أمة، فهو يبدأ صورة ساذجة للتعبير عن العواطف، ثم يستخدم المحسنات اللفظية، ثم يمعن في ذلك حتى تختفي العاطفة نفسها وراء زخرف الألفاظ، ثم يثور الناس والشعراء على المبالغة في الصناعة فيرتد الشعر مرة أخرى إلى التعبير البسيط عن العواطف.

كان الشعر أول الصور الأدبية ظهورا، وكان الكهان من أول الأدباء المنشئين، فهم الذين صاغوا أناشيد الحرب وقصص الأبطال وعقائد الدين في قالب الشعر ليسهل على الناس حفظها. ثم أخذ الأدب بعدئذ يتطور في صوره كلما تطور المجتمع في أوضاعه؛ فليس الأدب سوى ظاهرة اجتماعية تنشئها العوامل الطبيعية التي تنتج كل الظواهر الاجتماعية الأخرى. والاجتماع قائم على أساس المادة، أي على أساس الغذاء، يتطور المجتمع ويترقى كلما تطور مورد الغذاء وتكاثر.

فكلما توافر الغذاء وسهلت أسبابه، أصبح المجتمع قوة منظمة، وأخذ يسعى - وقد استتب له النظام والطمأنينة - نحو الرقي الأدبي. فحياة الإنسان الأولى كان نظامها المختل غير المستقر نتيجة حتمية لتيهانه في الأودية والأصقاع، ينشد الصيد الذي يقتات به؛ فكان الأدب بين تلك القبائل الأولى متواضعا، لا يزيد على أنغام تتم على توقيعها حركات الرقص، فإن تعدى ذلك فإلى غناء يتكون من لفظة أو لفظتين، وإلى قصص خرافي حول آلهة الأشجار والأنهار وما إليها من ظواهر البيئة، فإذا جاءت مرحلة الرعي استتب لقبائل الرعاة نوع من الاستقرار، ولم يعد الإنسان معتمدا في قوته على مجرد المصادفة العارضة، بل أصبح مورد غذائه مكفولا نوعا ما، وتوفر لديه بعض الأغذية الزائدة عن حاجته، فأحس شيئا من الاطمئنان نحو المستقبل، ووجد بعض الفراغ في الوقت والفكر يصرفه في التفكير والأدب، وانفسح المجال بعض الشيء أمام الشخصية الفردية لتظهر، بعد أن كانت معدومة بكل معاني الكلمة في الإنسان الأول الذي يحترف الصيد. أما وقد توفر القوت، فكان من الطبيعي أن يستولي الرجال الأقوياء على القوت المدخر، ويصبحوا قادة لإخوانهم، وإن كانوا قادة تقيدهم تقاليد القبيلة إلى حد كبير.

هذا النظام الاقتصادي وما يتولد عنه من نظام سياسي، ينعكس تأثيرهما على الأدب الشفوي للقبيلة، لأن الأدب هو التعبير الجميل عن العاطفة والإرادة والخلق، فترى الأدب الذي يزدهر في مثل تلك المرحلة شعرا حماسيا يشيد بالخلال التي يتحلى بها رئيس القبيلة المسيطر على المجتمع، أو بمزايا القبيلة نفسها، أو بهجاء من عاداها من أفراد وقبائل أو نحو ذلك. •••

ثم يظهر نظام الأوتوقراطية (نظام الحكم المطلق) في أمم وجماعات نشأت في أراض قريبة من البحار والأنهار الكبيرة؛ أراض تنبت غلات غذائية وافرة، فيصبح المدخر الغذائي أكثر مما كان، وتتسرب ثروة البلاد إلى أيدي الذين استولوا على معظم السلطة، فيصبح الملوك وفي استطاعتهم أن يعتلوا ذروة الرفعة والمجد، وأن يمتلكوا أقصى الثراء والغنى، ولا يعود المجتمع كما كان قبل؛ مجموعة من الرعاة القبليين يرأسهم من لا يكاد يزيد عليهم في الثروة، بل يصبح الملك ومعه قليل من الرؤساء في طبقة، وتصبح عامة الناس في طبقة أخرى، فيلجأ الرجال الذين وهبوا ملكات ممتازة إلى التغني بالترانيم والشعر القصصي، يشيدون فيه بمجد الملوك والقادة، ومجد الآلهة والأبطال الذين بنوا صرح الأوتوقراطية؛ ومعنى هذا أن أدب الأوتوقراطية - المتمثل في الترانيم والملاحم - ليس إلا مجرد ظاهرة اجتماعية أنتجتها الظروف المادية.

في هذا الطور الأوتوقراطي لا يعتمد المجتمع على ما بين أفراده من وحدة الدم ورابطة النسب، بل يكفي لارتباط الجماعات سيطرة الملك على البلدة الأصلية والبلاد المجاورة، بوسائط الحرب أو بالوسائل السياسية. وفي مقابل الولاء الذي يقدمه رؤساء هذه البلاد يتعهد هذا الملك أو الرئيس الأكبر بحمايتهم من العدوان الأجنبي.

هذه الجماعات المتفاوتة في النزعات، المتنوعة في الأغذية، تخضع كلها لقانون واحد، وتصبح معاملاتها المتبادلة حافزا على الاختراع والابتكار، ويوسع ذلك من أفقها الفكري الذي لا يخطو المجتمع بدونه نحو المدنية والحضارة، ويشجع - من طريق مباشر أو غير مباشر - التجارة الأجنبية، لتجد الأوتوقراطية سوقا تصرف فيه صناعتها وغلاتها.

وإذ تتنوع حاجات الناس وتتعدد مطالبهم تتعدد كذلك أشكال الأدب؛ إذ الإنسان في هذا الطور يكون قد تقدم فكره واتسعت تجاربه، فأدبه يرقى بتعلمه من هذه التجارب، وتعلمه إتقان التعبير عنها.

ثم إن تغير الوسيلة التي يقيد بها الأدب - من المشافهة والرواية إلى التقييد بالكتابة - يدفع الأدب في سيره إلى الأمام، فالكتابة هي التي ستنتشل الأدب الأوتوقراطي، والأدب الديمقراطي من بعده، من أصوله البدائية إلى مكان أسمى ومنزلة أرفع.

في هذا العصر الأوتوقراطي نجد الأمم المتمدنة القديمة قد عرفت التمثيل، وأدارته حول موضوعات دينية وأساطير خرافية فاضت بها الروح الأدبية أكثر مما كانت في العصور القبلية - نجد ذلك في «بابل»: فكان الملك والكهنة يشاركون في الحفلات الدينية، التي كانت نوعا دينيا من المسرحية، وكان المعبد يقوم مقام المسرح، وكان لمصر القديمة كذلك رقص وموسيقى، وكان لها مسرحيات دينية تصطبغ بصبغة العقائد المقدسة، ولم يكن الكهنة وحدهم هم الذين يقومون بالتمثيل في هذه الروايات، بل كان العامة يشاركون فيها أيضا - وكان لليونان القديمة التي وصفها هوميروس الشاعر، أعيادها المقدسة تقام فيها حفلات التمثيل والرقص والغناء.

كل ذلك على نمط أرقى مما كان عليه البدو أيام بداوتهم.

كما نرى الشعر يتطور في هذا العصر الأوتوقراطي، سواء في ذلك الشعر الغنائي الذي يعبر عن العواطف أو الشعر القصصي كشعر الملاحم؛ فأغاني الحرب والزواج ترتقي في أسلوبها وعاطفتها وتصبح أكثر تجانسا وانسجاما؛ ونرى شعر المغنين المحترفين آخذا مكان شعر العامة، أعني أن الشعر الذي يقصد الشاعر إلى إنشائه، ويحتفل لإنشاده، آخذ في الحلول محل الشعر الذي تولده المصادفة؛ وأصبحت صولة الجمال وانصقاله بالحضارة يعمل في الشعر بالنمو والتزايد والصقل؛ ورأينا الشاعر يأخذ في التعبير عن الحياة الإنسانية الباطنة - حياة العاطفة - وعن الحياة الإنسانية الظاهرة - حياة الخلق والسلوك - وأخذت البحور والأوزان تتنوع وتتعدد بسبب نمو الخيال المبتكر ودقة الأذن الموسيقية.

وكذلك الشعر القصصي، فهو يبلغ ذروته في هذا الطور الأوتوقراطي، ويرجع ذلك إلى السلطان المطلق، والتملك التام، والثروة الوافرة؛ فلا شيخ القبيلة في الطور القبلي، ولا الرئيس في الطور الديمقراطي، يملكان مثل هذه السيطرة المطلقة. فكثير من الأمم في هذا الطور كان يعتقد أن الملك يستمد سلطانه من الله لا من الأمة، فتصبح هذه الفكرة شعارا جديدا للأساطير الدينية والخرافات والتهاويل، ويصبح هذا الحاكم المتصل بالآلهة والأبطال الماضين رمزا تنسج حوله أقاصيص التقديس والتبجيل، وعلى الأخص حين يكون هذا الملك بطلا في فنون الحرب، بصيرا بأساليب القتال؛ ومن هنا ينشأ شعر القصص أو شعر الملاحم.

أما النثر الفني في هذا الطور الأوتوقراطي فينشأ حول النصوص الدينية وحكايات السحر والخطابة والرسائل وقصص الجن، ويتسع مداه وموضوعاته أكثر مما كان في العصر القبلي، ويرتقي في الشكل والقالب، وفي الفكرة والموضوع والخيال. نشاهد ذلك في أقاصيص بابل وأساطيرهم، وفي أساطير الهند، وفي قصص المصريين كقصة خوفو والسحرة، وفي أساطير اليونان.

وكان النثر الأوتوقراطي أصعب في الإنشاء من الشعر، ويبدو ذلك جليا من قلة التراث النثري إذا قيس بالتراث الشعري، لأن قواعد موسيقية النثر الفني لم تكن مضبوطة، بل هي حتى في أزماننا ليست مضبوطة مفصلة. ويبدو أن بابل قد فاقت الهند ومصر واليونان الأولى في فن إنشاء الرسائل، كما فاق النثر المصري في باب تحليل الشخصيات. •••

وأخيرا تأتي الديمقراطية ويتنوع فيها النشاط الاقتصادي، وتتعدد صوره أكثر مما كانت، وينشأ رجال يستكشفون ميادين جديدة للحصول على الرزق فيكدسون المقادير الهائلة من الثروة، فينعكس كل ذلك على أوضاع الأدب، كما ينشأ رجال مليئون بروح المغامرة، يزورون الأقطار البعيدة، ويتصلون بثقافتها الفكرية؛ هؤلاء الرجال المغامرون المفكرون لا يرضيهم أن يظلوا في تفكيرهم خاضعين لسلطان حاكم مطلق يبسط على الجميع نفوذه، فيعملون على دك صرح الأوتوقراطية، ويجدون أتباعا يعاونونهم على هدم هذا النظام ووضع أسس النظام الديمقراطي الجديد. وهذا النظام الناشئ قائم على تقدير ذاتية الفرد واستقلاله، فيكون لهذا الاتجاه أثره السريع في الأفكار الجديدة، والمخترعات الجديدة، والصناعات الجديدة، والأوضاع الأدبية الجديدة.

فإن كان الأدب القبلي محدودا بحدود الإقليم، لأنه أدب قوم يعتقدون أنهم يجمعهم أصل دموي واحد، وكان الأدب الأوتوقراطي لا يصطبغ بهذه الصبغة الإقليمية، ولكنه يمجد الطبقة الحاكمة، فالأدب الديمقراطي يعنى بشخصية الفرد المتميزة وذاتيته المتفردة، ويقدر شخصية كل فرد؛ عظيما كان أو وضيعا. فهذا تدرج في الأدب نحو تقدير الفرد وذاتيته، تبع تدرج المجتمع نحو هذا الغرض نفسه.

فالأدب الديمقراطي الحق هو تعبير عن التسامح والعطف، والسماح لحرية الرأي بالظهور. وهذا الأدب الديمقراطي ينبت - أولا - في جماعات يسود فيها النظام الأوتوقراطي فيتكون فيها جماعة من الأدباء والمفكرين ينقدون بيئاتهم ونظمهم الاجتماعية، وينادون بنظام خير من هذا النظام الذي تتحكم فيه طبقة خاصة، فيكونون هم طلائع الأدب الديمقراطي.

ويتنوع الأدب في العهد الديمقراطي بأكثر مما تنوع في العهد القبلي والأوتوقراطي، فتعمل الديمقراطية على ترقية الأدب التمثيلي الذي يصور حياة الفرد، وتوجه أكبر عنايتها إلى تحليل حياة العامة والجمهور، لا حياة الأفذاذ من الأبطال والملوك، ويساعدها على ذلك تجمع الناس في مدن محصورة تسمح بالملاحظات اليومية، والتجارب الاجتماعية وتحليل الصنوف المختلفة من الشخصيات الإنسانية، فالأدب التمثيلي الديمقراطي إن لم يعن بحياة البلاط والحياة الدينية الشعبية عناية المسرحية الأوتوقراطية، فإنه يفوقها في الاهتمام بالطبع البشري والجبلة الإنسانية.

وقد كانت أثينا الجمهورية أولى من أقامت المسارح لتسلية الجمهور وتثقيفه، فارتقى الأدب التمثيلي على يدها، وحذت حذوها الأمم الأوروبية عندما اعتنقت الديمقراطية.

كذلك تطور الشعر تطورا جديدا؛ فأكثر الشعر القبلي تظهر فيه روح القبيلة لا روح الفرد، وقلما تظهر فيه شخصية الشاعر نفسه من حيث شعوره وعواطفه الذاتية. وكان الشعر في العهد الأوتوقراطي ينحو نحو تقديس الأبطال وتمجيد العظماء، ومدح الملوك والأمراء، وشغل الشاعر بذلك عن نفسه. أما في العهد الديمقراطي فقد أحس الشاعر شخصيته، وبانت له عواطف ذاتية مستقلة، من حقها أن تظهر وتصور في شعره.

ويظهر أن الشعر القصصي لم يبلغ في العصر الديمقراطي مبلغه في العصر الأوتوقراطي، ولم يعد الناس يقدرونه تقدير الأولين، لأن الأوضاع الاجتماعية تغيرت، فإذا أراد الفكر الحديث المحلل أن يغذي عاطفته القومية بسير الأولين، فإنه يفضل أن يلجأ إلى النثر التاريخي لا إلى الشعر القصصي، وقد حاول بعض الشعراء المحدثين أن ينظم ملاحم كما فعل ملتن في «الفردوس المفقود»، ولكنها مع فضلها لم تبلغ روعة الملاحم القديمة.

فإذا نحن وصلنا إلى النثر رأينا أنه لم يشهد عظمته في عصر من العصور كما شهدها في عصر الديمقراطية، وإنا - وقد ألفنا منذ الطفولة استعمال النثر الفني الكتابي - ليعسر علينا أن نتصور هذه الحقيقة العجيبة، وهي أن العالم اضطر أن ينتظر آلاف السنين قبل أن يجيء هيرودوت وأمثاله فيرتقوا بالنثر إلى مرتبة النثر الفني، كما مر على الأدب العربي مئات السنين قبل أن يرتقي الجاحظ وأمثاله بنثره الفني.

وبينما تصر الأوتوقراطية على أن الفرد وجد للدولة والحكام، إذا بالديمقراطية تنادي بأن الدولة والحكام هم الذين وجدوا للفرد، فكانت هذه العقيدة هي المشجع الأعظم للاختراع والابتكار في كل نواحي الحياة ومنها الأدب؛ فترى النثر يرقى في كل أنواعه، سواء في ذلك التاريخ السياسي والرسائل والمقالات الأدبية والنثر الفكاهي والنثر الفلسفي، ثم نرى ولادة الجريدة والمجلة.

ونرى الاتجاهات الجديدة في النثر ممثلة في النثر المسرحي، وكتب الرحلات، والنقد الأدبي النثري، والرواية الواقعية، والقصة الغرامية والتاريخية، ونرى - باختصار - النثر يحتل أعظم مكان في عالم الأدب في القرن الحاضر.

ولا يدري إلا الله عم يتمخض العالم من نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية تؤثر في الأدب فتطبعه بطابعه الجديد، وتوجهه الوجهة الملائمة للبيئة الاجتماعية.

الأدب القديم وبدايته

الفصل الأول

الأدب في الشرق القديم

عرفت من حديثنا إليك في نشأة الأدب، أن تاريخه يبدأ قبل الكتابة بزمن طويل. وكان الرقص أول ما ظهر من الفنون، فإذا ما أرخى الليل سدوله على إنسان العصر الأول، رقص الراقصون حول نار يشعلونها ليمرحوا ويفرحوا بعد ما أصابوه من ظفر ونصر على أعدائهم في ساعات النهار؛ وإنهم في رقصهم ذاك ليصيحون ويصرخون من نشوة الطرب، فلا تلبث تلك الصيحات والصرخات أن تتماسك أجزاؤها، وتنسجم نغماتها، بحيث تناسب توقيع الرقص. وهكذا كانت أول أغنية بدأت في تاريخ الأدب أغنية حربية يتغنى بها الظافرون .

وفي الوقت نفسه كانت فكرة الله عند الناس تستوي وتستقيم في أذهانهم؛ فما إن صارت كذلك حتى أنشئوا الصلوات والدعوات يضرعون بها إلى الله، وكلما تقادم الزمن أخذت تلك الأناشيد الحربية، وهذه الصلوات الدينية، تزداد رسوخا بتكرارها جيلا بعد جيل؛ كل جيل يضيف إلى تراث السالفين.

فلما تقدمت بالإنسان حضارته اضطرته الحاجة إلى الكتابة؛ فقد كان لا بد له من طريقة يسجل بها أشياء يخشى عليها النسيان، وكان لا بد له من وسيلة يخاطب بها من يفصله عنه بعد المكان، لهذا اضطر الإنسان الأول - مدفوعا بضرورة الحياة - أن يصطنع طريقة للكتابة. أما وقد كتب فليدون إذن ما كان قد أنشأه من أناشيد النصر ودعوات الدين. ولا شك أن من كان يستطيع الكتابة والقراءة بين أولئك الأقدمين نفر قليل. وأول صورة ظهرت فيها الكتابة لم تزد على نقوش ساذجة، يصورها كاتب، وينحتها على الصخر ناحت، ثم أصبحت الكتابة نقشا بمسمار على أقراص من الطفل المجفف، وقد وجدت في «كلديا»

1

نماذج من هذه القوالب الطفلية، دونت في إحداها قصة الطوفان، ولعلها أن تكون أقدم أثر مكتوب، وهناك شبه كبير بين قصة الطوفان الواردة في سفر التكوين والرواية الكلدانية التي سبقت التوراة بآلاف السنين.

كان الكاتب في كلديا مأجورا للملك يصحبه إلى حومات الوغى وساحات الحروب، ليثبت لمليكه ما يغزو من المدن، وما يفتك به من الأعداء، وما يظفر به من الغنائم والأسلاب، ثم ليشيد قبل كل شيء بإقدام سيده وبسالته في القتال. وكانت الدولة تستخدم إلى جانب هؤلاء الكتاب طائفة من الكهان تنقش على قوالب الطفل الصلوات والدعوات، وطائفة ثالثة تكتب قواعد الزراعة وحوادث السياسة ومبادئ التنجيم. (1) الأدب المصري

ويشارك الأدب الكلداني في القدم أدب المصريين القدماء الذي سجل على الآثار وأوراق البردي. وأقدم كتاب مصري انتهى إلينا علمه هو «كتاب الموتى» الذي دون في عصر بناء الهرم الأكبر، ولا تزال نسخة منه محفوظة في المتحف البريطاني؛ وفيه دعوات للآلهة وأناشيد وصلوات، ثم وصف لما تلاقيه أرواح الموتى في العالم الآخر من حساب، يتبعه عقاب أو ثواب؛ وكانت توضع نسخة من هذا الكتاب مع جثمان الميت في قبره، ليكون دليلا للروح يهديها في رحلتها إلى العالم الثاني. ومن هذا ترى أن الفكرة الأدبية في مصر القديمة ازدهرت بين جدران المعابد، وأن الجزء الأكبر من الأدب المصري كان قائما على أساس الدين، وهاك مثالا لما ورد في «كتاب الموتى» من الدعوات، وهو ما يدافع به الميت عن نفسه أمام قضاته في العالم الثاني:

السلام عليك أيها الإله الأعظم؛ إله الحق. لقد جئتك يا إلهي خاضعا لأشهد جلالك ... جئتك يا إلهي متحليا بالحق متخليا عن الباطل، فلم أظلم أحدا ولم أسلك سبيل الضالين، لم أحنث في يمين، ولم تضلني الشهوة فتمتد عيني لزوجة أحد من رحمي، ولم تمتد يدي لمال غيري، لم أقل كذبا، ولم أكن لله عاصيا، ولم أسع في الإيقاع بعبد عند سيده. إني - يا إلهي - لم أجع أحدا ولم أبك أحدا، وما قتلت وما غدرت، بل وما كنت محرضا على قتل؛ إني لم أسرق من المعابد خبزها، ولم أغتصب مالا حراما، ولم أنتهك حرمة الأموات، ولم أرتكب الفحشاء، ولم أدنس شيئا مقدسا؛ إني لم أبع قمحا بثمن فاحش، ولم أطفف الكيل ... أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر، أنا طاهر ... وما دمت بريئا من الإثم ... فاجعلني اللهم من الفائزين.

ولكن إلى جانب هذا الأدب الديني، لم يعدم المصريون القدماء أن يكون لهم أدب في تمجيد الملوك، وأن يكون لهم كذلك أدب شعبي يروي ما يدور بين الناس من قصص وأساطير وحكمة وقانون، ولهم في ذلك كتاب «الوصايا» ل «بتاح حوتب».

2

فمن أشهر أساطير المصريين القدماء قصة «أوزيريس»

3

و«إيزيس»،

4

وخلاصتها: أن أوزيريس كان رسول الله في الأرض يحكمها بالعدل، فعلم الناس كيف يفلحون الأرض، وكيف يستخرجون المعادن من بطونها، وكان يلهمه هذه الرسالة «تحوت»

5

إله العلوم والمعارف؛ فلما أراد «أوزيريس» أن ينشر الحضارة في أنحاء الأرض، خلف زوجته «إيزيس» على عرش مصر، وخرج في جيش عظيم أخذ يجول به في البلاد، يعلم الناس هنا وهناك كيف يستثمرون الأرض ليأكلوا من طيبات الله رزقا حلالا؛ ثم قفل راجعا إلى مصر بعد أن أدى رسالته، فكان جزاؤه عند أخيه «سيت»

6

أن أرداه قتيلا؛ فقد تآمر «سيت» مع نفر من حزبه على الغدر بأخيه؛ فأعد في داره وليمة فاخرة تكريما لأوزيريس، وجهز في قاعة الوليمة صندوقا ثمينا زين بالحجارة الكريمة، وكان - لزينته - موضع إعجاب الحاضرين؛ فقال لهم «سيت» مازحا: «لقد وهبت هذا الصندوق لمن يملأ جسمه فراغه في دقة وإحكام.» فأخذ السامعون - وهم المتآمرون - يلجون الصندوق واحدا فواحدا، هذا يقصر عنه وذاك يطول، وهذا يضخم عنه وذلك يدق، حتى جاء دور أوزيريس، فساوى الصندوق وفاقا، ولم يكد يفعل حتى أسرع المتآمرون إلى الغطاء فأغلقوه وأحكموا إغلاقه، ثم ألقوا به في النيل.

ذاع النبأ بين الناس وشاع؛ فحزنت إيزيس على زوجها حزنا شديدا، وشرعت تبحث عن جثة القتيل في طول البلاد وعرضها، حتى وجدتها وعادت بها، فوارتها قبرا يليق بجثمانه الطاهر. لكن «سيت» لم يرضه أن ينال أخوه هذا الإكرام، فاستخرج الجثة من قبرها وقطعها إربا إربا، ونثر أجزاءها نثرا، فطافت إيزيس مرة ثانية تجمع أشلاء زوجها، وكانت كلما صادفت جزءا أقامت له قبرا حيث كان.

ومن رثاء إيزيس لزوجها:

انظر إلي يا أوزيريس، أنا زوجتك الحبيبة الوفية، هذا قلبي قد فطره الحزن عليك، وهاتان عيناي شاخصتان إليك. ليتني أراك! إن جنتي - أيها الإله الصالح - في لقياك. تعال إلى حبيبتك، ادن من زوجتك، ولا تعزب عنها! إن الآلهة ترنو إليك، والناس تبكي عليك، ويزيد بكاؤهم أن يروني باكية جاثية أبث إلى السماء شكواي! لم لا تستجيب لدعائي وأنا زوجتك وحبيبتك؟

وقد لجأت «إيزيس» هي وابنها «حوريس» إلى محكمة الآلهة فقضت لهما، وحكمت على «سيت» وأجلست «حوريس» على عرش أبيه «أوزيريس».

هذا ملخص القصة، وتتخللها أساطير كثيرة، مثل أن أوزيريس لما حانت ولادته ارتفع صوت من معبد أمون يبشر العالم بأن «قد ولد الملك العظيم المنعم على الكون.»

وأن إيزيس توسلت إلى الآلهة فأعادته إلى الحياة، ولكنه عاد إلى نوع من الحياة الخالدة لا الحياة المألوفة ... إلخ.

وانتقلت قصة أوزيريس وإيزيس وعبادتهما من المصريين إلى اليونان، فأنشئ في ثغر «بيريه» اليوناني معبد لإيزيس في القرن الرابع قبل الميلاد.

كما انتقلت عبادتهما وقصتهما إلى الرومان فبني لهما معبد في الميناء الإيطالي بوزول،

7

وبني لإيزيس معبد في «بومبي». كما انتقلت إلى أجزاء الإمبراطورية الرومانية في إسبانيا وفرنسا وألمانيا وإنجلترا، وتلونت القصة بلون البيئات والعقليات المختلفة، وزيد فيها وحذف.

وقد أشار «بلوتارك» الكاتب اليوناني المشهور، الذي اعتنق عبادة إيزيس، والذي ألف كتابا عن «إيزيس وأوزيريس»، إلى أن هذه القصة قصة رمزية، وأن الشعب المصري «كان يقيم عاداته على قواعد أدبية ... وعلى الافتنان في تسجيل ذكريات تاريخية قديمة، وعلى إيضاح نواميس طبيعية.»

وقال بعض الباحثين: إن أوزيريس رمز إلى النيل واهب الخصب، وإلى الرطوبة التي هي أصل الإنتاج، وإلى القمر ينتج الندى في الليل فينشر الرطوبة؛ وعلى الجملة إلى قوة الخير والإنتاج والخصوبة في العالم، و«سيت» رمز إلى البحر الأبيض يصب فيه النيل ماءه فيبدده ويفنيه، ولكنه يحيا في العالم التالي، والمؤامرات التي دبرها «سيت» رمز إلى انخفاض مياه النيل بعد الفيضان، و«سيت» أيضا رمز إلى الجفاف أو النار التي تحارب الخصب؛ وعلى الجملة هو رمز لقوة الشر في العالم؛ وانتصار حوريس هو الفيضان الذي يعود، وإلى انتصار قوة الخير والحق آخر الأمر؛ وإيزيس رمز العطف والحنان والوفاء، ورمز الأرض الخصبة، ورمز العنصر النسائي المنتج، ورمز البحث عن الحقيقة؛ والحياة التي حييها أوزيريس بعد هي الحياة الأخرى التي ينعم فيها الإنسان بما يأتي من أعمال صالحات ... إلخ.

وكانت الطقوس الدينية وكهنة المعابد تبعث هذه المعاني عند الخاصة والفلاسفة والمثقفين، وإن لم يفهمها العامة؛ ولذلك أقبل على هذه الديانة الطبقة الراقية المثقفة من اليونانيين والرومانيين، فكانوا يشعرون بالطمأنينة لعقيدة الحياة الأخرى والعمل الصالح، وكانت تمدهم عقيدة الخير والشر والثواب والعقاب بغذائهم الروحي.

وأخيرا أحيا الشاعر الألماني «جوته» في القرن التاسع عشر الميلادي قصة «أوزيريس وإيزيس» باللغة الألمانية، فكان لقصتهما «الناي المسحور» بشعرها وموسيقاها أثر في النفوس بليغ.

ومن قصص المصريين المشهورة قصة «رمسينيت واللص» وخلاصتها - كما رواها «هيرودوت»: أن رمسينيت كان يملك من المال كنوزا تنوء بالعصبة أولي القوة، فحار في طريقة حفظها، ثم أداه التفكير أن يبني لها حجرة في قصره، يعد لها من الحجارة الكبيرة ما لا يستطاع حمله، وجعل أحد حوائط الحجرة جزءا من السور المضروب على القصر.

ولكن المهندس الذي تولى بناء الحجرة ركب في حائط السور حجرا يستطيع رجلان بل رجل تحريكه وزحزحته بطريقة مهندسة.

8

وجمع الملك فيها كنوزه وأمن أن تنالها يد، ولكن المهندس لما شعر بدنو أجله دعا إليه ابنيه وأخبرهما بخبيئة الأمر.

ومات المهندس ولم يلبث ابناه أن ذهبا ليلا وبحثا عن الحجر فعرفاه، وحركاه في سهولة ويسر، فدخلا إلى الحجرة فأصابا من مالها ما شاءا.

وتفقد الملك حجرته فرأى نقصا في كنوزها، وحيره أن رأى الباب سليما وأختامه لم تمس. وتكرر ذلك مرات والملك حائر في أمره، ولم يجد حيلة إلا أن ينصب فخاخا في جوانب الخزائن، وعاد اللصان، فما إن قرب أحدهما حتى وقع في الفخ وأطبق عليه.

فأشار من وقع في الفخ على أخيه أن يقطع رأسه ويرجع به إلى بيته حتى تختفي الجريمة، وألح عليه في ذلك ففعل، ورد الحجر إلى مكانه ورجع برأس أخيه.

ولما دخل الملك رأى الأمر ازداد تعقيدا، والجريمة لم تكتشف؛ فأمر بصلب الجثة وإقامة الرقباء حولها، لعل أحدا يبكي لرؤيتها فيتكشف الأمر.

ولكن الأم بكت في بيتها، وعز عليها صلب ابنها، فهددت أخاه إن هو لم يأتها بالجثة أن تفضح السر للملك؛ فأعمل الحيلة وأعد حمرا حمل عليها زقاق الخمر، فلما قرب من الحراس فك بعض الزقاق وتظاهر بأنها سالت على الرغم منه، وأخذ يبكي ويندب. وجاء الحراس فوجدوا خمرا تسيل فشربوا، فأخذ يتصنع تأنيبهم، ثم مال إلى الطريق ميلة، وهدأ من سورته، وأخذ يحدث الحراس ويسقيهم حتى أسكرهم، فناموا، وقام ليلا إلى جثة أخيه فحلها وعاد بها إلى أمه.

وجن جنون الملك لما علم بسرقة الجثة.

ففكر في وسيلة أخرى يكشف بها هذه الجريمة بل الجرائم، فأمر ابنته فأحل لها أن تستقبل الناس، وتمكن نفسها ممن يحدثها عن أعجب جرائمه ودهائه، فإذا جاءها من حدثها بسرقة الجثة حجزته وغلقت عليه الأبواب.

فعرف اللص الخبر، فأراد أن يظهر للملك عجزه، فاستحضر ذراع رجل مات حديثا وخبأها في ثيابه، وقابل بنت الملك وقص عليها قصته، وكان الظلام قد ساد الحجرة، فهمت بالقبض عليه فقبضت على شيء ظنته يده، ولكنها كانت الذراع المخبوءة، أما هو فقد كان قفز وهرب.

فعجب الملك من كل هذا، وأعلن في جميع أنحاء المملكة أنه قد عفا عنه، وأنه سيجزل له الخير إذا أظهر نفسه؛ فتقدم اللص إلى الملك فوفى بوعده وأنعم عليه وزوجه بنته، لأنه أمهر المصريين الذين هم أمهر الأمم. •••

ولكن إلام ترمز هذه القصة؟ لعلها - فيما نرى - ترمز إلى السلطان والقدر، فالملك بعزه وسلطانه، وحيلته وحيطته، لم يستطع أن يغالب القدر، وكلما أبرم أمرا نقضه القدر، وهو يحتال الحيلة بعد الحيلة، والقدر يفسدها عليه، وأخيرا تجلى له الحق فأقر بالسلطان الأعلى وصالح القدر.

لعل هذا أو نحوا من هذا هو ما ترمز إليه القصة.

ولهم قصص أخرى كثيرة من هذا القبيل، كقصة خوفو والسحرة، والبحار الغريق والأمير الهالك ... إلخ. نكتفي منها بهذا القدر. •••

ثم كان لهم نوع آخر من الأدب وهو أدب الحكم والمواعظ، منها ما هو أدب للنفس، ومنها ما هو أدب للمجتمع، ومنها ما هو أدب سياسي، ومنها ما هو أدب ديني. فمن نصائح «بتاح حوتب» لابنه:

9

إذا أردت حسن الثناء فتجنب الطمع، فإنه داء لا يشفى، ومحال أن تكون معه صداقة، وهو مركب من جملة شرور، ووعاء لكل مرذول.

إذا أصبحت عزيزا بعد هوان، وغنيا بعد فقر، فلا تنس أيام هوانك وفقرك إن استطعت؛ فوجه عنايتك للعلم وبلاغة القول، وفكر قبل أن تأمر، فما أقبح التصرف من غير تفكير، ثم إذا أمرت فلا تتعاظم في أمرك، ولا تحتد في قولك، وتحر أن تكون مطاعا في أمرك، مسددا في إجابتك، فالحلم يذلل الصعاب، والغضب ينغص العيش.

تحر بفضلك من صادقك في شدتك، فإنهم أحق بفضلك ممن لا يعرفونك إلا في رخائك.

الرجل الغر ينصح فلا يسمع، ويرى العلم في الجهل، والربح في الخسارة، ويأتي ما يأتي على غير هدى، ويجد في كلام السوء غذاء لنفسه.

تلطف مع زوجك، واقصد أن تجعلها أسعد امرأة في بلدها، وأسلس قيادها يستقم سيرها، وبشرها ولا تنفرها، وتحبب إليها بموافاتها بما تطلب.

لا يغرنك علمك ولا تثق به، وشاور الجاهل والعاقل، فالعلم لا حد له، والوصول إلى نهايته لا يستطيعه أحد وليس هناك عالم بفن يستطيع أن يقول فيه الكلمة الأخيرة، والكلام القيم أخفى من الحجر الكريم الأخضر، ومع هذا فقد تجده في يد أمة تدير الرحا.

أطع تستفد، فإني لم أبلغ ما بلغت إلا بالطاعة، وإن الطاعة تستجلب المحبة وتدر الخير، والله يحب من أطاع ويكره من عصى.

إذا دعيت إلى مائدة من هو أكبر منك مقاما فخذ مما يقدم لك، ولا تمدن عينيك إلى ما وضع أمامه، ولا توجه نظراتك إليه. •••

ومن المواعظ السياسية موعظة «خيتي الثالث» لابنه «خيتي الرابع»، وكانت نصائحه إبان ثورة شعبية على نظام الحكم، فمن قوله:

كن بليغا تكن قويا؛ فاللسان للملك أصدق سيف في القتال.

والملك مدرسة لمن حوله من العظماء، وهو إذا اتسع اطلاعه أمن من أن يخدع بالكذب؛ لأن الحقيقة تأتيه خالية من الشوائب.

اجعل أساس اختيارك للرجال الكفاية، سواء في ذلك ابن العظيم وابن الحقير.

من الخير لك أن تكون رحيما، واجعل وكدك أن يقيم لك الناس تمثال الحب في قلوبهم، فإن فعلت فسيذكرون لك جميلك، ويدعون لك بالصحة وطول العمر.

تمسك بالعدل ما حييت، وإياك والإساءة إلى الأيامى، والتعرض لمال أحد فيما يرثه من أبيه، والعقوبة في غير جريرة.

ليس لأحد أن يظلم، فسوف يحاسب كل إنسان على عمله. ولا تغتر بطول العمر، فما حياة الإنسان في هذه الدنيا إلا لمحة، وسيبعث الإنسان حين وصوله إلى الشاطئ الثاني (في الحياة الأخرى)، وكل نفس بما كسبت رهينة، وهناك الأبدية لا شك فيها، وويل لمن يحتقرها، وطوبى لمن أتى إليها وليس له ذنب، إنه يحيا كما تحيا الآلهة.

إن الناس عبيد الله، وهو يهديهم سواء السبيل، خلقهم منه، وعلى صورته؛ وخلق لهم ما في الأرض جميعا، وهو يسمع بكاءهم وشكواهم، وقد جعل لهم رؤساء أوصياء عليهم يأخذون بيد الضعفاء منهم. •••

وقد عثر - فيما عثر عليه - على نوع من الأدب طريف، وهو كتاب سماه علماء الآثار «شكاوى الفلاح»،

10

وقد استرعى هذا الكتاب الأنظار لبلاغته.

وخلاصته أن فلاحا من إقليم وادي النطرون نفدت غلاله، فحمل حمره بعض نتاج قريته، وذهب إلى أهناس ليبادل بها غلالا، فمر في طريقه على حاكم بلدة فراقت الحمر بما عليها في عينه، فتعلل الحاكم بأن الحمر أكلت في طريقها بعض زراعة القمح، فضربه ضربا مبرحا، واغتصب حمره وما حملت؛ فالتجأ الفلاح إلى رئيس الحاكم فلم ينصفه، واستعظم هو وأعوانه أن ينتصفوا لفلاح من حاكم، ولكنهم عجبوا من فصاحته وقوة حجته.

وقد قص الرئيس قصته على الملك مبينا له ما منح الفلاح من قوة في الأدب وبلاغة في القول، فشاركه الملك في إعجابه، وأمره أن يبطئ في حل قضيته حتى يستخرج كل ما عنده من قول بليغ، ولكن يجري عليه ما يقيم أوده سرا.

فصاغ الفلاح في شكواه تسع خطب تتدفق معاني جليلة في مدح العدل وذم العمال بروح عصره، وأسلوب قومه، فمنها يخاطب الرئيس:

يا سيدي يا عظيم العظماء، يا أغنى الأغنياء، ومن ليس فوقه إلا عظيم أعظم، وغني أغنى ...

أليس عجيبا أن ينحرف الميزان، ويعوج المستقيم، ويختل الوزن؟

تأمل؛ إن العدل يتزلزل من تحتك، والقضاة يظلمون، ومن يشعر بالراحة يترك الناس في عناء، ومقسم الأرزاق متلف، والمكلف بالعدل يأمر بالسرقة، ومن عمله أن يقضي على الفقر يحيي الفقر!

ثم يؤنب الرئيس ويتمنى له الشر، فيقول:

ليت بيتك يخرب، وكرمك يذبل، وطيورك وماشيتك تفنى، فقد عمي البصير وصم السميع، وضل المرشد.

لقد تخطتك الرحمة، وأصبح مثلك كرسول التمساح أو «ربة الوباء».

إن الملك في قصره وسكان السفينة في يدك، وقد كثر الشغب بجوارك، والشكاية تطول والفصل فيها يبطؤ، والناس يتساءلون ماذا تعمل. أعن المظلوم حتى تتبين للناس قيمتك، والتزم الحق في القول فالمرء قد يكون مصرعه في لسانه.

يا من يملك مرافق الماء! قد أصبحت أملك مجرى الماء ولا أملك سفينة، ويا من ينجي الغارق! نج من غرقت سفينته.

كن كإله النيل يجعل الأرض الجدباء أرضا خضراء، ولا تكن كالسيل يدمر ما يأتي عليه، واحذر الآخرة.

إن لسانك لسان الميزان، وقلبك وشفتيك ذراعاه، فإذا لم تعدل فمن الذي يكبح الشر؟

إن مثلك كمثل بلدة لا حاكم لها، وطائفة لا رئيس لها، وسفينة لا ربان لها، وعصابة لصوص لا كابح لها.

إنك حاكم يسرق، ورئيس يرتشي، وموكل بالقضاء على المجرمين يصبح نموذج المجرمين.

يا أيها المدير العظيم، لا تحرمن فقيرا مثلي من ملكه، فمال الفقير نفسه، ومن اغتصبه كتم نفسه. ماذا تصنع؟

إنك لتسمع الشكوى فتنحاز إلى اللص، ويضع المتقاضي أمله فيك فتعتدي، ويأمل الفقير أن يجد منك سدا يقيه الغرق فيجدك تيارا يجرفه.

أقم العدل لرب العدل الذي يصدر عنه العدل؛ إن العدل لا يفنى، سيذهب مع صاحبه إلى القبر ويدفن معه، ولكن لا يمحى اسمه ... إلخ. •••

ثم كانت لهم الأناشيد الدينية والأغاني الشعبية والغزل الرقيق، وهاك نموذجا لقطعة غزلية:

قد أتعالل وما بي من علة، ولكن ليعودني جيراني، وتعودني أختي،

11

وستهزأ إذ ترى أطبائي، لأنها تعلم كامن دائي.

دار أختي!

ليتني كنت بوابا لدارها، فإن أغضبها ذلك نعمت بسماع صوتها في غضبها، ووقفت أمامها موقف الطفل ممن يهابه إجلالا.

بل ليتني كنت أمتها السوداء التي تلازم خدمتها، إذن لملأت عيني برؤيتها وسعدت بالنظر إلى محاسنها.

بل ليتني كنت خاتمها في إصبعها، أو عقد الزهر يطوق عنقها، ويداعب صدرها.

ولكن هل في هذه الأماني غناء؟

لخير لي أن أركب النيل، وأندفع في تياره، وأحج إلى بيت الله في ممفيس، وأضرع إليه أن يوفقني لرؤية أختي.

إذا قدمت خفق قلبي، وطوقتها بذراعي، فشعرت بالسعادة في أعماق نفسي.

وإذا دنت مني، وفتحت ذراعيها لي، شعرت كأن أزكى روائح العطور تغمرني.

فإذا أدنت شفتها من شفتي، ولثمتني، فهناك السكر ولا خمر!

ومن غزل الفتاة:

إني لأذكرك فيضطرب قلبي ويشتد خفقانه.

إن حبك ليخرج بي عن المألوف من حياة أمثالي.

فلا أعرف كيف ألبس ثيابي، ولا كيف أنظم متاعي، أو أكحل عيني، أو أعطر جسمي.

اسكن يا قلب وخفف من خفقانك، وإلا رماني الناس بالجنون.

اهدأ يا قلب وتماسك ولا تضطرب إذا فكرت فيمن أحب.

وقد جاء في غزلهم تشبيه سواد شعرها بالظلام، وبريق ثناياها بالشرر من حجر الصوان؛ كما تغزلوا بقدها الممشوق، وصدرها الريان، ونهدها الناهد. •••

ومن أناشيدهم:

ما التكاثر في الأرض، والنهاية القبر؟

تشبه بالحي الأبدي العادل، الذي لا يظلم أحدا؛ السلام الذي لا يحب تعكير الصفاء أبدا.

إليه يرجع الناس كلهم منذ خلق الإنسان الأول إلى أن صار الناس ولا حصر لهم.

إذا خلق الإنسان دعي إلى سبل الرشاد، ووعظ بأن يكون سليما معافى، يعمل الخير، ويذكر الموت، حتى إذا جاءه أجله استقبل القبر جذلا مغتبطا.

أيها الكاهن!

إن الموت الذي تتحدثون عنه ليس إلا الاتحاد بأرباب الأبدية.

12

وكان لهم شعر، يدل عليه كتابة الفقرات منفصلة؛ كل فقرة في سطر، وقد يرتبط السطر الثاني بالأول، وهذه الفقرات متقاربة الطول، ولولا الشعر ما كان هناك داع لقطع الكتابة، ولكن لم يهتد الباحثون بعد لأوزانهم الشعرية. وكان هذا الشعر مرتبطا بالغناء الذي بلغ عندهم مبلغا عظيما.

وقد لاحظ الباحثون أن مقطوعات الشعر المصري يكثر فيها جملة تتكرر وتدور عليها القصيدة، مثل: «من أكلم اليوم» ونحوها. وقد يبتدئ الشاعر باسم زهرة، ثم يردده في كثير من أبياته، كأنه يريد أن يستوحيها المعاني التي يصوغها.

وهناك حقيقتان في الأدب المصري يجب أن ننبه إليهما:

الأولى:

أن مترجمي النصوص الأدبية من الآثار وأوراق البردي يختلفون فيما بينهم في ترجمتها، وسبب ذلك أن نظام الكتابة كان ناقصا عندهم، فالكتابة لم توضع فوقها حركات تبين بالضبط موقع الكلمة من الجملة؛ ونتيجة ذلك أنه يمكن نطق الكلمة بأشكال مختلفة، والكلمة الواحدة تصح أن تصدق على الكلمة ومشتقاتها من اسم فاعل، ومفعول، ومصدر، وفعل مضارع وهكذا؛ فمن هنا يأتي الخلاف، فضلا عن خطأ النساخ عند الكتابة.

والثانية:

أن كل لغة - وخاصة في الآثار الأدبية - تؤثر في القارئ والسامع بمعانيها ونغمات موسيقاها، وما يحيط بالكلمات من هالة، وبالبيئات والملابسات التي تحيط بها، فإذا أمكن نقل المعاني في أمانة صعب أو تعذر نقل ما عداها من جوها وملابساتها نقلا صادقا صحيحا، وهذا ما سيواجهنا في كل أدب غير الأدب العربي العصري.

وعلى الجملة فقد ظلت الآداب المصرية تنمو وتنضج وترتقي وتعمل عملها في النفوس نحو أربعين قرنا، وكانت علاقة المصريين بغيرهم علاقة قوية، إما بالحروب والفتوح للأمم المجاورة، وإما بوساطة التجارة الواردة والصادرة، وإما البعوث ترد إلى مصر لدراسة حضارتها وعلومها وفنونها ودينها. ومن بعثوا كانوا ينقلون ذلك كله إلى بلادهم.

كل هذا جعل آدابهم تؤثر - كعلومهم وفنونهم - في الأمم حولهم إما من طريق مباشر كتأثر العبرانيين واليونانيين بالمصريين، أو غير مباشر كتأثر الآداب الأخرى بالعبرية المتأثرة بالمصرية، أو تأثر الرومانيين باليونانيين المتأثرين بالمصريين. (2) أدب الصين

ولندع الآن مصر وغيرها من أقطار الشرق القريب، ولنسر إلى الشرق القصي البعيد، إلى حيث الصين، إلى حيث كتبت الكتب قبل أن تنبت دوحة الأدب في أوروبا بمئات من السنين. وآثار الصين القديمة مكتوبة على ألواح من ألياف الخيزران، يخط عليها بالمسمار آنا، ويكتب عليها بالمداد آنا آخر. وكذلك كتب الصينيون على نسيج الحرير، وصنعوا الورق في القرن الأول قبل الميلاد، وعرفوا الطباعة بالحروف المتحركة قبل أن تعرفها أوروبا بثلاثة قرون.

كان الأدب الصيني القديم يدور حول مبادئ الأخلاق، فجمعوا حكمة السلف فيما يجب أن يكون عليه سلوك الخلف، ودونوها لتكون أمام الناس مثلا يحتذى، فيهيئ لهم سعادة الدنيا والآخرة؛ وكان الكاتب الصيني يحتل في نفوس الناس وفي نظر الدولة مكانة ممتازة، حتى كانت تجرى عليه الرواتب العالية. وبلغ الأدب الصيني القديم من التنوع والجودة حدا بعيدا حتى لا يكاد يضيف إليه أدبهم الحديث شيئا جديدا، فالأدب الحديث لا يعدو أن يكون تعليقا على الأدب القديم؛ وإن لهذا التراث الأدبي القديم من الأثر في نفوس أهل الصين ما جعلهم يحيطونه بشيء من التقديس، ولا يجيزون لأحد أن يخرج على قواعده؛ ولهذا كان الصينيون من أكثر سكان الأرض جمودا وتشبثا بالقديم، فهم يعدونها زندقة أن ينافس كاتب حديث كاتبا قديما؛ ولذلك بقيت اللغة الصينية كما هي، لم ينلها شيء من التغيير والتجديد.

ونبي الصين، وواضع الأسس لأدبها وأخلاقها، هو كونفوشيوس.

13

والذي نسميه بالديانة الكونفوشية إنما هو في حقيقة الأمر ديانة قديمة صبها هذا العظيم في فكر جديد، وأسلوب جديد، ونظام خلقي جديد، ليتخذه بنو وطنه دليلا يهتدون به في سلوكهم، وينهجون على نهجه في سياستهم. فلم يكن كونفوشيوس حالما ولا شاعرا، ولا هو أراد أن يجعل من ديانته عقيدة لاهوتية وكهنوتية؛ إنما وجه همه الأكبر نحو مشكلات الحياة - حياة الفرد وحياة الدولة على السواء - وما أشبهه في ذلك بسقراط الذي شهدته اليونان بعد أن ظهر كونفوشيوس في الصين بقرن كامل؛ ولكن سقراط كان ينظر إلى مشكلات الأخلاق من الجانب النظري، أما كونفوشيوس فلم تكن تعنيه إلا سعادة الأفراد في حياتهم العملية. فأهل الصين من حيث هم أتباع كونفوشيوس، قوم لا دين لهم، إن فهمنا كلمة الدين بمعناها الضيق المحدود؛ لأن الدين بهذا المعنى يعترف بوجود قوة تسيطر على البشر وتشرف على شئونهم، ولكن فيلسوف الصين لم يعترف في تعاليمه بوجود مثل هذه القوة، وإنما حصر نفسه حصرا في الإنسان نفسه، ورسم له خطة السلوك؛ وعلة ذلك أنه ظهر بين قومه في القرن السادس قبل الميلاد، حين أخذ النظام الإقطاعي في الصين يتداعى بناؤه وتنحل روابطه، وأخذت تنشب على إثره حروب أهلية فتاكة قاضية؛ فجاء هذا الرجل رسولا للنظام، يؤمن بضرورة أن تجتمع السلطة في يد واحدة قادرة ماهرة، ما أشبهها بما أطلق عليه «كارليل»

14

اسم «البطل»، وما دعاه «نيتشه»

15

ب «الإنسان الكامل».

16

هذه الحكومة التي يمسك زمامها فرد واحد ممتاز كانت معقد الأمل عند كونفوشيوس؛ وقد كان وزيرا لأحد أمراء الصين، فأحب أن يعلمه الحكمة الخلقية العملية ليعتدل سلوكه، واستمع له الأمير حينا، ثم ضاق به ونفاه، لأنه آثر على وعظه صحبة الغواني الراقصات؛ فأنفق كونفوشيوس خير سنيه مرتحلا من دولة إلى دولة، يعلم الأخلاق حيثما حل، ثم عاد إلى وطنه في سن الشيخوخة ليجمع في الكتب أشتات حكمته.

ويجمع هذه الحكمة الكونفوشية خمسة كتب: كتاب التاريخ، وكتاب التغيرات، وكتاب الشعر، وكتاب الشعائر، وأخبار الربيع والخريف. وليست هذه الكتب بالجديدة في مادتها، إنما هي إنتاج قديم في ثوب جديد، والكتاب الوحيد الذي يعد من إنشاء كونفوشيوس هو «أخبار الربيع والخريف». وهاك مثالا لأدبه:

قال الشيخ: إن الرجل الكامل هو الذي يقيم أخلاقه على الشعور بالواجب، ثم يضيف إلى شعوره ذاك اتزانا وتناسقا في سلوكه؛ وهو يدل على ذلك بما يبديه من روح التضحية، وعليه أن يكمل أخلاقه، فيضيف إلى ذلك كله الصدق والإخلاص، فإن فعل، فهو حقا ذو خلق نبيل.

الإنسان الكامل يبحث عن حاجته في نفسه، والإنسان الأدنى يلتمس حاجته عند الآخرين.

الإنسان الكامل حازم في غير صخب، يحب الإنسانية في غير تعصب لقومه.

الحكيم لا يرفع من قول لقائله، ولا ينزل من قدر قول لقائله.

وفي الصين اليوم مئات الألوف ممن يحفظون كتب كونفوشيوس عن ظهر قلب، بل إن أقواله لتجري على ألسنة العامة مجرى الأمثال. (3) الأدب الهندي

كانت السهول الفسيحة القريبة من بحر قزوين في الماضي السحيق موطنا لطائفة من قبائل الرعاة تربطها وشائج القربى واتحاد اللغة، وكان يسمي بعضهم بعضا «آرياس» أي الأصدقاء، ولكن سرعان ما دب بينهم التنافس ونشب القتال، وانتهى الأمر ببعضهم إلى الهجرة جماعات جماعات، وأخذوا يضربون في مسالك الأرض شرقا حتى ألقوا عصا التسيار في غاب كثيف، فاتخذوا الفئوس من الصخر القاسي الغليظ، يحطمون بها الشجر، ثم يحركون بأغصانها التربة ويفلحونها، وبهذا تحول هؤلاء الرعاة الرحل إلى فلاحة الأرض. لكن فلاحة الأرض لبثت زمانا طويلا مزدراة لا تليق بغير العبيد؛ ولهذا أخذ سادة هؤلاء الرعاة يملكون الأرض ويستخدمون الطبقات الوضيعة في حرثها وفلاحتها.

ولكن هل تقنع تلك القبائل الراحلة الطامحة ببقاع ضيقة محصورة فوق الجبال، وعلى مقربة منهم - في الشمال الغربي من بلاد الهند - سهول خصبة غنية تمتد ما امتد البصر؟ إلى تلك السهول الفسيحة الخضراء شدوا الرحال، فلقيهم أهلوها «الداسيون»

17

بعنف المستميت في الذود عن حياضها، لكن ماذا تجدي الحماسة أمام قوة الغزاة؟ فلهؤلاء الآريين كتب النصر، فاستقروا وطاب لهم المقام، وأصبح يطلق عليهم فيما بعد اسم الهندوس. وأما «الداسيون» فقد خضع منهم فريق استخدمه السادة الظافرون في فلاحة الأرض، وهم من أطلق عليهم فيما بعد اسم «شودراس»

18

وهم أدنى طبقات الهنود، وأبى فريق آخر أن يستسلم فلاذ بالفرار إلى الدكن،

19

وأوى إلى مستنقعاته وغاباته حيث لا يزال إلى اليوم رابضا.

وكانت هذه الحرب بين الآريين الغزاة وأهل البلاد الأصليين مصدرا لطائفة كبيرة من الأساطير والأغاني والترانيم والدعوات، أخذت تتجمع على مر الزمن، وتكتسب قداسة في أعين الهندوس، ومنها يتألف «الفيدا»

20

الذي هو الكتاب المقدس عند الهندوس، وعقيدتهم فيه أنه وحي من الله أوحى به إلى قادة العهد الغابر وأنبيائه، وعن هؤلاء تلقاه «البراهمة»،

21

وهم طبقة الكهان الذين أخذوا على أنفسهم صيانة الفيدا من الدنس. والترانيم التي في الفيدا دعوات موجهة إلى قوى الطبيعة، فهذا الفجر الذي يبدد ظلمة الليل وينشر ضوءه على جبين الصباح، وهذا الغروب الذي ينعش النفس المكروبة بعد عناء النهار وشمسه المحرقة، وهذا الغيث الذي ينبت لهم الحب؛ كل هذه نعم تستوجب الحمد. ثم ماذا يجنب القوم غضبة الصواعق وثورة العواصف غير الترانيم الدينية والقرابين؟! ففي الفيدا صلوات ودعوات ليكثر الله الحب والماشية ويطيل الأعمار ويبارك الأبناء، وفيه دعوات الله أن يكون للآريين مولى ونصيرا، وأن يكون على الأعداء نقمة وبلاء، وفيه ترانيم عن الحياة الآخرة وخلود الروح.

وبعد أن استقر الأمر للهندوس في سهول البنجاب استأنفوا الزحف شرقا، وأسسوا ممالك على ضفاف الكنج، وغلبت منهم قبيلتان على غيرهما من القبائل هما : «بانجالا»

22

و«بهاراتا»؛

23

ثم نشبت بين القبيلتين حروب في الوقت الذي كانت فيه جيوش الإغريق تحاصر مدينة طروادة؛ وهذه الحروب هي موضوع ملحمة شعرية طويلة يمتزج فيها التاريخ بالأساطير، وتسمى قصة «ماها بهاراتا».

24

وخلاصتها أن «باندو»

25

كان حاكما على «بهاراتا»، ومات عن خمسة أبناء، فتولى العرش بعده أخ له ضرير هو «ذريتارشترا»

26

وكفل أبناء أخيه الخمسة، وقام على تربيتهم في قصره مع أبنائه، وكان يطلق على أبناء باندو «أمراء باندافا»،

27

وعلى أولاد الملك الضرير «أمراء كورافا».

28

أما «بانجالا» فكان يحكمها عندئذ «دروبادا»،

29

وحدث أن استخف بأحد أشرافه وهو «درونا»

30

فانتقم لنفسه بانضمامه إلى الدولة المنافسة، دولة «بهاراتا» حيث قام بتدريب أمراء البيت المالك على أعمال الفروسية، وأبلى في ذلك بلاء حسنا، وكافأه الملك الضرير بأن أعد له جيشا يقاتل به عدوه «دروبادا»، وبهذا الجيش استطاع «درونا» أن يستولي على شطر عظيم من أرض «بانجالا».

وأراد الملك الضرير «ذريتارشترا» - نزولا على رغبة أخيه - أن يعين أكبر «أمراء بندافا» وارثا للعرش، لكن «أمراء كورافا» - وهم أبناؤه - قاوموه وحملوه على أن يجعل ولاية العهد فيهم، فلم يسع ذلك الشيخ الضعيف إلا أن يقيم ابنه «در يوزان»

31

وليا للعهد، وكان هذا الأمير حقودا فظل يدبر لأبناء عمه المكائد حتى صدر الأمر بنفيهم، ولم يكفه ذلك، فأعد العدة سرا أن يشعل النار في دارهم وهم نيام، لكن أمراء بندافا علموا بالأمر وفروا هاربين إلى الغابات يختبئون في مكانها.

وكان من تقاليد الهندوس أنه إذا أرادت إحدى فتياتهم الزواج، دعت خاطبيها إلى مباراة حربية، يكون للظافر فيها حق زواجها. فبينما كان أمراء بندافا في مخبئهم من الغابة، جاءهم نبأ أن ابنة الملك «دروبادا» قد اعتزمت أن تقيم المباراة لزواجها، وأن الأميرة قد صممت أن تتخذ أمهر الرماة لها زوجا؛ فلما علم بذلك «أرجون»

32 - أحد الإخوة الخمسة - وكان في الرماية ماهرا لا يبارى، قصد إلى عاصمة «بانجالا» وتوجه إلى قصر «درو بادا» حيث تقام المبارزة في فنائه، وجاء يوم المباراة وازدانت طرقات المدينة ومنازلها بأكاليل الزهور، ووصل الأمير «أرجون» متنكرا في ثياب كاهن برهمي، وضرب في الحشد المتزاحم أمام القصر، وما إن نفخ في الأبواق إيذانا بوصول الخاطبين إلى حلبة النزال، حتى شخصت الأبصار إلى الفرسان وهتف لهم الشعب هتافا عاليا، واشتد الهتاف حين قدمت الأميرة المخطوبة «دروبادي»

33

في ثياب عرسها، وحول ذراعها طوق من الزهر، وجاء إلى الحلبة عدد من أشداء الجند يحملون قوسا ضخمة ثقيلة أعدت للمتنافسين، وعجز الفرسان واحدا بعد واحد عن حملها والرمي بها، وعندئذ برز من الجمع المحتشد شاب في ثياب البراهمة وحمل القوس ورمى بسهمه فإذا به يصيب الهدف في الصميم، فنزعت الأميرة طوق الزهر عن ذراعها، وطوقت به عنق الظافر إعلانا لزواجها منه. وكان سائر الخاطبين من طبقة المحاربين

34

فسرت بينهم موجة من الحزن الكئيب، وتهامسوا مستنكرين أن تؤثر الأميرة كاهنا على الفرسان الأشراف. وكان بين طبقتي الكهنة والأشراف عداوة شديدة، فلم يسع الأمير «أرجون» إلا أن ينزع عنه ثياب الكاهن ليبدو بين الجمع على حقيقته أميرا نبيلا.

هكذا عاد نجم «أمراء بندافا» إلى السعود حين تزوج أحدهم من ابنة الملك دروبادا، فكان لهم من هذا الملك حليف قوي، أيدهم في المطالبة بحقهم في أرض بهاراتا التي كان لا يزال على عرشها «ذريتارشترا» - الملك الضرير - فأجابهم هذا الملك إلى طلبهم، ونزل لهم عن النصف الغربي من مملكته، وكانت يبابا بلقعا، وترك لأبنائه «أمراء كورافا» النصف الشرقي الخصيب. لكن «أمراء بندافا» أخذوا يوسعون من ملكهم ويشيدون فيه المدن - ومنها مدينة دلهي - حتى أثاروا بنجاحهم كامن الحقد والغيرة في نفس «در يوزان» الذي سيئول إليه ملك أبيه الضرير؛ فأدار في ذهنه مكيدة نكراء، ودعا أبناء عمه الخمسة إلى حفل بهيج يقيمه في قصره، وهنالك أخذ يلاعب أكبر الإخوة فيقامر هذا في اللعب على ما يملك من ذهب وفضة وعجلات وفيلة، فلا يخرج من أشواط اللعب إلا خاسرا، ولا تزيده الخسارة إلا حماسة في مواصلة اللعب حتى يخرج صفر اليدين، وانتقل كل ملكه إلى ملاعبه ومنافسه الذي قمره بخدعته لا بمهارته .

بهذا تشرد الإخوة من جديد، واشترط عليهم أن يهيموا على وجوههم اثني عشر عاما، ثم يستقروا في إحدى المدن عاما آخر، فإن عجز أمراء كورافا أن يجدوهم طوال هذه السنين، أعيد لهم ملكهم الضائع. وقصد الإخوة إلى حيث الغابات البعيدة، وكان معهم الأميرة درو بادي؛ زوجة أرجون - أحد الإخوة الخمسة - لكنها لم تعد في مفاخر ثيابها كعهدنا بها، بل كانت مهلهلة الثياب حافية القدمين.

ولقد رويت القصص عما لقيه الإخوة الخمسة من ضروب العناء والضيق في حياة الغابة، وجمعت في كتاب اسمه «كتاب الغابة»، وفيه من القصص أروعها ومن الأمثال أحكمها؛ ولذا فهو من أجمل أجزاء قصيدة «ماها بهاراتا» التي نروي لك خلاصتها.

ولما انقضى على الإخوة في نفيهم الأمد المضروب، جاءوا إلى إحدى المدن في هيئة زرية، فارتدي أحدهم ثوب الرعاة، واستخدم ثان في مطبخ القصر الملكي، وعمل ثالث في اسطبلات الملك، والتحقت درو بادي بحاشية الملكة وصيفة لها. ومضى من العام الثالث عشر عشرة أشهر، وابتهج الإخوة أن قد دنا موعد الفكاك من هذا النفي والتشريد. ولكن حدث أن رأى قائد الجيش درو بادي فأحبها، فلما صدت عنه وأعيته الحيل في اجتذابها، أساء إليها القائد، فثارت من أحد الإخوة ثورة الغضب وقتل ذلك القائد الصفيق.

وكانت عيون «در يوزان» عندئذ تتطلع في كل أرجاء الهند بحثا عن هؤلاء الإخوة، ولكنها عادت لا لتنبئ مولاها بموضع الإخوة، بل بنبأ اضطراب وقع في «ماتسيا» - وهو البلد الذي كان يقيم فيه الإخوة - فانتهز أمراء كورافا هذه الفرصة السانحة ليضموا ماتسيا إلى ملكهم؛ فخرج جيش ماتسيا ليلاقي العدو المغير، وكان على رأسه أمير صغير لم يمارس الحروب، وكان يقود عربته «أرجون» - أحد الإخوة، وهو من ذكرنا قصة زواجه بالأميرة درو بادي - فلم يكد الأمير الصغير يرى العدو مقبلا حتى سقط مغشيا عليه، فوثب «أرجون» صائحا: «أنا أرجون.» وهجم في وجه العدو هجمة ارتعدت لها فرائصهم، ودب الاضطراب في صفوفهم، ففروا في هرج كأنما هم قطيع من الغنم يعدو من الفزع إذ سمع زئير الليث .

وانقضى العام الثالث عشر، وطالب الإخوة بملكهم، ولكن «در يوزان» أخذ يراوغهم متعللا بأن «أرجون» قد كشف عن نفسه قبل أن ينقضي العام، ودارت بين الفريقين حرب كان النصر فيها حليف الإخوة الخمسة - أمراء باندافا - وسقط فيها در يوزان صريعا. •••

ومن أجمل القصص الشعرية التي وردت في «ماها بهاراتا» قصة «نالا» و«دامايانتي»

35

وهي ضرب من شعر الرعاة، ويشبهها بعض النقاد ب «أناشيد الرعاة» للشاعر الروماني «فرجيل». وخلاصة القصة أن «نالا» ملك ساء طالعه يوما فقامر بملكه وكان من الخاسرين، وأخذ «نالا» وزوجته يضربان في غابة، حتى شاء لهما الحظ العاثر أن يفترقا فيضل كلاهما عن زميله، ومرت بالملكة «دامايانتي» قافلة تحمل المتاجر فعطفوا عليها، وعرضوا أن يحملوها إلى مدينة قريبة، وجلسوا يستريحون في مكان جميل، حيث:

مجرى الماء ينساب هادئا بغير موج،

وفي حواشيه الغاب منتثر.

ووقف الطير ألوانا يغني،

وتزاحم اليمام، وسبحت الأسماك وتلوت الأفاعي،

وازدانت حافة الماء بالزهر والشجر،

ورنت في الهواء أغاريد الطيور الصادحة.

في هذا المكان جلس أصحاب القافلة يستريحون، وإذا بقطيع من الفيلة يفجؤهم من حيث لا يعلمون، فتسقط «دامايانتي» مغشيا عليها، ثم تفيق وقد زال الخطر، ولكن وا أسفاه، قد ارتحلت القافلة وخلفتها وحيدة كما كانت، فأخذت المرأة المسكينة تمشي بقدمين داميتين وشعر أشعث، تضل في متاهة الغابة حينا، وتهتدي إلى الطريق السوي حينا آخر؛ حتى ذهل عقلها، وأنهك جسدها، وأصبح الموت لها أمنية ترتجى، وأخذتها سنة من النوم، فلما استيقظت واصلت سيرها، فرن في مسمعها خرير ماء دافق، فأسرعت نحوه، وإذا بها، وا فرحتاه! تجد عند جدول الماء مخرجا من الغابة، وامتدت أمام بصرها الحقول اليانعة، وشهدت هنالك في الأفق - حيث الشمس الغاربة ترسل ضوءها الخافت - عمودا من الدخان يتلوى صاعدا، فأخذت سمتها نحو المدينة. وبينا هي في طريقها إليها إذا بالملكة في عربتها ماضية إلى نزهتها، فاستوقف نظرها هذه المرأة التي ينم وجهها عن جلالها على الرغم من أسمال ثيابها، فأمرت بركوبها، وأعجبت بحديثها، فاحتفظت بها وصيفة في قصرها . وليس هذا القصر الذي انتهى إليه مطافها سوى قصر ابن خالتها. ولما علمت الملكة أن وصيفتها هي الأميرة «دامايانتي» أقبلت عليها تضمها في لهفة، وتقبلها وعيناها تدمعان إشفاقا وسرورا. ثم أرسلتها إلى أبيها - وهو أحد الملوك - في حاشية تليق بمكانتها، وحملتها من ثمين الهدايا ما هو خليق بها.

أما «نالا» فكان قد انتهى به الأمر أن يعمل في حاشية أحد الأمراء سائقا لعربته الحربية، ولم يكن يحزنه سوى فراق زوجته، وكلما تخيلها شريدة في الغابة أو ملقاة بين أشجارها جثة هامدة ضاق صدره ودمعت عيناه. ولم تكن «دامايانتي» بأقل منه حزنا على فراق زوجها، فأعلنت على الملأ أنها ستقيم حفل المباراة بين الفرسان لتختار لنفسها زوجا - لعل الدعوة تبلغ زوجها فيأتي للقائها - وكان بين الأمراء الخاطبين من كان «نالا» يعمل في خدمته، وجاء الأمير يقود له العربة «نالا»، فما كان أشد دهشته حين وجد المدينة خاوية لا حفل فيها ولا زينة؛ وإنما جلست «دامايانتي» هنالك ترقب الزائرين حتى أبصرت زوجها قادما في عربة الأمير، فاندفعت إليه وارتمت بين ذراعيه، وكان اللقاء حارا جميلا. •••

تلك خلاصة قصيرة لملحمة طويلة يروي فيها الهندوس تاريخهم ممزوجا بالأساطير. ويرجح مؤرخو الأدب الهندي أن تكون هذه الملحمة من نتاج عدة شعراء. وحسبك أن تعلم من ضخامتها أنها لو وضعت «الإلياذة» و«الأوذيسة» و«الإنياذة» و«الفردوس المفقود» إلى جانبها لما بلغت من الطول ما بلغته قصيدة ماها بهاراتا. ولكن الرأي الشعبي لا يرضيه إلا أن تكون هذه الملحمة الوطنية لشاعر واحد، فينسبها إلى «فياسا».

36 (3-1) قصيدة رامايانا

37

لم تكن أغاني «ماها بهاراتا» وحدها مستأثرة بألسنة المنشدين، بل قام إلى جانبها قصيدة أخرى أوسع منها انتشارا بين عامة الهنود؛ وهي قصيدة تروي مغامرات «راما» وشاعرها هو «فالميكي».

38

ولئن كان أساس «ماها بهاراتا» هو الفروسية في الحروب، فإن محور «رامايانا» هو الحب. وقد ظلت «رامايانا» معينا لا ينضب للمسرح مدى ألف عام أو يزيد. وخلاصتها:

أن قبيلة «فيديها»

39

وقبيلة «كوشالا»

40

كانتا جارتين صديقتين، أضافتا إلى رباط الود صلة المصاهرة، فتزوج «راما» - وهو أمير في كوشالا - من «سيتا»

41 - وهي أميرة في فيديها - وتدور القصيدة حول ما لقيه الزوجان في الحياة من بؤس ونعيم.

كان «راما» وليا للعهد في مملكة أبيه، لكن أباه وعد إحدى ملكاته - وكن كثيرات - أن ينفي ابنه «راما» عن أرض الوطن أربعة عشر عاما، وأن يوصي بالعرش من بعده لابنها «بهاراتا».

وكان «راما» بارا بوالده مطيعا، فغادر الوطن طوعا لأمر أبيه، وصحبته زوجته «سيتا» وأخوه «لاكشمان»،

42

وقصد ثلاثتهم إلى غابة في الجنوب. ولما كان «راما» متدينا بطبعه، كان أثناء إقامته في الغابة يزور الرهبان في صوامعهم حيث يتعبدون ويتلقون الوحي من الله، وقد أعجب أحدهم - وهو أجاستيا

43 - براما إعجابا شديدا، فمنحه سهما مسحورا يساعده في خطر سيحيق به.

ولم يمض طويل زمن على نفي «راما» حتى أحس الملك فداحة فعلته، فهده الحزن وأسلم الروح في حسرة ولوعة، وتولى الملك بعده ابنه «بهاراتا»، لكن هذا الأمير الصغير كان من شرف النفس ونزاهة الضمير بحيث أسرع من فوره إلى أخيه «راما» ليعيده إلى العرش، فكان جواب «راما» أن موت أبيه لا يبرئه من عهد قطعه على نفسه أن يظل بعيدا عن أرض الوطن أربعة عشر عاما. وعاد «بهاراتا» كارها ناقما على أمه التي وضعته - بحمقها - في هذا الوضع البغيض، لكن «راما» أوصاه بأمه خيرا.

وكان على جزيرة سيلان في ذلك العهد ملك يدعى «رافانا»

44

هو في القصيدة مثال الشر والسوء، بينما تتجسد في «راما» الفضيلة والخير وروح التضحية؛ ولم يكن «رافانا» فظ العاطفة غليظ القلب فحسب، بل زاده الله سوءا، فخلقه في جسم بشع مخيف، وكان له صديق يدعى «ماريكا»،

45

وكلاهما ساحر ماهر، يستطيع أن يتقمص أي جسد ويحاكي أي صوت. وقد حدث أن صادفت أخت «رافانا» أثناء تجوالها في الغابات «راما» فهامت بحبه، ولكنه لم يبادلها حبا بحب، فسرعان ما تحول رحيق شفتيها إلى سم زعاف، وصممت أن تأخذ بالثأر لقلبها الجريح، فعادت إلى أخيها «رافانا» وأخذت تطنب له في وصف «سيتا» التي تفتن القلوب بجمالها. ولم تزل به حتى أشعلت الحب في نفسه، وأقسم ليقصدن إلى حيث هذه الفتاة الرائعة فينتزعها من ذراعي حبيبها، وأمر بعربته الهوائية أن تعد، واصطحب صديقه «ماريكا»، وقصدا إلى الغابة. وهنا يبدع الشاعر ويجيد في وصف تلك العربة المسحورة وما نقش عليها من رسوم، حتى ليذكر القارئ بقطعة جميلة في إلياذة هوميروس يصف فيها درع «أخيل» وما نقش عليه من صور.

كان «راما» وزوجته «سيتا» وأخوه يستمتعون ذات مساء بهواء الغابة المنعش العليل، وإذا بهم يشاهدون غزالا رشيقا يعدو إلى جانبهم مسرعا، وكان الغزال يلمع كأنما يسيل من جسده ذوب النضار، فودت «سيتا» حين رأته أن تظفر به. فما هو إلا أن ذهب «راما» يطارده ليمسكه؛ وما كان الغزال إلا «ماريكا» بدل بقوة السحر هيئته، فلبث «ماريكا» يعدو قريبا من مطارده حتى يغريه، لكنه يفلت يمينا أو يسارا فلا يمكنه من نفسه، ولم يزل به يخادعه على هذا النحو ليبعده عن موضع حبيبته «سيتا» حتى ضاق صدر «راما» وقذف بسهم يريد أن يفتك به؛ فصاح «ماريكا» صيحة عالية يقلد بها صوت «راما»، فارتاعت «سيتا» لاستغاثة زوجها، واستحثت أخاه «لاكشمان» أن ينقذ زوجها وحبيبها، وبقيت في مكانها وحيدة تنتظر «راما» بصبر نافد وصدر مضطرب، وشاركتها الطبيعة في حزنها، فغامت السماء، وأمسك الطير عن تغريده، وارتعشت الأزهار وأحنت رءوسها العطرة، ورفعت «سيتا» بصرها فإذا بكاهن يقف إلى جانبها؛ إنه «رافانا» اللعين، وأسرع هذا الشيطان البغيض قبل أن يعود «راما»، وانقض على «سيتا» كما ينقض النمر على فريسته، وعاد بها مسرعا إلى قصره في مدينة «لانكا» بجزيرة سيلان.

وعاد «راما» فلم يجد زوجته، فهام على وجهه في أرجاء الغابة باحثا نادبا. فلما علم بحقيقة الأمر قصد مسرعا إلى مكان «رافانا»، وفي طريقه إلى الساحل الجنوبي مر بإقليم تسكنه قبيلة متوحشة، صورها الشاعر في هيئة القردة، فحاولت تلك الأمساخ أن تعوقه عن السير، ولكنه شق طريقه بينها في غير خوف، فأعجبت القردة ببسالته وحالفته، وتطوع جيش جرار منها أن يصحب «راما» ليعاونه على عدوه.

بلغ «راما» - على رأس جماعة القردة - الشاطئ الجنوبي، ويظهر أنه لم يكن للهندوس في العصر القديم سفن، فكيف عبر «راما» وصحبه البحر إلى سيلان؟ عادت القردة إلى جبال الهملايا، وجاءت تحمل أثقالا لا حصر لها من الصخر، قذفت بها في الماء فشيدت بها جسرا يصل ما بين الأرضين، وعطف إله البحر على «راما» أيضا، فرفع له قاع البحر حتى يهون على القردة ما كانوا يصنعون، «وما دامت السماء سماء والأرض أرضا، فسيظل هذا الجسر ناطقا باسم راما.»

46

وعبر جيش القردة إلى مدينة «لانكا» فحاصروها، وتدفق من المدينة سيل من الجند يدفعون عنها هذا العدو المغير، ولكن هيهات أن يتزحزح القردة عن مواقفهم قيد أنملة؛ ولبثت الحرب سجالا سبعة أيام، ثم نال اليأس من «رافانا» فهجم على «راما» هجمة عنيفة يريد أن يهوي عليه بفأسه، ولكن «راما» سدد إلى صدر عدوه سهمه المسحور الذي كان أخذه من «أجاستيا» الراهب، فأرداه قتيلا يتضرج في دمائه.

أطلق سراح «سيتا» من سجنها، ولكن محنتها لم تبلغ النهاية بعد، فقد ارتاب «راما» وشك أن يكون «رافانا» دنس طهرها، وكان لا بد من إقامة البرهان على طهارتها. وهل لمثل هذا البرهان من سبيل في تلك العهود الأولى غير نار تشعل ثم يلقى بالمتهمة في سعيرها، لتحترق بلظاها إن كانت آثمة، أو تكون عليها النار بردا وسلاما إن كانت بريئة؟! وأعدت النار - وكانت «سيتا» قد حز في نفسها شك زوجها - فوثبت إلى جوف اللهيب المستعر، لكن «آجني» - إله النار - أعاد الزوجة الطاهرة إلى زوجها الذي ضمها إلى صدره وعيناه تدمعان من الفرح.

وعاد الزوجان إلى عاصمة ملكهما في «كوشالا»، وكان قد انقضى عليهما في النفي أربعة عشر عاما. وجلس «راما» على عرشه. •••

ومن أعظم شعراء الهندوس - فيما بعد - كاليداسا.

47

ومن قصائده قصيدة عنوانها «سلالة راما»، فيها وصف جميل لمدينة كانت قصبة الملك وموطن الأبهة والجلال، ثم زال عنها كل ذلك حين انتقل مقر الحكومة إلى مدينة غيرها:

كانت هنا بحيرة ترد إليها الغانيات لتتبرد بمائها،

وكان لموجها المتلاطم أنغام تشجي ،

فأصبحت اليوم موردا لوحشي البقر تضرب ماءها بقرونها؛

فلا تسمع الأذن غير الصدى لصوت الماء تلطمه القرون.

وهنا كان الطاووس يختال بتاجه الساطع،

بين الأغصان المترنحة حيث طاب له المقام.

وهذا البستان كان مرتع الحسان؛

كن للزهر قاطفات، وبالماء عابثات،

فأصبحت اليوم لا أرى غير القردة في مرحها الوحشي،

تعرك الزهر بأقدامها، وتمزق النبات بحركاتها.

وفي القصيدة صبغة من نغمة الفيدا، إذ تمتزج فيها اللمحات الفلسفية بأشعار الوصف في كثير من مواضعها.

ولهذا الشاعر أيضا قصيدتان غنائيتان: قصيدة عنوانها «رسول السحاب» وأخرى عنوانها «الفصول»، هاك بعض أجزائها:

ها هي شمس الصيف المحرقة،

قد مدت على عرش السماء سلطانها،

وأخذت لوافح الريح تهب طليقة من أغلالها،

فيبس العشب وصوح الشجر.

وها هو الليث ملك الغاب؛

انظر إليه هائما بين أشجارها!

وقد اشتدت عليه وطأة الظمأ؛

فظل صدره اللاهث صاعدا هابطا.

وها هي الكهوف في صخر الجبل،

قد اندفعت من جوفها الثيران الهائجة؛

ألسنتها مدلاة من أفواهها والزبد يحيط بها،

ترفع خياشيمها الواسعة عاليا.

واكتوت الطواويس بلذعة الشمس فطوت أذيالها،

واضطربت الضفادع فوثبت من الماء لا تأبه لها الأفاعي،

وقد رفعت رأسها إلى الهواء هامدة؛

لعل هبة ريح تمر بها في الطريق شاردة،

ثم يسقط المطر فيحيي الأرض بعد موتها، ويملأ الجو بأريجها،

وتتفتح الأزهار في مختلف ألوانها،

وبحيرات الماء تزدان بالأزهار تفتحت أكمامها،

والحدائق ضاحكة طروب بأعراش رياحينها،

والغابات ازينت لتبهج الناظرين؛

فكشفت عن زهر ناصع جميل.

ولنعد بعد إلى الأدب الديني فنرى أن تقادم العهد على حياة الآريين الأوائل في سهول البنجاب، جعل الجيل الجديد ينسى ما لازم تلك الحياة من دقائق وتقاليد. ولما كان كتاب «الفيدا» - كما قدمنا - يدور حول حياة الهندوس الأولين، فقد أخذت معانيه وإشاراته تغمض، ولغته تصعب على الأجيال الناشئة؛ لذلك لحقت بالمتن شروح تناولتها الأجيال جيلا بعد جيل. وكان من الطبيعي أن تتسع دائرة الشرح حتى تتعدد ألوانها، فكان واجب البراهمة عندئذ - وهم طبقة الكهان - أن يجمعوا هذه المجموعة المتباينة من الشروح ليوفقوا بينها؛ فنشأ من هذا التوفيق أثر أدبي جديد هو الذي يطلق عليه اسم «براهمانا»، ثم تبعه ال «يو بانشاد» وهو ذيل للبراهمانا (وضع نحو سنة 500ق.م.) يحتوي على التأمل اللاهوتي الذي ساد في ذلك العصر، وفيه نزعات صوفية ودعوة إلى طهارة القلب وصفاء النفس، وأن المعرفة أساس التحرر. والعجيب أن «يو بانشاد» فيه نسخ لما في البراهمانا من شعائر، ومع ذلك يلحق به كأنه متمم له، وهو في ذلك شبيه ب «العهد الجديد» لا يقوم على الشعائر اليهودية التي في «العهد القديم»، ومع ذلك فهو يعد متمما له، بحيث يكون كلاهما الكتاب المقدس. و«يو بانشاد» فيه ذخيرة ثمينة من الشعر والقصص إلى جانب لمحاته الفلسفية التي تسطع آنا بعد آن.

و«الفيدا» و«براهمانا» و«يو بانشاد» هي كتب الوحي عند الهندوكيين، وهي تشتمل على نزعات مختلفة متباينة، فنرى فيها تعدد الآلهة والآلهات ونزعة التوحيد، ونزعة الحلول ووحدة الوجود؛ فهي نظام اجتماعي يسمح بالعقائد المختلفة أكثر منها دعوة إلى عقيدة معينة. تعددت الآلهة في «الفيدا» وتنوع اختصاصها، وأسند إلى كل عمل، واختلطت أعمالها لأنها كانت آلهة قبائل متعددة، وترقت هذه الآلهة المتعددة إلى وحدة منها انبثق الخلق وإليها يعود، وظهرت هذه النزعة الراقية - على الأخص - في ال «يو بانشاد». ويصل هذا الرقي إلى «الفيدانتا»، ومعناها الحرفي خاتمة «الفيدا».

ومحور «الفيدانتا»

48

هو أن الله والنفس الإنسانية شيء واحد، فإن خيل للإنسان أنهما شيئان مختلفان، فما ذاك إلا لأن إدراكه أضيق من أن يرى اتحادهما، وإن الإنسان ليظل على ضلاله هذا حتى يحطم من نفسه حدود الذات. وفي هذا الكتاب تشبيهات جميلة لتوضيح ما بين النفس والله من صلة لو أزيلت بينهما الحواجز؛ من أمثلة ذلك قولهم: إن الهواء في قدح مقلوب يظل منفصلا عن الهواء المحيط، حتى إذا ما رفعت القدح زالت الفواصل، واتحدت أجزاء الهواء؛ فالذات الفردية هي بمثابة هذا القدح، فلو رضت نفسك على إنكار ذاتك، حطمت هذا القدح الفاصل بينك وبين الله، وحققت لنفسك السجينة حريتها . إن أشعة الشمس لا تختلف عن الشمس التي منها انبثقت، والموج الصاعد من البحر لا يختلف عن البحر، والشرر المتطاير من النار هو النار نفسها، فكذلك النفس الفائضة عن الله هي الله. (3-2) البوذية

لبثت طبقة الكهان مسيطرة على العقول حتى قامت في الهند «حركة عقلية جديدة» تدعو إلى الإصلاح الديني، وقد تمخضت هذه الحركة عن «الفدانتا» من جهة و«البوذية» من جهة أخرى. أما «الفدانتا» فتقيم تعاليمها على أساس «الفيدا» غير أنها تهتم بروحه لا بألفاظه. وأما «البوذية» فترفض الفيدا من أساسه. ونشب صراع بين البوذية الجديدة والفيدا وما إليها، وظل قائما مدى قرنين كاملين، حتى أقبلت جحافل الإسكندر الأكبر تغزو سهول البنجاب (عام 327ق.م.) فوجدت البرهمية القديمة تغرب شمسها، ونجم البوذية الجديدة يسطع في سماء الشرق، لكن البوذية لم يدم سلطانها في الهند إلا إلى القرن الخامس بعد الميلاد، ثم أفسحت الطريق للبرهمية مرة أخرى.

ولد «بوذا» واسمه «جوتاما» في بلد قريب من «بنارس» بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد، وكان من الأسرة الحاكمة، غنيا، جميلا، وقد بدت عليه علائم التفكير والتأمل العميق، وهو ما يزال في مقتبل حياته، فكان يتخير مكانا منعزلا يأوي إليه ساعات ينفقها في التفكير، ولداته من الفتيان يلهون ويلعبون. وأول ما هز قلب الفتى اليافع أن رأى الطبيعة من حوله تتفتح عن ألوان من الجمال الرائع الخلاب، لكن تلك الروائع الفاتنة ما أخرجتها الطبيعة من جوفها إلا لتعيدها إلى قبورها؛ فكل ما تلده الحياة مقضي عليه بالتغير والفناء، فهذا الشباب الملتهب النضير ستلفحه ثلوج الشيخوخة فيجمد؛ فالحياة أمدها قصير، وهو على قصره مليء بأسباب الهم والعناء. ومهد الوليد وسرير الميت كلاهما تحوطه ألوان العذاب والأسى، ولا يحقق الإنسان لنفسه مطمعا حتى يعاني في سبيله الشقاء والألم، وكل محاولة يبذلها الفرد ليثبت ذاته بمثابة كأس من العلقم المر يجرعها، وأشد مسرات الحياة بهجة تشوبها شوائب الحزن. آه لو استطاع الإنسان أن يتخلص من الحياة التي تسبب له هذا الهم والشقاء! لكن الانتحار عبث لا يجدي، لأنه لا يقتلع الشر من جذوره؛ فقطفك الورود الناضجة لا يقتل شجرة الورد، فسرعان ما تزهر وردا يانعا جديدا. إن جذور الحياة، هي الرغبة في الحياة، فإن محوت من نفسك هذه الرغبة فقد طمست مصدر الألم، وأعددت لنفسك الطمأنينة والرضا.

تلك كانت بواكير الفكر التي دارت في رأس بوذا وهو في صدر شبابه، فلما أقبلت رجولته كان عزمه المصمم قد اتجه إلى العزلة، فما كاد يبلغ التاسعة والعشرين حتى غادر قصر أبيه، تاركا وراءه زوجة جميلة وطفلا رضيعا، وكان في صحبته خادم واحد، ولم يمض في رحلته طويلا حتى أعاد هذا الخادم وأعطاه سيفه وجواده، ثم لم يلبث أن صادف في بعض الطريق سائلا فقيرا، فبادله ثيابا جميلة برداء ممزق بال؛ لقد هاجر بوذا وخلف وراءه أبهة القصور وجلال الملك، فلم يطمع أن يكون بين الناس حاكما، إنما أراد أن يكون لهم معلما وصديقا. «إن الحياة في الأسرة مليئة بالعوائق، إنها طريق أفسدته العاطفة. أما ذلك الذي نفض عن نفسه كل رغبة دنيوية فحياته حرة طليقة كهذا الهواء، إنه ليتعذر على رجل يعيش مع أسرته أن يحيا حياة رفيعة بكل ما في الحياة الصحيحة من خصوبة ونقاء وكمال! دعني إذن أزل شعري ولحيتي، دعني أرتدي ثوبا أصفر (ثوب الزاهدين)، وأغادر حياة الأسرة والدار إلى حياة بغير مأوى.»

وقصد الأمير أول أمره إلى البراهمة يتلقى عنهم الدين، ولكنه وجد في تعاليمهم نظرا ضيقا جامدا كان لروحه الوثابة كالشبكة تمسك بالطائر المحلق فلا يطير؛ فازدرى تعاليم الفيدا، بل استخف بكل هيئة تزعم لنفسها سلطانا دينيا، وأيقن أن تجربته الشخصية وتفكيره خير مرشد يهديه في أمور الدين، فها هو ذا الدين القائم إذ ذاك يدعو إلى ذبح الأضاحي قربانا، لكن قلبه يرتعد هلعا إذ يرى الذبائح تنحر إرضاء لله، وتساءل كيف يمكن لهذا الشر أن ينتج خيرا؟!

فشل رجال الدين من البراهمة في بعث الطمأنينة إلى نفسه القلقة، فالتمس الهداية عند مورد آخر، وشاءت له المصادفة أن يلاقي جماعة مترهبة يروضون عقولهم وحواسهم رياضة منظمة تتبع منهاجا معينا؛ فانخرط بوذا في جماعتهم وأخذ يلجم حدة العقل وشدة الحواس كما كانوا يفعلون، لكنه عاد إلى قلقه بعد ستة أعوام؛ إذ لم يفلح ذلك المنهج في إرضاء نفسه، فلا تعذيب الجسد ولا رياضة العقل أتاحت لنفسه السجينة ما ينشد لها من حرية وفكاك.

فبينا هو جالس ذات يوم في ظل شجرة يتأمل، إذا به يحس فيضا من النور يشرق على نفسه، فقد تكشف الحق عندئذ لبوذا، وذابت شكوكه أمام ذلك الإشراق الساطع، كما تنقشع سحب الصيف أمام شمسه الحرور؛ إذ تبين لبوذا ساعتئذ أن خلاص النفس من خطيئتها وشقائها هو في شيء واحد؛ أن يحب الإنسان كل كائن حي حبا لا يرجو من ورائه غاية غير الحب. «إن إنسانا تأخذه الرحمة ويملؤه الحب، ويصفو قلبه ويملك زمام نفسه، لقريب من نعيم النرفانا.»

49

والنرفانا حالة روحانية يمحى فيها كل تفكير في الذاتية الشخصية؛ فكلما سرت خطوة في إنكار نفسك دنوت من النرفانا، وكلما حصرت تفكيرك في نفسك بعدت عنها. إن كل ما في الحياة من ألوان الهم والشقاء مصدره الأنانية التي لا تشبع؛ فهذا العذاب الأليم الذي يشقى به الناس مرده إلى الأثرة الطامحة، والشهوات الجامحة، ولا تزال حياة الإنسان شقاء موصولا حتى يقمع في نفسه كل شهوة شخصية. وتقع هذه الشهوات في ثلاثة أنواع رئيسية؛ فالأولى شهوة الإنسان أن يمتع الحس، والثانية رغبته في تخليد شخصه، والثالثة حب الإنسان أن يكون في الحياة ذا مال وجاه، فهذه الشهوات الثلاث لا مندوحة عن قمعها إذا أراد الإنسان لنفسه عيشا سعيدا. فإذا ما اجتثت هذه الشرور من جذورها، وزالت كلمة «أنا» من حياة الإنسان، فقد بلغ الحكمة العليا، أو «النرفانا» كما تسمى عندهم، وهي صفاء الروح واطمئنانها؛ فليس معنى «النرفانا» طمس الحياة ومحوها كما يفهمها كثيرون، إنما هي طمس ومحو لهذه الغايات الشخصية التافهة التي تهبط بالحياة، وتملؤها بالهم والشقاء.

وهذا الفناء الذاتي لب البوذية وصميمها، وفيه عرض لحل مشكلة الحياة المعذبة، ووضع خطة لهدوء الروح وسكونها. والبوذية في ذلك ليست بمنأى عن سائر الأديان والفلسفات الكبرى، فكلها تريدنا أن نفني أشخاصنا في شيء أعظم من أشخاصنا. لكن البوذية تعود فتختلف عن كثير غيرها من الديانات في أنها ديانة ترسم خطة للسلوك في الحياة اليومية، ولا تفرض شيئا من الشعائر وأنواع الضحايا والقرابين. وإذا لم يكن ثمة شعائر فلا معابد، بل ليس للبوذية لاهوت، هي تثبت ولا تنفي مئات الآلهة التي كان يعبدها الهنود إذ ذاك، وما حاجتها إلى نفي الآلهة أو إثباتها ما دامت لا تنشد إلا سلوكا عمليا فاضلا في هذه الحياة الدنيا؟ وكانت آخر كلمة فاه بها «بوذا» «إن الفناء لاحق بالأجسام جميعا فجاهدوا لتحرير أنفسكم ما استطعتم.»

ولما مات أخذ أتباعه ينشرون أقواله عن طريق الرواية، ولم تدون إلا بعد ذلك بأعوام طوال.

وإليك مثالا من كتب البوذيين، وهو مأخوذ من مجموعة الأشعار التي تسمى «طريق الحق».

إن الكراهية في هذا العالم لا تمحوها كراهية مثلها،

إنما يمحو الكراهية الحب، وهذه أبدا طبيعتها.

إذا ما جد الحكيم في قمع غروره،

وصعد في مدارج الحكمة إلى ذراها؛

فسينظر إلى الحمقى من أعلى،

وسينظر نظرة المطمئن إلى تلك الجموع الكادحة،

كما يصوب الواقف على قمة التل أنظاره

إلى من يقف في أسفل الوادي.

إن الخير للعقل أن تفل حدته؛

فالعقل جموح صعب المراس،

ينزع إلى ميله وهواه،

أما العقل المروض فطريق إلى النعيم.

وكما تمتص النحلة رحيقها - في غير إيذاء

للزهرة في لونها وشذاها -

ثم تطير،

فليكن كذلك مسلك الحكيم على هذه الأرض.

إنك لن تجني من الخطيئة ثمرا،

وقد يحسبها الحمقى مترعة بالرحيق.

لكن إذا تم للخطيئة نضجها،

هوى الحمقى بإثمهم في هاوية الأسى.

قد تقهر في حومة الوغى ألوف الرجال،

لكن من يقهر نفسه خير الظافرين.

لا تستخفن بالخطيئة فتقول: «لن تملك مني زمامي.»

فكما يمتلئ الإناء بقطرات الماء المتساقطات،

كذلك نفس الأحمق تملؤها الخطيئة إذا انصبت فيها رويدا رويدا.

ومع أن بوذا هندي الأصل، ويعد مذهبه تهذيبا للبرهمية فإن مذهب البوذية في الهند قليل نسبيا . وأما الكثرة الغالبة من البوذيين فمن أهل اليابان والصين.

50 (3-3) كتاب «بيورانا»

51

بيورانا هو الكتاب الذي يقدسه الهندوس المحدثون، وقد كتب لأول مرة في القرن السادس الميلادي؛ فالهندوس بطبعهم محبون للقصص التي تروى عن الآلهة، ونشأت حول ذلك مجموعة كبيرة من الأساطير يتلقاها الأبناء عن آبائهم، ثم يضيف إليها الشعراء حينا بعد حين ما يخلقه خيالهم؛ فكم من عجوز تجلس إلى مغزلها وحولها الأبناء والأحفاد ينصتون إليها وهي تروي قصص الجن التي سمعتها في طفولتها.

من هذه المجموعة الزاخرة بالأساطير والقصص يتألف «بيورانا»، حتى لكأنه موسوعة تحوي بين دفتيها كل شيء، ففيه بسط مستفيض لحياة الآلهة والقديسين، وفيه قصص عن الخلق كيف كان، وترى فيه التراتيل الدينية، إلى جانب حقائق عن تكوين طبقات الأرض وصخورها؛ وشيئا عن التشريح إلى جانبه بعض قواعد الموسيقى؛ وترى فيه معلومات فلكية عن مسالك النجوم إلى جانب دروس في قواعد اللغة، فكأنما هذا الكتاب الضخم شيخ أثقلته تجارب الأيام، تطيب لك صحبته، ويحلو لك حديثه، حين يستطرد من موضوع إلى موضوع مما لقنته حوادث السنين.

والآلهة في هذا الكتاب ثلاثة، كل منهم يمثل جانبا من جوانب القوة؛ «فبراهما» هو الإله الخالق، و«فشنو»

52

هو الإله الحافظ، و«شيفا»

53

هو الإله المهلك المبيد، وهو يصور براهما في هيئة رجل له لحية وأربعة رءوس وأربع أيد، في يد منها يحمل الصولجان رمز القوة، وفي ثانية يحمل طائفة من أوراق الشجر تمثل الكتب المقدسة، وفي ثالثة يحمل زجاجة ملئت من ماء الكنج، وهو نهر مقدس عند الهندوس، وفي رابعة يحمل عقدا يمثل الصلاة. •••

ويشيع بين الهندوس عقيدة تناسخ الأرواح، ولا يعرف على التحديد مبدأ ظهورها في الهند، فلا أثر لها في الفيدا، ولها أثر قليل في البراهمانا، وهي ظاهرة مقبولة في اليو بانشاد وفي البوذية، وعن البوذية انتشرت في آسيا. وخلاصة هذه العقيدة أن الأرواح لا تموت ولا تفنى، وأنها تنتقل من بدن إلى بدن كما يستبدل البدن اللباس إذا خلق، وتترقى النفس في الأبدان المختلفة كما يترقى الإنسان من طفولة إلى شباب إلى كهولة إلى شيخوخة، لأن النفس تتطلب الكمال، وتشتاق إلى العلم بكل شيء، وعمر الإنسان قصير فلا بد من تنقل النفس من بدن إلى بدن لتستفيد تجارب جديدة، فالأرواح الباقية تتردد في الأبدان البالية وهي تتردد من الأرذل إلى الأفضل حتى تبلغ كمالها وتتحد بالله. (3-4) القصص والأمثال

وبعد هذا كله، فلا ريب أن أظرف صورة للحياة في الهند القديمة إنما نجدها في كتاب «جاتا كا»

54 «قصص عن مولد بوذا»؛ وهي قصص مليئة بالفكاهة والحكمة العملية والشواهد المنتزعة من الحياة الشعبية في صميمها؛ فكما تستطيع أن تتصور الحياة في بغداد في عهد هارون الرشيد، من قراءة قصص «ألف ليلة وليلة» لا من المؤلفات التاريخية، فكذلك قصص «جاتا كا» تصور لك الهند القديمة في أسواقها وقوافلها، ومزارعها ومعسكراتها، ومصانعها ومعابدها.

وإلى جانب قصص «جاتا كا» توجد مجموعة أخرى عنوانها «بانكاتانترا»

55

ومعناها «المقالات الخمس»، فكثير من حكايات «إيزوب»

56

اليونانية المشهورة لها نظائر في هذه المجموعة الهندية. ومما يستحق الذكر أن هذا الكاتب اليوناني «إيزوب» صاحب الحكايات الخرافية قد نزل ضيفا في آسيا الصغرى على «كرويسس»،

57

فلعله وهو هناك قد تصيد حكاياته من نفس المعين الذي استقت منه مجموعة «بانكاتانترا» بعض حكاياتها. هذا إلى أن الحكايات الهندية الخرافية قد تسربت إلى العالم عن طريق الفرس في الزمن القديم.

وحسبك أن تعلم أن كتاب «كليلة ودمنة» المنقول من الفارسية إلى العربية فيه أبواب من «بانكاتانترا» وهي؛ باب الأسد والثور، والحمامة المطوقة، والبوم والغربان، والقرد والغيلم، والناسك وابن عرس. كما أن في هذا الكتاب قصصا من «الماهابهاراتا» التي تقدم ذكرها، وهي باب الجرذ والسنور، والملك والطائر فنزة، والأسد وابن آوى. فالظاهر أن الفرس جمعوا كتاب كليلة ودمنة من أصول هندية، ثم نقله ابن المقفع إلى العربية بعد أن حور فيه بما يتفق مع الذوق العربي الإسلامي.

وكتاب «بانكاتانترا» مكتوب باللغة السنسكريتية - وهي من اللغة المستعملة حديثا بمثابة اللاتينية من الإيطالية الحديثة - أما حكايات «جاتا كا» فمكتوبة بإحدى لهجات الهندوس، لهذا كان من حظ «بانكاتانترا» أن يتسع انتشارها، على حين ظلت «جاتاكا» محصورة مجهولة لم تجد من يترجمها إلى اللغات الأوروبية الحديثة إلا في هذا العصر الحديث، بينما ترجمت حكايات «بانكاتانترا» منذ زمن بعيد إلى كثير من لغات آسيا وأوروبا على السواء. وهاك مثالا لها:

يحكى أن حمارا أنفق اليوم كله يجر عربة غسال، فما أقبل المساء حتى هده النصب، فأراد أن يمتع نفسه بأكلة شهية تعوضه تعب النهار، فقصد إلى حقل مجاور زرع قثاء، وصحبه إلى الحقل ابن آوى، وأكل الزميلان من القثاء الرطبة الشهية حتى شبعا، فقال الحمار لابن آوى: «ألا تراه مساء جميلا يا صديقي؟ إني لأحس بنشوة تدفعني إلى الغناء.» فأشار إليه ابن آوى بحكمته أنه خير للصوص أن يلزموا الصمت، لكن الحمار الأحمق نهق في مرح حتى أيقظ صاحب الحقل، فجاءه وأشبعه ضربا بالعصا.

ثم لهم كثير من الأمثال والحكم الرائعة جمعت في كتب؛ مثل: (1)

محك الصداقة الحقة الشدائد. (2)

إن المرض والغم والمصائب والأغلال، إنما تنتج من أخطاء ارتكبت في الماضي. (3)

عدم العجب عند النعمة، وعدم اليأس عند البؤس، والرأي السديد والقول الفصيح عند المشورة، والشجاعة في ميادين الحروب، والمنافسة في الشرف، والتزام العمل بالحكمة؛ ست فضائل تتحلى بها النفس النبيلة. (4)

ارحم من استرحمك، وعمم نعمتك، فالقمر يسوي في ضوئه بين المعافى والمبتلى، والسيد والمسود. (5)

اتبع العدو إذا أخلص أكثر مما تتبع الصديق إذا لم يخلص، فالعداوة والصداقة لا تتميز بالألفاظ والأسماء، بل بالعقل والأعمال. (6)

لا تشمخ بأنفك عند غناك، فالقدر يلعب بأعراض الدنيا كما تلعب البنت بالكرة. (7)

ليس الدين الحق ما يثرثر به الوعاظ، إنما هو أن تحب ما يحب الله؛ يحب كل شيء صغر أو كبر، عظم أو حقر، والنعمة الحقة عقل صحيح في جسم صحيح، والمعرفة الحقة معرفتك الخير من الشر. (8)

قد تلمع الزجاجة - كما تلمع الدرة - إذا ركبت على قطعة من ذهب، كذلك الغر الجاهل إذا صاحب الحكيم العاقل.

وهكذا. (4) الأدب الفارسي القديم

للفرس أدب ديني عماده «زرادشت» وديانته، وبيان ذلك أن الفرس القدماء كانوا يعبدون الأوثان حتى ظهر فيهم نبيهم «زرادشت»

58

فجاءهم بالدين والحكمة. ولسنا ندري على وجه الدقة أين نضع زرادشت من عصور التاريخ، فالمؤرخون يختلفون في وضعه بين القرن العاشر قبل الميلاد والقرن الخامس.

ويروى عن نبي الفرس أساطير، منها أنه لما حملت به أمه هتف بها هاتف في النوم ينبئها بما قدر الله لوليدها من مستقبل عظيم، وأنه سيعرج إلى السماء حيث يتلقى عن الله، وهو «أهورا مزدا»،

59

الكتاب المقدس - «الأفستا»

60 - قالوا: ومنذ أن شهد زرادشت نور الحياة بدت فيه علائم النبوة، فقد قيل إنه ضحك ساعة مولده، وإنه منذ الصبا كانت له مكانة ممتازة في نفوس الناس، فلما اكتملت رجولته أخذ يدعو إلى التوحيد ويقاوم عبادة الأوثان.

ودعي زرادشت ليمثل بين يدي الملك حين بدأ دعوته الجديدة، فلبى وذهب إليه في ردائه الأبيض الفضفاض، يحمل في يد شعلة النار المقدسة وفي أخرى صولجانا من غصون السرو، وأخذ يحاج الملك ويقنعه برسالته الجديدة التي أوحي إليه بها من «أهورا مزدا» لينهض بالشعب الآري إلى ذروة التوحيد؛ فآمن الملك وابنه بديانة زرادشت، وتحمس الأمير الشاب «أسفنديار»

61

فدعا الناس أن يحطموا أوثانهم ليدخلوا في دين الله الجديد، فنهض يعارضه أمير آخر من أسرة أخرى هو «رستم»، وتقابل الأميران في ميدان القتال. أما «أسفنديار» فتروي عنه الأساطير أن جسمه قد تحول إلى كتلة من الصفر، ولم يبق فيه مقتل إلا عيناه، ومع ذلك استطاع عدوه العنيد أن ينفذ إليه منهما فأعماه، وعاد أسفنديار إلى أبيه ضريرا، ولم يلبث حتى أسلم الروح.

وانقسم الفرس فريقين: فريق موحد تؤيده الدولة، وفريق احتفظ بديانته القديمة؛ وكان لا بد من صراع طويل بين الفريقين، انتهى بهجرة الفريق الأضعف - فريق الوثنيين - إلى سهول الهند الخصيبة، حيث استقر وتطورت عقيدته حتى أصبحت «البرهمية» كما يعتنقها الهندوس المحدثون. وبقي الفريق الآخر في أرض الوطن، وازدهر قرونا طوالا، وشيد إمبراطورية عظيمة، وشاعت الديانة الزرادشتية في أرجاء فارس بفضل تأييد الدولة لها، ثم اتسعت رقعتها حين اتسعت أملاك الفرس على أيدي ملوكها من أمثال «كورش» و«دارا»، ولبثت مسيطرة على النفوس حتى فتح المسلمون فارس.

آمن زرادشت في كتابه «الأفستا» بإله واحد عظيم، ثم أخذ يفصل لقومه كيف ينبغي أن يعيشوا وفق قانون الطبيعة، فلكي يكون الإنسان جزءا سليما في هيكل الكون يجب أن يعيش صحيحا معافى، وألا يكون ضعيفا خائر القوى، ومن هنا أخذ يدعو إلى أن يحيا الإنسان حياة نقية نظيفة ليجنب نفسه العلل والأمراض. ولقد طبع الله في الإنسان بصيرة يميز بها بين الطاهر والدنس، أو بعبارة أخرى بين الحق والباطل، ذلك هو الضمير الذي يهدي صاحبه سواء السبيل؛ فمن يعش وفق ضميره تكن حياته متسقة مع إرادة الله.

ولقد كان «أهورا مزدا» رمزا للحياة الطاهرة النقية، و«أهريمان»

62

يمثل التلوث والدنس، والصراع لا ينفك قائما بين «أهورا مزدا» و«أهريمان»، أو إن شئت فقل بين الطهر والدنس، أو بين الحق والباطل. وإذا اصطرع الخصمان في نفس الإنسان فإن الضمير يهدي - في وضوح لا لبس فيه - إلى أين يقع طريق الحق.

ومن أهم اللفتات الفلسفية في تعاليم زرادشت وجود مبدأين في الطبيعة يعملان متضادين، وهما «الروح الخالقة» و«الروح المبيدة»، أو الكون والفساد. ومنذ تم الخلق وبين هذين الروحين كفاح وصراع وتنافس، ولكن، هل هذان المبدآن إلهان؟ في الحق أن بعض النصوص في الأفستا تدل على التوحيد مثل: «إن «أهورا مزدا» عليم بكل شيء، ولذا فهو يعلم بوجود أهريمان ... أما أهريمان - وهو روح الشر - فلم يكن لديه علم بوجود «أهورا مزدا» ...»

إن «أهورا مزدا» فوق كل ذي علم وخير، فهو في جلاله لا يشبهه شيء ...

63

ولذا ذهب بعض الباحثين إلى أن رب الكون واحد عند زرادشت، لا شريك له، وإن يكن في الكون خير وشر يتنافسان، فنزعة الشر بادية في برد الشتاء يجمد الماء ويثلج الأرض ويعوق الشجر عن النمو والإثمار، وفي الخواطر الشريرة تطوف بالرءوس وفي الشك والإلحاد، وفي الفقر والكسل، وفي الأوثان وعبادتها، وفي الحياة، وفي الخيانة والكذب، والظلام وكريه الروائح، والأمراض وضروب الوباء، وفي الحيوان المفترس والزواحف السامة والحشرات ... تلك وما إليها صنائع «روح الشر» التي أخذت على نفسها أن تهدم وتهلك وتبيد. ودعا زرادشت في تعالميه أن يكون الانسان خيرا في قوله وفي تفكيره وفي عمله. وخير إنسان عند الله يتمثل في «يما»

64

وهو الذي ورد في الشاهنامة والأساطير الفارسية باسم «جمشيد»؛

65

فقد وهب الله «يما» محراثا ورمحا ذهبيا ليتخذ منهما شارتين لسلطانه فوق الأرض، وأخذ «يما» يعمل في الأرض بما أمره الله ففلحها وأعدها للزراعة، وأسكنها رجالا وماشية وكلابا وطيرا، ثم أمدها بالنار.

أخذ «يما» يقيم في الأرض دولة الخير، غير عالم أن «روح الشر» كامنة في حنايا الطبيعة تتربص له، فأنذره الله بما قد يغشاه من سيل وصقيع ليكون على حذر، فهب «يما» من فوره يعد الحظائر المنيعة لماشيته وخيوله، ورجاله ونسائه، ومختلف أنواع الطير، كما أعد أمكنة آمنة يخزن فيها الحب، ويحفظ شعلة النار. أعد من كل شيء زوجين، كأنه نوح ينقذ في سفينته صنوف الكائنات. إن «روح الخير» قد بذرت بذور الشجرة المثمرة وتعهدتها بماء الطهر والنقاء، وراقبت نموها لكي تثمر أطيب الثمرات «وإذا بروح الشر يندفع من جهة الشمال، فينفخ نفخة واحدة من الثلج والصقيع - هي الخيانة والسوء - فتأتي على الشجرة النضرة وتحولها حطبا يابسا. هكذا بدأت المعركة بين الخير والشر؛ بين التقوى والضلال؛ بين النور والظلام؛ الأول يصون صنع الله والثاني يهلكه ويفنيه. وتتجه الديانة الزرادشتية بكل همها نحو حماية الإنسان من روح الشر وصحبته.»

أراد زرادشت أن يجتث روح الشر من جذورها، ويفني روح التدمير ولا يبقي على وجه الأرض إلا البناء والتعمير، ففصل القواعد الصحية ونظم الحياة التي من شأنها أن تصون الفرد والمجتمع. وأول ما ذكره «الأفستا» من هذه القواعد هو: كيف ينبغي أن يتصرف الأحياء في جثة الميت حتى يتخلصوا مما يترتب على وجودها من وباء خبيث. ويعبر كتاب الأفستا عن هذه الحقيقة الصحية بعبارة مجازية فيقول: إن روح الشر إذا ما وجدت جثمان ميت تحولت من فورها إلى ذبابة خبيثة تملأ جسدها بالمرض وتروح بين الناس وتغدو لتنشر بينهم حملها الخبيث. ثم يستطرد الكتاب في ذكر الدقائق التي يجب على الإنسان أن يؤديها تأييدا لروح الخير: أين يضع الجثة؟ كيف يطهر مكانها من الدار؟ ماذا يصنع بملابس الميت؟ ... إلخ.

ويتلو ذلك في أوامر الكتاب وجوب فلاحة الأرض لتنتج الحب والشجر؛ فالله يأمر الإنسان أن يروي اليابس الجاف، وأن يجفف المستنقعات، وأن يسكن الأرض ناسا وماشية وكل ذي نفع وخير. وإن «زرادشت» لتأخذه رعدة الفزع حين يتصور أن الإنسان قد تحدثه نفسه أن يدنس الأرض بدفن الموتى في جوفها، وما خلقت إلا للزرع الذي يقيم الحياة في الأحياء. إن الموتى موضعهم قمم الجبال، تلتهمهم سباع الطير، أو تأكلهم عوامل الطبيعة.

ثم يأمر الكتاب بما ينبغي أن يراعى في الحبالى إبان الحمل وعند الولادة، حتى تسلم الوالدة والولد، ثم يفصل قواعد النظافة والطهارة والوقاية من الأمراض المعدية.

أما وقد سلم الجسد بهذا التدبير، فإن «زرادشت» يستطرد في بسط قواعد الأخلاق، فيقول: إن الإنسان قد ولد وفي فطرته عقلان: عقل خير وعقل شرير، وكل من العقلين يحاول أن تكون له السيطرة على توجيه الإنسان في أفكاره وألفاظه وأعماله. وقد لخص زرادشت الحياة الخلقية في ثلاثة أركان أساسية؛ أفكار خيرة، وألفاظ خيرة، وأعمال خيرة؛ فهذه الجوانب الثلاثة طرق ثلاثة تؤدي إلى الجنة، ومن يسعى لتحقيقها، إنما يسعى لتأييد الخير وإعلاء كلمة الله: «فلا تنحرف عن أفضل الأشياء وهي ثلاثة: تفكير خير وقول خير وفعل خير.»

والمقصود ب «التفكير الخير» أن يحصر الإنسان عقله في الله الخالق، وأن يعيش مع الناس في سلام وانسجام؛ فإن أحب الإنسان الإنسان عمل على وقايته من الخطر، وعاونه وقت الضيق. وعلمه إن كان جاهلا، وهداه إلى خير طريق يزيد بها غلته وثماره.

والمقصود ب «الأقوال الخيرة» أن يكون الإنسان حافظا للعهود، منجزا للوعود، موفيا للدين، لا ينطق بما يؤذي، ويقول ما من شأنه أن يوثق عرى الحب بين عباد الله.

و«الأفعال الخيرة» تقتضي الإنسان أن يخفف عن الفقير ، وأن يزرع الأرض، وأن يستنبط الماء العذب، وأن يشجع على إقامة الحياة الزوجية، وأن ينفق ما زاد على حاجته في وجوب الإنسان.

ودعا زرادشت الإنسان أن يتزوج لينشئ الأسرة، فكما تصلح الأرض بالإخصاب تصلح الإنسانية باتخاذ الأزواج. ويشير كتاب الأفستا إلى أن أول ما يرضي الله من عبده أن ينشئ لنفسه دارا ويختار لنفسه زوجة، وينسل الأطفال، وأن يحتفظ في بيته بشعلة النار موقدة، وأن يكون له قطيع من ماشية.

ثم يعرج زرادشت بتعاليمه على الحيوان ووجوب الرحمة به؛ فلنذبح منه ما نحن بحاجة إليه، أما أن نلهو بقتله في الصيد وسائر ضروب العبث فجناية كبرى عند الله خالق الإنسان والحيوان على السواء.

إلى هنا ينتهي تفصيل زرادشت في الأفستا من شروط الحياة الخيرة الصالحة، ثم ينتقل بعدئذ إلى ما يكون في الحياة الآخرة، فيبدأ بتقرير خلود الروح، وبأن الروح الصالحة تصعد إلى الجنة في انتظار جسدها يوم البعث، وأما الروح الشريرة فتلقى العذاب ألوانا حتى يوم الدين.

إن زرادشت يؤمن بحياة الجسد والروح معا، فلا هو ينصرف إلى الحياة المادية وحدها حتى ينسى حياة الروح في اليوم الآخر، ولا هو يحصر تفكيره في الروح بحيث يهمل الجسد. الحياة بجانبيها هي محور الديانة الزرادشتية، فللجسد ما أسلفنا من عناية بالصحة والطعام وما إلى ذلك، وللروح ما طبعه الله في الإنسان من ضمير يهديه سواء السبيل. وقد رمز زرادشت للحياة بجانبيها المادي والروحي بالنار، فلا حياة بغير سعي ونشاط، وفي النار هذا النشاط الدائب، ولا حياة بغير طهر ونقاء، والنار أول عوامل التنقية والتطهير؛ فلا عجب أن يبقي سدنة الفرس على شعلة النار مشتعلة ملتهبة، على سبيل الرمز لا على أن تكون هي موضع التقديس والعبادة، ثم خلف خلف من بعده لم يفهموا رمزه في النار فعبدوها.

مقتطفات من كتاب «الأفستا»:

و«الأفستا» واحد وعشرون نسكا في موضوعات ثلاثة: (1) العقائد والعبادات. (2) المعاملات. (3) الفلسفة والعلم.

ولكن لم يصل «الأفستا» إلينا كاملا، فما بقي منه عبارة عن قطع من القسم الأول والثاني، وأما القسم الثالث فلم يبق منه شيء، وهاك نموذجا منه:

أسألك بالحق يا أهورا أن تعلمني:

من كان أبا الخلق منذ يوم الخلقة الأول؟

من الذي سير الشمس والنجوم؟

من الذي يملأ القمر حينا ويفرغه حينا؟

يا مزدا أريد أن أعلم هذا، وأريد أن أعلم أشياء كثيرة أخرى.

أسألك يا أهورا بالحق أن تعلمني:

من الذي يحفظ هذه الأرض السفلى،

ويمسك الفلك الأعلى أن يسقط؟

من الذي خلق الماء والعشب؟

من يا مزدا! خالق الخلق الطاهر؟

أسألك بالحق يا أهورا أن تعلمني:

من خالق الضياء النافع في الظلام؟

من خالق النوم اللذيذ واليقظة؟

من خالق الصبح والظهر،

والليل الذي يدعو الناس إلى الصلاة؟

وقد وضع على الأفستا شروح وتعليقات تسمى «زند أفستا»، كما وضعت كتب تشرح تعاليمها، بقي إلى الآن بعضها، ومن أمثلة ما فيها.

الطهر:

الطهر للإنسان يأتي - في القيمة - بعد الحياة نفسها، هو أعظم خير بعد الحياة، وإن الله ليسبغ ثوب الطهر على من يطهر نفسه بالأفكار الخيرة، والأعمال الخيرة؛ طهروا أنفسكم يا أيها المتقون.

وصايا في الجسد والروح:

سأل الشيخ «روح الحكمة» قائلا: كيف يمكن الإنسان أن يتعهد جسده بالنماء دون أن يؤذي الروح، أو أن يصون الروح دون أن يؤذي الجسد؟

فأجابت «روح الحكمة»: انظر إلى من هو أدنى منك كأنه قرين، وإلى القرين كأنه أرفع منك، وإلى من هو أرفع منك كأنه سيدك، وإلى سيدك كأنه حاكمك، وكن لأولي الأمر خاضعا، مطيعا، صادقا ... لا تكن واشيا حتى لا يلحقك العار والسوء، لأنه يقال إن الوشاية شر من صناعة السحر.

لا تبلغ برغبتك حد الجشع، فيخدعك شيطان الشره، وتفقد التلذذ من خيرات الدنيا.

لا تسترسل في الغضب، لأن المسترسل في غضبه ينسى ما عليه من واجب يؤديه وخير ينجزه ... وتطوف بعقله الجريمة والخطيئة بكل صنوفها، وإلى أن يكظم الغاضب غضبته سيكون شبيها بأهريمان «روح الشر».

لا تعذب نفسك بالهموم، لأن المهموم لا يشعر بلذة الدنيا ومتعة الروح، فيذبل جسده وتذوي روحه ...

إن قاتلت الأعداء فقاتلهم بالعدل، وإن سايرت صديقا فسر معه بما يرضي الأصدقاء، وإن كنت في صحبة حقود فلا تنازعه، ولا تثر كامن ضغنه، ولا تشارك نهما في نهمه، ولا تلق إليه بزمام أمرك. إياك أن تصل الوشائج بينك وبين من ساءت سمعته. لا تحالف جاهلا ولا تصاحبه. إن كنت مع أحمق فلا تجادله، ولا تمش مع السكران في طريق واحد ...

إياك والصلف من أجل كنوزك ومالك، لأنك تاركها - ولا شك - في نهاية أمرك.

إياك والفخر بحسبك ونسبك، فإنما تركن آخر أمرك إلى ما قدمته يداك، وإياك والعجب بحياتك نفسها، فإن الفناء لاحقك في النهاية، وسيعود إلى الأرض جزؤك الفاني. •••

وبجانب الأفستا وشروحها الدينية توجد آثار قديمة عليها نقوش بلغة فارسية قديمة من أمثلتها أثر لدارا في مدينة إصطخر هذه ترجمته:

عظيم أهورا مزدا الذي خلق هذه الأرض، والذي خلق تلك السماء، والذي خلق الإنسان، والذي خلق سعادة الإنسان. الذي جعل دارا ملكا؛ ملكا واحدا على كثير من الناس، وشارعا واحدا لكثير من الناس.

أنا دارا الملك العظيم، ملك الملوك، ملك الأرض التي تغمرها الشعوب كلها، ملك هذه الأرض العظيمة منذ زمن بعيد، ابن وشتاسب الكياني، فارسي ابن فارسي، آري من نسل آري.

يقول دارا الملك: بفضل أهورا مزدا، هذه هي الأقطار التي أملكها وراء فارس، والتي أسيطر عليها، والتي أدت الجزية إلي، والتي امتثلت أمري، وأطاعت شريعتي:

مديا، سوسيانا، برتيا، هريفا «هراة» بكتريا «بلخ» سغد، خوارزم ... الهند، بابل، آشور، بلاد العرب، مصر، أرمينية، كبذقيا، إسبرتا.

يقول دارا الملك: حينما رأى أهورا مزدا الأرض ائتمنني عليها؛ جعلني ملكا، بحمد أهورا مزدا قد أحكمت تدبيرها، نفذ فيها أمري. إذا حدثتك نفسك كم الأرضون التي سيطر عليها الملك دارا فانظر إلى هذه الصورة. إنهم يحملون عرشي فعسى أن تعرفهم، فتعلم أن رماح الفرس قد بلغت مدى بعيدا، وتعلم أن الفرس أضرموا الحرب نائين عن فارس.

يقول دارا الملك: كل ما عملت فإنما عملت بفضل أهورا مزدا، أهورا مزدا أيدني حتى أكملت العمل. لعل أهورا مزدا يحفظني وبيتي وهذه الأرض، لذلك أدعو أهورا مزدا، لعل أهورا مزدا يمنحني ذلك.

أيها الإنسان هذا أمر أهورا مزدا لك:

لا تظن سوءا، لا تحد عن الطريق السوي، لا تقترف إثما.

وكان للفارسيين في موطنهم الممتد بين دجلة في الغرب ووادي السند في الشرق لهجات كثيرة - منها ما كتب واتخذ لغة علم وأدب - وهي أربع لغات؛ ثلاث قديمة، ورابعة حديثة وهي لغة الفرس اليوم. فأما القديمة فهي: (1) الفارسية القديمة التي هي لغة كثير من الآثار على الأحجار. (2) ولغة الأفستا. (3) واللغة الفهلوية وكانت لغة الدولة والعلم والأدب بعد اللغة الفارسية القديمة، وهي وسط في تطور اللغات الفارسية بين الفارسية القديمة والفارسية الحديثة.

والآداب الفهلوية الباقية أوسع موضوعا، وأكثر أنواعا، وأقرب إلى التاريخ من الآداب القديمة. وقد ألفت بها كتب كثيرة أدبية وتاريخية كانت في متناول المسلمين في القرون الأولى للهجرة؛ نقلوا منها كثيرا من تاريخها كما فعل الطبري في تاريخه للفرس في كتابه الكبير تاريخ الأمم، وكما فعل المسعودي في كتابه مروج الذهب، كما نقلوا كثيرا من حكمها وأدبها في كتب الأدب العربية مثل: عيون الأخبار لابن قتيبة، وكتاب التاج المنسوب للجاحظ، وكتب الثعالبي.

مثال ذلك ما رووا من أن بزرجمهر قال: «إذا اشتبه عليك أمران فلم تدر في أيهما الصواب فانظر أقربهما إلى هواك فاجتنبه.»

وكتب إبرويز إلى ابنه شيرويه: «اجعل عقوبتك على القليل من الخيانة كعقوبتك على الكثير منها، فإذا لم يطمع منك في الصغير لم يجترأ عليك في الكبير.»

ويقول ابن قتيبة: قرأت في كتب العجم «حسن الخلق خير قرين، والأدب خير ميراث، والتوفيق خير قائد.»

وقال أردشير: «إن للآذان مجة وللقلوب مللا، ففرقوا بين الحكمتين.»

وقال كسرى: «احذروا صولة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شبع.» ... إلخ ... إلخ.

وقد ضاعت أكثر الكتب الفهلوية التي نقل عنها العرب وبقي إلى وقتنا بعض الكتب، منها «ياتكار زربران» ويسمى الشاهنامة الفهلوية أو شاهنامة «كشتاسب»، وهو قصة الحرب التي كانت بين كشتاسب ملك إيران وأرجاسب ملك توران. وكان كشتاسب من أنصار زرادشت والمؤيدين لدينه، فدعا الملوك للدخول في هذا الدين، فثارت الحرب بين إيران وتوران، وهي صفحة من الحروب الكثيرة بين الأمتين التي تصورها شاهنامة الفردوسي في كثير من فصولها.

ومن الكتب الباقية أيضا بالفهلوية «كارنامك أردشير بابكان» أي أعمال أردشير بن بابك.

الفصل الثاني

الأدب العبري

الأدب العبري حلقة من سلسلة الآداب السامية القديمة التي نمت وأزهرت في شبه جزيرة العرب وما حولها. وقد جاء العبريون من الصحراء وعبروا الأردن ونزلوا فلسطين، وكانوا قبل أن ينزلوها يتكلمون بلهجة آرامية

1

أقرب إلى العربية منها إلى أي لغة أخرى، فلما وفدوا على فلسطين تكلموا لغة سكانها الأصليين؛ أعني اللغة الكنعانية، واتخذها اليهود لغة التخاطب والكتابة، وكانوا وهم يتخاطبون أو يكتبون متأثرين بلغتهم الأولى الآرامية؛ لذلك اختلفوا في لغتهم ولهجتهم بعض الاختلاف عن الفلسطينيين أو الكنعانيين، وأطلق على لغتهم اللغة العبرية، وكان هذا النزوح حول سنة 1400 قبل الميلاد. والثروة الأدبية العبرية التي حفظت لنا يرجع تاريخها من نحو سنة 1100ق.م. إلى نحو سنة 200ق.م.

وأول ما ينبغي أن نشير إليه هو أن الكتاب المقدس - وهو يشمل العهد القديم والعهد الجديد، أو التوراة والإنجيل - يمكن اعتباره آية من آيات الأدب قد نقرؤها لنستمتع بها كما نستمتع بأي كتاب أدبي آخر من كتب الشعر والنثر. وعلى هذا الاعتبار وحده وضعنا حلقة في هذه السلسلة التي تصور الأدب العالمي؛ فنحن قد ندرس الكتاب المقدس على أنه كتاب دين كما ندرس الكتب الدينية، وقد ندرس ما فيه من تاريخ كما ندرس آثار هيرودوت أو غيره من المؤرخين، وقد ندرسه على أنه أدب، ونستمتع بما فيه كما نستمتع بخير الآثار الأدبية من شعر ونثر. وهذا موقف إزاء الكتاب المقدس ينفع التاريخ والأدب، ولا يضر الدين.

و«التوراة» - وهي العهد القديم من الكتاب المقدس

2 - هي أساس الأدب العبري والديانة اليهودية، كما أنها أساس الديانة المسيحية، والكتاب الرئيسي في آداب الأمم المسيحية؛ إذ اليهود والمسيحيون متفقون على «العهد القديم» - أي التوراة - ثم يبدأ بعد ذلك الخلاف؛ فكتاب اليهودي بعدئذ هو «التلمود»، وكتاب المسيحي هو: «العهد الجديد» الإنجيل.

فأما «التلمود» فطائفة من القوانين تناولها بالشرح والتعليق قادة الديانة اليهودية على مر القرون، وهي مؤسسة على التقاليد التي تناقلها اليهود من خلف إلى سلف إلى موسى عليه السلام، ولها من نفوسهم منزلة التقديس إلى يومنا هذا. وزاد في تعلقهم بهذه التقاليد هذا الصراع الدائم الذي كان بينهم وبين الأمم، والذي ما انفك قائما بينهم وبين المسيحيين في أوروبا إلى اليوم، والذي حفز اليهود أن يصونوا تقاليدهم من الفناء، ويحفظوا نقاء جنسهم أن تشوبه شوائب الاختلاط. فلا ريب أن التلمود في طليعة الكتب العالمية ما دامت له هذه القوة في جماعة لها بين الناس خطرها وأثرها، ولأنه يحتوي ما حباه الله قادة الفكر منهم من حكمة، وإن يكن طفيف الأثر في الآداب الأخرى بسبب هذه العزلة العقلية التي اختارها اليهود لأنفسهم؛ فلن تجد من غير اليهود كثيرين طالعوا التلمود، ولكنه مع ذلك قد ترجم إلى اللغات الأوروبية، وتسربت بعض آياته إلى الأدب الأوروبي، فكثيرا ما تصادفك مقتطفات منه في القصص التي تصور أشخاصا من اليهود.

على أن أهمية التلمود تكاد تنحصر في أنه كتاب الهداية عند الكثرة الغالبة من اليهود، فإذا قال التلمود فقوله الفصل الذي يوضح للمرتاب سواء السبيل.

وقد استغرق جمعه ثلاثة قرون أو تزيد؛ فقد بدئ في جمعه في مستهل القرن الرابع بعد الميلاد، ولم يكمل حتى القرن السادس، وهو ينقسم قسمين يسمى أولهما «مشنا»،

3

وهو مجموعة من أحكام شرعية قيست على ما ورد في العهد القديم، ويسمى ثانيهما «جمارا».

4

أما المشنا فقد كتب بالعبرية، وأما جمارا فكتب بالعبرية والآرامية. والآرامية هي اللغة التي كان الجزء الأعظم من العهد الجديد مكتوبا بها بادئ الأمر. والقصة الآتية مثال لما ورد في التلمود:

حدث ذات مرة أن أرسل حاكم مدينة خادمه إلى السوق ليشتري له سمكا، فلما بلغ الخادم حلقة البيع وجد السمك قد بيع كله إلا واحدة كان يساوم في شرائها خائط يهودي؛ فقال خادم الحاكم: «سأدفع قطعة ذهبية ثمنا لها.» فقال الخائط : «سأدفع اثنتين»؛ فلم يلبث الخادم أن عرض ثلاثا، لكن الخائط لم يدعها تفلت من يده، حتى إن اقتضاه شراؤها عشر قطع ذهبية؛ فعاد الخادم إلى سيده وقص عليه ما حدث وهو مغضب، وأرسل الحاكم في طلب الرجل، فلما مثل بين يديه سأله: «ما مهنتك؟»

فأجاب الرجل: «خائط يا سيدي.» «إذن فكيف تستطيع أن تغالي في الثمن لتشتري سمكة، وكيف تجرؤ أن تضع من كرامتي بأن تعرض ثمنا أعلى مما يعرض خادمي؟»

فأجاب الخائط: «لقد نويت الصيام غدا، وأردت أن أقتات بالسمكة اليوم لتكون لي القدرة على صيام الغد، لهذا ما كنت لأدع السمكة تفلت من يدي ولو اشتريتها بعشر قطع من الذهب.»

فسأله الحاكم: «وبماذا يفضل غد أي يوم سواه؟»

فأجاب الرجل: «ولماذا تفضل أنت أي رجل سواك؟»

فقال الحاكم: «لأن الملك أراد لي أن أكون في هذا المنصب.»

فأجاب الخائط: «وعلى هذا النحو أراد ملك الملوك لهذا اليوم أن يفضل سائر الأيام، ونحن في هذا اليوم نرجو أن يغفر لنا الله ما اقترفنا من إثم.»

فقال الحاكم: «إن كان هذا فإنك على حق.»

ومضى الإسرائيلي سالما.

وهكذا إن عقد إنسان عزمه على طاعة الله فلن يثنيه عن عزمه حائل كائنا ما كان؛ فقد أمر الله عباده أن يصوموا هذا اليوم، فلا بد لهم أن يقتاتوا في اليوم السابق له؛ ليزيدوا من قوة أجسادهم حتى يقووا على طاعة الله؛ وواجب الإنسان أن يطهر نفسه جسدا وروحا ليستقبل هذا اليوم العظيم.

وأما «العهد القديم» - التوراة - فقوامه تسعة وثلاثون سفرا، تقع في مجموعات ثلاث: أسفار القانون (الشريعة)، وأسفار الأنبياء، ومجموعة من متنوعات. وليست كل هذه عند الأديب من حيث القيمة الفنية سواء؛ فالجمال الأدبي رائع فيما تحتوي من قصص وروايات وسير.

أما الفصول التي تمس تاريخ الإنسان وما يقتضيه الشرع من واجبات، فهي إن أثارت اهتمام رجل الدين، لا تغري الأديب بالوقوف والإمعان لما يكتنف عبارتها من عسر وغموض. وغموض هذه الأجزاء راجع إلى اقتضابها، فمادة غزيرة في حيز صغير. ولسنا ندري لماذا لم يتناولها الشراح بالتفسير الذي يزيل غموضها. لعلهم تركوها على إيجازها لتوحي ما توحيه إلى قرائها، أو لعل تنافس الشراح قد انتهى إلى رفض الشروح جميعا، فلم يبق إلا أصل قصير موجز.

خذ مثالا لهذا الإيجاز الشديد الذي أدى إلى غموض بعض فصول التوراة، الفصول الأربعة الأولى من سفر التكوين، تجد قصة الخلق كلها قد اختصرت في صفحات قلائل، فيها تقرأ عن الجنة وآدم وحواء وقابيل وهابيل، وفي بقية السفر التي لا تتجاوز قصة من قصار القصص الحديثة ذكرت سير نوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وإخوته وكثير غيرها، وأجدرها بالذكر من الناحية الأدبية قصة يوسف؛ فقد قال عنها «تولستوي»

5 - وهو متدين متحمس وفنان قدير - إنها قصة بلغت من الفن حد الكمال؛ وقد يكون من أسباب ذلك أن شخصية يوسف تنبض بالحياة، وهي واضحة الملامح على خلاف من سبقه من الأنبياء. وحسبك لتحكم على قصة يوسف - كما وردت في التوراة - بالكمال الفني، أن تعلم أن الكتاب الذين تناولوها فيما بعد في قصصهم لم يكادوا يضيفون إلى خيالها روعة جديدة. أما قصة الخلق التي وردت غامضة في التوراة، فقد استطاع بعض الشعراء - مثل ملتن - أن يزيدوها جلاء وخصوبة؛ لأنها تومئ إلى ضروب لا حصر لها من ألوان الخيال.

والسفر الثاني من التوراة - بعد سفر التكوين - هو سفر الخروج، وسمي بذلك لتناوله الحديث عن خروج بني إسرائيل من مصر، وتجلي الله لموسى في سينا؛ ويشمل الجزء الأول منه سيرة موسى عليه السلام، ثم تتصل رواية هذه السيرة التي تمثل تاريخ بني إسرائيل خلال أسفار موسى الخمسة.

والسفر الثالث هو سفر اللاويين نسبة إلى أسرة تنتمي إلى لاوي أو «ليفي» ويتناول الحديث عن الشعائر الدينية الخاصة بالقرابين وعن هارون وابنيه. والرابع سفر العدد، وسمي كذلك لأنه يعدد القبائل ويبين أنصباءهم في الغنائم ونحوها، وفيه حديث عن خروج بني إسرائيل من سينا إلى شرق الأردن، وعن انتشار الاضطراب بين الشعب. والخامس سفر تثنية الاشتراع، أي إعادة التشريع مرة ثانية بتطهيره من بعض الشعائر، مع تعيين مكان خاص بالعبادة.

وهذه السير كلها تكون ملحمة أدبية عظمى تصور شعبا بأسره، كيف هاجر، وكيف عاد إلى وطنه فاستقر تحت لواء زعيم عظيم.

وليس يتسع المقام لنا فنتناول أجزاء التوراة بالبسط سفرا فسفرا، ولكن إن تعذر ذلك فسنمر مرا سريعا على أروع ما في التوراة من أسفار.

فهنالك سفر يوشع - خليفة موسى - الذي تمت على يديه ثلاث معجزات كبرى: فقد سار على رأس بني إسرائيل وعبر بهم نهر الأردن من غير أن تبتل أقدامهم، واحتل مدينة «أريحا»

6

بمجرد الصياح والنفخ في الأبواق، وأشار إلى الشمس والقمر فوقفا في الفلك عن المسير؛ فسفر يوشع ملحمة رائعة وسيرة بطل مغوار، بل هو تاريخ شعب بأسره، ممزوج بالقصص وعقائد الدين. وفيه إلى جانب ذلك قصة صغرى كثيرا ما يستوحيها كتاب القصة والرواية، وهي قصة «راحاب»، فقد أراد يوشع أن يتمم ما بدأ به موسى وهو عبور الأردن والاستيلاء عليه وعلى ما حوله، فأعد العدة وجمع بني إسرائيل للفتح، وبدأ ذلك بإرسال جاسوسين إلى «أريحا» يستكشفان له الأرض، ويستطلعان خبر العدو وقوته، فنزلا على بغي اسمها «راحاب» وقضيا ليلتهما عندها، ولكن ملك أريحا علم بخبرهما، فأرسل إلى راحاب يطلب إليها أن تسلم الجاسوسين، فأنكرتهما وزعمت أنهما تركاها وذهبا، على حين أنها كانت خبأتهما في سطح منزلها وضللت رسل الملك، فلما ذهبوا للبحث عنهما أخرجت الرسولين من مخبئهما وطلبت منهما عهدا أن يستحييها بنو إسرائيل هي وأباها وأمها وإخوتها وأخواتها إذا انتصروا ودخلوا المدينة، فوعداها بذلك. فلما دخل يوشع أريحا حرم على جنوده أن يقربوا ما فيها، وأمرهم أن يبقوا على حياة راحاب لإيوائها الجاسوسين، وأن يخرجوها وأهلها من المدينة، ثم أمر بإحراق أريحا بكل ما فيها.

وقد كان يوشع قائدا حربيا يشتعل بالحماسة الدينية ولا يرحم الأعداء، فكأنما رسم بذلك خطة لكل من جاء بعده من قادة الحرب المتحمسين للدين.

ويجيء بعد ذلك سفر «القضاة» الذي لا تكاد تأخذ في مطالعته حتى تصادفك إحدى بطلات التوراة - دبورة - التي قامت في شعبها بدور يشبه ما قامت به «جان دارك »

7

في فرنسا؛ ذلك أن دبورة كانت نبية لبني إسرائيل، وكان لها نخلة في جبل تعرف بها، تجلس تحتها، وتقضي بين من احتكم إليها، فدعت «باراق» أن يقود بني إسرائيل ليحاربوا الكنعانيين ويتحرروا من سلطانهم، فأبى أن يقود الجيوش ويذهب للحرب إلا أن تذهب معه، ففعلت، وظلت دبورة تحمس الجيش، وتحرض على القتال، وترسم الخطط، حتى انتصر بنو إسرائيل وتحرروا من الكنعانيين، ووضعت «دبورة» بعد ذلك أنشودة النصر، وفيها «اسمعوا أيها الملوك وأصغوا أيها العظماء، إني أغني لله إله بني إسرائيل؛ يا إلهي! لقد تجليت للجبال فدكت، وللأرض فزلزلت، وللسماء فانشقت، وللسحب فأمطرت.»

وفي سفر القضاة كذلك قصة «شمشون» التي تعد في طليعة قصص الأبطال، وشمشون هذا رجل أعدته العناية الإلهية منذ كان في بطن أمه للفتك بأعداء الإسرائيليين، فأرسل لأمه ملكا يبشرها بغلام، ويحذرها من شرب الخمر وأن تقرب محرما أثناء الحمل. لأن الله يعده لتخليص الإسرائيليين من سطوة الفلسطينيين. وولد شمشون وشب قويا متينا، ورأى فتاة فلسطينية فأحبها وهام بها، وعرض على أبويه أن يتزوجها فأبيا أولا، وقالا له إن في بنات جنسك غنى عنها، فأصر شمشون، وكان لله في ذلك حكمة، للصلة بالفلسطينيين أعداء الإسرائيليين.

وأخيرا رضي أبواه وسافروا جميعا ليتزوج شمشون بالفتاة، وفي الطريق ينتحي شمشون ناحية فيعترضه أسد يهجم عليه ليمزقه ويلتهمه، فيقف له شمشون وليس معه سلاح فيفتك بالأسد كأنه حمل وديع، ويعود شمشون إلى أبويه وهما في الطريق فلا يخبرهما بشيء. وبعد أيام يعود شمشون إلى مكان الأسد فيجد النحل قد بنى خلاياه في جوف الأسد، فاشتار منه وأكل.

وتزوج شمشون الفتاة، وأعد وليمة لثلاثين من الشبان، وأراد أن يسرهم بلغز يلقيه عليهم، فإذا حلوه أعطاهم ثلاثين ثوبا وثلاثين قميصا، وإذا لم يحلوه في سبعة أيام أعطوه هم مثل ما كان يعطيه لهم؛ واللغز يدور حول الأسد والعسل، وصيغته هكذا: «ما شيء كان آكلا فنتج منه الأكل، وكان جافا خرجت منه حلاوة.»

فلما لم يعرفوا حل اللغز ألح الشبان على امرأة شمشون لتحتال عليه فتعرف منه حله، ففعلت وأخبرتهم، فقال لهم: لولا ما احتلتم على نعجي ما عرفتم أحجيتي، ونزل إلى قرية وقتل منها ثلاثين رجلا وأخذ سلبهم فأعطاه لمن راهنهم.

ثم نجد شمشون قد هام بامرأة أخرى بغي في غزة، فعرف أهل غزة به فأغلقوا أبواب المدينة عليه وحبسوه ليقتلوه إذا أصبح الصباح، فقام شمشون في نصف الليل وخلع مصراعي باب المدينة ووضعهما على كتفه وصعد بهما إلى الجبل.

وأخيرا أحب امرأة اسمها «دليلة»، فاتصل بها قادة الفلسطينيين وتآمروا معها أن تعرف منه سر قوته، فخدعها مرارا، فمرة يقول لها إنه إذا أوثق بحبال من حديد ضعفت قوته، فكان يوثق بها فيتمطى فيها فيقطعها كأنها خيط. وأخيرا ضاق شمشون بالمرأة ذرعا فأخبرها بالسر الحقيقي في قوته، وأنها في شعره، فجاء الفلسطينيون وغافلوه وهو نائم في حجرة المرأة وحلقوا رأسه، فذهبت قوته؛ فأخذه الفلسطينيون وقلعوا عينيه وأوثقوه بسلاسل من نحاس، وذهبوا به إلى غزة وسجنوه هناك حتى يقتلوه.

ولكن شعره كان قد نبت، وعادت إليه قوته وما درى بذلك خصومه.

ففي ليلة اجتمع فيها جميع أقطاب الفلسطينيين، ودعوا شمشون ليلعب لهم ويسخروا منه، فحضر شمشون، ودعا ربه أن يلبي دعاءه، ويعيد إليه قوته ولو مرة واحدة، فاستجاب دعاءه، وقال للغلام الذي يمسك بيده: دعني ألمس الأعمدة التي يقوم عليها البيت، ففعل الغلام، وأمسك شمشون العمودين أحدهما بيمينه والآخر بيساره، وجذبهما فسقط البيت على من فيه، وخر جميع من في البيت ومعهم شمشون صرعى، فكان من قتلهم في موته أكثر ممن قتلهم في حياته. •••

وقد تناول الشاعر الإنجليزي «ملتن» هذه القصة فخلع عليها في قصيدته «شمشون الجبار»

8

ثوبا زادها بهاء وجلالا، كما تناولها كذلك الكاتب الفرنسي «سانت ساينس»

9

في رواية تمثيلية غنائية هي في الطليعة بين مثيلاتها في الأدب الحديث.

ويأتي بعد سفر القضاة سفر صغير ولكنه جليل جميل، وهو سفر روث أو «راعوث»،

10

ويقع في أربعة فصول قصار، لا تزيد أسطرها على مائة، وتحتوي قصة يشمل جانب منها دستورا وضع للمرأة، وقانونا سن لضبط قواعد الميراث؛ ولكن ذلك الجانب من القصة لا يهم الأدب كثيرا، وإنما يهمه منها ما فيها من عاطفة مرهفة عميقة.

فتروي القصة أن إسرائيليا ضاقت به الحال في بلاده، فدخل هو وامرأته «نعمى» إلى بلاد مؤاب، ورزق فيها بابنين تزوجا مؤابيتين، إحداهما راعوث هذه، ومات الرجل ومات ابناه.

وأرادت «نعمى» أن تعود إلى وطنها، فتعلقت بها راعوث وأرادت السفر معها وألحت، على الرغم من إلحاح «نعمى» عليها بالبقاء.

فقالت راعوث قولتها المشهورة: «حتما أن أموت حيث تموتين، وأدفن حيث تدفنين، شعبك شعبي، وإلهك إلهي؛ محال أن يفرق بيني وبينك إلا الموت».

ففي القصة قلبان لامرأتين يفيضان بعاطفتين قويتين تعزان على التحليل - وهذا هو ما جعل القصة معروفة للعالم - عاطفة الحنين للوطن، وعاطفة الوفاء، وهما عاطفتان ينبض بهما قلب كل إنسان.

وهناك أسفار أربعة تسمى أسفار «الملوك»، تروي قصة الدولة اليهودية إبان مجدها، لكن بني إسرائيل في مجدهم ضلوا سواء السبيل، فتغافلوا عن ذكر الله، فكان جزاؤهم بعد ذلك المجد عذابا وهزيمة وأسرا. وإن هذه الكتب الأربعة لتؤلف ملحمة من الطراز الأول، متينة البناء، قوية التركيب، ولا بد أن تكون قد صادفها شاعر عظيم مسها بخياله ونبوغه، بل ربما تناولها على مر الأيام أكثر من شاعر واحد بالصياغة والتجويد؛ إذ الملاحم الكبرى تنمو مع الزمن على أيدي الشعراء، وقلما تكون الملحمة الكبرى وليدة عقل واحد.

وهاك موجزا للقصة: فصموئيل، وهو المتحمس لدينه، الباسل المغامر في قتاله، يجاهد جهاد الأبطال ليقهر الأعداء، داخل ملكه وخارجه على السواء، ولكن الشيخوخة تدب إليه فيصير الأمر إلى بنيه، وفيهم ما فيهم من ضعف وفساد؛ عندئذ يستنجد القوم بشاءول،

11

لكن شاءول لم يخلقه الله للقتال فينتهي أمره إلى خضوع، وينبذه القوم نبذ النواة، فيعقبه ابنه يوناثان،

12

وهو أشد من أبيه استبسالا في القتال، وأسمى منه روحا، ولكنه بعد لم يبلغ من القوة ولا من سعة التجربة ما يجعله صالحا لقيادة بني إسرائيل، وكأنما أراد به الله أن يكون سلما يدرج عليه بنو إسرائيل ليصلوا إلى داود ، وهو شخصية جبارة في التوراة؛ فقد كان داود قائدا حربيا، وحكيما عظيما؛ فهو في القتال معجزة، لأنه قتل «جولياث»،

13

وهو في القدرة العقلية فذ فريد، لأنه سلك في حياته مسالك الحكماء.

فقد جاءت صورة داود في التوراة من الكمال الفني بحيث تنبض بالحياة. وإنها لتفوق تصوير يوسف على ما في هذه من حياة وقوة،وحيكت في التوراة حول داود - كما حيكت حول سائر أبطال الملاحم - صفات خارقة لطبائع البشر، ولكنه رغم ذلك صورة لشخصية حقيقية أبدع تصويرها فأصبح معروفا مألوفا، تميزه بعواطفه وأحزانه وغضباته، كما تميزه بتسامحه وحبه وقوته وإرادته وجوانب ضعفه. إنها شخصية أتم الفنان تصويرها وتحديدها، كما أتم الشاعر تصوير «أخيل»،

14

في الإلياذة

15

لهذا كله كانت قصة داود في التوراة آية الأدب العبري.

وتكاد تدنو من قصة داود في وضوحها وقوتها قصة ابنه سليمان الحكيم العظيم، وإن سليمان في جلاله ليصور بني إسرائيل جميعا حين بلغوا أقصى مراتب المجد والثراء. لقد أفاض الكتاب ما أفاضوا في وصف عظمة سليمان وجلال ملكه، ولعل ما يحرك العاطفة في هذا الوصف هو أنه كتب بعد أن دالت دولة بني إسرائيل، فأخذ الكتاب ينظرون إلى الوراء فيما يكتبون، فيرن حديثهم في الآذان رنين الأسى والأسف، حسرة على ماضي اليهود الذاهب. وسليمان - كما يبدو في التوراة - شخصية متناقضة، فبينما هو مثال الحكمة بحيث لو اقتصرنا على عشر ما نسب إليه من أمثال وأقوال لظل رغم ذلك أحكم الحكماء؛ تراه - في التوراة - ينحرف في مسلكه، وخاصة في شيخوخته، فيرتد إلى الوثنية متأثرا بإغراء النساء، وبهذا ترك سليمان ملكه مصدع البنيان مزعزع الأركان. وجاء خلفاؤه من بعده على حال من الضعف لا تجدر بأبناء سليمان وحفدة داود.

فلما دالت دولة الملوك المدنيين ظهر في اليهود نبيان قويان شديدا البأس هما «إلياهو»

16

ثم أحد أتباعه «اليسع»

17

وهما من أصحاب المعجزات، تشبه معجزاتهما معجزات موسى أحيانا، مثال ذلك حين انحسر لهما ماء الأردن فانفتح أمامهما الطريق. وتشبه أحيانا معجزات المسيح حين أعادا الحياة إلى الموتى، وأضافا إلى طعام الأرملة الفقيرة طعاما من لا شيء، ولكنهما رغم ذلك لا يقعان من القلوب مواقع الحب الخالص لما فعلا - في إرغام الناس على الإيمان - من صنوف القسوة والانتقام؛ فقد يكون لها وجه من الصواب فيما أنزلاه بالملوك الآثمين من عقاب، ولكن كيف تغتفر لهما تلك القسوة التي دفعتهما إلى الفتك بأربعين يافعا حين سخروا من اليسع كما يسخر الأطفال؛ اللهم إلا إن كانت قصة الفتك بهؤلاء الأيفاع الأربعين قصة رمزية تشير إلى معنى خبيء مستتر.

ثم أخذت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، حتى إذا ما سقطت «أورشليم» في يدي «بختنصر»

18

ملك البابليين، وأصاب اليهود ما أصابهم من سبي ونفي وتشريد، كان ذلك - على وجه التقريب - خاتمة بني إسرائيل.

على أنك تعود فتقرأ في سفري «عزرا»

19

و«نحميا»

20

عودة اليهود من بابل، وكيف أعادوا بناء «أورشليم»، وإنه لمما يثير عجب القارئ أن يقرأ هذين السفرين بعد ما أصاب ملوك اليهود من صنوف الكوارث والبلاء؛ فقد وضع عزرا ونحميا لتجديد المدينة برنامجا منظما، فأعاد نحميا بناءها، ونفخ فيها عزرا روحا جديدة، إذ أعاد لها ما كانت قد بددته الأيام من قوانين. ويستوقف نظر مؤرخ الآداب أن يرى عزرا ومعه خمسة من الكتاب، ونشروا في أربعين يوما مائتي كتاب وأربعة. •••

يأتي بعد ذلك سفر «إستير»

21

الذي نسوقه مثالا لروعة الخيال في تلك الأعصر الأولى، واليهود يقدسون هذا السفر لأنه يمجد في هذه الملكة اليهودية - التي تزوجت من ملك فارسي - ذكاءها وجمالها وأعمالها.

فقد كانت «إستير» امرأة فارسية يهودية حظيت عند ملك الفرس، وكان في مملكة الفرس يهود كثيرون، يعمل الوزير «هامان» على اضطهادهم وسفك دمائهم، فاحتالت «إستير» مع مربيها اليهودي الآخر «مردوخاي» على الإيقاع بهامان، والإيقاع بالفرس، وإنجاء اليهود، وتحريرهم من الاضطهاد، واستطاعت إستير بنفوذها عند الملك أن يقتل اليهود في يوم واحد 75800 فارسي، وجعل اليهود من هذا اليوم عيدا لهم يسمونه «بوريم».

وقد قال لوثر: «ليت هذا السفر لم يوجد.» ولعله نظر في ذلك إلى ناحيته الخلقية لا الأدبية.

وسواء كانت تلك القصة تاريخا صحيحا أو من نسج الخيال، فهي تحرك العاطفة في نفس قارئها، وما ظنك بقصة تروي لك كيف دبر فريق أن يفتك بفريق، فيصطنع هذا حيلة يخرج بها من أحبولة المتآمرين، ثم يكون محور الحوادث كلها امرأة بارعة الجمال؟ •••

وأقوى مثل يساق للقصة في التوراة هو سفر أيوب الذي يجد فيه القارئ صراعا بين الشخصية وما يحيط بها من ظروف، صراعا بين الرجل وما يرصد له من عوامل الشر، فينجو الرجل المجاهد آخر الأمر بما أوتي من صبر وإيمان. وكأن هذا السفر الجليل رواية تمثيلية قوية تدور حول الله والإنسان والشيطان. ويرجع بعض الباحثين في قصص التوراة المتعقبين لأصولها، أن لقصة أيوب - كما وردت - بداية لم تذكر، وهي أن أيوب عصى ربه أول أمره، ولكنه عاد آخر الأمر فآمن وأطاع، فعوضه الله شيخوخة مطمئنة سعيدة؛ إذ رزقه يسارا في أخريات سنيه، ورزقه بنين وبنات عوضا له عما فقد من أبناء إبان محنته الأولى، لكنه عوض لا يطمئن نفس الوالد الثكلى، لأن الأبناء لا يعوضون عددا بعدد كالأغنام؛ فإن الوالد ليتمنى عودة أبنائه الذين فقدهم حتى إن وهبه الله ما وهب أيوب، سبعة أبناء وثلاث بنات.

لهذا نرى الستار ينسدل في ختام قصة أيوب على نهاية لا تطمئن لها النفس طمأنينة كاملة؛ ولكن إن كان بناء القصة مصدوعا، فإن شعرها جميل رائع من أول بيت فيها إلى آخر بيت؛ وإن شئت فانفذ إليها من أي موضع أردت تجدك قد وقعت منها على سطر جميل. يقول قراء العبرية: إن جمال النص في لغته الأصلية يستحيل أن ينتقل مع الترجمة إلى أية لغة أخرى، وهو قول صائب، فكل من حاول الترجمة من لغة يعلم علم اليقين أن الشعر سائل سيال لا تكاد تصبه من وعاء إلى وعاء يختلف شكلا حتى ينسكب ويعسر إمساكه. ولقد أجمع النقاد على أن أسفار أيوب والمزامير ونشيد الأناشيد قد كتبت كلها شعرا جيدا ممتازا. وسفر نشيد الأناشيد سفر غرامي يظن بعض الباحثين أنه مجموع من الأغاني التي كان الشعب الإسرائيلي يرددها في مناسبات الزواج والزفاف في عصور مختلفة كما يذهب آخرون إلى أنها أغان دينية رمزية. •••

وتفرغ من نشيد الأناشيد فإذا بك عند سفر «أشعيا»،

22

وهو من الأنبياء الذين امتزج إيمانهم بروح التشاؤم. وإن الأنبياء لينطقون بأبلغ درجات البلاغة حين يقفون موقف الرثاء والبكاء لإثم الإنسان وخطيئته، يتوعدونه على لسان الله عذابا أليما، ويدعونه للعودة إلى الدين الصحيح، ويكون لقولهم من الأثر فوق ما للشعر الجميل فيما يأتون به من قول بليغ، وروح نبيل.

جاء أشعيا لليهود نذيرا وبشيرا؛ فهو يتوعد أصحاب السوء عذابا أليما، ولكنه يعلن قدرة «يهواه»

23

على تخليص أورشليم، ثم يتنبأ آخر الأمر بقدوم المسيح هاديا ومخلصا. ولما كانت تجتمع في أشعيا القسوة على أصحاب الضلال، والأمل في مستقبل شعبه، جاءت رسالته مزيجا متباينا من العواطف. حتى ظن بعض النقاد أن هذا التباين الظاهر ينفي أن يكون مصدرها رجلا واحدا، ولكنا لا ندري لماذا يستبعد هؤلاء النقاد أن يقف النبي والمصلح والشاعر مواقف تختلف باختلاف مظاهر أممهم ومشاعرهم، فيؤدون لكل موقف رسالته. •••

ويتلو أشعيا سفر «أرميا»

24

الذي يصف عهد اليهود المظلم، وكان ذلك قبيل سبيهم، وإنك لتلمس تشاؤم أرميا في سفره، وفي «مراثي أرميا» التي لا يكتفي فيها بالعويل والبكاء على ما حل باليهود من كوارث، تراه ثائرا على الدولة التي دب فيها الفساد، وعلى ديانة الدولة التي أصبحت صورة لا حياة فيها ولا روح. •••

ثم يتلوه في الأسفار سفر «حزقيال»

25

الشغوف بالرمز في أدبه الفاتن، بما له من روعة في التصوير وجمال في التشبيه: انظر مثلا كيف يصور ملك مصر وقد تحطم بشجرة دب في جذعها السوس، ونخرت منها الفروع. وهو يملأ سفره بأمثال هذه الصورة، فيؤثر في نفس قارئه تأثيرا قويا، ولكنه إلى جانب ذلك في بعض المواضع ترتفع أستار التشبيه والرمز، فيأتي بعبارات التأنيب التي تلهب القارئ كأنها السياط في نثر واضح قوي. •••

ويجيء بعد ذلك سفر «دانيال»، وهو على صغره يروي من الأحداث شيئا كثيرا، وغايته أن يسري عن أنفس اليهود كربها، وأن يحثهم على طلب المجد والعلا. وقد قرب دانيال من قلوب اليهود ما أظهره من معجزات؛ فقد كان قديرا على تفسير الأحلام التي عجز سحرة الكفار أن يفسروها، وألقي في عرين الأسد فخرج منه سليما من الأذى، وقذف في أتون مستعر فكانت النار عليه بردا وسلاما.

ويمتاز سفر دانيال ببساطة التصوير ووضوحه، فهو من جلاء العبارة وسلاسة اللفظ بحيث يصلح قصصا يروى للأطفال فيستمرئونه وينصتون إليه. •••

وعلى الجملة فقد عني الباحثون من علماء أوروبا بكتاب العهد القديم من حيث أصله ومصادره، وتاريخ كتابة كل جزء منه، وبيان الظروف التي كتب فيها؛ لهم في ذلك نظريات طويلة لا مجال لذكرها، وهي تكاد تجمع على أن العهد القديم يؤرخ شعبا بأسره، بأحداثه وحالته الاجتماعية، وانتصاره وانكساره، ومجده وذهاب مجده، كما أنه سجل لحياتهم العقلية والروحية والأدبية فيما يقرب من تسعة قرون.

وإذا كان الذي يهمنا هو الناحية الأدبية فإن هذا الكتاب ينطبق عليه ما قدمنا من سبق الشعر للنثر، فإن أقدم نص أدبي عبري كان شعرا كقصة «دبورة» التي يرجح العلماء أنها ترجع إلى عام 1100ق.م. وهي مظهر من مظاهر الشعب الإسرائيلي وحياته، فهي أغنية كانت تغنى في البيوت والشوارع، في المدن والقرى، في المراعي وفوق قمم الجبال.

وتدل هذه الأغنية وغيرها من الأغاني الإسرائيلية على وجود طائفة كانت حرفتها الغناء والتأليف والتلحين، وكان الإسرائيليون ينظرون إليها نظرة العرب إلى الشعراء، وقد سميت «دبورة» في الكتاب المقدس نبية، لأن كلمة النبي عندهم كانت توحي بالشعر ودقة الحس والخبرة بأعقاب الأمور. وإلى جانب هذا النوع من فنون الشعر نجد في العهد القديم فنونا أخرى شعرية تدور حول المديح والهجاء، ووصف الأحداث التاريخية، والحديث عن المعجزات والشعائر الدينية، فلما ظهرت الملكية، واستقرت الحياة الإسرائيلية، تطلبت الحياة الجديدة أخبارا تفصيلية تعنى بتدوين تاريخ الملوك والرؤساء والقادة، وإذ ذاك نجد النثر هو الذي يؤدي هذه الرسالة، فنجد أخبارا كثيرة نثرية تعنى بأسرة داود وتقصي أخبارها، كما نرى قصصا تدور حول إسناد تاريخ الشعب الإسرائيلي إلى عهد ممعن في القدم. ومن القرن السابع ق.م. تقريبا نجد الأدب العبري يدخل في دور جديد، فيتأثر بالأنبياء ويتجه إلى التشريع والتاريخ، فنقرأ كثيرا عن موسى وما جاء به من التشريع والوصايا العشر.

وبعد ذلك نجد أنفسنا في العصر المعروف في الأدب العبري بالعصر الكلداني ومن زعماء ذلك العصر «أرميا»، وكانت رسالته موجهة إلى العالم أجمع وليست مقصورة على بني إسرائيل، وفي هذا العهد كان للأشوريين السلطان السياسي العالمي؛ إذ كانوا يسيطرون على مصر وعلى كثير من بلاد الشرق، وكان «أرميا» شاعرا ناثرا تجلت عبقريته في خطبه وفيما كتبه، ولكن مما يؤسف له أن أجمل أغانيه لم تصل إلينا كاملة. وحدث حادث بعد ذلك تغير له تاريخ الأدب العبري والتفكير العبري، وذلك أن عصر السبي (586-537ق.م.) انتهى بسقوط «بابل» في أيدي ملك الفرس، وسمح الفرس لليهود بالعودة إلى أورشليم، فعاد منهم من عاد، وبقي منهم من بقي، فهبت على الأدب ريح جديدة؛ إذ أخذت الأمة تحيا وتتجدد، وأخذ الشعب ينصرف مرة أخرى إلى الحياة الأدبية الدنيوية، وفي هذا العصر نجد قصتي «راعوث» و«إستير».

والأدب العبري مملوء بالشعر الذي يطلق عليه الشعر الغنائي أو العاطفي، ولعل أقدم نوع من أنواع هذا الشعر هو الرثاء، وهي أشعار شعبية حزينة تتحدث عن مجد صهيون الغابر والبكاء عليه.

وإلى الرثاء نجد المزامير ويسميها العرب «الزبور»، ونستطيع أن نقسم المزامير إلى أقسام عدة: فمنها ما يتصل بالعبادة، ومنها ما يتصل بالأغاني الدينية، ومنها ما يتصل بالمراثي وبالشكر وبالمدائح الملكية، وكما أنها مختلفة المواضيع فهي أيضا من وضع مؤلفين عديدين في صور متوالية، ثم نشيد الأناشيد، وموضوع هذا الشعر من المواضيع الغرامية، ويختلف الباحثون في أنه غزل رمزي أو هو غزل دنيوي.

وبين أيدينا نوع من الشعر العبري يعرف بالشعر التعليمي، وقد حفظ لنا في كتاب الأمثال، وسفر الجامعة، وكتاب أيوب. أما كتاب الأمثال فهو مجموعة متفرقة من الحكم والأمثال، وقد تناولت مختلف المواضيع ، كما نلمس فيه آثار عصور مختلفة ومؤلفين عديدين . وكذلك سفر الجامعة، فواضعه حكيم عظيم له الخبرة التامة، والمعرفة الواسعة، متشائم فاقد الأمل «باطل في باطل، وكل شيء باطل.» هكذا يبتدئ، وهكذا ينتهي، وهو شاك في قيمة كل شيء في الحياة، فليس أمام الإنسان إلا الأخذ بأسباب الحياة والتمتع بهذه الأيام. أما سفر أيوب فمن خير الكتب لا في الأدب العبري وحده، بل في سائر الآداب؛ فأسلو به الشعري الأدبي من أحسن الأساليب وأروعها، وموضوعه من المواضيع الفلسفية العميقة التي تتصل بالجزاء. وهو إلى جانب ذلك مملوء بالقوة والجودة حتى يصح أن يوضع في مصاف نتاج العبقريات العالمية، وقد أثبت رجال الأدب الألماني تأثر «جوته» به في «فوست». •••

حسبنا ذلك عن «العهد القديم» (التوراة) لنقول كلمة ختام قصيرة عن «العهد الجديد» (الإنجيل) الذي هو قبل كل شيء تاريخ حياة المسيح عليه السلام. فليس في الأمم المسيحية كتاب واحد قرأه الناس وحفظوه وناقشوه بقدر ما صنعوا بهذا الكتاب، فهو بين الكتب التي تروي تراجم العظماء أشدها تأثيرا في نفوسهم، حتى الذين لا يؤمنون بالعقيدة المسيحية تراهم يلمون بطرف من قصته؛ لأنها قصة تغلغلت في حياة الأمم الأوروبية وآدابها حتى بلغت منها الصميم.

وقصة عيسى عليه السلام كما جاءت في الأناجيل الأربعة - أناجيل متى ومرقص ولوقا وحنا - قصة قصيرة، وتزداد قصرا إذا حذفنا الأجزاء المكررة في الأناجيل الأربعة.

ولم يكن أصحاب المسيح وتابعوهم بكاتبين، بل كانوا - كالمسيح - يعظون الناس بالقول، وحتى رسائل بولص - وهو أعلم من شرح تعاليم المسيح - تطالعها فكأنما تستمع إلى وعظ يلقى، لا إلى كتابة تقرأ؛ ولم يضطره إلى كتابتها سوى أن الكتابة هي وسيلته الوحيدة التي يبلغ بها من لا يستطيع أن يتصل بهم اتصالا قريبا.

وقد نشأ أدب عريض حول «حياة المسيح»، وحاول كثير من الكتاب المحدثين أن يعيدوا رواية هذه الحياة العظيمة في لغة حديثة، ولعل أروع هذه المحاولات كتاب «حياة المسيح» الذي دبجته براعة الفيلسوف الفرنسي «إرنست رينان»،

26

فذاك كتاب اعترف له النقاد جميعا بأنه آية من أجمل ما جادت به قرائح الأدباء.

ولا يقتصر «العهد الجديد» على تاريخ حياة المسيح؛ بل يروي حياته في أشخاص حوارييه ورسله، وعلى الأخص «بولص»، الذي لولا نبوغه لما نشرت النصرانية لواءها على أوروبا بأسرها؛ ففي رسائله تقرأ العقيدة المسيحية مشروحة في جلاء وتفصيل، كما تلمح صورة لشخصية بولص نفسه.

وينتهي «العهد الجديد» بسفر الرؤيا، وهو قصيدة صوفية مليئة بالرؤى وألوان التشبيه، ولكنها جاءت غامضة فتعذر فهمها وشرحها. والفكرة الرئيسية في هذا السفر هي الوعد بمدينة مقدسة طاهرة تجيء في إثر هذا العالم الذي دنسته الخطايا، وهي مدينة لن تكون لغير المؤمنين. •••

ومع الأسف فالترجمة العربية للكتاب المقدس يعوزها البلاغة وقوة البيان وجزالة الأسلوب؛ ومن أجل ذلك لم يستطع قراء العربية أن يتذوقوا ما فيها من جمال فني. وأي أثر أدبي يفقد روعته وجماله إذا ضعف أسلوبه، فهو إلى اليوم ينتظر ترجمة عربية بليغة. ولعل هذا أحد الأسباب التي منعت من استغلال أدباء العربية لهذا الكتاب كما استغله الأدباء الأوروبيون، مع أن المسلمين الأولين قد استغلوه في بعض كتب التفسير والتاريخ كالطبري وأبي الفداء، وفي بعض كتب الأدب كابن قتيبة في «عيون الأخبار»، وفي بعض كتب الجدل كما فعل ابن حزم في كتابه «الفصل في الملل والنحل». ويظهر أنه كانت لديهم تراجم للكتاب المقدس أصح عربية من التراجم التي بين أيدينا الآن. (1) نماذج من الأدب العبري

27 (1-1) سفر الخروج

الإصحاح العشرون : الوصايا العشر: قال الله: إني أنا ربك، أخرجتك من أرض مصر، بيت العبودية، فلا تتخذ إلها غيري.

لا تنحت لك تمثالا، ولا تتخذ لك صورة مما في السماء فوقك، ولا من الأرض تحتك، ولا من الماء تحت الأرض. ولا تسجد لشيء منها ولا تعبدها ولكن اعبدني، فإني أنا الله إلهك، وإني غيور، أتعقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع ممن يبغضني، وأحسن إلى من يحبني ويطيع أمري.

لا تتخذ اسم الله لهوا أو عبثا؛ فإن الله لا يغفر العبث باسمه.

اذكر يوم السبت وقدسه، فللعمل ستة أيام تعمل فيها ما ينبغي أن تعمل، وأما اليوم السابع «السبت» فلله إلهك - لا تعمل فيه أنت ولا ابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي تضمه دارك - فقد خلق الله السماء والأرض والبحر وما فيها في ستة أيام، واستراح في اليوم السابع، فباركه الله وقدسه.

أكرم أباك وأمك تطل أيامك على الأرض التي أعطاك الله.

لا تقتل، ولا تزن، ولا تسرق، ولا تشهد زورا على جارك، ولا تمدن عينيك إلى بيته، ولا تتطلع إلى زوجه ولا عبده، ولا أمته، ولا ثوره، ولا حماره، ولا شيء مما يملكه. (1-2) سفر أشعيا

الإصحاح الأربعون : يقول الله: العزاء العزاء يا شعبي.

حدثوا أورشليم حديثا قلبيا، حدثوها أن قد تم جهادها، وأن الله قد عفا عن إثمها، وآتاها كفلين من رحمته عما اقترفت من خطايا.

إن في البيداء هاتفا يهتف: مهدوا لله الطريق، واتخذوا له سواء السبيل، فلينهض الوهد، ولينخفض النجد، وليستقم المعوج، وليسهل الوعر، فسيعلن الله عن مجده، وسيراه البشر جميعا إذ ينطق الله به.

قال الهاتف: صح؛ فقال بماذا أصيح؟ إنما الجسد عشب، وإن جماله كزهرة البستان، وقد يذوي العشب، ويذبل الزهر إذا طاف به طائف من الله؛ إلا إن الناس كالعشب، وقد يجف العشب، ويذبل الزهر، ولكن كلمة الله باقية أبدا. (1-3) سفر حزقيال

الإصحاح السابع والثلاثون : مستني يد الله، ونفحني بروح منه، فساقتني إلى واد قد ملئ بعظام الموتى، وجعلت تطوف بي حولها تقول: انظر إليها، ما أكثرها في أرض الوادي وما أجفها، وما أيبسها.

قال لي: يا ابن آدم! أيمكن أن تحيا هذه العظام، قلت: أنت يا ربي أعلم. قال: قل لها أيتها العظام اليابسة! أصغي إلى كلمة ربك، لقد شاء الله أن ينفخ فيك من روحه فتبعثين، وشاء أن يمد فيك أعصابا، ويكسوك لحما، وينشر عليه جلودا، فتعودين إلى الحياة، وتعلمين أن الله ربك.

لقد فعلت كما أمرت، وإذا بصوت يدمدم، انظر إلى العظام ترتج، ويدنو عظم من عظم. ونظرت فإذا هي مكسوة عصبا ولحما وجلدا، ولكنها بغير روح.

فقال لي يا ابن آدم: نبئ الروح أن الله أمرها أن تأتي من الرياح الأربع، وتنبث في هؤلاء القتلى، ففعلت ما أمرت، فدبت فيهم الروح، ونهضوا على أقدامهم، جيشا جرارا عظيما. (1-4) مزامير داود

139 : يا إلهي، إنك عالم بي في كل أحوالي، في قيامي وقعودي، عالم بما يدور بخلدي، بما ظهر وما بطن مني، لا أنطق بكلمة إلا وتعلمها، قد أحطت بي من جميع جهاتي، وشملتني قدرتك، فما أعجب علمك، وما أبعدني عن إدراك كنهك.

لا مهرب منك إلا إليك، إن صعدت إلى السماء فأنت هناك، أو هبطت الهاوية فثم أنت، إن طرت بأجنحة الصباح، وسكنت في أقصى البحار، تلقتني يدك، وأمسكتني يمينك.

وإذا قلت إن الظلمة تلفني، رأيت أن الظلام ليس ظلاما، ورأيت أن الليل كالنهار لديك، وأن الظلمة والنور سواء عندك.

أنت مالك كل أمري، لأنك واضعي بيدك في بطن أمي.

أحمدك وأشكرك، فقد أتيت بالأعاجيب في خلقي، كونت عظامي في الخفاء، وصنعتني على عينك، وقدرت أموري في كتابك ...

أنا لا أحصي نعمك؛ فهي أكثر عددا من الرمل ...

إني - يا رب - أبغض من يبغضك، وأمقت من يحاربك، وأعادي من يعاديك.

راقبني - يا إلهي - واعرف قلبي، واعلم ما يجول بنفسي، فإن رأيتني ضللت فاهدني الصراط المستقيم.

137 : على ضفاف نهر بابل جلسنا، ثم بكينا إذ ذكرنا «صهيون»،

28

وبين أغصان الصفصاف علقنا كناراتنا.

29

طلب إلينا آسرونا أن نغنيهم، وأراد مهلكونا أن نفرح لهم، وننشدهم نشيدا من أغاني «صهيون».

كيف لنا أن نترنم بنشيد الله في مطارح الغربة! إن نسيتك يا أورشليم ولم أفضلك على كل أسباب فرحي فلتنس يمناي ما عملت، وليلتصق لساني بأعلى فمي!

اذكر اللهم لبني أدوم يوم أورشليم؛ إذ هتفوا: دكوا المدينة دكا، وائتوا عليها من أساسها.

يا بنت بابل! طوبى لمن يجازيك بما جازيتنا، فيطوح بصغارك ويضرب بهم الصخور. (1-5) سفر أيوب

مقتبسات 38، 39 : كلم الله أيوب من العاصفة:

من هذا الذي يظلم الفضاء بكلام لا علم فيه؛ اشدد حيازيمك كما يفعل الرجال، لتجيب عما أسأل.

أين كنت حين أسست للأرض أساسها، ووضعت لها ميزانها، وبسطت فوقها كساءها ...؟

من وضع للبحر برزخا حين تدفق الماء من ينابيعه؟ متى جعلت من السحاب للبحر لباسا، ومن الظلام له ألفافا؟ ومتى شققت له مستقره، وأقمت من دونه الحواجز، وقلت له لك أن تبلغ هذا الحد فلا تعده، فها هنا كتب على أمواجك الشامخة أن تقف؟ •••

هل انتهيت إلى ينابيع البحر أو سرت في أعماقه؟

هل تكشفت لك أسرار الموت وعرفت مداخله؟

هل أدركت عرض الأرض؟

تكلم إن كنت تعلم!

أين يسكن النور وأين مقام الظلمة؟

هل أنت تنظم الثريا، وتحل نظم الجبار، وتنزل النجوم في منازلها، وتهدي بنات نعش، وتعرف سنن السماء وتسلطها على الأرض؟ أتنادي السحب فتهطل بالمطر الغزير، أو تستدعي البرق فيجيبك؟

من وضع في باطن الأشياء الحكمة، وفي الفؤاد الفطنة؟

هل أنت الذي يهدي الأسد إلى فريسته أو يشبع أشباله؟ من يرزق الغراب طعامه، إذا نعبت فراخه إلى ربها طالبة قوتها؟! (1-6) سفر الجامعة

الإصحاح الأول والثاني : قال ابن داود ملك أورشليم:

باطل في باطل، وكل شيء باطل.

ماذا يجني الإنسان من جهده تحت الشمس؟

جيل يذهب، وجيل يأتي، والأرض باقية أبدا.

الشمس تشرق، والشمس تغرب، ثم تظهر في مكانها حيث أشرقت.

تجري الرياح جنوبا، ثم تجري شمالا، وتدور في جريانها، ثم تعود من حيث دارت.

تتدفق الأنهار في البحار، والبحار لا تمتلئ، وإذا الأنهار والبحار كما كانت.

كل شيء في حركة، والكلام يقصر عن وصفها. لا تشبع العين من النظر، ولا الأذن من السمع.

ما كان سيكون، وما سبق عمله سيعاد عمله، ولا جديد تحت الشمس.

هل في الدنيا شيء تستطيع أن تنظر إليه وتقول إنه جديد؟ كلا؛ لقد كان قديما، وكان قبل أن نكون.

لقد عفت آثار الغابرين ونسي ذكرهم، وسيكون شأن الآخرين شأن الأولين.

لقد كنت ملكا لبني إسرائيل في أورشليم، ووهبت قلبي للبحث عن حكمة ما حدث تحت قبة السماء، فإذا كل ذلك عناء نصب الله فيه الناس وشغلهم به.

رأيت كل ما تحت الشمس باطلا، وقبض الريح، فلا المعوج يستقيم، ولا النقص يجبر.

لقد سألت نفسي، ماذا بعد عظمتك، وتمام حكمتك، تفوقك على من كان قبلك على أورشليم، وتفتح قلبك للحكمة والمعرفة، وتمييزك بين الحكمة والغفلة، والعلم والجهل؛ فإذا هذا أيضا قبض الريح، فمن زادت حكمته زاد غمه، ومن ازداد علما ازداد حزنا.

قلت لنفسي: سأمتحنك بالفرح، فلعلك ترين في ذلك خيرا، فإذا هذا أيضا باطل. رأيت الفرح جنونا، فماذا يغني الفرح؟!

قلت تعلل بالخمر، والهج بالحكمة، واسلك سبل الجاهلين، لتدرك ما ينبغي أن يعمل الناس في دنياهم، فوسعت ملكي، وبنيت البيوت، وزرعت الكروم واتخذت لنفسي الجنان والبساتين، وغرست فيها الأشجار من كل صنف، وأجريت فيها الماء يسقي أشجارها، وملكت العبيد والجواري، وملأت بيتي بالخدم، واقتنيت من البقر والشاه ما لم يملكه أحد من قبلي في أورشليم، وجمعت الذهب والفضة، وأصبح في يدي كنوز الملوك والبلدان، وكان لي المغنون والمغنيات، ونعمت بأطيب ما نعم به البشر، وزدت في النعيم على ما كان لآبائي، واحتفظت مع كل ذلك بحكمتي، ولم أحرم عيني أن تستمتع كما تشاء، ولا قلبي أن يفرح ما يشاء.

ثم نظرت، فوجدت كل ذلك باطلا وقبض الريح، ولا خير يرتجى تحت الشمس.

وقلت: إن الحكمة تفوق الجهل كما يفوق النور الظلام، فالحكيم عينه في رأسه، والجاهل يضل السبيل، ولكن رأيت أن الأحداث تحدث للحكيم كما تحدث للجاهل، فما غناء الحكمة؟ كل شيء باطل، فالحكيم ينسى بحكمته، والجاهل ينسى بجهله، ويموت الحكيم كما يموت الجاهل، فما الحياة؟

كل ما تحت الشمس باطل وقبض الريح.

سخرت من عملي الذي أعمله؛ إذ علمت أنه صائر لمن بعدي، ولا أعلم ما سيكون؟ حكيما أو جاهلا؟

وكل شيء باطل.

حاولت أن أيأس من كل ما عملت، فالإنسان يجد في حياته، وينجح بحكمته، ثم يترك ما عمله لمن يبذل فيه جهدا، ولم يتعب فيه قلبا.

كل شيء باطل وبلاء عظيم.

فماذا ينال الإنسان من عنائه في يومه، وغمه في عمله، وهمه في ليله؟

كل شيء باطل.

لا شيء للإنسان خير من أن يأكل ويشرب ويستمتع بلذة الخير في عمله، وقد رأيت هذا من نعمة الله، ومن أولى بها مني؟

إن الله ليهب للخير الحكمة والعلم ورضا النفس، ويدع الشرير يجمع المال ويعدده، يحسب أن ماله يخلده.

كل شيء باطل وقبض الريح. (1-7) نشيد الأناشيد

الإصحاح الثاني : أنا وردة «شارون» وسوسنة الوادي.

حبيبي بين البنات، كالسوسنة بين الأشواك. وحبيبتي بين البنين كشجرة التفاح بين أشجار الغاب.

تفيأت ظلاله في أعظم نشوة، ووجدت ثمرته أحلى مذاق.

أدخلني إلى دار الشراب، ونشر فوقي لواء الحب.

أسعفوني بشراب، وانعشوني بتفاح، فأنا مريضة بحبي.

إن يسراه تحت رأسي، ويمناه تعانقني.

نشدتكن الظباء وآرام الحقول، يا بنات أورشليم، ألا توقظن الحبيب ولا تثرن نعاسه حتى يشاء.

ذاك صوت حبيبي! انظر، ها هو قادم يطفر فوق الجبل، ويقفز فوق التلال؛ ما أشبهه بظبي أو ريم.

انظر، ها هو يقف وراء الجدار يتطلع من النوافذ، ويبين من خلالها.

وتحدث إلي الحبيب فقال: انهضي يا حبيبتي وفتنتي، وتعالي معي بعيدا؛ فقد مضى الشتاء، وأقلعت السماء، وازينت الأرض بزهرها. ها قد آن أوان تغريد الطير، وغنى الحمام في أرضنا، وأخرجت شجرة التين خضر ثمارها، وعبقت الكروم بأريج أعنابها.

انهضي يا حبيبتي، يا فتنتي، وتعالي معي بعيدا.

إيه يا ورقاء! دعيني أشهد محياك بين شعاب الصخر وستر المعاقل. أسمعيني رنين صوتك، إنه لطروب، وأريني محياك، إنه لجميل.

أبعدوا عنا الثعالب، صغار الثعالب؛ لأنها تفسد الكروم، وإن كرومنا قد نضجت أعنابها.

أنا من أهوى ومن أهوى أنا، وها هو يطعم بين زهرات السوسن.

إلى أن يقبل الصباح وينهزم الظلام عد - يا حبيبي - كما كنت ظبيا أو رئما في شعاب الجبال. (1-8) من أمثال سليمان

رأس الحكمة مخافة الله، ولكن الجاهل يزدري الحكمة والموعظة. اسمع يا بني وصاة أبيك ولا ترفض شريعة أمك؛ توكل على الله بكل قلبك، ولا تعتمد على عقلك. لا تمنع الخير عن أهله متى استطعت أن تفعله؛ لا تقل لصاحبك اذهب اليوم وسأعطيك غدا إن كنت تملك اليوم ما تعطيه. اذهب إلى النملة أيها الكسلان، وتعلم طرائقها وكن حكيما، ولا تمل إلى الزانية، ولا تشرد في مسالكها، فإن بيتها طريق إلى الهاوية، وسبيل هابطة إلى القبر. العامل بيد رخوة مصيره الفقر، والغنى في يد المجد. تأتي الكبرياء فيأتي معها الهوان، ومع المتواضعين الحكمة. طريق الجاهل مستقيم في نظره، وسامع المشورة حكيم. إن من الناس من ينطق بمثل طعن السيف، ولسان الحكماء شفاء. المرأة الحكيمة تبني بيتها والحمقاء تهدمه. الكلام اللين يمحو الغضب، والكلام الموجع يثير السخط. لقمة يابسة ومعها سلام خير من بيت مليء بالذبائح وفيه خصام. الأخ أمنع من مدينة حصينة. الصيت أفضل من الغنى، والنعمة الصالحة أفضل من الفضة والذهب. الغني والفقير يلتقيان، فكلاهما من صنع الله. •••

ولليهود أمثال شعبية قديمة جرت على ألسنتهم في أزمان مختلفة، تمثل حياتهم وتفكيرهم وعاداتهم في تلك العصور، التي تعاقبت عليهم فيها العزة والذلة والاستقلال والاستعباد؛ تصف الحياة العائلية وفضائل الناس ورذائلهم، وقواعد السلوك في الحياة البيتية والاجتماعية، والحظ والقسمة، والفقر والغنى، في عبارة منتقاة، كتلك التي في الأدب العربي. ومن خصائصها أنها لا تصوغ الحكمة في قاعدة عامة تنطبق على كثير من الجزئيات، ولكنها غالبا تنطق بجزئية يمكن أن يشبه بها كثير من الحالات. وأكثرها يدل شكلها على أنها نبعت من قرى صغيرة لا من مدن كبيرة.

نسوق بعض أمثلة منها للدلالة على ما فيها:

30 (1)

الشباب إكليل من الورد، والشيخوخة إكليل من الصفصاف.

أي إن الإكليل في عهد الشباب خفيف وجميل، أما في عهد الشيخوخة فثقيل قبيح. (2)

شجرة الشوك من صغرها تنتج الإبر؛ أي أن الطفل تنبئ أعماله في صغره عما سيكون في كبره. (3)

قد يعلمك الحكمة بعض ولدك.

ومعناه أن الكبار كثيرا ما يتعلمون ممن يصغرونهم سنا. والقصة التي من أجلها جرى هذا المثل هي:

أن حبرا يهوديا كان له زوجة عنيدة تعمل دائما عكس ما يريد، فلو رغب في الفول أعدت له عدسا، وفي العدس أعدت له فولا. وحدث يوما أن أرسل الوالد ابنه يحمل رسالة إلى أمه، يأمرها بعمل، فنقل الابن إلى أمه عكس ما أمر به أبوه، وبهذا حقق لأبيه ما يريد. ولما علم الرجل بما فعل ابنه أنبه على عصيانه، ولكنه تعلم من تصرف الولد ما ينبغي له أن يصنع مع زوجه. (4)

كنا في شبابنا رجالا، فلما أصبحنا شيوخا صرنا في أعين الناس صغارا.

والمعنى أن كثيرا من الناس يبدون قدرة في سن الشباب فيعهد إليهم بهام الشئون، فإذا ما تقدمت بهم السن عجزوا عن القيام بخطير الأعمال، كأنما هم صغار. (5)

قال الشيخ: إني أبحث عن شيء لم أفقده.

والمعنى أن الشيخ إذا احدودب ظهره مشي وعيناه إلى الأرض كأنما يبحث عن مفقود. (6)

كم من جمل مسن يحمل جلد جمل صغير.

والمعنى أنه كثيرا ما يلاقي الشاب حتفه قبل الرجل المسن، كما تحمل الجمال التي تقدمت بها السن جلود صغارها التي ذبحت إلى السوق. (7)

الفقر يقتفي أثر الفقير. (8)

إذا ما فرغت الدار من شعيرها، جاءها العناء يدخل من بابها. (9)

الكلب الجائع تزدرد الروث. (10)

تحل الآلام بأسنان من يسمع جاره يمضغ الطعام وهو لا يملك ما يأكله. (11)

إلى أن يهزل سمان الرجال يفنى منهم العجاف. (12)

عند باب الدكان يكثر الإخوان والأصدقاء، وعند باب البؤس لا تجد أخا ولا صديقا.

أي أن الأصدقاء يكثرون في اليسار، ويختفون في العدم. (13)

إن قيل مات الصديق فصدق، وإن قيل أثرى الصديق فكذب.

أي أن سوء الأخبار أقرب إلى الحدوث من حسنها. (14)

من امتلأ جوفه زادت شروره. (15)

تغزل المرأة وهي تتحدث.

أي أن المرأة تنتهز كل فرصة ممكنة لتحقيق أغراضها، فهي تركز انتباهها في الغاية التي تنشدها، حتى وهي تتلهى مع غيرها بالحديث. (16)

كما أن النعجة تتبع النعجة، كذلك تفعل البنت ما تفعله أمها. (17)

سليلة الأمراء والملوك قد تمتهن للسفلة. (18)

المرأة في الستين كالصبية في السادسة، تسرع نحو الموسيقى التي تعزف في احتفال الزواج.

ومعنى ذلك أن المرأة لا تفقد ميلها نحو أمور الأمومة مهما بلغت سنها. (19)

انزل درجة في اختيار الزوجة، واصعد درجة في اختيار الصديق.

أي أن الزواج من امرأة أرفع منك منزلة، خليق أن يضعك موضع الزراية من زوجك وأقاربها، أما مصادقة من هم أعلى منك فقد ينفعك. (20)

لا أريد لقدمي حذاء أوسع منها.

أي أن الزواج من أسرة أرفع ليس سبيلا إلى السعادة. (21)

تعجل في شراء الأرض، وتردد في اختيار الزوجة. (22)

إن كانت زوجتك قصيرة فانحن إليها لتهمس في أذنها.

أي لا بد لك من استشارة زوجتك في كل شيء، حتى لو ظننت نفسك أوسع منها علما وخبرة وذكاء. (23)

الرذيلة في البيت كالدودة في الفاكهة. (24)

حب الوالد لبنيه، وحب الأبناء لأبنائهم. (25)

إذا نبحك كلب فادخل الدار، وإذا نبحتك كلبة فاخرج منها.

الكلب هنا رمز لزوج البنت، والكلبة رمز لزوجة الابن، أي أن الأول غضبه محتمل، وأما الثانية فغضبها لا يحتمل.

الفصل الثالث

الأدب اليوناني

(1) أساطير اليونان

كانت حياة الإنسان الأول شاقة عسيرة، وكان العالم من حوله يعج بظواهر لا يفهمها، ومشكلات لا يقوى على تعليلها، ولكنه كلما ازداد على مر الزمان خبرة وذكاء ازداد رغبة في فهم هذه الطبيعة وتفسيرها؛ فما أصل العالم؟ وكيف خلق الإنسان والحيوان؟ كيف نشأت أفلاك السماء في مسالكها ونظامها؟ كيف نعلل حركات الشمس والقمر؟ لماذا كانت هذه الشجرة حمراء الزهر وذلك الطائر أسود الذيل؟ ما أصل هذا وذاك من كل ما يحيط بالإنسان؟

حاول الإنسان الأول أن يجيب عن هذه الأسئلة وأشباهها، وهو في محاولته الإجابة لم يكن يفرق بين الإنسان وسائر الكائنات كما نفعل اليوم، إنما الكائنات في رأيه مخلوقات سواء؛ فكل حيوان له روح كروح الإنسان، وكل شيء في الوجود له شخصية كشخصية الإنسان. وينبئنا «هيرودوت» أن المصريين الأولين كانوا يعدون النار حيوانا نشيطا، والرياح كائنا حيا يتزوج ويعقب الأبناء.

على هذا الأساس أخذ الإنسان الأول في تفسير الطبيعة، فكان من الطبيعي أن ينسج القصص حول ظواهر الكون كما تنسج حول أفراد الإنسان؛ فلكل ظاهرة قصتها، أو أسطورتها التي تشرح تاريخها، فتكونت بذلك طائفة من الأساطير تصور عقلية الإنسان الأول في فهمه للأشياء. ولما بدأ الإنسان في إنشاء أدبه وتدوينه، لم يجد بدا من تسجيل تلك الأساطير الأولى التي أخذت تتوارثها الأجيال، وكل جيل جديد يضيف إليها شيئا من إنتاجه يصور وجهة نظره في مشكلات الحياة والموت وعلاقة الإنسان بالعالم الذي يعيش فيه.

هذه الأساطير - التي اتخذها الأدب أساسا يقوم عليه - متنوعة متعددة كما تتنوع ظواهر الحياة وتتعدد.

فهذه أساطير عن أصل العالم وأصل الإنسان، وهذه أساطير عن فنون الحياة تقص علينا كيف تعلم الإنسان رماية الرمح وجر المحراث وصناعة الخزف وهكذا، وهذه أساطير تدور حول الشمس والقمر والنجوم، وأخرى تتعلق بالموت وما بعد الموت. ثم هذه مجموعة من الأساطير - لعلها أروعها وأمتعها - تتصل بالحب وعلاقة الرجال بالنساء. والصفة المشتركة بين هذه الأساطير كلها هي الشخصية التي تخلعها على الحيوان والجماد. وقد أدت هذه النظرة بالإنسان إلى العقيدة بوجود آلهة لا عدد لهم يسكنون ويكمنون في كل ظواهر الوجود، ويعنون بشئون البشر فيرقبونها ويتدخلون في مجراها في شغف واهتمام، وكثيرا ما يقف بعض الآلهة موقف العداوة من الإنسان، لهذا لم يكن بد عند الإنسان الأول من عبادة الآلهة وخشية بطشها. ومن هنا كانت هذه الأساطير وثيقة العلاقة بنشأة الدين. ولما كانت طلائع الأدب تدور في جملتها حول الآلهة وما يعملون، ثم لما كان الدين قد استتبع في تطوره إنشاء المعابد، فقد صار المعبد الديني في كثير من بلاد العالم القديم مأوى الآداب.

وإنه لمن أروع وأهم ما يرويه تاريخ الإنسانية هذا التشابه الشديد بين أمم الأرض في أغانيها الشعبية وفي أساطيرها، فأغاني الشرق وأغاني الغرب متفقة في الموضوع، وكل شعوب العالم تقص قصصا متشابهة أو متقاربة. أيكون هذا الاتفاق حادثا عارضا؟ أم نعلل اتفاق الهنود والفرس والإغريق والرومان والجرمان وأهل اسكندناوه والروس والكلتيين بأنهم جميعا استمدوا أساطيرهم من الجنس الذي عنه تفرعوا جميعا، وهو الجنس الآري الذي كان مقره هضبة آسيا الوسطى قبل أن يهاجر نحو الغرب في موجات متلاحقات ليؤسس الأمم الأوروبية؟ قد يكون هذا التعليل مقبولا لولا أنه لا يفسر التشابه بين الآريين وغير الآريين.

لهذا كان الأرجح أن يكون تشابه الأساطير عند مختلف الشعوب راجعا إلى أنها نتيجة تجارب متشابهة وعقليات متقاربة وعواطف متجانسة يحسها الإنسان ما دام إنسانا، فهي إنتاج العقل والعاطفة الإنسانية في بدايتهما.

ونحن نبسط لك أمثلة من أساطير اليونان، لما لها من أثر قوي في الآداب العالمية وخاصة الأدب الأوروبي: (1-1) قصة: كيوبد وسيكه

1

كانت سيكه صغرى بنات أحد الملوك، وكانت من الجمال بحيث أثارت الغيرة في إلهة الجمال نفسها «فينوس»،

2

فأمرت الإلهة ابنها كيوبد أن يقتل هذه الإنسانة التي تنافسها في جمالها، فتسلل كيوبد إلى مخدع سيكه، ولكنه لم يكد يبصر هذا الجمال الفاتن حتى ارتد مذهولا، وانطلق أحد سهامه إلى صدره، فأقسم ألا يعتدي على مثل هذا الجمال البريء، وسرعان ما أحبها، وأخذ يزورها في ظلمة الليل، بعد أن وعدته بألا تحاول التعرف باسمه أو النظر إلى وجهه، وتوعدها بالهجر والقطيعة إذا هي أخلفت وعدها. ولبثت سيكه زمانا طويلا حافظة لعهدها، ضابطة لأمرها، ولكن رغبة الاطلاع غلبتها آخر الأمر، فنهضت ذات ليل وأشعلت سراجها وحدقت معجبة في حبيبها الراقد. وشاءت المصادفة أن تسقط من المصباح قطرة زيت على كيوبد فتوقظه؛ ففر لساعته من النافذة المفتوحة، وظلت سيكه تعاني ما تعاني من هجر حبيبها حتى عاد إليها. •••

وهي قصة ترمز إلى حقيقة إنسانية قريبة، وهي أن النفس لا يجوز لها أن تمعن النظر في الحب وإلا تبدد، وقريب من هذا قول الشاعر العربي:

ليس يستحسن في شرع الهوى

عاشق يحسن تأليف الحجج (1-2) قصة: ديانا وإنديميون

3

كانت ديانا - إلهة القمر - تسوق جيادها البيض النواصع في السماء، فلمحت إنديميون نائما على سفح جبل، وإنديميون شاب من الرعاة فاتن الجمال، فانحنت إليه تقبله، وأخذت كل ليلة تقف بعربتها في هذا المكان، فتقضي مع الشاب الجميل لحظة قصيرة، هي عندها السعادة والنعيم، ثم ما لبثت ديانا أن أشفقت على هذا الجمال أن يفلت منها أو تتلفه الحياة على الأرض، فأغرقته في نعاس دائم وأخفته في غار لا يدنسه إنسان من البشر.

هذه القصة من أساطير النجوم، ويقول شارحوها إن إنديميون يمثل الشمس الغاربة التي يتطلع إليها القمر كلما بدأ في الليل رحلته. (1-3) طريق الدمار أو قصة: فيتون

4

قصة فيتون هي قصة الكون كله، فقد كان فيتون ابن أبولو

5

إله الشمس وهو يمثل السائق الأرعن الذي يتخبط بعربته هنا وهناك. طلب فيتون من أبيه أبولو أن يقيم له برهانا على حبه الأبوي، فأقسم أبولو أن يستجيب لطلب ابنه مهما كان.

ولكنه سرعان ما ندم على قسمه، لأن فيتون قد طلب إلى أبيه أن يعهد إليه بعربة الشمس يقودها يوما واحدا، فقال أبولو: «لن يقود عربة النهار ذات اللهب إلا أنا.» وأنذر ابنه بما يصيب الكون من الكوارث لو عهد إليه بعربة الشمس يقودها، وأخذ يصف له مخاطر الطريق: «أول الطريق شديد الانحدار ... ووسطه عال في أجواز السماء، حتى أكاد أنا نفسي لا أستطيع أن أصوب نظري نحو الأرض التي تمتد تحتي دون أن يأخذني الفزع ... أضف إلى ذلك كله أن السماء لا تنفك دائرة تحمل معها النجوم، فلا بد لي أن أكون على حذر خشية أن تدفعني حركة السماء الدائرة التي تدفع كل شيء. فهبني أعرتك العربة يوما، فماذا أنت صانع؟

إن الطريق مملوء بالمخاوف؛ فستمضى بجانب قرني «الثور» أمام «السهم»، بالقرب من فكي «الليث»، حيث «العقرب» تمد إحدى ذراعيها في ناحية و«السرطان» في ناحية أخرى، ولن تجد الأمر يسيرا أن تقود هذه الجياد بصدورها المليئة باللهب الذي تلفظه من الأفواه والخياشيم.» ولكن فيتون الأحمق أبى إلا أن يكون أبوه عند وعده؛ فأسلمه أبوه عربة الشمس فأمسك بالعنان وبدأ رحلته في السماء، وسرعان ما أحاطت به الصعاب، فقد أحست الجياد رعونة سائقها فانطلقت منحرفة عن طريقها، فتلاحقت الكوارث: احترق الدب الأكبر والدب الأصغر، وذوت مجموعات بأسرها من النجوم. فلما قارب الأرض أخذها الهلع من كل صوب، فسقط العنان من يد فيتون، وجثا راكعا أمام أبيه يطلب معونته، لكن دعاءه ذهبت به ضجة الفزع تنبعث من أرجاء الأرض جميعا: فالغابات تشتعل، والجبال تذوب، والبحر يفيض، والقاع يبرز على هيئة الجزر، والأرض تنشق، والمدائن تصعد دخانا في الفضاء ثم تهبط ذرات من رماد، ونهر النيل ينحرف إلى الصحراء حيث لا يزال حتى اليوم، واسودت وجوه أهل النوبة، وماج البحر حتى كاد إلهه يغوص في اليم غرقا، واهتزت الأرض ضارعة إلى «جوبتر»

6

أن يخمد نارا كادت تجعلها رمادا.

وسمع «جوبتر» (إله المشتري) دعاء الأرض، ودعا الآلهة أن يشهدوا ما دبر للأرض من خلاص؛ وما هو إلا أن طوح بسهم من البرق الخاطف نحو السائق المجنون، فارتج فيتون وسقط من مكانه في العربة إلى نهر «أريدانوس»

7

حيث غرق في موجه، وأقامت عرائس النهر قبرا له، وبكت عليه أخواته بكاء مرا طويلا، حتى أشفق عليهن «جوبتر» فأحالهن شجرات من الحور ما تزال ورقاتها تسقط عبراتها القانيات، وحزن عليه صديقه «سجنوس»

8

حزنا كاد يقضي عليه، فبدله الله تما

9

لن يزال إلى الأبد سابحا على النهر ينشد قبر فيتون.

هكذا علل عقل الإنسان الأول - وفيه ما فيه من ضعف التعليل وشرود الخيال - نشأة الصحراء والأصقاع المجدبة وما إلى ذلك على ظهر الأرض. (1-4) قصة إكو ونارسيس (الصدى والنرجس)

10

كانت إكو - عروس الجبال - بارعة في جمالها، ولكنها أحرجت صدر ديانا

11

بحديثها الذي لا ينقطع، وكثرة لجاجها واعتراضها في الكلام والحوار، فقضت عليها ديانا بالعقاب الآتي: «ستحرمين هذا اللسان الناطق الذي تخدعينني به؛ فلن ينطق لسانك بعد الآن إلا بشيء واحد أنت به مغرمة، وهو: الجواب. وسأبقي لك القدرة على رد الكلمة الأخيرة من حديث المتكلم، وأسلبك القدرة على البدء بالحديث.» فتذهب إكو صامتة اللسان لا تحركه إلا لكي تكرر به آخر كلمات المتحدث، ثم يشاء حظها الأنكد أن تغرم بشاب جميل «نارسيس» (النرجس) وتهم بمغازلته فلا تستطيع؛ فنال منها الحزن والعار كل مبلغ، وآوت إلى الصخور والجبال حيث أخذت تذوي وتذبل حتى فني منها الجسد، ولم يبق لها إلا الصوت تردد به الكلمة الأخيرة مما تسمع، ولا تزال حتى اليوم نعرفها بصوتها. وشاءت المقادير أن تنتقم لها من نارسيس الذي رفض حبها بل أشاح بوجهه عن العرائس جميعا.

وذلك أن نارسيس رأى يوما صورة وجهه معكوسة في الماء فأحبها ، ولكن لا سبيل إلى ضم هذا الحبيب.

لذلك اعتزل في حزنه حتى مات؛ فأرادت العرائس أن تواري جسده في جدث يليق به، ولكنها لم تجد من جسده إلا زهرة تحمل اسمه، هي زهرة النرجس. ولعلها رمز إلى زهرة النرجس التي تنمو على حافة المياه. (1-5) قصة بروزربين المغتصبة

12

لم يستطيع بلوتو

13 - إله جهنم - أن يغري إلهة من الآلهات بزواجه، فظل في مملكة الموت وحيدا حتى ضاق بهذه الوحدة ذرعا. وحدث مرة أن كانت «سيريز»

14

إلهة القمح والحصاد تجول مع ابنتها «بروزربين» في سهل مزهر من سهول صقلية، فأخذت الفتاة تجمع الزهر مع جماعة من الرفاق، فباغتها «بلوتو» وقد أقبل في عربته مسرعا، وأحبها للنظرة الأولى فاختطفها لتكون قرينة له في مملكته الصامتة الموحشة؛ فسقط الزهر من حجر الفتاة وأخذت تصيح مستنجدة، ولكن الإله المغتصب استحث جياده حتى وقف به الطريق عند نهر، فغضب بلوتو وضرب الأرض بصولجانه فانشقت له وهبط إلى جوفها مع عروسه المغتصبة، فحرمت ضوء الشمس وهواء الأرض وأصبحت زوجة لملك الموت، وأخذت أمها سيريز تبحث عن فتاتها في سورة من الغضب والحزن، وأشعلت سراجين وهاجين على قمة «إطنة» لتبحث عن ابنتها في سواد الليل؛ فلم يجرؤ أحد من الآلهة ولا من الناس أن ينبئها خبر ابنتها خوفا من بلوتو! ولبثت الأم هائمة على وجهها تسعة أيام، حتى صادفت إلهة أنبأتها قصة ابنتها التي أصبحت ملكة على دولة الأموات.

فأسرعت سيريز في عربتها إلى مقر الآلهة لترفع إليهم شكاتها، فاستجاب لها «جوف»

15

وأرسل عطارد

16

يسترد بروزربين من خاطفها بلوتو، ولكنه اشترط لردها ألا تكون قد أكلت شيئا من طعام العالم السفلي، وذهب عطارد وكاد بلوتو يصدع بأمر كبير الآلهة، لولا أن بروزربين عندئذ شوهدت وفي يدها رمانة تمتص رحيقها، فكان ذلك مانعا من ردها، ولكنهم اتفقوا آخر الأمر أن يقفوا من الطرفين موقفا وسطا، فقضي على بروزربين أن تنفق نصف عامها مع أمها والنصف الثاني مع زوجها.

وبروزربين في هذه القصة ترمز لحبة القمح التي تقضي الشتاء راقدة في مخبأ مظلم تحت التراب، ثم تعود فتبرز على وجه الأرض في الربيع مورقة مزدهرة. أو بعبارة أخرى ترمز هذه القصة لموات الشتاء تتلوه حياة الربيع إلى أبد الآبدين. •••

هذا نموذج من الأساطير اليونانية وتسمى الميثولوجيا

17

وهو اسم يطلق على أساطير كل أمة تتعلق بآلهتها، فيقال الميثولوجيا اليونانية والميثولوجيا الهندية ... إلخ.

وقد تناولها العلماء بالبحث في أصولها ونشأتها ورموزها، وسموا هذا العلم «ميثولوجيا» أيضا، وهو علم واسع احتدم فيه الجدل واختلفت فيه وجوه التفسير.

ولعل أقدم محاولة كانت ما زعمه فلاسفة أيونيا من أن الأساطير ليست إلا رموزا لقوى الإنسان النفسية والأخلاقية، وعن هؤلاء الفلاسفة أخذ أفلوطين وفرفريوس وغيرهما من فلاسفة الإسكندرية، فأسرفوا في التخريج، وإن لم تخل آراؤهم من عمق وجمال. خذ لذلك مثلا قصة «يوليسيز» والساحرات المعروفات باسم سيرينا،

18

فقد حدثنا هوميروس عن وجود أولئك الساحرات بأعلى الصخور في إحدى المضايق الخطرة، وقال إن أصواتهن كانت رائعة الجمال وإنهن كن إذا غنين أذهلن البحارة عن سفنهم، فتركوها تسير مع الموج إلى أن ترتطم بصخور المضيق وتتحطم. ولهذا عندما اقترب «يوليسيز» منهن عائدا من حرب طروادة أمر بحارته أن يسدوا آذانه وأن يشدوه إلى شراع السفينة، وبذلك نجا من سحرهن، واستطاع أن يظل يقظا معنيا بقيادة سفينته وإصدار أوامره إلى البحارة.

في هذه الأسطورة يرى أفلوطين وتلاميذه أنها رمز للصراع بين العقل والغواية، وهو بعد تفسير قريب مقبول، ولكن موضع الخطر كان في تعميمهم لمثل ذلك الفهم ومحاولتهم تطبيقه على كافة الأساطير.

وفي القرن الرابع قبل الميلاد ظهر مذهب آخر يعرف ب «اليهيميرية»

19

نسبة إلى الفيلسوف اليوناني يهيميروس،

20

وهو يرى أن الأساطير ليست إلا قصصا خياليا لحوادث تاريخية، فالآلهة وأشخاص الأساطير الأخرى ليسوا عنده إلا ملوكا وأبطالا أصبحوا آلهة بعد موتهم؛ ف «ريوس» مثلا ليس إلا غازيا شجاعا مات بجزيرة كريت ودفن بها، وبعد موته عبد على أنه إله. وبهذا المذهب أخذ رجال الكنيسة في التاريخ القديم وفي القرون الوسطى، لأنهم وجدوا فيه ما استطاعوا معه تجريح آلهة الوثنية. وهذا المذهب وإن كان في عبادة الأموات التي شاعت عند الشعوب القديمة ما يؤيده إلا أنه لا يمكن أن يفسر نشأة كل تلك الآلهة التي ملأ بها اليونان الأرض والسماء.

هاتان هما المحاولتان الكبيرتان اللتان عرفهما القدماء ورجال القرون الوسطى في تفسير الأساطير. وأما العصور الحديثة - أعني منذ النهضة الأوروبية - فقد تفننت في الفروض يضعها العلماء ثم يأخذون في البرهنة على صحتها معتمدين على المقارنة. ولقد كان في اكتشاف أمريكا ومجاهل أفريقيا وجزر الأوقيانوس ما مكن العلماء من تدوين كثير من أساطير الشعوب الفطرية التي لا تزال تسكن بعض تلك الجهات. وعلى ضوء تلك الأساطير حاولوا تفسير الأساطير القديمة. فقال البعض إن الأساطير لم توضع إلا لتفسير الطقوس الدينية التي توارثها الأقوام البدائيون دون أن يفهموا لقيامها معنى، فأخذوا ينسجون لتفسيرها القصص، وقال آخرون إنها وضعت لكي تنفث نوعا من الحياة في الأصنام والتماثيل التي توارثها أولئك القوم. وقال آخرون إنها نشأت عن عبادة الشمس أو غيرها من قوى الطبيعة التي خشيها الإنسان البدائي وعجز عن فهمها فعبدها. وهكذا تنوعت المذاهب مما لا سبيل إلى حصره، وفي كل منها شيء من الحق، ولكنها كلها لا تقوم إلا على الفروض التي لا تفيد يقينا.

والأساطير اليونانية لم تصل إلينا على حالتها الفطرية الأولى، بل إن الشعراء الذين أتوا بعد تلقفوا الأساطير من أفواه الشعب، وهم لم يقفوا عند مجرد التدوين أو الصياغة الشعرية بل نموا ما سمعوا وفهموه بعقولهم الممتازة، ووجهوه نحو معان جديدة عميقة، ثم عادوا فردوا إلى الشعب ما أخذوه عنه، وإذا بالشعب ينسى الصيغ الأولى لأساطيره ولا يعود يذكر غير ما يرويه الشعراء. وعلى هذا النحو نستطيع أن نقول إن الشعراء هم الذين خلقوا الأساطير التي بين أيدينا الآن.

وأقدم شعراء اليونان الذين خلقوا لنا ما كتبوا هو «هوميروس» الذي عاش على الأرجح في القرن العاشر قبل الميلاد. ولقد تحدث هوميروس عن الكثيرين من آلهة اليونان وذكر الكثير من خصائصهم وصفاتهم ، ولكن ما ذكره ذلك الشاعر العظيم عن الأساطير لم يأت إلا عرضا، وفي جلال قصصه للحوادث التي اتخذ منها موضوعا لملحمتيه اللتين سنتحدث عنهما بعد. ومع ذلك فمن البين أنه كانت لدى هوميروس فكرة جامعة عن روح الأساطير الإغريقية، تلك الروح التي نجدها شائعة في كل ما يقول وكأنه يفترضها معلومة، وهي لا شك كانت معلومة لسامعيه، وأما نحن الذين نجهلها فلا بد لنا من الاعتماد على شاعر آخر أتى بعد هوميروس بأربعة قرون تقريبا، وحاول أن يعرض تاريخ الآلهة اليونانية والأساطير التي تتعلق بها، ولكن عرضه لم يخل من تناقض وتشتت، نفسره اليوم بمحاولته التوفيق بين تقاليد المدن اليونانية المختلفة. ومن المعلوم أن بلاد اليونان كانت مقسمة إلى عدة مدن تكون كل مدينة منها مملكة صغيرة، وكان لكل مدينة نظمها وتقاليدها وآلهتها وأساطيرها، وإن تشابه ما كان قائما بالمدن المختلفة، كما أن قيام الأعياد الإغريقية العامة والمسابقات الرياضية المشتركة، ووجود معابد في مدينة دلف وجزيرة ديلوس

21

ومدينة أولمبيا وغيرها يحج إليها الإغريق كافة، كل هذا ساعد على وجود آلهة مشتركة موحدة الخصائص، ولكن دون أن يمحو الاختلاف في التفاصيل.

ذلك الشاعر هو «هزيود» الذي سيأتي ذكره، وكتابه الذي نشير إليه هو «نسب الآلهة»،

22

وبإمعاننا في ذلك الكتاب نستطيع أن نفهم الأساطير اليونانية فهما يوضح لنا الكثير من خصائص الأدب الإغريقي بل والروح الإغريقية عامة.

والذي لا شك فيه أن أساطير الإغريق كغيرها من الأساطير تدور حول العناصر الأبدية الثلاثة؛ (1) الإنسان. (2) الطبيعة. (3) الآلهة؛ فهذه العناصر الثلاثة هي أبطال كل تلك القصص. والذي شغل الإنسانية منذ أقدم الأزمنة - ولايزال يشغلها حتى اليوم - هو فهم العلاقة بين هذه العناصر وحل المشكلة القائمة بينها. ولقد استطاع اليونان أن يفهموا تلك العلاقة وأن يحلوا ذلك الإشكال حلا شعريا فيه تتركز كل خصائصهم الروحية.

ولعلهم لم يستطيعوا حل تلك المشكلة العويصة - مشكلة الإنسان والطبيعة والآلهة - ذلك الحل الشعرى إلا بفضل تلك الخاصية التي يجمع النقاد على توفرها لديهم؛ ونعني بها أنهم قوم كانوا يفكرون بخيالهم ، وبذلك استطاعوا أن يجمعوا بين نشأة الآلهة ونشأة العالم، حتى لنقرأ اليوم كتاب هزيود السابق فنرى فيه بوضوح فلسفة للكون تماشي تسلسل الآلهة وتوزيع الاختصاص بينهم، وكانت هذه أول مرحلة لحل المشكلة، وكانت الثانية خلع صفات الإنسان على آلهتهم وبذلك قربوها إليهم وحملوها نزعاتهم، ومنذ أن أصبحت لهم آلهة شبيهة بالبشر أخذوا يتصورون آلهة أخرى وربات في كل ما في الطبيعة من جبال وأنهار وغابات وأشجار، حتى لنستطيع أن نقول: إذا كان الهنود يعتقدون بالحلول الإلهي في الكون، فإن اليونان قد آمنوا بالحلول الإنساني في الآلهة، فالإنسان عندهم حال بكل شيء، حال بالآلهة ثم حال بالطبيعة التي تصوروها بملك كل خصائص الإنسان. وهكذا اتخذ اليونان من الإنسان محورا للوجود كله ومنبعا له.

وعن خصائص هذا الحل تصدر خصائص الأدب اليوناني كله، فهو أدب (1) إنساني، أعني أنه يعالج مشاكل الإنسان التي تمس حياته القريبة، ويسلط الضوء على النفس البشرية ليكشف عن أسرارها، وهذه الخاصية من الوضوح بحيث لم يجد علماء النهضة اسما يصدق على الدراسات اليونانية اللاتينية خيرا من الإنسانيات. (2) وهو أدب تشخيص «دراما» ولقد أتته تلك الميزة من تشخيصه لعناصر الطبيعة التي ملئوها بالآلهة البشرية، فأصبح الوصف نفسه أشبه ما يكون بالرواية التمثيلية التي تشتبك فيها الإرادات المختلفة وتتعارض أو تتعاطف. (3) وهو أدب انسجام

23

تتناغم أجزاؤه ولا تصنع فيها، وتلك خاصية امتازت بها أساطيرهم التي غذت ذلك الأدب.

خذ لذلك مثلا ما ذكره هزيود من أن الأرض «جيا»

24

لما خلقت وخلقت السماء «أورانوس»

25

تزوجت الأرض السماء - وبهذا فسر الخيال اليوناني جثوم السماء على الأرض عند الأفق - ونتج منهما أبناء نخص بالذكر منهم الزمن «كرونس»

26

ولما كان الزمن لا يبقي على أحد ولا على شيء، وكان قاسي الفؤاد لم يتورع عن أن ينال بمعونة أباه أورانوس نفسه يطعنه فيهوي إلى الأرض.

هوى أورانوس فحل محله كرونس في السيطرة، ولقد كان من الطبيعي أن يتصور اليونان سيطرة «الزمن» على الوجود، والتمس كرونس له زوجة فلم يجد خيرا من «ريا»

27

وريا معناها «الجريان »، وإذن فقد تزوج الزمن من جريانه وكانت لهما أبناء، ولكن كرونس الذي لم يبق على أبيه أخذ يتلقف أبناءه بمجرد أن يولدوا ويبتلعهم، إلى أن كان يوم ولد له فيه «زيوس»،

28

ومعنى زيوس «النهار أو الضوء»، ونظرت الأم فوجدت ولدها مشرق المحيا، فعز عليها أن يبتلعه أبوه واحتالت لنجاته فلفت حجرا في قماط وألقمته الأب وهربت بابنها إلى جزيرة كريت حيث أودعته عند جدته جيا.

بجزيرة كريت نما «زيوس» وترعرع، ولكنه لم يكد يبلغ أشده حتى علم بوجود التيتان

29

أعمامه إخوة كرونس، فثار غضبهم؛ إذ إنهم لم يسلموا لكرونس بالسيادة إلا على شرط ألا يعقب أحدا يمكن أن يخلفه في الملك، فأما وقد أفلت من أبنائه ولد فهم في حل من عهدهم، بل لا بد لهم من إنزاله عن عرشه ليتخلصوا منه ومن ولده. وكانت معركه حامية اهتز لها الوجود كله وأوشك «كرونس» أن ينهزم وقد وجد نفسه وحيدا أمام جموع إخوته التي تركزت فيها قوى العالم لولا أن خف «زيوس» إليه. ونظر زيوس فرأى بوادر الهزيمة، فأسرع إلى أبيه يجرعه شرابا لم يكد يتناوله حتى رد ما ابتلع من أبنائه، فقاموا بجوار أبيهم في مناهضة أعدائهم، حتى كانت لهم ولأبيهم الغلبة.

انتصر كرونس وكان الفضل الأكبر في انتصاره لزيوس الذي لم ينس أنه لم ينج من أبيه إلا بحيلة أمه، والذي كان يعلم حق العلم أن لا بقاء مع «الزمن» لشيء ولا لأحد. وتطلع زيوس إلى الخلود فأخذ بتلابيب «كرونس» وألقاه إلى الأرض حيث سقط إلى جوار روما، فيما يروي «فرجيل» شاعر اللاتين الذي حسب أن سقوطه بجوار تلك المدينة العريقة سيضمن لها الخلود، ولكننا لسوء الحظ نلحظ أن نزوله إلى الأرض لم يحفظ روما ولا حفظ غيرها.

تخلص زيوس من كرونس فضمن الخلود.

وانتصار زيوس هو انتصار النهار على الزمن. انتصار هذا الجزء من اليوم الذي يعود كل صباح إلى الظهور، فهو انتصار الحياة المتجددة على الفناء المستمر. وهكذا عبر الخيال اليوناني من الزمن المدمر الذي يفني بعضه بعضا إلى النهار الذي يعقبه الليل، إلى الحياة يتلوها الفناء.

انتصار النهار على الزمن انتصار لمقياس محدود وقانون مطرد على امتداد الزمن الذي لا أول له ولا نهاية، فهو انتصار للمحدود على اللامحدود، انتصار للنظام على الفوضى، ومن هنا سمى هوميروس زيوس «سيد النظام».

بذلك وصل الخيال اليوناني في فهمه لنشأة الآلهة ونشأة الكون إلى مبدأين أساسيين: (1) مبدأ الخلق والفناء. (2) مبدأ النظام الذي يسود هذا الوجود.

انفرد زيوس بالسيادة وقد ضمن الخلود بخلاصه من الزمن، و«زيوس» كما رأينا رمز النظام. رمز هذا الخبر الذي يسير الوجود وفقا لقوانينه، بحيث لا بد لهذا الإله الجديد من إخضاع ما بقي من قوى خلفتها الآلهة القديمة. فها هي الرياح ما تزال تهب والبراكين تثور ... إلخ، على غير سنن واضح، حتى لكأنها عناصر الثورة في هذا الوجود، ثورة إليها يرمز الخيال اليوناني عندما يحدثنا عما كان من نشوب الحرب من جديد بين زيوس وبين إخوته وبني عمومته من العمالقة،

30

وأوشكت الهزيمة أن تحل بزيوس لولا أن خف إليه أحد بني عمه برومثيوس

31

أي «المتبصر» جد البشر فيما يزعم البعض، ورمز الإنسانية وحاميها، فشد من أزره حتى كان له النصر، ولا أدل على أن هؤلاء العمالقة هم قوى الطبيعة من أن هزيمتهم لم تتم إلا بعون البشر ممثلين في برومثيوس، البشر الذين يتلخص تاريخ جهادهم الطويل في نفوذهم إلى قوانين الطبيعة نفوذا يمكنهم من السيطرة عليها. ثم من هم أولئك العمالقة؟ أليسوا أمثال تيفون

32

الذي قضى عليه زيوس بعد الهزيمة بالسجن تحت جبل «الأتنا» حيث لا يزال إلى اليوم يثور من وقت إلى آخر فينفث الحمم لهيبا، ثم أطلس

33

الذي ألقاه زيوس بشمال إفريقية حيث لا يزال جبلا يحمل على أذرعه قبة السماء؟

هكذا انتصر «زيوس» على العمالقة من قوى الطبيعة فساد الجبر عالم المادة، ولكن هل سيبسط هو نفوذه أيضا على البشر؟ وهل سيخضع له هؤلاء البشر في شخص برومثيوس أم لا بد من قيام صراع بينهما؟ وإن كان فلمن ستكون الغلبة؟

وفي الحق أن هذا الصراع لم يكن منه بد ، فبرومثيوس لم ينس أن له الفضل الأكبر في تمكين زيوس من الانتصار وبرومثيوس يمثل هؤلاء البشر الذين يحسون أن لهم إرادة حرة أو يعتقدون أنها حرة، وفي تلك الحرية أملهم العذب ومصدر شعورهم بكرامة الإنسان المسئول عما يأتي وما يدع.

ولقد كانت لهذا الصراع قصة طويلة، وإنما يهمنا الآن أن نقرر أن زيوس وبرومثيوس، أو قل إن مبدأ الجبر والبشرية قد وصلا إلى كلمة سواء، فكف زيوس عن البشر أذاه وخضعت الإنسانية لأحكامه. ولكن بعد زمن طويل تحول فيه الإله عن طبيعته الاستبدادية إلى إله مقيد بقوانين الحق والعدل والخير، وأشرك معه في الملك من إخوته وأقاربه عددا انفرد كل منهم بالسيادة على جزء من الوجود وإن ظلت له السيطرة العليا، بل ودنا من البشر فاتخذ الكثير من خصائصهم، فأصبح يفرح ويحزن، ويلهو ويتألم، ويحب ويكره، ويشتهي، كما يفعل البشر سواء بسواء.

فأما مثل الخير والعدل والحق، فقد احتال لاكتسابها بأن ابتلع «الحكمة»

34

التي استقرت برأسه يصدر عنها في قيادة العالم، إلى أن كان يوم ناء بحملها فدعا إليه هفيستوس

35

إله الحدادين وأمره أن يشق رأسه بمعوله خرجت منه الحكمة مشخصة في تلك الإلهة الرائعة أتينا «بالاس أتينا».

36

خرجت من عقل الإله وبيدها رمحها، وبرأسها خوذتها، رمزا لقوة الحكمة. ثم تزوج من «تيميس»

37

أي الشريعة، فولدت له «الساعات» وحدة الزمن ومقياسه، وولدت إينوميا

38 «الحكم الصالح» تحمل إلى العالم العدل والسلام، ثم «البارك»

39

آلهة الأعمار الثلاثة تغزل إحداهن خيط آجالنا، وتطوي الثانية ما تغزل الأولى، وأما الثالثة فتقطع الخيط عندما يحين الحين.

كذلك أشرك معه في الملك إخوته وأقاربه بنزعة ديمقراطية إغريقية بحتة، وممن أشركهم معه بوزيدون

40

الذي ولي سيادة البحار، وهديس

41

الذي ذهب بالسيطرة على العالم الآخر، وأما هو فقد استقل بالسماء ليشرف منها على من دونه، بينما ظل سطح الأرض ملكا شائعا للجميع بما فيه الأولمب، ذلك الجبل الجليل الذي اتخذته الآلهة ندوة يجتمع بقمته حفلها، وكان لهؤلاء الأرباب أبناء كثيرون انضموا إلى آبائهم في السيادة، وقد انفرد كل منهم بظاهرة من ظواهر الطبيعة المتعددة، فأصبح للبحار حوريات، وللأنهار والغابات والينابيع والمروج الرطبة ربات، وذهب الإله الرابع أبولو

42

بالفنون على رأس جوقة جميلة من الفتيات التسع المسميات بالميز،

43

ولكل منهن اختصاص من موسيقى أو شعر أو تاريخ ... إلخ.

وأخذت كل تلك الآلهة صفات البشر حتى قال بعضهم إذا كانت بعض الأديان تقول إن الله خلق آدم على صورته. فاليوناني هو الذي خلق آلهته على صورته «صورة الإنسان».

ولما كان كل أدب قديم وليد الدين وصورة له، فقد اتصف الأدب اليوناني بما اتصفت به آلهتهم، فجاء كما قلنا أدبا إنسانيا، أدب انسجام، أدب تشخيص فيه كل ما في أساطيرهم من صفات. (2) شعر الملاحم عند اليونان

44

في القرن التاسع أو العاشر قبل الميلاد، كان شاعر ضرير يتنقل بين المدن اليونانية في آسيا الصغرى ينشد الأناشيد، ويرتل الأساطير التي صيغت في قوالب الشعر وقوافيه، ذلك هو هومر أو «هوميروس» الذي يقال عنه إنه منشئ الإلياذة والأوذيسة.

45

وقد يكون القول صحيحا، وقد يكون اسم «هوميروس» رمزا لطائفة من الشعراء أخذ كل منهم بنصيبه في خلق هاتين الآيتين. وأيا ما كان، فقد كان القدماء يروون هذا الشعر على أنه لشاعر واحد يتنازع شرف مولده كثير من البلدان.

ولسنا ندري من أمر هوميروس في حياته الخاصة شيئا؛ إذ إنه لما أتيح لمؤرخي اليونان ونقادهم في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد أن يتعقبوا أشخاص التاريخ ويقفوا على أصولهم ليرووا صحيح أخبارهم، كان هوميروس بين أيديهم أسطورة يعجزون عن تحقيقها كما هو اليوم أسطورة عند الباحث الحديث، فلم يكن اليونان في عصر أفلاطون وأرسطو يعلمون عن شعرائهم السابقين ما نعلمه نحن عن شعرائنا، لأن شعراءنا قريبو العهد بنا، وإذا تجاوزنا الأولين فقد كانوا يعيشون في عهد الكتابة، وفي خمسة القرون الأخيرة كانوا يعيشون في عصور مطبعة ونشر. أما اليونان في عصر بركليز فلم يكن لهم بالطباعة عهد، وكان عليهم أن يحفظوا أشعار هوميروس عن ظهر قلب. والأرجح أن تلك الأشعار لم تتخذ وضعها وترتيبها كما هي اليوم إلا في القرن السادس قبل الميلاد.

ولم تنشأ ريبة في نسبة هذه الأشعار إلى شاعر معين اسمه هوميروس إلا في أواخر القرن الثامن عشر، وذلك حين أثار هذه المشكلة العالم الألماني، «فردريك ولف»

46

وهي مشكلة لن تجد لها حلا حاسما.

وبعد، فما الإلياذة؟ وما الأوذيسة؟ (2-1) الإلياذة

نشبت بين الآلهة خصومة إذ ألقت إلهة الشقاق «إيريس»

47

بين الأضياف - في حفلة عرس - تفاحة نقشت عليها هذه الكلمات «إلى ربة الجمال.» وكان بين الحضور ثلاث إلهات هن: «جونو»

48

و«فينوس»

49

و«مينرفا»

50

وكل منهن تزعم لنفسها السيادة في دولة الجمال، وترى أن لها الحق في التفاحة؛ فقرر كبير الآلهة «جوبتر»

51

أن يكون «بارس»

52

بن «بريام»

53

ملك طروادة حكما بين الإلهات الثلاث؛ فحكم بارس لفينوس

54

وأعطاها التفاحة؛ فتعرض بذلك لسخط الإلهتين الأخريين.

وحدث بعد ذلك بقليل أن أبحر «بارس» إلى بلاد اليونان ونزل ضيفا على «مينلاوس»

55

ملك إسبرطة، فأكرم الملك ضيافته؛ ولكن الضيف أساء لمضيفه؛ إذ أحب زوجته «هلن»

56

وهي امرأة بارعة الجمال وأغراها أن تفر معه من خدر زوجها إلى بلده طروادة، فثارت لذلك ثائرة «منلاوس» وأهاب بأخدانه ملوك اليونان وأبطالها أن يعاونوه على رد زوجته الهاربة؛ فلبى الدعوة من هؤلاء. يوليسيز،

57

وأخيل،

58

وأجاكس،

59

وديومد،

60

ونسطور،

61

وأجاممنون،

62

أخو منلاوس، وكلهم من الأبطال الفحول، واختير أجاممنون قائدا للجيش اليوناني، وكان على رأس الجيش الطروادي «هكتور» وهو الأبن الأكبر لبريام ملك طروادة وزوج أندروماك.

63

وانقسم الآلهة في القتال معسكرين، كل جماعة تناصر فريقا من المتحاربين. أما «جونو» و«مينرفا» فكانتا بالطبع في جانب اليونان لتنتقما من «باريس» وأهله. وأما «فينوس» و«مارس» - وهو إله الحرب - فكانا في جانب طروادة، ومال «نبتيون» إلى جانب اليونان، ووقف «جوبتر» و«أبولو» على الحياد ولبثت الحرب نحو تسع سنين، ثم حدث خلاف بين أخيل وأجاممنون، ومن هذا الخلاف تبدأ قصة الإلياذة.

يحدثنا الشاعر في السطور الأولى من ملحمته أن الجيش اليوناني الرابض أمام طروادة، قضى عليه الآلهة أن تفتك به الأمراض ، ففشا فيه الطاعون، فلما سئل العراف عن تعليل هذا القضاء، وأجاب بأن «أبولو» قد رماهم بحرابه المسمومة، لأن أجاممنون قد أبى أن يفدي ابنة كاهنه لما وقعت أسيرة في إحدى المدن التي فتحها اليونان فقسموا بينهم نساءها وأسلابها؛ فما إن سمع أجاممنون جواب العراف حتى رد للكاهن ابنته، واستبدل بها «بريسيس» التي كانت نصيب «أخيل» من السبايا؛ فلم يسع أخيل إلا أن يقفل راجعا إلى سفينته. وهو يكاد يتميز من الغيظ، وأعلن أنه لن يحارب في صفوف اليونان بعد، وطلب إلى أمه ثيتس - وهي من عرائس البحر - أن تصب نقمتها هي المستبد الغاصب، ودعا «جوف» أن ينتقم له من قائد اليونان وجنده، فأبى «جوف» أن ينزل باليونانيين شرا لأنهم في حمى زوجته.

وتضرعت «ثيتس» إلى «جوبتر» أن يكون لابنها أخيل عونا على عدوه أجاممنون، فأوحى جوبتر إلى أجاممنون حلما زائفا يزعم له أن طروادة قد آن لها أن تسقط في يديه، فعليه أن يبادر بالهجوم. وانخدع أجاممنون بالحلم، وصف جند اليونان في حومة الوغى استعدادا للقتال، إلا أخيل وأتباعه الذين غادروا المعمعة غاضبين. وتقدم جند طروادة للقاء اليونان، وعندئذ تحدى «منلاوس» عدوه «بارس» أن يبارزه بمفرده، إذ كان هذان الفارسان هما سبب القتال، مذ اختطف الثاني زوجة الأول، وأعلنت الهدنة بين الجيشين حتى تتم المبارزة بين القائدين، فطوح بارس برمحه ولكنه لم ينفذ في درع مقاتله، وتأهب منلاوس واستعان بجوف ثم:

هز رمحه ورماه، فاخترم به درع بارس،

وكانت الضربة قوية فأطاحت بالفارس،

وتمزقت عليه الدروع، لكنه اجتنب أن يذيقه المنون،

فأتبع هذه الطعنة سيفا سله من غمده الفضي،

ورفع السيف ثم هوى به على العدو فوق الناصية؛

فتحطم السيف وانتثرت أجزاؤه من كفه البائسة،

وقال: «انظر! لم يصرعه رمحي وتبدد السيف من يدي،

ونجا من السيف والرمح معا.» قال هذا وكر على العدو مهاجما،

وأمسك بجواده من غرة تدلت فوق الجبين

ليجذبه إلى معسكر الإغريق، وذلك ما فعل؛

وبهذا أضاف إلى النصر مجدا رائعا،

لولا أن قطعت فينوس الرباط ، فنظر الظافر إلى كفه؛

فإذا به لا يمسك من عدوه شاكي السلاح إلا خوذة فارغة؛

فأدار الخوذة حول رأسه وألقى بها بين الأصدقاء،

وتجمع حول الخوذة الصحاب في هرج صائحين،

وجدد الفارس العزم أن يستل من عدوه دماء حياته،

واندفع إليه بعنف يهز الرمح، وإذا بالمليكة التي يعشقها العاشقون.

64

تبدو من جديد لتنجد صاحبها من هذا اللقاء،

وأنجزت ما أرادت في يسر وإسراع.

وإنها لتستطيع ذلك وهي الإلهة القادرة؛

فلفته في سحابة من نضار وغيبته عن العيون.

وفي غرفته استعادت له الطلاقة والنشاط.

وزالت الهدنة المعقودة بين الجيشين حين غدر «بانداروس»؛

65

فطعن «منلاوس» بسهم، وعندئذ التحم الجيشان، وأبلى «ديومد» وهو في صفوف الإغريق بلاء حسنا. ودخل هكتور المعركة، وكانت زوجته «أندروماك» ترقبه فوق سور المدينة:

فأسرعت إلا هكتور ومعها ابنها الوليد تحمله المرضعة

وليد رقيق قلبه ويداه، مشرقة في جلال طلعته

كأنما هو لمحة من سماء رصعت بالنجوم الساطعات

فابتسم من الفرح هكتور، رغم حزن قطع أنفاس الكلام

فصاحت أندروماك باكية، وشبكت يديها في يديه

وصبت حبها طروادة في بكاها، وفي سبيل مجدها قالت:

يا أشرف الرجال مقصدا! كأني بك تلقي بنفسك في اللهيب،

إذ يلهب عقلك حب الخير للآخرين

هلا رحمت وليدا أو زوجة هي بعدك أرملة

وتركت القتال! فإن فعلت فأنت هدف الضاربين

فأجاب: كلا، لن تسطع محنتي إلا في اللهيب؛

ففي شخص هكتور سيبلغ المجد وطني وأبي والأصدقاء،

على أني أحس - بعقلي وروحي - أن سيغشى طروادة يوم عاصف

يوم تدك فيه طروادة أبراجها كأنها دموع المنهزم.

وستغمر تلك الدموع الساقطات بريام بما له من محتد وسلطان

لكن فجيعة أخلاقنا لا تحز في نفسي،

كلا ولا يحز فيها ما يلاقي بريام وهكوبا

66

والأصدقاء من أحزان (فهؤلاء جميعا - على كثرتهم وجودتهم - مصيرهم طعام الأعداء.)

إنما يحز في نفسي أحزانك، يوم يحملك إغريقي وقح ساكبة العبرات. •••

قال هذا ومد يديه لابنه يحمله، والوليد بين ذراعي أبيه خائف فزع

وكانت على رأس هكتور شارة من شعر الجياد

فأومأ لابنه فاهتزت الشارة المخيفة، فأطبق الولد الذراعين وأعول باكيا

وتكلف أبوه العظيم الضحك، وأزاح عن رأسه الخوذة المخيفة جانبا

ولمعت الخوذة فاستضاءت الأرض بضوئها اللامع

ثم أخذ الوليد الحبيب وقبله: زوجتي العزيزة لا تحزنيني

بأحزانك هذي التافهة؛ ليس بين الأحياء من يزهق حياتي

أو يخترم هذا الصدر الثابت. إنما ذاك من فعل القدر

وأين من بجناحيه استطاع النجاة من القدر؟!

ويمتشق هكتور حسامه ويدخل معمعان النزال، فيبارز «أجاكس» مبارزة تنتهي أول الأمر بالتعادل، فيتبادل البطلان كلمات طيبات وهدايا كأنهما الصديقان، وبعدئذ يمتد القتال إلى آلهة الأولمب أنفسهم، إذ يشتركون مع الفريقين في الحرب، وهنا يحذر «زيوس» الآلهة متنبئا بالهزيمة لفريق اليونان، ويعد هكتور عدته للهجوم على أعدائه في الصباح التالي، فيوجس أبطال اليونان خيفة، ويذهب منهم «يوليسيز» و«فينكس» و«أجاكس» إلى أخيل يصلحون ما فسد بينه وبين أجاممنون، ويعدونه أن ترد له فتاته المغتصبة «بريسيس»، وأن يسمح له بزواج إحدى بنات أجاممنون، وأن يعطى فوق ذلك المنح والهدايا، وبينها سبع من أجمل المدن، ولكن أخيل يرفض كل هذا في حديث هو أروع ما بلغته قدرة الشاعر في البلاغة الخطابية.

فأجاب أخيل فخر الإغريق قائلا:

إيه، «أجاكس»، يا رب المعارك، ومن لشعبه هاد وقائد.

قد أجدت الخطاب، لكنك إذ نطقت باسم الطاغية

غضبت واحتدم الغضب، واضطرمت نفسي بين الجوانح،

وإن غضبتي لعادلة جديرة ببطل مغوار

نيل من شرفه، وديست كرامته كأنه عبد ذليل!

عودوا إذن أيها الأبطال واحملوا مني الجواب،

لم يعد القتال العظيم يعنيني حتى تراق من الإغريق الدماء،

وتسيل دفاقة بين سفائن الأسطول الإغريقي الغريق،

فيصطبغ بها البحر القائم حتى يصبح قانيا.

سأظل رابضا حتى تلتهم النار - يلقي بها هكتور في غضبته - سفائنكم، وحتى يدنو لهيبها من سفينتي!

عندئذ ستبلغ هذه المجزرة البشرية الفظيعة غايتها؛

عندئذ ستسكن المعركة؛ إذ يحس العدو ضرب حسامي.

وكانت ليلة مليئة بالأحداث، يتلوها صباح يشهد جند طروادة - وعلى رأسهم هكتور - يهجمون على الإغريق هجمة لا سبيل إلى ردها. وحاول «نبتيون» الإله أن ينقذ الإغريق من الأسر فلم يستطع، لولا حيلة نسجت حبائلها الإلهة «جونو » وجعلت الحب قوامها؛ فالحب والحرب هما في الإلياذة ما يقصد إليه الآلهة والناس.

ذلك أن «باتروكلس»

67 - من أبطال اليونان وصديق «حميم» لأخيل - رأى موجة الدمار تنصب على جند الإغريق كاسحة طاغية، فأسرع إلى أخيل يستأذنه في أن يساهم في القتال، وطلب إليه أن يعيره عدته وشكته يقاتل بها إذا لم يكن في عزمه هو أن ينهض للدفاع عن بني وطنه؛ فأذن له أخيل بما أراد، وأعطاه درعه، وظل في سفينته غاضبا.

حمل «باتروكلس» درع أخيل وعدته - ما عدا الرمح الذي لا يستطيع القتال به غير سيده وصاحبه أخيل - ونزل المعمعة «باتروكلس» وصحبه من أتباع أخيل. ... أرأيت في وعر الجبال عرين الذئاب

في قلوبها بأس شديد، تعهدته حتى تجاوزت به الحدود!

أرأيتها عائدة بعد أن نهشت وعلا وفي أنيابها بقية من دماء؛

وجاءت إلى ينبوع ماء كدر وازدحم قطيعها،

وأخذت بألسنة رقاق مدلاة تلعق الماء

فلما كرعت صفوة الماء، راحت تتجشأ من رئاتها

منجمد الدماء، تنفث من نظراتها الرعب وهي لا تعرف الرعب.

قد ملأت معداتها في نهم حتى أتخمت؟!

لو رأيت هذي الذئاب، فقد رأيت رجال أخيل العظيم قوة ومظهرا

حين دعاهم الداعي لهذا القتال المخيف ...

نزل «باتروكلس» المعمعة متشحا بدرع أخيل. فلما رآه الطرواديون ظنوه أخيل وفروا هاربين، لكن «أبولو»، الذي كان هواه مع الطرواديين منذ استبى قائد الإغريق ابنة كاهنه، نزع عن باتروكلس عدته ليكشف للطرواديين عن حقيقته، فهجم عليه طروادي من الخلف فأسقطه، وأسرع إليه هكتور وأرداه قتيلا؛ وهنا هب من أبطال الإغريق «أجاكس» و«منلاوس» ينقذان جثة البطل الصريع، وفر هكتور، بعد أن انتزع من باتروكلس عدته، وها هنا نقطة التحول في حوادث هذه المأساة الكبرى التي أثارت آلهة السماء وأهل الأرض على السواء. فلما جاء النبأ إلى أخيل بموت صديقه الحميم، غضب غضبة جبارة ارتفعت بها الملحمة إلى أسمى مراتب الشعور؛ فلم تكن غضبة أخيل الأولى - من أجل فتاة أسيرة - جديرة بمأساة عظيمة كالإلياذة، لكنها هذه الغضبة الثانية هي الخليقة بالبطولة.

فهذا هو أخيل يثور كالليث الهائج، غاضبا حزينا على موت أعز أصدقائه «باتروكلس»، ويحز في نفسه ويلطخ صفحة شرفه أن تؤخذ دروعه، فذلك عار لا يحتمله محارب حر كريم. وسمعت أمه ثيتس أنينه وشكواه، فجاءت إليه مسرعة من جوف البحر - فهي من عرائس البحر - تنذره ألا ينازل الأعداء حتى تذهب إلى «فلكان»

68

إله النار وتطلب أن يعد لابنها درعا جديدة، لكنه لم يستمع لنصح أمه، واستجاب لدعوة الإلهة «إيريس» فنهض من فوره إلى حومة الوغى.

ودنا من سور المدينة، وأرسل الصوت داويا

وردد الصوت الصدى، فرن الدوي قويا عاليا

وسمع الصوت الداوي فدب الرعب في النفوس دبيبا

فأنصتوا، وصاح البطل ثلاثا

وثلاثا في حومة القتال ارتد أهل طروادة راجعين.

وفي هذه الأثناء كانت «ثيتس» قد قصدت إلى «فلكان» وطلبت إليه أن يصنع للبطل درعا جديدة يصفها هوميروس في مقطوعة هي من أجمل ما جاء في الإلياذة. ولم تكد ثيتس تتسلم الدرع الجديدة من صانعها، حتى هبطت بها من قمة الأولمب واثبة كأنها البازي يندفع وراء فريسته.

ويتم الصلح بين أخيل وأجاممنون، ويدرع أخيل بدرعه الجديدة، ويهبط إلى ساحة القتال، يضرب بسيفه هنا وهناك، فيقتل عددا من أبطال طروادة، ولكنه لا يبغي سوى هكتور ليورده الحتف جزاء ما قتل صديقه الحميم، وذلك هو هكتور يأبى أن يحتمي بأسوار المدينة مع سائر الطرواديين الهاربين، ويظل واقفا في مكان كأنما جاءت به إليه أيدي القدر، وهذا أبوه الكهل «بريام» يجلس على سور المدينة، فيرى أخيل مندفعا إلى ابنه كأنه رسول القضاء، فيصيح بريام الوالد وهكوبا الوالدة بابنهما هكتور أن يتوارى من عدوه داخل الأسوار.

هنالك أمه اندفعت، وبالعبرات عينها هطلت،

تعال! تعال، فالأسوار في وجه العدى امتنعت،

إليها لذ، وبها تحصن، وقاتل ذلك العاتي،

ولا تلاق العدو وحيدا!

ولكن هكتور يعير والديه أذنا صماء، ويعتدل للقاء عدوه؛ انظر إلى أخيل يقترب منه كأنه الأفعى الجبلية في عرينها، سار السم في بدنها، واحتدمت بالغضب.

فارتج هكتور في وقفته، ثم فر وجلا

يريد النجاة من يد تلقي في النفوس الفزع،

وانقض أخيل كأنه الصقر، في سرعة يشق الهواء،

يطارد حمامة جزعت، لكنه ماض في طراده العنيف،

وتسرع الورقاء، ويتبع الصقر في رفيف مخيف،

ويدور يمنة ويسرة مع الورقاء حيث تدور.

هكذا كانت الحال حين انقض أخيل على عدوه بدرعه اللامعة، فأدرك هكتور في انقضاضه معنى الموت، وعمد إلى الفرار فزعا، فتابعه أخيل حول أسوار المدينة كأنه البازي يلاحق حمامة، لينشب فيها أظفاره الشداد، ودارا حول الأسوار ثلاث مرات، وكان أرباب الأولمب عندئذ يرقبون، فقال «جوف»: «أننقذ هكتور أم ندعه لأخيل يعمل فيه السيف»؟ فاحتجت الإلهة «مينرفا» أن ينقذ الآلهة من أراد به القدر هذا القضاء منذ زمن طويل، قالت ذلك «مينرفا» ثم نزلت إلى ساحة القتال متنكرة في هيئة «ديفوبس»

69

أخي هكتور، لتوقع بهكتور وتنصب له الحبائل؛ زعمت له أنها أخوه جاء يعينه على عدوه، فدبت في هكتور الشجاعة من جديد، ووقف يتحدى أخيل أن ينازله، ولكنه طلب إليه قبل النزال أن يتعاهدا - كما يتعاهد الأبطال - أن من يسقط منهما في القتال صريعا فله على صاحبه أن يسلم جثمانه إلى أصدقائه ليقيموا له ما يليق به من شعائر الموت، فرفض أخيل رفضا حاسما، فلا تعاهد اليوم بينه وبينه؛ وهل يكون تعاهد بين رجال وأسود، أو بين ذئاب وخراف؟

ويقذف أخيل برمحه، فهبط هكتور جاثيا، ويمر الرمح فوق رأسه فلا يصيبه فتتسلل منيرفا خفية وتعيد الرمح إلى أخيل، ليعيد البطل العظيم ضربته، ويقذف هكتور هذه المرة برمحه، ولكنه لا يصيب الهدف، فينادي بأخيه «ديفوبس» أن يناوله رمحا جديدا؛ ولكن أين «ديفوبس»؟ إنه ليس هناك، وهنا تشرق الحقيقة لهكتور أن «منيرفا» قد حبكت هذه الخيانة فخدعته، ويدرك أن قضاءه محتوم، ولكنه يستل حسامه ويهاجم عدوه لعله يأتي عملا من البطولة قبل أن يلفظ الروح، غير أن أخيل يضرب عنقه بالرمح ضربة تقضي عليه، ويسقط المهزوم، ويضرع إلى قاتله ألا يدع جثمانه طعاما تنهشه الكلاب التي يطلقها الإغريق من سفائنهم، ولكن أخيل يجيبه - ولا يزال الغضب في وجهه باديا - «وددت لو أطاعني قلبي، إذن لمزقتك إربا إربا، وطعمت بلحمك الآن، جزاء ما جرعتني من غصص وأورثتني من كروب.»

وقضى هكتور نحبه، فأنزل به أخيل شر ما ينزل عدو بعدوه؛ فقد ثقب قدميه وشد وثاقهما إلى عربته برباط من الجلد، ودفع الجياد دفعا سريعا، وجثة عدوه برأسها تتمرغ في التراب، حتى بلغ به معسكر الإغريق.

وشهد «بريام» الوالد و«هكوبا» الوالدة مصرع ابنهما هكتور، وهما جالسان على قمة السور يرقبان. أما زوجته «أندروماك» فلم تكن تعلم أن زوجها بقي خارج الأسوار طريدا لأخيل، حتى سمعت ضجيج الأصوات يملأ الفضاء!

فصعدت إلى برجها، صعقت، سقط الغزل من يدها، اضطرب فؤادها، نادت خدمها، إنها تريد أن تعلم ما وراء تلك الصيحة المشئومة؟ صاحت «تعالوا».

ومضت ثائرة، وتبعتها خادمتان - كما أرادت - أعانتاها على الصعود إلى قمة البرج ... وأدارت بصرها الملهوف نحو الجمع المحتشد.

فرأت هكتورها قتيلا مشدودا إلى عربة أخيل.

يجذبه - في غير إكرام - إلى حيث سفائن الإغريق.

فغشيتها الغاشية كأنها الليل البهيم، وخار قدماها، وسقطت في غير وعي ...

وحزنت طروادة على بطلها الصريع حزنا شديدا. أما أخيل فقد أقام شعائر الجنازة لصديقه «باتروكلس»، وأقيمت لتكريمه الألعاب؛ حتى جاءت إليه أمه «ثيتس» مبعوثة من الآلهة تأمره أن يمنع سخطه على هكتور، فقد كفاه ما صنع، وأن يجيز للطرواديين أن يستردوا جثة فتاهم مقابل فدية للظافر. وذهبت الإلهة «إيريس» إلى «بريام» الوالد المحزون تعرض أن يدفع فدية لأخيل يفتدي بها جثمان ولده هكتور؛ وما عتم الشيخ المكروب أن حمل أثمن الهدايا، وقصد إلى أخيل في خيمته، وجثا على ركبتيه أمام البطل مستعطفا مسترحما: «ارحم شيخا عجوزا مثل أبيك، وإن كنا في هذا مختلفين:

أنا البائس الذي يرزح تحت عبء الشقاء،

بما لم يرزح تحته رجل من قبل، وشفتاي التعستان

عليهما أن يلثما يدا قتلت بني!» قال هذا

وانحنى برأسه على قدمي أخيل.

70

فاهتز قلب أخيل رحمة بالشيخ، وطاعة للرسالة التي حملتها إليه أمه ثيتس من عند الآلهة، فقبل الفدية وأذن لبريام أن يحمل جثمان هكتور، ومنحه اثني عشر يوما يقف فيها القتال؛ ليتمكن الوالد الحزين من إقامة شعائر الجنازة على فقيده الكريم، وإنه بها لجدير.

ووضع الجثمان فوق النار حتى احترق، ثم جمع رماده في وعاء من ذهب دفن في القبر. •••

ولم ير الإغريق في الأجيال التالية فيما صنعه أخيل بجثة عدوه هكتور موضعا للتمجيد، لأنهم يمقتون التمثيل بأجساد الموتى، ولم يغفروا قط لأخيل هذه الغضبة الشنعاء وما انتهت إليه؛ ولذا لا تجد أحدا من كتاب المأساة من بعده يتخذ من أخيل بطلا لمأساته، مع أن حياته أصلح ما تكون لأبطال المآسي. وتنتهي الإلياذة بجنازة هكتور. أما طروادة فقد قوض الإغريق بنيانها، ولم يذكر الشاعر في الإلياذة شيئا عن موت أخيل وبارس، ولكنهما قتلا أثناء الحصار. (2-2) الأوذيسية

سقطت طروادة في أيدي الإغريق، واستعاد «منلاوس» زوجته «هلن» وعاد بها إلى إسبرطة، كما عاد سائر أبطال الإغريق إلى أوطانهم، إلا «يوليسيز» الذي لبثت زوجته «بنلوب»

71

وابنه «تلماكس»

72

يرقبان عودته إلى وطنه «إثاكا».

73

لم يعد يوليسيز مع من عاد لأنه خاطر وغامر، والأوذيسية هي قصة هذه المغامرات والمخاطرات. ومن الممكن تقسيمها إلى ستة أجزاء كل جزء يشتمل على أربع أغان؛ أما الجزء الأول فيدور حول ما لقيه «تلماكس» من عنت مع الذين جاءوا يخطبون أمه «بنلوب» ليظفروا بها وبمالها، وفي هذا الجزء وصف لرحلة تلماكس إلى «بيلوس»

74

وإلى أسبرطة يتسقط الأنباء عن أبيه المفقود. ومضت عشر سنوات بعد سقوط طروادة، ولم تأت الأنباء بجديد عن يوليسيز وما عسى أن يكون قد أصابه من شر أو خير.

كان يوليسيز في عودته مع جماعة من أتباعه، وبينا هم في طريق العودة إلى «إثاكا» زل رجاله زلة فادحة وذبحوا ثيرة يملكها أحد الأرباب، فأودوا بحياتهم إلى التهلكة، وبقي يوليسيز وحيدا، فقذفه البحر إلى جزيرة منعزلة كانت مسكنا لإحدى عرائس البحر، وهي «كالبسو»،

75

وأعجبت كالبسو بيوليسيز وأحبته وأرادت أن تتزوج منه؛ فأخذت تغريه بالزواج وبنسيان زوجته، ولم تشك لحظة في أن الرجل لا يمانع أن يستبدل بزوجة فانية زوجة من عرائس البحر الخالدة، لكن خاب رجاؤها ورفض يوليسيز زواجها، فأمسكته على جزيرتها زمانا طويلا لعله يقلع عن عناده فلم يفعل؛ فاجتمع الآلهة على الأولمب ودبروا عودة يوليسيز إلى وطنه؛ عودة الرجل الذي:

جاب قصي البلاد،

بعد أن أتى على طروادة المقدسة وقوض أركانها،

وطوف حول عالم تباينت فيه الشعوب

فكم رأي وكم عرف من عادات وأفكار وأنماط،

وكم لاقى في لجة البحر من أحزان،

لشد ما كافح المهالك لينجو

بنفسه وبصحبه في الطريق إلى الوطن،

لكن حطمت صحبه الأقدار، ولم يستطع لها دفعا.

اجتمع الآلهة ودبروا أن يعود يوليسيز إلى وطنه، وبعثوا بالإله «هرمس» - رسول الآلهة - ينبئ كالبسو بهذا القرار. وفي الوقت نفسه بدت منيرفا متنكرة أمام تلماكس، وأشارت عليه أن يستطلع أخبار أبيه من صديقي أبيه: نسطور ومنلاوس.

فأرسل تلماكس في اليوم التالي منادين بجوسون خلال المدينة ليطلبوا إلى الناس أن يعقدوا جمعا يسمعون فيه شكاة تلماكس من خاطبي أمه الذين أحرجوه غاية الحرج، وأرسلت بنلوب إلى هؤلاء الخاطبين تماطلهم وتخادعهم، ولبثت أربعة أعوام تزعم لهم أنها تغزل رداء لأبي زوجها، وظلت تغزل في النهار وتنقض في الليل غزلها.

وتنكرت منيرفا في هيئة جديدة، وهيأت لتلماكس سفينة أقلع بها إلى «بيلوس» ليلتقي بصديق أبيه «نسطور» عسى أن يعلم منه شيئا عن أبيه؛ فعلم منه نبأ الفتك بأجاممنون - وهو أخو نسطور - لكنه لم يسمع شيئا عن غيبة أبيه. ونصح «نسطور» «تلماكس» أن يقصد إلى منلاوس في أسبرطة لعله يعلم عن أبيه شيئا، وذهب الفتى إلى أسبرطة، وهناك التقى ب «هلن» فعرفته وذكرته، وأخذ أصدقاؤه يبكون أياما جميلة مضت، ثم أخذ منلاوس يقص على السامعين كيف جيء بالحصان الخشبي في طروادة يحمل في جوفه أبطال الإغريق، وكيف أخذت هلن تدور حوله وتقرعه بكفها وتنادي أبطال اليونان واحدا فواحدا، وتقلد لكل واحد منهم صوت زوجته حتى تستفزه للجواب، وكانت في تقليد الأصوات بارعة حتى كاد الأبطال المختبئون في جوف الحصان يلبون النداء، لولا أن رأوا في زميلهم يوليسيز رباطة جأش كانت لهم جميعا شكيمة رادعة. ثم أنبأ «منلاوس» «تلماكس» أنه شهد أباه في الجزيرة المنعزلة التي تسكنها عروس البحر «كالبسو».

لقد شهدت ابن ليرتيز

76

في قصر عروس البحر كالبسو،

وقد أرغمته على البقاء في صحبتها،

فما انفك نادبا أن حرمت عيناه أرض الوطن.

إلى هنا ينتهي الجزء الأول من الأوذيسية. وأما الجزءان الثاني والثالث فيقصان مغامراته وهو في طريقه إلى أرض الوطن؛ ذلك أن «كالبسو» حين جاءها رسول من الآلهة ينبئها أن الأرباب اجتمعوا على الأولمب وقرروا أن يرحل يوليسيز إلى بلده، أباحت لمعشوقها السجين أن يغادر أرضها، ولو أنها عجبت من أمر هذا الرجل الذي آثر زوجته عليها وهي فتانة بارعة الجمال. هذا مع خطر الرحلة إلى زوجته في بحر عاصف؛ لكنها أعدت له سفينة وأقلع يوليسيز. وبينا هو يشق العباب نحو الأهل والوطن، إذا بنبتون إله البحر يلمحه من بعيد - وكان نبتون كارها ليوليسيز لأنه قتل ابنه «سيكلوب»

77 - وأخذ نبتون يتربص بيوليسيز الدوائر ويدبر له المكائد حتى لا يعود إلى وطنه، لكنه ارتحل إلى أرض أثيوبيا لبعض شأنه، فانتهز سائر الآلهة فرصة غيابه وأذنوا ليوليسيز بالسفر. أدرك نبتون كل هذا حين رأى عدوه الممقوت يسبح على الموج بسفينته، فنفخ في البحر عاصفة عاتية، فارتجت سفينة يوليسيز وهوى إلى اليم. لكن «إينو» تنكرت في هيئة طائر بحري وأعارته قناعا مسحورا يعينه على السباحة آمنا إلى البر. ورسا يوليسيز في أرض فيقيا،

78

ولم يكد يجد له مأوى حتى رقد منهوكا وغط في النوم، وعندئذ طارت «منيرفا» إلى «نوسكا»

79

ابنة ملك الإقليم الذي رسا بأرضه يوليسيز وبدت لها في الحلم:

وسرعان ما أشرق الصباح الجميل

فنهضت معه «نوسكا» ذات القناع الساحر

وفي نفسها ما رأته في حلمها من ثناء ملأها إعجابا

وذهبت مع وصيفاتها إلى النهر يغسلن بعض الثياب، فلما فرغن من غسلها:

غسلن أجسادهن، وبالدهن المتلألئ

دلكن بيض جلودهن، ثم انتعشن بعد عناء الكدح

بشهي الطعام. وأخذت نوسكا

تمرح لاعبة مع سائر العذارى ...

وصاح الكل صياحا عاليا،

فاستيقظ مع الصياح يوليسيز الرزين،

وأسرع فأطل من خلف الغصون كي يرى؛

فذاك صوت حسان ما سمع بمثله،

فوقعت أنظار العذارى ناعمات الشعر على منظره. ... فما أبشعه منظرا كان مظهره،

قد أذواه الطريق الصعب على متن العباب،

ففزعن لمنظره، وانتثر العذارى هاربات.

فررن جميعا إلا نوسكا، وقفت في مكانها لا تريم.

فقد بثت منيرفا الجرأة في صدر الفتاة،

فاحتبست رعدة خوفها في جوارحها،

وظلت واقفة تحدج فيه كأنما صممت

أن تدري من هذا الرجل ومن أين جاء، فقال:

نشدتك الله، أي مليكتي، أن تحدثيني؛

أبشر أنت أم من سلالة الأرباب؟

فإن كنت من آلهة السماء، فما أجد لك بين الآلهة

شبيها سوى «سنثيا»

80

ولدتك من جوف.

وإن كنت وليدة بشر على سطح الأرض،

فأنعم ثلاثا بوالدين أخرجاك إلى الحياة!

وأكبر النعمى لمن يكون خطيبا لك،

فيخضع هذا العنق المتلالئ لنير الزواج.

ثم طلب إليها يوليسيز أن تنعم عليه ببعض الثياب، لأنه خرج من البحر عاريا، وأن تهديه إلى طريق المدينة. فنادت نوسكا وصيفاتها فأحضرن له طعاما وثيابا، وابتعدن قليلا حتى يغسل جسده ويرتدي ثيابه. وبينما هو جالس وحده:

أخذت عينا نوسكا تهز بالفتنة قلبها.

فما رأت منه حتى الساعة إلا نزرا قليلا،

لكنه قليل شف عن جلال كأنه جلال الآلهة.

وخشيت نوسكا أن تلوكها الألسنة، فأمرت الرجل أن يتبع وصيفاتها إلى قصر أبيها؛ فحل يوليسيز في قصر الملك محل إكرام، ولقيه أهل فيقيا أجمل اللقاء، وأقاموا له الألعاب، وأعدوا له مأدبة كبرى، ومنحوه الهدايا ليدخلوا إلى قلبه المرح فيقبل على عشائه بنفس راضية. وبينما هم جالسون إلى مائدة العشاء أخذ المغني ينشدهم ما أصاب طروادة من دمار، ويصف بغنائه هجمة الإغريق على طروادة من الحصان الخشبي، فكان لذلك أعمق الأثر في نفس يوليسيز حتى سالت عبراته على وجهه، لكن أحدا لم يلحظ ذلك الدمع المسفوح سوى الملك. فنهض الملك من فوره يخطب الناس ويطلب إلى الضيف أن يبوح لهم باسمه؛ فأعلن يوليسيز عن نفسه وعن وطنه وما لقيه من مخاطرات ومغامرات منذ غادر طروادة قاصدا بلده، فقال إنهم بعد تجوال كثير جاءوا إلى جزيرة «سيكلوب»،

81

ونزل يوليسيز مع اثني عشر رجلا من أتباعه في كهف سيكلوب، فلما جاءهم العملاق ووجدهم في كهفه خاطبهم قائلا:

من أنتم أيها الأضياف، ومن أين جئتم تذرعون البحار؟

أللتجارة جئتم، أم تجوبون الأرض، لتسطوا كاللصوص

على الرحالة الغرباء المساكين، فتعرضون بهذا السطو

أرواحكم للخطر، وحياتكم للهم والأحزان؟ «أنت يا أعظم الأحياء، نحن - بحق الآلهة -

لرحمتك ضارعون!» فأجاب: «أيها الحمقى،

أجئتم هذا السفر البعيد لتثقلوا علي

بأيمانكم وحبكم المصطنع!

نحن - معشر السيكلوب - لا نبالي بإلهكم جوف،

ولا بغيره من الأرباب، فنحن عنهم بمنأى هادئون.

بل إني لا أبالي أن أتحدى جوف إلى نزال.»

ثم التهم «سيكلوب» اثنين من رجالي ونام، ولم أستطع أن أقتله وهو نائم لأنه قد سد مدخل الكهف بصخرة ضخمة لا قبل لنا بحملها، فلو قتلنا هذا العملاق لظللنا سجناء في الكهف حتى يدركنا الموت. ولما جاء الصباح أخرج «سيكلوب» قطيع غنمه من الكهف وراح يرعاها بعد أن أحكم إغلاق الكهف بتلك الصخرة الكبرى، وقبل أن يغادر الكهف مع غنمه التهم اثنين آخرين من رجالي؛ وفي غيبته أعددنا قضيبا نفقأ به عينه الواحدة إذا عاد، وعاد مع المساء يسوق قطيعه ودخل الكهف وأغلقه.

واختطف اثنين آخرين من جندي.

وذهب يعد طعام العشاء.

فجمعت قوتي وخاطبته بهذه الكلمات.

وقدمت له - وأنا أحدثه - كأسا من نبيذ: «خذ هذا الكأس يا سيكلوب.» فشربه وقال: «ما اسمك كي أجازيك خير الجزاء؛ فهذا

الخمر الشهي لعله انساب مع النهر، إنه صنع الآلهة ...» «اسمي يا سيكلوب، لا أحد.» فأجاب في عنف: «لا أحد! سآكلك بعد صحبك جميعا. ونام.»

فأخذنا القضيب وقد أرهفنا حده، وغيينا السنان في عينه.

فانتفض يزأر بصوت كأنه الرعد.

واجتمعت عشيرة السيكلوب تسأل من اقترف الإثم، فقال لهم: «قد فتك بي (لا أحد) بخدعته لا بقوته.»

فأجابوه: «إنك لم يفتك بك أحد إلا نفسك؛

فالذي أنزل بك الأذى هو جوف الإله.»

فزمجر في كهفه جيئة وذهابا، وتحسس

حتى بلغ الصخرة فأزاحها، وجلس عند الباب

يتحسس الأغنام عند خروجها كي لا يفلت

من أسراه إنسان.

لكنا رصصنا الأغنام ثلاثا ثلاثا وربطنا أنفسنا في أسفل بطونها، وخرجنا بها مسرعين حتى بلغنا السفينة، فما إن احتوتنا حتى صحت قائلا: «أيها السيكلوب! إن سألك سائل؛

من فقأ عينك فأعماها،

فقل إنه يوليسيز بن ليرتيز الشيخ،

وطنه إثاكا، وهو من بات يدعى

باسم مخرب المدن.»

فلما سمع السيكلوب هذا صاح بصوت داو

حتى هز الهواء من حوله بأصدائه،

واحتدم غضبه فأمسك بصخرة

وألقى بها نحو السفين ...

هكذا نجونا، لكن سيكلوب أثار علينا سخط أبيه نبتيون إله البحر، فهيج البحر ونفخ فيه العاصفة، وبعد لأي بلغنا مغارة رب الريح، وبعدها وصلنا أرض العمالقة، وهنالك لم تفلت من الهلاك إلا سفينة واحدة من سفننا، ثم أدركنا جزيرة تسيطر عليها «سيرس»،

82

فأرسلت جماعة من زملائي يجوبون الجزيرة:

فأبصر الزملاء في وهد دار «سيرس»،

وأمام بابها جثمت ذئاب وأسود

استأنستها «سيرس» بما تملك من عقاقير؛

فلا ذئب منها ولا أسد عاد مستوحشا،

ورفعت أذنابها الطوال الضخام تهزها،

كما تبصبص الكلاب الأليفة بأذيالها،

فدهش أصحابي وظلوا عند الباب واقفين،

وسمعوا داخل الدار صوت الإلهة رنينا ملائكيا؛

إذ كانت تغني وهي تغزل غزلها غناء رقيقا جميلا.

ودعتهم الإلهة أن يدخلوا، فلبوا إلا رئيسهم إذ ظل يرقبهم خارج الدار، فرآها تطعمهم شهي الطعام، ثم مستهم بعصاها السحرية فإذا هم خنازير! فلما جاء رئيسهم ينبئني بذلك قصدت إلى دارها مسرعا، ولقيني في الطريق رسول من الآلهة وأعطاني عشبا يقيني سحرها، ودخلت الدار فأطعمتني «سيرس» ومستني بعصاها:

فسللت حسامي وهاجمتها لأفتك بها

كما دبرت، لكنها صاحت وثنت ركبتيها

تحت سيفي، واحتضنت بذراعيها ركبتي،

وقالت وعيناها تسفح الدمع الغزيرة: «من أنت

ومن أي أسلاف أمجاد هبطت؟ لا بد أن

تكون يوليسيز صاحب الهمة الشماء!» فأجبتها: «أنا من ذكرت يا سيرس؛ هيا انزعي

أغلال السحر التي تغل أصحابي،

وردي كرام أصدقائي أناسا كما كانوا.»

ففعلت كما أمرتها، وأكرمت بعدئذ ضيافتنا، حتى طاب لنا المقام فمكثنا معها عاما كاملا، ولم نغادر ذلك المكان حتى زرت العالم الأسفل حيث التقيت بكثير من أعلام الرجال الذين ماتوا. وودعنا سيرس بعد أن حذرتنا مما عساه أن يصادفنا في الطريق من صعاب ومخاوف، وظللنا نقع في الخطر بعد الخطر حتى بلغنا جزيرة يأكل من عشبها ثيران الشمس، فهم أصحابي أن يذبحوها، وحقت عليهم كلمة ربها وأهلكوا، ونجوت وحدي ورسوت في جزيرة كالبسو. •••

ولما فرغ يوليسيز من قصته، أرسله ملك «فيقيا» إلى وطنه «إثاكا» بكل ما معه من هدايا في سفينة أعدها له. وها هنا نعود مع يوليسيز إلى هذا العالم الأرضي، بعد أن حلق بنا وهو يقص مغامراته في عالم الآلهة والأرواح، وكان لا بد له حين وصل إلى «إثاكا» أن يدخل بحذر شديد خشية أن يقتله خاطبو زوجته غيرة وانتقاما. ويصل يوليسيز إلى داره فلا يعرفه بادئ الأمر إلا كلبه، لكن كلبه الوفي لا يلاحقه أو يداعبه، لأنه لم يكد يعرف سيده حتى يقضي نحبه. ثم يدخل يوليسيز داره في هيئة سائل مسكين، فيقابله الخدم وخاطبو زوجته في زراية وعنف. وهكذا تشاء سخرية المقادير أن يقاتله في داره قوم لا شأن لهم بها، وما دروا أنه مرسل من القدر لينتقم.

ولما حانت ساعة الحساب، نشبت بين يوليسيز وأعدائه معركة هي أقرب إلى المذبحة منها إلى المبارزة والقتال، وأنزل يوليسيز وابنة تلماكس بالخدم الذين خانوا عهد سيدهم ضروبا من الانتقام المر، نفرت منها نفوس اليونان فيما بعد.

وأخيرا يلتقي يوليسيز بزوجته الوفية، فيضمها بين ذراعيه، وتبذل «منيرفا» وسعها لتطيل ليل اللقاء بعد أن قضى الزوجان ما قضياه من أعوام طويلة مليئة بالأحزان والصعاب. •••

ولعل الأوذيسية أن تكون بين آيات الأدب العالمي أشدها تحريكا للمشاعر والعواطف، وهي في موضوعها أقوى وأجمل من أختها الإلياذة، فهذه سلسلة من دسائس ومعارك بين الآلهة فيها كثير من التكرار المملول.

وأما سيرة يوليسيز فتعبير جميل عن دوافع الحياة البشرية ونوازعها، وهي تمس في قلب الإنسان شعوره الفطري، وتستثير منه مصادر الحيوية والنشاط.

أضف إلى ذلك أن يوليسيز في حلبة البطولة أفحل من أخيل، وانتصار يوليسيز يبعث في نفس القارئ طمأنينة لا تشوبها شائبة من قلق؛ لأن نصره نتيجة صبره وذكائه، وهو نصر أسمى منزلة من فوز يظفر به أخيل بجسمه القوي وعضلاته المفتولة. وفي أعمال يوليسيز ومغامراته تنوع سريع يستولي على قلب القارئ؛ فهو إنسان فيه الإنسانية بمعناها الصحيح، أو إن شئت فقل إنه إنسان أعلى.

فلا عجب أن يخلد شخصه بين أعلام الشخوص الأدبية في آداب العالم جميعا. وقد استوقفت شخصية يوليسير أقلام الشعراء فصوروها؛ فهذا «فرجيل»

83

يصوره ماهرا ماكرا، وهذا «دانتي»

84

في «الجحيم» يصف موت يوليسيز في بضعة سطور فيبلغ في جمال التصوير والتعبير حدا كبيرا؛ وتناوله بالوصف الشاعر الإنجليزي «تنسن»

85

فأبدع وأجاد. وقد أصاب الأوذيسية من التوفيق عند قراء الإنجليزية ما أصاب الإلياذة، فترجمها «تشابمان»

86

ثم ترجمها «بوب»

87

كما ترجما الإلياذة. •••

وبعد، فهذه خلاصة ضئيلة للإلياذة والأوذيسية، فإن أردت أن تستمتع بجمالها - حقا - فليس لذلك من سبيل سوى قراءتهما في أصولها أو في تراجمهما الوافية الدقيقة.

وقد نالتا إعجاب الأدباء في كل العصور، وترجمتا إلى أكثر اللغات، وترجمت الألياذة إلى العربية، ولكنها فقدت كثيرا من جمالها.

ويرجع ما لهوميروس وملحمتيه من شهرة أدبية خالدة إلى ما فيهما من البساطة، والقوة في الأسلوب، والصدق، والجمال.

فهوميروس في عرضه للأحداث يؤثر ببساطته وإيجازه، فلا تكلف، ولا إطناب، ولا تعقيد، وإنما هي بساطة كبساطة الطفل.

انظر إليه في موقف هكتور وأندروماك وطفلهما الرضيع؛ فالولد يبكي من منظر والده، والوالد يضحك من بكائه، ثم يخلع خوذته ويقبله ويقول: «يا إلهي زيوس ويا جميع الآلهة، أدعوكم أن يبلغ ابني بين أهل طروادة ما بلغته من العظمة والقوة والشجاعة، وأن يكون ملكا كبيرا لطروادة.»

والزوجة تبكي مشفقة على زوجها، وهو يردها قائلا: إن القضاء المحتوم لا ينجو منه أحد. والزوجة تعود إلى بيتها حزينة، فيثير منظرها في وصيفاتها الأشجان؛ إذ توقعن ألا يعود سالما من الحرب.

كل هذه عواطف إنسانية تحدث في كل عصر ولكل الناس ، عرضت في سهولة وبساطة. والطريقة التي عولج بها الموضوع بسيطة، والاهتمام كله موجه إلى النقط الأساسية للمأساة.

وبجانب البساطة، كان الفن في تصوير الأشخاص والأحداث، كخلق أخيل، وموت هكتور، وموقف أبيه.

كذلك مما امتاز به شعر هوميروس صدقه، ولسنا نعني بالصدق مطابقة الخبر للواقع، وإنما نعني به إجادة الفنان في التعبير عن شعوره؛ فهوميروس ليس آلة صماء، ولكنه يشعر كل الشعور بما يقصه، ويسبغ شعوره على ما يحكيه، كما ترى في موقف أبي هكتور من أخيل.

كذلك امتاز هوميروس في ملحمتيه بأنه - فيما يحكي - لا يتحيز، فالقارئ يعطف مثلا على هكتور أكثر مما يعطف على أخيل، ولكن هوميروس يقف متجردا يبتعد عن هذا النزاع كل البعد، وكان عمله الوحيد أن يسجل لكل منهما ما له وما عليه من غير أن يحكم، وفي صراحة تامة.

إلى ذلك ما يراه قارئو الإلياذة والأوذيسية في أصولهما من جمال فني رائع هو جمال البساطة والجمال الفطري الطبيعي.

كل هذا جعل للإلياذة والأوذيسية هذه القيمة الكبيرة التي لا تزال لهما إلى اليوم.

ومن شعراء اليونان «هزيود»

88

مؤلف «الأعمال والأيام» وهي قصيدة تهذيبية لم يبق منها سوى ثمانمائة بيت من الشعر، وله أيضا «نسب الآلهة»، وهي قصيدة قوامها ألف بيت من الشعر، تدور حول أساطير اليونان. وأما سائر الشعر الذي ينسب إلى «هزيود» فقد بددته الأيام. وليس يتردد ناقد في يومنا هذا أن يحكم على شعر هزيود بقلة الشأن إذا قيس إلى عظمة هوميروس، مع أن اليونان أنفسهم لبثوا قرونا طويلة يضعونه مع هوميروس في منزلة واحدة من السمو والنبوغ، واتخذه الشاعر اللاتيني العظيم «فرجيل» أستاذا احتذاه في قصائده «الريفيات» التي تشبه «الأعمال والأيام» بما ورد في الكتابين من وصف لحياة الريف وأعمال الريف في فصول السنة المختلفة. (3) الشعر الغنائي عند اليونان

منذ أقدم العصور كان ببلاد اليونان قصص شعبي كما كان بها غناء شعبي، ونحن لا نستطيع أن ندعي أسبقية أحدها في الظهور إلا أن يكون ذلك على سبيل الفروض التي لا تستند إلا إلى الحقائق النفسية العامة. وهنا قد نستطيع أن نجازف فنقول بأسبقية الغناء لتأصله في طبائع البشر، ثم لأن القصص لا ينشأ إلا بتراخي الزمن، وبعد اجتماع أحداث تعود الشعوب أو القبائل إلى ذكرها.

ذلك إذا نظرنا إلى هذين النوعين كأدب شعبي، وأما إذا نظرنا إليهما كأدب فني فالثابت تاريخيا هو أسبقية القصص الشعري على الغناء. وتلك ظاهرة يمكن تفسيرها من الناحية التاريخية إذ يمكن تتبع المراحل التي انقرض فيها شعر الملاحم وحل محله الشعر الغنائي.

ويمكن القول بوجه عام إن الشعر القصصي الفني (شعر الملاحم) قد سيطر على بلاد اليونان ثلاثة قرون (من القرن الحادي عشر قبل الميلاد إلى القرن الثامن قبل الميلاد)، ثم سيطر الشعر الغنائي ثلاثة قرون أخرى (من الثامن قبل الميلاد إلى الخامس). وأخيرا سيطر الشعر التمثيلي خلال القرنين الخامس والرابع، ومنذ القرن الرابع يمكن القول بأن عصور الإنتاج الحقيقي قد انتهت بغزو المقدونيين لبلاد اليونان وتحطيمهم لاستقلال مدنها.

برجوعنا إلى الإلياذة والأوذيسية نجد إشارات إلى الشعر الغنائي؛ ففي مناسبات كثيرة يحدثنا هوميروس عن ترديد الجند لنغمات البيان

، وهو نشيد ديني كانوا يمجدون به أبولو أو غيره من آلهتهم. نذكر لذلك مثلا غناء جند «أخيل» عندما قتل قائدهم هكتور أشجع أبطال طروادة. «والآن يا أبناء الآكيين لنعد على نغمات البيان إلى سفننا الجوفاء ساحبين تلك الجثة. لقد كسبنا مجدا عظيما. لقد قتلنا هكتور الإلهي، هكتور الذي كان أهل طروادة يجلونه كإله.» وكذلك يشير الشاعر إلى أغاني الرثاء المسماة باليونانية «ترينوس».

89

وذلك عندما بكى صديقه بتروكلس، وعندما بكى بريام وبكت هيكوبا ولدها هكتور من أعلى الأسوار، وكذلك عندما بكته جوقة من النساء المحترفات أولا ثم سيدات المنزل: هيكوبا وهيلانة وأندروماك ثانيا بعد أن رد أخيل جثته إلى أهله، بل وفي الأوذيسية يحدثنا هوميروس عن شاعر غنائي متجول هو ديمودوكس

90

الذي كان يطرب الملوك في قصورهم بشعر مرح، فيه إقبال على الحياة.

وإذن، فالنصوص تؤيد وجود شعر غنائي معاصر للشعر القصصي أو سابق عليه، ومع ذلك لم يحرص هوميروس على أن يصوغ ذلك الشعر، ولا أن يرويه، وإنما انصرف جهده إلى كتابة الشعر القصصي. لأن الشعر الغنائي كان نواة لم تكتمل.

ثم في القرون الثلاثة التي سبقت الحروب الميدية (من القرن الثامن قبل الميلاد إلى القرن الخامس) تطورت بلاد اليونان من الناحيتين السياسية والعقلية، فقد اختفت الملكيات القديمة التي تغنى بها هوميروس، وكثرت الغزوات والهجرات التي قلبت أوضاع الحياة، وعلى أنقاض الملكية نشأت حكومات أرستقراطية وحكومات ديمقراطية. ومن حين إلى حين نظم استبدادية، وفي وسط تلك الحركات والانقلابات أرهف الإحساس، ونمت الشخصية، وتيقظ التفكير يبغي إخضاع الأشياء للعقل أو فهم قوانينها، أو العبارة عن تأثيرها في النفوس.

هذا الانقلاب في الحياة العامة كانت له نتيجتان: الأولى ظهور الشخصية الفردية، والثانية نمو الحالة العقلية. وفي هاتين النتيجتين ما يفسر انصراف الشعراء إلى الشعر الغنائي وتفضيلهم له على الشعر القصصي؛ فالشاعر الغنائي يضع نفسه في شعره، كما يصدر فيه عن واقع الحياة التي يدركها بحواسه، فتترك في نفسه انفعالات شعورية، أو ترسب بعقله أفكارا.

ونحن بعد نستطيع أن نلمح مرحلة انتقال بين القصص والغناء، تتمثل في الشعر المسمى بالتعليمي،

91

كشعر هزيود الذي عاش على الراجح في القرن الثامن قبل الميلاد؛ فكتابه المسمى «نسب الآلهة». واضح فيه الحرص على المعرفة المنظمة والتسلسل المنطقي، رغم تضارب الروايات، وفي كتابه الآخر «الأيام والأعمال» نجده يتحدث عن أعمال الحقول، وفصول السنة، ويصف الحياة اليومية وصفا واقعيا، وفي الكتاب الأخير تظهر شخصية الشاعر بوضوح؛ تظهر آراؤه في الحياة وفلسفته في فهمها، بل وتظهر بعض حوادث حياته، كالخلاف بينه وبين أخيه في اقتسام تركة أبيهما واحتكامهما إلى القضاة.

شعر هزيود التعليمي إذن مرحلة بين القصص والغناء. مرحلة عابرة؛ إذ سرعان ما غلب الغناء وأصبح هو الفن الشعري السائد في بلاد الإغريق كافة.

لقد كان اليونان ينشدون الشعر القصصي بمصاحبة القيثارة، ولكن الموسيقى لم تكن تماشي الشاعر عندئذ مقطعا مقطعا، بل كانوا يكتفون من الموسيقى بخلق الجو، وأما في الشعر الغنائي فقد استخدموا الموسيقى - وبخاصة في الأغاني الشخصية وفي الأناشيد الجماعية - استخداما أشمل وأعمق، فتعددت الآلات وتعددت النغمات، وأصبحت كل نغمة تماشي مقطعا في التفاعيل، ولقد فطنوا إلى استخدام كل آلة فيما يلائمها من موضوعات، فتراهم يستخدمون الناي حينا والقيثارة حينا آخر كما قد تجتمع الآلتان في أناشيد النصر، وكل ذلك دون أن تطغى الموسيقى على الشعر كما نرى اليوم في الأوبرا. وقد استطاع اليونان ذلك لبساطة موسيقاهم، فهي موسيقى قريبة من موسيقانا الشرقية.

ولقد أتي على الإغريق زمن كانوا ينشدون فيه الشعر القصصي دون أي مصاحبة موسيقية. وأما الشعر الغنائي بمعناه الدقيق الذي سنراه فيما بعد فقد ظل ينشد مع الموسيقى، وكان المميز لأنواع الشعر الغنائي المختلفة هو أوزانها الشعرية أولا ثم موضوعاتها بعد ذلك.

والشعر القصصي مكتوب كله فيما يسمى بالوزن السداسي

hexameter ، أعني ذلك الذي يبنى البيت فيه من ست تفاعيل، وهذا وزن سهل مطرد رحب يلائم القصص. وأما الشعر الغنائي فليس له وزن واحد، وإنما تختلف أوزانه باختلاف موضوعاته، وهي بعد أوزان معقدة متنوعة غنية بموسيقاها.

والناظر فيما يسمى بالشعر الغنائي عند اليونان يستطيع أن يقسمه إلى نوعين كبيرين: (1)

الشعر الإليجي والشعر الأيامبي

elegy - iambic poetry . (2)

الشعر الغنائي بمعناه الدقيق. وهذا ينقسم إلى قسمين: (أ)

أغان فردية

song . (ب)

أناشيد جماعية دينية وغير دينية

hymns & odes .

وأساس هذا التقسيم يستند قبل كل شيء إلى الأوزان الشعرية، فكلمة إليجي وكلمة إيامبى عند اليونان لا تصدق إلا على وزنين معينين: الوزن الإليجي وحدته ما نستطيع أن نسميه بالمثنوي، والمثنوي الإليجي عبارة عن بيتين: أحدهما سداسي التفاعيل والآخر خماسي، وطبيعة التفاعيل فيه تقرب من تفاعيل الشعر القصصي. وأما الأيامبى فوحدته البيت الواحد المكون من ست تفاعيل إيامبية، والأيامب عبارة عن مقطع قصير وآخر طويل.

شعر الإليجي إذن لا يتميز إلا بوزنه، وأما موضوعاته فمتباينة أشد التباين، ونحن لا نعرف لماذا سمي بذلك الاسم، وإن يكن الرأي الراجح اليوم عند العلماء أن لفظة

elegy

ليست إغريقية، وإنما هي أرمنية مشتقة من كلمة معناها الناي، وذلك لأن هذا النوع من الشعر كان في أول نشأته يتغنى به بمصاحبة الناي، بحيث نستطيع - إن أردنا - أن نسميه «أشعار الناي». وهذه اللفظة وإن غلب عليها في العصور الحديثة معنى الرثاء والحزن والشكوى لموت أو ألم أو تعثر في الحب، فإنها عند اليونان لم تتخصص بموضوع بذاته، بل إن أقدم الأشعار الإليجية التي وصلت إلينا إنما هي أشعار حماسية وحربية.

وأما الرثاء، فلا نجده إلا عند أرخلوكوس، ثم عند الشاعرة سافو، وأخيرا عند سيمونيدس الكيوسي أيام الحروب الميدية.

وأما الشعر الأيامبي، فاسمه مشتق من فعل يوناني معناه «يرمي» أو «يقذف»؛ ولهذا استعمل هذا الوزن السريع الدافق في الهجاء بحيث نستطيع أن نسميه بالشعر الهجائي، وإن كان قد استخدم فيما بعد في الحوار في المأساة (التراجيديا)، كما استخدم في الملهاة (الكوميديا)، ومع ذلك فالشعر الذي لدينا من هذا الوزن - بصرف النظر عن الشعر التمثيلي - كله في الهجاء: كشعر أرخلوكوس وشعر سيمونيدس الأمورجي؛

92

وهما من شعراء القرنين السابع والسادس قبل الميلاد.

هذان النوعان من الشعر - أشعار الناي، وأشعار الهجاء - ليسا من الشعر الغنائي بالمعنى الدقيق، لأن الموسيقى لم تصاحبهما دائما، وإنما صاحبتهما في أوائل نشأتهما، ثم استقلا عنها منذ القرن الخامس قبل الميلاد، وأصبحا ينشدان مجرد إنشاد، ولهذا يميز النقاد بينهما وبين الشعر الغنائي بمعناه الدقيق.

والشعر الغنائي بالمعنى الضيق الدقيق لا يشمل غير الأغاني الفردية والأناشيد الجماعية، فهذان النوعان هما اللذان ظلت الموسيقى تصاحبهما حتى العصور المتأخرة. وأكبر شعراء الأغاني هم: أنا كربون، وسافو، وألكيوس، وأما شعراء الأناشيد الجماعية، فزعماؤهم باخليدس وسيمونيدس الكيوسي،

93

ثم بندار أكبرهم جميعا. •••

ونحن إذا ما أخذنا نفصل الحديث عن الشعر الغنائي عند اليونان، فجأتنا في أول الطريق خسارتان فادحتان أصابتا تاريخ الأدب، أما صغراهما فهي أننا لا نجد أحدا، مهما بلغت دراسته في اليونانية القديمة، يستطيع أن يقرأ الشعر اليوناني في صوت إيقاعي على نحو يبين تفاعيله ووقفاته بيانا صحيحا جميلا، وأما كبراهما فهي أن معظم الشعراء الغنائيين من اليونان القدماء قد امحت آثارهم، ولم يبق من تراثهم إلا نبذ قليلة، وإنما عرفنا قيمة أشعارهم من تلاميذهم الفحول الذين اقتفوا أثرهم وخلدوهم في شعرهم. (3-1) شعر الإليجي

وما كان أضخمه من تراث أدبي لو حفظ لنا الدهر كل ما جادت به قرائح اليونان من جيد الشعر! فهذا «صولون» المشرع الحكيم الذي ظهر في أثينا بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وهذا «ثيوجنيس»

94

لم يبق لنا من أشعارهما إلا قليل، وهما من شعراء الإليجي، ويتضح من شعرهما ما سبق أن ذكرنا من أن الإليجي عند الإغريق لم يكن معناها المرثية كما هو معناها الآن عند الأوروبيين، وإنما كانت تتميز بوزنها العروضي. فالإليجي عند صولون سياسية وطنية وعند ثيوجنيس كانت نظرات أخلاقية، وهما أبعد ما يكون عن رثاء الموتى والبكاء على بؤس الفقراء، بل إن ثيوجنيس ليمقت الفقراء ويزدريهم لأنه أرستقراطي معتز، شامخ الأنف، ولو أنه قد ينزل من عليائه ليعطف على الفقراء أحيانا.

وهاك مثالا من شعره الذي وصلنا منه ما يقرب من 1400 بيت:

اختيار الأصدقاء

بني: لا تتخذ من عصبة السوء أخدانا؛

نصحتك فالتمس بين أهل الجاه إخوانا،

خالطهم في طعامهم وشرابهم واتخذهم رفاقا وخلانا،

وادرس العظماء، إن في درسهم لذة ونعيما.

صاحب ذوي الجاه يزدد منك العقل رجحانا،

وعاشر أهل السوء تحرم الحجى حرمانا.

ومن شعره أيضا:

لا تلم فقيرا على فقره

لا تسخرن من فقر مدقع قتال.

لا تنقمن على من ساءت حاله بجيب خال؛

إن زيوس ينصب يوما بعد يوم قوائم الميزان،

فيمنح هذا المال العريض ويقضي على هذا بالحرمان.

ومن شعره أيضا:

الأموات لا يشعرون

لا أريد لعظمي البالي فخم المراقد.

وأوثر أن أقضي الحياة في عيش راغد؛

فسواء لدى الجثمان وثير الفراش وصلد الجلامد،

وما البساط الناعم عند الموتى بخير من الأشواك الشدائد. (3-2) الشعر الأيامبي

ومن أئمة شعر الأيامب عند اليونان «أرخيلوكوس»،

95

ولعله مبتكر الوزن الذي يستخدم في قصائد الهجاء، وهو وزن يشبه إلى حد ما أوزان «دريدن»

96

و«بوب» من شعراء الإنجليز فيما أنشداه من أشعار الهجاء اللاذع، ولكن الزمن قد أغرق في موجه آثار «أرخيلوكوس»، وعلينا أن نصوره لأنفسنا من القليل الباقي ، لنتصور فيه تلك الشعلة الحماسية التي أعجبت «هوراس »، وذلك اللفظ الفخم الذي قلده كثير من شعراء اليونان واللاتين.

ومن شعراء الهجاء سيمونيدس الأمورجي، وله هذه القصيدة الجميلة:

بضعي النساء

جعل الله عند الخلق طبائع النساء مختلفات،

فجاءت إحداهن كأنما أخرجها الله من خنزير،

يسرح بنوها في الدار في فوضى واضطراب،

وتراهم طرحى على الأرض يتمرغون في أشكال من القذر متباينات،

بينا تراها في أقذارها وثوبها المتهدل

تمرح كما تمرح الخنازير في حظائرها، وتزداد شحما على شحم. •••

وأخرى كأنما أخرجها الله من ثعلبة ماكرة؛

فهي بكل أمر محيطة؛ لا تغفل عن شيء،

شرا كان أو خيرا. بكل شيء خبيرة عليمة،

كم تنطق بالشر والأذى،

لكنها قد تفعل الخير: هكذا جبلت طبيعتها قلبا. •••

وأخرى كأنما هي الكلبة حركة ونشاطا،

يشوقها أن تسمع كل شيء وتكشف عن كل خافية،

تجوس أرجاء المكان فاحصة متطلعة،

فإن لم تجد شيئا أطلقت بالسوء لسانها،

ولن يجدي فيها وعيد زوجها،

كلا ولا يسكتها الغضب، ولا حجر يلقى عليها فيحطم أسنانها،

ولا تجدي كلمة طيبة ولا مسح بكف عطوف،

بل وهي في ضيافة غيرها،

تظل كالكلبة في صياحها ونباحها. •••

وصاغت آلهة السماء من تراب الأرض امرأة،

قدمتها على نقصها للرجل زوجة،

يعوزها العلم، فلا خيرا عرفت ولا شرا،

ولا تعرف عليها واجبا إلا أن تأكل،

إن لفحها برد الشتاء فارتعشت،

فلن تزحزح نفسها نحو النار تصطلي. •••

وأخرى خلقت كالبصر ذات طبعين،

فيوما تراها مشرقة ضحوكا،

إن رآها في دارها غريب لم يدخر ثناء،

قائلا ليس على وجه الأرض مثلها ظرفا وسناء

ويوما تعبس فلا تقوى على الدنو منها والنظر إليها

فكأنما مسها عندئذ مس من جنون؛

غضوب كما تكون الكلبة مع جرائها،

حقود تصيب نقمتها الجمع على السواء،

كأنها حجر يتعثر به الأصدقاء والأعداء،

ولكنها كالبحر، قد تسكن في هدوء رحيم،

كالبحر في الصيف، هو للملاحين بهجة لا تحد

ثم قد ينقلب السكون إلى جنون،

فيدوي بموجه دوي الرعود،

مثل هذه المرأة تحنو على ذوي قرباها،

وطبعها شبيه باليم في تقلبه. •••

وأخرى تراها نحلة في دارها ؛ فطوبى لحائزها!

لن يجد اللوم في أخلاقها مستقرا

فهي تجعل الحياة منتجة خصيبة،

وتنجب من بنيها كل مجيد نبيل،

حتى تبلغ الشيخوخة في حب زوجها،

وتزداد على مر الأيام طيب أحدوثة بين لداتها،

ويفيض عليها الله من بركاته الطيبات

إنها لا تجد متعة في المكث بين النساء،

حين يتحدثن في الحب ولقاء الرجال.

مثل هذه المرأة نعمة من الله لزوجها،

وهي بين الزوجات أكثرهن فضلا وحكمة. (3-3) الأغاني الفردية

ومن خير ما يمثل الأغاني الفردية ما أنشده «ألكيوس»،

97

وما أنشدته «سافو»،

98

وما أنشده «أنا كربون»، وقد فقد أكثر شعره. أما أن ألكيوس كان شاعرا مجيدا فذلك ما يشهد به «هوراس»

99

الشاعر اللاتيني العظيم الذي جرى على نسقه في شعره.

وأما أن «سافو» كانت رائعة بارعة، فدليل ذلك أنها كانت في القرن السادس قبل الميلاد معترفا لها بزعامة مدرسة للشعر في الزبوس، إحدى جزر اليونان ومهد الأغاني فيما يذكر القدماء.

وإن الأشعار القليلة التي بقيت لنا من نظمها لتنطق بعلو كعبها، وبما كان لها من عاطفة حادة وإحساس شديد بنعيم الحب وجحيمه. وقد كانت «سافو» في أعين اليونان شاعرة مجيدة وضعوها في صف هوميروس، وسرعان ما أصبحت في أساطيرهم بطلة تحاك حولها الأنباء والأخبار. ولقد سمي باسمها وزن من أوزان الشعر ابتكرته أو وجدته هزيلا فبلغت به حد الكمال؛ وهذا الوزن «السافي» كان نموذجا لكثير من شعراء اللاتين، وبخاصة هوراس.

ونحن نسوق لك مثالا من شعر «ألكيوس» ثم نتبعه بمثال من شعر «سافو».

قال ألكيوس في أشعار من أغاني الشراب:

إن «زيوس» مزنه هامية، وريح السماء صرصر عاتية،

وفي الأنهار تجمدت مياهها الجارية.

هدئ من العاصفة قوتها؛ جمع للنار جذوتها؛

امزج - كما تشتهي - من الصهباء صفوتها،

ثم طوق منك الجبين

بأكاليل من رياحين.

لا تسلمن القلب للأشجان؛

أي خير ترتجيه من أحزان؟

ليس للداء يا صاح غير هذا الدواء:

الخمر؛ فاحتس الخمر حتى تنتشي.

100

إلى الشراب هيا! فيم انتظارك المصباح؟

لم يبق إلا ساعة ويدهمك الصباح.

101

هات الكئوس واختر منها الضخام الكبار ،

ها هي تدلت من المشاجب فوق الجدار،

إن «سملى» و«زيوس» أنجبا «باكوس»

102

حفيدا،

فخلق الحفيد لذيذ الخمر خلقا جديدا،

ثم هيأها للإنسان وسقاها،

فكانت لهمومه بلسمها وسلواها.

اقتلها بالماء: واجعل من الخمر قدرا ومن الماء مثليها؛

واملأ الأقداح مترعة حتى نهايتها،

وأعطني قدحا وانتظر حتى تراني

حسوته، فقدم الثاني.

وهذا مثال من شعر سافو. قالت في امرأة ستنسى لأنها ليست فنانة:

صفية

غدا سترقدين في جمود الموت جثمانا،

وذكرك لا يحرك لسانا أو يثير جنانا؛

إذ لم تكوني في دوحة الفن غصنا فينانا،

بل ستكونين في جنبات الجحيم

وفي زمرة المصفدين.

لن يصاحب ظلك ظل حبيب.

103

المساء

إيه يا مساء، قد عدت إلى الديار بساكنيها،

بعد أن بعثرهم الفخر في الأرض، قاصيها ودانيها؛

فإلى الحظائر عدت بالخراف والنعجات،

ورجعت البنين إلى صدور الأمهات.

أما «أناكريون»

104

الذي لم يبق لنا من شعره إلا شذرات، فقد أدار غناءه على الحب والخمر في أسلوب رقيق، ولكنه أقل عاطفة من شعر سافو. وقد كانت رقة لفظه مبعث إعجاب الشعراء اليونان والمحدثين، وقد كان له مقلدون أنشدوا شعرا في أسلوبه، وضاعت أسماؤهم، فظل ينسب له خطأ قرونا متلاحقات.

والعجب أن مقلديه ومترجميه من المحدثين إنما يقلدون ويترجمون تلك الأشعار المنحولة، أكثر مما يرجعون إلى أشعاره الصحيحة.

والحق أن مجموعة من هذه القصائد المنحولة قد جمعت في ديوان اسمه «أناكرونيات»، وهي من الجمال والروعة بحيث تستحق النسبة إلى هذا الشاعر العظيم.

وهاك مثالا منها:

الشيخوخة

لن يعود الشباب الحلو ويخطو إلي

بعد أن كان لي أصدق الخلان،

وابيض رأسي فوق كتفي،

كما ابيض مني العارضان

وأسناني؛ لقد تحطم اليوم بنيان أسناني.

سلخت عمري، ما أبقيت إلا قليلا،

أستمرئ فيه نعيم اللذات،

ومزقتني الشكوك تمزيقا وبيلا،

وبقيت لهفتي وعويلي واحسرتاه،

ألا ما أعمق مراقد الأموات!

ما أعمق ما يرقدون ولا يحزنون!

وقد تقطعت بهم إلى العودة أسبابها،

وعلى الدرج صعدا لم يعودوا يملكون

أن يسلكوا الطريق بين إيابها ؛

فهم في الهوة السحيقة يرقدون!

إن القصائد الغنائية التي أنشدها «أناكريون» و«سافو» وغيرهما، فيها من الطابع الشخصي شيء كثير؛ فهي تعبير عن عاطفة فردية، إذ تلمس فيها أنة الحزن وصرخة الألم، وتسمع فيها ضحك السرور وإشفاق الأسف، وغير ذلك مما كان يحسه الشاعر في حياته الشخصية. (3-4) الأناشيد الجماعية

وأما الأناشيد الجماعية فقد قرضها قارضوها لتغنيها مجموعة من الناس، وهي تعبر عن عواطف جماعة لا عاطفة فرد. ومن أمثال ذلك التراتيل الدينية وأناشيد المجد التي كانت تغنى للأبطال الظافرين.

فأمثال هذه القصائد، وإن تكن بغير شك مطبوعة بطبائع قارضيها، إلا أنها من حيث موضوعها لا تمس تجربة الشاعر في حياته اليومية، وإنما تعبر عن الحياة الدينية والاجتماعية التي تحيط به. وأعظم شعراء هذا الضرب من الشعر الغنائي هم «سيمونيدس الكيوسي»

105

و«باخليدس»

106

و«بندار»

107

وثلاثتهم عاشوا في القرن الخامس قبل الميلاد.

أما «سيمونيدس» فقد أجاد في قصائد المدح يتوجه بها إلى من أراد مدحه من العظماء، وكانت طريقته أن يذكر بطلا من أبطال الماضي ليعرضه على سبيل المقارنة بالعظيم الممدوح؛ ولذلك فقد حفظت لنا أشعاره كثيرا من أساطير الأولين.

وهذه أمثلة من شعره:

موتى الإغريق في ترموبولي

إن صرعى «ترموبولي» لمن العظماء الأمجاد،

فما أشرفها نهاية، وما أسماها غاية!

رقدوا هنالك تحت مذبح، إذ لا تشق لهؤلاء اللحود،

ولا يغشى مراقدهم الراثون النائحون،

إنما يحج إليهم الذاكرون المادحون،

فلله ما أعظمه من قربان مجيد،

لن يطمسه الصدأ، ولن يفنيه الزمان المبيد!

قدست أرض باتت للأبطال مستقرا ومراقد؛

فها هنا أقام «الشرف الإغريقي» له معبدا،

وها هنا بين الصرعى رجل جدير أن يمجدا: «ليونيداس

Leonidas » سليل ملوك أسبرطة

الذي خلف الأعقاب كاللآلئ النواصع

شجاعة وشهرة؛

فاسمه باق على الدهر

يتوارثه عصر بعد عصر.

الصعود إلى الفضيلة

عن الفضيلة قال الرواة:

إنها على جبل صعب مرتقاه،

وعرائس الجن المقدسات لها حماة،

ووجهها في حرز هيهات لإنسان أن يراه،

إلا رجلا شق الطريق مصعدا،

لا يبالي نصبا مضنيا وقلبا مجهدا،

حتى يبلغ بالبأس ذاك المرقدا.

قبر

ها هنا دعهم يرقدون، إنهم بالذكر خالدون

قد قضوا في سبيل «تيجيا»

108

وهم على الرماح قابضون،

كانوا لحصونها الليوث الحماة،

كانوا لقطعانها الحراس الرعاة.

اتخذوا حرية «هلاس» إكليلا وتاجا،

واندفعوا في حومة الوغى أفواجا فأفواجا؛

لتظل «هلاس» باقية على الأيام،

فلا يعفر إكليلها غبار الرغام.

وأما «باخليدس» فكان من شعراء الأناشيد تغنى للظافرين. ومن أروع قصائده نشيد قاله في تمجيد جواد كسب السبق في حلبة الألعاب الأولمبية. وقد كان الإغريق ينظرون إلى الرياضة البدنية نظرة فيها الروح الوطنية وفيها العبادة الدينية، مما ليس لنا به عهد نحن المحدثين.

وأعظم شعراء الأناشيد الجماعية التي تقال في مواقف القلب والنصر «بندار»، وقد بقي لنا من أدبه قصائد كاملة قيلت في تمجيد السابقين الغالبين في حلبات الألعاب الأولمبية وما شابهها من المباريات. ولعظمة «بندار» وكثرة ما بقي من شعره، أصبحت الأناشيد في العصور الحديثة تقترن باسمه، والقصيدة الغنائية من هذا الضرب كانت تغنيها جوقة في نوع من الرقص في حلبة، فمقطوعة من القصيدة تلازمها حركة الراقصين من اليمين إلى اليسار، والمقطوعة التي تليها تلازمها حركة من اليسار إلى اليمين، وفي المقطوعة الثالثة يقف الراقصون في سكون؛ وهذه الوحدة الثلاثية يكررها الشاعر في قصيدته عددا من المرات كما يشاء. وقد أصبح هذا البناء الفني للقصيدة الغنائية قالبا هاما في الشعر الإنجليزي، ولو أن القصائد الغنائية الإنجليزية تختلف كثيرا من حيث الموضوع عن اليونانية. ومن أمثلة هذه الأغاني في الشعر الإنجليزي قصيدة «شلي»

109

وعنوانها: «نشيد الرياح الغربية» وقصيدة «كيتس»

110

وعنوانها «أغنية العندليب» وقصيدة «سونبرن»:

111 «نشيد عيد الميلاد» وقصيدة «تنسن»

112 «الدوق ولنجتن»؛ فهذه كلها تشبه أصلها اليوناني في نقطة رئيسية وهي وقار موضوع القصيدة وما فيه من جد العاطفة.

ولقد وصلنا من شعر بندار أربعة وأربعون نشيدا موزعة في أربع مجموعات حسب نوع الألعاب التي قيلت فيها:

وها هو أحد أناشيده قاله تمجيدا لزينوقراط أمير مدينة «أجرجنتوم» بجزيرة صقلية. والنشيد موجه إلى «تراسيبولس» ابن الأمير المذكور. والراجح أن الشاعر قد كتب قصيدته بعد موت الأمير. قال: (المقطوعة الأولى: تنشدها الجوقة وهي تتحرك من اليمين إلى اليسار):

أي تراسيبولس! إن القدماء الذين صعدوا إلى عربة ربات الوحي الذهبية ليأخذوا بأيديهم القيثارة النبيلة، لم يتوانوا عن أن يطلقوا أناشيدهم الحلوة كالعسل، تمجيدا لجمال الشباب،

113

أولئك الذين يدعونا شبابهم المحبب إلى أن نحلم بأفروديت الإلهة ذات العرش المشرق.

إن ربة الوحي إذ ذاك لم تكن جشعة ولا أجيرة.

114

لم تكن «تربسيكورة»

115

تضع قناعا من القصة على وجهها، ولم تكن أغانيها العذبة الحلوة تباع بالمال، وأما الآن فها هي تدعونا إلى أن نقبل تلك الكلمة القريبة من الحق، كلمة أحد أبناء «أرجوس»: «المال. المال. هو الرجل.» قالها عندما فقد أصدقاءه لما فقد ماله. وأما أنت فرجل حكيم. إني أشيد بنصر لا يجهله أحد، هو النصر الذي وهبه «بوسيدون» لزينوقراط مكافأة لعربته، ذات الخيول الأربعة، ليتوج بإكليل الآس. (المقطوعة الثانية: تنشدها الجوقة وهي تتحرك من اليسار إلى اليمين):

لقد مجد فيه الإله سيد العربات النابه، مجد فيه فخر «أجرجنتوم»، ومن قبل قد رمقه أبولون بعنايته في «كريسته»، حيث وهبه النصر هنالك أيضا. وفي أثينا المشرفة نال حظوة أبناء «إركتيوس»

116

الأماجد، ولم يجد مأخذا على تلك اليد الماهرة في قيادة العربة، يد السائق «نيقوماخوس»،

117

نيقوماخوس الذي ساط الخيل في حرارة، حتى إذا جد الجد أطلق لها الأعنة. وهو الذي شاد بذكره «الأليون»،

118

رسل مواسم الألعاب وحاملو القربان إلى «زيوس»، وذلك عندما بلوا كرمه، لقد حيته أصواتهم الجميلة عندما تلقاه النصر الذهبي على فخذيه ببلادهم. تلك البلاد التي ندعوها حرم «زيوس» الأولمبي. لقد لقي هنالك أبناء «أبنسيديموس» مجدا خالدا. آه! إن قصوركم - تراسيبولس! - لا تجهل الولائم المحبوبة، ولا تنقطع عنها الأناشيد المجيدة. (المقطوعة الثالثة: تنشدها الجوقة وهي ساكنة):

إن رسل عذارى «الهليكون»

119

لا يصدمون بالصخور، ولا تتوعر بهم السبل عندما يخفون إلى النابهين من الرجال، حاملين هدايا هؤلاء العذارى. ليتني أستطيع أن أصل بسهامي حيث وصل زينوقراط بكرمه النفسي العذب، مخلفا وراءه الناس كافة. لقد حاطه مواطنوه بإجلالهم. لقد أحب تربية الخيل لكي يساير تقاليد الإغريق في أعيادهم. لقد أقام دائما الولائم في بشاشة تمجيدا للآلهة. ولم تحمله يوما رياح الكرم التي تهب حول مائدته على أن يطوي قلاعه. في الصيف يبحر حتى «فاسس»، وفي الشتاء يبحر حتى ضفاف النيل. ولما كانت آمال الحسد تهوم حول البشر، كان من واجب «تراسبولس» ألا يمسك قط عن الإشارة ببطولة أبيه. عليه ألا يترك هذه الأناشيد تهوي إلى النسيان. إنني لم أكتبها لكي تنام خامدة. أحملك - يا نيكاسيوس!

120 - هذه الرسالة وأنت عائد إلى الكريم الحبيب إلى نفسي.

هذا النشيد الصغير يرينا مثلا من أناشيد النصر عند اليونان، فالشاعر يتغنى بجمال تراسيبولس الشاب الذي أرسل إليه مدحه لأبيه، وهو يشيد بذلك الأب لانتصاره في الألعاب في سباق العربات، وهو يذكر ما كان من نصر سابق في كريسه وفي أثينا وفي أولمبيا، نصر أحرزه الممدوح أو غيره من أسرته، ثم يمجد سائق العربة، وأخيرا يتحدث الشاعر عن نفسه معلنا اعتزازه بشعره. وليست كل أناشيد بندار في هذا الاختصار؛ إذ إن من بينها ما يبلغ خمسمائة بيت تقريبا، أي ما يقرب من أغنية من أغاني الإلياذة أو الأوذيسية. والشاعر يلتمس عندئذ مادة لشعره في الأساطير التي تدور حول أجداد البطل أو حول مدينته.

وشعر بندار يمتاز بقوة التركيز، وهو شعر غامض حارت في فهمه العقول. انظر مثلا إلى جمعه بين «رياح الكرم التي تهب حول مائدة الممدوح» و«رحلات الممدوح إلى الشمال حتى فاسس، وإلى الجنوب حتى ضفاف النيل.» التماسا لوجاهة الثراء، وكيف جمع الشاعر بين المعنيين الحقيقي والمجازي، واصلا بينهما بقوله «إن رياح الكرم لا تمنع الممدوح من أن يبحر طلبا للمال من التجارة.» فهذا تركيز لا يخلو من غموض، ولكنه من مصادر عظمة ذلك الشاعر الذي يرى فيه النقاد أكبر شاعر غنائي. •••

كانت أثينا طوال ذلك الزمن الذي عاش فيه من ذكرنا من الشعراء زعيمة اليونان العقلية، ولكن المدنية اليونانية لم تقتصر على أثينا، بل ترامت إلى آسيا الصغرى وإلى صقلية وجنوبي إيطاليا، وازدهرت الفنون في كثير من هاتيك المدن والأقاليم، وإنه لمما يدل على تنافسهم وتسابقها أن ادعى سبع منها بنوة هوميروس، كل منها يدعيه لنفسه. وقد ظهر من ذكرنا من شعراء في مدن مختلفة من البلاد اليونانية، ولكنهم كانوا يحجون إلى أثينا؛ هذا يذهب إليها في زيارة قصيرة، وذلك يقصد إليها لإقامة طويلة.

فلما بسط الإسكندر الأكبر سلطانه على العالم، فقدت المدن اليونانية قوتها وإن لم تفقد طابعها، فأخذ الأدب هنالك يضعف وتنهار دعائمه، ولم يعد - على مر الزمن - تعبيرا طبيعيا عن خواطر الشعب تجري على ألسنة شعرائهم؛ لم يعد الأدب - تدريجا - صوت الحياة، بل أصبح موضوعا يدرس في كتب، وأصبح الأثر الفني تقليدا وصناعة يؤديها الأديب بعقله لا بقلبه.

وانتقلت الزعامة الأدبية إلى الإسكندرية بعد أثينا، الإسكندرية التي أسسها الإسكندر في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد، وسرعان ما بلغ سكانها ثلاثمائة ألف، وأخذت تجذب إليها أرباب العلم وأصحاب الفن بسبب هذه المكتبة العظيمة التي أقامها فيها البطالسة؛ فازدهر العلم وازدهرت الفلسفة وقوي النقد، لكن الشعر لم يزدهر لسبب لا ندريه، فقد فقد جزالته وضاعت قوته، ولعل ما أدى إلى ذلك أن الشاعر كان يكتب قصيدته لتقرأ لا لتنشد وتسمع، أصبح يكتبها للعين لا للأذن، فضاعت من الشعر أنغامه الحلوة، وبقيت له القوالب المتحجرة والصور الفارغة، أو لعل العبقرية اليونانية قد أفرغت جعبتها، فلم يعد لديها شعور جديد ولا أسلوب جديد، لكن لا! فقد ظهر بعد ذلك شاعر آخر كان له فكر جديد صاغه في أسلوب جديد، وذلك هو «ثيوقريطس»

121

الذي جود الشعر الريفي حتى أصبح هذا اللون من الشعر ينسب إليه كما ينسب الشعر الغنائي إلى «بندار»، والشعر الريفي إنما يجري على ألسنة الرعاة: يعبر عن عواطفهم، ويقص خرافاتهم ويصف ما يحيط بهم من مناظر الطبيعة الخلوية، ويسجل ما يدور بينهم من حوار، وما يترنمون به من أناشيد. وإن في محاورة الرعاة وأغانيهم لرقة وعذوبة وشاعرية حتى ظن بعض النقاد في العصور التي سادت فيها الصناعة في الأدب، أن هؤلاء الأجلاف السذج لا تصدر عنهم هذه العواطف الرقيقة، غير عالمين أن الأغاني الشعبية الريفية كثيرا ما تبلغ حد الإبداع في خيالها وجمالها وألفاظها وقوافيها.

استمد ثيوقريطس أغانيه من أناشيد الرعاة الذين كانوا يعيشون في صقلية فوق تلالها الخضراء، وتحت سمائها الزرقاء، يمرحون ويترنمون. وعلى الرغم مما خلعه ثيوقريطس على تلك الأناشيد الحلوة التي جرت على ألسنة أصحابها مع السليقة والطبع، من صناعة لفظية أبعدته عن جمال الطبع، فإن ما في قصائده من صدق التعبير ودقة التصوير لهؤلاء الرعاة السذج جعله شاعرا مجيدا.

وهذا مثال من الشعر المنسوب لثيوقريطس:

الصيادون

إنه الفقر وحده يوقظ الفنون،

ويلهم الحذق يد الصانع الصناع،

ويعلم الكدح فلا ينام العامل إلا غرارا،

وترى العناء والهم من حوله زاحفا،

فإذا ما أخذه الكرى دهمه العناء والهم بزئيره الداوي،

انظر إلى هذين الشيخين - وقد حذقا صيد السمك -

يتخذان من أعشاب البحر الجافة مخدعا وطيئا،

تحت كوخ معروش بجانب جدار من أوراق الشجر،

والشباك مطروحة على مقربة منهما،

وحولهما انتثرت قضبان وسلال من الغاب،

كما انتشرت مشابك وشباك وخيوط جمدتها الأعشاب، ... وعلى مقربة منهما مجدافان متآكلان،

وحبال تشابكت كلها في خليط،

وزورق مشدود إلى اليابس في عرض الطريق،

والوسادتان تحت رأسيهما معطفان رقيقان من صوف غليظ،

والغطاء فوق جسديهما عطيفان سميكان،

فهذه عندهما كل ما يملكان،

وما عداها فيض ليس فيه غناء،

فلا حاجة بهما للحراسة إلى مفتاح وكلب وباب،

فقد وقف الفقر من دونهما حارسا أمينا

فلن يتخذ جار من جوار كوخهما موطنا،

فما الجار عندهما سوى مد البحر الزاحف في رفق ولين ... إلخ إلخ.

وقد أصبح الشعر الريفي بعد ثيوقريطس تقليدا في كل اللغات الحديثة فالشاعر «فرجيل» في ديوانه «أناشيد الرعاة» تأثر خطو ثيوقريطس ثم أثر هو في الشعر الإنجليزي؛ فإليه يرجع الفضل في اصطناع الأدب الإنجليزي للشعر الريفي. ولئن كان كثير من الأدب الريفي في الآداب الأوروبية الحديثة كاذب العاطفة لبعد ما بين قائليه وبين البيئة الريفية، فإن كثيرا من هذا الشعر الريفي قد بلغ الكمال لأن قارضيه كانوا يسكنون الريف ويحبونه فيصدرون عنه صدور الطبع لا عن تقليد وصناعة. وقد ظهر الشعر الريفي في الآداب الأوروبية الحديثة في أربعة ألوان:

أما اللون الأول فكانت فيه «أناشيد الرعاة» قصائد قصارا تحمل طابع «ثيوقريطس» و«فرجيل» وقد دام هذا اللون زمانا طويلا، وهو يكثر جدا في الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات، وأشهر أناشيد الرعاة في هذا الأدب عندئذ هو قصيدة «سبنسر»

122

وعنوانها: «تقويم الرعاة» كتب فيها اثني عشر نشيدا، كل واحد يصف شهرا من شهور السنة. ولئن كان «سبنسر» مقتفيا في قصيدته تلك أثر الآداب الكلاسيكية القديمة، إلا أنه عبر فيها عن الروح الإنجليزية أصدق تعبير، ثم ترى في القرن الثامن عشر «جون جاي»

123

في قصيدته: «أسبوع الرعاة» يستخدم هذه الأناشيد الريفية ليصور فيها حياة الفلاح الإنجليزي في جده وشرفه وإخلاصه. والصورة الثانية التي شهدها الشعر الريفي، هي امتداد الحوار القصير حتى أوشك النشيد أن يكون رواية تمثيلية قصير. وخير مثال لهذا في الأدب الإيطالي هو قصيدة «أمنتا» للشاعر «تاسو»،

124

وفي الأدب الإنجليزي قصيدة «الراعي الحزين» ل «بين جونسن»،

125

وفيها عبر الشاعر عن روح الغابة الإنجليزية ورواية «الراعية الوفية» للشاعر «جون فليتشر»،

126

الذي استوحى فيها شعر «تاسو» والأساطير اليونانية.

واللون الثالث هو قصة نثرية خيالها شعري، كما في رواية «أركاديا» للكاتب الإيطالي «سانازارو»،

127

وعلى أساسها كتب الكاتب الإنجليزي «فلب سدني» روايته «أركاديا» في أسلوب مزوق مزخرف لا يدنيه من أوساط أهل الريف، بل لا يدنيه من أية طائفة أخرى غير طائفة الأدباء؛ والأدب الريفي النثري الذي يعنينا هو القصة العاطفية التي تصور أهل الريف، مثل قصص «جورج ساند» في فرنسا و«توماس هاردي» في إنجلترا وقد لا يكون هذان الكاتبان متأثرين بثيوقريطس، ولكنهما مع ذلك ينخرطان في سلك «أدباء الريف»، لأن رعاتهم صور حقيقية لأهل الريف.

واللون الرابع للأدب الريفي - وهو أعلاها في الروح الشعرية يتمثل أبرع تمثيل في قصيدة «ليسيداس» للشاعر «ملتن»

128

وقصيدة «أدونيس» للشاعر «شلي»

129

فهنا يرثي الشاعر صديقا له مات، فيصور نفسه وصديقه شخصين يونانيين، ويشيع في القصيدة روحا ريفية. ونرى «ملتن» في قصيدته المذكورة يرثي صديقه «كنج» - وهو من يطلق عليه اسم ليسيداس - فيقول عن نفسه وعنه إنهما: ... أرضعا رحيق تل واحد

وأطعما سويا قطيعا واحدا، إلى جانب الينبوع والظل والجدول.

قال ذلك ليعبر عن أنهما كانا طالبين زميلين في الجامعة، وبعد فالأرجح أن هذا اللون من الشعر قد ذهب زمانه، ولن يعود إلى الأدب الحديث عظيما كما كان. (3-5) الرواية المسرحية عند اليونان

نشأت الرواية المسرحية عند اليونان - أول ما نشأت - في احتفالات دينية كانت تقام تكريما للإله «ديونيسوس»

130

إله الإيماء والإثمار وبخاصة العنب والخمر، فكانت العادة - فيما يرى بعض المؤرخين - أن يقوم نفر في تلك الاحتفالات، ويظهرون على نشز وسط قومهم على هيئة البشر في نصفهم الأعلى، وصورة الماعز في نصفهم الأسفل، فيمثلون أدوارا ويديرون حوارا. ومن هذه البداية الساذجة تكونت آخر الأمر الرواية المسرحية على أيدي جماعة من فحول الشعراء؛ ومن هذه الأمساخ التي كانت تظهر بين الناس اشتق اليونان كلمة أطلقوها على المأساة، فلفظة «تراجيدي»

131

أي المأساة مشتقة من لفظة الماعز ولفظة أغنية في مركب مزجي، على أن ذلك التطور قد تم بغير شك في قرون طوال.

وشعراء المأساة النوابغ عند اليونان ثلاثة، أولهم «إسخيلوس»

132

الذي بقيت لنا سبع روايات كاملة مما كتب، وقد بلغ ما كتبه سبعين مأساة تدور كلها حول موضوعات دينية أو أسطورية، شأنها في ذلك شأن سائر الروايات المسرحية عند اليونان؛ ففيها يصف الكاتب كيف ينزل الآلهة عقابهم ويصبون عذابهم على الناس جزاء وفاقا بما قدمت أيديهم من إثم، وما اعتزوا به من كبرياء، فوراء الآلهة إله أعلى، هو «القدر» يتربص بالناس الدوائر، وهيهات أن يفلت من براثنه أحد؛ فلئن كان اليونان ينظرون إلى الحياة أحيانا في شيء من التفاؤل والمرح، ولئن كان كثير من حكمائهم - مثل سقراط - قد نظر إلى الأشياء والأحداث نظرة باسمة بهيجة، إلا أن الفلسفة الأساسية التي أقام عليها كتاب المأساة فنهم كانت - على الجملة - قائمة على روح الجد والصرامة الخلقية، وهي في ذلك شبيهة بأدب «العهد القديم».

كان إسخيلوس جنديا حارب في الجيش الأثيني الذي هزم الفرس في «ماراتون»

133

هزيمة منكرة خلدها التاريخ، خلد فيها كيف تغلب فئة قليلة دولة قوية عريضة السلطان.

وكان لهذا النصر الباهر أثر عميق في شخصية إسخيلوس وفنه، فقد كتب رواياته في عصر يموج بذكر البطولة والأبطال على أثر هذا النصر العظيم، فصور فيها مزيجا من الإيمان الديني والزهو بالوطن والجنس.

ولا عجب، فقد كان بلده «إليوسس»

134

مركزا دينيا يحج إليه الناس زرافات يلتمسون لمشكلاتهم حلا عند معابدها، فنشأ إسخيلوس على عقيدة تملأ شعاب نفسه، وهي استحالة أن يفلت الإنسان من أيدي القدر أينما حل أو ارتحل، فلا حياة بغير عقيدة وإيمان.

أخرج إسخيلوس أول مسرحية له في سن السادسة والعشرين، وكان يقوم بدور في التمثيل كما فعل شيكسبير من بعده، وقد استقى مادة مسرحياته من أساطير قومه، وإنه ليعترف أن رواياته «فتات تناثر من مائدة هوميروس.» ولم يطرق إسخيلوس في كتبه موضوع الحب وما يؤججه في القلوب من عاطفة، إنما عني بالقوى العليا التي تدخل أصابعها في الحياة الإنسانية، فتدفعها هنا وهناك، رضي الإنسان أو غضب، وقد خلع على «القدر» و«الخوف» و«العدل» و«الظلم» صفات مشخصة جعلت منها أفرادا تتصرف وتروح وتغدو. وبلغ إسخيلوس في فنه حدا من السمو لم يألفه اليونان من قبل، فألقي في روعهم أن الآلهة توحي إليه وحيا مباشرا، وتروي عنه الأسير أنه كلف في يفاعته حراسة كرمة فغلبه النعاس واستغرق في النوم فهبط إليه «ديونيسوس» وأمره بكتابة مسرحياته، فلما استيقظ شرع يكتب وأصابه التوفيق من فوره. وقد قال عنه سوفوكليس

135 - وهو منافسه العظيم - إنه أجاد الرواية ولكن بغير وعي منه، يريد أنها تصدر عنه بغير تعمد وتدبير. وقال بعض معاصريه إنه كان يكتب كتبه وهو مخمور؛ قيل عنه هذا وذاك، لأنه بلغ من العبقرية في الإنشاء والإبداع حدا دهش له معاصروه، فلم يسعهم إلا أن يلتمسوا له تعليلا خارقا لمألوف البشر.

ونرجح أن تكون رواية «برومتيوس المصفد»

136

أجود رواياته السبع الباقية، وهي الوسطى من ثالوث روائي ألفه إسخيلوس .

فأما أولاه. فرواية «برومتيوس حامل النار».

وأما الثالثة فهي «بروميتوس الطليق»، وقد ضاعت الأولى والثالثة، وبقيت لنا الوسطى التي نلخصها فيما يلي:

يسيء برومتيوس إلى زيوس، فيأمر هذا إلها من أتباعه هو «هفيستوس»

137 - إله النار والحدادين - أن يشد برومتيوس إلى صخرة عاتية؛ فقد كان زيوس حديث عهد بإنشاء أسرة له في السماء، ثم شاءت إرادته أن يمحو البشر من وجه الأرض ليفسح مجالا لمخلوقات جديدة أرق وألطف؛ فيثور برومتيوس على مشيئة الإله الأعلى زيوس؛ لأنه يحس نحو الإنسانية عطفا وحبا، ولا يريد لها هذا الدمار والفناء الذي قضى به زيوس، فسارع ووهب الإنسان نعمة النار وعلمه كيف يشعلها، فكان ذلك أقدم ما عرف الإنسان من فنون الحياة، ثم علمه النجارة والزراعة والطب والملاحة، فكان عذابه عند زيوس ذلك العقاب الشديد الذي ذكرناه. وقد شاءت عزة برومتيوس عندما شد وثاقه إلى الصخرة ألا يتألم أو يتكلم أمام حارسه «هفيستوس»، ولكن لم يكد يمضي عنه حارسه حتى صاح برومتيوس بالأرض والشمس أن تنظرا كيف أساءت إليه الآلهة وإنه لإله من بينهم:

ها أنا ذا مصفد في مكاني، أنا إله منكود الطالع،

ها أنا ذا أناصب زيوس العداء.

ويمقتني كل من تناله قوته، وإنه على كل شيء قدير، وذنبي أني شديد الحب للإنسان.

وتفد عرائس البحر إلى برومتيوس زائرة فينبئها أنه يعاني الآلام المبرحة لأنه أراد الخير بالإنسان، لكن برومتيوس في محنته تلك لم ييئس، فلا يزال يلمع في أفق حياته بصيص من الأمل، وذلك أنه يعلم - دون غيره - أن قضاء محتوما يتربص الدوائر بزيوس الإله، وسينزل به من ذروة سلطانه إلى أسفل سافلين. فتبلغ هذه النبوءة السيئة مسامع زيوس، ويرسل «هرميس»

138

يستفسر من برومتيوس عن تفصيل الأمر، لكن برومتيوس يمسك عن الجواب، فيتهدده هرميس مذكرا إياه كيف نزلت به النوازل حين أعلن على ربه العصيان، لكنه يجيب:

لن أرتضي الرق لهذا العقاب بديلا

فالكرب عندي خير من أن أعيش ذليلا.

فما هي إلا أن تنصب على الثائر ألوان العقاب، فيرسل الله نسرا جارحا ينهش لحمه نهشا، وهنا تنشق الأرض وتغوص الصخرة التي شد إليها برومتيوس إلى أعماق الهاوية.

وقد روى المؤلف في الرواية الثالثة من ثالوثه المسرحي أن برومتيوس وزيوس قد وصلا إلى اتفاق بينهما وانحسم الخلاف.

ولعل الحكمة التي قصد إليها الكاتب هي أن الآلهة كانت في بداية الأمر تريد أن تأخذ الإنسان بالقانون الصارم، لكنها بعد جذب وشد، رأت أن تخفف من حدة القانون الذي تفرضه على الإنسان، فأصبح على نحو ما يرى قانونا مقبولا معقولا يجمع بين العدل والرحمة، والشدة واللين، والجبر والاختيار.

وإذا استثنينا برومتيوس، فإن أمتع شخصية خلقها إسخيلوس في مسرحياته هي «كليتمنسترا»

139

في روايته القوية «أجاممنون»، فهي امرأة صلبة العود شديدة المراس؛ يشبهها النقاد بشخصية «الليدي مكبث»

140

عند شكسبير، فكانت كيلتمنسترا لا تخشى أن تجهر بما تراه الحق في وجه الآلهة والناس، وقد قتلت زوجها «أجاممنون»، ولم تحس على فعلتها أسفا ولا ندما، ولم يعتورها ضعف أو خور، فكأنما هي فيما فعلت يد «القدر» ورسول «العدل»؛ فشخصية أجاممنون ممقوتة، ولذا فغدر زوجته به لم يعد ما هو جدير به، لكن ذلك لا يبرر جريمتها الشنعاء، ولا يشفع لها إذا جاء يوم الحساب، لذلك يدبر «القدر» أن ينتقم ابنها «أورستيس»

141

لأبيه من أمه فيقتلها.

فتتعقبه الآلهة بالعقاب، ولكنها تعود - في رواية أخرى للكاتب - فتعفو عنه.

فكأنما أراد إسخيلوس أن يقرر مذهبه وهو أن الخطيئة لا بد أن تلقى جزاءها قبل العفو عنها.

وأعظم تجديد جدده إسخيلوس في الرواية المسرحية أنه أدخل أكثر من ممثل واحد على المسرح في وقت واحد، لأنه بذلك هيأ الظروف للمحاورة التي هي ركن أساسي في المسرحية.

ولسنا ندرى - على وجه التحقيق - كيف كان بناء المسرح عند اليونان في عهد ازدهار الرواية المسرحية، ولا كيف كان ممثلوهم يمارسون صناعتهم المسرحية، إذ لم يبق لنا أثر لمسرح بني في القرن الخامس قبل الميلاد نستشهد بمعالمه، فمسرح ديونيسوس الذي كشف عنه في النصف الأخير من القرن التاسع عشر بسفح الأكروبول بأثينا لم يتم بناؤه إلا في القرن الرابع ق.م.

ولكنا نرجح أنهم بلغوا في ذلك من الدقة مبلغا عظيما، وإلا فكيف استطاعت الجوقة في رواية إسخيلوس؛ «برومتيوس المصفد» أن تمثل عرائس البحر سابحة في الهواء، وتظل سابحة حتى يأمرها «برومتيوس» بالهبوط؟

وقد يكون تمثيلهم للمناظر على غير ما نفهمه في عصرنا الحديث، لأننا إن قرأنا الرواية اليوم وجدناها أقرب إلى أن تكون قصة تروى مصحوبة بغناء الجوقة منها إلى أن تكون عملا ومحاورة بين الممثلين يراه النظارة ويسمعونه كما يحدث اليوم. ومهما يكن من أمر، فقد كان لا يظهر على المسرح إلا ممثلان يتبادلان حوارا، يتبعه ويفسره غناء تنشده الجوقة التي كان الغرض منها أن تعلم من مشيئة الآلهة وتدبير القدر ما لا يعلمه البطل في تخبطه ومحنته. •••

وثاني شعراء المأساة النوابغ عند اليونان هو «سوفوكليس» الذي يصغر جيلا عن «إسخيلوس». وقد كانت عادة الشعراء أن يتنافسوا من أجل جوائز معينة تعطى للفائزين، وتنافس سوفوكليس وإسخيلوس في إحدى هذه المساجلات، فظفر بالجائزة سوفوكليس.

ومنذ ذلك الحين أخذ نجاحه يطرد اطرادا موصولا لا ينقطع، حتى وافته منيته حول سنة 400ق.م. وكانت سنه إذ ذاك تسعين عاما.

كتب «سوفوكليس» أكثر من مائة رواية، بقي منها سبع، وهي تدور حول الأساطير ومسائل الدين كروايات إسخيلوس، فلم يكن كتاب الرواية المسرحية من اليونان - وهم في هذا مثل شيكسبير وبعض الشعراء المحدثين - يزعمون لأنفسهم ابتكارا في الموضوع، بل كان موضع التنافس والفخر كيف يعالج موضوع معروف في قالب الرواية.

ومن أشهر رواياته «أوديب الملك» و«أنتيجونا» و«إلكترا» و«أياس».

142

وإن لهذه الروايات لأثرا كبيرا في الأدب الحديث،

143

وفي مسارح العالم أجمع.

ولعل قصة أوديب الذي قتل أباه وتزوج من أمه عن غير علم، أن تكون من أروع وأبشع ما يراه الإنسان ممثلا على المسرح، ولا بد أن يكون أثرها أشد وقعا في نفوس اليونان منه في نفوسنا، لأنهم كانوا يعرفون القصة، فينظر المتفرجون في إشفاق إلى أوديب على المسرح يعمل غير عالم بما يخبئه له القدر من أحداث جسام.

إن ما كسبته المسرحية على يدي سوفوكليس، هو أنه حد بعض الشيء من سلطان الآلهة على سلوك البشر؛ فقد كان ما يقضي به الآلهة عند إسخيلوس، هو ما يرسم للإنسان سلوكه. أما سوفوكليس، فقد جعل الإنسان مسيرا بقدر هو نتيجة أعمال الإنسان نفسه إلى حد كبير.

وللمصادفة عنده قسط موفور في تحديد تلك الأعمال، فالإنسان عند سوفوكليس كائن مجيد نبيل، فترى أشخاصه يجاهدون ويرسمون لأنفسهم الخطط، وهم إذا جابهوا الكوارث، فإنما يجابهونها كما يواجه السباح الماهر موج البحر الهائج: يصارعه ويكافحه ما استطاع إلى الكفاح سبيلا.

ولنا أن نتخذ «أنتيجونا» نموذجا لفن سوفوكليس، فنحن نلخصها فيما يلي: شاءت إرادة «كريون»

144

ملك طيبة اليونانية

145

أن تظل جثة «بولينيس»

146

الذي قتل أثناء الهجوم على المدينة في العراء، لا يشق لها في جوف الأرض رمس تستقر فيه؛ فقد «أعلن الأمر ألا يدفن الشقي بولينيس ولا يبكي، وأن يترك - من غير أن يقبر أو تؤدى إليه الشعائر الدينية - نهبا لسباع الطير التي تتأهب لافتراسه.» لكن أنتيجونا أخت بولينيس تصمم على دفن أخيها على الرغم من أمر الملك. «أما أنا، فلا بد أن أواري أخي، فإذا أديت هذا الواجب، فما أجمل بي أن أموت، ولئن مت فإنما أنا صديقة لحقت بصديقها، سأؤدي واجبا عدلا ملؤه التقوى، لأن الوقت الذي سأقيم فيه بين الموتى أطول من الوقت الذي سأقيم فيه بين الأحياء.»

فقبض عليها أولو الأمر لعصيانها، وجيء بها بين يدي كريون، فلم تحاول إخفاء ما فعلت، بل أعلنت أمام الملك أنها كانت عالمة بأمره، مقدرة ما يترتب على عصيانها من نتائج:

كريون :

وكيف جرأت على مخالفة هذا الأمر!

أنتيجونا :

ذلك لأنه لم يصدر عن «زيوس» ولا عن «العدل» مواطن آلهة الموتى، ولا عن غيرها من الآلهة الذين يشرعون للناس قوانينهم، وما أرى أن أمورك قد بلغت من القوة مبلغا تجعل القوانين التي تصدر عنك أحق بالطاعة والإذعان من القوانين التي تصدر عن الآلهة الخالدين، تلك القوانين التي لم تكتب، والتي ليس إلى محوها من سبيل.

وبعد حوار طويل بين الملك وأنتيجونا، يقضي الملك أن تدفن الفتاة حية في غار صخري.

لكن أنتيجونا كانت خطيبة «هيمون»

147

بن «كريون»، فيتوسل هيمون إلى أبيه أن يعفو عن حبيبته، ولكن رجاءه يصادف من أبيه أذنا صماء. فيدور بين الابن وأبيه حوار غاية في القوة والحياة، وهو أقرب ما يكون شبها بالحوار في الرواية الحديثة:

كريون :

لن أسمح بأن تكون زوجا لك، إنها ستموت.

هيمون :

لئن ماتت فليتبعن موتها موت آخر.

كريون :

كيف! أتبلغ بك الجرأة أن تهددني!

هيمون :

أأهددك حين أحارب فيك عواطف ظالمة؟

كريون :

سأعلمك أن تكون أعدل في عواطفك وميولك!

هيمون :

لو لم تكن أبي لقلت إن عواطفك تضاد العقل.

كريون :

أيها العبد الدنيء تملكه امرأة، لا تثقل علي بلغطك.

هيمون :

أتريد أن تتكلم من غير أن تسمع؟

كذلك يجعل كريون نصيحة «تريسياس»

148

دبر أذنه، وتريسياس عراف ضرير، فينذر العراف الملك بأنه ملاق في سبيل عناده أشد ألوان العقاب.

تريسياس: «إذا فاعلم أنك لن ترى الشمس تطلع مرات دون أن تصاب بموت كائن أنت أبوه، دية لموت آخر، لأنك ألقيت في بطن الأرض كائنا كان يعيش على ظهرها، ولأنك أخزيت نفسك؛ حبست حيا في القبر، وخليت جثة بالعراء، بعيدا عن آلهة الموتى، في غير ما ينبغي لها من الشرف والمأوى.»

وينفذ أمر الملك في أنتيجونا، فيزهق هيمون نفسه بجوار قبرها، فتطعن أمه «يوريديس»

149

نفسها حزنا على موت ولدها، ويظل كريون «ذلك الأرعن الأحمق» يندب حظه دون أن يجد إلى جانبه من يواسيه.

والغاية الخلقية من الرواية تلخصه الجوقة في ختامها:

إن الحكمة لأول ينابيع السعادة، لا ينبغي أن نقصر في تقوى الآلهة. إن صلف المتكبرين ليعلمهم الحكمة بما يجر عليهم من الشر، ولكنهم لا يتعلمون إلا بعد فوات الوقت وتقدم السن.

150

وثالث نوابغ المأساة عند اليونان «يوربيدس»،

151

وهو أصغر من سوفوكليس بأعوام قلائل، وقد لبث الشاعران العظيمان نصف قرن يتنافسان أمام النظارة من اليونان، ولكن القدر كان أرحم بآثار يوربيدس منه بآثار زملائه، فاحتفظ للأجيال التالية بتسع عشرة من رواياته التسعين. وكان «يوربيدس» شاعر الحب بين كتاب المسرحية اليونانية، لأنه أدار كثيرا من قصصه حول هذا الدافع الإنساني.

ولم يكن الحب باعتباره حافزا للإنسان في سلوكه، مجهولا قبل يوربيدس. ألم يكن فرار «بارس» مع حبيبته «هلانة» هو الذي أثار حرب طروادة، ولكن «يوربيدس» هو أول من اتخذ عاطفة الحب وغيرها من العواطف الإنسانية محورا أساسيا في سلوك أشخاصه؛ فالناس من البشر في رواياته أهم من الآلهة، بل إنه حين يقص عن الآلهة وأشخاص الأساطير فإنما يطلق ألسنتهم بحديث هو أقرب شيء إلى حديث الناس في مضطرب الحياة؛ فقد كان «يوربيدس» أعرف الناس بالمجتمع اليوناني في عصره، عرف كم بلغت المدنية والفلسفة والثقافة العقلية والشك عند قومه، وكيف صرفهم هذا كله عن الإيمان الخالص الساذج بآلهتهم. وأدرك أنه إذا أراد أن يحرك العاطفة في نفوس نظارته، فليضرب على أوتار العواطف الإنسانية التي لا ترتكز على الدين؛ فهذه «ميديا»

152

الساحرة - إحدى شخصياته الروائية - يصورها في الظاهر كما صورتها الأساطير القديمة: ساحرة تقتل أبناءها انتقاما من «جيسن»

153

وتطير في عربة مجنحة، ولكنه يجري من الكلام على لسانها، ويثير من العواطف في قلبها، ما يجعلها امرأة معذبة من هؤلاء النسوة اللائي يصادفنك في الحياة.

كان يوربيدس يميل إلى العزلة، لأنه كان في نغمة عصره نشازا لا ينسجم مع ميول العامة من الناس، زاعما أنه يؤثر حياة الريف الساذجة على حياة المدينة المتحضرة. وقد كان في فنه مجددا، فكان تجديده ذاك وخروجه على التقليد المألوف موضع السخرية من شيخ الساخرين «أرستوفانس» الذي كان زعيما للرجعية وإماما، فقد كره كل جديد وسخر منه، لكن يوربيدس كان مر النفس، ضيق الصدر، يكره أن يكون أضحوكة الضاحكين:

وإن روحي لتمقت

أولئك الساخرين الذين يطلقون للسخرية عنانها

فتقتحم خطير الأمور وجدها.

ولعل ما زاد صدر الشاعر حرجا أنه تزوج مرتين، وكانت الزوجتان بعيدتين عن الوفاء؛ فغادر أثينا في أخريات أيامه ناقما ساخطا ليعيش في مقدونيا حيث ألف آخر رواياته وهي «كاهنات باخوس».

154

وقد قربه الملك إليه، فأثار ذلك غيرة في نفوس طائفة من رجال البلاط، فدبروا له فيما يزعم القدماء عددا من الكلاب الضارية تهاجمه وتفتك به فتكا مروعا ذريعا.

ولكن إن جاء شاعرنا نشازا في نغمة عصره، فقد كان متسقا، مع ذلك العصر من بعض الوجوه؛ ذلك أنه شاطر زمانه ما ساده من شك في الآلهة والعقائد، وكان شكه قائما على أساس خلقي، فقد رأى في الأساطير القديمة ما ينافي الأخلاق، لأنه إن كانت تلك الأساطير صادقة فيا ترويه عن الآلهة، فليست الآلهة - إذن - جديرة بالعبادة والتقدير، وإن كانت الأساطير كاذبة فقد انهدم بناء الديانة الإغريقية القديمة من أساسه، فإذا اتهمه أرستوفانس بعد ذلك بالإلحاد، فلم يتهمه زورا وباطلا؛ لكن يوربيدس يصر على أن الشك في الله أو الآلهة لا يعني فساد الأخلاق عند الشاك، ولا تعجب من مثل هذا الرأي يصدر عن شاعر يوناني؛ فالفضيلة عند اليوناني العريق تجتذب النفس بجمالها لا بثوابها.

وقد عني يوربيدس في رواياته بالتحليل الدقيق للشخصية الإنسانية، وبخاصة شخصيات النساء؛ وهذا الفهم العميق لأحوال المرأة ودوافعها النفسية هو الذي حدا ببعض الكتاب المحدثين أن يطلقوا عليه: «إبسن العصر القديم».

155

وخير مسرحياته هي «ميديا» التي كتبها في صدر شبابه حين اضطرمت في صدره جذوة الشك، والتهبت نفسه حبا في الحقيقة الخالصة.

وتبدأ الرواية إذ يكون «جيسن» قد ضجرت نفسه من رفيقته الساحرة «ميديا»، فتزوج من الابنة الوحيدة لملك كورنثة، وتمضي السنون ويبلغ جيسن سن الرجولة المكتملة، فيمل شواغل الحب ودواعيه، ويلمح فيها سخفا لا تحتمله النفس، فيصدف عنه ليقبل على شئون حياته بكل ما وسعه من عناية وجهد، وعندئذ تكون «ميديا» قد أدركت سن النساء وتمتلئ مقتا وبغضا؛ ويأمر ملك كورنثة بهذه الساحرة أن يطوح بها في المنفي بعيدا عن أرض الوطن ليخلو لابنته الجو فلا تتهددها «ميديا» ولا تناصبها العداء، لكنه يسمح لميديا بيوم واحد تقضيه في المدينة قبل نفيها. وها هنا نشهد لقاء مرا بينها وبين «جيسن» تكيل له اللوم والتأنيب كيلا لما أبداه نحوها من نكران للجميل.

ألم تكن هي التي عاونته حتى بلغ أوج المجد؟! ألم تكن هي التي أنجته من خطر كاد يورده موارد الهلاك؟! ألم تكن هي التي قتلت عمه «بلياس»

156

الذي هم باغتصابه؟ حتى إذا ما فرغت ميديا من تقريع جيسن قال رئيس الجوقة ما معناه:

إن القلوب إذا تنافر ودها

مثل الزجاجة كسرها لا يجبر

فيغضب جيسن ويثور في نفسه السخط كما يصنع الرجال إذا سلقتهم ألسنة النساء الحداد:

وددت لو شاء الله،

لنا نحن أبناء الفناء أن ننبت الأجنة،

في غير أجواف النساء.

لكن ميديا لم تكن المرأة التي تعفو وتغفر، فأخذت تدبر كيدها لتصب على أعدائها النقمة والانتقام؛ فضرتها مصيرها الموت المحتوم، ولكن لا يكفيها أن يعدم جيسن الزوجة ويبقى له البنون. فلتدبر لقتل هؤلاء الأسباب حتى ينال ذلك من أبيهم، ولكنهم أبناؤه منها، فهل تفتك بفلذات كبدها انتقاما من غدر حبيبها؛ ولم لا تفعل، فهل للثأر عين تبصر؟

فلن أبقي لجيسن من ذريتي أحدا

تقر به عيناه، كلا ولن ينسل أحدا

من عروسه الجديدة.

وحينما تلتقي «ميديا» بجيسن مرة أخرى تتظاهر بالإذعان لما أراد لها القضاء من تعذيب، وتقع عيناها على أبنائها فتنفجر باكية، وتعود لها العاطفة الإنسانية أمدا قصيرا:

أواه! كم لقلبي الكسير فيكم يا بني من أمل عريض؛

فأنتم أساتي إذا ما دهم المشيب،

وبأيديكم العزيزة ستلفون كفني حول جثماني،

حين أرقد جثة باردة.

لكن هذه العاطفة الحنون سرعان ما تمضي، ويبلغها نبأ موت ابنة الملك فتأخذها نشوة السرور، وتصمم أن تورد أبناءها موارد الحتوف، وتستحث نفسها لتقترف ذلك الإثم الفظيع، ثم يتم لها ما دبرت. وكان جيسن قد أنبئ بما اعتزمته ميديا من قتل بنيها وبنيه، فطار برأسه الجنون، واندفع ينقذ الأبناء الأبرياء من تلك المرأة المجرمة الغشوم. وها هو ذا عند دارها يدق الباب دقا حتى ليكاد يدك البناء دكا، ولكن ماذا تجدي لهفته؟ لقد سبق السيف العزل ونفذ القضاء المحتوم في الأبناء.

وتبدو ميديا في عربة تجرها وحوش مجنحة وعلى سطحها رصت جثث أطفالها، فلما أبصرت جيسن نظرت إليه محنقة وتنبأت له بأفدح الخطوب.

أما أنت فانظر! إن الموت يدنو ليطبق عليك.

وحكمة الرواية أن فعل الشر يتبعه العذاب، فقد غدر جيسن بميديا وأنكر عليها ما صنعت له من جميل فأصيب بالكوارث تترى. وإن ميديا لتعترف أنها ضحية لقسوة قلبها. وقد يبدو للقارئ أو الرائي أن العقاب كان أفظع من الإثم، ولكن هكذا الحياة التي حرص يوربيدس على تصويرها.

وفي روايته «هيبوليتس»

157

ترى «فيدرا»

158

تقتل نفسها، لأن ابن زوجها لم يبادلها حبا بحب، وتلمس فيها امرأة تصلح شخصية لرواية في العصر الحديث،

159

ولكن على الرغم من حسن لفتات يوربيدس نحو العواطف الإنسانية في رواياته، مما جعله يمتاز عن أقرانه، فإن آيته الكبرى هي رواية «كاهنات باخوس» التي تدور كلها حول الآلهة وما قد ينزلونه من عقاب على بني الإنسان ملوكا كانوا أو صعاليك، إن حدثتهم النفس بمعارضة العقائد الدينية وشعائر العبادة.

فإن يوربيدس يعتقد عقيدة جازمة بأن العقاب لا مندوحة عنه للقصاص من الخطيئة.

فالإثم دين على الآثم ولا بد من الحساب ليتم للدين الوفاء، ولا عبرة بعد ذلك إن جاء العقاب أخف من الجرم أو أشد وأقسى.

ذلك هو يوربيدس الذي مجد فيه أرسطو العبقرية والنبوغ. ولما جاءته منيته لبس عليه سوفوكليس ثوب الحداد، كما حزن لفقده أهل المدينة جميعا.

وبموته انتهى عصر المأساة (أو التراجيدي) الذهبي عند اليونان. (3-6) الكوميديا (الملهاة)

معنى لفظ كوميديا في اليونانية - على الأرجح - «أغنية الكوموس»

Komses-Odia

والكوموس معناه عيد أو وليمة، والمقصود بذلك هو تلك الولائم والأعياد التي كانت تقام احتفالا بالإله باكوس (المسمى أيضا ديونيسوس) وهو إله العنب والخمر، وتلك أعياد مرحة كان اليونان يجتمعون فيها فيأكلون ويشربون ويغنون، سائرين في مواكب على رأسها مغن يغني وبقية أفراد الموكب يرددون غناءه أو يجاوبونه، وكان موسم تلك الأعياد في الشتاء، حول آخر يناير وأول فبراير، ففي ذلك الحين كان الفلاحون يحملون إلى آثينا دنان الخمر التي عصروها، ولهذا سميت تلك الأعياد بأعياد العصير.

فأعياد العصير إذن هي الأصل الشعبي للكوميديا الإغريقية، كما أن أعياد العنب كانت الأصل الشعبي للتراجيديا، فكلا الفنين قد نشأ من عبادة باكوس. التراجيديا بعد الجني، حول شهري نوفمبر وديسمبر عندما يأخذ العنب في الجفاف فيبكون إلهه، والكوميديا عندما يبيعون العصير فيعبثون ويمرحون. وإلى جانب هذين العيدين نشأت أعياد كبيرة في آثينا كانت تقام في شهر مارس، وكثيرا ما كان يجتمع فيها الفنان؛ التراجيديا والكوميديا. وقد بلغت من الشهرة في بلاد اليونان كافة مبلغا عظيما حتى إن الكثيرين من الإغريق كانوا يأتون من كافة المدن لحضورها.

كانت الكوميديا إذن تمثل في أعياد العصير، ولقد أصبحت فنا أدبيا بأثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، وكان ظهورها في هذا المظهر متأخرا عن التراجيديا بنحو ثلاثين أو أربعين سنة؛ إذ إن الثابت تاريخيا هو أن الدولة لم تنظم مسابقات الكوميديا إلا قبل سنة 458ق.م. بقليل.

ذلك في أثينا، ولكن الكوميديا قد عرفت في البلاد اليونانية الأخرى حتى إن أرسطو في كتابه عن «الشعر» ليحدثنا عن زعم الدوريين - وهم أحد شعوب الإغريق - أنهم خالقو الكوميديا، زعم ذلك أهل «ميغارا» قائلين إن الكوميديا قد نشأت عندهم في القرن السادس قبل الميلاد عندما وصلوا في مدنيتهم إلى الحكم الديمقراطي الذي مكن شعراءهم من أن يستخدموا هذا الفن الأدبي في النقد السياسي والاجتماعي، وهم يزعمون أن شاعرا لهم اسمه سيسريون

160

هو الذي رحل إلى أثينا سنة 570ق.م. ناقلا إليها ذلك الفن، وزعم ذلك أيضا أهل صقلية، وزعمهم أقوى تاريخيا من زعم الميغاريين، فقد ظهر بالفعل في بلادهم شاعر كوميدي كبير هو إبيكارموس

161

الذي يضعه أفلاطون في قمة شعراء الكوميديا، كما يضع هوميروس على رأس شعراء الملاحم. ولقد أخذ هذا الشاعر يؤلف الكوميديات منذ سنة 486ق.م. فيما يروي القدماء. ولقد بلغ من ذيوع الصيت أن استدعاه حكام سيراقوصة إلى مدينتهم حيث استقر زمنا طويلا، وعاش فيما يقولون حتى بلغ التسعين من العمر وألف ما يقرب من أربعين كوميديا، ولكن مؤلفاته لسوء الحظ قد ضاعت ولم يبق لنا منها إلا فقرات صغيرة لا تكفي للحكم على فنه حكما شاملا، ومع ذلك فأرسطو يحدثنا أن إبيكارموس قد أحدث تجديدا خطيرا في الكوميديا إذ جعل لها موضوعا، أي قصة تشبه قصة التراجيديا، فأصبحت تتناول حادثة بعينها تعالجها في مراحلها المختلفة حتى تنتهي بها إلى حل. وبذلك أصبحت الكوميديا رواية مسرحية بعد أن كانت مكونة من عدة مناظر وأغان مفككة يرتجل معظمها. والظاهر أن إبيكارموس كان يأخذ موضوعاته من الأساطير ومن الحياة الواقعية على السواء، بل إنه ليبدو لنا من بعض الفقرات التي وصلت إلينا أنه قد عرف كيف يصف الحالات النفسية والخلقية بروح فلسفية تجعل منه في مجال الكوميديا شبيها ليوربيدس في ميدان التراجيديا، وربما كان هذا هو السبب في إدراج القدماء له في عداد الفلاسفة الفيثاغوريين.

وها هي فقرة يصف فيها شاعرنا «الرجل الطفيلي»: «أتناول العشاء مع أي إنسان يريدني. يكفي أن يدعوني أحد، بل وأتناوله مع من لا يريدني، فلا داعي للدعوة. وأنا على المائدة حاضر النكتة أضحك الجميع وأمدح مقدم العشاء، وإذا سولت لأحد نفسه أن يعارضه في شيء وقفت ضد هذا المعارض، وأخذت قتاله على عاتقي، حتى إذا أكلت وشربت ملء بطني انصرفت والمصباح بيدي لا يصحبني عبد. أسير وحيدا وسط الظلام وأتعثر أحيانا، فإن قابلت الحراس مصادفة حمدت الله إذا لم يقتلوني واكتفوا بأن يطوقوني بعصيهم. وعندما أصل في النهاية إلى منزلي وقد نضح جلدي أضطجع على الأرض الصلدة، ولكنني لا أستطيع أن أنام قبل أن يحدث النبيذ النقي أثره الطيب بوعيي.»

ولا شك أن مثل هذا الوصف يدل على نزعة واقعية تعتمد على الملاحظة المباشرة.

ولعل الكوميديا قد ازدهرت في صقلية قبل أن تزدهر في أثينا لوجود نوع من الأدب الشعبي عرف بتلك الجزيرة يشبه الكوميديا، ونعني به ما يسمى «حوار المحاكاة» وهو عبارة عن حوار واقعي بين فردين من أفراد الشعب: بين امرأتين أو بين رجلين يتبادلان فيه حديثا عاديا كالذي نسمعه كل يوم في الأزقة والحارات . ولقد وصلتنا أسماء كتاب صقليين برعوا في ذلك الفن خلال القرن الخامس قبل الميلاد. ولقد قلدهم فيما بعد شعراء الإسكندرية وعلى رأسهم ثيوقريطس نفسه. وقيمة هذا الفن إنما تأتيه من بساطته ورصده للحياة وتخيره للتفاصيل الدالة على النفوس وما يشغلها من توافه. وهو بذلك يعالج عقلية السواد الأعظم من الشعب كما يعالج الحياة في مظاهرها البدائية الشائعة؛ لهذا كان يكتب في أول الأمر نثرا ليكون أقرب إلى الواقع.

ويلاحظ أن سكان صقلية كانوا ميالين بطبعهم إلى السخرية والمرح والمحاكاة وكثرة الحركات المعبرة. لقد كانوا يحاكون كل أمر جدي ليحيلوه إلى سخرية، حتى ولو كان ذلك الأمر من الأساطير الدينية. وكانت لهم فيما يظهر مقدرة واضحة على الملاحظة والنقد، وكل هذه خصائص الكوميديا.

نشأت إذن الكوميديا بصقلية فنا أدبيا قبل أن تنشأ بأثينا، وكان فيما أحدثه إبيكارموس من تجديد أن جعل للكوميديا موضوعا كما كان لحوار المحاكاة الذي تحدثنا عنه أثر كبير في الوصول إلى مرتبة النضوج، ومع ذلك فلا شك أنها قد تأثرت أيضا بالتراجيديا الأثينية من حيث الموضوع والشخصيات والتمثيل. وأيا ما كان فالكوميديا في جملتها فن أثيني وإن كانت الدولة الآثينية قد ترددت طويلا في تنظيمها وإدخالها في الأعياد الرسمية. ولعلها كانت تخشاها لما فيها من نقد لاذع لرجال الحكم. ولقد حدث بالفعل أن قيدت الدولة من حرية شعراء الكوميديا، ولكن تلك القيود لم تدم طويلا، ولم يلبث هؤلاء الشعراء أن تمتعوا بحرية كاملة وإن لم يفلتوا دائما من المحاكمة أمام القضاء.

وللكوميديا بأثينا تاريخ طويل تطورت في خلاله وتغيرت روحها وموضوعاتها. ولقد كانت الكوميديا والفلسفة المظهرين الوحيدين للنشاط العقلي بأثينا بعد سقوط تلك المدينة العظيمة في يد المقدونيين، في النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد؛ إذ ذوت عندئذ كل فنون الأدب والتفكير فلا ملاحم ولا غناء ولا تراجيديا ولا خطابة ولا تاريخ، فلم يبق كما قلنا غير الفلسفة ثم الكوميديا.

وإذن فاستمرار الكوميديا حية مزدهرة بأثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، ثم خلال القرن الرابع - رغم انحطاط الفنون الأدبية الأخرى بل وانقراضها - قد أدى بذلك الفن إلى التطور ؛ ولهذا نرى مؤرخي الأدب اليوناني يقسمون الكوميديا الأثينية إلى ثلاثة أقسام: (1) الكوميديا القديمة. (2) الكوميديا المتوسطة. (3) الكوميديا الحديثة. (3-7) الكوميديا القديمة

هذه هي كوميديا القرن الخامس حتى سنة 400ق.م. وتمتاز هذه الكوميديا بأنها كانت سياسية أو شخصية؛ فهي تتخذ صيغة الحوار وتعتمد على قصة لا لتصور شخصيات ولا لتحلل حالات نفسية، ولكن لتنقد نظاما قائما، ولتسخر من حالة اجتماعية بذاتها، أو لتخرج شخصية من الشخصيات البارزة: لقد كانت أشبه ما تكون ب «الهجاء التمثيلي» وروحها روح هزل صراح؛ هزل لا يتحرج من أقبح الألفاظ، فهي مسرفة في الواقعية، ومع ذلك فقد استطاع أكبر ممثل لتلك الكوميديا وهو أرستوفان أن يعبر بذلك الهزل عن كثير من الحقائق، بل وأن يجمع إلى الهزل أرق الشعر؛ فلقد ترى جوقات كوميدياته تتكون من السحب أو الضفادع أو الزنابير، ومع ذلك تسمع تلك الجوقات تتغنى بأجمل الغناء. وهكذا يأتي الشعر مصاحبا لهزل الشخصيات الروائية فتدهش لمقدرة ذلك الشاعر العظيم على العبور من الشعر الرقيق إلى العبث المسف في هذا اليسر وتلك القوة. ولعل أغاني الجوقات في كوميديا أرستوفان هي التي أوحت إلى ناقد لاتيني كبير قوله عن الكوميديا القديمة: «لقد كانت الكوميديا القديمة الفن الأدبي الوحيد الذي احتفظ بنقاء اللغة الأتيكية ورشاقتها الأصيلة؛ فهي فصيحة فصاحة صريحة رائعة في نقدها للرذائل، مليئة بالقوة في الوصول إلى ما تريد. لقد امتازت بالعظمة والرشاقة والسحر، وفي ذلك تركزت خصائصها.» فهذا الحكم يصدق على الأجزاء الغنائية وعلى بعض الحوار، ولكنه لا يصف تلك الكوميديا وصفا شاملا إذ نجد فيها إلى جانب الرشاقة والعظمة القبح والإسفاف في اللفظ.

أكبر ممثل لتلك الكوميديا - كما قلنا - هو أرستوفان المولود حوالي سنة 450ق.م. ولد هذا الشاعر الموهوب لأبوين أثينيين من أصل حر، وكان لوالديه إقطاع صغير بجزيرة «إيجينا» يستغلانه فيقوم بأودهما. وقد عاش الشاعر منقطعا لفنه فكل ما نعرفه عنه إنما يتصل بذلك الفن، ومن كوميدياته نفسها استقى المؤرخون معلوماتهم عنه، وذلك لوجود عنصر في الكوميديا القديمة هو «الاستطراد» وفيه يتحدث الشاعر دائما عن نفسه وعن روايته وعما يريد أن يدلل عليه. ولقد كان أرستوفان مبكر النضوج، فمنذ سنة 427ق.م. أخذ يقدم للمسرح كوميدياته وكانت أولاها بعنوان «ضيوف هرقل» وهي مفقودة، ولكننا نعلم أن الشاعر قد هاجم فيها الاتجاه الذي أخذ يسود إذ ذاك تربية الشبان وتوجيههم نحو النقد الفلسفي للتقاليد القديمة؛ دينية كانت أو اجتماعية. وفي السنة التالية 426ق.م. قدم «البابليون» ونال بها الجائزة الثانية، وهذه الرواية أيضا مفقودة، ولكنا نعلم أنه قد هاجم فيها الزعماء الشعبيين وبخاصة كليون. ولقد قدم للمحاكمة من أجل تلك الرواية، ولم يستطع أن يفلت من العقاب إلا بعد مشقة كبيرة، ولكنه خرج من المحاكمة أشد إقداما وأحمى قلما، وقدم في سنة 425ق.م. رواية جديدة في «الأكارنيون» وهي أقدم رواية وصلت إلينا من رواياته. ولقد نال بها الجائزة الأولى، وفي تلك الرواية يعرض الشاعر قصة فلاح أتيكي مل الحرب (حرب البلبونيزيا التي كانت قائمة وقتئذ بين أثينا وإسبرطة) التي أكرهته على التخلي عن حقله والالتجاء إلى المدينة، ومن ثم فهو يريد السلام ولكنه يريده وحده، ولهذا نراه يعقد - وحده وباسمه الخاص - الهدنة مع الأعداء. ويصل الخبر إلى المحامين وهم الذين يكونون الجوقة فيسرعون إلى الرجل ليقتلوه كخائن، ولكن فلاحنا ينجح في أن يقنعهم بمزايا السلم، وبأنه كان على حق فيما فعل. ونراه عندئذ ينعم بكل خيرات السلم فيشتري ويبيع ويولم ويمزح، بينما الآخرون يتضورون جوعا ويصلون ويلات الحرب. وفي سنة 424ق.م. قدم رواية «الفرسان» وفيها أعنف هجوم على «كليون» خصمه اللدود، مع أن هذا الزعيم الشعبي كان عندئذ في أوج المجد بفضل انتصاراته الحربية. وفي سنة 423ق.م. قدم رواية «السحب» وهي من أشهر رواياته، وفيها يعود إلى نقد التربية الفلسفية. وقد اختلطت الفلسفة عنده بالسفسطة. ومن غريب الأمر أنه عد سقراط كبير السوفسطائية. وقصة الرواية تتلخص في أن فلاحا بسيطا نشيطا مقتصدا له ولد مسرف ما فتئ يبدد أموال أبيه حتى أثقلت الرجل الديون وعجز عن دفعها، فأراد أن يتعلم البلاغة معتقدا أنها الفن الذي يمكنه من العبث بدائنيه والإفلات من القضاة. وقد بلغه أن معلم هذا الفن هو سقراط الذي يمثله الشاعر محتالا كبيرا. وذهب الفلاح إلى سقراط ولكنه كان أصلد عقلا من أن يعي دروس الأستاذ، ولذلك أرسل ابنه بدلا منه، وتعلم الابن فن البلاغة وحذقه، ولكنه بدل أن يستخدمه مع القضاة والدائنين استخدمه مع أبيه يضربه ويعبث به ويقنعه بأنه هو المخطئ، وهذه هي مزايا التربية الجديدة التي تستطيع أن تجعل الحق باطلا والباطل حقا. وهاج الأب الفلاح وغلى دمه فأخذ نارا واتجه إلى بيت سقراط وأشعلها فيه. والسحب في الرواية هي التي تكون الجوقة، وهي تمثل الأبخرة التي يعبدها الفلاسفة. وبرغم قوة هذه الرواية لم ينل الشاعر بها غير المرتبة الثالثة، ولكنه مع ذلك قد أصاب نجاحا واضحا؛ إذ كانت روايته من الأسباب التي مهدت الرأي العام لقبول الحكم على سقراط بالموت بعد ذلك بخمس وعشرين عاما. ونحن اليوم لا نملك أنفسنا من الدهشة عندما نرى شاعرا كبيرا كأرستوفان يمثل أبا الفلاسفة في هذه الصورة الظالمة، وإنه لمما يسوء أن يتحمل الشاعر نصيبا في مأساة تلك الروح النبيلة الخالدة روح سقراط، وفي سنة 422 قدم الشاعر رواية «الزنابير» وموضوعها أن رجلا مسنا تطن من حوله الزنابير الذين يمثلون رجال المحاكم ولكن ابنه يأخذ في علاج داء أبيه، ومحاولات الابن في هذا السبيل هي التي تكون الجزء الأساسي من الرواية، ولقد شفي الرجل من دائه فتخلص من هموم المحاكم والدعاوى وراق له العيش، ومن هذه الرواية استوحى الشاعر الفرنسي راسين روايته الشهيرة «المتقاضون» وهكذا. ولكن ابتداء من سنة 414ق.م. تتتابع رواياته التي تمثل مرحلة ثانية في فن الشاعر؛ إذ أصبح أقل عنفا وأكثر بعدا عن الهجاء الشخصي، ففي تلك السنة قدم رواية «العصافير» وموضوعها أن رجلين أثينيين قد سئما معاناة العمل من الصباح إلى المساء فهجرا البشر ليعيشا مع الطير. وقد اتفق مزاجهما ومزاج الطير، واستطاعا حمل الطير على بناء مدينة جديدة معلقة بين السماء والأرض. وعندما يحاول الدساسون من رجال الأرض أن يشقوا سبيلهم إلى تلك المدينة يحال بينهم وبين ذلك بالضرب بالعصى. وأما الآلهة فعبثا تحاول السيطرة على تلك المدينة، وأخيرا يعقدون صلحا مع أولئك الآلهة ويقبل «زيوس» أن يتخلى عن السيطرة لأحد الرجلين.

والظاهر أن الشاعر قد قصد بهذه الرواية إلى المرح أكثر مما قصد إلى درس أخلاقي بعينه، وكل ما نستطيع استخلاصه منها هو مهاجمته للدساسين والمحتالين.

ويختتم الشاعر هذه الدورة برواية الضفادع وهي من أهم روايات أرستوفان، وفيها وصف كامل لفن يوربيد الذي كان قد مات فأخذ ديونيسوس القلق إذ لم يعد للتراجيديا من يمثلها فصمم على الذهاب إلى العالم الآخر ليعود بأحد شعراء التراجيديا، ولكن بمن يعود؟ هنا موضع الحيرة فالإله يتردد بين أسكيلوس ويوربيد وأخيرا يقرر تنظيم مسابقة بين الشاعرين اللذين يأخذان في مهاجمة أحدهما الآخر. وبذلك ينقد كل منهما شعر صاحبه نقدا دقيقا مفصلا من الناحيتين الأخلاقية والشعرية، وينتهي الأمر بأن يظهر يوربيد في مظهر السوفسطائي الذي أفسد التراجيديا وحط من المثل العليا وأنزل الاضطراب بالنفوس وساق إلى انحلال الأخلاق، وبذلك يفضل ديونيسوس أسكيلوس ويعود به إلى الأرض.

في سنة 404ق.م. كانت الهزيمة قد حلت بأثينا فسلمت لإسبرطة بما تريد فعم الحزن المدينة ولم يعد للمرح مكان، وهنا نرى أرستوفان يحد من مزاجه ويكتم من ضحكاته وقد تطور فنه فماشى الحالة الجديدة ولكنه لم يعد في قوته الأولى. وأقدم رواية بعد سنة الهزيمة هي «جماعة النساء» التي قدمها سنة 392ق.م. وفيها يعرض نساء أثينا وقد ثرن فسيطرن على مجلس الشعب وقررن الأخذ بالاشتراكية المطلقة فلا ملكية ولا أسرة، والذي يريده الشاعر هو إظهار نتائج اشتراكية كهذه، فلا ترى في الرواية نقدا لذوي الأمر أو هجاء لأشخاص، وإنما يريد الشاعر أن يهاجم شيئا لا وجود له، وإنما هو مجرد فرض وشبح فكرة؛ إذ ليس من الثابت تاريخيا أنه قد هاجم بذلك الفكرة التي سيقول بها أفلاطون فيما بعد، ونحن لا نعلم لتلك الفكرة وجودا تاريخيا في ذلك الحين. وفي روايته الأخيرة المسماة «بلوتس»

162

أي إله الذهب نجد نفس المنحى . وموضوعها أن أحد رجال أثينا قد عثر بإله الذهب الأعمى وقاده إلى معبد أسكلبيوس

163

إله الطب حيث شفي الإله، وذهب الرجل إلى منزله، وبذلك أثرى هو وجيرانه وعمهم البذخ، ولكن آلهة الفقر لم تلبث أن ظهرت لتدافع عن مزاياها، ولعل في ظهور تلك الآلهة ما يشير إلى مغزى الرواية، فأصل الثراء ليس الذهب وإنما هو عمل الإنسان، فلو أن الأرض امتلأت ذهبا وجلس الناس بجواره لماتوا جوعا وهم لن يأكلوا الذهب. ولقد كانت هذه الرواية فيما يظهر آخر رواية قدمها أرستوفان الذي يحكي أحد القدماء أن أفلاطون قد كتب على قبره «إن ربات الحجال عندما بحثن عن معبد لا يصيبه الفناء لم يجدن خيرا من روح أرستوفان فأوين إليها.» وفي الحق أن أرستوفان لم يكن شاعرا كبيرا فحسب، بل كان قوة اجتماعية لها خطرها. ولقد رأيناه يتناول المشاكل الكبيرة في عصره يدلي فيها بآراء لا تقف صحتها عند عصره بل تسري إلى كافة العصور، فتفضيل السلم على الحرب، ومهاجمة السفسطة الفلسفية، ومناهضة الاشتراكية وتجريح التهريج الذي يستخدمه الزعماء الشعبيون، كل هذه مشاكل إنسانية خالدة وأرستوفان بوجه عام رجل محافظ، وفي المحافظة التي لا تبلغ التحجر خير لا شك فيه؛ وذلك لما هو معروف من أن الحياة الاجتماعية لا يمكن أن تتماسك إذا تفككت التقاليد القديمة. (3-8) الكوميديا المتوسطة والكوميديا الحديثة

لقد رأينا في الكوميديا القديمة آثار التطور فروايات أرستوفان التي كتبها بين 426 و421 تغاير تلك التي كتبها بين 411 و404؛ إذ خفت حدة الشاعر وهدأت مهاجمته للأشخاص نوعا ما، وأخيرا جاءت روايتاه الأخيرتان «مجمع النساء» و«بلوتس» من منحى جديد، فهو لا يعالج فيهما نظما قائمة بل يتصور مجرد فروض كفرض الاشتراكية وفرض الثراء العام، ويبحث ما ينتج عن ذلك من مشاكل، وهذه هي خصائص الكوميديا المتوسطة التي يعتبر العلماء روايتي أرستوفان بدءا لها.

ولو أننا أضفنا إلى ذلك اختلاقا فنيا في بناء الكوميديا المتوسطة - هو خلوها من الجوقة ومن الاستطراد - لكمل لنا تعريف الكوميديا المتوسطة، فهي رواية تعالج مسائل فرضية يتصور الشاعر حدوثها ثم يعالج نتائجها كمشاكل الغنى والفقر والتطفل والغرور. وهي قد تستخدم لذلك الأساطير ترمز بها لما تريد كما قد تتصور بالخيال المواقف والأوضاع.

ونحن لسوء الحظ لا نملك شيئا من تلك الروايات وإن كنا نعرف أسماء بعض الشعراء المؤلفين مثل أنتيفانس الذي كتب فيما يقولون ما يقرب من 300 رواية أو يزيد، والذي توج بالنصر ثلاث عشرة مرة، ثم ألكسيس

164

الذي كتب 245 رواية وغيرهما كثير.

تطورت الكوميديا إذن من معالجة المسائل الواقعية إلى معالجة الفروض، وبذلك انتقلنا من الكوميديا القديمة إلى الكوميديا المتوسطة، ولكن التطور لم يقف عند هذا الحد، فلم تلبث الكوميديا المتوسطة أن أسلمت مكانها للكوميديا الحديثة وهي الكوميديا الأخلاقية النفسية التي تصف الحياة كما هي، وتصور الحالات الأخلاقية.

وإن كان هناك فرق في معالجة ما يسمى بالكوميديا المتوسطة وما يسمى بالكوميديا الحديثة لتلك الموضوعات فإنه يقوم كذلك في جودة العلاج فالكوميديا الحديثة هي التي وصلت بتلك الشخصيات إلى حد الصور الأخلاقية، وإن لم تصل إلى مستوى كاتب كبير كموليير في القرن السابع عشر، وذلك لأن هذا الشاعر الفرنسي الكبير لم يصور شخصيات واقعية فحسب، بل صور شخصيات نموذجية؛ صور البخيل والمنافق وكاره البشر ... إلخ، على نحو يجعل الرجل البخيل يتعرف صفاته المستترة في نفسه على ضوء الصورة التي رسمها موليير «هار يجون» مثلا. وهذه مرحلة لم يصل إليها الإغريق قط. لقد صور الإغريق الواقع ولكنهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى الواقع النفسي الدفين ولا أن يحسموا خفايا القلوب.

ثم إن الكوميديا الحديثة قد استغلت موضوعا لا نجد له أثرا في الكوميديا القديمة، وهو موضوع الحب. شاب يحب شابة يجهل كل شيء عنها، وتقوم عدة صعوبات في سبيله، كأصل الفتاة أو فقرها أو إرادة أبيها، ولكن الفتى يستخدم عبدا ماكرا في تذليل الصعوبات، ويتناوب الشاب النجاح والإخفاق، والأمل واليأس، وأخيرا يكتشف أن الفتاة من أصل حر أو أنها قد ورثت، أو يغير الأب رأيه لسبب من الأسباب وينتهي الأمر بالزواج. وفي مثل هذه الموضوعات نرى الروح الأبيقورية التي كانت منتشرة عندئذ تغزو المسرح، وهي واضحة لا في الناحية الخلقية أو العقلية فحسب بل وفي الناحية الفنية، ناحية الحبكة المسرحية؛ فكثير من الروايات تنتهي بفضل المصادفة البحتة كتعرف شخص حقيقة آخر أو حدوث أمر غير متوقع، والأبيقوريون - كما نعلم - قد قالوا بالمصادفة نتيجة لإنكارهم وجود إله يحكم سير العالم. ومع ذلك فلا يجوز أن نتوهم أن المسرح قد أخذ يطبق الأبيقورية كمذهب شامل.

لقد كانت للكوميديا القديمة مثلها العليا: الشرف في السياسة والبساطة في الخلق؛ فنقدها إذن كان نقدا سليما قويا. وأما الكوميديا الحديثة فأصبحت لا تهتم بالنقد قدر اهتمامها بإثارة الضحك، بفضل إظهارها ما في البشر من مواضع ضعف ومضحكات وشهوات لا يحكم قيادها.

وأكبر ممثل لتلك الكوميديا الحديثة هو «مناندر»

165

الذي قلده فيما بعد كبار مؤلفي الكوميديا من اللاتين كتيرانتيس

166

وبلوتس

167

بل إن بعض رواياتهما ليست إلا ترجمة عن الشاعر الإغريقي.

ولد مناندر بأثينا سنة 340ق.م. ودرس بنوع خاص يوربيد، وتعرف فيما يقولون بأبيقور، وقدم أول رواية له سنة 322ق.م. أي بعد موت الإسكندر بعامين. والظاهر أن الحوادث المؤلمة التي اجتاحت بلاد الإغريق في ذلك الحين لم تؤثر كثيرا في شاعرنا الأبيقوري المستهتر، إذ أولع بإحدى الفتيات وعاش معها في بيريه ميناء أثينا، وعبثا حاول بطليموس سوتير أن يغريه بالمجيء إلى مصر.

ولقد جعل كل همه كتابة الكوميديات حتى أنهم ليقولون إنه قد كتب مائة كوميديا خلال ثلاثين عاما وكانت وفاته سنة 292ق.م. بعد أن نال الجائزة في ثمان مسابقات.

ولقد كنا لا نملك مما كتب مناندر إلا فقرات صغيرة ولكنها غنية بمعانيها حتى كانت سنة 1907م فاكتشفت بمصر أوراق بردي عليها أجزاء طويلة من ست روايات لذلك الشاعر العظيم وهي الحارث، المتملق، البطل، التحكيم، السامية (نسبة إلى ساموس)، المرأة المقصوصة الشعر.

وأطول قطعة وصلتنا تبلغ خمسمائة بيت وهي من رواية «التحكيم» وهي تمكننا من استقراء خصائص الشاعر ومواضع قوته، من غريزة تمثيلية قوية، إلى مقدرة على وصف الحالات الأخلاقية، إلى تملك لوسائل الإثارة العاطفية، مجتمعة مع المهارة في تحريك الضحك، وأخيرا نلمح في تلك القطعة اتجاهه نحو المزج بين معارك الشهوات ومبادئ الأخلاق وإضاءة أحدهما الآخر.

وثمة خاصية أخرى امتدحها جميع النقاد القدماء عند هذا الشاعر وهي تفوقه في القصص وفي خطب الدفاع، ولدينا فصل من فصول «التحكيم» يؤيد ما ذهب إليه هؤلاء النقاد، وهو يعرض عبدين أحدهما راع والآخر فحام، يحتكمان إلى حكم وذلك أن الراعي كان قد عثر بطفل أعطاه للفحام، ولكنه احتفظ بما كان على الطفل من حلي دليلا على أنه هو الذي عثر على الطفل وأعطاه للفحام، ويأبى الفحام إلا أن يطالب بالحلي. وأخيرا يحتكمان إلى حكم كما قلنا، ويعرض كل منهما وجهة نظره ويدافع عنها دفاعا قويا. وموضع قدرة الشاعر في هذين الدفاعين هو في الكيفية التي استطاع بها أن يظهرنا على خلق كل من الرجلين بنوع دفاعه وطبيعة الحجج التي يدلي بها. وما ننتهي من قراءة الدفاعين حتى نحس أننا أمام رجلين من أبناء الشعب وأن لكل من الرجلين صفاته، فالفحام رجل أثر، به جشع مادي ولكنه مخلص مؤمن بحقه. والراعي رجل كريم خيالي مثالي في سذاجة، وما نظن أن تلك القدرة العجيبة على تصوير الشخصيات بخطب يقولونها قد استطاعها عدد كبير من شعراء الإنسانية وكتابها.

هذه هي التخطيطات العامة للكوميديا الإغريقية، نخلص منها بأن هذا الفن قد نشأ كما نشأت كافة الفنون الأدبية عند الإغريق نشأة شعبية، حتى إذا توفر عليه الشعراء أصبح فنا أدبيا. ولقد كان في أول أمره مختلطا بالأساطير والعبادات ولكنه لم يلبث أن تخلص منها ليصبح نقدا سياسيا وشخصيا، نقدا يقصد منه إلى مهاجمة الواقع وتغييره والدعوة إلى ما يخالفه. وهذه هي الكوميديا القديمة، وبتراخي الزمن وتغير الحالة السياسية والعقلية في أثينا بسبب الهزيمة التي لحقت بتلك المدينة العريقة في حرب بلبونيزيا ثم سقوطها في يد المقدونيين، تغير منحى الكوميديا، ولعله قد حد من حريتها فلم تعد تنقد الواقع وتريد تغييره، ولم تعد تهاجم الشخصيات البارزة وتعمل على هدمها، بل أصبحت تكتفي بتصوير ذلك الواقع كما هو ، وقد عدلت عن التجريح إلى تصوير حالات خلقية أو شخصيات روائية. وهذه هي الكوميديا الحديثة التي لم تكن الكوميديا المتوسطة إلا تمهيدا لها. وكانت الروح الفلسفية قد أخذت تنمو أيام الكوميديا الحديثة، ولهذا جاءت ملاحظات كتابها النفسية أنفذ وأعمق، وإن تكن روح الضحك الصراح قد ضعفت كما ضعفت جرأة الشعراء وقوة نفوسهم وحرصهم على خير مدينتهم. ومن المعلوم أن الكوميديا من بين فنون الأدب فن يمكن أن يوضع في خدمة الحياة الأخلاقية والاجتماعية للدول دون أن يفقد شيئا من قيمته.

كانت الكوميديا القديمة إذن نقدا سياسيا شخصيا، وأصبحت الكوميديا الحديثة روايات أخلاقية وبقيت مرحلة أخيرة لم يصل إليها الإغريق ولا اللاتين هي مرحلة الكوميديا ذات الشخصيات النموذجية، وهذه كما أشرنا من قبل هي المرحلة التي حققها موليير أكبر شعراء فرنسا بل أكبر شعراء الكوميديا في العالم. (4) النثر عند اليونان (4-1) التاريخ والمؤرخون

نشأة النثر: لم يظهر النثر الفني عند اليونان إلا متأخرا، وبعد أن ظهر الشعر بقرون؛ فليس لدينا منه - سواء في الفلسفة أم في التاريخ - نصوص أقدم من القرن السادس قبل الميلاد. أما الشعر فقد سبق أن قلنا إن الإلياذة والأوذيسية يرجعان إلى القرن العاشر قبل الميلاد تقريبا.

ولقد حاول المؤرخون تعليل تلك الظاهرة، فرجعها بعضهم إلى الجهل بالكتابة وعدم وجود البردي. ومن المعلوم أن وزن الشعر يساعد على روايته الشفوية، كما يحفظ تلك الرواية من الاضطراب. وأما النثر فليس من السهل حفظه. ولكن هذا التعليل قد ثبت عدم صحته؛ فالإغريق كانوا يعرفون الكتابة قبل ذلك بزمن طويل، والدليل على هذا يمكن استنتاجه من طبيعة الكتابة الإغريقية ذاتها، فهي مأخوذة عن الكتابة الفينيقية، وقد كانت العلاقات قائمة بين الإغريق والفينيقيين منذ أقدم الأزمنة، ثم إن هناك نصوصا قديمة نثرية كتبت على بعض الآثار. وأما عن البردي فنحن نعلم أن الإغريق كانوا يكتبون على الجلود قبل أن يعرفوا البردي، وبذلك حدثنا هيرودوت.

وإذن فهذا التعليل غير صحيح، وسبيل فهمنا لتلك الظاهرة هو أن ننظر في طبيعة الشعر وطبيعة النثر وفي موضوعاتهما ، فنرى أن أقدم الشعر كان قصصا للماضي؛ لماض بعيد يتخذ شكل التاريخ وهو في باب الأساطير أدخل، ولكن الإغريق آمنوا بأنه تاريخ، وكانت النفوس ساذجة لم تستيقظ فيها بعد ملكة التفكير أو النقد، ومن ثم قامت الملاحم مقام التاريخ، والشعر أنسب شيء لهذه الأساطير وهذه الملاحم التي يسودها الخيال. ولم يشعر أحد بحاجة إلى كتابة التاريخ الدقيق نثرا. وأما الفلسفة فمن الواضح أن نشأتها لم تكن منتظرة قبل القرن السادس، وهي دليل نضوج عقلي وتفتح لفهم حقائق الوجود.

ولقد كانت نشأة النثر بأيونيا في آسيا الصغرى، حيث كانت نشأة الشعر أيضا؛ وذلك لأن تلك البلاد - لاتصالها بالحضارات الشرقية القديمة ولتوفر أسباب الحضارة المادية بها - كانت أسبق من بلاد الإغريق الأوروبية في كافة مظاهر النشاط العقلي؛ ففيها ظهرت الفلسفة وفيها ظهر التاريخ، وهذان هما المظهران الأولان للنثر.

وكان بعد ذلك أن استولى الفرس على كثير من بلاد الإغريق بآسيا الصغرى فخف لنجدتهم إغريق أوروبا، وكان لأثينا في ذلك الفضل الأول، فأصبحت تلك المدينة المجيدة أقوى مدن اليونان وأغناها وأشدها منعة وأوفرها حرية، وإذا بالنثر يزدهر بها بعد أن ازدهر الأدب التمثيلي، وإذا بالأثينيين يكتبون في الفلسفة والتاريخ ويضيفون إليهما الخطابة. ومن ذلك الحين لم يكتب نثر قط في غير اللغة الأتيكية - لغة مقاطعة أثينا - ولقد استطاعت أثينا - مدينة بركليس - أن تجمع كل ألوان الأدب والتفكير لأنها أصبحت زعيمة العالم الإغريقي كله ما يقرب من نصف قرن، وذلك في المدة التي تقع بين الحروب الميدية وحروب البيلونيزيا خلال القرن الخامس قبل الميلاد.

نشأ النثر إذن بأيونيا في القرن السادس قبل الميلاد، ونقتصر هنا على الحديث عن النثر التاريخي؛ فنلاحظ أنه في أول الأمر كان يتناول نفس الموضوعات التي تناولها الشعر القصصي، وأنه لا يكاد يفرق بينه وبين ذلك الشعر شيء غير الوزن، فهو قصصي نثري، بل إن لغته ذاتها لم تخل من تأثر بلغة الشعر.

لقد سبق المؤرخين في أيونيا جماعة من الكتاب يسمون اللوجوجراف

168

أي الكتاب الناشرين، معارضة للميثوجراف

169

أي الشعراء من قصاص الأساطير. وكان هؤلاء الناثرون يتحدثون عن نشأة المدن القديمة وتاريخ بنائها وعن الأبطال الذين فيها والآلهة التي هيمنت على مصائرها، وعن المعارك الخارقة التي كسبها أبناؤها. كانوا بالجملة يكتبون نثرا عن موضوعات تشبه موضوعات الشعر القصصي. ولقد كان في كتابات هؤلاء الناثرين ما مهد السبيل لظهور المؤرخين، فكتاباتهم وسط بين الشعر القصصي وكتب التاريخ التي يعتبر كتاب هيرودوت أقدم أنموذج لها. (أ) هيرودوت

ولد هيرودوت - أقدم مؤرخي الإغريق في آسيا الصغرى - بمدينة هليكرناسوس سنة 480ق.م. وكانت تلك المدينة الدورية الأصل قد اصطبغت في ذلك الحين بالحضارة الأيونية اصطباغا تاما، فأصبحت لغتها اللغة الأيونية.

ولد هيرودوت من أسرة عريقة، كان من بين أفرادها من أولعوا بالتواريخ القديمة وبقراءة الشعراء واحترام التقاليد الدينية. وكانت هليكرناسوس - مسقط رأسه - قد وقعت في قبضة الفرس الذين لم يكف سكان المدينة عن مناهضتهم، وكان مؤرخنا من أنصار الحزب القومي الذي لم يلبث رئيسه - وهو أحد أقرباء هيرودوت - أن قتل، فنفي هيرودوت إلى جزيرة ساموس لمدة قصيرة، ثم عاد إلى وطنه، ولكنه لم يكد يستقر حتى نفي مرة ثانية سنة 454ق.م. فقام عندئذ بسياحاته الطويلة التي زار فيها مصر وجابها حتى معبد الفيلة، كما زار الفرس وأوغل فيها حتى وصل إلى ما بعد سوس، وفي الشمال سافر حتى وصل إلى البوسفور فيما يحدث هو عن نفسه، ونضيف إلى ذلك أنه قد زار أيضا آشور وفينيقيا وطبرق وقبرص، وأنه قد استقر في آخر حياته بجنوب إيطاليا في مدينة توريم

170

الإغريقية حيث مات فيما يرجح سنة 425ق.م.

وأما أثينا فقد زارها بلا ريب غير مرة، وأقام فيها إقامات طويلة، وهم يحدثوننا أنه قد قرأ في سنة 446ق.م. جزءا من كتابه في الساحة العامة بتلك المدينة فنال إعجاب السامعين، وكافأته المدينة مكافأة مالية كبيرة، وفي سنة 440ق.م. حياه الشاعر سوفوكليس تحية شعرية جميلة عند عودته إلى مدينة بركليس.

لقد كتب هيرودوت كتابه عن الحروب الميدية،

171

وهي الحروب التي نشبت بين الفرس والإغريق من سنة 492ق.م. إلى سنة 449ق.م . ولهذا سمي كتابه «عرض للبحث»

172

أي بحثه عن نشأة تلك الحروب وأسبابها ووقائعها ونتائجها، وذلك فيما يقول: «لكيلا تمحى ذكرى وقائع الماضي بمضي الزمن، ولكي تظل أعمال البطولة التي قام بها الإغريق والبرابرة عنوان المجد، وأخيرا لكي يعلم اللاحقون لماذا قامت تلك الحرب.» ولكنه في الحقيقة لم يقتصر في كتابه على تلك الحرب، بل تناول الحديث عن الدول التي اشتركت في تلك الحروب حديثا مفصلا استطرد فيه إلى ذكر ماضيها ونظمها وأخلاقها، كما وصف بلادها أو البلاد التي اتصلت بها تاريخيا عن طريق المحالفة أو الغزو؛ فهو في الواقع لم يتحدث عن الحروب الميدية إلا في النصف الأخير من كتابه، وأما النصف الأول فقد كتبه عن الإمبراطورية الفارسية وممتلكاتها، بما فيها مصر.

كتاب هيرودوت مقسم إلى تسعة كتب، كل كتاب منها يحمل اسم إحدى ربات الوحي التسع،

173

وإليك ملخصا لموضوع كل كتاب: (1) الكتاب الأول يحمل اسم كليو

174

ربة التاريخ، وبه يتحدث المؤلف عن نشأة الإمبراطورية الفارسية وتاريخ نموها، وعن أخلاق وعادات الميديين والفرس. (2) الكتاب الثاني يحمل اسم إيتربه

175

ربة الموسيقى، وبه تاريخ قمبيز من (529-522ق.م.) وحملته على مصر ثم وصف مسهب لمصر. (3) الكتاب الثالث يحمل اسم تاليا

176

ربة الكوميديا، وفيه أخبار استيلاء قمبيز على مصر ونهاية حكمه وإصابته بالجنون، ثم حكم دارا (521-485ق.م.) وتنظيمه للإمبراطورية في عشرين مقاطعة. (4) الكتاب الرابع باسم ملبومينا

177

ربة التراجيديا، وبه حديث الحملة التي قام بها دارا على بلاد السكيت

178

وفشل تلك الحملة فشلا ذريعا، ثم وصف لتلك البلاد الواقعة على البحر الأسود في شمال الدانوب ووصف لأخلاق أهلها. (5) الكتاب الخامس باسم تربسيكورا

179

ربة الرقص، وفيه يبدأ المؤلف حديثه عن الحروب الميدية فيقص أنباء ثورة أيونيا على الفرس واستيلاء هؤلاء على مدينة سرد.

180 (6) الكتاب السادس باسم كراتو

181

ربة الشعر الغنائي، وبه أخبار الحرب الميدية الأولى أي حملة دارا على بلاد الإغريق بأوروبا وانتهائها بمعركة مرتون الخالدة في تاريخ اليونان (490ق.م.). (7) الكتاب السابع باسم بولمنيا

182

ربة الأناشيد المتعددة الاختصاص، وفيه حديث الحرب الميدية الثانية - إعداد إكسرسيس للحملة وبدء الحرب حتى معركة الترموبولي (480ق.م.). (8) الكتاب الثامن باسم أورانيا

183

ربة الفلك، وبه بقية الحرب الميدية الثانية حتى معركة سلامين البحرية (480ق.م.). (9) الكتاب التاسع باسم كليوبه

184

ربة الشعر الحماسي والخطابة، وبه المراحل الأخيرة للحرب الميدية الثانية حتى معارك «بالاتيه» «وميكال» واستيلاء الأثينيين على مدينة سستوس

185

سنة 479ق.م.

ومن ذلك نرى أن الكتب الخمسة الأولى تتحدث عن إمبراطورية الفرس، وأن الأربعة الأخيرة هي التي تقص أنباء الحروب الميدية.

وأما تقسيم الكتاب على هذا النحو وتسميته بهذه الأسماء فلسنا نعرف على وجه التحقيق سببه، وإن يكن القدماء قد أخبرونا بأن الإغريق جميعا قد اتفقوا على تسمية كل جزء باسم ربة من ربات الوحي بعد قراءة تامة للكتاب في أولمبيا أثناء انعقاد مسابقاتها الرياضية الشهيرة، ولكن قولهم هذا أشبه ما يكون بالأسطورة، وربما يكون هذا التقسيم من عمل علماء الإسكندرية.

ولقد تناقش العلماء المحدثون مناقشات كثيرة في قيمة هذا الكتاب وفي وحدته وفي تاريخ تأليفه وتأليف أجزائه المختلفة، وبحثوا في هل هو تام أم ناقص إلى غير ذلك من الأبحاث التي لا تزال مستمرة. ولكننا نكتفي بأن نقول إن الكتاب كما هو الآن يكون وحدة متسلسلة متجانسة. وأما قيمته التاريخية فليست سواء في كل أجزائه، فالكتب الخمسة الأولى ليست في قيمة الأربعة الأخيرة، وهذا أمر من السهل تعليله، فالمؤلف عندما يتحدث عن تاريخ الفرس القديم وعن مصر أو بلاد السكيت لم يكن لمعلوماته ولا لمصادره من اليقين ما كان لحديثه عن الحروب الميدية التي عاصرها وسمع عنها ولقي شهودها، ومع ذلك فحتي النصف الضعيف من كتابه لا نزال حتى اليوم نستقي منه أقدم المعلومات نقارنها بنتائج الأبحاث الأثرية فنهتدي إلى الكثير من الحقائق التاريخية الثابتة.

ثم إن المؤلف كان يتمتع بالكثير من الصفات التي نتطلبها في المؤرخين المحدثين، فهو بعيد عن التحيز حتى لنراه يعترف للفرس بمزاياهم كما يعترف للإغريق سواء بسواء، وهو وإن كان قد أخطأ في بعض التفاصيل فإنه كان يملك القدرة على إدراك الكليات وعرضها عرضا شاملا، ثم إنه قد حرص على جمع أكبر كمية ممكنة من المعلومات التي أخذها عن ألسنة الرجال أو عن مشاهداته أثناء سياحاته المختلفة، وأخيرا عن النصوص المكتوبة كنبوءات العرافات التي يوردها بنصها، وعن كتابات اللوجوجراف الذين أشرنا إليهم فيما سبق.

وأما مواضع ضعفه فهي في سذاجته التي حملته على الإيمان بكثير من الخرافات ثم في عدم دقته، كما نلاحظ ذلك في وصفه للمعارك وفي النقص الواضح في تثبته من المعلومات التي تروى له.

وأعظم عيب يؤخذ على كتابه هو عدم نفاذه إلى معنى الحوادث التاريخية وأسبابها وعدم تعمقه في فهم النفس البشرية ودوافعها، ولهذا قلما نعثر عنده على تحليل دقيق لعقلية القادة والزعماء، وهو في هذا يغاير «ثيوسيديد» كل المغايرة.

وإذا كانت لهيرودوت فكرة جامعة عن سير التاريخ فهي سيطرة القضاء على حياة البشر وغيرة الآلهة من صلف الإنسان، فكم من مرة يقف ليحدثنا عما أنزلت الآلهة بهذا الرجل أو ذاك من عقاب عندما أخذه الغرور وتطاول إلى حيث لا ينبغي له.

هذا عن قيمة الكتاب التاريخية. وأما قيمته الأدبية فالإجماع منعقد على توفرها. وإنك لتقرأ كتابه فلا يأخذك ملل أو فتور قط، وذلك لأن هيرودوت يطلعك أحيانا على سذاجة ساحرة يلهو بها العقل فيمسك عن أعمال النقد، ويطلعك أحيانا أخرى على قوة في التصوير والقصص، فإذا بك كأنك تحضر المعركة الحامية فتنفعل وتستثار، وهو يمر بك طورا بعد طور من القصص إلى الحوار إلى الخطب في أسلوب سهل واضح قريب. (ب) ثيوسيديد

ولد ثيوسيديد سنة 469ق.م. أي بعد هيرودوت بعشرين عاما فقط، ومع ذلك يخيل إلينا عندما نقرأ كتابه ونقارنه بكتاب هيرودوت أن بينهما قرونا طوالا.

لقد رأينا المؤرخ الأيوني يقصد إلى تمجيد أعمال البطولة وتخليد ذكراها وأما ثيوسيديد فيعلن في أول كتابه أنه لا يريد أن يبهر الناس بروائع القصص وإنما يريد أن يصل إلى الحقيقة العارية وأن يعرضها في غير تحيز فيقول: إنه يود أن يترك للإنسانية «شرعية أبدية»، ولهذا يرفض أن يأخذ معلوماته عن كل طارق، ويحرص على التثبت أدق حرص؛ ومن ثم جاء كتابه أقرب ما يكون إلى كتب المؤرخين المحدثين من حيث تحرير الحقائق التاريخية. وقد استطاع ذلك المؤرخ العظيم ما لم يستطعه إلا القليل من كبار الكتاب في تاريخ الإنسانية كلها: استطاع أن يشق الحجب عن النفوس وأن يستخرج دوافعها الخفية، وكتابه من هذه الناحية لا يعتبر كتاب تاريخ فحسب، بل كتابا إنسانيا يجد فيه المفكرون وقادة الشعوب بل والفلاسفة كثيرا من الحقائق الخالدة التي لا نزال حتى اليوم نبحث عنها في زوايا النفوس أو نتلمسها في مضمون الحوادث؛ سياسية كانت أو أخلاقية أو اجتماعية.

ولد ثيوسيديد في إحدى ضواحي أثينا من أسرة نبيلة ثرية، وهم يحدثوننا أنه قد استمع وهو طفل لهيرودوت يقرأ جزءا من تاريخه ففاضت دموعه إعجابا، وأن هيرودوت قد هنأ أباه بأن له ولدا مولعا بالمعرفة ذلك الولع القوى. والعلماء يرجحون أنه قد تتلمذ للسوفسطائي أنتيفون

186

معلم الخطابة الشهير، كما تتلمذ للفيلسوف أنكساغوراس الذي سماه معاصروه في شيء من السخرية ب «الروح». والذي لا شك فيه أن أثر السوفسطائية في ثيوسيديد واضح، ونحن لا نقصد بذلك إلى المعنى المرذول من السوفسطائية وهو القدرة على قلب الحق باطلا وإنما نقصد إلى مقدرتهم القوية على الحاجة والتصرف في مفردات التفكير والإمعان في إدراك المفارقات الدقيقة، وكذلك الأمر في تأثره بأنكساغوراس فثيوسيديد يكاد يكون ذكاء خالصا. وإنك لتقرأ كتابه فلا تعثر بإحساس مؤلفه الخاص يسفر عن وجهه، وإنما هو كما قلنا ذكاء خالص يجمع الوقائع ويعرضها ويستخرج دلالتها فيما يشبه البرود التام، فإذا انفعلت - وأنت لا بد منفعل - جاء ذلك من فن ثيوسيديد الرائع في ترتيب القصص أو صياغة الخطب على نحو يحرك القارئ ويهز مشاعره.

كتاب ثيوسيديد عنوانه «حرب البلبونيزيا» وهي تلك الحرب التي قامت بين أثينا وإسبرطة وحلفاء كل منهما بعد انتهاء الحرب الميدية بما يقرب من نصف قرن، وسبب قيامها كانت الغيرة التي استشعرتها إسبرطة وغيرها من مدن اليونان نحو أثينا التي تمكنت بفضل جهودها الرائعة في الحرب ضد الفرس من أن تتزعم مدن اليونان كافة وأن تضرب عليها نفوذها. ولقد دامت تلك الحرب المدمرة ما يقرب من ست وعشرين عاما (من 431 إلى 404ق.م.) وانتهت بهزيمة أثينا، بل بتحطيم بلاد اليونان كلها مما مهد السبيل إلى استيلاء المقدونيين في القرن الثاني على مدن اليونان كافة والقضاء على ما كان لها من حرية ومجد.

والظاهر أن ثيوسيديد قد أخذ، منذ بدء تلك الحرب، في جمع الوثائق والمعلومات، ونحن نعلم أنه قد عين (قائدا) في سنة 424ق.م. وكلف أن يحمى المقاطعة الساحلية المجاورة لمدينة أمفيبوليس

187

في تراقيا، ولكنه لسوء الحظ لم يستطع أن يمنع الإسبرطيين من الاستيلاء على تلك المدينة الهامة، فاتهم بالخيانة وحكم عليه بالنفي، فعاش عشرين عاما في تراقيا حيث كانت له مناجم معدنية يستغلها. وفي تراقيا أخذ يعد كتابه. ولقد قام بعدة رحلات وصل فيها إلى إيطاليا وصقلية ليجمع الوثائق وليتحرى المعلومات. وفي سنة 404ق.م. استدعي للعودة إلى وطنه فعاد حيث كتب جزءا من كتابه، ومات فيما بين سنة 400ق.م. وسنة 395ق.م. دون أن ينتهي من كتابة تاريخ تلك الحرب؛ إذ يقف مؤلفه عند حوادث سنة 411ق.م.

كتاب ثيوسيديد ينقسم إلى ثمانية كتب، ولكن هذا التقسيم لا يرجع إلى المؤلف نفسه، ولقد قسمه القدماء أحيانا إلى ثمانية كتب وأحيانا إلى تسعة وأحيانا إلى ثلاثة عشر، وإن يكن التقسيم المستقر اليوم هو التقسيم الثماني.

وبالنظر في الكتاب يبدو لنا أن مؤلفه كان قد قسمه إلى قسمين:

القسم الأول:

من الكتاب الأول إلى الفصل الخامس والعشرين من الكتاب الخامس، وبه مقدمة الكتاب ثم أخبار الحرب حتى معاهدة نكياس سنة 421ق.م.

القسم الثاني:

يبدأ من الفصل السادس والعشرين من الكتاب الخامس ويستمر إلى آخر الكتاب الثامن ، وبه مقدمة أخرى، ثم حوادث الحرب من معاهدة نكياس حتى آخر سنة 411ق.م. وهناك أدلة كثيرة ترجح أن الجزء الأول كان قد نشر منفردا.

وخطة ثيوسيديد في تأليف كتابه هي متابعة الزمن، فهو يقسم كل عام إلى صيف وشتاء، ويتتبع الحوادث تتبعا تاريخيا حتى ليشبه كتابه اليوميات. وهو في هذا يغاير المؤرخين المحدثين الذين يقسمون كتبهم إلى موضوعات فيعالجون كل موضوع في فصل خاص. ومن مجموع تلك الفصول نخرج بفكرة جامعة عن العصر الذي يتحدثون عنه من نواحيه المختلفة: السياسية والحربية والاجتماعية والثقافية. وإنما أملى على ثيوسيديد خطته طبيعة الموضوع الذي كتب فيه، فهو يريد أن يقص أنباء حرب البلبونيزيا كما قص هيرودوت من قبل أخبار الحروب الميدية.

وليس معنى هذا أن ثيوسيديد لم يحدثنا إلا عن المعارك التي حدثت، فكتابه أعمق وأهم بكثير مما يدل عليه عنوانه، وما تدل عليه خطته، ولعل مصدر غناه يأتيه من أنه ليس قصصا فحسب بل قصص وخطب. في الكتاب ما يقرب من أربعين خطبة طويلة تعد من أثمن ما خلفت العبقرية اليونانية، وهذه الخطب ينسبها المؤلف إلى القادة والزعماء، وهو يخبرنا أنها لم تقل بحرفها، وذلك لأنه قد حاول أن يوردها نقلا عمن سمعها. ومن الواضح أنه ليس من السهل أن نروي خطب الغير نقلا عن سامعيها، ولهذا لم يكن بد للمؤلف من أن يستعين بما روي له منها مجرد استعانة في كتابة تلك الخطب التي هي في الواقع من أسلوبه الخاص، ولكنها مع ذلك لا تفقد شيئا من قيمتها، بل لعلها قد اكتسبت من القيمة التاريخية والإنسانية أكثر مما كان لها، وذلك لعظم ذكاء المؤلف الذي عرف كيف يلخص المواقف ويكشف عن الدوافع ويناقش الأهواء ويستعرض النظر في تلك الخطب الرائعة.

ولثيوسيديد ملكة قوية في إدراك فهم الأشياء، فبالرغم من أنه قد كتب حوادث عاصرها فغمرته من جميع النواحي إلا أنه قد استطاع أن ينظر إليها وكأن بينه وبينها أعواما بل قرونا، فميز الأهم من المهم، ووضع كل حادثة في مكانها وأعطاها أهميتها بلا إفراط ولا تقصير، وتلك ملكة لم يوهبها إلا القليل.

وثيوسيديد مؤرخ ثبت دقيق يعرف كيف ينقد مصادره، وهو يرفض التسليم بخوارق الأمور فلا يقبل من الخرافات ما قبل هيرودوت، وهو لا يقف عند الحوادث ليعلق على ما توحي به من فلسفة أخلاقية رخيصة عن تفاهة الحياة أو بؤسها ونعيمها كما يفعل هيرودوت. ثيوسيديد مؤرخ جاف غزير التفكير مركز الأسلوب، وهو أحرص على فهم النفوس منه على دروس الأخلاق المبتذلة.

وباستطاعة القارئ أن يعود إلى قراءة خطبة بركليس في تأبين جند أثينا الذين قتلوا في السنة الأولى من الحرب ليرى الكثير من المواهب التي تميز بها مؤرخنا، فالخطبة لا شك من تحرير المؤلف نفسه، وإن يكن من الراجح أن يكون بركليس قد قال من المعاني ما يقرب مما ورد فيها.

يبدأ الخطيب بالحديث عن نظم أثينا الديمقراطية، تلك النظم التي عنها صدر مجد المدينة وبفضلها أحب المواطنون مدينتهم فقاتلوا في سبيلها حتى قتل منهم من قتل، وأخيرا يصل إلى التأبين، وهنا يظهر ذكاء الخطيب أو على الأصح ذكاء المؤرخ، فهو يدرك «أنه من الشاق أن يدعو الآباء إلى التعزي بالمجد عن فقد أبنائهم وأمامهم فرح الغير بسلامة أبنائهم يذكرهم بما كانوا فيه من فرح هم أيضا بأبنائهم.» والمتكلم يعلم «أننا لا نألم للحرمان من شيء لم نألفه قدر ما نألم لفقد ما اعتدنا المتعة به.» ولهذا يدعوهم «إلى الشجاعة والتزود بالأمل في أن يكون - لمن يستطيع منهم - خلف جديد يعوض من فقد. وأما من لم تعد السن تسمح له بخلف جديد فعليه أن يذكر أن معظم حياته قد تقضى سعيدا، وأن ما بقي هو الأقل، وأنه سوف يجد في ذكرى أبنائه المجيدة ما يخفف من آلامه.» هذا حديثه إلى الآباء وفيه تحس ما أشرنا إليه من فهم عميق للنفس البشرية، فهو لا يتجاهل حقائق تلك النفس وإنما يسلم بها ثم يلتمس لها علاجا، وإنه لمن الحمق ألا نسلم للمتألم بأسباب ألمه ظانين في ذلك ما يصرفه عنه، وإنما السبيل هو أن تجاري إحساسه وأن تسلم له بمشروعية ذلك الإحساس، ثم تحاول بعد ذلك أن تخفف عنه حمله. وفي حديثه لإخوة وأبناء الموتى حقائق نفسية أخرى يعترف بها الخطيب في قوة خلقية وإنسانية نقف أمامها حيارى. انظر إليه يخاطبهم: «وأما أنتم، أبناء هؤلاء الأبطال وإخوتهم! فأمامكم صراع عنيف، وإنه لحبيب إلى كل نفس أن تمتدح ما مضى، ولهذا أرجو لكم أن تصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء الأبطال أو على الأصح إلى ما يدانيهم، وذلك لأن الحسد ينال دائما من فضل الأحياء، حتى إذا ذهب الموت بما يلقون على معاصريهم من ظلال تغمرهم بظلمتها نزل فضلهم من كل القلوب منزلة التقديس.» أليس في هذه الصراحة النفسية ما يرفع من قدر قائلها وهو يعترف بأن الحسد شيء طبيعي في النفوس، وأنه من الخير أن يوطد كل فرد نفسه على قبوله من الغير مدركا أنه ليس من السهل على النفوس أن تقبل «الظلمة»، التي يلقيها عليها «ظل الغير»، وأنه ليس للأحياء أن يروا الناس مجمعين على فضلهم، فهذا لن يكون إلا بعد موتهم! وتلك حقيقة فيها أكبر العزاء لبطولة الأحياء، كما فيها أكبر دافع إلى الإقدام وطرح ما يمكن أن يصيب النفوس الخيرة من يأس يوحيه ما يهولها من عدم الاعتراف بما لها من فضل.

وأما النساء فكل ما يطلبه إليهن هو «أن يلتمسن المجد في ألا يظهرن من ضعف غير ما تقضى به فطرتهن، وأن يتنافسن في أن يكون تأثيرهن في الرجال أقل ما يكون سواء أكان هذا التأثير في الخير أم الشر.»

هذا هو الذكاء الخارق الذي تحدثنا عنه. الذكاء الذي يدرك حقائق النفوس ويسلم بتلك الحقائق، وعلى هذا الأساس يصوغ أقواله ويضع خططه.

ومقدرة ثيوسيديد الفذة لا تظهر في الخطب فحسب بل وفي القصص والوصف، وباستطاعة القارئ أن يعود إلى حديث

188

المؤلف عن الطاعون الذي تفشى بأثينا في ذلك الحين ليرى مقدرة الكاتب الخارقة على الوصف وصفا قاسيا مثيرا، وكأننا نرى المرضى «يجرون أجسامهم على الأرض جرا ليلقوا بأنفسهم إلى الآبار لعلها تطفئ النار التي ترعى أجوافهم ... إلخ.» مما تقشعر له الأبدان.

هذا هو ثيوسيديد الكاتب القوى والمؤرخ الثبت. رجل عبقري من كبار العقول اليونانية بل العقول الإنسانية على الإطلاق، وهو بعد مؤلف ليست قراءته أمرا سهلا لا في أصله اليوناني ولا في ترجماته المختلفة، وذلك لعمق تفكيره عمقا يشبه الغموض، وإن لم يكن من الغموض في شيء لأنك بالصبر وإمعان النظر تستطيع دائما أن تدرك ما يريد قوله، وإنما يكون الغموض عندما يعجز عقل الكاتب عن أن يدرك بوضوح ما بنفسه من أفكار ثم يتعجل صياغتها. وثيوسيديد أبعد الناس عن هذا العجز، وذلك لأن عقله كان من القوة بحيث استطاع دائما أن يسيطر سيطرة مهيمنة على كل ما تحدث عنه. (ج) أكسينوفون

لم يظهر في القرنين التاليين لوفاة ثيوسيديد أي مؤرخ كبير، ومؤلفات من كتب في التاريخ خلال هذين القرنين قد ضاع معظمها إن لم يكن كلها. ومع ذلك فمن الواجب أن تستثني أكسينوفون الكاتب المعروف في تاريخ الفلسفة، وذلك لأن أكسينوفون قد كان مؤرخا كما كان فيلسوفا، وإن لم يصل في التاريخ إلى ما يداني من قريب أو بعيد ثيوسيديد، كما لم يصل في الفلسفة إلى ما يدنو من مستوى أفلاطون مع أن كليهما قد تتلمذ لسقراط وكتب عنه في صيغة الحوار.

ومع هذا فلأكسينوفون أهميته في تأريخ التاريخ عند الإغريق، وذلك لأنه قد كتب فيه بعض الكتب التي نخص بالذكر منها «التقهقر إلى البحر».

189

ولعله خير كتبه، كما كتب كتابا عن «حكومة إسبرطة» وفيه يصف نظم تلك المدينة كما وصف أرسطو «نظم الحكم عند الأثينيين»، وأخيرا كتابه المسمى «الهلينيات» الذي يقص فيه تاريخ بلاد الإغريق منذ سنة 411ق.م. وهي السنة التي يقف عندها تاريخ ثيوسيديد إلى سنة 362ق.م. وهو تاريخ معركة مانتينيه الشهيرة.

ولد أكسينوفون فيما يرجح سنة 430ق.م. ومات سنة 300ق.م. تقريبا. ولد في إحدى ضواحي أثينا لأسرة أرستقراطية غنية وتتلمذ لسقراط، وفي سنة 401ق.م. صحب الحملة التي وجهها الإغريق إلى آسيا الصغرى لمحاربة الفرس وأتباع الفرس. ولم يكن أكسينوفون في تلك الحملة جنديا ولا ضابطا ولا قائدا، كما يقول، بل مجرد هاو، وكان ما كان من هزيمة الحملة بعد قتل قوادها غدرا. وهنا يتولى أكسينوفون رياسة الجند ويتقهقر بهم إلى البحر، وهو يصف لنا ذلك التقهقر وما اعترضه من عقبات، وكتابه أشبه ما يكون بالمذكرات، ومع ذلك ففيه كثير من الملاحظات الهامة عن الأراضي التي مروا بها وعن فنون القتال، كما أن قصصه لا يخلو من يسر وجمال.

عاد أكسينوفون إلى أثينا فوجد أن سقراط قد حكم عليه بالموت ونفذ الحكم فيه وإذا به هو الأخير يقضى عليه بالنفي إما لأنه كان تلميذا لسقراط وإما لما كان معروفا عنه من ميله إلى إسبرطة التي كان يعجب بنظمها وحياتها القائمة على الأرستقراطية. وبالفعل نجد أكسينوفون في إسبرطة ونعلم تاريخيا أنه قد صاحب ملكها أجيسيلاس

190

في حملته على آسيا الصغرى سنة 396ق.م. ثم في حروبه ضد طيبة الإغريقية، بل وضد أثينا نفسها مسقط رأس أكسينوفون، وذلك في سنة 394ق.م.

بعد ذلك التاريخ استقر أكسينوفون في ضيعة اشتراها بإحدى مقاطعات البلبونيزيا حتى سنة 371ق.م. إذ ضرب المغيرون ضيعته، وهنا ينتقل إلى كورنثة يقيم فيها حتى تعود أثينا عن قرار نفيه وتسمح له بالعودة إلى وطنه حيث مات.

لأكسينوفون أربعة عشر كتابا من بينها الثلاثة التي ذكرناها، وأما بقيتها فمنها ما تتعلق بتربية الخيل وركوبها والحرب على ظهورها، ومنها ما يتعلق بالصيد ومنها ما يتعلق بالاقتصاد وإدارة الأموال، كما أن منها الكتب الفلسفية.

لقد كان أكسينوفون رجلا أرستقراطيا مولعا بالخيل والصيد، رجلا سهل الطبع، راضيا عن الحياة، ولكنه سطحي، وكل هذه الصفات واضحة في أسلوبه وفي كتاباته. (د) بوليبوس

وجاء بعد بوليبوس مؤرخ متأخر عاش من سنة 201ق.م. إلى سنة 120ق.م. ولكنه مؤرخ كبير يكاد يكون ثاني مؤرخي الإغريق بعد ثيوسيديد؛ فهو من ناحية الدقة التاريخية وفهم الحوادث وتحليلها وشرح أسبابها لا يقل عن مؤرخ حرب البلبونيزيا إن لم يفقه، وأما من الناحية الأدبية ومن الناحية الإنسانية فهو ينحط عن ثيوسيديد بمسافات بعيدة.

ولد بوليبوس بمقاطعة أركاديا في البلبونيزيا من أسرة أرستقراطية وكان صديقا لزعماء الحرب والسياسة في ذلك العهد، وقد تعلم من أبيه فن الحرب واشترك في الحياة السياسية والحربية، وفي سنة 168ق.م. وقع أسيرا في يد الرومان الذين قادوه إلى روما حيث ظل حتى سنة 150ق.م. ولقد استطاع أن يصادق كبار زعماء روما، وبفضل تلك الصداقة لم يحجز في إحدى مدن إيطاليا كما حجز غيره من الأسرى، بل ترك طليقا بروما حيث استطاع أن يبحث في محفوظات الدولة وأن يدرس التاريخ الروماني.

وفي أثناء إقامته الطويلة بتلك البلاد أعجب بخلق الرومانيين، ذلك الشعب الحكيم الصبور الجاد إذا قيس بإغريق ذلك العهد الخفاف الأحلام المتقلبي الأهواء. وفي سنة 150ق.م. سمح له بالعودة إلى بلاد الإغريق وإن كان قد عاد إلى روما غير مرة؛ إذ أصبحت تلك المدينة بمثابة وطن ثان له. ولقد صاحب أسكبيون القائد الروماني الشهير في حملاته ضد القرطاجانيين وشهد استيلاءه على قرطاجنة عاصمة ملكهم. ولقد حاول أن يمنع ثورة الإغريق الأخيرة ولكنه لم يستطع، وكان أن أخضع الرومان بلاد الإغريق كلها بعد استيلائهم على كورنثة، وبذلك أصبحت اليونان مقاطعة رومانية سنة 146ق.م. ولم تقم لها بعد ذلك قائمة. وأما بوليبوس فقد استخدم نفوذه عند أصدقائه الرومانيين ليخفف من قسوة الشروط التي أملوها على مواطنيه. ولقد قام بوليبوس بعدة سياحات في سبيل الدرس، وزار ليبيا وإسبانيا وبلاد الغال، ومات وهو في الثانية والثمانين من عمره، إذ سقط من فوق حصان.

وكتاب بوليبوس عنوانه «التاريخ العام»،

191

تاريخ بلاد الإغريق وبلاد الشرق وبلاد قرطاجنة مجتمعة حول روما. ولقد كان كتابه مؤلفا من أربعين كتابا، ولكن لم يبق منها سوى الخمسة الأولى، ثم فقرات من الخمسة والثلاثين كتابا الأخرى. ومنهجه في التأليف منهج عملي، فهو يريد أن يقص الوقائع لينفع بكتابه رجال الدولة، وذلك بتحليله للحوادث وأسبابها تحليلا دقيقا. وهو حريص بنوع خاص على أن يظهر كيف أصبحت روما سيدة العالم، ولذلك يدرس دستورها ويقارن حكومتها بالحكومات الأخرى، وعلى الخصوص بحكومة قرطاجنة، وهو - لحرصه على الدقة - قد حذف من كتابه كل الخطب التي حرص غيره من المؤرخين السابقين له واللاحقين أن يوردوها. وهو يفعل ذلك مكتفيا بأن يلخص الأقوال التي قيلت فعلا إن لم يستطع أن يوردها بنصها، وهو يفضل إذا كان يجهلها ألا يخترعها.

فكتابه من الناحية التاريخية عظيم الأهمية، وذلك لاعتماده على محفوظات الدولة كما ذكرنا وعلى كل كتب سابقيه، ثم على أقوال من شهدوا الوقائع التي يتحدث عنها، وأخيرا لأنه قد رأى كثيرا من الحوادث التي وردت في كتابه. وهو بعد ذلك يملك القدرة على مناقشة مصادره وإعطاء كل منها ما يستحق من أهميته، كما أنه قد خلا من كل تحزب. وهو في كتابه يتتبع خطى الزمن ولكنه كثير الاستطراد إلى مسائل تتعلق باشتقاق الأسماء والألفاظ وبمناقشة التواريخ وبالمسائل الفلسفية، ثم إنه كثيرا ما يقف ليحاج سابقيه محاجات طويلة.

وأما عن قيمة كتابه الأدبية فضعيفة كما قلنا، وذلك لبرودة قصصه وخلوه من كل تلوين، ثم لثقل أسلوبه وتعثره وغموضه لكثرة الاصطلاحات الفنية والألفاظ المجردة. وليس هذا لعدم حرصه على فن الكتابة - فأسلوبه لا يخلو من عناية متكلفة - بل لأنه لم يكن يملك هبة الأسلوب ذاتها. (ه) بلوتارك

ويمضي قرنان آخران قبل أن يظهر بلوتارك، الذي يعتبر آخر مؤرخ إغريقي كبير.

ولد بلوتارك في مقاطعة بيوشيا سنة 46 بعد الميلاد وعاش حتى سنة 120 بعد الميلاد، وهو لم يكتب في التاريخ فحسب، بل وفي الفلسفة التي كتب فيها عدة كتب.

تربى بلوتارك في أسرته حيث أشرف أبوه وجده على تعليمه، ثم قام بعدة رحلات إلى أثينا وروما، وألقى بالمدينتين عدة محاضرات عامة باليونانية وباللاتينية فلقي نجاحا عظيما، وأخيرا عاد إلى مسقط رأسه حيث مضى الجانب الأكبر من حياته موزع الجهد بين حياته الخاصة كرب أسرة، وبين مهامه كأديب ومؤرخ وفيلسوف بل وعمدة لمدينته.

لقد كان بلوتارك رجلا شريفا وديعا هادئا سمح الخلق، شديد التعلق بدينه الإغريقي، وبخاصة بعبادة أبولون الدلفي حيث كان يقوم ببعض أعمال الكهنوت. وكان إلى جانب هذا رجلا متفتح النفس للمعرفة والبحث عن الحقائق، فدرس كافة العلوم التي كانت معروفة في عصره، وبخاصة التاريخ والفلسفة الأخلاقية.

ولقد ألف بلوتارك في الفلسفة الأخلاقية عدة كتب نذكر منها: «مهلة القضاء الإلهي» وفيه يعالج مشكلة القدر، و«كتاب الحب» وهو دفاع عن الحب الشرعي، و«عزاء لزوجته عند وفاة بنتها»، و«كيف نقرأ الشعراء»، و«التطير»، و«الزواج»، و«النبل»، و«صمت العرافات»، و«إزيس وأوزيريس» وفيه يتحدث عن الميثولوجيا بوجه عام، و«كيف ننصت»، و«كيف نميز الصديق الحق من المتملق»، و«كيف نمدح أنفسنا دون أن نجرح غيرنا»، و«عن كثرة الأصدقاء»، و«عن فائدة الأعداء»، و«عن الصحة»، و«عن الثرثرة»، و«عن شيطان سقراط»، و«عن الموسيقى»، و«أحاديث المائدة» ... إلخ.

وهو يعلن عن أخذه بمذهب أفلاطون، ولكنه في الحقيقة قد أخذ عن جميع المذاهب، كما حاول أن يوفق بين الميثولوجيا وفلسفة أفلاطون. وهو يقول بوجود إله واحد مسيطر ومن دونه آلهة ثانوية تقوم على أمور البشر، وهي آلهة خيرة وشريرة، تعيش عدة قرون، وتسرف على التطير والعرافة.

فلسفة بلوتارك في الواقع ضعيفة الأصالة، وهي ليست سبب مجده، وإنما اشتهر بلوتارك وظل يقرأ طوال القرون الماضية حتى يومنا هذا من حيث هو مؤرخ كتب كتابا كان له ولا يزال أكبر الأثر في الكتاب في مختلف الأجيال، ونعني بذلك كتابه المسمى «الحيوات المتوازية»، وفيه يورد أربعا وأربعين حياة كل حياة لكبير من كبراء الإغريق مقارنة بكبير من كبراء الرومان: تيموستكليس وكاميل، ليساندروس وسيلا، الإسكندر ويوليوس قيصر، أجيسيلاس وبومبيوس، ديموستين وشيشرون، ألسبيادس وكوريولانوس ... إلخ.

كتابه - إذن - عن حياة العظماء اليونان والرومان، وقد آخى وقارن في كل فصل بين اثنين من هؤلاء العظماء: قائد مع قائد، وخطيب مع خطيب، وإمبراطور مع إمبراطور، وهكذا. ولقد قرأ بلوتارك الكثير من الكتب التي ألفها سابقوه، ولهذا جاء كتابه غنيا بالمعلومات التاريخية الهامة؛ ولكنه كان رجلا جماعا حظه من النقد قليل، وأثر السرعة وعدم التمهل واضح في كتابه، وهو أقل حرصا على الحقيقة العارية منه على مغزى الوقائع ودروسها الأخلاقية؛ ومن ثم تراه يسوق الكثير من القصص لمجرد جمالها. وهو - وإن حاول ألا يتحيز - لا يخلو من ميل إلى الإغريق.

لقد حرص بلوتارك على أن يصور الشخصيات أكثر من حرصه على أن يقص الوقائع؛ ومن ثم لم يكتب تاريخا سياسيا كما فعل ثيوسيديد أو بوليبوس ولكنه قد نجح فيما أراد نجاحا رائعا، فشخصياته حية واضحة المعالم، وكتابه من هذه الناحية فريد في بابه.

بلوتارك كاتب جذاب له حس صادق بعناصر الإثارة في الإنسان، وهذا سر مجده وإقبال الناس على قراءته، وأما أسلوبه فلا روعة فيه ولا جمال، ولهذا كان من الكتاب القلائل الذين تزداد قيمة كتبهم إذا ترجمت؛ ففي فرنسا مثلا لا شك أن ترجمة «أميو»

192

التي ترجع إلى عصر النهضة، خير بكثير من أصلها، ولقد عملت تلك الترجمة في شهرة بلوتارك بفرنسا أكثر مما يستحق الأصل؛ فهي رائعة الأسلوب.

ولقد كان لبلوتارك تأثير قوي على الكثيرين من الكتاب وبخاصة شيكسبير الذي صدر عنه في تصويره لكوريلانوس ويوليوس قيصر وغيرهما.

وهاك مثلا من كتابه:

ديموسثنيس وشيشرون

حسبنا أن نرى ما بين الرجلين من تشابه في الميول لنعلم أن الطبيعة قد أنشأت هذين الخطيبين العظيمين منذ البداية في صورة واحدة؛ فكلاهما يطمح لغاية بعينها، وكلاهما يحب الحرية، وكلاهما جبان في الوغى ومواقف الخطر. كذلك تشابهت السيرة عند الرجلين، فكلاهما نشأ من أصل مغمور وشق طريقه إلى مناصب النفوذ والسلطان، وكلاهما عارض الملوك والطغاة، وكلاهما نفي عن أرض الوطن ثم عاد عود الكريم ثم اضطر أن يلوذ بالفرار، ثم وقع في أيدي الأعداء. وذهب بذهاب كل من الرجلين حرية بلاده.

فلما كان ديموسثنيس في نعومة الطفولة يافعا في السابعة فقد أباه وبدد ثروته أوصياؤه الذين لم يكونوا بالوصاية جديرين، لكن طموح الفتى قد اشتعل في سنه الباكرة حين سمع «كايستراتس»

193

الخطيب ينفذ بخطابته إلى قلوب سامعيه، وحين أدرك ما عسى أن يعود به فن الخطابة على الخطيب الموفق من أسباب الشرف؛ فلم يلبث أن خصص جهده لممارسة هذا الفن فدرس البلاغة على «إيزاوس»

194

حتى إذا ما بلغ أشده ظهر في ساحة القضاء يتهم أوصياءه بانتهاب ثروته.

وعلى الرغم من نجاح ديموسثنيس في دعواه تلك، كان عليه أن يواصل الدرس ليتم نقصا كبيرا، إذ كانت أولى خطبه تثير في سامعيه الضحك، فقد كان أسلوبه عنيفا ومضطربا، وصوته خافتا متلعثما وإلقاؤه مقطوع الأنفاس، لكن هذه الأخطاء أصلحت كلها بالمران الطويل الشاق الذي قام به في جب أنشأه لنفسه تحت الأرض، كان يقيم فيه شهرين أو ثلاثة دفعة واحدة. وقد أزال من لسانه اللعثمة بالتحدث والحصا ملء فيه، وزاد من قوة صوته بالجري صاعدا فوق سطح الجبل يصيح وهو يلهث، وكان يطيل النظر إلى موقفه وحركاته في المرآة.

ولم يلق ديموسثنيس الخطاب ارتجالا إلا نادرا، فقد كان الناس يصيحون به في المجامع ليخطبهم لكنه كان يظل صامتا، إلا إن كان قد أعد ما يلقيه، وكانت عادته أن يكتب الشطر الأعظم من خطابه - إن لم يكتبه بأجمعه - قبل أن يلقيه؛ ولذا كان يعترض عليه بأن الحجج في خطبه تفوح برائحة المصباح، ولكنه مع ذلك قد خطب في حالات قليلة بغير إعداد فجاءت خطابته عندئذ وكأنها تتدفق من معين خارق لقدرة البشر.

وكان حقودا بطبعه، يقاوم ما استطاع، فلم يجار عصره قط قولا ولا عملا، إنما استمسك حتى النهاية بوجهة نظره السياسية التي اعتنقها منذ البداية، ومطمحه الأول هو الدفاع عن قضية اليونان ضد فيليب.

195

ومعظم خطبه بما فيها هذه «الفيلبيات»

196

كتبها على مبدأ أن الخطة القويمة الجديرة بأن تتبع يجب أن تختار دون سواها من أجل نفسها لا لغاية وراءها، فهو لا يستحث بني وطنه إلى أداء ما هو ملائم ويسير ونافع، ولكنه يدعوهم إلى ما يؤدي بهم إلى مواضع الشرف؛ فلو كان الله قد حبا ديموسثنيس فوق مطمحه النبيل وسمو مبدئه في خطابته، شجاعة في الحرب، ولو كان طهر يديه من دنس الرشوة، لكان جديرا أن يوضع في منزلة واحدة مع «سيمون»

197

و«ثيوسيديد» و«بركليز».

كذلك لمعت عبقرية شيشرون العظيمة في أيام دراسته، فقد كانت له القدرة كما كان له الميل إلى تعلم الفنون كلها، وإن يكن أميل إلى الشعر منه إلى غيره من الفنون. وجاء يوم عرفته فيه روما أمجد الشعراء وأعظم الخطباء في آن معا؛ فبعد دراسته للقانون وتدريبه في أعمال الحرب ، أوى إلى حياة العزلة يدرس الفلسفة.

ولكنه اضطر أن يظهر في ساحة القضاء ليدافع عن «روسكيوس»

198

الذي اتهم ظلما بقتل أبيه؛ فسرعان ما ذاعت شهرته في الخطابة.

وكان شيشرون معتل الصحة لا يستطيع أن يأكل إلا طعاما قليلا، ولا يكون ذلك إلا في آخر النهار، وكان صوته أجش عاليا مرذول النغم، لكنه كسلفه ديموسثنيس استطاع بمران طويل أن يهذب من نغمة صوته، حتى أصبحت مليئة منغمة حلوة الرنين، ودراسته على فحول البلاغة قومت من فصاحته.

وإن ما عرف عنه من مثابرة وعدل واعتدال قد تجلى في مسلكه في المناصب السياسية؛ في هجمته على مؤامرة «كاتلين»

199

بين كيف يمكن للبلاغة أن تضيف إلى الحق سحرا، وأن العدالة لا تهزم إن وجدت من يؤيدها على وجه صحيح.

إن ديموسثنيس قد ركز كل قوته في فن الخطابة وحده، فبات لا يشق له غبار في قوة فصاحته وجزالتها ودقتها. أما شيشرون فقد كان أوسع مدى في دراسته، فلم يجاهد أن يكون خطيبا نابغا وكفى، لكنه أراد أن يكون كذلك فيلسوفا وعالما. واختلاف الخطيبين في المزاج متبين في اختلافهما في الأسلوب، فديموسثنيس في خطابته دائما صارم جاد ينشد الفكرة الجافة. أما شيشرون فيحب النكتة، وقد يبلغ به المزاح في الحديث أحيانا حد المهاترة، ولم يكن الخطيب اليوناني يمدح نفسه في خطبه إلا إن قصد بذلك هدفا ساميا، وحتى إن فعل ففي تواضع وفي غير اعتداد. أما الخطيب الروماني فلا يحاول أن يخفي غروره بنفسه إلى حد الإسراف، مما جعله ممقوتا عند كثير من معاصريه.

وكان للرجلين جميعا مقدرة سياسية ممتازة، لكن بينما نجد ديموسثنيس لا يشغل منصبا سياسيا قط، ويشك في أنه أحيانا كان يبيع موهبته لمن يجزل له العطاء، نرى شيشرون يحكم إقليما في عصره كان الجشع فيه قد بلغ أقصى درجاته، لكنه لم يعرف عنه إلا العطف الإنساني وازدراء المال حتى ليرفض الهدايا البريئة.

إلى هنا ننتهي من استعراض المؤرخين الإغريق، ونخلص مما رأينا بأن فن كتابة التاريخ عند اليونان وإن يكن قد وصل أحيانا من العمق في الفهم إلى أبعد المراحل، إلا أنه لم يصل في الواقع إلى ما وصل إليه المؤرخون المحدثون؛ وذلك لأنه ظل جزئيا، يتحدث عن ناحية خاصة من نواحي الأمم ويهمل ما عداها، فهم لم يكتبوا مثلا تاريخ عصر من العصور يفضلون فيه القول عن الحياة السياسية والحياة العقلية والحياة الحربية والحياة الاجتماعية، بحيث يخرج القارئ بصورة تامة لذلك العصر. ولكننا عندما نذكر أن هذا المنهج الشامل في كتابة التاريخ لم يهتد إليه المؤرخون إلا في القرن التاسع عشر، نستطيع أن نتصور أنه لم يكن من الممكن أن يقفز الإغريق إلى الكمال.

ومع ذلك فقد امتاز المؤرخون الإغريق بصفة هامة هي عدم التحيز، وكانت لهم فوق ذلك قدرة عجيبة على فهم النفس البشرية وإيضاح دوافعها، وفي هذا ما يضمن لكتبهم الخلود، لا من حيث هي مصادر التاريخ فحسب، بل ومن حيث هي كتب أدب إنساني خليق بأن يخصب النفس ويشحذ الإدراك. (4-2) الفلسفة والخطابة (أ) الفلسفة

أغرم العقل اليوناني - بعد أن قطع مرحلة الأساطير والإمعان في الخيال - بإطالة التفكير والتأمل فيا يصادف من ظواهر، فيحاول تعليلها وتعقب أسبابها. وإنك لتقرأ عن اليونان وفلسفتهم فتحسب القوم يتنفسون الفلسفة مع الهواء. وما ظنك بجماعة تناقش موضوعات الفلسفة إذا التقوا في الأسواق، أو صادف بعضهم بعضا في عرض الطريق! وحسبك أن تقرأ ما كتبه أفلاطون وأرسطو، وما بلغت إليه الفلسفة في العصر الحديث، لتعلم أن الإنسانية لم تكد تخطو - في الفلسفة - إلى الأمام بعد اليونان خطوات، بل لتعلم أن الإنسان الحديث في ركضه السريع يوشك أن يتخلف عما أدركه اليونان من حكمة في بعض النواحي. ولنمض مسرعين على هامات القرون، مخلفين وراءنا فلاسفة اليونان الأولين، فأولئك على عظيم قدرهم لا يتسع لهم مقام كتابنا.

ولنقف عند القرن الخامس قبل الميلاد، حيث سوفوكليز ويوريبيد يعرضان على المسرح آياتهم، لننظر إلى هذا الفيلسوف الذي يذرع شوارع أثينا ويغشى أسواقها، يناقش ويحاور في منطق سليم وأسلوب أخاذ، لننظر إلى سقراط جالسا ومن حوله معارضوه ومؤيدوه ؛ فما يزال يلقي هنا سؤالا وهناك سؤالا، ويتلقى من هذا جوابا ومن ذاك جوابا حتى يستقيم له الموضوع الذي يناقشه، ويبلغ النتيجة التي يريد، متهكما ساخرا بمن زعموا لأنفسهم العلم وهم جاهلون، مستحثا الشباب أن يفكروا لأنفسهم ليدركوا الحق بأنفسهم معلنا أنه لا يدري شيئا، وأنه إنما ينشد الحكمة عند الآخرين مسيرا في ذلك كله بصوت باطني لعله أن يكون وحيا من الآلهة. ولقد أحب سقراط من فهموه، وسخط عليه من كانت لهم في نفوس الناس مكانة علمية فزلزلها سقراط وعرضهم لسخرية الساخرين؛ فرفع ثلاثة من هؤلاء أمر سقراط إلى القضاء بتهمة إفساد عقول الشبان، وإنكار الآلهة، ومهاجمة الدولة ونظامها. وكانت المحاكمة وكان الحكم، فإذا هو أن يجرع سقراط كأسا من السم ليموت، فلم يظهر من شخصية سقراط عندئذ إلا جانب الفيلسوف. وقضى آخر أيامه في السجن يحاور تلاميذه في النفس وخلودها! وهل ترى أمر سخرية في تاريخ الإنسانية كله من هذه الحقيقة المرة: وهي أنها تقتل من أبنائها من يعلو وينبغ.

و إن أردت أن تقرأ ما نطق به سقراط في محاوراته مع الناس، فارجع في ذلك إلى تلميذه الأكبر «أفلاطون» الذي كان كأستاذه محاورا، ولكن بالقلم لا باللسان؛ فأخذ يكتب «المحاورات» يديرها بين النابهين من أهل أثينا، ويتخذ من سقراط شخصية رئيسية ليجري على لسانه ما يريد لنفسه من أفكار؛ فبات متعذرا أن نميز بين آراء سقراط وآراء تلميذه التي أجراها على لسان أستاذه، ولكن هل يعني ذلك شيئا عند من ينشد حكمة اليونان؟ كلا! فاقرأ المحاورات الأفلاطونية تقرأ حكمة يونانية، وحسبك ذاك، وسترى في تلك المحاورات أسلوبا فنيا رائعا يضع أفلاطون في الصف الأول بين الأدباء؛ ففيها أخذ ورد، وسؤال وجواب، وموافقة واعتراض، مما جعلها قطعة حية بين آيات الأدب. وتبلغ هذه المحاورات في عددها ما يقرب من عشرين، تكاد لا تستثني شيئا من جوانب الفكر الإنساني إلا مسته مسا رقيقا أو عميقا، حتى قيل: إن بذور الفكر الإنساني كله قديمه وحديثه تراها منشورة مبذورة في محاورات أفلاطون، لا تستثني من ذلك عقائد المسيحية نفسها! هذا ما يقوله عنها أبرع مترجميها إلى اللغة الإنجليزية وهو «بنيامين جووت»

200

الذي أصبحت ترجمته لها تعد في نفسها قطعة من الأدب، ومقدماته لتحليلها آية في النقد، وترجم إلى اللغة العربية قبس منها.

201

ولا بد لك - إن أردت أن تعلم ما قاله أفلاطون - من قراءته. وحسبنا في هذا الموضوع أن نشير إلى فكرتين أساسيتين: الأولى فكرة سقراط في الفضيلة بأنها العلم والرذيلة بأنها الجهل، أي أن الإنسان لا يسيء السلوك إلا عن جهل، ولو عرف لاهتدى، وهذا رأي له قيمته ونصيبه من الصواب. وقد عبر سقراط عن ذلك حين ذكر قاتلوه ساعة موته، فقال: «سامحوهم فإنهم لا يعرفون ما يعملون.» والفكرة الرئيسية الثانية في «المحاورات» هي رأي أفلاطون بأن عالم الأشياء الذي يحيط بنا إنما يصور عالما آخر قوامه أفكار عقلية، فكل شيء هنا شبح لفكرة هناك، فإذا ما أحببت إنسانا جميلا أو زهرة جميلة فأنت إنما تحب في حقيقة الأمر فكرة الجمال التي تتمثل في الإنسان والزهرة، لا هذا الإنسان الشخص بعينه، ولا تلك الزهرة بذاتها، وهذه خلاصة موجزة «للحب الأفلاطوني»، الذي أخذت تلوكه الألسنة في غير معناه حتى أفسدته. ولعل أجمل ما يمتع القارئ الذي لا يريد أن يغوص في الفلسفة العميقة محاورة «الجمهورية» ومحاورة «الدفاع» ومحاورة «المأدبة»؛ ففي «الجمهورية» وصف للدولة المثلى التي يجب أن يكون على رأسها فيلسوف مفكر يسيطر عليها كما يسيطر العقل على شئون الجسد، وفي «الدفاع» رواية جميلة لمحاكمة سقراط ودفاعه عن نفسه أمام قضاته، وفي «المأدبة» شرح مفصل للحب الأفلاطوني صيغ في أسلوب هو أجود ما جرت به براعة الفيلسوف في جمال التعبير. وفيما يلي مثال لنثر أفلاطون، وهي قطعة ختمت بها محاورة فيدون، وفيها يصور موت سقراط: ... نهض ودخل غرفة الحمام، يصحبه أقريطون، الذي أشار إلينا بأن ننتظر؛ فانتظرنا نتحدث ونفكر في أمر الحوار وفي هول المصاب. لقد كنا كمن ثكل أباه، وأوشكنا أن نقضي ما بقي من أيامنا كالأيتام. فلما تم اغتساله جيء له بأبنائه (وكانوا طفلين صغيرين ويافعا)، كما وفدت نساء أسرته، فحادثهن وأوصاهن بعض نصحه، على مسمع من أقريطون، ثم صرفهن وعاد إلينا.

ها قد دنت ساعة الغروب، فقد قضى داخل الحمام وقتا طويلا، وعاد بعد اغتساله فجلس إلينا، ولكنا لم نفض في الحديث. وما هي إلا أن جاء السجان وهو خادم الأحد عشر، ووقف إلى جانبه وقال: لست أتهمك يا سقراط بما عهدته في غيرك من الناس من سورة الغضب، فقد كانوا يثورون ويصيحون في وجهي حينما آمرهم بتجرع السم، ولم أكن إلا صادعا بأمر أولي الأمر. أما أنت، فقد رأيتك أنبل وأرق وأفضل ممن جاءوا قبلك إلى هذا المكان، فليس يخامرني شك أنك لن تنقم علي، فليس الذنب ذنبي، كما تعلم، إنما في جريرة سواي ... وبعد، فوداعا، وحاول أن تحمل راضيا ما ليس من وقوعه بد، إنك لتعلم فيم قدومي إليك. ثم استدار فخرج منفجرا بالبكاء. فنظر إليه سقراط وقال: لك مني جميل بجميل، فسأصدع بما أمرتني به، ثم التفت إلينا وقال: يا له من فاتن! إنه ما انفك يزورني في السجن، وكان يحادثني الحين بعد الحين، ويعاملني بالحسنى ما وسعته ... انظر إليه الآن، كيف يدفعه فضله أن يحزن من أجلى! فلزام علينا، يا أقريطون، أن نفعل ما يريد. مر أحدا أن يجيء بالقدح إن كان قد تم إعداد السم، وإلا فقل للخادم أن يهيئ شيئا منه؛ فقال أقريطون: ولكن الشمس لا تزال ساطعة فوق التلاع، وكثير ممن سبقوك لم يجرعوا السم إلا في ساعة متأخرة بعد أن كانوا يأكلون ويشربون وينغمسون في لذائذ الحس، فلا تتعجل إذن؛ إذ لا يزال في الوقت متسع!

فقال سقراط: نعم يا أقريطون، لقد أصاب من حدثتني عنهم فيما فعلوا، لأنهم يحسبون أن وراء التأجيل نفعا يجنونه، وإني كذلك لعلى حق في ألا أفعل كما فعلوا، لأني لا أظن أني منتفع من تأخير شراب السم ساعة قصيرة! إنني بذلك إنما أحتفظ وأبقي على حياة قد انقضى أجلها فعلا، إني لو فعلت ذلك سخرت من نفسي. أرجو إذن أن تفعل ما أشرت به ولا تعص أمري! فلما سمع أقريطون هذا، أشار إلى الخادم فدخل، ولم يلبث إلا قليلا حتى عاد يصحبه السجان يحمل قدح السم؛ فقال سقراط: أي صديقي العزيز! إنك قد مرنت على هذا الأمر، فارشدني كيف أبدأ؟ فأجاب الرجل: لا عليك إلا أن تجول حتى تثقل ساقاك، ثم ترقد فيسري السم. وهنا ناول سقراط القدح، فحدق في الرجل بكل عينيه، يا أشكراتس، وأخذ القدح جريئا وديعا لم يرع ولم يمتقع لون وجهه؛ هكذا تناول القدح وقال: ما قولك إذا سكبت هذا القدح لأحد الآلهة؟ أفيجوز هذا أم لا يجوز؟ فأجاب الرجل: إننا لا نعد يا سقراط إلا بمقدار ما نظنه كافيا. فقال: إني أفهم ما تقول، ومع ذلك فيحق لي بل يجب علي أن أصلي للآلهة أن توفقني في رحلتي من هذا العالم إلى العالم الآخر؛ فلعل الآلهة تهبني هذا؟ فهو صلاتي لها، ثم رفع القدح إلى شفتيه وجرع السم حتى الثمالة رابط الجأش مغتبطا، وقد استطاع معظمنا أن يكبح جماح حزنه حتى تلك الساعة، أما وقد رأيناه يشرب السم، وشهدناه يأتي على الجرعة كلها، فلم يعد في قوس الصبر منزع، وانهمر مني الدمع مدرارا على الرغم مني، فسترت وجهي وأخذت أندب نفسي ... حقا، إني لم أكن أبكيه، بل أبكي فجيعتي فيه حين أفقد مثل هذا الرفيق، ولم أكن أول من فعل هذا، بل إن أقريطون، وقد ألفى نفسه عاجزا عن حبس عبراته، نهض وابتعد، فتبعته، وهنا انفجر إيولودورس الذي لم ينقطع بكاؤه طول الوقت في صيحة عالية وضعتنا جميعا موضع الجبناء، ولم يحتفظ بهدوئه منا إلا سقراط. فقال: ما هذه الصرخة العجيبة؟! لقد صرفت النسوة خاصة حتى لا يسئن صنيعا على هذا النحو؛ فقد خبرت أنه ينبغي للإنسان أن يسلم الروح في هدوء، فسكونا وصبرا ... فلما سمعنا ذلك اعترانا الخجل وكفكفنا دموعنا، وأخذ سقراط يتجول حتى بدأت ساقاه تتخلخلان - كما قال - ثم استلقى على ظهره، كما أشير له أن يفعل . وكان الرجل الذي ناوله السم ينظر إلى قدميه وساقيه حينا بعد حين، ثم ضغط بعد هنيهة على قدميه وسأله: هل أحس فأجاب أن لا، ثم ضغط على ساقه، وهكذا صعد ثم صعد، مشيرا لنا كيف أنه برد وتصلب. ثم لمس سقراط نفسه ساقيه وقال. ستكون الخاتمة حين يصل السم إلى القلب. فلما أخذت البرودة تتمشى في أعلى فخذيه كشف عن وجهه، إذ كان قد دثر نفسه بغطاء وقال (وكانت هذه آخر كلماته):

إنني يا أقريطون مدين بدين لأسكلبيوس،

202

فهل أنت ذاكر أن ترد هذا الدين؟ فأجاب أقريطون إنه سيوفي الدين، ثم سأله إن كانت لديه رغبة أخرى، ولم يكن لهذا السؤال من جواب. وما هي إلا دقيقة أو دقيقان حتى سمعت حركة؛ فكشف عنه الخادم، وكانت عيناه مفتوحتين فأقفل أقريطون فمه وعينه.

هكذا يا أشكراتس قضى صديقنا الذي أدعوه بحق أحكم من قد عرفت من الناس، وأوسعهم عدلا وأكثرهم فضلا.

ثم جاء أرسطو الذي شق للفلسفة طريقها مدى عشرين قرنا، فقد لبث حتى القرن السابع عشر يعرف بين الفلاسفة ب «الفيلسوف»، وبلغت سيطرته على عقول الناس حدا لم يعرفه فيلسوف سواه، حتى جاء رجال النهضة - بيكون في إنجلترا، وديكارت في فرنسا - فرفعوا لواء الثورة على رجل الفلسفة الأكبر، وطالبوا بحقهم في التفكير المستقل الذي لا يعرف الحدود والقيود. وما كان أرسطو نفسه لينكر على أحد هذا الفكر الحر، لكنهم تابعوه ومشايعوه خلال القرون هم الذين وضعوه من الناس موضع المعلم الذي تجري كلماته مجرى القضاء الذي لا يرد. وكيف ينكر أرسطو على أحد حرية الفكر، وهو ذاك الروح الطليق، والعقل المتطلع، والعالم الذي يبحث ويبحث حتى ينتهي ببحثه إلى الحق؟! أخذ أرسطو عن أستاذه أفلاطون ثم انشق عليه؛ وأهم ما يختلفان فيه هو فكرة المثل، أو العالم العقلي الذي جزم أفلاطون بوجوده نموذجا تجيء على نسقه الأشياء. فما كان لأفلاطون الحالم الشاعر الفنان سوى أن يمزق بخياله حجب المادة التي تحيط به ليرى من ورائها أفكارا مجردة هي من الأشياء بمثابة الأصل من الصورة. أما أرسطو ذو العقل العلمي والفكر المنطقي فحصر نفسه في حدود ما يرى ويلمس، فهذه الأشياء في الحقائق ذاتها ولا شيء وراءها، وليس للمعاني المجردة وجود إلا في عقل الإنسان الذي يجردها. وماذا يعني تاريخ الأدب من هذا الفيلسوف؟ يعنيه أسلوبه العلمي الواضح الدقيق، فلئن كان أفلاطون بمثابة قصيدة من الشعر الطائر بأجنحة الخيال، فأرسطو قطعة من النثر الرزين الرصين؛ اقرأ له كتاب الأخلاق،

203

واقرأ له كتاب السياسة، ثم اقرأ كتابه في «الشعر» الذي لا يزال عمدة للنقاد إلى هذا اليوم فلن تقرأه قراءة الدرس العميق حتى يكون منك ناقد صائب الحكم على إنتاج الأدباء. (ب) الخطابة

وكانت الخطابة من الفنون الأدبية التي بلغت من الكمال حدا بعيدا في أثينا. والخطابة إنما تكون أدبا حين تحتفظ الألفاظ المنطوقة بقوة فصاحتها إذا ما خطت على الورق لتقرأ، فما أكثر ما تفنى خطب الخطباء مع الهواء كما تفنى ألحان المنشدين وأصوات الممثلين. والخطب ثلاثة أنواع: خطب تسمع ولا تقرأ، وخطب تقرأ ولا تسمع، وثالثة تشمل بتأثيرها العيون والآذان؛ فها هو ذا «غلادستون»

204

مثلا حرك النفوس بخطبه، ولكنها حين صبت في أحرف المطابع بردت نارها، وذلك هو «إدمند بيرك»

205

لم يكن له من القدرة الخطابية ما يقنع أعضاء البرلمان الإنجليزي، ومع ذلك فخطبه - مكتوبة - ساحرة فاتنة، وهي تحتل مكانة رفيعة في الأدب الخالد. وأما خطباء اليونان فقد بلغوا بهذا الفن - كما قلنا - حدا بعيدا من الكمال. وذلك لأن حظوظهم السياسية كانت ترتكز - إلى حد بعيد - على قدرتهم الخطابية، وذلك طبيعي في عصر لم يعرف الصحف اليومية التي تشيع بين الناس فتحمل إلى أعينهم عشرات من المقالات، وهي خطب يلقيها رجال السياسة من أسنة الأقلام، وأول من نذكره من خطباء اليونان خطيب صامت! خطيب لم يكن من أهل أثينا في عرف القانون، فلم يكن له حق الكلام في ساحات القضاء أو الخطابة أمام جموع الشعب؛ ذلك هو «لسياس»

206

الذي أخذ يكتب الخطب بقلمه ليلقيها غيره بلسانه، ولم يخطب «لسياس» في الناس إلا مرة واحدة؛ حين دبر أحد الطغاة قتل أخيه. وعاصر «لسياس» خطيب آخر يكتب خطبه ولا يلقيها، ذلك هو «إسقراط»

207

الذي أخذ يستحث دويلات اليونان أن تمتشق الحسام ضد الفرس، ووجه دعوته إلى مقدونيا. فلما أن رأي مقدونيا تستغل ما غنمته من حروب الفرس في تدبير جيش يخضع أثينا نفسها ندم «إسقراط» على دعوته إياها وكفر عن سيئته بأن حرم على نفسه الطعام حتى مات، وأهم خطبة له «الثناء على أثينا». وأما أعظم خطباء اليونان جميعا فهو «ديموسثنيس»،

208

وقد بلغت قدرته على الخطابة مبلغا أغرى الرواة أن ينسجوا حولها الأساطير؛ فقالوا مثلا - إنه قوم لسانه بوضع الحصا في فمه، والصياح بذلك الفم المملوء على شاطئ البحر. ومهما يكن من أمره فقد كانت بلاغته تفتن سامعيه، وخطبه الباقيات قطع من النثر الممتاز. وكان مذهبه السياسي أن يكون الحكم لصالح اليونان كلها بقيادة أثينا، لا أن يكون الحكم موجها لصالح أثينا وحدها أو أي بلد آخر، لذلك خاصم فيليب المقدوني أبا الإسكندر؛ إذ كان يرى أن يحكم حكما مقدونيا بحتا. وكانت أشهر خطب «ديموسثنيس» ما وجهه إلى أهل أثينا ليحرضهم على فيليب المقدوني الذي كانت جيوشه تجتاح مدائن اليونان، ممهدة لابنه الإسكندر أن يقيم دعائم ملكه، ومن أجل هذه الهجمات القوية العنيفة التي وجهها «ديموسثنيس» إلى «فيليب»، سمي هذا اللون من الخطابة - مكتوبا كان أو منطوقا: ب «الخطابة الفليبية».

209

وتفصيل ذلك أن أثينا حين أثرت في عهد «بركليز» ألهاها التكاثر، ففقد الأثينيون ما كان لهم من نشاط، وكرهوا أن يساهموا في نفقات الدولة، بعد أن كانت واجبات الأثيني تقضي أن يشارك الأغنياء في إعداد الجيش وبناء الأسطول، وكان فيليب الناهض إذ ذاك يجهز جيشه للفتوح، فقام ديموسثنيس يوجه الخطاب إلى قومه: «يجب أن تعدوا أنفسكم فتقصدوا بأنفسكم إلى العدو في سفائنكم.» فقد كان الأثينيون يلقون بأعباء الحروب على عواتق الجند المأجورة والعبيد لينعموا هم في مدينتهم الغنية بالأمن والعافية، ولكن خطيبهم لم يجد بدا - إذا أرادت أثينا أن تظفر بالنصر - من أن ينهض الأثينيون أنفسهم إلى الدفاع، بعد أن أصبح خطر الغزو داهما، واجتاح فيليب بعض المدائن: «لا تظنوا أن قوة فيليب الحاضرة خالدة له أبد الدهر كأنه إله من الآلهة: كلا! إنه مكروه مخوف محسود، حتى من أنصاره الذين يظهرون له اليوم قلوبا مخلصة.» ولكن الأثينيين لم تحركهم أول الأمر هذه الخطب، وخدعتهم النعرة الكاذبة، وظلوا على عقيدتهم أن المقدونيين جماعة مزدراة لا تستحق أن يخشى لها بأس، واكتفوا بأن يرسلوا إلى فيليب الرسل؛ فأفسد عليهم فيليب سفراءهم بما أجزل لهم من العطاء، حتى كون له من هؤلاء الرسل أنفسهم حزبا قويا في أثينا يظاهره ويناصره، وعلى رأس هذا الحزب «إيسكنيز»

210

الذي أصابه من رشوة فيليب نصيب الأسد. وكان إيسكنيز هذا خطيبا مصقعا، لا يبذه إلا ديموسثنيس الذي ما زال بالناس يخطبهم حتى أفلح في أن يبعث الأثينيون جيشا صغيرا يحاصر الغزاة في شعاب الجبل، ونجح في صده عن البلاد، فاقترح «تسيفون» أن تصنع الدولة تاجا ذهبيا ليكون إكليلا يجلل هامة ديموسثنيس منقذ الوطن، فعارضه «إيسكنيز» في خطبة رنانة بارعة، تسمى «خطبة التاج»، يزعم للناس أن «تسيفون» يريد أن يجعل من ديموسثنيس حاكما بأمره، فرد ديموسثنيس بخطبة هي خطبة من الطراز الأول وتسمى أيضا «خطبة التاج»، وقد كان لها من الأثر في نفوس الناس أن «إيسكنيز» لم تطب له الإقامة في أثينا بعد، ففر منها إلى رودس، ويقال إنه أثرى هنالك من مدرسة فتحها ليعلم الشبان أصول البلاغة. واستأنف ديموسثنيس خطبه «الفيلبية»، ولكن ماذا تجدي الألفاظ أمام الرماح؟! لقد غلبت أثينا على أمرها وأصبحت جزءا من إمبراطورية الفاتح الغازي. وحدث بعد موت الإسكندر أن طلب حاكم مقدونية إلى أثينا أن يهادنها ويسالمها إذا دفعت له ديموسثنيس ثمنا، ولكن خطيبنا سارع إلى أحد المعابد وجرع السم وأسلم الروح سنة 322ق.م. وأهم ما تمتاز به خطابته بالقياس إلى منافسيه أنها لم تعن كثيرا بزخرف اللفظ وتزويق العبارة، إنما وجهت عنايتها إلى الحجج الدوامغ تسوقها حجة في إثر حجة، حتى إذا ما بلغ الخطاب ختامه كان مقنعا مفحما.

غلبت اليونان على أمرها أمام المقدونيين الغزاة، ثم غلبت على أمرها مرة أخرى أمام الرومان، ولكن المغلوب في كلتا الحالتين ظل يحتفظ له بالسيادة العقلية على الغالب، وظلت أثينا في كلتا الحالتين حاكمة في دولة الفكر، فكان الروماني المثقف يتكلم اليونانية ويكتبها ليدل على ثقافته، ولكن هذه السيادة لم تدم؛ فما جاء القرن الرابع الميلادي حتى اتسع سلطان الرومان وسادت الكنيسة الرومانية، فأفسحت اليونانية مكانها للغة اللاتينية وبقيت اليونانية مغمورة قرونا عشرة، حتى بعثتها من مراقدها حركة النهضة الأوروبية التي كانت لثقافة أوروبا بمثابة الميلاد الجديد. ولا نستطيع أن نطوي صفحات اليونان الأخيرة قبل أن نذكر لهم كاتبا ساخرا هو لوسيان،

211

الذي كان لعصره في الفكاهة الساخرة ما كان «سوفت»

212

و«فولتير»

213

و«مارك توين»

214

لزمانهم، وكتابه: «التاريخ الصحيح» يصف رحلة إلى القمر، وقصته في هذا الكتاب - عما نشب بين أهل الشمس وأهل القمر من قتال - قطعة من الأدب الساخر، لعلها أوحت إلى «سوفت» شيئا في كتابه «رحلات جلفر».

215

وقد عاش «لوسيان» في عصر من الشك، فجاء شكاكا لا يؤمن بشيء، يطعن في آلهة اليونان وفلاسفة اليونان، ولم يحترم منهم سوى ثلاثة: سقراط، وأفلاطون، وأرسطو؛ فالدين عند لوسيان خرافة هزيلة، والفلسفة سفسطة فارغة.

الفصل الرابع

الأدب الروماني

(1) تاريخ الرومان ومؤرخوهم

رجل الكلام ليس دائما - بل ليس غالبا - رجل العمل، فصاحب القلم الذي يسجل أحداث التاريخ ويصور جوانب الحياة كثيرا ما تراه حييا عاكفا على نفسه لا يجرؤ أن يقود كتيبة إلى حومة الوغى، أو يقود في السياسة حزبا من المعارضين ، ولكن أين - في الأدب أو في الحياة - تلك القاعدة التي تخلو من شذوذ؟ فقد يحدث أحيانا أن يكون حامل القلم صاحب العمل. وإن أردت من رجال التاريخ أمثلة تلتقي فيها فصاحة القول وعظم العمل وجدت في مقدمة هذه الأمثلة «يوليوس قيصر»

1

الذي صنع التاريخ بحروبه، ودون التاريخ بقلمه؛ فكتابه «تعليقات» كتبه عن حروب الغال والحرب الأهلية بينه وبين «بومبي»

2

في أسلوب القصة الواضحة المستقيمة، مما يشهد له بالبراعة في دولة الأدب. وإنما كتب قيصر هذا الكتاب ليدافع عن نفسه أمام الرومان، ولكنه كان سياسيا قديرا وفنانا بارعا، فعرف كيف يعتدل في حديثه فيبسط للناس قضيته لا يرائي ولا يفاخر ولا يشوه الحقائق، فهو يدون مذكراته ويصف مغامراته في خضم الحوادث التي أحاطت به، والتي كان هو نفسه مصورها وباريها إلى حد ما، ولكن حوادث الزمان كانت أقوى من مصورها وخالقها، فصرعته على يدي «بروتس»

3

وعصبته، ممن أكل الحقد قلوبهم، فجاء مصرعه عبرة من عبر الزمان توحي للشعراء بالشعر؛ فأوحت إلى شيكسبير هذه المأساة التي تصور قيصر: كيف مد له في السلطان وكيف قصفه الموت.

تقرأ كتاب «التعليقات» فترى كيف استطاع قيصر أن يضم ألوف الأشتات في عبارة مطردة: فهذه ألوف الحادثات، وهذه طائفة كبيرة من حملاته الحربية، وهذه دسائس ومؤامرات يحوكها حوله الأصدقاء والأعداء، وغير هذه من ألوان الحديث في شتى المسائل تطرد كلها في نسيج محبوك، إنه لفنان قدير! وهاك مثالا من كتابه «تعليقات على حروب الغال»:

تنقسم الغال إلى ثلاثة أقسام، فقسم للبلجيين،

4

وقسم للأكوتيين

5

وثالث لمن يسمون في لغتهم بالكلتيين

6

وفي لغتنا بالغاليين،

7

وهذه الأقسام الثلاثة يختلف بعضها عن بعض في اللغة والعادات والقوانين. والهلفيتيون

8

طائفة من الغاليين تمتاز عن سائر الطوائف ببأسها لأنها في قتال متصل مع الألمان، وفي العهد الذي كان فيه «مسالا»

9 «وبيزو»

10

قنصلين، دبر «أورجيتوركس»

11 - وهو بين الهلفيتيين في الطليعة - مؤامرة من الأشراف، وألقي في روعهم أنه من اليسير عليهم أن يكونوا سادة الغاليين جميعا ما داموا أشدهم بأسا، وما هي إلا أن أعدت العدة لذلك، لولا أن باغتت المنية «أورجيتوركس» وكان من الطبيعي أن يشك بأنه انتحر. ومع ذلك فقد حاول الهلفيتيون بعد موته أن يخرجوا عن نطاق أرضهم. فلما أنبئ قيصر أنهم يحاولون أن يشقوا لأنفسهم طريقا في أرضنا، جمع كل قوة استطاع جمعها، وسار بها مدججة بسلاحها حتى بلغ جنوا؛ فأرسل الهلفيتيون سفراءهم إلى قيصر يلتمسون الإذن باختراق الإقليم الروماني، لكن قيصر رفض أن يجيبهم إلى ما طلبوا لأنه ذكر أن القنصل «لوسيوس كاسيوس»

12

قد اغتاله الهلفيتيون الذين مزقوا جيشه وأخضعوه تحت نيرهم. فلما خاب رجاء الهلفيتيين حاولوا أن يشقوا طريقهم بالقوة عبر الرون، لكنهم سرعان ما كفوا عن المسير إذ رأوا مقاومة الجند الرومان. فلما انتهت حرب الهلفيتيين جاء السفراء من معظم أجزاء الغال ومثلوا بين يدي قيصر يهنئونه ويعلنون أن انتصاره لا ينفع بلاد الغال أقل مما ينفع الشعب الروماني؛ لأن الهلفيتيين قد غادروا أرضهم معتزمين إخضاع الغال كلها. ولما انفض اجتماع السفراء بقي منهم رؤساء «إيدوي»

13

و«سكواني»

14

يرفعون شكاتهم إلى قيصر بأن ملك الألمان «أريوفستوس»

15

قد حل بجنده في بلادهم وانتزع ثلث أراضيهم وهو خير مكان في الغال كلها، ثم أمرهم أن يخلوا له ثلثا ثانيا، فأرسل قيصر سفراءه يطلبون من «أريوفستوس» أن يحدد مكانا لمؤتمر ينعقد، لكن «أريوفستوس» رد السفراء بجواب جاف، وأعاد الجواب نفسه في عرض آخر. فلما بلغ قيصر أن ملك الألمان كان ينذر باحتلال «فيسونشيو»

16

عاصمة إقليم «سكواني» سارع بجيشه فاحتلها، فما كاد «أريوفستوس» يعلم هذا النبأ حتى غير موقفه وأرسل الرسل لتنبئ قيصر أنه لا يمانع في لقائه ما دام قد اقترب أحدهما من الآخر وأصبح اللقاء ميسورا بغير التعرض للخطر. وانعقد المؤتمر ولكنه لم يؤد إلى نهاية موفقة، لأن «أريوفستوس» طالب الرومان بالانسحاب من بلاد الغال، ثم سلك نحو الرومان سلوكا ينم عن عداء شديد انتهى آخر الأمر بالقتال، ووقعت بين الفريقين وقعة على بعد خمسين ميلا من الرين، فدبت الفوضى في صفوف الألمان وفروا نحو النهر هاربين، فعبر منهم من عبر، وقتل الباقون أثناء الفرار. وهكذا أتيح لقيصر أن يفرغ في حملة واحدة من حربين كانتا من أهم حروبه، فقاد الجيش بعدئذ إلى مرابض الشتاء ... أمر قيصر أن يبنى من السفن أكبر عدد يمكن بناؤه أثناء الشتاء، وأن يصلح من السفن الموجودة قديمها؛ فبنيت ستمائة من الناقلات وستون سفينة حربية. وبعد أن فض قيصر ما كان بين رؤساء الغال من نزاع، قصد إلى ميناء «إتيوس»

17

يصحبه جنوده، واستصحب عددا كبيرا من أعظم رؤساء الغاليين ليكونوا في قبضته رهينة، وليحتفظ بهم أثناء حملته المقبلة على بريطانيا، خشية أن يثيروا في غيبته اضطرابا في بلاد الغال. ولما عبر قيصر إلى الشاطئ البريطاني وأنزل جنوده في مكان ملائم، تقدم نحو اثني عشر ميلا، ورد كل هجمة قام بها فرسان العدو وراكبو العجلات، ثم سار على رأس جيشه نحو نهر التيمز مخترقا ملك «كاسيفلونس»،

18

وكان التيمز لا يستطاع خوضه إلا من مكان واحد، وهنا حدثت مناوشات انتهت بمقاتلة البريطانيين. وقد أرسل «كاسيفلونس» رسله إلى أربعة الملوك الذين كانوا يحكمون «كنت»

19

والأقاليم المتاخمة للبحر ... يأمرهم أن يحشدوا كل قوتهم ليهجموا على المعسكر البحري، وانتصر الرومان في الموقعة التي نشبت بعدئذ، فلما سمع «كاسيفلونس» نبأ الكارثة، أرسل سفراءه إلى قيصر يفاوضونه في أمر التسليم. ولما كان قيصر قد اعتزم أن يقضي الشتاء في أوروبا للثورات المفاجئة التي اشتعلت في بلاد الغال، طلب عددا من الرهائن، وحدد جزية يدفعها البريطانيون كل عام للشعب الروماني ...

وكان يعاصر قيصر ويناصره مؤرخ آخر، لعله أول من أرخ للرومان في حياد، ينظر إلى الحوادث نظرة موضوعية، وهو «سالست»

20

الذي أثراه أن كان حاكما على «نوميديا»

21

وهي إقليم في أفريقيا تابع لروما؛ فلما مات قيصر عام 44ق.م. اعتزل «سالست» منصبه وأوى إلى داره في أرض الوطن حيث عاش عيش العلماء في هدوء البحث، وهو مؤرخ صائب الحكم، استخدم أعوانه يدرسون له الوثائق ويقاربونها فيبني حكمه على دراستهم، وكان فوق ذلك كاتبا فنانا يعرف كيف يصوغ قصته في أسلوب شائق، وقد بقي لنا من مؤلفاته كتابان كاملان هما «مؤامرة كاتلين»

22

و«تاريخ الحرب بين الرومانيين وملك نوميديا»، فكأنما تتعاون كتب قيصر وسالست على تصوير روما: كيف نشرت سلطانها؛ فقيصر يروي كيف امتدت سيادتها في الشمال، وسالست يقص علينا كيف اتسعت رقعتها في الجنوب. وفيما يلي مثال من كتاب «كاتلين» الذي يصف فيه وصفا ضافيا مؤامرة دبرها كاتلين سنة 63ق.م. لقلب الحكم في روما. «إني أضع المواهب العقلية للإنسان في منزلة أعلى من الخصائص الجسدية، وقد استهواني عمل المؤرخ لأنه يشحذ مواهب الكاتب إلى أقصى الحدود، وكانت المطامع الشخصية قد اجتذبتني بادئ الأمر إلى خوض المعترك السياسي، لكن جو السياسة بما يملؤه من ضعة وفساد كان يتنافر مع طبعي، فاعتزمت اعتزاله، لأخصص نفسي لإخراج سلسلة في البحوث التاريخية التي وجدت نفسي أشد ملاءمة لها؛ إذ تحررت من المؤثرات التي تلون وجهة نظر المتحزب السياسي، وقد اخترت مؤامرة كاتلين لتكون أول حلقة من مباحثي.

كان «لوسيوس كاتلينا»

23 [وهو معروف باسم كاتلين] شريف النسب موهوبا، ذا بسطة في العلم والجسم على خير ما يوهب الإنسان، ولكنه كان غاليا في فجوره قوي الاحتمال إلى درجة الشذوذ مستهترا، ماكرا متعدد الجوانب، أستاذا في فنون الخداع، مقترا ومسرفا في آن معا، ذا عاطفة محتدمة لا تشكمها الشكائم، حاضر البديهة لكنه لم يوهب من البصيرة النافذة إلا قليلا. وكان متطرفا في مطامعه حتى لا سبيل إلى إشباعها، يتحرق شوقا أن يبسط سلطانه على الدولة، بعد أن انقضت سيادة «سالا»،

24

لا يعبأ بالوسائل لبلوغ غايته. ولما كان بطبعه شديد المراس فقد شجعه على المضي في سبيله شهوة المال وإحساسه بما يقترف من آثام، والانحلال الخلقي في مجتمع ساده الترف والشره جنبا إلى جنب. وسرعان ما اجتذب كاتلين إلى عصبته أشرس الناس وأشدهم استهتارا وأكثرهم إسرافا، وأمعنهم في الإجرام، فمن لم يكن من هؤلاء قد بلغ منه الفساد أقصاه فمثل هذه العصبة كانت خليقة أن تفسده بتأثير زعيمها المضلل المشئوم؛ فإن هذا الرجل لم يتورع في سبيل مفاسده أن يقتل ابنه، ولم يتردد أن يستحث أتباعه إلى اقتراف الجرائم بكافة صنوفها. وبمثل هؤلاء الأصدقاء، وبمساعدة جيش «سالا» المنحل الذي كانت تحتشد جموعه في إيطاليا، طمع كاتلين في قلب الدولة الرومانية بينما كانت جيوشها مغتربة في القتال تحت قيادة «بومبيوس»،

25

وكانت خطوته الأولى أن يضمن انتخابه قنصلا، وقد فشلت إحدى مؤامراته لأنه هو نفسه قد تحرك للعمل قبل سنوح الفرصة الملائمة، لكن المتآمرين لم يلحقهم أذى. وكانت عصبة كاتلين عندئذ قد ضمت أعضاء من أعرق الأسر ومن مرتبة الفرسان، بل إن «كراسوس»

26

نفسه - فيما يظن - قد ساهم في المؤامرة لما بينه وبين «بومبيوس» من تنافس، وألقى «كاتلين» في جمعية المتآمرين خطابا يحرك كوامن الضغينة في النفوس، فحث هؤلاء الذين نبذهم المجتمع أن يثوروا على البلوتقراطية

27

المتكبرة، التي أسمنتها ثروة جمعت من أسوأ السبل، والتي كان للسامعين حق فيها لا يقل عن حق مغتصبيها، ووعدهم أن يلغي الديون كلها، وأن يخضع الأثرياء لأحكام القانون من نفي وإعدام، وأن يعمم تطبيق القاعدة القائلة بأن «من قتل قتيلا فله سلبه.» وذكرهم بأن له أصدقاء في مراكز القيادة من جيوش إسبانيا وموريتانيا،

28

وأنه لو وفق أنطونيوس

29

في انتخابه قنصلا ثانيا معه لضمن تعاونه.

ذلك هو ملخص خطابه، ولكني لا أصدق الخرافة الشائعة بأن المتآمرين قد تعاهدوا في إناء ملئ خمرا ممزوجا بالدماء. لكن أنباء المؤامرة أخذت تتسرب على لسان امرأة تدعى «فولفيا»

30

كانت خليلة «لكونتوس كبوريو»

31

الذي كان قد طرد من مجلس الشيوخ لما ارتكبه من ألوان العسف، وربما كان ذلك حافزا لكثير من الأشراف أن يؤيدوا شيشرون لمنصب القنصلية، مع أنهم لولا ذلك لعارضوا شيشرون من الوجهة الدينية لما عرف عنه من حرية الرأي؛ ونتيجة هذا أن فشلت مساعي كاتلين من أجل القنصلية، وأن تم انتخاب شيشرون قنصلا وإلى جانبه أنطونيوس قنصلا ثانيا. ولما رأى شيشرون آخر الأمر أن بذور الثورة تنتشر في كل مكان إلى حد لا تكفي لكبحها القوانين العادية، فقد ظفر من مجلس الشيوخ بسلطة استثنائية يحكم بها الأمة كما تحكم في حالة الطوارئ المفاجئة، وكان للمجلس حق دستوري في أن يمنحه مثل هذه السلطة، فلما جاءت الأنباء بأن «مانليوس»

32

وهو من أتباع كاتلين، قد شق عصا الطاعة في «إتروريا»

33

على رأس قوة مسلحة، اتخذ على الفور تدبيرا إداريا، وبعث بقوات حربية كافية إلى أرجاء البلاد جميعا. أما كاتلين نفسه فلم يفعل شيئا في العلن، وحضر إلى مجلس الشيوخ فهاجمه شيشرون على الملأ، فلما أجابه بألفاظ السباب قوطع بصيحات مستنكرة، فاندفع خارج المجلس وهو يصيح: «ما دمت محاطا بالأعداء منبوذا، فإن النار التي أشعلتموها حولي لن ينطفئ لهيبها إلا بدمائكم.» وأدرك أن التلكؤ قد يقضي عليه، فقصد من فوره إلى معسكر «مانليوس» تاركا وراءه «سيثيجوس»

34

و«لنتيوس»

35

يشعلان الفتنة في روما. وأرسل خطابات إلى كثير من ذوي المناصب العليا يعلن فيها أنه سيعتزل في مرسيليا، ولكنه بعث برسالة تختلف وما ورد في الخطابات، إلى رجل ظن خاطئا أنه موضع ثقته هو «كاتالس»

36

الذي بادر إلى تلاوة الرسالة في مجلس الشيوخ، ثم علم فيما بعد أن كاتلين قد اتخذ لنفسه حقوق القنصل واتصل بمانليوس، وعندئذ أعلن أنه خائن مارق على أمته، وفرضت ضريبة على الشعب، وعين أنطونبوس قائدا في حومة القتال، وبقي شيشرون في العاصمة لتصريف الأمور ...»

في جيل واحد شهدت روما من كتاب النثر قيصر وشيشرون وسالست. وفي الجيل الذي تلاه، دخلت المسيحية روما وأصبحت الإمبراطورية الرومانية هي العالم يحكمها قياصرة ذوو فخامة وجلال. وأول هؤلاء «أوغسطس»

37

حتى سمي العصر الأدبي عندئذ بالعصر الأوغسطي، كما يسمى العصر الذي شهد شيكسبير في إنجلترا بعصر أليصابات. في ذلك العصر الأوغسطي الزاهر كان في طليعة المؤرخين، وعلى رأس كتاب اللاتينية الناثرين «ليفي»

38

الذي حاول أن يدون قصة روما كاملة منذ نشأت حتى عصره في مؤلف عنوانه «كتب في التاريخ منذ أسست المدينة»، ولكن لم يبق من كتابته سوى ربعها. فكان هذا القليل الباقي كفيلا وحده أن يضعه في الصف الأول من رواة التاريخ، وذلك بإجماع الآراء من مؤرخي العصر الحديث؛ فهو لروما كاتب ملحمتها النثرية الكبرى كما كان «فرجيل» كاتب ملحمتها شعرا، وإن لنثره نفحة قوية من الشعر؛ فروما في العصر السابق للمسيح لا تحيا على صفحات التاريخ إلا في هذه الصورة التي رسمها «ليفي»، فكأنما هو خالقها أو على الأصح هو باعثها وناشرها من كتب المؤرخين السابقين. كان «ليفي» ينظر إلى عصره نظرة المتشائم، شأنه في ذلك شأن كثير من الفلاسفة والمؤرخين، فتلفت إلى الوراء يرنو إلى تاريخ أمته في مجدها الماضي بعين ملؤها الحسرة على سؤدد قديم يتهدم. وليس ذلك بعجيب من رجل ولد مؤرخا، فمن لم يفتنه ماضي أمته لم تهيئه الطبيعة أن يكون مؤرخا لها. وهكذا كان «ليفي» مؤرخا موهوبا مثل من سبقه من المؤرخين، ووضع الأساس لكل من جاء بعده يريد أن يؤرخ لروما.

وفي النصف الثاني من القرن الأول بعد ميلاد المسيح، وفي أوائل القرن الثاني، جاء «تاسيت»

39

ثالث الأعلام من مؤرخي اللاتين وكتابه «جرمانيا» أول رواية قصها مؤرخ عن التيوتون الأوائل الذين عاشوا منذ ألفي عام؛ فقد أعجب «تاسيت» - كما أعجب قيصر - بهؤلاء القوم الذين كانوا في نظر المثقفين من الرومان شعبا بدائيا من الهمج المتوحشين، ولكن كان من عوامل سيادة الرومان أنهم على ما أظهروا من قسوة وبطش بغيرهم من الشعوب والقبائل، كانت لا تعميهم الأنانية عما لها من حسنات فيزنونها بميزان فيه شيء من العدل والإنصاف. ولعل «تاسيت» حين أشاد بفضائل تلك القبائل الجرمانية في بساطتهم وشهامتهم أراد بذلك أن يلقي درسا على جماعة الرومان الذين أفسدهم الترف والإسراف. اقرأ له هذه القطعة الوصفية نقتبسها من كتاب «جرمانيا» يعرض فيها على بني وطنه صورة من الحياة بين القبائل الآرية تفضل ما ألفوه: «إن رباط الزوجية بينهم صارم وشديد، وليس في أخلاقهم ما هو أجدر منه بالثناء؛ فإنهم يكادون يتفردون بين البرابرة بالاكتفاء بزوجة واحدة مع استثناء نفر قليل منهم يعددون الزوجات، لا عن إغراق في الشهوة، ولكن بقصد التحالف الذي يطلب إليهم أن يعقدوه، لما لهم في قومهم من مكانة ممتازة، ولا تمهر الزوجة زوجها بل يمهر الزوج زوجته، ويجتمع الآباء والأقرباء ليبدوا علائم الرضا بما قدم للزوجة من هدايا، وإنها لهدايا لا تختار لتشبع أذواق النساء أو تستخدم في زينة العروس، ولكنها ثيرة وخيول مطهمة ودروع وحراب وسيوف، فتلك هي الوسائل لخطبة الزوجة التي تقدم أيضا الهدايا إلى زوجها مؤلفة من صنوف السلاح؛ فذلك في رأيهم أدوم ما يربط بين الزوجين، وفيه كل أسرار التقديس وشعائر الدين. ولكيلا تظن أن الزوجة معفاة مما تفرضه عهود الشدة من جهود، أو مستثناة من أخطار الحروب، فإنها تقسم يوم الاحتفال بزواجها أنها إنما جاءت إلى زوجها لتشاركه كدح العمل وأهوال الخطر، وتقاسمه النعمة والنقمة في السلم والحرب ... هكذا تحيا وهكذا تموت، فقد ورثت ما لا بد أن تورثه أبناءها مصونا كريما ...»

وكذلك دون «تاسيت» تاريخ عصره وبقي لنا من كتابه هذا جزء كبير هو أساس علمنا بالقياصرة الأولين. وإن عبقرية «تاسيت» لتبدو على أوضحها وأجلاها في قدرته على تصوير الأشخاص وفي أسلوبه الذي يمتاز بالإيجاز المحكم، وهو فيما كتب أخلاقي صارم، يعرض لقارئه آثام الأباطرة لا يخفي منها شيئا، ولكنه رغم ذلك يؤمن بالإمبراطورية الرومانية ويمجد الخلق الروماني لأن الفضيلة قلبه وصميمه، فتاسيت - كسائر المؤرخين القدماء - كاتب أخلاقي وطني فنان، وتلك روح لا نزال نلمسها في المؤرخين المحدثين حتى أولئك الذين يصرون على أن تكون دراسة التاريخ موضوعية محايدة تعتمد على الوثائق وحدها، وعلى البحث عن الحق وحده؛ فليس للمؤرخ - فيما يبدو - بد من أن يكون كذلك. على أن قراء هذا العصر لا يطالعون تاريخ روما في تلك الأصول اللاتينية التي ذكرناها، بل يطالعونه فيما كتب المؤرخون المحدثون الذين درسوا هذه الأصول واعتصروها في اللغات الحديثة، وأولاهم بالذكر هو «إدورد جيبون»

40

الذي يعد كتابه «تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها» آية في الأدب الإنجليزي. (2) شعر الملاحم في اللاتينية

كان مطمح الأدباء الرومان أن ينشئوا أدبا يوازي في عظمته ما أنشأته اليونان، فذلك ما أملاه عليهم الطموح في الفن وأوحاه إليهم حب الوطن. ولئن فاتهم أن يحققوا هذا الأمل في الروايات المسرحية، فقد أوشكوا أن يحققوه في الشعر على يدي شاعر اللاتين الأكبر «فرجيل» (70-19ق.م.) الذي ظل الأوربيون قرونا يطلقون عليه اسم «الشاعر» كما كانوا يطلقون على أرسطو اسم «الفيلسوف». وما أسرع ما أحاطه الأوربيون في القرون الوسطى بهالة من التقديس، كأنما هو رسول من رسل المسيحية، وظنوا به السحر وألفوا حوله الأساطير. واتخذه «دانتي» في القرن الثالث عشر مرشدا وهاديا ودليلا؛ فهو شاعر الرومان غير منازع، وواحد من أئمة الشعر في العالم لو عددت منهم خمسة أو ستة تضعهم من قافلة الشعر في الطليعة ومكان القيادة. وأول ما أنشده فرجيل من خالد الشعر «أناشيد الرعاة» وعددها عشرة، يصف بها حياة الرعاة في الريف وما يدور بينهم من أساطير، يحاكي بها شعر ثيوقريطس في اليونانية، ولكنها مترعة بحب فرجيل للطبيعة، ومليئة بنفحات الحقول في شمال إيطاليا حيث أقام الشاعر. وإن هذه «الأشعار الريفية» لكافية وحدها أن تجعل من فرجيل شاعرا قوميا لإيطاليا القديمة وإيطاليا الحديثة على السواء، وهل تغيرت مناظر الريف في إيطاليا أو تغير فيها الربيع؟ ولقد أحس فرجيل بجمال الريف في الربيع على نحو لم يتوافر لشاعر إيطالي سواه، فمتى كتب الشاعر هذه الأناشيد؟ كتبها في صدر الشباب، وكانت الغابة التي يملكها أبوه أول ما شهدت عيناه. فلما شب وغشي روما، ذهب إلى المحكمة يدافع عن قضية أمام القضاء فالتاث عليه القول وتعثر منه اللسان، فعرف أنه لم يخلق لذاك. ثم أراد أن يكتب تاريخا لروما، ولكنه وجد نفسه جاهلا بروما وتاريخها، فأدرك أنه لم يخلق لهذا أيضا، فأدار عينيه نحو الريف الذي نشأ بين أعشابه وأشجاره ورعاته، فكان أن أخرج هذه المجموعة من الأناشيد، وكان الإمبراطور قد أخذ يقسم الحقول والمزارع بين أتباعه، فوقعت مزرعة فرجيل التي ورثها عن أبيه نصيبا لضابط فظ غليظ، ولكن رجلا من حاشية الإمبراطور كان قد قرأ «أناشيد الرعاة»، وطرب لها، فتوسل إلى الإمبراطور أن يرد للشاعر أرضه المنزوعة. وهنا تقرأ لفرجيل شعرا جميلا يصف كيف دار الحوار بين الضابط وبين من ذهب ليسترد المزرعة:

صاح الضابط في نغمة جافية

عني أيها الأوغاد فارحلوا.

فأجاب ليسداس

41

صديق الشاعر:

اللهم رحماك! كيف أباح الغضب الهائج

لابن إله الحرب في سورته أن ينال من إلهة الشعر؟

من ذا إذن يغني عرائس الجن، ومن ذا ينشر الظلال الخضر فوق ينابيع المياه؟

وإن قصة لتروى عن نشيد من هذه «الأناشيد الريفية»، وهي تافهة في ظاهرها، ولكنها هامة في تاريخ الأدب لأنها تعلل هذا الإكبار الذي قوبل به فرجيل عند رجال الكنيسة في العصور الوسطى؛ فقد روى الشاعر في هذا النشيد رواية غامضة عن طفل يولد فينشر السلام في الأرض، ففسرها المسيحيون بأنها نبوءة لقدوم المسيح. على أن الأشعار الريفية مهما بلغت من حلاوة وطلاوة، لم تكن سوى تدريب أدبي يمهد الشاعر نفسه به لمجموعة أشعاره الثانية وهي: «أشعار الحقول»

42 - وتقع في أربعة كتب - هذه الأراجيز هي شعر الطبيعة بكل صفاته وخصائصه؛ هي أنشودة الفلاح حين يحرث الأرض، ويفلح الزرع ويرعى الماشية، ولعل «ميسناس»

43

وزير أوغسطس وحامي الأدب ومشجعه، هو الذي أراد أن يحمل على الذين هجروا الريف إلى المدينة، فاتفق مع الشاعر أن ينشئ هذه المجموعة من الشعر تدور كلها حول الزراعة، حتى لتعد كتابا نادرا في أصول الزراعة، زراعة الكرم والزيتون وأشجار الفاكهة. وقد ترجمها الشاعر الإنجليزي العظيم «دريدن»

44

إلى الإنجليزية شعرا جميلا هو خير عوض لمن لم يظفر بالأصل في لاتينيته. وهاك مثالا من هذه القصائد:

جاء الربيع فزين الغاب وجدد الورق،

وتفتحت أرحام الأرض تستقبل البذور،

فهبط عندئذ كبير الآلهة من عليائه ليدفق

في عروسه الفتية رذاذا مثمرا

وخالطت أعضاؤه أعضاءها،

فطعم صغار النبت عصيرا كريما، وازدهرت في رعاية الله أعشاب متزاحمة،

وأخذت الأطيار المرحة تؤم الغاب المنعزل

وأخذ الحيوان - وقد مسته الطبيعة - يعيد ألوان الحب والغزل.

وبعد «أشعار الحقول» أنشد الشاعر ملحمته الكبرى «الإنيادة».

45

وهي تقع في اثني عشر كتابا، أنشئت الستة الأولى منها على مثال الأوذيسية لهوميروس، وفيها يقص الشاعر مغامرات بطله إينياس بعد أن دمر الإغريق مدينته طروادة ، وقد دمر إينياس في أسفاره على قرطاجنة، وكان ما كان من حب بينه وبين ملكتها «ديدو» مما سيأتي ذكره بعد، وزار العالم السفلي ليلتقي بروح أبيه أنشيز في جنة الخلد. أما الستة الكتب الأخرى من الملحمة فقد جاءت على غرار الإلياذة في أنها تدور كلها حول الحروب التي شنها إينياس ليبسط سلطانه على مملكة أرادت له الآلهة أن يكون حاكمها - وهي إيطاليا - وقد أراد فرجيل بالإنيادة أن تكون واجبا يؤديه نحو وطنه العزيز، وأن يمجد بها إمبراطوره أوغسطس؛ أليس أوغسطس بعيدا عن مستوى البشر قريبا من مرتبة الآلهة؟ إذن لا بد أن يكون سليل أسرة إلهية مقدسة، وما دام أوغسطس على هذا الجمال الفاتن في تكوينه وخلقه، فمن ذا عسى أن يكون جده الأكبر وأصله الأول؟ لا بد أن يكون الأمير سليل «فينوس» إلهة الجمال، وفينوس كانت قد أيدت طروادة ضد «أثينا» التي ناصرت اليونان في ذلك القتال القديم الذي نشب بين الشعبين؛ وإذن فلا ريب أن أهل طروادة هم أسلاف الرومان. هذا هو الأساس الذي أقام عليه فرجيل ملحمته «الإنيادة»، ولكن كيف تم لهؤلاء الطرواديين القدامى أن يغادروا أرضهم إلى روما فينسلوا أبناءهم الرومان؟ إن «أنشيز»

46 - وهو من أسرة طروادية عريقة - قد اتصل إبان شبابه وجماله بفينوس؛ فأثمر الاتصال بينهما «إينياس»،

47

وهو الذي رحل إلى روما مع أتباع وأشياء، فكان هذا الأمير الإلهي الجليل جدا أكبر لأوغسطس العظيم.

وتخطئ في حق الشاعر لو صورت لنفسك الإنيادة قصيدة مدح تقدم بها إلى الإمبراطور ليلقى منه جزاء حسنا على ما أنشد، لأن فرجيل كان عندئذ قد ضخمت ثروته وقوي تأثيره على الإمبراطور، وإنما أنشدها فرجيل شعرا بسيطا جميلا يشيد فيه بمجد الرومان، ويمتع قارئه لا أكثر ولا أقل. والعجيب في الأمر أنه حين فرغ من قرض ملحمته أخذه الحياء والخجل، أو قل كان من الشك في قيمة شعره بحيث لبث أعواما لا يعرض قصيدته على أوغسطس، وأخذ الإمبراطور يرجو ثم يرجو ثم أخذ يعد ثم يتوعد، حتى أطلعه الشاعر على ما أنشد. ومن لطيف ما يروى أن فرجيل وهو يقرأ الملحمة أمام الإمبراطور وزوجته الإمبراطورة أوكتافيا

48

قد أثر في قلب الإمبراطورة حين ورد في القصيدة ذكر ابنها، فسقطت في إغماء لم تفق منه إلا بعد عسر ومشقة، ولقد قال في الإنيادة إذ ذاك شاعر:

أذعنوا يا كتاب الرومان، وأمسكوا أيها اليونان!

إن هذا الرجل لينطق بشعر أين منه شعر هوميروس.

لكن «فرجيل» أحس في قصيدته نقصا شديدا، وأثار ثائرته نقد النقاد بأنه سارق سطا على هوميروس، فصمم أن يهجر روما إلى أرض اليونان وآسيا الصغرى حيث يقيم ثلاث سنوات يصقل أشعاره ويزيل عنها كل أثر لسلفه الضرير، لكنه وهو في طريقه قابل أوغسطس في أثينا، وألح أوغسطس أن يرافق الشاعر في مسيره، وفعلا صحبه إلى ميغارا،

49

وهنالك لفحته حرارة الشمس فأصابته الحمى ومات في عامه الثالث والخمسين.

ليس الشعراء إلا بشرا؛ ولكن لو صدق خيال الإنسان فيهم وكان لهم وحي وإلهام، لما وجدنا عبارة نصف بها فرجيل خيرا من عبارة أجراها في ملحمته على لسان «ديدو»

50

تقولها لحبيبها «إينياس»: «إني أؤمن أن دماء الآلهة تجري في عروقه.» وهاك خلاصة لهذا الأثر الأدبي الجليل. (2-1) كيف وفد إينياس الطروادي على قرطاجنة

قرطاجنة، تلك المدينة القديمة التي بناها المهاجرون النازحون من صور.

51

تواجه إيطاليا ومصب التيبر

على مبعدة، عبر العباب؛ تلك المدينة الغنية بمالها،

المقدامة في حومات قتالها

قد فضلتها «جونو»

52

على سائر البلدان

ورسمت لها خطة، إن شاء القدر،

أن تجعل منها سيدة العالمين،

ولكن علمت «جونو» أن قبيلا من أنسال طروادة،

كتب له أن يدك من أرض «صور» قلاعها،

وينشر فوق الأرض سلطانا، ثم يخطو في ازدهاء الظافرين،

ويورد أرض ليبيا حتفها ودمارها. بهذا جرى حكم القدر!

فارتاعت لذلك جونو، واستعادت ما مضى من قتال

حمي وطيسه عند طروادة من أجل اليونان، وهم أحبابها، ...

فجاهدت الإلهة أن تكون في الطريق إلى أرض اللاتين سدا منيعا،

فتحول دون أولئك الطرواديين الذين سلمت جلودهم من سيف الإغريق،

ومن عنف أخيل، فتعرضهم لأهوال البحار.

وهكذا لبث الطرواديون أعواما وأعواما،

يجوسون خلال البحار هائمين في مهب القدر؛

فيا له من جهد كابدوه لينشئوا شعب الرومان!

لم يكد هؤلاء الطرواديون الهاربون - إينياس وأتباعه - يقلعون بسفنهم من صقلية بعد تجوال طويل، حتى أصرت جونو أن تمضي في عنادها وأن تصب عليهم نقمتها؛ فذهبت من فورها إلى «أيولس»

53

ملك الرياح، والتقت به في جبه المخيف الموحش، وتوسلت إليه أن يثير عاصفة هوجاء تذهب بأولئك المناكيد إلى أغوار الماء.

فسدد رمحه وضرب به جنب الجبل،

فأوغل، وانبثقت رياح كأنها الفرسان إلى أرض الوغى اندفعت.

خرجت من مكان الطعن تجتاح الأرض اجتياحا،

وانقضت على اليم فنفذت إلى أعمق الأعماق؛

ترجها بريح من شرق وريح من جنوب،

وأخذت الأمواج المخيفة نحو الشط زحفها،

فملأ الجو صياح الرجال وصرير الحبال،

وسرعان ما حجب الغمام عن أعين الناظرين

زرقة السماء وضوء النهار،

وجثم على صدر البحر ليل قاتم محزون.

ثم انشقت السماء عن لمحات من البرق خاطفات،

فلمعت بضوئها وأنذرت رواد البحر بموت قريب.

ويلقى بعض الراحلين حتوفهم في تلك العواصف الهوجاء، ولكن «نبتون»

54

لا يلبث أن يسكت الريح، وينحو باللائمة على تلك الرياح التي عصفت بالبحر دون أن يأذن لها وهو رب البحار. وكانت سفينة إينياس قد رست فيما رسا على شاطئ ليبيا بنجوة من الخطر. وهنا تنتقل الملحمة بأحداثها إلى أجواز الأثير؛ حيث الإلهة حامية إينياس - وهي فينوس - قد أوت تسكب من عينيها الدمع الغزير حزنا على ابنها، وتصب الشكاة صبا في مسامع أبيها «جوبتر»

55

مما قضت به «جونو» على إينياس ورجاله من أهوال وخطوب:

رباه يا من يحكم بسلطانه الأبدي

الأناسي والأرباب بقواصف رعده المخيف،

فيم أغضبك صاحبي إينياس؟

وما الذي جناه أهل طروادة حتى أوصدت - بعد ما عانوه من فوادح الكروب -

في وجوههم - هذه الدنيا العريضة بما وسعت،

فحيل بينهم وبين إيطاليا لا يبلغونها؟

إني لأعلم علم اليقين أن قضاءك قد جرى بأنه في مجرى السنين،

ستنجب تلك العشيرة ذلك الزعيم الروماني،

الذي ستنهضه دماء أسلافه الأمجاد،

فيحكم البحر والبر حكما غير محدود.

فيسري جوبتر عن فينوس حزنها بأن يكشف لها عما قضي به في عالم الغيب، ويؤكد لها أن قضاءه لم يتغير فابنها إينياس سينشئ ملكه في أرض اللاتين وسيخلفه من بعده ابنه «أسكانيوس»،

56

فيعلو مجده وينقل مقر ملكه من حاضرة أبيه «لافينوم»

57

إلى مكان جديد هو «ألبا لونجا»،

58

ثم تمضى ثلاثة قرون على ألبا لونجا قبل أن ينشئ «روميلوس»

59 - سليل الطرواديين - مدينة روما، قال جوبتر:

وسيطلق روميلوس اسمه على عشيرة الرومان،

ولن أضع لسلطانهم قيودا أو حدودا؛

فإني واهبهم ملكا لا تحده الأطراف،

وستخشاهم جونو التي تستبد اليوم بأرجاء الأرض والسماء،

فيتبدل شعورها، وتقف إلى جانب «جوق»

من دون الرومان حارسة تحميهم وهم سادة البشر.

ويمضي جوبتر فيتنبأ بالنصر يحرزه الرومان على اليونان، ويختم حديثه بنبوءة عن قدوم القياصرة من أصلاب الرومان، ثم تعود القصة إلى إينياس تروي أنباء رحلته، فها هو ذا يجوب الأرض على مقربة من شاطئ إفريقية فيلتقي بأمه الإلهة، وقد تنكرت في هيئة فتاة صائدة وتنبئه أنه إنما يجوب في أرض تحكمها ملكة «صور»، واسمها «ديدو»، وقد هجرت وطنها في فينيقيا بعد أن مكر أخوها «بيجماليون»

60

بزوجها «سيخاوس» ففتك به، وهي الآن تبني حاضرة جديدة لملكها، وهي قرطاجنة، ثم تشير فينوس على فتاها أن يأخذ سمته نحو قصر الملكة، وتزعم له أن بها من قدرة الكشف عن الغيب ما ينبئها أن سفنا أخرى غير سفينة إينياس قد بلغت الشاطئ سالمة من العطب.

ثم استدارت، فاهتز على جيدها ضياء من لون الورود،

وفاحت خمائل شعرها بعبير كأنه أريج من الفردوس،

وفاضت على الأرض حواشي ردائها،

فكشفت عن الإلهة الفاتنة بحسن طلعتها،

61

إنها أمه! فقفل إليها راجعا يصيح بها هاتفا: «إلهتي ما أقساك! فيم حيرة ابنك؛

تربكينه بهذا التنكر العجيب؟ ولم لا نتصافح بالأيدي،

فيسمع بعضنا من بعض ويجيب بعضنا بعضا بكلام صريح؟»

فكان جوابها على قول ابنها ذاك أن زملته بغمامة عجيبة تخفيه عن الأبصار، فدنا هو وصاحبه الوفي «أشاتس»

62 - متلفعا بغمامته - من مدينة الملكة وصوب إليها البصر من نشز كان يرتقيه، فلم يسعه إلا أن يغبط أهل قرطاجنة على هذه الحركة الدائبة فهم يغدون ويروحون، في شغل يشيدون، كأنهم النحل في خليته. ولما دنا «إينياس» من معبد أقيم بين عرائش الأشجار، أدهشه أن يرى حروب طروادة قد صورت على الجدران فيلتفت إلى زميله أشاتس ويقول:

هل تجد - أي أشاتس - من الأرض موقعا أو موضعا

لا يموج بأنباء طروادة الحزينة؟

ذلك هو «بريام »، انظر! ها هنا كذلك قد لقيت الشهرة جزاءها إن العالم لتغمره الدموع: ألا إن خطوب الإنسان لتهز قلب الإنسان. (2-2) الملكة ديدو وبلاطها

بينما كان كل شيء يبدو عجيبا للأمير إينياس؛

إذ وقف مبهوتا في دهشة عميقة.

عندئذ برزت إلى الحرم مليكة فتانة الجمال؛

هي «ديدو» تحوطها حاشية من البواسل الشجعان.

وأخذت الملكة وهي متربعة على عرشها تصرف شئون ملكها، وإينياس وصاحبه أشاتس يرقبانها وهما في ردائهما يختفيان. وكم بلغت منهما الدهشة حين أبصرا بفريق من أصحابهما في الرحلة يدنون من مجلس الملكة، وكانا قد يئسا من وجودهم بين الأحياء، وها هما ذان يسمعان أولئك الرفاق الذين تحطمت بهم السفين يضرعون إلى الملكة «ديدو» أن تكرم لقاءهم وهم رجال إينياس، فتجيب ديدو على ضراعتهم جوابا كريما:

ألا أزيحوا عن قلوبكم الخوف وانفضوا الهم فلا تحزنوا!

فمن الذي لا يدري ما طروادة، وما عشيرة إينياس؟

من الذي لا يعرف الرجال وأعمال الرجال واشتعال القتال؟

كلا، إن نفوسنا نحن الفينيقيين لم تبلغ من البلادة هذا الحد البعيد.

إن هذه المدينة - التي أقيمها - مدينتكم، فهاتوا إلى البر

سفينكم، إن أهل طروادة وأهل صور

سيجدون في ديدو مليكة تعرف الهوى؛

أواه! وددت لو دفعت الريح التي دفعت فلككم

أميركم إينياس، إذن لكان ازدان به بلاطي!

وكانت ديدو على وشك أن تنفذ رسلها ليبحثوا عن إينياس، فكشف البطل عن نفسه بخروجه من تلك الغمامة العجيبة التي كانت تلفه لتخفيه.

وهكذا وجه للمليكة الخطاب، وفاجأ الحضور

بحديثه فبهت السامعون: «انظري! ها أنا ذا؛

أنا الرجل الذي عنه تبحثين. ها أنا ذا إينياس ماثل بين يديك.

أنا سليل طروادة الذي سلم من أمواج ليبية.

مولاتي! أنت يا من أحسست وحدك الرحمة نحو طروادة،

فأشفقت عليها في المحنة القاسية،

وها أنت ذي تقاسميننا البلد والدار،

أيتها الملكة ديدو! لأن نجزيك على فضلك الجزاء الوفاق، فذلك فوق مقدورنا، بل فوق مقدور قبيلة «داردانوس» في أنحاء العالم أجمع.

فإن كان هنالك بين الأرباب من يرقب الخير،

وإن كان ميزان العدل قائما ، وإن كان للشعور بالحق وجود صحيح، إذن فليجزك الآلهة عما فعلت خير الجزاء.

أي عصر سعيد قد أنجبك؟ حدثيني؛

من أولئك الأسلاف الذين نسلوك رائعة الجمال؟

ما دامت جداول الماء نحو البحر دافقة، وما دامت ظلال الجبال نحو الوهاد منحدرة، وما دامت السماء ترعى أفلاكها،

فسيظل قلبي نابضا بذكر ديدو مادحا ومكرما؛

أينما كنت في طول البلاد وعرضها.»

فدهشت ديدو بادئ الأمر أن ترى

ذاك الأمير، ثم فكرت كم لاقي من خطوب: «أنت يا من ولدتك الإلهة، أي حظ منكود اقتفاك

في مغامراتك المحفوفة بالخطر؟ أي قوة

دفعت بك إلى هذا الشاطئ الموحش؟

أأنت هو بعينه إينياس ذاك الذي ولدته فينوس

وكان أنشيز الداردي له أبا؟»

وتروي الملكة ما كانت قد سمعته عن الطرواديين من صديق قديم لأبيها، ثم تبسط يدها بالعطاء الكريم واللقاء الحسن لإينياس ورفاقه.

وحدث أن أقامت الملكة مأدبة فاخرة، وبينا الحفل قائم نهضت ديدو بين تلك الأنوار الزاهية الساطعة، وطلبت إلى ضيفها أن يقص قصة الكارثة الأخيرة التي نزلت بطروادة، وأن يروي عن تجواله الذي أنفق فيه سبع سنين. (2-3) سقوط طروادة

حزن يخرس اللسان؛ ذلك - أي مليكتي -

ما أمرتني أن أجدده؛ تطلبين أن أروي

كيف دك الإغريق من طروادة سلطانها،

وتلك المشاهد الأليمة ما وصفها،

وكان لي أن ألعب فيها دورا عظيما، أفي قصة كهذه

يستطيع جندي من «الميرميديين»

63

أو من «الدولونيين»،

64

بل هل يستطيع أحد من رجال «يوليسيس» القاسي القلب أن يمسك عن سفح الدموع؟

ها هو ذا الليل الرطيب يسارع إلى السماء يغشاها،

والأنجم الزواهير تشير بإطباق الجفون،

ولكن إن كنت بأحزاننا مشغوفة،

وأردت خلاصة لآخر ما حل بطروادة من خطوب،

فرغم ما ترتج به النفس من أليم الذكرى،

ورغم ما يذيب النفس من الأسى،

سأروي لك ما تطلبين.

ويأخذ إينياس في شرح خدعة الحصان الخشبي الذي انتقل في جوفه المحاربون الإغريق إلى مدينة طروادة التي كتب عليها الدمار، ويروى عن سفك الدماء واشتعال النيران في الليلة الأخيرة التي بعثت الرعب في النفوس، ويتذكر إينياس وهو يروي كيف نهض من نعاسه فزعا على أثر حلم مخيف شهد فيه أخاه هيكتور جثة تتقلب في دمائها وتتمرغ في الرغام حين أخذ أخيل يجري بها مشدودة إلى عربته:

أنهضت نفسي من نعاسي، وعلوت

من الدار سطحها، وأرهفت أذني تنصتان،

فكما تنشر النار عاصفة جنونية هوجاء،

فتلتهم الحصاد التهاما، وتترك الحقل بلقعا،

أو كما ينحط سيل دفاق الماء من أعلى الجبل،

فيغرق الحقول إغراقا، ثم يغرق الزرع البهيج

الذي كدحت الثيرة في إعداده كدحا،

ثم ينساب فيقتلع الغاب ويكتسحه؛

كما يحدث هذا فيهب الراعي غير عالم بما حدث،

يهب وقد سمع فرقعة على مبعدة،

فيقف مشدوها على رأس صخرة عالية؛

هكذا كنت ونزلت النازلة، وافتضحت خدعة الإغريق،

فها هنا دار تقوضت بلهيبها،

وانعكس وهج النار على أمواه «سجيوم»،

65

وصاح الرجال ونفخت الأبواق،

فجن جنوني وامتشقت حسامي فما أحرها شهوة

أن تجمع حفنة من الرجال وأن تخف مع الرفاق إلى القلاع ...

واستحث عزمي ثورة السخط ومس الجنون،

وحدثتني النفس أنه جميل أن نموت تحت السلاح.

لكن كل جهد في مقاومة الأعداء كان عبثا لا يغني عن المدينة شيئا. وجاء رسول ينبئ إينياس أن قد ضاع كل شيء. •••

ولقيت «داردانيا»

66

يوم حتفها

وتلك ساعة رهيبة هيهات أن يجدي في دفعها كفاح الإنسان،

وذهبت ريحنا نحن الطرواديين، وقضي الأمر في «إليوم»

67

ومجدنا ذاك العظيم

قد تحول كله - بعمل جوف الجبار - إلى قبضة الإغريق،

ومدينتنا - وهي باللهيب تستعر - بات الإغريق سادتها.

وهكذا انتصر الإغريق على طروادة نصرا حاسما؛ فأسرت الأميرة «كاساندرا»

68

وقتل الملك الشيخ «بريام»، وتظهر «فينوس» لتأمر إينياس بالفرار؛ فيحمل إينياس أباه الكهل على عاتقه ليخرجه من أسوار المدينة: ويتبعه ابنه «إيولس»،

69

لكن زوجته «كروزا»

70

تضل في المدينة المضطربة فلا تلحق به، حتى إذا ما عاد إينياس يتفقدها ألفاها جثة هامدة. (2-4) مغامرات إينياس

بقي على إينياس أن يروي للملكة وسائر الحضور قصة مغامراته وهو في طريقه إلى بلد أراد له القدر أن يكون موطنه؛ فقد ابتنى لنفسه أسطولا وأبحر به حتى بلغ تراقيا، لكن روح «بوليدورس»

71

المقتول رفرفت حوله منذرة إياه أن يسرع فيغادر «تلك الأرض القاسية» هاربا؛ وواصل هو وصحبه السفر حتى أدركوا «ديلوس»

72

فأشارت عليهم راعية أبولو أن يرحلوا للبحث عن «أمهم الأولى»، فأخطئوا عنها الفهم وقصدوا إلى كريت، وهنالك أنبئ إينياس في رؤياه أن غايتهم المنشودة تقع ناحية الغرب، وهي بلد يسمى إيطاليا، فأقلع إينياس عن الشاطئ الغربي لبلاد اليونان، وأرسى سفينه في «أكتيوم».

73

حيث أقام حفلا للألعاب، ثم أقلع ليرسو في «بوثروتوم»

74

حيث التقى بأرملة «هكتور» - أندروماك - التي كانت قد تزوجت من «هلنيوس».

75

الذي أنبأ إينياس أن وطنه المقصود هو الشاطئ الغربي من إيطاليا. هكذا أراد له القدر، وإلى هنالك يجب أن يشد الرحال:

وأخذنا في المسير فنشرنا أجنحة القلاع،

ها نحن أولاء قد طلع علينا الفجر أحمر قانيا

وعمدت أنجم السماء إلى الفرار؛

فرأينا على بعد تلالا يكسوها الضباب،

إذ رأينا الساحل الإيطالي الوطيء،

فكان «أشاتس» أول من صاح «إيطاليا»! - فردد صيحته «إيطاليا» رجالي في مرح بهيج، - ثم جاء أبي «أنشيز» بكأس عظيمة وبالإكليل توجه،

وملأه بصافي الخمر ونادى بالآلهة

من موقفه في مؤخرة السفينة العالية: أيتها الآلهة!

يا سادة البر والبحر في الصحو والعاصفة،

عبدوا لنا السبيل ولتصاحبنا أنفاسكم.

وهكذا انطلقت بهم السفن سراعا تجاه صقلية، وعبروا المضيق الخطر، هنالك مروا سالمين ببركان إتنة الذي يتوهج منه اللهب كأنه الجحيم، لكن لم يلبث في هذا الوضع من الرحلة أن قضى «أنشيز»، وهو خير سند لإينياس فخلفه لسلسلة من العناء المضني والشقاء المميت. وهنا سكت إينياس عن رواية قصته، وما بقي من رحلته. (2-5) مأساة ديدو

اشتعلت نار الحب في قلب ديدو، ولم تستطع كتمانه عن أختها «أنا».

76

فنفضت لها بعض ما يضطرم في فؤادها من عاطفة ملتهبة، فرأت لها أختها أن تعقد أواصر الحلف بين قرطاجنة والطرواديين، وهنا يضاف إلى القصة عنصر جديد؛ فإن جونو التي ما برحت تعوق إينياس وأتباعه وتحول دون بلوغهم الوطن الجديد قد شرعت الآن تنسج أحبولة لعدوها إينياس حتى ينثني عن غايته المنشودة من رحلته، وهي إيطاليا التي اختارها الله لتكون وطنا جديدا له ولأحفاده من بعده؛ فخرجت الملكة ديدو وإينياس، وبعض الحاشية والأتباع في رحلة للصيد، لكن السماء لم تلبث أن تجهم وجهها، واسود بالسحاب أديمها، ولمع برقها وقصف رعدها، فانقطع بالملكة وحبيبها إينياس الطريق عن سائر الرفاق وأويا إلى مخبأ يحتميان فيه، وهنالك في ذاك المكان البعيد المنعزل أفضى الحبيب إلى حبيبه بما أفضى، وعدت ديدو نفسها منذ ذلك الحين عروسا للبطل الطروادي إينياس؟ فما ذاع في الناس هذا الحب الجديد حتى ثارت الغيرة في قلب «آيارباس»

77

وهو أمير ليبي أحب ديدو، وأراد زواجها، فرفع أكف الضراعة إلى ربه جوبتر يدعوه العون في محنته، فاستجاب لدعائه جوبتر وبعث عطارد رسولا يأمر إينياس أن يشد رحاله إلى إيطاليا وطنه الموعود؛ فلم يملك إينياس أن ينبئ ديدو برحيله، ودبر مع ملاحيه أن تقلع بهم الفلك في طي الكتمان.

لكن هل يمكن للحبيب أن ينخدع، لقد أحست ديدو بالمكيدة تجرى من وراء ستار، وجاءتها الأنباء عن سفن تعد وخطط توضع، فجن جنونها والتهب باللوعة قلبها، واندفعت على وجهها هائمة تجوس خلال المدينة حتى فاجأت إينياس:

هكذا رجوت يا خائن أن تسدل على خبثك الستار،

وأن تقلع عن بلادي في صمت وكتمان،

هلا أثناك عن السفر شيء؟ فلا الحب أقعدك،

ولا عهود الأمس، ولا رحمة بديدو من قضائها المحتوم؟

أمني تلوذ بالفرار يا إينياس؟ نشدتك هاتيك الدموع،

نشدتك يمينا عاهدتني بها - فلم يبق منك لديدو المنكودة

غير يمينك والدموع - ثم نشدتك عناق الحب،

نشدتك شعائر الزواج وقد بدأناها،

نشدتك ما أبديت نحوك من حسن اللقاء،

بل نشدتك ما سرك من جمالي، أن تشفق على داري من خرابها

فإن بقي للدعاء متسع فها أنا ذا أتوسل أن تبدل ما اعتزمت؛

إنه من أجلك بات يمقتني عشائر ليبيا وشيوخها،

وامتلأت قلوب الصوريين بغضا ونفورا,

حدثني لمن - أيها الضيف - أنت تاركي حين أموت؟ «فبالضيف» لا «بالزوج» اليوم أدعوك. (2-6) إينياس في العالم السفلي ثم في إيطاليا

لكن ضراعة الحبيبة لحبيبها أن يقيم في بلادها ذهبت أدراج الرياح، فطعنت ديدو نفسها بسيف حبيبها.

ويستأنف إينياس رحلته نحو البلد المنشود، ويرسو على الشاطئ الغربي لإيطاليا ويسارع إلى كهف «سيبيل»

78

حيث ينبئ الكاهنة أنه يريد الرحلة إلى العالم السفلى ليرى هنالك أباه أنشيز، فتصحبه الكاهنة تهديه السبيل ويهبطان معا إلى منازل الموتى وقد امتلأت أرواحا وأشباحا.

ولم يكادا يبلغان ذلك العالم السفلي حتى يعبران نهر «ستكس».

79

ويشرف على عبورها «شارون»

80

النوتي الكئيب، ثم تمضي الكاهنة يتبعها إينياس خلال عالم كله يأس وقنوط، تروح فيه وتغدو صنوف من أشباح الموتى. وهنالك يلتقي إينياس بكثيرين من أبطال طروادة ويقابل الملكة ديدو، فيرى عينيها تقدحان الشرر مقتا وغيظا، ثم يبلغان «اليزيوم»

81

حيث يجد إينياس أباه فينبئه أبوه بما قد كتب لسلالته من مجد وفخار. (2-7) حروب إينياس في إيطاليا

وكان بين النبوءات التي تنبأت بها «سيبيل» لإينياس قتال عنيف تراق فيه الدماء، وعروس من أجلها يلاقي الطرواديون أفدح الأخطار. فلما بلغ إينياس نهر التيبر آمنا، وقع ذلك موقع الرضا من ملك ذلك الإقليم «لاتينوس»

82

الذي وعد إينياس أن يزوجه ابنته الأميرة «لافينيا»،

83

لكن ملكا آخر هو «تورنوس»

84

كان يعتبر «لافينيا» عروسه المرتقبة، فأثار نفسه ذلك الوعد الذي قطعه أبوها أن يزوجها لإينياس، أضف إلى ذلك أن الإلهة «جونو» - وهي التي تناصب إينياس العداء - غضبت لهذا الحظ السعيد يصادف إينياس، وأسرعت فنادت من العالم السفلي شيطان الانتقام ليشعل نار القتال وينفر الملكة الوالدة من هذا الزواج الموعود حتى تقف حائلا دونه، وهكذا تأهب أهل إيطاليا القديمة لصراع وشيك الوقوع.

وفي هذا الموقف الخطير أشار إله النهر «تيبر»

85

على إينياس أن يبحر على ظهره حتى موطن الملك «إفاندر»

86

فيحالفه على عدوه، وكانت عاصمة ملكه - مدينة «بلانتيوم»

87 - قائمة في الموضع الذي أنشئت عليه روما فيما بعد. وحالفه ذلك الملك وأتباعه وأصدقاؤه، كما صنع له «فلكان»

88 - إله النار والحدادين - عدة حربية أوصته بصنعها «فينوس».

وانتهز «تورنوس» - عدو إينياس ومنافسه - فرصة غيابه - غياب إينياس - عن معسكره وحاصر جنوده الطرواديين . وأخيرا عاد إينياس وفي صحبته «بالاس»

89 - وهو ابن حليفه إفاندر - لكن القتال لم يكد يبدأ حتى فتك تورنوس ببالاس هذا، وثار إينياس ثورة جبارة انتقاما لصديقه الصريع، فقتل من صفوف أعدائه عددا من الأبطال، وكان من مؤيدي «تورنوس» امرأة فارسة تدعى «كاملا»

90

كان أبوها قد وهبها قربانا لإلهة الصيد «ديانا»،

91

فنشأت في الغابات نشأة جعلت منها محاربة ماهرة شديدة الفتك بعدوها؛ فأبدت هذه الفارسة وأتباعها مهارة في القتال تستوقف الأنظار لكنها أصيبت آخر الأمر بضربة قاتلة.

ولم يكد يبلغ تورنوس نبأ موت هذه الفارسة حتى خارت عزيمته وبدأ الحظ يبسم لإينياس، والتقى هو وعدوه تورنوس في مبارزة حامية. وبينما هما في حر القتال إذا بتورنوس تغشاه موجة عجيبة من النوم تذهب منه اليقظة والوعي ويعجز عن قذف الصخرة الضخمة التي رفعها ليضرب بها عدوه. وهكذا أرداه القدر ووقع فريسة باردة لإينياس الذي أعمل فيه الرمح فأهواه على الأرض طريحا، وتم له النصر. وأنشأ إينياس لنفسه مدينة ذهبت بذكرها الأساطير وهي مدينة «روما» وحول تلك المدينة نشأت الأساطير التي تروى عن نشأتها فيما بعد. (3) الشعر المسرحي والفلسفي والغنائي عند الرومان

أخذ الرومان عن اليونان كل صور الأدب على اختلاف ألوانها، ولكنهم كانوا في المسرحية أشد اعتمادا على اليونان وأكثر تقليدا، حيث جاءت الروايات اللاتينية وكأنما هي روايات يونانية فيها شيء من التعديل والتبديل. ومما يستوقف النظر في تاريخ الأدب أن كتاب الرواية المسرحية - ولا نستثني من ذلك أعلامهم النوابغ - كانوا أكثر من سائر الكتاب استعارة من إنتاج السابقين، كأنما أبيحت السرقة الأدبية في هذا النوع من الأدب؛ فهذان موليير وشيكسبير ومعاصروهما قد استعاروا من الأقدمين شيئا كثيرا، وهؤلاء كتاب المسرحية في الأمم الحديثة ينقل بعضهم عن بعض، معترفين بهذا النقل تارة ومنكرين له طورا.

وأول من نذكر من كتاب المسرحية اللاتينية، اثنان من أصحاب الملهاة (الكوميديا) هما: «بلوتس»

92

و«ترنس».

93

ولو أنه من العسير علينا أن نقرر كم بلغت الملهاة القديمة - يونانية كانت أو رومانية - من التوفيق في إثارة الضحك عند النظارة، وكم كانت صادقة في تصوير الحياة عندئذ؛ لأن الفكاهة - وبخاصة حين تصطبغ بلون محلي معين - أثر أدبي سرعان ما يفنى؛ فلا تحسب القارئ الحديث - مهما بلغت دراسته للآداب القديمة من دقة وعمق - بقادر على أن يستمرئ فكاهة «بلوتس» و«ترنس» حتى تهتز لها جوانبه. أخذ «بلوتس» كثيرا من آرائه من الملهاة اليونانية، ومن ملاهي «مناندر» على وجه أخص، وكان كثير من هذه الملاهي قد بددته يد الزمن، فجاء «بلوتس» وأظهرنا بما كتب وما استعار على شيء منها. ولما كان كتاب المسرحية الأوروبيون فيما بعد - الفرنسيون منهم والإيطاليون والإنجليز - أخذوا قصصهم من هذا الكاتب اللاتيني، فقد اكتسب شهرة لم يكن ليظفر بها من آثاره الأدبية وحدها.

ثم جاء بعده «ترنس» فكان أصقل منه أسلوبا، وأقرب إلى اليونان روحا، ولكنه استعبد نفسه لسادته اليونان، فقلد ولم يخلق، والتقليد المطلق في الأدب نذير الموت. وفي الحق إنا لا ندري لماذا عجز الرومان عن الإجادة في أدب المسرح؛ فلئن قلدوا مسرح اليونان، فقد قلدوا كذلك سائر ألوان الأدب اليوناني، ولكنهم كشفوا في هذه عن عبقرية وأصالة، وربما كان عجزهم في أدب المسرح راجعا إلى اشتغال الناس بحفلات المصارعة والمبارزة وما إليها، حتى لم يعد متسع كبير من الزمن يختلفون فيه إلى المسارح، فماتت ومات أدبها، كما نقول اليوم عن السينما واشتغال الناس بها إنها تهدد المسرح تهديدا مخيفا. أما المأساة «التراجيدية» فكاتبها عند الرومان هو «سنكا»، لكن مأساته أبعد ما تكون المأساة عن الجودة؛ فلا يعرف التاريخ «سنكا» بكتابته المسرحية بقدر ما يذكره فيلسوفا يعتنق المذهب الرواقي، وأستاذا مربيا لطاغية الرومان «نيرون».

كان العقل الروماني ينزع إلى الفلسفة مهتديا بهدي اليونان، وكان عقل «لوكريشس»

94

هو الملتقى الذي تزاوجت عنده الفلسفة والشعر، فأنتج ازدواجهما قصيدة فلسفية أدبية هي «في طبائع الأشياء»، وإنها لقصيدة فخمة تغوص في خضم الحياة إلى أعمق الأعماق؛ فلوكريشس في قصيدته هذه من الشعراء القلائل الذين أفلحوا في إلباس الفلسفة ثوبا من الشعر، وليست قصيدته من قبيل النثر المنظوم، بل إن فيها لروحا من الشعر الصحيح، وقد بقيت لنا هذه القصيدة كاملة، وهي من حيث الجزالة والبلاغة مثال للشعر اللاتيني الممتاز لا يفوقها إلا شعر فرجيل، لكن «لوكريشس» لم يعدم من النقاد من يخرجه من طائفة الشعراء الفحول، فلا موضوعه عند هؤلاء بصالح للشعر، ولا ألفاظه ولا أوزانه وقوافيه من الجمال بحيث تبرر أن يوضع في صف أولئك الشعراء، كما قال مثل ذلك القول بعض نقاد العرب في لزوميات أبي العلاء المعري. أما موضوعه في قصيدة «في طبائع الأشياء» فهو بسط لفلسفة الأبيقوريين في قالب منظوم، وهاك بعض فصول قصيدته لتحكم مع هؤلاء النقاد أنها لا تصلح موضوعا للشعر: «الشيء لا يخرج من لا شيء، والشبيه يحدث عن شبيهه.» «الكون مؤلف من ذرات وخلاء.» «المادة لا تفنى.» وهكذا يأخذ الشاعر في شرح الذرات وحركاتها وتكوين الأجسام وفسادها. وإن شاء قارئنا أن يكون بنفسه رأيا في «لوكريشس» فليقرأ ترجمته الإنجليزية للشاعر الأمريكي «ليونارد» وهاك مثالا من شعره:

قال مخاطبا أبيقور:

أنت يا أول من رفع في الظلام الدامس

شعلة تنير بها الطريق إلى السعادة!

أنت يا فخر اليونان! أنا تابعك،

وسأقتفي خطاك خطوة فخطوة،

لا أباريك ولكن أحاكيك؛

وهل ينافس السنونو طائر التم الجميل؟

وقال في خصوبة الأرض عند نشأتها:

أخرجت الأرض منذ نشأتها صنوف العشب أشكالا،

فاعشوشبت ناصعة نجادها ووهادها،

وازدانت حقول الزهر بسندس أخضر،

وألهم الشجر أن يسابق في النماء بعضه بعضا،

واكتسى الطير والحيوان بالريش والشعر والفراء؛

فالأرض النضرة قد أنبتت كلأها وشجرها،

ثم أخرجت من جوفها الحيوان يرعاه،

وتكاثر الحيوان بعدئذ أشكالا وألوانا؛

فالأرض - لهذا - «أمنا» لا شك في أمومتها،

فمنها جاءت الأحياء طرا.

وعاصر «لوكريشس» شاعر شاب هو «كاتلس»

95

الذي قصفته المنون في سن الثلاثين، ولم يكن «كاتلس» كزميله مشغوفا ب «طبائع الأشياء» ولكنه عني بطبيعة نفسه، فأدار شعره حول عواطفه، ليعبر به عن حبه وكرهه، فاجتمعت في شعره نزعات القلب وقواعد الفن، فهذا هو يخاطب حبيبته «لزبياه»

96

يعليها آنا ويسفل بها آنا؛ فهو صادق الشعور صادق التعبير، ينشد القصيد فتحسبه إنسانا يصيح صيحة الطبيعة من الأعماق، ولكنها صيحة شذبت أطرافها وصبت في أوزان الشعر وقوافيه. وهذا مثال من شعره:

قال في قصيدة عنوانها «طيش الحب»:

تعالي نعش يا لزبيا حبيبين،

ولنصم الآذان من لوم الكهول العاذلين.

لتذهب الشمس في خدرها غاربة ولتخرج الشمس مشرقة،

فسنغمض عن ضوئها الفاني العيون،

ونظل على مخدع واحد في نوم عميق،

نقضيه ليلا سرمديا لا يعرف الإصباح.

دعيني أقبلك ألف قبلة، بل أريد أكثر!

سأضيف مائة إلى الألف، سأضيف إلى الألف ألفا

وعليها مائة، بل أريد ألفا أخرى ومائة أخرى.

دعيني أقبلك ألوفا وألوفا،

ولنخطئ في عدد القبلات عامدين؛

فما أنكد الطالع لو عرفنا كم عددها.

فإذا عرف الحاسدون كم قبلتك يا لزبيا،

أصابتنا بشرها أعين الحاسدين.

وقال في قصيدة أخرى عنوانها «إلى لزبيا التي لم تبق على العهد»:

كنت يا لزبيا أيام حبنا تزعمين

أن قلبك كله لي ملك اليمين،

وكنت يا لزبيا لمخدعي لا تهجرين،

حتى إن دعوك إلى جوف تشاركين،

فما كان أخلص عندئذ عبادتي إياك،

فلم تكن نار قلبي غامضة ولا فاجرة

كالتي يؤججها الجمال في الصدور الخاوية،

لكني أحببتك يا لزبيا كما يحب الأطفال آباؤهم.

هذا الحلم الخادع وا أسفاه قد زال؛

فقد عرفتك الآن، فإن رأيت عيني

ما تزالان تحدجانك كما كانتا تفعلان،

فاعلمي أني حتى عند النظر إليك مزدريك،

نعم، أيتها الساحرة، وقد يبدو ذلك ضربا من الجنون.

إنك لتضيفين بصناعة السحر جمالا إلى جمالك،

قد أقدرك وقد أزدريك، ولكني أحبك؛

فأنا لك مقدس ومحتقر معا .

وجاء بعد «كاتلس» في القرن السابق لميلاد المسيح، وهو العصر الأوغسطي الزاهر من عصور الأدب اللاتيني، «هوراس»

97

أبعد أدباء اللاتين صوتا، وأسرعهم بين القراء سيرورة، وأكثرهم عند المحدثين إغراء بالترجمة والاقتباس.

ولد «هوراس» من أب عبد اشتغل بجباية الضرائب، فجمع من ذلك مالا قليلا، ثم جاء بابنه إلى روما، لينفق ما جمع على تعليم ابنه، لا يدخر لنفسه شيئا؛ فلا يجب أن تطالع في بعض أناشيد الشاعر لونا من عرفان الجميل لأبيه لم يبلغ مدى جودته إلا قليل من الشعراء؛ فلم يكن الوالد العطوف أن يضحي بماله في تربية ابنه، بل كان يصحبه إلى المدرسة في الصباح، ويصحبه من المدرسة في المساء، حرصا عليه؛ فلما بلغ «هوراس» عامه التاسع عشر، بعث به أبوه إلى اليونان يتعلم ما لليونان من فلسفة وشعر. ولما نشب القتال بين بروتس وقيصر، وقف الشاعر دراسته حينا ليناصر بروتس، وحارب إلى جانبه في معركة «فلبي»، فما هو إلا أن تنفض روما عن نفسها غبار المعركة حتى يرى الشاعر نفسه في فقر مدقع؛ فقد مات أبوه، وصادر أوغسطس ميراث الشاعر عن أبيه، فظل «هوراس» يعمل ليكسب قوته، ويقرض الشعر في أوقات الفراغ؛ فاستوقف شعره الجميل نظر «فرجيل» الذي قدمه إلى «ميسناس»،

98

ولم يكن «ميسناس» هذا صديقا حميما لأوغسطس فحسب، بل كان يشجع الفن بماله الكثير، حتى أصبح اسمه يطلق مجازا على كل من يبسط كفه بالعطاء لأصحاب الفنون. فلما كان «هوراس» في عامه الثاني والثلاثين، منحه ميسناس مزرعة أتاحت له أن ينفق بقية العمر في عيش رغيد، فانصرف بمجهوده إلى النشيد.

وأول آثاره الأدبية كتابان أسماهما «سخريات»، ولكن دعك من هذا العنوان، فالشاعر في هذين الكتابين يقبل على الدنيا راضيا، فلا تؤذيه ظروف الحياة كما هي، بل يعبها عبا وينتهز منها سوانح الفرص قبل أن تفلت من يديه، كأنه عمر الخيام:

لقد عاش في أمن وفي دعة،

من يقول: «هذا اليوم قد عشته.»

وغدي فليجعله الله صحوا أو مطيرا؛

فلن يسلبني بهذا سرورا ملكته.

إن ما قد كان هيهات لقوة أن تفسده.

ولكنه في هذين الكتابين لا يفوته أن يسخر سخرية خفيفة من العظماء في سلوكهم، وأن يسوق من حياة عصره أمثلة تبعث على الضحك لأنها تصور نقائص الإنسان.

ثم كتب في سن السادسة والثلاثين «الأناشيد» وهي حلقة وسطى بين «السخريات» و«الأغاني». وإن هذه الأخيرة لموضع شهرته ونبوغه؛ فلم تكد تنشر الكتب الثلاثة الأولى من أغانيه حتى صعد من فوره إلى الصف الأول بين شعراء عصره، لا بل إلى الطليعة من شعراء العالمين. فهذا حق لا ينكره عليه ناقد أو يرتاب في صدقه مرتاب؛ فهوراس - منذ أن نشر أغانيه - رحبت به زمرة الشعراء الفحول فوقف بينهم على سفوح أولمب! ولم ذاك؟ لأنه يشبع جانبا من جوانب القلب الإنساني؛ ألا تريد أن تصطحب في غدواتك وروحاتك إنسانا يبتسم لك فتبتسم، وينبسط أمامك جبينه فينبسط منك الجبين؟ ألست تلتمس إذا ما ضاقت بك أمور العيش من يريك الحياة وضاحة مشرقة، ويسمعك ألحانا تظهر لك من دنياك وجهها المشرق وتخفي عنك وجهها الباكي؟ ذاك هو هوراس في أغانيه. إن من يصيب السعادة في الحياة قلما يحس الحاجة للتعبير عن نفسه؛ ولهذا كان من نوادر المصادفة وشوارد الاتفاق أن تجد شاعرا سعيدا، وهوراس هو هذه المصادفة النادرة والاتفاق الشارد، لأن السعيد والشاعر قد سكنا منه إهابا واحدا. إن هوراس في أغانيه يعلمك أن الإنسان يكبو لينهض، وينهزم ليقتحم. إنه يعلمك أن الحياة سعيدة بهيجة، لا تشوبها من دواعي الهم إلا توافه، إذ هو يقص لك قصة حياته فإذا هي هذه، فتقول: إن استطاعها هوراس، فلم لا أستطيعها، ولم لا يستطيعها ألوف الألوف من البشر؟ بل إن هوراس ليزعم لك أن المدينة الفاضلة التي تنشدها هي بجوار دارك إن صح منك العزم ولم ينضب فيك معين الخير؛ استمع إليه في أغنية «عيد الميلاد»: «عندي قدر من جيد النبيذ عتقته ما يربو على تسع سنوات، وفي حديقتي نبات البقدونس أنسج منه الأكاليل، وفيها لبلاب إن عقصت به شعر رأسك أبدى لك جبينك وضاحا. إن الدار لتسطع بالأواني الفضية، وإن المذبح - تكلله أوراق الشجر المقدسة - ليرقب في شوق أن تنسكب على ظهره دماء الأضاحي، ها هم أولاء أهل الدار يسرعون هنا وهناك، ويندفع في حشد مختلط أيفاعهم واليافعات. وإن ألسنة النار لترقص حين تطوي الدخان الأسود فتعلو به حويات حويات كأنها الأكاليل ...»

وحتى حين ينذر صديقه «بوستيومس» بدنو الشيخوخة فالموت، تراه يغني في هدوء ورباطة جأش، مع أن موضوع الأغنية كفيل أن يثير الفزع في نفس قائله:

وا أسفاه بوستيومس،

99

أي بوستيومس، إن السنين لتمضي مسرعات كأنها من الأسر هاربات.

ولن تغني فضائلك بأسرها أن تؤخر عن وجهك غضونه إن حل موعدها، أو تحول دون شيخوخة قادمة وموت لا مفر منه. إنك قد تستعطف الموت ليبطئ، ولكنه لا يتوانى في أداء قضائه المحتوم؛ فلنكن من جبابرة الملوك أو فقراء الزارعين، فلا مناص لمن أسمنت جسومهم فاكهة الأرض من عبور مجرى الموت الكئيب غير مبطئين.

لن يغني عنك شيئا أن تنجو من حرب زبون. لن يغني عنك شيئا أن تفر من أمواج البحر في الأدرياتيك الصخاب، ولن يغني عنك شيئا أن يمضي الخريف دون أن تنالك بفوادحها رياح السيروكو الهوجاء؛ فلا بد آخر الأمر أن تواجه نهر الموت في تياره الواني، فتشاهد من صرعتهم المنون بقضائها المحتوم.

لا بد يوما أن نزول عن وجه الأرض؛ لا بد أن نفارق يوما هذا الشجر الذي عهدناه فوق السقوف، وأن نغادر زوجاتنا ذوات الصدر الحنون. لن نصطحب مما أنبتناه من شجر إلا سروة حزينة تظل القبور.

لكن أبناءنا من بعدنا - ويا خيرهم أبناء - سيحتسون نبيذنا المخزون مهما تكن دونه الأقفال، وسيسكبون على أرض الدار المزخرفة نبيذا لم تشهد حلاوته موائد الأحبار.

ذلك هو «هوراس» الشاعر، لكنه لم يقرض الشعر وكفى، بل كان أستاذا في فن الشعر النظري، فألف كتابا عنوانه «فن الشعر» وهو على قصره عميق الأثر في الأدب الحديث، فأثر في إيطاليا بفضل الشاعر «فيدا»، وأثر في فرنسا بفضل الشاعر الناقد «بوالو»، وأثر في إنجلترا بفضل «بوب».

إن هوراس الرجل لا يقل عظمة عن هوراس الفنان، فشخصيته التي تسطع خلال أشعاره طريفة ممتعة، لها وقارها ولها ظرفها في آن واحد.

وكان يعاصر هوراس في أخريات سنيه - قبيل ميلاد المسيح - جماعة من شعراء المراثي (الإليجيا). ولسنا نقصد بالمراثي بكاء على ميت، وإنما هي - كما ذكرنا قبل - كلمة يطلقونها ليدلوا بها على صياغة القصيدة وبنائها وأوزانها، لا على موضوعها ومعناها، فأول شعراء المراثي عند الرومان هو «جالس»

100

وهو الذي أجهد نفسه لنقل هذا القالب الشعري من اليونانية إلى اللاتينية، وكانت معظم «مراثيه» تدور حول الحب، فلما وفق في صياغة شعره في هذا الوزن الجديد، أصبح قالب «المرثية» بدعا يصطنعه الشعراء. وأكبر شعراء المراثي ثلاثة: «بروبرتيوس»

101

و«تيبلس»

102

و«أوفد»؛

103

أما «بروبرتيوس»، فقد أجاد الشعر وهو يافع، وأتقن دراسة النماذج اليونانية إتقانا جعله في سن العشرين شاعرا مجيدا ذا أصالة وابتكار. وكان الحب موضوع شعره، وأصبحت «سنثيا» حبيبته إحدى غواني الشعر الخالدات. ولقد أفسد حبه لهذه المرأة حياته حتى قضي وهو في سن باكرة؛ فقد كانت الحبيبة امرأة متهتكة، فاستحال عليه زواجها، ولكنها على فجورها ما زالت تستولي على لبه لمواهبها الفنية في الغناء والرقص وقرض الشعر فضلا عن جمالها الفتان. استمع إليه في وصف أمسية في إحدى «مراثيه»: «ما دامت سنثيا

104

قد خانت فراشي مرارا، فقد صممت أن أبدل مخدعي وأقيم رواقي في مكان آخر، فهناك امرأة أعرفها اسمها «فلس» لا تمتعني وهي صاحية، أما إن شربت فهي السحر الفاتن، وهنالك امرأة أخرى اسمها «تيا»، جميلة ولكنها إن سكرت فلا يكفيها من الرجال حبيب واحد. صممت أن أدعو هاتين المرأتين لأقضي معهما الليلة، لعلي أسري عن النفس بعض حزنها ... لقد كانتا تغنيانني، ولكني كنت عن غنائهما في صمم؛ وكانتا تكشفان لي عن الأثداء، ولكني كنت عن ذلك في عمى.

انظر! لقد فجأتنا قوائم الباب بصرير حين استدار المصراع على مركزه، وسمعنا صوتا خافتا عند مدخل الدار، واندفعت «سنثيا» وضربت خلفها بمصاريع الباب المطوية؛ ها هي «سنثيا» منفوشة الشعر جميلة في سورتها؛ فارتخت أصابعي وسقط الكأس، وارتدت شفتاي المخمورتان إلى شحوب؛ فقد لمعت عيناها بالشرر، وثارت ثائرتها بكل ما وسع المرأة من غضب ... ودفعت أظافرها المغيظة في وجه «فلس»، فصاحت «تيا» فازعة حتى دوى المكان بصياحها، واستيقظ النوام على سرج راقصة بنورها، ورن الطريق كله بجنون المساء، أما الفتاتان فأسرعتا هاربتين في ثياب مهلهلة وشعر ممزق، ولاذتا بأول حانة صادفتهما في الطريق.»

لقد استمد «بروبرتيوس» أصول فنه من الإغريق، ولكنه كان في أدبه صدى لبيئته وحياته، يرى فيسجل. ولئن كان رفقاؤه صحبة سوء، وكانت حبيبته فاجرة، إلا أنه أخرج من هذه الحياة شعرا جميلا خالدا، لجرس ألفاظه ورنين أوزانه وقوافيه. وهاك من تصويره مثالا آخر: «لو همت حبيبتي أن تذرع البحار طولا وعرضا فإني متابعها؛ فسيدفعنا فوق الماء نسيم واحد حبيبين وفيين، وسنستلقي للراحة فوق شاطئ واحد حين يأخذنا النعاس، ستظلنا شجرة واحدة، ونستقي ينبوعا واحدا، سيتخذ الحبيبان لنومهما مخدعا قد من لوح خشبي واحد، وسواء لدي أقيم السرير من السفينة عند دفتها أو حيزومها، سأحتمل كل الصعاب لا أبالي إن دفعت الرياح الشرقية الهوجاء سفيننا، أو عبأت الرياح الجنوبية الباردة شراعنا إلى حيث لا ندري ... فلو ضمنت ألا تغيب حبيبتي عن ناظري، فليشعل الله في السفينة نارا، إذ جسدانا العاريان عندئذ سيقذف بهما اليم معا إلى شاطئ واحد، لا، بل ليقذف الموج بجسدي وحده، لو وجد جسمك يا حبيبتي في الثرى جدثا يواريه.» ولكن «بروبرتيوس» على ما في شعره من قوة وجمال، قد كان فيما يظهر معيبا بعض الشيء في فنه؛ فإن النقاد الرومان بعد أن مارسوا أصول الآداب الإغريقية وقواعدها، تبينوا في شعره نقصا لعله يرجع إلى سرعة الإنشاء وعنف عاطفة الشباب، وليس في وسع رجال النقد الحديث أن يحكموا له أو عليه، لأن ما بقي لنا من شعره شذرات ناقصة.

ولعل هؤلاء النقاد الرومان قد آثروا شاعرا آخر من شعراء المراثي، هو «تيبلس»، إذ وجدوا أن رشاقة أسلوبه ووضوح عبارته يلائمان رقة معانيه وجمالها، فليس في شعر «تيبلس» نصف القوة التي تحسها في «بروبرتيوس»، ولكن ما غناء القوة في شعر غنائي؟

كان «تيبلس» شابا يحب فتاته «ديليا»

105

التي قست عليه حتى أدمعت عينيه:

هل لي أن تبصرك عيناي حين تدنو ساعتي؟

هل لي أن أضمك بذراعي الواهنتين؟

ابكيني يا «ديليا»، إذا حان الأجل. وإذا ما أسجيت

على السرير الذي سرعان ما تلتهمه النيران،

قبليني وقبليني، وامزجي قبلاتك بعبرات حزينات.

ابكيني؛ فليس قلبك في صندوق من صلب الحديد،

كلا، ولا قلبك هذا الحنون يحتوي صخرا؛

فلن يعود شاب ولا شابة بعد جنازتي

لا تترقرق في عينيه أو عينيها الدموع،

وما أحسبك مسيئة إلى روحي بغيابك عن ذلك الحفل،

ولكن لا تكوني عنيفة على شعرك المحلول، أو خدك الناعم.

هكذا كان شعر «تيبلس» حلوا في سذاجته ولونه الريفي؛ فقد أنفق معظم حياته في مزرعته، يمتعه أن يزرع ويحرث بيديه، ويزدري حياة الترف التي تسلم المزارع إلى العبيد يفلحونها ثم لا تستمتع بجمال الريف.

لكن أحب شعراء المراثي إلى قراء العصر الحديث هو «أوفد» وهو من أسرة رفيعة، وكان ممن أحاطوا بالإمبراطور أوغسطس، وظل في حاشيته حتى غضب عليه الإمبراطور لسبب لا ندريه فأمر به أن ينفى من مدينة روما. وقد قيل في تعليل غضبة الأمير عليه أنه نفر من قصيدته «فن الحب» التي لم يتورع فيها الشاعر، ولكنا نشك في أن تكون هذه القصيدة الجميلة الممتعة سببا في تشريد الشاعر، مع أنها صورة صحيحة لعصره. إن «أوفد» في قصيدته «فن الحب» لم ينظر إلى الحب من جانب الروح والخيال، لكنه كان فيها أمينا صادقا، ومن أجل هذه الأمانة في الشعور والتعبير استحق مكانته العالية التي يشغلها بين الشعراء.

على أن خيال «أوفد» يبلغ أوجه في قصيدة «تغيرات» التي جمع فيها كثيرا من أساطير اليونان والرومان؛ فكان معينا للشعراء المحدثين يستقون منه، فعنه أخذ أدباء الطليان في عصر النهضة، ومنه استمد شيكسبير ومعاصروه وشعراء الإنجليز في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ولو عرف «أوفد» في منفاه ما قد يصيب أدبه من نجاح وتوفيق بعد موته لخفت عنه آلام النفي؛ فقد كان أدبه ذا أثر عميق بالغ في آداب الأمم الحديثة كلها، لا يوازيه في ذلك شاعر آخر، ولا نستثني عن هذا الحكم فرجيل.

والأسطر الآتية مثال من قصيدته المشهورة «تغيرات»:

كان بادئ الأمر عصر ذهبي قام على الإخلاص والحق بمحض إرادته، لا يزجره قانون ولا يحفزه انتقام.

لم يكن بعد خوف أو عقاب،

ولم يتهدد الناس قانون منقوش على أقراص النحاس،

كلا، ولم تروعهم خوذة ولا سيف، بل عاش في أمن السلام.

وهكذا انقضت على القوم أعوام سعيدة لا يعرفون الأعداء،

وأخرجت الأرض كل شيء دون أن يشقها محراث،

واكتفى الناس بما أثمرته الأرض من غير قسر ولا إكراه. •••

وكان الزمان ربيعا كله. رحيا بنسيمه العليل،

وتهب النسائم فتزهر الأزهار لم تلدها بذور.

وسرعان ما آتت الأرض أكلها بغير محراث،

وابيض وجهها بالقمح الغزير، ولم يشق جوفها سلاح ... ثم تلاه على مر الزمان عصر فضي

هو أدنى من سابقه الذهبي وأسطع من لاحقه النحاسي؛

عندئذ قصر الإله من أمد الربيع، وقد كان قبل دائما موصولا،

وأتم الحول بأن قسمه فصولا فصولا،

فتوهجت بوادر الهواء وقد لفحتها حرارة ظامئة،

وعلقت أوائل ذرات الثلج وقد جمدتها الريح،

واتخذ الإنسان دورا فأوى إلى الكهوف

أو اتخذ سياجا من شجر أو غاب مجدول،

ثم بذرت بذور الزرع لأول مرة في قنوات الحقول، حيث لبثت طويلا،

وخارت الثيرة تحت نيران المحاريث.

وثالث المراحل المتعاقبات عصر نحاسي،

ازدادت فيه الروح افتراسا واشتدت للقتال اشتياقا،

لكن الجريمة لم تلطخ وجهه بعد.

وأخيرا جاء عصر الحديد، فانبثق من فوره خسيسا دنيا، كله سوء؛ فلاذت بالفرار صفات «الحياء» و«الحق» و«الإخلاص» وحل محلها الكيد والخداع

والعنف وشهوة الكسب المجرمة،

ونشر الرجال قلاعهم لريح لم يعرفها الملاحون من قبل، واتخذ الشجر - وقد كان باسقا على قمم الجبال - حيازيم تشق بها الفلك مياها لم تكن من قبل تعرفها،

وطالب الإنسان التربة الخصبة أن تنتج أكثر من محصولها، بل شق أمعاء الأرض شقا،

واحتفرها ليبلغ كنوزها الدفينة في ظلال الجحيم،

وهي هنالك تغري الإنسان بالعسف والجور،

ثم جاء عصر الصلب الفتاك، ثم الذهب وهو أشد فتكا.

فاتخذت الحرب من المعدنين سلاحا،

وأخذت تهز سلاحها المدوي بيد تلطخها الدماء،

وأصبحت الغنائم للعيش موردا؛ فلا الضيف من مضيفه ولا القريب من قريبه بات آمنا.

إلى هنا ينتهي العصر الأوغسطي الزاهر الزاهي، ويأخذ الشعر اللاتيني في التدهور والهبوط، ولكن طريقه إلى التدهور لا يطرد؛ فالأدب لا يسير في هذه الخطوات المنطقية، مطردا في صعوده وهبوطه، كلا ولا الحياة نفسها - وهي لحمة الأدب وسداه - تسير في هذه الخطوط المستقيمة صعودا أو هبوطا؛ فلا تعدم في حركة الصعود شاعرا ضعيفا، ولا تخطئ في طريق الهبوط شاعرا قويا؛ وهكذا كان تدهور الشعر اللاتيني - كتدهور الإمبراطورية نفسها - ممتدا على قرون طوال تستطيع أن تشهد فيها أدبا سليما إن فاته أن يكون أدبا عظيما؛ فبين شعراء القرن الأول بعد الميلاد «لوكان»،

106

وهو خطيب نابه بالإضافة إلى شاعريته، وهو معروف بكتابه «فارساليا»

107

الذي نظم فيه بعض حوادث التاريخ شعرا، فشاع بين قراء عصره والعصور الوسطى. وإن للوكان لأثرا في الأدب الفرنسي بفضل ما نقله عنه «كورني»

108

كما أنه معروف مألوف لقراء الأدب الإنجليزي لأن «مارلو»

109

ترجم له الجزء الأول من «فارساليا» ترجمة بلغت غاية الإبداع.

وفي العصر الفضي اللاتيني - الذي أعقب عصر أوغسطس - شاعران أجادا شعر السخرية إجادة جعلتهما في هذا الفن إمامين، وهما: «مارشال» و«جوفنال»، وإن هذا الأدب الساحر لمن طبيعة العقل الروماني، بل هو الذي ابتكر هذا اللون من الشعر ابتكارا، فاصطنعه «هوراس» وفي رقة ولطف، ثم زاده «مارشال»

110

و«جوفنال»

111

قوة وعنفا، وأعانهما على ذلك ما ساد العصر من صنوف الفساد وانحلال الخلق. نعم إن في كل زمان ومكان معينا لا ينضب للشاعر الساخر، لكن السخرية فن لا يقوى على أدائه كل شاعر. وجدير بنا في هذا الصدد أن نذكر ما لأدباء الإنجليز من إنتاج خصب في أدب السخرية، لكنهم كانوا في ذلك مدينين لجوفنال إلى حد كبير.

ومن شعر جوفنال قصيدة عنوانها «عبث الشهوات الإنسانية» يسخر فيها من التوافه التي يقتتل الناس من أجلها، وعلى رأسها المال. ومنها:

جل ببصرك في العالم المأهول،

وانظر كم من الناس يعرف موضع الخير،

وإن عرفه قليل فكم منهم يقصد إليه؟

إن حب المال أحبولته الفتاكة ممتدة الشباك،

فترى الكنوز يكدسها الكانزون في شغل وانهماك،

فكم من وغد في العهود السود - إذا ما أشار نيرون -

سل من أجل المال سيفه البتار،

أما الدور التي خلا من المال وفاضها

فما أقل ما يغشاها من يؤيده السلطان من قطاع الرقاب،

إن المسافر الذي يمضي مثقلا بثرائه

ليتلفف في سواد الليل، ويتسلل في الطريق مختفيا،

ثم تراه رغم هذا يخشى وقع السيف والهراوة،

ويفزعه ظل الحلفاء في ضوء القمر،

أما السائل فيمضي في الطريق خلي الفؤاد،

يغني أناشيده في أوجه اللصوص.

ولمارشال كتاب في «الأمثال» لم يجود الشاعر فيه صناعته، ولكنه - مع ذلك - صور به الحياة الرومانية كما رآها في صدق وإخلاص. هذه خاتمة شعراء اللاتين، فقد مات الشعر بعدئذ، أما النثر اللاتيني فقد لبث قائما بضعة قرون. (4) النثر اللاتيني

عاش شيشرون في النصف الأول من القرن السابق للمسيح، وكان كاتبا وخطيبا حتى أصبح إمام النثر اللاتيني في عصره، وفي عدة قرون تالية؛ فحسبك أن تعلم عن نثره أنه ظل مثالا يحتذيه الكتاب مدى ستة عشر قرنا، وتكاد لا تجد في تاريخ الآداب رجلا يعادل شيشرون في فرض أسلوبه على كل كاتب أوروبي حمل القلم من بعده ليكتب نثرا فنيا. تعلم في روما القانون والبلاغة والفلسفة اليونانية والأدب اليوناني، وقضى سنتين في آسيا وبلاد اليونان تعمق فيهما دراسة الفلسفة، وعاد إلى روما فانغمس في السياسة وبلغ أسمى المناصب السياسية وألف حزبا له أنصاره وخصومه.

وبعد وفاة قيصر وأيلولة السلطة إلى أنتوني وأوكتافيوس وليبيدس كانت خطب شيشرون ضد أنتوني سببا في فقدان حياته، فقد حكم عليه بالإعدام وهم بالفرار، ولكنه قبض عليه وقتل وعلق رأسه فوق المنبر الذي كان يخطب من فوقه . ولم يكن شيشرون كاتبا وخطيبا وكفى، بل كان إلى جانب ذلك سياسيا ومؤرخا وفيلسوفا وناقدا ومحاميا، فكان لسانه أداة تفتك بأعدائه فتكا. ولا عجب حين قتل أن تتقدم إلى جثمانه زوجة «مارك أنتوني» فتنفذ إبرة من مشابك شعرها في لسانه إمعانا منها في إسكات ذاك اللسان، ولم تدر أنه سيظل على مدى الأيام حيا ناطقا.

نحن نسوق مثالا لقوة شيشرون الخطابية، هذه الخاتمة التي اختتم بها خطابه الذي هاجم به «مارك أنتوني» حين دخل روما ظافرا؛ والذي لم يكد يسمعه أنتوني حتى أقسم لينتقمن من الخطيب. وإن هي إلا أيام قلائل حتى قتل شيشرون وأرسل قاتله رأس المقتول ويديه إلى سيده أنتوني؛ فأخذها هذا وسمرها على منبر كان شيشرون قد ألقى منه كثيرا من خطبه:

قال شيشرون: «أفيجوز أن نقرنك إلى قيصر بأي وجه من الوجوه؟ لقد كان لقيصر قدرة موهوبة وعقل راجح وذاكرة وعلم وبصيرة وتأمل وروح. إن أعماله الحربية - وإن جاءت على أمته دمارا - فقد كانت لشخصه فخارا؛ لقد احتط لنفسه كيف يظفر بالسلطان أمدا طويلا بما أتي من جهاد يجل عن الوصف، وما خاطر من أخطار تفوق الحصر، ثم عرف كيف يتمم ما شرع؛ فبالهدايا والمحافل والمنح والملاهي أنام السوقة البلهاء، وبالعطاء الكريم اكتسب نفوس الأصدقاء، وبالتظاهر بالرحمة كسر شره الأعداء. وصفوة القول أنه استطاع بإلقاء الرعب حينا وبالصبر حينا أن يجعل الاستعباد شيئا سائغا في دولة حرة.

نعم إني لأعترف لك أن شهوة السلطان كانت لكما صفة تشتركان فيها، ولكنك لن تستطيع أن تزعم سواها للمقارنة بينك وبينه. إن الكوارث التي صبها قيصر على رأس أمته قد أنتجت خيرا، وذاك أن أهل روما قد تعلموا منها إلى أي حد تجوز الثقة بقول إنسان كائنا من كان. لقد عرفوا بأي الرجال يؤمنون وأي الرجال يحذرون، ولكن مالك أنت ولهذا؟ بل إنك لا تدري ماذا عسى أن يصنع البواسل حين تعلمهم الأحداث أن البطش بالطاغية شيء حبيب إلى النفس في ذاته، سائغ في نتائجه، عظيم في روايته. إذا ضج الناس من بطل كقيصر، تراهم يحتملون رجلا كأنتوني؟

صدقني إن القوم ستدفعهم الحماسة بعد إلى مثل هذا البطش، كلا، ولن يتوانوا انتظارا لفرصة سانحة. أي أنتوني! ألق بعين مبصرة آخر الأمر إلى وطنك، لا تفكر فيمن تعيش بينهم، بل فكر في أسلافك الذين انحدرت منهم، وكيفما تصنع بي فأنا موصيك أن توفق بين نفسك وبين أمتك، وإنك بهذا لخير خبير، ولكني سأعلن ها هنا شيئا واحدا: لقد دافعت عن وطني في شبابي، فلن أهجر وطني في كهولتي؛ لقد ازدريت سيف «كاتلين»، فلن أخشى لك سيفا، وإني لأقدم - راضيا - نفسي فداء لو كان دمي يعيد لروما حريتها من فورها، ويزيح عن أهل روما ذلك العبء الثقيل الذي رزحوا تحته هذا الأمد الطويل ...»

وليس العجيب أن يؤثر شيشرون في كتاب اللاتينية من بعده، ولكن أعجب من ذلك أن يبلغ سلطانه هذا المبلغ البعيد على كتاب الإنجليزية حتى القرن الثامن عشر، فقد كان كثير من كتاب هذه اللغة يحاكونه في حسن الصياغة ورشاقة الأسلوب، وكان شيشرون - فضلا عن خطابته - من أعظم كتاب الرسائل، ولا تزال رسائله تمتع قراءها وتصور بتفصيلاتها حياة ذلك العصر تصويرا دقيقا. وقد اقتفي أثره في هذا الفن كتاب الرسائل من الإنجليز في القرن الثامن عشر حين كانت كتابة الرسائل فنا جميلا.

ثم انحط النثر بعد شيشرون وذهبت عنه معظم قوته، ولكن الشفق المنذر بغيبة الشمس لا يخلو من ألوان جميلة؛ فهذا «بترونيس»

112

الذي كان صديقا للإمبراطور نيرون، يمتع بفنه في «مزيج» ويقدم فيه صورة للحياة الرومانية في عصره، ولم تبق لنا يد الدهر من هذا الأثر إلا جزءا، وهو كل تراث الأدب اللاتيني فيما يشبه القصة الحديثة، وهو صورة ساخرة أمينة للمجتمع أو لجزء منه. ولما كان المجتمع الروماني إذ ذاك منحلا في أخلاقه فقد جاءت صورته التي رسمتها ريشة «بترونيس» مما تتأذى له أسماع المتزمتين في الأخلاق، ولكن دعنا نثبت في هذا الموضع أساسا من الأسس التي أقيم عليها هذا الموجز في تاريخ الآداب، وهو أن القارئ الذكي فسيح الأفق له أن يقرأ كل مكتوب دون أن يخشى على بنائه الأخلاقي هدما أو تصدعا، أما أولئك الذين تنقصهم روح الفكاهة كما يعوزهم الذكاء، فهم كذلك في مأمن من أمثال هذه الآثار الأدبية التي تصور أخلاق المجتمع على حقيقتها، لأنهم لن يقرءوا أدبا، وإن قرءوه فلن يفهموه.

ومضى قرن بعد «بترونيس»، ثم ظهر كاتب آخر هو «أبيوليس».

113

كاتب «الحمار الذهبي» الذي قص فيه قصة «كيوبد وسيكا » وهي من مشهور الأساطير اليونانية، وقد لخصناها في موضعها من الكتاب. وإن «أبيوليس» بخياله الرائع وإشراقه البهيج ليبدو كالجزيرة الساطعة في نهر كئيب، ذلك لأن النثر اللاتيني لم يعد أداة فنية، بل أصبح لغة رسمية يصطنعها رجال الكنيسة والفلسفة المدرسية في العصور الوسطى لعرض ما يكتبونه في الدين والفلسفة.

فلئن كانت الكنيسة قد غزت روما بديانتها، فإن روما قد بسطت على الكنيسة سيادتها بلغتها؛ فاللاتينية لا تزال حتى هذا اليوم لغة الكنيسة الكاثوليكية، بل لبثت اللاتينية قرونا طوالا لغة العلماء والحكماء، لا يعد المتعلم متعلما بدونها.

الأدب في العصور الوسطى

الفصل الأول

الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى

العصور الوسطى في رأي التاريخ عهد طوله ألف عام، يمتد من منتصف القرن الخامس إلى منتصف القرن الخامس عشر، وعندئذ نهض في أوروبا رجال الفكر، وتلفتوا إلى الوراء ليستخرجوا كنوز القدماء. واشتدت بهم الحماسة نحو ثقافة اليونان والرومان حتى تعلقوا بأذيالهم، ونظروا إلى العهد الطويل الذي فصل بينهم وبين أولئك الأسلاف فاعتبروه عصرا «وسيطا» بين الأصول والفروع، ونعتوه بالجدب والإظلام، ولكنهم لم يكونوا في ذلك منصفين؛ فلئن كانت تلك العصور يشوبها شيء من ظلام، فإن بها للمحات من ضياء.

وأخصب جوانب الأدب الوسيط من حيث القيمة الفنية هو الشعر، أما النثر فلم يكن قد بلغ من الرقي حدا يجعله أداة فنية للتعبير الأدبي.

ونستطيع أن نقسم الأدب في العصور الوسطى - على أساس الجنس واللغة - إلى أدب جرماني (وهو يشمل الأدب الإسكندناوي والأدب الإنجليزي في ذلك العهد)، ثم الآداب الكلتية والفرنسية والإسبانية والإيطالية. ولو أن هذه الأقسام المختلفة متشابكة، قد أخذ بعضها عن بعض بحيث لا تستطيع أن تجزم - إلا بعد درس طويل عميق - أين بدأ هذا الأثر الأدبي أو ذاك، وكيف نما وأضيف إليه؛ لذلك كان من حقك حين تستعرض هذه الآداب الأوروبية في العصر الأوسط أن تبدأ بأيها شئت، ولكنك تحسن صنعا أن تذكر قبل البدء أنها تشترك جميعا في خصائص وسمات؛ فالكثرة الغالبة من القصص والملاحم والأساطير والأغاني من الآداب الأوروبية في العصور الوسطى تدور حول بطولة الفرسان في الحرب والحب معا. وإنها لتجتمع كلها حول ملك حقيقي أو خيالي، بحيث تتكون منها مجموعات: فمجموعة محورها الإسكندر الأكبر، وثانية مدارها قيصر، وثالثة نواتها شرلمان، ورابعة أرثر، وهكذا. وإن ألوان البطولة في تلك الآثار الأدبية جميعا لتتشابه وتتكرر. ومن أكثرها شيوعا أن يلقى البطل الأفعوان فيقتله، وأن يصادف الغواني في كرب وضيق فيمد لهن يد المعونة والنجاة، وأن يتعقب أصحاب السوء بالعقاب لينقذ الخصال الشريفة أن يصيبها الفساد والأذى، ومبادئ الأخلاق - التي يتصدى الفارس البطل ليدرأ عنها السوء - إنما هي مجموعة من القواعد الخلقية أوجب العرف عندئذ أن يتحلى بها الفرسان. وقد أمكن تطبيق بعضها وتعذر تطبيق سائرها فظلت مثلا أعلى يحلم به الشعراء ولم تتحقق كلها إلا في نفر قليل من رجال النهضة، فخلدهم تاريخ الأدب على أنهم نماذج حية تتمثل فيهم تلك الصفات، وعلى رأس هؤلاء اثنان هما «بيار»

1

الفارس الفرنسي و«السير فليب سدني»

2

الإنجليزي.

أما وقد بسطنا لك بعض الخصائص التي شاعت في العصور الوسطى فسنبدأ لك بعد ذلك بالأدب الإنجليزي فنعرض أهم ما دار حوله من أساطير.

وأول تلك الأساطير قصة أرثر

3

التي نقلت إلى الأدب الإنجليزي بعد أن نمت وتكاملت في الأدب الفرنسي، وقد جمع أطراف القصة وأجزاءها «السير تومس مالوري»

4

في النصف الثاني من القرن الخامس عشر في كتابه «موت أرثر» الذي أوحى إلى كثير من شعراء العصور الحديثة وكتابها فأعادوا كتابة القصة. ولعل أوسعها شهرة في الشعر الإنجليزي الحديث قصيدة «تنسن»

5

وعنوانها: «أناشيد الملك»

idylls of the king ، وفيها يصبغ الشاعر أرثر بصبغة إنجليزية خالصة، وإنها لقصيدة من عيون الشعر الإنجليزي.

أما كتاب «السير مالوري» الذي أسلفنا الإشارة إليه فمجموعة من القصص تروي عن «أرثر» و«لانسلت»

6

و«جالاد»

7

و«برسفال»

8

و«ترسترام»،

9

وغيرهم من الأبطال ذوي المغامرات في الحب والحرب. وينقسم هذا الكتاب إلى واحد وعشرين جزءا، يقص أولها مولد أرثر ونشأته أم طفولته؛ فقد ظهرت فجأة ذات يوم صخرة ضخمة في فناء كنيسة بإنجلترا وإلى جانبها سيف دس في سندان، وعلى الصخرة نقشت هذه العبارة بأحرف من ذهب: «إن من يجذب هذا السيف من هذه الصخرة والسندان ملك شرعي أنجبته إنجلترا بأجمعها ليحكم.» وحدث أن قصد أرثر ذات عام - بعد مباراة في الفروسية - إلى داره ليحضر سيف أخيه الأكبر، ففكر في أن يكفي نفسه مئونة السفر الطويل إلى بلده طلبا لسيف أخيه، ويعرج على فناء الكنيسة ليستل من الصخرة ذلك السيف المطمور، وجذب جذبة فإذا السيف ينسل في يده، فحق له إذن أن يعتلي عرش بلاده، ولكن ذلك لم يكن هينا يسيرا، فقد نازل وقاتل من أجل الملك، فكان في نزاله وقتاله يبعث على العجب والإعجاب.

وتزوج أرثر من «جوينيفر»

10

الفاتنة، وعاش في مدينة بويلز عيش الأبهة والجلال، تحوطه مئات الفرسان وفاتنات الغواني، كلهم مثل أعلى للبسالة وطيب النشأة ورشاقة الحركات. ومن أشجع هؤلاء الفرسان وصفوتهم المختارة اتخذ أرثر بطانته التي كانت تجالسه حول «المائدة المستديرة». وقد كان يتفرق فرسان أرثر ليجوبوا البلاد ينشدون المغامرة؛ فيحمون النساء، ويتعقبون الطغاة، ويطلقون من قيدهم سحر الساحرين، يصفدون المردة والأقزام. وأنت إذ تقرأ قصص هؤلاء الأبطال فإنما تقرأ أجمل غرام تصادفه عند المحبين، وتجوس معهم خلال المدائن ذات الأبراج حيث تتحقق أحلام الشعراء في بطولة الفرسان ... وتقرأ في قصة أرثر كيف خانته زوجته فأحبت سواه، وكيف قضى أرثر نحبه بيد أثيمة.

ومن القصص الواردة في كتاب «موت أرثر» للسير مالوري قصة «الوعاء المقدس

the Holy Grail » وهي مثال جميل لامتزاج الأساطير المسيحية بالقصص القديمة التي سبقت عهد المسيحية، أو التي لم يكن يصلها بالمسيحية سبب من الأسباب؛ فهذا «الوعاء المقدس» هو الإناء الذي صب فيه دم المسيح، وهو رمز للكمال، ولا يجوز لغير الفارس الطاهر المتخلق بأخلاق المسيح أن ينظر إليه. وتروي القصة أن «لانسلت» الذي ثلم الفضيلة بشين سلوكه أراد أن يمس الوعاء فخانته قواه، ولم يستطع ذلك غير أفاضل الفرسان «جاوين»

11

و«جالاد»

12

و«برسفال».

13

وهنالك غير هذه قصص مما يتصل بأرثر وأبطاله وفرسانه، وكلها مستمد من أصول فرنسية أو كلتية، لكن الأدب الإنجليزي الوسيط لم يكن مدينا كله لتلك الأصول الكلتية والفرنسية، بل إنه ليضيف إليها لونا جرمانيا ناصعا جاءه من آبائه السكسون. فعلى الرغم من ضعف الخيال عند الإنجليز السكسون إذا قيس بالخيال عند جيرانهم من الكلتيين والفرنسيين - ذلك الضعف الذي أدى إلى تأخر الفنون عندهم - استطاعت اللغة الإنجليزية السكسونية أن تثبت وتستقيم أداة فنية في ذلك العهد، الذي اتخذ اللاتينية لغة للعلم والفرنسية أداة للتفاهم بين السادة. وليس الأدب الذي بقي لنا من الإنجليزية السكسونية أدبا خصبا غزيرا، ولكنه مع ذلك جدير منا بالذكر والتسجيل.

وخير مثال نسوقه للشعر الإنجليزي السكسوني قصة «بيوولف

Beowulf » وهي تقع في فصلين: في الفصل الأول يأخذ بيوولف سمته نحو الدانمارك، لأنه سمع أن أهل تلك البلاد يشكون من عدوان غول فظيع اسمه «جرندل»، وبعد صراع عنيف يتغلب بيوولف على ذلك الوحش المخيف الذي طالما أنزل الفزع في نفوس الناس كلما أغار عليهم في ظلام الليل، لكن أم الغول لا تدع ابنها يقضي نحبه من غير أن تنتقم، فتغتر في الليلة التالية وتفتك بشريف من أشراف الدانمارك، فلما أصبح الصباح اقتفى بيوولف أثر أم الغول إلى عرينها تحت البحر وصارعها صراعا عنيفا حتى صرعها، وهكذا تخلص الدانماركيون من ذلك الفزع المروع. ويلقى بيوولف جزاء ما صنع، فيعود مثقلا بالهدايا متشحا بالشرف كسبه لنفسه ولأمته.

وفي الفصل الثاني من القصيدة يحدثنا الشاعر أن بيوولف أصبح ملكا على قومه في شيخوخته، وقد فزعت إليه أمته لينقذها من أفعوان مفترس يفتك بالناس فتكا ذريعا، فيلاقي بيوولف ذلك الأفعوان في قتال شديد ينتصر فيه، لكن الأفعوان ينفث في البطل سمومه فيرديه قتيلا. وتنتهي القصيدة ببناء مقبرة عالية لذلك البطل المغوار فوق الصخور المرتفعة على الشاطئ، يراها الملاحون من بعد فتثير فيهم شعورا بالمجد والعظمة.

وعلى الرغم مما في هذه القصيدة من شرود في الخيال، إلا أنها تصوير دقيق صحيح للحياة الواقعة في عصرها؛ فشخصية بيوولف تصوير حي للأمير المقاتل في العصر القديم، بل إن الغول وأمه في الجزء الأول من القصيدة، ثم الأفعوان في جزئها الثاني، لتصور هذا الفزع الشديد الذي يساور النفوس من كائنات مخيفة تعيث في الأرض فسادا إذا ما جن الليل. ولا فرق بين أن يستعين الناس ببطل كبيوولف لينقذهم من الغول وشره، وبين أن يلجأ الناس - فيما نرى - إلى رجل من رجال الدين يقرأ العزائم ويكتب التمائم ليطهر الأرض من الجن المخيفة.

ومن رجال الأدب الإنجليزي في العصور الوسطى شاعران دينيان هما «كادمن»

14

و«ساينولف»

15

ولو أننا لا ندري على وجه الدقة في أي قرن عاشا. أما كادمن - الذي يرجح أنه قد عاش في القرن الثامن - فقد نظم شعرا قصة «التكوين» وقصة «الخروج» وهما سفران في العهد القديم. وأما «ساينولف» فلا شك في أنه مؤلف ثلاث قصائد من «القصائد المقدسة» التي جمعت بعنوان «المسيح»، وقد ذكر اسمه في قصائده تلك، وأغلب الظن أنه كتب تراجم لأربعة من القديسين، في بعض مواضعها دقة الشعور وقوة القصة.

كان الشعر - كما رأيت - أول أداة فنية اتخذتها اللغة الإنجليزية للتعبير الأدبي، وذلك لأن الشعر - وهو لغة العاطفة - أسبق ظهورا من النثر وهو لغة العقل والمنطق كما أسلفنا؛ ومع ذلك فقد شهدت العصور الوسطى إلى جانب الشعر إنتاجا في النثر لا بأس به قدرا ومقدارا. ولعل أجدره بالذكر ما كتبه الملك «ألفرد الأعظم» الذي حكم إنجلترا في الثلث الثالث من القرن التاسع، وجاهد أن يثقف شعبه فعلمهم القانون وبصرهم بشئون الفن ومسائل الفلسفة. والأرجح أن يكون قد ساهم في كتابة «كتاب التاريخ»

Chronicle

وهو أهم وثيقة نثرية في الأدب الإنجليزي السكسوني ، ومصدر كثير مما نعلمه عن إنجلترا من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن التاسع. ولقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية الحديثة لقيمته في التاريخ وفي الأدب على السواء.

الفصل الثاني

الأدب الفرنسي في العصور الوسطى

ونبذة عن الأدب في إسبانيا

كانت فرنسا في العصور الوسطى تنقسم من حيث اللغة والأدب - كما كانت تنقسم من حيث طبيعة الأرض والسياسة - قسمين يفصلهما خط يمتد من شرقيها إلى غربيها، وهو يقع بحيث يقسمها ثلثين إلى الشمال وثلثا إلى الجنوب؛ فشطرها الجنوبي أضيق من شطرها الشمالي مساحة وأضعف أدبا، وقد سادت أخيرا لغة الشمال وأدبه وتدهورت لغة الجنوب، مع أن تلك اللغة الجنوبية ازدهرت في العصور الوسطى ازدهارا جعل ذلك الإقليم الجنوبي من فرنسا خلال القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر زهرة المدنية الأوروبية وموضع سحرها.

وشعراء هذا الإقليم الجنوبي - إقليم بروفانس - هم «الشعراء الطوافون» أو «التروبادور

Troubadours »، الذين يعدون طليعة الأدب الرومانتيكي - أدب الخيال والعاطفة - في أوروبا الحديثة. وكان هؤلاء «التروبادور» يكونون طبقة ممتازة منها السادة والفرسان والأشراف بل والملوك؛ فملك إنجلترا «رتشارد قلب الأسد» يعتبر أحدهم، وقد كتب شعرا باللغتين الفرنسيتين الشائعتين إذ ذاك - لغة الشمال ولغة الجنوب - وخلف لنا قصيدة ذات جمال فني ممتاز، كتبها حين كان سجين دون المجر الذي زجه في السجن وهو في طريقه إلى إنجلترا عائدا من الحروب الصليبية.

فلم تكن تلك الطائفة من الشعراء تدخل في زمرتها إلا من ظهرت له موهبة في إنشاد الشعر، لا فرق في ذلك بين شاعر تنجبه الطبقات الدنيا، أو شاعر يظهر بين الأمراء والنبلاء. ولا بد من التمييز بين هؤلاء الشعراء وبين جماعة من «الندماء» كثروا عندئذ في حاشيات القصور، لم يكونوا منشئين مبدعين، ولكنهم مهروا في الغناء والإلقاء: يلقون القصائد والقصص في توقيع جميل.

وشعر طائفة «التروبادور» يدور حول الحب، وهو في وزنه وبنائه من الشعر الغنائي. وإن أغانيهم - التي لا يزال كثير منها باقيا - لتمتاز بالبساطة وتحريك العاطفة وقربها من الأغاني الشعبية، وإن يكن بعضها مزخرف اللفظ عميق الفكرة. وليست جدة شعر «التروبادور» آتية من ناحية موضوعه، ولكنها آتية من ناحية الطريقة التي اتبعت في صوغ هذا الموضوع، وذلك العشق الخفاق الذي كان يعبر عنه هذا الشعر تعبيرا غنيا بالصور الخيالية ممتازا بالصقل والتجويد. لم يكن من نوع ذلك العشق الذي كانت تعبر عنه الأغاني الشعبية الساذجة، وإنما كان هذا العشق (التروبادوري) مذهبا عاطفيا أو بدعة رومانتيكية ... ولم يكن يجد ذلك العشق مثله الأعلى في الفتاة، وإنما كان يجده في الزوجة. وقد ذهب كثير من المستشرقين إلى أن شعر التروبادور ظهر في الجزء الجنوبي من فرنسا أخذا عن الشعر العربي في الأندلس من حيث موضوعه وأوزانه.

1

وإذا قيس ما وعاه التاريخ من أزجال ابن قزمان الأندلسي المتوفى سنة 555ه بأشعار التروبادور تبين أن الثانية مأخوذة من الأولى. وكان أحد شعرائهم وليم دي بواتييه

2

ينظم أحيانا في أوزان ابن قزمان، وأحيانا في أوزان تقاربها جدا؛ بل رد بعض الباحثين كلمات من اصطلاحات هذا الشعر إلى كلمات عربية.

3

أما أدب الشمال في فرنسا - شعرا كان أو نثرا - فقد أتيحت له حياة أطول من أدب الجنوب؛ فأدب الشمال هو الأدب الفرنسي الذي كتبت له السيادة على أوروبا قرونا متواليات، والذي لا تزال تقاليده باقية إلى يومنا هذا. وقد كان الشاعر في الشمال - وكانت تطلق عليه لفظة تروفير

trouvère - تقابل تروبادور لشاعر الجنوب - يحترف الشعر على حين كان شاعر الجنوب يتخذه هواه، وكذلك كان شاعر الشمال أكثر من زميله في الجنوب ميلا إلى رواية القصة وانغماسا في الحياة؛ وكان شاعر الجنوب أميل إلى الغناء والنغم الموسيقي؛ فنتج عن ذلك أن أصبح الجنوب أرض الغناء، وأضحى الشمال موطن القصة. وذلك بالطبع لا يعني أن أدب الشمال لم تزهر فيه القصيدة الغنائية، وأن المنشدين في إقليم بروفانس لم يرووا أروع القصص، إنما نريد الميل الغالب والاتجاه بوجه عام.

وبواكير الشعر الفرنسي يطلق عليها اسم أنشودة المغامرة

Chanson de geslè ، وكان موضوع الشعر عندئذ بطولة الفرسان وبسالة الأبطال من الملوك أو بطانتهم؛ وهو من نوع الملاحم في روحه ومادته، وكثيرا ما ينحو منحى قوميا وطنيا مسرفا؛ ف (أنشودة المغامرة) بمعناها الصحيح إنما تعالج تاريخ فرنسا وما فيه من صفحات مجد وفخار، ولكنك ترى إلى جانب ذلك قصصا تدور حول عمالقة الماضي من أمثال إسكندر الأكبر، وقصصا أخرى تقوم على أبطال الأساطير ممن ذكرهم هومر وفرجيل، وطائفة ثالثة تروي قصة «أرثر» وفرسانه. وهذه الأناشيد والقصص الموضوعية في قوالب الشعر كانت تكفي لإشباع الرغبة الطبيعية عند الناس في القصة ، وإن يكن هذا القصص الوسيط لا يصادف عند القارئ الحديث قبولا، بل إنه ليبعث على الملل، ولا يثير الاهتمام إلا عند العلماء الذين يتعقبون كل ما خلف الأسلاف.

ومهما يكن من أمر هذه الأناشيد - التي يبلغ ما بقي لنا منها مائة - ففيها عدد قليل من الآيات الروائع، ومن هذه أنشودة رولان

Chanson de Roland

فقد كان رولان هذا شخصا حقيقيا من أشخاص التاريخ، وهو فارس من فرسان شرلمان، قتل وهو يتقهقر مهزوما في شعاب جبال البرانس الممتدة شمالي إسبانيا أمام جيش المسلمين في الأندلس. وشاعر هذه الأنشودة - وهو مجهول عاش في القرن الحادي عشر - يروي قصة عراك عنيف ينشب بين المتقاتلين في ممر من جبال البرانس، حيث انخدع شرلمان بحيلة من أعدائه، فتراجع عبر الجبال إلى جنوبي فرنسا، تاركا رولان يحمي له المؤخرة من هجمات الأعداء، وهناك قتل البطل وفني من حوله من الفرسان. ولم تستكشف أنشودة رولان إلا منذ مائة عام، ولكنها طبعت في هذه الفترة مرارا، وترجمت إلى الفرنسية الحديثة وإلى الإنجليزية. وقد كان لقصة رولان هذه شيوع في إيطاليا إبان النهضة واتخذ منها أريوستو

4

الشاعر الإيطالي موضوعا لخير كتبه أورلاندو

5

ولكنها فيما يظهر لم تكن لها عندئذ مكانة ملحوظة في إنجلترا، لأن القصص في إنجلترا وفي فرنسا في ذلك الحين لم يدر حول أخبار شرلمان، إنما كان مداره أرثر، وما يروى عنه من أساطير.

ومن الشعراء الفرنسيين الذين ساهموا بنبوغهم في إنشاء تلك المجموعة من القصص اثنان جديران بالذكر، وهما ماري دي فرانس

6

وكرتيان دي تروا.

7

أما ماري دي فرانس، فقد أنفقت الشطر الأعظم من حياتها في إنجلترا، وربما كانت هنالك من حاشية البلاط الملكي في عهد هنري الثاني، حيث سادت الثقافة الفرنسية. وكانت الملكة اليانور أميرة من إقليم بروفانس. وماري شاعرة مجيدة تروي قصصها في تدفق وسلاسة في غير تكلف أو عناء، وقد ترجم وشرح كتابها «الأشعار

Lais »، ويستطيع القارئ الحديث أن يقرأها في اللغات الحديثة.

وأما كرتيان دي تروا فشاعر عظيم له أثر قوي في بناء قصة أرثر، وقد عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. وتعد قصصه الآتية زهرة الشعر القصصي الفرنسي الباكر وأساسا للقصص النثرية التي ظهرت بعد في كتاب مالوري الذي تقدم ذكره، وقصصه هي: فارس الليث، وإرك وإيند، وفارس العربة، وترستان، وبرسفال. وسنرى في الفصل التالي أن قد كان لكرتيان أثر عميق في الأدب الألماني.

وهنالك إلى جانب تلك القصص التي تروي حوادث أرثر وغيره من الأبطال ضروب ثلاثة من الشعر أنشدها المنشدون في العصور الوسطى، ولا تخلو في بعض أجزائها من روعة خيال. أما أولها فهو الخرافة التي تقص عن الحيوان، وهو ضرب من الخيال تناوله فيما قبل إيسوب اليوناني

8

بقصصه الخرافية المشهورة، فأصبح منذ عهده لونا مطروقا من ألوان القصص. ومما بقي لنا من هذه الخرافات التي تتحدث عن الحيوان مجموعة مفككة الأجزاء تسمى «قصة الثعلب رينار». وأعظم قصصي للخرافة في الأدب الفرنسي فيما بعد العصور الوسطى هو لافونتين،

9

الذي لم يستمد خياله من أسلافه الفرنسيين في تلك العصور الوسطى - فهؤلاء لم يستكشف أدبهم إلا في القرن التاسع عشر - بل استقاه من منابع كلاسيكية ومن خياله الحاد الذي طبع على السخرية. ولم تكن الخرافة القديمة سوى قصة ساذجة عن الحيوان لم يرد بها الراوي أن تكون صورة للمجتمع، وإن لم تخل عادة من لمحات فكهة تسخر من الخلق الإنساني.

وثاني تلك الضروب الثلاثة من الشعر التي ظهرت في العصور الوسطى، هو القصيدة الرمزية التي يقصد بها أن تكون درسا خلقيا تهذيبيا، والأشخاص في مثل هذه القصيدة إنما تكون فضائل ورذائل مجردة مثل: «الحب » و«البغض» و«الحسد» وما إلى ذلك. وأشهر مثال للقصيدة الرمزية «قصة الوردة»، وهي قصيدة طويلة موضوعها فن الحب، وهي تعرض ما في هذا الفن من شهامة ونخوة عرضا تشيع فيه سخرية جميلة. ولا شك أن أهل العصور الوسطى على ما بهم من رزانة الفروسية وصرامة الأخلاق لم يفتهم أن يضحكوا من نقائص الإنسان؛ ف «قصة الوردة» في رزانتها ووقارها، ثم في سخريتها وفكاهتها تصور زمانها تصويرا أمينا جعلها أثرا أدبيا من الطراز الأول في أهميته، ولعلها أن تكون القصيدة الوحيدة المتماسكة التي كتبها شاعران، لا عن طريق التعاون ولكن في تتابع؛ إذ أتم الثاني منهما ما تركه الأول حتى اكتمل بناء القصيدة. أما الجزء الأول فقد كتبه «وليم لورس»

10

في النصف الأول من القرن الثالث عشر، وكتب الجزء الثاني من القصيدة «جان دي مونج»

11

بعد ذلك بنصف قرن تقريبا. وكان هذا الأخير شاعرا موهوبا، ولم تقتصر مادة القصيدة على «الحب»، إنما لخصت الجزء الأكبر من الآراء الاجتماعية التي سادت في العصور الوسطى، فليس ثمة من يرتاب في قيمتها التاريخية. أما هل تهيئ القصيدة لقارئها متعة أو لا تهيئ فذلك موضوع آخر؛ فالقارئ الحديث لا يستسيغ كسلفه في العصور الوسطى قصيدة رمزية طويلة تقصد إلى التهذيب الخلقي، حتى وإن خفف من حدتها فكاهة لطيفة كما في هذه القصيدة، أو سمت شاعريتها كما في قصيدة سبنسر «الملكة الجميلة» التي سيأتي ذكرها بعد في تاريخ الأدب الإنجليزي في عصر النهضة.

والضرب الثالث من شعر العصور الوسطى هو الشعر الغنائي الذي أينع وازدهر وتكاثرت ألوانه، وأصحاب هذا الشعر الغنائي لم تنجبهم طبقة في المجتمع دون أخرى، بل ساهمت في إخراجهم طبقات الناس جميعا، فمنهم العالم الذي مزج أنغام غنائه بعلمه، وحاول أن يكسب اللغة الأدبية وقار العلم وأسلوبه، ومنهم النبيل الذي شجع الفن ومارسه، بل منهم الملوك: فبين من أنشد وغنى من أصحاب العروش «تيبولت الرابع ملك شمبانيا»

12

و«رتشارد الأول» ملك إنجلترا (وهو رتشارد قلب الأسد بطل الحروب الصليبية)، وجيمس الأول ملك اسكتلنده، وألفونسو العاشر ملك إسبانيا، ولكن القصائد الغنائية التي أنشدها شعراء من طبقات الشعب الدنيا كانت خيرا مما قاله هؤلاء السادة، وتسمى هذه الأخيرة «الأغاني الشعبية» وهي ألصق من تلك الحياة، كما هي الحال في الأغاني الشعبية عند الأمم جميعا.

وقد ظهر في القرن الرابع عشر كتاب عظيم نستطيع أن نسلكه في قصص الفروسية التي سلف ذكرها، وذلك هو كتاب «أخبار التاريخ

Chronicles » ومؤلفه «فرويسار»،

13

فهذا الكتاب الذي يقص تاريخ فرنسا وإنجلترا واسكتلندة وإسبانيا قرنا كاملا تقريبا يثير خيال القارئ أكثر مما تفعل القصة الخيالية، وهو صورة عظيمة لعصره؛ فقد كان «فرويسار» رحالة لا ينقطع عن الرحلة، وينظر إلى العالم نظر المشغوف الذي لا يمل، ويسجل ما يراه وما يسمعه. وإن لأسلوبه لجدة وطلاوة وحياة، وفي إثباته للأخبار أمانة ظاهرة لا تخفى على القارئ، مما وضعه في الصف الأول من المؤرخين، حتى ليطلق عليه أحيانا «هيرودوت العصور الوسطى»، وذلك فضلا عن مكانته في فن القصة. وقد كان «فرويسار» إلى جانب ذلك شاعرا، وإن لم يكن شاعرا ممتازا، لأنه عاش في قرن سادت فيه كتابة النثر، فقد صمتت قيثارة الشعر خلال القرن الرابع عشر في فرنسا، ولم تعد إلى أنغامها الساحرة إلا في القرن الخامس عشر. وكان لكتابة «فرويسار» أثر بليغ في النثر الفرنسي، فقد اتجه به نحو الوضوح الذي لبث قرونا طوالا طابع النثر في فرنسا. •••

ويتصل الأدب الإسباني بالأدب الفرنسي في العصور الوسطى، وبخاصة أدب الإقليم الجنوبي - إقليم بروفانس - اتصالا شديدا؛ فالقصيدة الإسبانية التي تقابل قصيدة «أنشودة رولان» في فرنسا هي «قصيدة السيد

»، وقد كان «السيد» رجلا حقيقيا قاتل المسلمين في الأندلس قتال الأبطال، واسمه «راي دياز دي بيفار»

14

ويلقب ب «السيد»، وقد أصبح «السيد» موضوعا تحاك حوله الأساطير التي تروي ضروب البسالة والبطولة. ولم تؤثر شخصية «السيد» في الأدب الإسباني وحده، بل جاوزته إلى سائر الآداب الأوروبية، فاتخذها «كورني»

15

الروائي الفرنسي العظيم موضوعا لإحدى مآسيه، وقد ترجمت هذه الأخيرة إلى اللغة العربية.

ومن أدباء إسبانيا في القرن الثالث عشر ملكها «ألفونسو» ويلقب ب «العالم» الذي أمسك السيف بإحدى يديه محاربا وحمل القلم بالأخرى كاتبا؛ فقد أنشد شعرا وكتب نثرا، وأشرف على مؤلفات وضعت في مختلف الفنون والعلوم، واستقدم إلى بلاطه أصحاب الفن ورجال الغناء من فرنسا، وبخاصة «التروبادور» الذين كانوا عندئذ لا يطمئنون إلى الحياة في إقليم «بروفانس» - وهو وطنهم - لما شهده من انقلاب سياسي في ذلك العهد، ولم يزدهر الشعر الغنائي للتروبادور في إسبانيا ازدهاره في فرنسا ، ولكنهم مع ذلك أنتجوا مقدارا عظيما من الأغاني والأناشيد تعبر عن الحالات النفسية على اختلاف ألوانها، وهي تتفاوت في الجودة من النظم الركيك إلى الشعر الجيد الممتاز.

وسنجد في الأدب الإسباني في عصر النهضة أدبا زاهيا زاهرا موضوعه فصل آخر.

الفصل الثالث

الأدب الألماني في العصور الوسطى

لعل الشعراء لم يجدوا من التكريم في بلد ما وجدوه في البلاد الألمانية، وفي أجزائها الجنوبية بصفة خاصة: في بافاريا والنمسا، وهنالك نشأ بتأثير الشعراء «التروبادور» تقليد بين الشعراء أن يقرضوا «أنشودة الحب» فيتغزلوا بالحبيب على تقاليد دقيقة معقدة تقوم بين الشعراء مقام القانون الذي لا يجوز لأحد أن يعدو قيوده وحدوده. غير أن الشاعر الغزل في ألمانيا كان أكثر من زميله التروبادور في فرنسا جدا وصرامة، وأقل منه زخرفة وبهرجة؛ فقد تناول فنه في جد لا يعرف الهزل، واستطاع في قرنين - هما الثاني عشر والثالث عشر - أن ينتج مقدارا كبيرا من الشعر الغنائي الذي يشف عن عبقرية قوية في قرض الشعر، فكانت تلك القصائد الغنائية بالإضافة إلى الأغاني الشعبية الساذجة أساسا «للأغاني» الألمانية التي امتازت بألفاظها وأنغامها معا. وكان الشاعر الغزل في ألمانيا - عادة - فارسا من الصفوف الدنيا، وموضوع «أغنية الحب» إعجاب الشاعر بل تقديسه لامرأة من طبقة اجتماعية تفوق طبقة الشاعر بحيث يستحيل عليه أن يظفر بها. وقد تكون هذه المحبوبة أحيانا متمثلة بالفعل في زوجة سيده، وقد تكون أحيانا أخرى وليدة خياله. وإن هذا اللون من الحب يحسه شاعر شاب نحو معشوقة فوق مناله ليشيع في كثير من شعر العصور الوسطى وعصر النهضة. ولئن كان هذا الحب مصطنعا أحيانا فإنه في معظم الأحيان صادر عن عاطفة قوية سليمة تمكن الشاعر أن يعبر عنه تعبيرا جميلا.

وأعظم «شعراء الغزل» في ألمانيا هو «وولتر فون در فوجلويد»

1

الذي برع في فن القريض، وكان ذا أثر عميق في النهوض بالشعر الغنائي، وكان لا يتكلف الغزل بل يصدر في غنائه عن شعور صادق، وإن العاطفة البادية في شعره لتصطبغ بصبغة هي أقرب إلى نفوسنا من شعر كثير من المعاصرين، وقصيدته المشهورة هي «تحت ظلال الزيزفون»، وليست معشوقته فيها سيدة من طبقة رفيعة، بل فتاة ساذجة من غمار الشعب.

وقد حدث في مستهل القرن الثالث عشر أن التقى «وولتر فون در فوجلويد» بزميله الشاعر «ولفرام فون إشنباخ»

2

في بلاط أحد الأمراء، فكان لقاء بين شاعرين هما أقوى شعراء الألمان عاطفة وعبارة وأشدهم خلقا وابتكارا. وتاريخ الأدب يعرف «ولفرام» بشعره الغزلي، كما يعرف له أنه الشاعر الذي تناول قصة «بارسفال»

3

فصاغها وسواها، وهي أجمل قصة تروي أسطورة «الوعاء المقدس» التي تقدم ذكرها، وقد جاءته القصة من فرنسا عن شاعرها «كرتيان دي تروا» وغيره من مصادر الأساطير، ولكن «ولفرام» كان أصلب عودا من سلفه الفرنسي «كرتيان» وأدق منه إحساسا بفن القصص، وإن يكن «ولفرام» في بعض مواضع قصته يغمض ويتعثر؛ وذلك لأن اللغة الألمانية لم تكن بلغت في أدائها للقصة ما بلغته من التهذيب والسمو في أدائها للغناء.

ويعاصر الشاعرين «ولفرام» وزميله «وولتر» شاعر ثالث بحيث يكون معهما ثالوثا أدبيا في الشعر الألماني الوسيط وهو «جوتفريد فون ستراسبورج»

4

الذي كتب أروع ملاحم البطولة في ألمانيا، بل في أوروبا بأسرها؛ فقصته «ترستان» مستمدة من أصول فرنسية، ولكنها في قوة التعبير وصدق التصوير ووحدة الفكرة لا يدانيها شيء من الإنتاج الفرنسي. وقصة «جوتفريد» هذه عن «ترستان» اتخذت فيما بعد أصلا يقاس عليه فيما كتب من قصص في هذا الموضوع. وقصة «ترستان» فرع من قصص «أرثر» التي شاعت في الأدب الوسيط.

على أن «إلياذة» الألمان في العصور الوسطى هي «نبلنجن ليد »

5

ومعناها «أغاني أهل الظلام»، وهي كنز ثمين خصب هبط عليه «فجنر» فيما بعد فاستمد منه قصصا لمسرحياته الغنائية.

وكاتب هذه القصيدة العظمى شاعر ألماني مجهول عاش في القرن الثاني عشر، وقد جمع أساطير الأبطال الأولين الذين ظهروا في شعوب الشمال، تلك الأساطير القديمة التي لا بد أن قد تغنى بها أصحابها الأوائل جماعات جماعات حول المدافئ قبل أن يخترع فن الكتابة والتدوين. كما جمع هومر قبل ذلك بقرون أساطير الإغريق الأقدمين فصبها شعرا في ملاحمه، وأطلق الشاعر المجهول على مجموعة الأساطير التي أجراها في شعره «أغاني أهل الظلام»، التي تقع من نفوس الألمان ما وقعت «الإلياذة» و«الأوذيسية» من نفوس الإغريق. وكما اتخذت القصص الهومرية موضوعا للمآسي الإغريقية الكبرى، كذلك اتخذت «أغاني أهل الظلام» معينا استمد منه فن العصور الحديثة، فأخذ عنها «فجنر» - مثلا - مسرحياته الغنائية.

وقصة «أغاني أهل الظلام» يرويها الراوي في تسع وثلاثين مغامرة، وتبدأ بقدوم البطل سيجفرد،

6

وهو ابن سيجمند

7

ملك الأراضي الواطئة، إلى مدينة ورمز

8

ليخطب فتاة لا تضارعها في حسنها فتاة، وهي كريمهلد

9

أخت جونتر

10

ملك برجنديا.

وقد كان لسيجفرد هذا مغامرات عجيبة في شبابه حين كان يتلقى تدريبه عند صانع للسيوف، فقد قتل أفعوانا واغتسل بدمائه، فأصبح بعدئذ في مأمن من الجراح إلا في موضع واحد من جسده، وهو موضع يقع بين كتفيه حيث لصقت به ورقة من شجر الزيزفون حين اغتسل بدماء الأفعوان، فكان هذا الموضع من سيجفريد ما كان العقب من أخيل في قصة الإلياذة. فوق هذه الحصانة التي اكتسبها سيجفريد كان قد حمل سيفا بتارا تروى عن أعاجيبه الأساطير، وظفر بثوب الإخفاء إذا ما تلفع به اختفى عن نظر العيون، وقد أكسبه هذا الثوب فوق ذلك قوة تعدل قوة اثني عشر رجلا متآزرين؛ وكان له صولجان سحري أكسبه سلطانا على الآخرين. وفوق ذلك كله اجتمعت له كنوز أهل مملكة الظلام، وهي تحوي ذهبا وأحجارا كريمة لا تقع تحت الحصر، وأسلمت له دولة الأقزام زمامها وقيادها.

فلما أراد الملك جونتر أن يرحل إلى أيسنلنده

11

ليخطب - إن استطاع - الملكة برنهلد،

12

وهي بارعة الجمال ولكنها جريئة مغامرة، اتفق مع سيجفريد أن يصحبه متنكرا في هيئة عبد من توابعه، فإن عاونه سيجفريد في قضاء مطلبه - ودون ذلك أهوال - أباح له جونتر الزواج بأخته كريمهلد التي جاء يخطبها، لكن أين هما من الظفر ببرنهلد وهي تلك المرأة الشموس التي تضع نفسها في طليعة المقاتلين؟! إنها في أهدأ حالاتها لا تهب نفسها زوجا إلا لمن يفوقها في رماية الرمح والقفز وقذف الأحجار.

تلفع سيجفريد بثوبه السحري، فاختفى وازدادت قوته أضعافا مضاعفة، ونازل الملكة المخطوبة برنهلد ولم يكن على جونتر الخاطب إلا أن يهز جسده ويطوح بيديه كأنما يقوم هو بالنزال. وانتهى الأمر بهزيمة برنهلد فكان لزاما عليها أن تنتقل مع خطيبها إلى بلده ورمز، حيث أقيمت حفلات العرس للخاطبين جميعا: جونتر يزف إلى برنهلد، وسيجفريد إلى كريمهلد. وكانت الحفلات تفيض روعة وجلالا، لكن برنهلد - تلك الملكة الساحرة - قد استخدمت بقية سحرها في ليلة الزفاف، فأمسكت بخطيبها جونتر وشدت وثاقه شدا بمنطقتها وعلقته على مسمار في الحائط، فنهض سيجفريد مرة أخرى يعين زميله جونتر على تلك المرأة المروعة الغادرة، وما هو إلا أن فضت بكارتها حتى ذهبت عنها كل قوتها، وأسلست القياد لزوجها، وكان جزاء سيجفريد - لما قدم من عون - أن أخذ من برنهلد خاتمها ومنطقتها وفيهما من قوة السحر ما فيهما، ثم أهداها إلى زوجته كريمهلد. وتمضي أعوام يتقلب فيها سيجفريد وزوجه في نعيم زاخر بفضل كنوزه العريضة التي آلت إليه من مملكة الظلام، ولا يشوب سعادته تلك سوى شائبة واحدة، وهي أن الملكة برنهلد لم تزل تشير إلى سيجفريد بأنه عبد رقيق لجونتر، وأنها لذلك سيدة لزوجته كريمهلد.

وحدث يوما أن جاء سيجفريد إلى حفل أقيم في ورمز، وصحبته زوجته وأبوه وعدد من الأتباع لا يكاد يحصيهم العد، وسارت الأمور خلال الحفل على خير ما يرجى، ثم اشتبكت المرأتان - برنهلد وكريمهلد - في نقاش حاد تزنان فيه قدر زوجيهما، وبلغ النزاع أشده حين نهضت كريمهلد وخلفها حاشية عظيمة، وذهبت نحو الباب تريد الخروج، فلحقت بها برنهلد التي لم يكن لها من جلال الحاشية ما لتلك، وعنفتها قائلة: «لن تتقدم زوجة العبد في الخروج على زوجة الملك.» وهنا ذاع السر المكتوم حين انفجرت كريمهلد قائلة وهي مغضبة حانقة:

هلا أمسكت يا هذي عن الحديث؟

فقد كان الصمت خيرا لك وأفضل.

ألم تجللي بالعار جسمك هذا الجميل؟

فكيف استحلت عاهرة أن تكون زوجة لمليك؟

ثم أبرزت لها الخاتم والمنطقة اللذين انتزعا منها انتزاعا حين افترعها زوجها قسرا فانفجرت برنهلد باكية، ثم أخذت تفكر وتدبر كيف يمكن لها أن تنتقم لما أصاب كبرياءها من جرح بليغ.

وأنابت برنهلد عنها في الإيقاع بأعدائها محاربا مخيفا هو هيجن،

13

فما زال هذا بكريمهلد يصانعها حتى أفضت له بسر سيجفريد أن في جسده موضعا واحدا يمكن جرحه فيه، وذلك بين كتفيه. فلم يلبث هيجن أن باغت البطل سيجفريد، فأرداه قتيلا وهو يتعقب صيده. ولكن برنهلد لم يكفها هذا، فلا بد أن تستذل غريمتها كريمهلد بعد قتل زوجها، فعمل هيجن على استلاب كنوزها، وبقيت المسكينة ثلاثة عشر عاما في فقر مدقع وحزن شديد، حتى أرسل في خطبتها ملك من أقصى الأرض هو الملك إتزل،

14

فقبلت الزواج منه لعل الفرصة تعود فتسنح لها لتنتقم من عدوتها اللدود برنهلد.

ومضت أعوام، ثم أرسلت كريمهلد تدعو جونتر وبطله هيجن إلى قصر زوجها، فأدرك هيجن ما قصدت إليه الداعية من سوء، وحاول أن يصرف عنها سيده، ولكن جونتر لم يأبه له، وذهب في حاشيته وأتباعه. ولم يكن إتزل زوج كريمهلد يعلم عن مكيدة زوجته شيئا، فأخذ يستقبل الأضياف في حفاوة وإكرام، وما إن اكتمل الحفل حتى أخرجت النفوس مكنون الضغائن فسلت سيوف، ورميت قسي، وطاحت رءوس، وسالت دماء، ولقي الأعداء من الفريقين حتوفهم، ولم يبق حيا سوى إتزل وبعض رجاله.

الفصل الرابع

الأدب الإيطالي في العصور الوسطى

(1) دانتي

كان مولد دانتي في القرن الثالث عشر، وقد أوغل بحياته في القرن الرابع عشر؛ فجاء قبيل الموعد الذي حدده المؤرخون للنهضة في أوروبا، ولكن دانتي كان في ذاته نهضة كبرى. وقد ولد دانتي في «فلورنسه» بإيطاليا، التي كانت في عهده - بل ظلت قرنين أو ثلاثة قرون بعد زمانه - معقل الفنون والآداب، لا يعدلها في ذلك بين مدائن العالمين إلا أثينا في عصرها الذهبي. لكن شاء الله لشاعرنا العظيم ألا ينشئ آيته الفنية الكبرى في مدينة الفنون، وذلك لما شهدته أيامه من صراع سياسي عنيف، وكان هو منتميا إلى الحزب الخاسر ،

1

فنفاه ذوو السلطان من المدينة فاعتصم بحماة الأدب من الموسرين في المدائن الإيطالية، وبخاصة في «فيرونا»

2

و«رافنا»

3

حيث أنشأ «الكوميديا».

وآية دانتي الكبرى هي «الكوميديا» التي أطلق عليها «الكوميديا الإلهية» - ولم يكن دانتي هو الذي أطلق عليها هذا العنوان الثاني - وهي رحلة خيالية في الجحيم وفي الأعراف، وفي الفردوس، وقد بلغ بها الشاعر من الجودة الفنية حدود الكمال. و«الكوميديا» نمط خاص من الأدب، فلا هي تنخرط في سلك الملاحم ولا هي تندرج تحت ضرب من ضروب الشعر المعروفة المألوفة، فلم يأت بمثلها في الصياغة والتأليف سابق أو لاحق، إنما خلقها دانتي خلقا وأنشأها إنشاء، فجاءت في عالم الشعر وليدا جديدا مادة وصورة وعبارة.

4

ومع هذا فقد جمع في سطورها حكمة عصرها؛ فإنه حين يرتحل ليشهد الموتى، تراه يحمل في جعبته حقائق التاريخ وتراجم الأعلام والأبطال، ثم يعيد في أشعاره قصص الآثمين ليصور لهم ما يستحقون من ألوان العقاب، كما يقص أنباء المحسنين وما وافاهم الله به من نعيم مقيم. والرواية عن هؤلاء وأولئك هي مصدر ما يصادفه القارئ في القصيدة من متعة وجمال، وبخاصة ما رواه الشاعر عن الجحيم وساكنيه، لأن القصة إذا رويت عن مجرم آثم كانت أمتع من القصة تروى عن متبتل قديس! وإن دانتي ليدرك هذه الحقيقة الإنسانية في وضوح، ويستثمرها ما أسعفه الفن والنبوغ، فتراه ينزل بأصحاب الجحيم عذابا أليما يهز النفوس هزا عنيفا، وينوع العذاب فيصبه تارة على الجسم وطورا على الروح، ومع ذلك لا تحس وأنت تقرؤه أنه عذاب صادر عن حقد وضغينة ، بل تسوده الرحمة والعطف الجميل. ويختم الشاعر رحلته برؤية الله، وعندئذ تنطمس الإرادة الإنسانية في «الحب الذي يحرك الشمس وسائر الأفلاك»؛ عندئذ يتحد الإنسان بالله.

وإنما أراد دانتي بهذا أن يهيئ لأبصارنا هذه الرؤية ليفتح أمام بصائرنا آفاق الأمل الفسيح، فيخرجنا من إحساس بالشقاء إلى رجاء في النعيم.

جاءت «الكوميديا» قصيدة رائعة بارعة، لكنها حوت معميات في الفلسفة واللاهوت أخذ البحث العلمي في ستة قرون تالية يجاهد في سبيل حلها وتوضيحها ثم أعلن إفلاسه، ولكن فيم هذا العناء كله في حل المشكلات والغوص إلى الأعماق إن كان السطح فاتنا خلابا؟ فلنستمتع بهذي القطوف الدانية إن كان ما وراء ذلك فوق المستطاع.

ولا تقف عبقرية الشاعر عند حد الفكرة، بل تعدوها إلى الصورة التي ألبسها إياها؛ فبناء القصيدة عنده معجزة من معجزات التأليف والإنشاء، فالكوميديا تتألف من ثلاثة أقسام: الجحيم، والمطهر (أو الأعراف) والفردوس، وفي كل قسم منها ثلاثة وثلاثون مقطعا، وإذا أضفت إليها مقطعا زائدا اتخذه الشاعر فاتحة للجحيم، كان لك بذلك مائة مقطع تكون القصيدة. والمقاطع تكاد تتساوى كلها في عدد أبياتها، ففي كل منها مائة وأربعون سطرا أو ما يدنو من ذلك، تتركب من وحدات مثلثة القافية؛ فالوحدة قوامها ثلاثة أسطر يتناغم أوسطها مع السطرين الأول والثالث من الوحدة التي تليها. ولم تكن هذه الصورة الشعرية التي ابتكرها دانتي لقصيدته دليلا على براعته في الأوزان وكفى، لكنها فوق ذلك برهان على سلامة فطرته وقوة سليقته، لأن هذه الوحدات المثلثة القافية خير ما يصلح للتعبير عن موضوعه، وقد تعددت ألوانه وتباينت: ففيه الفكرة، وفيه القصة، وفيه الوصف المستفيض والحكمة الموجزة، بحيث جاءت كلها نسيجا واحدا متماسك الديباجة موصول الأطراف والأجزاء. وما هو جدير بالذكر أن هذا الوزن المبتكر قد حاوله من بعد دانتي كثيرون فلم يكن في أيديهم طيعا متسقا كما كان عند صاحبه، لذلك ظل خاصا به لا يشاركه فيه شاعر سواه.

ثم ماذا؟ ثم لا يقنع هذا النبوغ الخارق بالفكرة السامية ينشئها وبالصورة الفنية في بناء القصيدة يخلقها، لكنه تجاوز ذلك إلى الألفاظ نفسها، فاصطنع لغة لم يصطنعها الشعراء من قبله؛ ففي ذلك العصر الذي كانت اللاتينية فيه أداة الكتابة بين العلماء، لا ينازعها في ذلك منازع، اتخذ دانتي من اللهجة العامية في إقليمه «تسكانا» لغة أدبية يستخدمها لفنه، ثم أدخل عليها فيما بعد ما أدخل من تهذيب وتشذيب حتى أصبحت أداة التعبير التي تجرى بها أقلام الأدباء في إيطاليا، وهي ما نسميها اليوم ب «الإيطالية القديمة». لقد كان في إيطاليا - ولا يزال بها - لهجات كثيرات، ولبعضها أدب جميل، ولكن اللهجة التسكانية - وهي لهجة الحديث في فلورنسه وما يجاورها - امتازت من دونها جميعا، واتخذت مقياسا للتعبير الصحيح الخليق بطوائف المتعلمين، وذلك بفضل شاعرها دانتي.

ويتخذ دانتي من سلفه فرجيل دليلا يهديه في رحلة الجحيم، كأنما أراد بذلك أن يعترف بالجميل لأستاذه في «جمال الأسلوب»، فليس من شك في أن لفرجيل أثرا عميقا في دانتي، بل في شعراء أوروبا الوسيطة والحديثة على السواء. •••

لما بلغ دانتي التاسعة من عمره شاءت له المصادفة أن يلتقي بفتاة في مثل سنه هي «بياترتشي»؛

5

التقى اليافعان ولم يتبادلا حديثا، ولكن الشاعر فيما بعد يقرر أنه «منذ ذلك اليوم قد تمكن سلطان الحب من نفسي.» ولبثت «بياترتشي»، حتى ختام حياته ملتقى خواطره ومشاعره؛ فها هو ذا يستعيد في أواخر سنيه ذكريات ماضية، فيذكر كيف شهد الحبيبة يوما يعده أسعد الأيام وهي ترتدي ثوبا «أبدع ما تكون الثياب لونا، ثوبا قرمزيا جميلا تطوق وازدان على نحو أتم ما يكون تناسبا مع يفاعة سنها.» ومضت بعد هذا اللقاء أعوام تسعة، ثم قابل الشاعر «بياترتشي» مرة ثانية، وكانت ترتدي ثوبا أبيض، وتسير في شوارع فلورنسه في صحبة سيدتين تكبرانها، ولم يتبادل الحبيبان حديثا في هذه المرأة أيضا، لكن الفتاة «أدارت عينيها إلى حيث وقفت يعلوني الخجل الشديد، ثم حيتني في ظرف يعز على التعبير، وعلى نحو من الجلال خيل إلي في موقفي ذاك أني أشهد جنة النعيم.» ثم لم تقع عيناه على حبيبته بعد ذلك إلا مرة ثالثة، فيا لها من سخرية للقدر أن تنفث «بياترتشي» هذه العاطفة العميقة في أكبر قلب ضمه صدر إنسان، ثم تمضي بها الأيام غير عالمة بما نفثت من سحر وإلهام! لكن الأقدار تعود فتصلح ما أفسدت، فتهيئ لهذه العاطفة القوية التي بعثتها «بياترتشي» في قلب دانتي أن تخلد في إحدى روائع الأدب الإنساني، إذ خلدها دانتي في كوميدياه.

وتزوجت «بياترتشي» وماتت وهي في الخامسة والثلاثين عن عمرها، فكتب عنها دانتي بعد موتها يقول: «ما إن فقدت أولى مباهج نفسي حتى عراني حزن تغلغل في قلبي، فلم يعد أي متاع يجدي شيئا.» ويقص دانتي قصة حبه هذا في أول كتاب له كتبه بالإيطالية وهو «الحياة الجديدة»؛ والكتاب رسالة فلسفية تتخللها مقطوعات شعرية، هاك إحداها يعلل فيها الشاعر موت حبيبته في سن باكرة:

صعد هذا الجلال الفياض إلى السماء

فأيقظ الدهشة في رب الخلود،

حتى شاع في نفسه شوق لذيذ

إلى ذلك الجمال الباهر،

فقضى الله أن تكون الفتاة نحو الله طامحة؛

إذ رأى هذه الأرض مترعة بالشر والعناء؛

فليست خليقة بمخلوقة كهذي تفيض جلالا.

وبعد أن أتم دانتي كتابه «الحياة الجديدة» - شرع ينشد «الكوميديا الإلهية» لتكون قربانا يقدمه إلى المرأة التي أحبها، فقد كتب دانتي الكوميديا ليتجه بها إلى «بياترتشي» بعد موتها؛ فهو يقول في آخر فصول «الحياة الجديدة»:

لو شاء الذي يفيض الحياة على الكائنات جميعا أن يمتد أجلى أعواما قلائل فإني آمل أن أكتب عنها ما لم يكتب مثله لامرأة. فإن أتممت ذلك، فلتقض إرادة الله رب الجلال أن يصعد روحي إلى السماء، فيشهد جلال محبوبته إذ يرى «بياترتشي».

أما الكوميديا الإلهية فهي - كما أسلفنا - وصف للجحيم والمطهر والفردوس، وهي تصور في ظاهرها حالة الأرواح بعد الموت، لكنها في حقيقة أمرها رمز أريد به أن يبين حاجة الإنسان إلى الهداية وإشراق الروح. وها نحن أولاء نعرض لك موجزا وافيا لهذه القصيدة الخالدة:

ينظر دانتي فإذا هو قد ضل طريقه في غابة معتمة، وإذا بفئة من الوحوش الكواسر تحول دون صعوده جبلا كان يعتزم صعوده، ها هنا يلقاه «فرجيل» - الشاعر الروماني العظيم - وبعد أن يطلعه على ما في الجحيم من ألوان العذاب، وأن يريه المطهر بعد ذاك، فإذا ما تم ذلك صحبته «بياترتشي» إلى الفردوس تهديه سواء السبيل. يسير «دانتي» ودليله «فرجيل» حتى يأتيا باب الجحيم فيقرأ هذه الكلمات المفزعة التي خطت عليه:

أدخلوني إلى مدينة الأحزان.

أدخلوني إلى أليم العذاب.

أدخلوني بين من ضلوا إلى أبد الآبدين.

إن بارئي قد أقام العدل ميزانا،

ثم شاءت قوة الله أن يقوم بنياني،

وإن هي إلا الحكمة العليا والحب الأول،

ولم يخلق الله قبلي غير الخوالد،

فإني على وجه الدهر باقية؛

فيا أيها الواردون انفضوا عن أنفسكم كل رجاء.

ويدخلان فإذا بالجحيم هوة سحيقة في هيئة مخروط مقلوب، رأسه عند مركز الأرض وجوانبه مدرجة درجات عراضا تقل حجما كلما ازدادت عمقا، وعلى هذا الدرج حشر الآثمون: دنياها لمن ثقلت موازينه بخطاياه، وعلياها لمن خفت موازينه؛ فلا يكاد الشاعران يدخلان أبواب الجحيم حتى يبصران سهلا مظلما حشرت فيه أرواح الذين عاشوا لأنفسهم وأنفقوا أيامهم - ولا يقول حياتهم لأنها لم تكن عنده بالحياة - في تراخ وقعود، وهؤلاء كانت تلدغهم الزنابير فلا تدعهم يطمئنون إلى قرار.

وعبر الزائران ذلك السهل حيث بلغا «نهر أشيرون»

6

وهو نهر الأسف والأسى، وعلى شطه ألفيا زحاما عند معبر «شارون»

7

كل يرقب العبور إلى الشاطئ الآخر. وكان «شارون» هذا ينقل المتزاحمين في عنف وقسوة، وعيناه تدوران في وجهه كأنهما حلقتان من نار؛ فلا يحتمل دانتي هذا المشهد الرهيب، ويسقط في إغماءة لا يفيق منها إلا برعد يقصف قصفا شديدا، فيرى أنهما قد عبرا «أشيرون». وعندئذ هبط مع دليله إلى «لمبو»، وهي أولى حلقات الجحيم، وها هنا وجد عبدة الأوثان الذين ماتوا قبل المسيحية، ولذا فقد حق عليهم الحرمان من نعيم الفردوس على الرغم من حياة الفضيلة التي عاشوها فوق الأرض. وفي هذه الحلقة الأولى يلتقي دانتي بأسلافه «هومر» و«هوراس» و«أوفد» فيلقاه هؤلاء لقاء حسنا؛ ويهبطان إلى الحلقة الثانية من الجحيم، فإذا بدانتي يبصر عند مدخلها «مينوس»

8 - وهو قاضى الجحيم - فيراه كلبا عظيما له وجه إنسان؛ فلا يلبث «مينوس» أن ينذر دانتي أن يكون على حذر في دخوله تلك الأصقاع. وها هنا يشهد دانتي عقاب من استرسلوا في شهوات أجسادهم فأجرموا في الحب، وإذا بهؤلاء قد عصفت بهم ريح شديدة فأخذتهم الراجفة كأنهم الكراكي في العاصفة:

ها قد بدأت أسمع صيحات الحزن والأسى،

ها قد أتيت إلى حيث الأنات الشاكيات

تقرع أذني فتؤذيها، إذ أتيت إلى مكان

خفت فيه الضوء، وهنالك زمجرت رياح عواصف،

كأنه البحر مزقته العاصفة برياحها الهوج،

إذ هبت في جنبات الجحيم رياح عاتية،

أخذت في سورة الغضب تسوق أمامها الأرواح

تدور بها حتى الدوار، وتدفعها دفعا عنيفا موجعا،

حتى إذا ما بلغت بها عند الجائحة الفاتكة،

سمعت صرخات، وسمعت أنات وعويلا،

وسمعت اللعنات تسب قوة الخير في السماء.

وهنالك أبصر الشاعران «بسيمراميس» و«كليو بطرة»:

وهنالك لمحت «هلن» التي في سبيلها

عم البلاء حينا من الزمان طويلا،

وأبصرت ثم «أخيل» العظيم الذي قاتل مدفوعا بالحب حتى النهاية،

ورأيت «بارس» ورأيت «ترستان»

وغير هؤلاء ألفا أراني - مشيرا إليهم ومسميا -

ممن أفقدتهم لوعة الحب طعم الحياة.

وفوق هؤلاء وأولئك رأي دانتي «فرانسسكا»

9

وحبيبها «باولو»،

10

وتقص «فرانسسكا» عليه قصتها، فتبلغ القصة من الشاعر مواقع العطف والإشفاق. وهل يحتمل هذا القلب الرقيق أن يستمع إلى امرأة تروي كيف بوغتت مع حبيبها، وكيف فتك بالحبيبين زوجها «يوحنا الأعرج»،

11

فسقط الشاعر في إغماءة حتى إذا ما أفاق ألفى نفسه في الحلقة الثالثة من حلقات الجحيم.

في هذه الحلقة الثالثة أعد عقاب النهم، فهنالك شوهد الذين شغلتهم في الدنيا بطونهم، يتمرغون في حمأة من الطين تحت وابل من المطر والثلج والصقيع، بينما أخذ «سيربروس

Cerbru » وهو كلب عملاق - ينبح ويعوي ويمزق جلودهم تمزيقا.

إن «سيربروس» - ذلك الوحش الغليظ الكاسر العجيب - أخذ ينبح نباح الكلاب من حلق عريض، له ثنايا ثلاث

في جمع محتشد

وعيناه أرجوانيتان تلمعان، ولحيته رخوة سوداء.

قد ضخمت منه المعدة ، أما يداه فمخلبان،

بهما يهشم الأرواح وينهشها ويمزق الأعضاء

شلوا شلوا.

ثم يدخل الشاعران حلقة الجحيم الرابعة فيبصران عند مدخلها «بلوتس»

12

إله المال يراقب هنالك من بسطوا أكفهم بالإسراف، ومن غلوا أيديهم إلى أعناقهم لا ينفقون، فهؤلاء وأولئك قضي عليهم أن يدحرجوا جلاميد صخر عاتيات في اتجاهين متقابلين، فلا تلبث جلاميدهم أن يصدم بعضها بعضا، فينفجر الأشقياء - وقد نال منهم الإعياء - باللعنات يصبها فريق منهم على فريق.

وبعدئذ يرد الراحلان إلى الحلقة الخامسة حيث الغضاب الساخطون يتقلبون في عذاب أليم في بحيرة «ستيجيان»، فيشير «فرجيل» لزميله قائلا:

أرأيت يا بني؟

أرأيت أرواح من غلبتهم في الحياة سورة الغضب؟

فاعلم عن هؤلاء كذلك علم اليقين أن تحت

الماء تسكن منهم جموع، يتنهدون

فتنتفخ هذي الفقاقيع التي يعلو بفعلها صدر الماء.

انظر تشهد هذا أينما وجهت البصر.

وإنهم وقد لصقوا بالوحل ليقولون: «كنا ذات يوم حزانا؛

كنا في الهواء الحلو تبهجه الشمس،

نحمل في أجوافنا نفوسا مظلمة وضبابا ثقيلا،

فقد حق علينا الحزن في هذا المكان القاتم.»

بهذه النغمة الحزينة كانوا يغمغمون،

لكنهم بالألفاظ واضحة لا يفصحون.

وبعدئذ وصل الشاعران إلى برج شاهق تضيء من قمته شعلتان، وشهدا «فليجياس»

13

القائم على العبور في بحيرة «ستيجيان» قادما إليهما في سرعة الملهوف ليحملهما عبر البحيرة؛ فأبصرا خلال الضباب الكثيف القائم مدينة «ديس» وهي مدينة الشيطان، شهدوا أبراجها وقبابها متوهجة بألسنة اللهب. وكانت طائفة من الجن قائمة على حراسة أبوابها. ولم يكد الراحلان يدنوان من مدينة الشيطان حتى شهدا أرواح الشياطين على رءوس المنازل تمزق شعورها التي كالأفاعي من الغيظ والغضب، وتصيح بقوة السحر لتمنع الراحلين، فيجمدا، لكن ملكا يأتي إليهما مسرعا عبر البحيرة دون أن تبتل أقدامه بمائها، فيسرد أرواح الشياطين ويفسح للشاعرين الطريق، فيدخل الرجلان المدينة ويبصران سهلا فسيحا ملأته أجداث مكشوفة لا يخفيها غطاء، تتأجج في كل منها نار تلتهم روحا كان صاحبه قد ضل عن دينه. وبلغ الراحلان حدود الحلقة السابعة فهبطاها خلال شق من صخور ممزقة الجوانب حتى انتهيا إلى نهر من دماء وقف في لججه الطغاة، بينما أخذت فصيلة من الجن وعلى رأسها «شيرون» تجري على الشاطئ وتلهب بسهامها الحداد جسوم أولئك الطغاة الذين اعتدوا على جيرانهم سلبا ونهبا. وتقدم إلى الشاعرين واحد من تلك الفصيلة وقال مشيرا إلى جماعة الآثمين الغرقى في نهر الدماء:

هذي أرواح الطغاة الذين استرسلوا

في سفك الدماء وسلب الأبرياء؛ انظرا إليهم يولولون

جزاء ما اقترفوا من إثم غليظ؛ ها هنا موطن الإسكندر ،

وها هنا هوى ديونيسيوس الذي سام صقلية

ألوان العذاب أعواما طوالا. ...

انظر إلى عدالة السماء الصارمة تهوي بالعقاب

على «أتلا» الذي كان في الأرض سوط عذاب!

ولا يزال الشاعران في الحلقة السابعة، فيدخلان جزأها الثاني وهو غابة كئيبة موحشة تكونت من أرواح الذين أزهقوا أنفسهم بأيديهم، فانقلبت نفوسهم في هذه الغابة أشجارا جافة قصيرة، تتدلى منها ثمار سامة يعيش عليها ضرب من الطير القذر له وجوه النساء، وكان كلما انكسر فرع من شجرة تدفق الدم كأنه ينصب من جسم مجروح، وبعض الأرواح التي حشرت في تلك الغابة كان عذابه أن تقتفيه كلاب قوية سوداء تنهش جسومهم نهشا. وللحلقة السابعة قسم ثالث حشر فيه الذين اقترفوا الإثم نحو الله أو الطبيعة أو الفن، فلهؤلاء أعد سهل يغطيه رمل ملتهب جاف تتساقط عليه قطع النار، ثم تهب عليها الريح فتحولها في بطء إلى ألواح من الجليد.

وواصل الراحلان المسير على شاطئ نهر الدماء، الذي يجرى خلال هاتيك الرمال الملتهبة، حتى بلغا من الطريق مكانا تتدفق فيه دماء النهر ساقطة إلى مهوى سحيق؛ فأخذ «فرجيل» منطقة زميله «دانتي» وألقى بها في الهاوية، فما لبثا بعدئذ أن شاهدا حيوانا ضخما مخيفا يعلو من القاع سابحا في أجواز الهواء المظلم القاتم حتى وصل إلى حيث يقفان، فامتطياه إلى الحلقة الثامنة من حلقات الجحيم وهي تنقسم عشر فجوات أعدت كلها للخداع بكل ضروبه؛ ففي أولاها حشر الفاسقون تنطحهم فئة من الشياطين ذوي القرون، وفي الثانية ألقي بالمرائين يتمرغون في الوحل، والفجوة الثالثة للمتاجرين بالدين، فهؤلاء علقت أجسامهم في ثغرات ضيقة عميقة، ورءوسهم مدلاة إلى أسفل، وأقدامهم تشتعل كأنها المشاعل فوق الصخور، وكانت الفجوة الرابعة لطائفة المتنبئين لويت أعناقهم بحيث أطلت الوجوه إلى الظهور. ويتلو ذلك حفرة ملئت بقار يغلي أعدت للسالبين ينغمسون فيها، ترقبها جماعة من الشياطين ذوي أجنحة سود وسنان حداد. ووصف دانتي لهذا المنظر من أروع ما ورد في «الجحيم»، فهو يجعل على هذه الطائفة من الحراس الشياطين رئيسا يسميه «بارباريتشا»

14

ويساعد على تنفيذ أوامره نفر منهم يسميهم بأسمائهم، فمنهم «جرافيكاني»

15

و«فارفارلو»

16

وغيرهما: ... وإنه ليحدث الفينة بعد الفينة

أن يعلو الآثم بظهره فوق سطح القار من لذع الألم،

ثم يختفي في سرعة أين منها لمحة البرق الخاطف؛

فكما تقف الضفادع من بركة الماء

عند حافتها، لا يبدو فوق الماء غير خياشيمها

أما الأقدام والخراطيم فتحت الماء خافية،

كذلك وقف الآثمون في لجة القار.

ولكن سرعان ما يكون «بارباريتشا» على مقربة،

فيغوص الجناة تحت الموج؛ فلقد شهدت -

وقلبي يخفق بين ضلوعي - شهدت أحدهم يطفو

كما قد يحدث لضفدعة أن تظل فوق الماء طافية،

بينما تسرع أختها واثبة فتختفي، وكان «جرافيكاني»

إذ ذاك أقرب الشياطين إلى ذاك المسكين،

فأمسك بخصلات شعره الكثيفة يجذبها جذبا شديدا،

وألقى به في عنف طريحا

حتى بدا لي كأنه كلب من كلاب الماء.

ويمضي الشاعران في طريقهما إلى سائر الفجوات، فيشهدان المنافقين وقد أثقلتهم قلنسوات من الرصاص زخرف بماء الذهب، ثم يريان اللصوص كيف ينقلبون حيات محتملين في ذلك التحول عناء أليما، ثم كيف يرتدون إلى صورة الآدميين. وبعدئذ يمران بمن استنصحوا فأشاروا بفعل السوء، كل فرد منهم قد تحول إلى لسان من اللهيب يندفع هنا وهنالك، حتى لكأنهم في ذاك الجب المظلم يراعات (ذباب مضيء) تروح وتجيء، ثم يرى الشاعران فريق الخائنين وقد مزقت الجراح أجسادهم تمزيقا، وقد تقدم من بينهم «بريان»

17

الذي أعلن عصيانه على هنري الثاني ملك إنجلترا، وقد أمسك رأسه المقطوع من شعره وأخذ يتحدث إلى دانتي.

وبعد ذلك أخذ الشاعران طريقهما إلى الحلقة التاسعة من حلقات الجحيم، التي لم يكادا يبلغانها حتى أوشكت آذانهما أن تصم بصوت بوق كان يقصف كالرعد، ثم ما لبثا أن رأيا ثلاثة مردة تقف عند الحافة من قاع الجحيم الأسفل. أما أحدهم «أنتيوس»

18

فينزل بهما إلى قاع الجحيم، وإذا به بحر تغطيه ثلوج لا تذوب، وهنالك تبدو أشباح المعذبين، كأنما هي ذباب يضطرب في وعاء من البلور، وقد شهد الشاعران من تلك الأشباح اثنين في جحر واحد يقرض أحدهما جمجمة الآخر كما يفعل كلب بالعظام. ولم يكد هذا القارض يدرك الزائرين حتى رفع أسنانه العارية يقص قصته، وإذا بالمتحدث هو أوجولينو

19

الذي كان قد التقي به مع ابنيه في «برج المجاعة» ولبثوا على الطوى يتضورون حتى أهلكهم الجوع، فكانت قصة موت ابنيه أشد ما سمع الشاعران إثارة للعطف والإشفاق. وأما زميله في الجحر المثلوج فهو «رودجيري»

20

رئيس الأساقفة الذي كان قد قضى على الرجل وابنيه بهذا العقاب. ... فلما فرغ من الحديث

عاد فأنزل على الجمجمة المنكودة أسنانه

وثبتها في عظمها كما يفعل الكلب الكاسر بأنيابه،

لا تنزاح ولا تتحول.

وأخيرا ... انتهى بهما المطاف إلى آخر مشهد من مشاهد الجحيم، حيث يقف إلى الأبد كبير العصاة، وهو الشيطان، يمضغ بأنياب غاضبة ثلاثة آثمين في أفواهه الثلاثة، وهو يضرب بأجنحته الخفاشية الضخمة، فيرسل رياحا باردة تجمد ماء البحر. ... قال دليلي: «انظر - إذن -

إن كنت تستطيع النظر.» فرأيت ما أراه

حينما ينفجر السحاب المثقل الكثيف، أو حينما

يرخي الليل على الأرض سدوله السود، فعلى مبعدة

بدا الشيطان كأنه الطاحون الهوائي تدفعه الريح الشديدة دفعا سريعا،

فذلك ما صور لي خيالي أني أراه،

ولكي أتقي تلك الريح العاتية عدت مسرعا

حيث احتجبت خلف دليلي، فليس لي سواه من مأوى،

وسرنا إلى حيث الأرواح كلها محشورة في أسفل الجحيم. ...

فبعضها مطروح وبعضها قائم: هذا يقف على قدميه،

وذلك يرتكز على رأسه، وثالث وجهه إلى رجليه

يحني ظهره كأنه القوس، ثم بلغنا موضعا

عنده أراد دليلي أن يشير لي إلى مخلوق

كان ذات يوم بارع الجمال،

فخطا الدليل أمامي وأمرني بالوقوف وصاح بي: «انظر! انظر إلى مريض الشيطان،

وزود قلبك بقوة على قوة.»

وهنالك برز أمامنا ذلك العاهل صاحب السلطان

في مملكة الأحزان، والثلج يغمره إلى نصف صدره،

فكم أدهش عيني أن ترى

ثلاثة وجوه ركبت في رأسه: وجه منها إلى أمام

ولونه قرمزي، والوجهان الآخران يتصلان

بذاك امتدادا من نصف الكتف إلى قمة الرأس؛

الأيمن منهما في صفرة الشحوب، وإن شهدت الأيسر

ألفيته كمن يفدون من منعرج النيل عند الأراضي الواطئة،

وفي كل وجه عند أسفله جناحان عاتيان، يصلحان لأضخم الطير؛

فلم أشهد قط في لجة البحر العريض كهذي الأجنحة قلاعا منشورة،

وهي عارية من الريش تشبه أجنحة الخفافيش.

وأخذ يضرب بأجنحته تلك في الهواء فانبعثت

منها رياح هنا ورياح هناك، تجمد منها البحر إلى قاعه،

ثم شرع يبكي بست عيونه

فانسكبت على ثلاثة خدوده عبرات

امتزجت قطراتها بزبد من دماء.

وفي كل فم أخذت أنيابه تعض على أثيم،

فتحطمه كما يتحطم الجسم بآلة ثقيلة.

وعلى هذا النحو رأينا ثلاثة يتعذبون،

ولم يكن ما يعانيه أماميهم من القرض شيئا

إلى جانب ما يلهث أحد الآخرين من تمزيق

مخيف ينزع عن الظهر جلده نزعا فظيعا.

وقال دليلى: أما ذاك الروح في أعلى،

الذي ينال من العقاب أقساه، فهو يهوذا

فانظر إلى رأسه كيف قذف إلى داخل

وإلى قدميه كيف طويتا إلى خارج.

أما الآخران اللذان يتدلى منهما الرأسان،

فمن تراه منهما عالقا في ذلك الفك الأسود؛

فهو «بروتس»، انظر إليه كيف يتلوى ولا يتكلم ... لكن الليل المسدول قد أخذ عندئذ يزول،

وحان لنا حين الرحيل، فقد شهدت كل شيء.

وبعد الراحلان عن مكان الشيطان، وأخذا يصعدان في شق عميق شديد المنحدر ... خلال هذا الطريق المستور

دخلت مع دليلي، قافلين،

إلى العالم الجميل، ولم نقعد لراحة،

بل مضينا في الصعود، هو يقود وأنا أقتفي أثره،

حتى أشرقت على نواظرنا أضواء السماء الخلابة،

من فتحة مستديرة عند مدخل الكهف،

ومنها خرجنا فشهدنا أنجم السماء من جديد.

هذان هما قد خلفا الظلام والآلام، وانتهى بهما المطاف فخرجا إلى سفح «جبل الطهر» تحت ضوء النجوم الخافت؛ فوجداه يتحلق بحلقات سبع، تقابل سبع الخطايا التي قالت بها كنيسة العصور الوسطى؛ في ثلاثتها السفلي تكفر الروح عن خطيئتها، وفي رابعتها يتم التكفير عن خطيئة الكسل والتراخي، وهي خطيئة اشترك في اقترافها الجسم والروح معا، وأما في ثلاث الحلقات العليا فيكفر عن ذنوب الجسد وحدها. وكان الشاعران يصادفان عند مدخل كل حلقة من هاتيك الحلقات السبع أمثلة للفضيلة التي هي ضد الرذيلة التي يكفر عنها في تلك الحلقة، ثم يشاهدان عند ختام كل حلقة ملكا واقفا يشخص تلك الفضيلة ويجسدها. وهكذا يمضي الراحلان خلال حلقات التطهير حتى يدخلان في «الفردوس الأرضي» حيث يرى «دانتي» حفلا عظيما يسير على صورة موكب رائع يمثل «الكنيسة» وهي ماضية في طريقها قدما إلى النصر. وفي نهاية ذلك الموكب الحافل تظهر «بياترتشي» - معشوقة دانتي - في مركبة تحف بها الملائكة ينشدون الأغاني وينثرون الأزهار، وكانت «بياترتشي» ترتدي ثوبا يزدان بالألوان السحرية الثلاثة: الأحمر والأبيض والأخضر، ويكلل هامتها تاج من أوراق الزيتون، وهي رمز الحكمة والسلام. وينسدل على وجهها نقاب ناصع البياض، فما إن بدت «بياترتشي» حتى أسرع «فرجيل» فتوارى ليقفل راجعا إلى محبسه الكئيب الذي كان قد خرج منه ليرافق زميله في رحلته.

وتأخذ «بياترتشي» في هداية الشاعر خلال سماوات تسع، وكلها يدور حول الأرض، فإذا ما جاوزت به ذلك كله بلغت معه آخر سماء وهي ثابتة في مكانها لا تتحرك، يعلوها بحر هادئ ساكن من الحب الإلهي حيث يبارك الله ملائكته وقديسيه.

الفصل الخامس

الأدب العربي في العصور الوسطى

(1) الشعر

ينطبق على الأدب العربي ما قلنا من أن الفن الأدبي أول ما ظهر كان شعرا ولكن - مع الأسف - لم يصلنا هذا الشعر الأول الذي كان محاولات أولية يصيب حينا ويخطئ أحيانا، في الوزن والموضوع؛ وذلك أنهم كانوا أو أغلبهم بدوا لا يقيدون شعرهم في كتاب أو نقش، فإذا تقدم الزمن ضاع ما نطق به شعراؤهم، وخاصة إذا كان جديدهم خيرا من قديمهم، وأنسب لذوقهم وأذنهم وأكثر ملاءمة لحياتهم.

وأقدم شعر وصل إلينا كان الشعر الذي قيل في حرب البسوس أو قبل ذلك قليلا، وكان ذلك قبل الهجرة بنحو قرن ونصف. وقد وصلت إلينا من ذلك قصائد كاملة، محال أن تكون أول محاولة، بل لا بد أن تكون قد سبقتها محاولات كثيرة دخلتها تحسينات كثيرة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه؛ فهذا الوزن الكامل، وامتلاك ناصية اللغة، والقدرة على إجادة التصوير، لا يمكن أن تنشأ ابتداء، ولا بد أن تكون خضعت لقانون النشوء والارتقاء، ولا بد أن يسبق ذلك وزن مخلع قبل أن يهتدوا إلى البحور الستة عشر، ولا بد أن يمر شعرهم بطور التعبير المهلهل والأبيات القصيرة تقال في المناسبات المفاجئة، وأخيرا يصل إلى ما وصل إليه في شعر امرئ القيس وأمثاله: من نظم منسجم، ونفس طويل، وتعبير محكم، ووحدة في القافية؛ ولا بد أن يكون الشعر قد بدأ في وزنه بالرجز مناغمة لسير الإبل ووقع أقدامها أو نحو ذلك، ثم تدرج بعد في أوزانه من البسيط إلى المركب، وهكذا.

ومما يلفت النظر أن أكثر من نبغوا في الشعر كانوا يسكنون شمالي الجزيرة العربية، أعني الحجاز وما إليه، فمنهم من كان من أصل يمني رحل إلى الشمال كامرئ القيس من كندة، وهي قبيلة يمنية الأصل، وحاتم الطائي من طيئ كذلك، أو من أصل عدناني إما من قبيلة ربيعة كالمهلهل وطرفة والأعشى، وإما من مضر كالنابغة وزهير ولبيد.

وعلى الجملة فالشعر الجاهلي الذي وصل إلينا مرحلة سبقتها مراحل، وقد قالوا إن المهلهل أول من قصد القصائد، وامرأ القيس أول من أطالها وتفنن في موضوعاتها. •••

وكانت العرب وخاصة في هذا القسم الذي كثر فيه الشعر وهو الحجاز تعيش عيشة بداوة، ينقسمون إلى قبائل، كل قبيلة تعتقد أنها من دم واحد، لها لهجتها وتعبيراتها، ولها رئيس هو سيدها، ولكنه لا يمتاز عن أفرادها كثيرا في الغنى ولا السلطة، ويطغى على أفرادها الشعور بالقبيلة أكثر من شعور الفرد بنفسه؛ فكان الفرد يتعصب لقبيلته ويرى أن خيرها خيره وشرها شره، يصادق من تصادق، ويعادي من تعادي، يعيشون على المرعى ويتنقلون من مكان إلى مكان، ويحملون بيوتهم - أعني خيامهم - على جمالهم، ومن حسنت حاله بعض الشيء قسم الخيمة قسمين بينهما ستار، مقدمها للرجال ومؤخرها للنساء، يخرجون بإبلهم وشائهم لرعي الكلأ وارتياد المرعى، وأكثر ما يكون ذلك في الربيع، فإذا اشتد القيظ وجف الزرع عادوا إلى أماكنهم. وتنشأ بين القبائل خصومات قد يكون سببها تافها كعبث أحد بجمل رجل من قبيلة أخرى يقتله أو ينهبه، أو أن يتعاظم رئيس القبيلة فيتخذ له حمى يحرم قربه فإذا قربه أحد قتله، وإذا قربت منه ماشية قتلت، أو نحو ذلك، فيثور الشر بين القبائل ويتوالد، وتنظم من أجل ذلك الحرب، ويكثر السلب والنهب. •••

كان لهؤلاء القوم عواطف كالتي لكل الناس، وهذه العواطف تتكون بالبيئة وتتشكل بشكل المعيشة، وكان لكل قبيلة شاعرها أو شعراؤها، هم من أكثرهم شعورا، وأحدهم عاطفة، وأقدرهم على تصوير عواطفهم القومية وعواطفهم الشخصية. وكانوا كذلك من أعلم قومهم بما تتطلبه هذه المعيشة من معرفة بالأنساب، ومثالب القبيلة وفضائلها ونحو ذلك.

وفي كل ما يجول بنفسهم وما يحدث لهم ولقبيلتهم، قالوا شعرهم، مشتقا من بيئتهم، وتنوع الشعر بتنوع العواطف.

يبكي لفراق حبيبته إذا بعد عنها فيقول:

هجرت أمامة هجرا طويلا

وحملك النأي عبئا ثقيلا

وحملت منها على نأيها

خيالا يوافي ونيلا قليلا

ونظرة ذي شجن وامق

إذا ما الركائب جاوزن ميلا

وما أكثر ما لعبت النساء بعواطفهم، لكثرة فراغهم واتصال حياتهم بحياة النساء يشاركنهم في الحل والترحال، فإذا رحل وحده فلا يعدم في الطريق خباء يضيفه، يرى فيه نساءه، ويحدثهن ويحدثنه فتهيج عواطفه بالحب والذكرى، ويكثر من الزواج ما أمكنته الأسباب. كل ذلك ونحوه ملأ حياته بالمرأة، يشعر فيها إذا حل معها، ويشعر فيها ألما لفراقها، ويستفتح بذكرها القصيدة، ولو لم تكن موضوعها، بل وتخطر في ذهنه في أحرج مواقف القتال، كقول عنترة:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

ويذكرها إذا هبت الريح من جانبها، ويذكرها إذا ناحت حمامة بجانبه، فكل شيء يذكره بها ويقول في ذلك شعره، فإن عدم النظر قنع بكل ما يذكره بها:

أرى كل أرض دمنتها - وإن مضت

لها حجج - يزداد طيبا ترابها

وأقسم أني لو أرى نسبا لها

ذئاب الفلا حبت إلي ذئابها

ثم أكثر الشعراء من وصفها ووصف ملامحها وجمالها جملة وتفصيلا، وحسن أحاديثها ولطف معانيها، وحللوا نفسيتها كما حللوا نفوسهم وآمالهم وآلامهم، وفي كل ذلك قالوا شعرا كثيرا. •••

هذه ناحية من عواطفهم، وناحية أخرى: ناحية البغض لخصومهم وخصوم قبيلتهم دفعتهم إلى الهجاء، وذكر معايب الخصوم:

لعمري وما عمري علي بهين

لقد ساءني طورين في الشعر حاتم

1

أيقظان في بغضائنا وهجائنا

وأنت عن المعروف والبر نائم؟ •••

كاثر بسعد إن سعدا كثيرة

ولا تبغ من سعد وفاء ولا نصرا

يروعك من سعد بن عمرو جسومها

وتزهد فيها حين تقتلها خبرا

وهو في نظير ذلك يفخر بنفسه وبقومه:

إنا نعف فلا نريب حليفنا

ونكف شح نفوسنا في المطمع

ونقي - بآمن ما لنا - أحسابنا

ونجر في الهيجا الرماح وندعي

ونخوض غرة كل يوم كريهة

تردي النفوس وغنمها للأشجع

ونقيم في دار الحفاظ بيوتنا

زمنا ويظعن غيرنا للأمرع •••

إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها

ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي

وإني لحلو إن أريدت حلاوتي

ومر إذا نفس العزوف استمرت

أبي لما آبى، سريع مباءتي

إلى كل نفس تنتحي في مسرتي

ويقف موقف الخطيب لقبيلته يحمسها للقتال ويدعوها للأخذ بالثأر:

قاتلي القوم يا خراع ولا

يدخلكم من قتالهم فشل

القوم أمثالكم لهم شعر

في الرأس لا ينشرون إن قتلوا •••

أقول للحيان وقد صفرت لهم

وطابي ويومي ضيق الحجر معور

هما خطتا إما إسار ومنة

وإما دم والقتل بالحر أجدر

وتنتابه الحوادث في أهله وولده فيرثي:

نبئت أن النار بعدك أوقدت

واستب بعدك يا كليب المجلس

وتكلموا في أمر كل عظيمة

لو كنت شاهدهم بها لم ينبسوا

وإذا تشاء رأيت وجهك واضحا

وذراع باكية عليها برنس

تبكي عليك ولست لائم حرة

تأسى عليك بعبرة وتنفس

ولما كانت صحراؤهم محدودة المناظر، قد كفوا مشاغل المدنية وتنوع مناظرها، وقد رزقوا القدرة على البيان وتدفق القول، فوجهوا فصاحتهم إلى أشيائهم المحدودة، فأكثروا من وصف حيوانهم، وخاصة الجمل، إذ هو صديقهم في رحيلهم، ومادتهم في مأكلهم ومشربهم وملبسهم، فأكثروا القول فيه من كل نواحيه.

وكأن قنطرة بموضع كورها

ملساء بين غوامض الأنساع

2

وإذا تعاورت الحصى أخفافها

دوى نواديه بظهر القاع

3

وكأن غاربها رباوة مخرم

وتمد ثني جديلها بشراع

4

وإذا أطفت بها أطفت بكلكل

نبض الفرائص مجفر الأضلاع

5

مرحت يداها للنجاء كأنما

تكرو بكفي لاعب في صاع

6

فعل السريعة بادرت جدادها

قبل السماء تهم بالإسراع

7

وكما وصفوا الجمل وصفوا الخيل وحمر الوحش والظباء وغيرها من حيوانهم، ووصفوا الصحراء الجدباء والخضراء.

وعلى الجملة كان شعرهم صورة صادقة لحياتهم ومناظرهم وعواطفهم.

وقد جاء تكوين القصيدة والإطالة في الشعر مرحلة تالية لمرحلة المقطوعات القصيرة، ونحن إذا استعرضنا قصائد الجاهلية - كالمعلقات ونحوها - رأيناها تبتدئ عادة بالتشبيب بالمرأة، وقد يصف رحيلها عن مكانها فيقف على أطلالها، ويبكي منها، ويصف جمالها، ولوعته من حبها؛ ثم ينتقل إلى وصف فرسه أو ناقته التي يرحل عليها، وسرعتها، ونعومة سيرها، وقد يشبهها بما يعرف من حيوانات وحشية: من وعل وظبي ونحوهما، ويخترع في ذلك تشبيهات تدل على سعة علمه بطبائعها، وعاداتها في معيشتها، وقد يصف ما مر عليه في طريقه من جبال ووهاد وسهل وحزن، ثم ينتقل إلى غرضه من القصيدة فجاءه من غير تكلف في الربط غالبا؛ من فخر بقبيلته أو هجاء للقبيلة المعادية، أو وصف وقعة أو دعوة للصلح، أو تحذير لقبيلة أو إنسان من أن تحدثه نفسه بالتعدي على قومه. ثم ينتهي في قصيدته من غير تكلف أيضا في الوقوف.

والعربي قوي الملاحظة، حاد الذكاء، قوي العاطفة، ووحدته في الصحراء الفسيحة ذات النغمة الواحدة تقريبا جعلته يشعر بوحدته وعزلته فيلتفت إلى التفكير في نفسه ووحشته عن عزلته، وحنينه إلى زوجته وحبيبته، وملاحظة ما يطرأ على الطبيعة - التي تجري على نمط واحد تقريبا - من التغير، فيلفت نظره الرعد إذا رعد، والبرق إذا لمع، والغزال إذا ظهر، ويسجل ذلك كله في شعره.

حياة الشاعر بدوية، وجوه الذي يسبح فيه بدوي أيضا، وشعره بدوي في موضوعه وصيغته، وبساطة وصفه، وبساطة فنه.

ومما يستوقف النظر كثرة ما صدر عن الشعراء في هذه الحقبة القصيرة، فكل ما روي لنا من الشعر الجاهلي الكثير هو نتاج أقل من قرن ونصف - من قتل كليب إلى مبعث النبي - كما يستوقف النظر وحدة اللغة واللهجة والأسلوب والوزن في الشعر الذي صدر من قبائل مختلفة في اللهجة، فهل هذا يرجع إلى ما قرب بينهم الحج إلى مكة، واجتماعهم بسوق عكاظ، أو اتخاذ الشعراء عامة لهجة خاصة وأسلوبا خاصا في الشعر غير أسلوبهم في حديثهم اليومي المألوف؟ قد يكون ذلك وقد يكون غير ذلك.

على أن الشعر - في هذا العهد - لم يكن كله نتاج بدويين، بل منهم من كان يخالط المدنية الفارسية في الحيرة والعراق، ومن يخالط المدنية الرومانية في الشام، فيرتحل الشعراء إلى المناذرة الواقعين تحت نفوذ الفرس، والغساسنة تحت نفوذ الروم. وقد تأثر شعر الشعراء بعض التأثر بهاتين الحضارتين.

كما كان من شعراء العرب - غير الجمهرة العظمى من الوثنيين - شعراء من اليهود وشعراء من النصارى تلون شعرهم بعض التلون بالديانتين.

وأعظم ما خلفه لنا ذلك العصر المعلقات السبع، وفيها مصداق ما ذكرنا في الشعر الجاهلي.

فامرؤ القيس، صاحب المعلقة الأولى، كان شابا لاهيا، وكان أبوه حجر ملك بني أسد، فنشأ امرؤ القيس يحب اللهو ويشبب بالنساء، وفي عهد شبابه قال معلقته، وموضوعها الغزل في بنت عمه عنيزة، يبكي أطلالها، ويذكر أيام لهوه مع أحبته، وهو في غزله فاجر داعر، لا يتعفف عن وصف، ولا يكتفي بإيماء، ويجيد في أثناء ذلك وصف الليل، ووصف الوادي المقفر تعوي فيه الذئاب، ووصف فرسه وسرعة عدوه، ووصف صيده لبقر الوحش، ووصف البرق، ووصف المطر، ويختمها بأن الطيور لما رأت الخصب بعد المطر فرحت وغنت كأنها سكارى. ويعد امرؤ القيس إمام الشعراء، فتح لهم الطريق، وساروا على أثره في غزله، وإطالة وصفه، وجودة تشبيهاته.

والمعلقة الثانية معلقة طرفة، وكان هو وقبيلته بكر بن وائل يعيشون في البحرين (على الخليج الفارسي) حيث الماء والأمواج والسفن والملاحة، فكانت تشبيهاته مشتقة من بيئته، فهو يشبه الجمل بالسفينة، ويشبه سير الإبل بسير السفن «يجور بها الملاح طورا ويهتدي.»

وموضوع معلقته، شرح نفسيته - وقد أنفق ماله في اللهو وعاد إلى قومه صفر اليدين - وحالته ونظرته إلى الحياة.

يصف فراقه لخولة، ويصف ناقتها وناقته، ويفخر بنفسه وصفاته ونظرته إلى الحياة، فهو فتى الفتيان، لا يبخل بالعطاء، ويلجأ إليه في المشورة، وذو نسب رفيع؛ ينهمك في اللهو والشراب، ويتلف ماله حتى تتحاماه عشيرته، وتفرده إفراد البعير الأجرب، ثم يرد على من عنفه في سلوكه بأن الحياة فانية والخلود محال.

ثم ينتقل إلى عتاب ابن عمه لأنه لم يعنه على استرداد إبل أخيه، وقد سلبت منه، ويشكو من ظلم قومه، وينتابه الحزن إذا ذكر ذلك، ويعود فيرفع رأسه ويفخر بنفسه، ويختمها بأبيات من الحكمة.

وميزة هذه المعلقة أنها تصف طبقة من شباب العرب تضيع أموالها في اللهو والشراب، ولا تعبأ بالحياة، تطلب المجد من طريق الكرم وبذل المال في الحروب، ولكن بعد ما يكون، فما الحياة؟ إن الموت ليسوي بين الغني والفقير، والكريم والبخيل.

ثم نأتي إلى معلقة عمرو بن كلثوم وهو من قبيلة تغلب، ومن بيت الشرف فيها، أبوه كلثوم سيد قبيلته، وأمه ليلى أعز امرأة في قومه، لأن أباها مهلهلا سيد ربيعة، وعمها كليب وائل أعز العرب، وكان بين قبيلتي تغلب وبكر خصومة حادة، تتنازعان الفخر والشرف وتتحاكمان في ذلك، وقد قتل عمرو بن كلثوم ملك الحيرة عمرو بن هند لأن أم الثاني أرادت أن تستذل أم الأول، وفي هذا الجو كله قال عمرو بن كلثوم معلقته يصف الخمر ويتغزل، ويفخر بنفسه وقومه، ويحكي قتله عمرو بن هند ويذكر أسباب ذلك.

والمعلقة مملوءة فخرا صادقا قويا صدر عن نفس تعتز بقوتها وقوة قبيلتها، وتتغنى بفعالها وفعال قومها، وظلت هذه المعلقة أغنية بني تغلب ومفخرتها في الجاهلية والإسلام.

وإذا كان عمرو بن كلثوم شاعر تغلب فالحارث بن حلزة شاعر بكر عدوتها يشيد بذكرها، ويعدد فعالها، وينقض في معلقته قول عمرو بن كلثوم في معلقته. ويظهر أن الحارث قال معلقته وهو متقدم في السن، فلئن كان عمرو بن كلثوم نزقا خفيفا، فالحارث وقور رزين، يرد في أناة وهدوء ولكنه هدوء لاذع، يفند قوله، ويعدد مواقف قومه، ويحمل تغلب تبعة الحروب.

ونأتي بعد إلى معلقة عنترة العبسي، وكان يسكن هو وقومه نجدا، وكانت أمه أمة حبشية سوداء، فخرج هو أيضا أسود كالغراب، فكان ذلك يحز في نفسه، ويدعوه إلى أن يأتي بالأعمال العظيمة التي تعوض نقصه، فأبلى بلاء حسنا في حرب داحس والغبراء، وأتى من البطولة في الدفاع عن قومه ما جعله سيدا حرا.

يتمدح في معلقته بالشجاعة وصفات البدو من كرم ومروءة، ويتغنى بمواقفه في الحروب - ويتغزل فيها بابنة عمه «عبلة» ويسترضيها بوقائعه ومشاهده إذ عجز أن يسترضيها بلونه - ويصف موقعة من وقائعه في القتال والأعداء تقبل، والناس يلهجون بذكره ويهتفون باسمه، فينازلهم وينال منهم كل منال، ويتغنى كثيرا بمكارم الأخلاق، وكانت شجاعته وأعماله مثارا للإعجاب حتى استغلها القصاص فوضعوا حولها الروايات والقصص.

ثم معلقة زهير الرجل الوقور الحكيم، يروي في شعره فينظم القصيدة في شهر، وينقحها ويهذبها في سنة، فيأتي شعره متزنا يغلب فيه العقل، ويجمع الكثير من المعنى في القليل من اللفظ، ويميل إلى قول الحكمة الدالة على كبر عقله، وكثرة تجاريبه، وعلمه بأحوال الزمان - إن كان من ذكرنا قبل أمثال عمرو بن كلثوم والحارث بن حلزة وعنترة يؤججون نيران الحرب فهو يدعو إلى السلم، ويبين أهوال الحرب ومزايا الصلح - لم يسلم في معلقته من الغزل الذي التزمه الشعراء فيتغزل في زوجه «أم أوفى»، ويصف الظعائن والهوادج، ثم يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف لسعيهما في الصلح بين عبس وذبيان، وتحملهما الديات؛ ويدعوه ذلك إلى وصف الحرب وويلاتها وشرورها، والسلم ومزاياه، ويذم الحصين بن ضمضم لإشعاله نار الحرب، ويختم ذلك بأبيات من الحكمة في الغاية من الجودة.

وتأتي معلقة لبيد وهو شاعر بدوي، كان شريفا جوادا شجاعا، فلما جاء الإسلام أسلم وترك الشعر.

ومعلقته يظهر أنه قالها في شبابه، يبدؤها - كالعادة - ببكاء الأطلال وفعل السيول بها، حتى لم يبق منها أثر إلا كأثر الكتابة في الحجارة لا يتبينها إلا من قرب منها، ثم يصف ناقته وصفا طويلا، تارة يشبهها بالسحابة، وتارة بأتان وحشية وتارة بقرة وحشية، وفي كل تشبيه من هذه التشبيهات يستقصي وصف المشبه به حتى يصل إلى غايته، ثم يصف نفسه بالإباء وبالكرم، وأنه يلعب الميسر على الجزور ويطعمها الناس، ويصف قومه بأنهم أهل كرم ونجدة وعقل وأمانة. •••

وغير أصحاب المعلقات النابغة الذبياني والأعشى، وكلاهما اتصل بالملوك على التخوم واستفاد من ذاك غنى وثروة وخبرة بالحياة المدنية، فالنابغة اتصل بالنعمان ملك الحيرة وبالحارث الغساني في دمشق ونال منهما ثروة طائلة، حتى قالوا إنه كان يأكل في صحاف من الذهب والفضة، وصقل ذلك من شعره وأجاد في وصف الطبيعة. والأعشى اتصل بنصارى نجران وبأهل الحيرة وبشريح بن السموءل اليهودي صاحب تيماء، فوسع ذلك في معارفه وأثر في شعره، وأكثر من وصف الخمر حتى عد إماما للشعراء الخمريين من بعده. •••

وهنالك ضرب آخر من الشعراء يطلق عليهم الصعاليك لفقرهم وعيشتهم على السلب والنهب؛ كالشنفرى وتأبط شرا، قد ملئ شعرهم بوصف البيداء والسلب والانتقام، ووصف المغامرات، وسرعة العدو، ومعرفة الصحراء ومسالكها، ونحو ذلك مما تقتضيه حياة التصعلك. •••

وفي الحق أن الشعر العربي الجاهلي نمط وحده، مستقل في موضوعه وأوزانه وأساليبه عن غيره من الشعر اليوناني والروماني ونحوهما مما هو أساس للأدب الغربي، ذلك لأن الشعر العربي نبع من بيئة تخالف تمام المخالفة بيئة اليونان والرومان، وطبيعة معيشة العرب تخالف معيشتهما، ووحي إقليمهم ونظامهم الاجتماعي يخالف وحي إقليمهما ونظامهما، فإن بحث فيما يشبه الشعر العربي فليبحث عنه في الآداب التي نبعت من جزيرة العرب وما حولها، كالأدب الفينيقي والأشوري والبابلي والعبري، لا في الأدب اليوناني والروماني.

وإذا قال كثير من المستشرقين إنهم لم يتذوقوا أكثر ما ترجم من الشعر الجاهلي العربي إلى اللغات الأوروبية، وأنهم يرونه واقعيا لا مثليا، وماديا لا روحانية فيه؛ فعلة ذلك أنهم لا يستطيعون تذوقه إلا إذا عاشوا بمطالعتهم وكثرة قراءتهم في الجو العربي، وفهموا عاداتهم وتقاليدهم وعيشتهم الاجتماعية، ثم عرفوا كيف اشتق العرب من حياتهم هذه أدبا وشعرا، وحتى هذا نفسه شرط أساسي لفهم أبناء العرب أنفسهم - من المعاصرين المتحضرين - للشعر الجاهلي.

فتشبيه الليل بأنه كالجبل يتمطى بصلبه، والبرق كمصابيح راهب أمال السليط، ونحو ذلك، قد لا يستسيغه المتحضر، ولكنه بديع عند من عاش في بيئته، وكذلك الشأن في الوزن الموسيقي للشعر، والخطوات التي يتبعها الشاعر في نظم قصيدته، وهكذا.

وسبب آخر وهو ما أشرنا إليه قبل من أن الشعر إذا ترجم فقد كثيرا من جماله، مهما صدقت ترجمته.

وقد ألف الأوربيون تقسيم الشعر إلى شعر الملاحم، أو الشعر القصعي - كما أسلفنا - ويعنون به الشعر الذي قيل في الوقائع الحربية والمناقب القومية ونحو ذلك في شكل قصصي، كإلياذة هوميروس، وشاهنامة الفردوسي، وشعر تمثيلي وهو الشعر يصور حادثة، ويتصور لها أشخاصا ينطق كل منهم بما يتفق وشخصيته وموقعه، وشعر غنائي، وهو الشعر الذي يعبر به الشاعر عن شعوره.

وأتبعوا ذلك بنوع رابع، وهو الشعر التعليمي، ويعنون به نوعا من الشعر يعلم به الشاعر طائفة من الحكم ونحوها.

والشعر العربي لا ينطبق عليه هذا التقسيم، لأنه لم يتجه نحو التمثيل ولا الملاحم، وأكثر شعرهم من النوع الذي يسميه الفرنج شعرا غنائيا، ولذلك قسموه إلى فخر وحماسة ورثاء وهجاء وغزل ... إلخ، وكلها داخلة في الغنائي.

ولم يرد من الشعر الجاهلي ملاحم إلا قصص قصيرة بدائية كالقصة التي وردت في شعر عمرو بن كلثوم:

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبرك اليقينا ... إلخ.

وقصة الحارث بن حلزة:

أيها الشانئ المبلغ عنا

عند عمرو وهل لذاك لقاء؟ ... إلخ.

وقصة الأعشى في حادثة السموءل:

كن كالسموءل إذ طاف الهمام به

في جحفل كهزيع الليل جرار ... إلخ.

ولهم بعض شعر تعليمي كأبيات زهير ومن، ومن.

لذلك كله لا يصح أن نخضع الشعر العربي لهذا التقسيم، وهذا الذوق، فقد كان للعرب منحاها وذوقها. •••

جاء الإسلام فدعا إلى تعاليم تغاير العقلية الجاهلية، وترسم مثلا للحياة غير المثل الجاهلي.

الجاهلي يفخر بالنسب، ويكاثر بالأموال والأبناء، وينصر أخاه ظالما أو مظلوما، ويدل بإتلافه المال لحسن الأحدوثة، ويقوم أعماله للدنيا وحدها، ويفنى في قبيلته، فخيرها خيره، وشرها شره. والغني يزهى بمعاقرته الخمر، ولعبه الميسر، وهبته للمكسب، وبفعاله وفعال قومه، ويعتز بأنه يحمي ماله وجاره، ومن التجأ إليه، وإذا فعل فلا حق لأحد أن يسأله عما جنى، والفقير يسلب من غير قبيلته، وينهب إن استطاع ... إلخ.

فلما جاء الإسلام دعا إلى غير ذلك: لا فخر بالأنساب ولا بالمال والبنين، إنما الفخر بالعمل الصالح، والظالم يقتص منه كائنا من كان، والجاني يقاد منه أيا كان، والإنسان مسئول عن ماله ينفقه في وجوه البر لا في العظمة الشخصية، ولا خمر ولا ميسر، يدخل حساب الآخرة، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره - الغني والفقير سواء عند الله، كل يحاسب بالعدل على ما أتى - وفوق ذلك كله لا لات ولا عزى، ولا قرابين ولا صنم ولا أوثان، ولكن لا إله إلا الله.

عقلية جديدة حاربت العقلية القديمة، وانضم تحت لواء الإسلام قوم، وأبى آخرون، وتحاربوا بالبلاغة أولا، ثم بالبلاغة والسيف ثانيا.

وظهر مظهر جديد، وهو أن الحروب الجاهلية كانت بين قبيلة وقبيلة، أو مجموعة من القبائل ومجموعة مثلها. أما الآن فأساس القتال دين ودين، أو إسلام وكفر، مسلمون من قبائل متعددة أمام مشركين من القبائل نفسها أو نحو ذلك؛ لهذا تلون الشعر تلونا جديدا، فلم يكن أهم ما يدور حوله اعتزاز بقبيلة، وإنما اعتزاز بدين، وإن لم ينس القديم تماما؛ فكان من شعراء المسلمين حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، ومن شعراء المشركين عبد الله بن الزبعري، والنضر بن الحارث، وظهرت في الشعر المعاني الجديدة الدينية. فحمزة يقول يوم بدر:

وفينا جنود الله حين يمدنا

بهم في مقام تم مستوضح الذكر

فشد بهم جبريل تحت لوائنا

لدى مأزق فيه منايا بهم تجري

وحسان يقول يوم أحد:

فلا تذكروا قتلى وحمزة فيهم

قتيل ثوى لله وهو مطيع

فإن جنان الخلد منزلة له

وأمر الذي يقضي الأمور سريع

وقتلاكم في النار أفضل رزقهم

حميم معا في جوفها وضريع

وعلى هذا حلت العصبية الدينية محل العصبية القبلية، أو بعبارة أدق جاءت العصبية الدينية بجانب العصبية القبلية، لأن العرب لم يستطيعوا أن يتخلوا عن عصبيتهم الموروثة.

فلما انتصر الإسلام ودخل العرب فيه أفواجا وقف الشعر هنيهة، ولم يكن له من الحظ ما كان له في الجاهلية، لأن القرآن يقول:

والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولأن دواعي الشعر القديمة لم تعد لها قيمتها، ولم تخلق بعد الدواعي الجديدة التي تتفق والإسلام؛ ولهذا كان الشعراء المخضرمون الذين عاشوا في الجاهلية والإسلام شعرهم في الجاهلية أقوى منه في الإسلام كحسان بن ثابت، وأمية بن أبي الصلت؛ حتى إذا جاءت الفتوح في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، نشأ نوع من الشعر طريف يصح أن نسميه شعر الفتوح والغزوات، فيه تعتز العرب بقوميتها ودينها وفعالها، مثل قول قيس بن المكشوح:

جلبت الخيل من صنعاء تردى

بكل مدجج كالليث سام

إلى وادي القرى فديار كلب

إلى اليرموك فالبلد الشآمي

وجئن القادسية بعد شهر

مسومة دوابرها دوام

فناهضنا هنالك جمع كسرى

وأبناء المرازبة الكرام

فلما أن رأيت الخيل جالت

قصدت لموقف الملك الهمام

فأضرب رأسه فهوى صريعا

بسيف لا أفل ولا كهام

وقد أبلى الإله هناك خيرا

وفعل الخير عند الله نام

وقول عروة بن زيد الخيل:

برزت لأهل القادسية معلما

وما كل من يغشى الكريهة يعلم

وأقعصت منهم فارسا بعد فارس

وما كل من يلقى الفوارس يسلم

ونجاني الله الأجل وجرأتي

وسيف لأطراف المرازب مخذم

وأيقنت يوم الديلميين أنني

متى ينصرف وجهي إلى القوم يهزموا

فما رمت حتى مزقوا برماحهم

قبائي وحتى بل أخمصي الدم

محافظة إلى امرؤ ذو حفيظة

إذا لم أجد مستأخرا أتقدم ... إلخ.

ودوى المسلمون بالقرآن دوي النحل، وتذوقوه في موضوعه وأسلوبه، وتشربوا روحه، واتخذوه إماما في الأدب، وتلاوة في الصلاة، وقانونا يحكم فيما يعرض لهم من أحداث، ومادة لغة، وشاهدا على صحة التعبير وجودة الأسلوب، فكان أثره في الثقافة الإسلامية بجميع نواحيها، وتعدد فروعها لا يقدر. ومن الناحية الأدبية كان تأثيره في اللغة والأسلوب في جميع الأقطار الإسلامية قويا واضحا إلى اليوم، وكان أثره في النثر أكثر منه في الشعر، فالنثر اتخذ إمامه القرآن، والشعر اتخذ إمامه الشعر الجاهلي، وإن لم يخل الشعر الإسلامي من أثر بالقرآن، أحيانا بلفظه وأحيانا بموضوعه، فاستعملوا أحيانا ألفاظا قرآنية، كالمؤمن والكافر، والصلاة والصوم والزكاة، وأحيانا موضوعات قرآنية، كقول القطامي يصف سفينة نوح ويذكر قصته مع قومه ويذكر الطوفان:

ونادى صاحب التنور نوح

وصب عليهم منه البوار

وضجوا عند جيئته وفروا

ولا ينجي من القدر الحذار

وجاش الماء منهمرا إليهم

كأن غثاءه خرق تسار

وعامت وهي قاصدة بأذن

ولولا الله جار بها الجوار

إلى الجودي حتى صار حجرا

وحان لتالك الغمر انحسار

فهذا فيه موعظة وحكم

ولكني امرؤ في افتخار

وقد اتجه المسلمون إلى الفتوح ففتحوا فارس والعراق والشام ومصر والمغرب، وتدفق العرب من الجزيرة إلى هذه البلاد التي غرقت بالمدنية والحضارة، فاستفادوا كثيرا من هذه المدنيات، ووسعوا أفقهم في الحياة، وظل أكثرهم أول الأمر محافظا على جنديته وبدويته، وأقام بعضهم في المدن، ثم أخذوا جميعا يتشربون الحضارة شيئا فشيئا. ونشأ تغير عظيم في الحياة الاجتماعية، فالمال تدفق في مدن الحجاز - وخاصة مكة - بما نال الفاتحين من نصيبهم في الفتوح، وكثرت فيها الموالي من رجال وإماء من الفرس والروم وغيرهما، فأصبح الحجاز مصدرا لحياتين متناقضتين تمام التناقض، حياة الدين والعلم الديني من قرآن وتفسير وحديث وتشريع، ولا سيما المدينة، يرسل الناس أبناءهم إليها لدراسة هذه العلوم؛ وحياة ترف ونعيم بعثت على تقدم الغناء بفعل الإماء الفارسيات والروميات ولا سيما مكة. وزاد ذلك وضوحا عندما استولى الأمويون على الخلافة وحصروها في أيديهم، ونحوا غيرهم من القرشيين والأنصار من مشاركتهم في الحكم، فكانت الحجاز - وأعني مكة والمدينة - تصدر الإماء المغنيات والشبان المغنين حتى للمدن المتحضرة كدمشق والبصرة والكوفة. وتبع رقي فن الغناء رقي الشعر، وخاصة من الغزل بما أنشئ من الشعر للغناء، وما اختير من القديم له، ولذلك لم يرتق من الشعر في العصر الإسلامي رقيا واضحا إلى الغزل. وكثير من العرب سكنوا الأمصار المفتوحة، ولم يعودوا إلى الجزيرة فضعف شأنها إلا المدينتين الكبيرتين مكة والمدينة، ولهذا كان فحول الشعراء الذين اتبعوا عمود الشعر الجاهلي عراقيين مسكنا، كجرير، والفرزدق، والأخطل، وهم رافعو لواء الشعر القديم، والجارون على سننه في تكوين القصائد واختيار موضوعاته.

وزاد رجوع الشعر إلى العهد القديم قوة أن استولى الأمويون على الخلافة وجعلوا عاصمتهم دمشق، حيث كان أسلافهم من الغساسنة، وأعادوا استقبال الشعراء في بلاطهم، وأفسحوا لهم صدورهم، وأجزلوا لهم العطاء، وحرضوا على القول في موضوعات الفخر والهجاء كالذي كان بين القبائل أيام الجاهلية، وبذلك حيي الشعر الجاهلي ونما. وكان لحياته سبب آخر ديني، وهو أن مفسري القرآن كابن عباس استخدم الشعر الجاهلي في ألفاظه وتراكيبه للاستعانة به على تفسير ألفاظ القرآن وأساليبه، وجرى الناس في ذلك على أثره.

وغاية الأمر أن الفخر والهجاء في العصر الأموي لم يقتصرا على الخصومة بين قبيلة وقبيلة، بل كان - كذلك - بين أمويين وهاشميين وأمويين وأنصار، وقبائل موالية للأمويين، وقبائل معادية، فلما ظهرت الأحزاب من أمويين وزبيريين (أتباع عبد الله بن الزبير) وعلويين (أتباع علي بن أبي طالب وذريته) وخوارج، كان لكل مذهب شعراؤه يشيدون بذكره، ويفخرون بفعاله، ويهجون خصومه.

كان أهم جديد في هذا العصر - كما أشرنا قبل - رقي شعر الغزل، وفتح شعرائه أبوابا لم يفتحها الشعر الجاهلي لكثرة السبايا الجميلات، ولما فعلته الحضارة والنعيم في صقل الذوق، ولتوسيع الأمويين صدرهم للغزل والتشبيب، ولإقدام بعض سادة قريش على الخوض في هذا الباب محتميا بعصبيته ومنزلته، ولتحرر بعض القبائل العربية من قيود الحجاب والتقاليد، وللفراغ مع الغنى.

فظهر جميل بن معمر المعاصر لعبد الملك بن مروان، وأكثر من القول في حبيبته بثينة، وكان في غزله «إمام المحبين»؛ كقوله:

ألا ليت ريعان الشباب جديد

ودهرا تولى يا بثين يعود

فنغنى كما كنا نكون وأنتم

قريب وإذ ما تبذلين زهيد

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

بوادي القرى إني إذا لسعيد

وهل ألفين فردا بثينة مرة

تجود لنا من ودنا ونجود

علقت الهوى منها وليدا فلم يزل

إلى اليوم ينمى حبها ويزيد

وأفنيت عمري بانتظاري وعدها

وأبليت فيها الدهر وهو جديد

فلا أنا مردود بما جئت طالبا

ولا حبها فيما يبيد يبيد

فما أنس مل أشياء لا أنس قولها

وقد قربت نضوي أمصر تريد

ولا قولها لولا العيون التي ترى

لزرتك فاعذرني فدتك جدود

خليلي ما ألقى من الوجد قاتلي

ودمعي بما قلت الغداة شهيد

يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وأي جهاد غيرهن أريد

لكل حديث بينهن بشاشة

وكل قتيل عندهن شهيد

إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي

من الحب قالت: ثابت ويزيد

وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به

مع الناس قالت: ذاك منك بعيد

ألا قد أرى والله أن رب عبرة

إذا الدار شطت بيننا سترود

إذا فكرت قالت قد ادركت وده

وما ضرني بخلي، فكيف أجود

فلو تكشف الأحشاء صودف تحتها

لبثنة حب طارف وتليد

تذكرنيها كل ريح مريضة

لها بالتلاع القاويات وئيد

وقد تلتقي الأشتات بعد تفرق

وقد تدرك الحاجات وهي بعيد

وظهر مجنون ليلى، وقد اتخذ الناس من سيرته وشعره وحبه منبعا للقصص والروايات الغرامية كما فعلوا في عنترة وشجاعته؛ كقوله:

جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى

وفاضت له من مقلتي غروب

وما ذاك إلا حين أيقنت أنه

يكون بواد أنت منه قريب

فيا ساكني أكناف نخلة كلكم

إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

أظل غريب الدار في أرض عامر

إلى كل مهجور هناك غريب

وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمى

إلي وإن لم آته لحبيب

ولا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر

حبيبا ولم يطرق إليك حبيب

وكثير عزة، كقوله:

يزهدني في حب عزة معشر

قلوبهم فيها مخالفة قلبي

فقلت: دعوا قلبي وما اختار وارتضى

فبالقلب لا بالعين يبصر ذو اللب

وما تبصر العينان في موضع الهوى

ولا تسمع الآذان إلا من القلب

وكل هؤلاء اقتصروا على محبوبة واحدة قالوا فيها شعرهم، وإن سموها أحيانا أسماء متعددة. أما عمر بن أبي ربيعة فقد تشبب بالنساء، ولم يقتصر على واحدة وتبع الحسن أنى كان، وكان قرشيا من بيت شرف، جميلا لاهيا، فاستطاع أن يتعرض لأشهر نساء العرب وأجملهن، حتى لفاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وإن لم يذكر اسمها. وكان كثير من النساء يعجبهن تشبيبه بهن، ويرين في شعره تسجيلا لجمالهن وإعلانا بين الناس لحسنهن. وقصر شعره الكثير على النساء والتشبيب، وابتدع في شعره القصص القصيرة، ورواية أحاديث النساء، وما يجول بخاطرهن، وأكثر من وصفه لكل ما يتصل بهن من ملبس ومداعبة وتلاوم وملاقاة، وزيارته لهن في المنازل، ومقابلتهن في مناسك الحج، كقوله:

طال ليلي وتعناني الطرب

واعتراني طول هم ونصب

أرسلت أسماء في معتبة

عتبتها وهي أحلى من عتب

أن أتى منها رسول موهنا

وجد الحي نياما فانقلب

ضرب الباب فلم يشعر به

أحد يفتح بابا إذ ضرب

قال أيقاظ ولكن حاجة

عرضت تكتم منا فاحتجب

ولعمدا ردني، فاجتهدت

بيمين حلفت عند الغضب

يشهد الرحمن لا يجمعنا

سقف بيت رجبا بعد رجب

قلت حلا فاقبلي معذرتي

ما كذا يجزي محب من أحب

إن كفي لك رهن بالرضا

فأقبلي يا هند! قالت: قد وجب

وظهر في هذا العصر الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبد الملك، وكان ماجنا يفرط في الشراب ويهيم بالنساء، وقد أكثر كذلك من شعر الغزل الرقيق ومن شعر الخمر حتى يعد في ذلك إماما لأبي نواس، كقوله:

عللاني واسقياني

من شراب أصبهاني

من شراب الشيخ كسرى

أو شراب الهرمزاني

إن في الكأس لمسكا

أو بكفي من سقاني

إنما الكأس ربيع

يتعاطى بالبنان

وحميا الكأس دبت

بين رجلي ولساني

حتى إذا جاء العصر العباسي رأينا أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الفرس والعرب المناهضين للدولة الأموية ممن يناصرون الهاشميين (علويين وعباسيين). فأصبح نفوذ الفرس عظيما، وصبغوا الدولة بصبغتهم بعد أن كان الأمويون يصبغونها بالصبغة العربية الخالصة؛ فأصبحنا نرى من الفرس قواد جيوش ووزراء وحجابا وولاة وكتابا. وكان من مظهر هذا النفوذ نقل عاصمة الخلافة إلى العراق وإنشاء مدينة بغداد بجوار مدائن كسرى، وظهرت حركة الشعوبية تدعو إلى المساواة وهدم سيادة العرب. وتبع ذلك المناداة بمذهب التخير؛ أي تخير خير ما في الحضارات القديمة وتوسيع الصدر لها والعمل بها.

فنسقوا الدواوين وأساليب الحرب ونظم الحكم والحياة الاجتماعية العائلية من ملبس ومسكن ومأكل ومشرب وأعياد على نظام الفرس، واقتبسوا كثيرا من عاداتهم، وأخذ الخلفاء العباسيون يشجعون الحركة العلمية في شتى نواحيها، ويمدونها بمالهم وجاههم، على عكس الدولة الأموية؛ إذ كانت لا تشجع إلا الحركة الأدبية وما إليها من موسيقى وغناء، وذلك لشدة تأثر العباسيين بالحضارات القديمة، ولأن التقدم في المدنية يخطو بالتدريج خطوات: خطا الأولى منها الأمويون، وخطا الخطوات الأخرى العباسيون؛ ولأنهم حكموا شعوبا مختلفة متعددة لكل منها مميزات، فرأوا من حسن السياسة اختيار خير ما عند كل منهم، فأخذوا من الفرس ما أشرنا إليه قبل، وكان اليونان قد بذروا بذور علومهم وآدابهم في الشرق من عهد فتح الإسكندر، فنشروا فيه فلسفتهم وطبهم وفلكهم، ووجد علماء في الشرق يعكفون عليها ويترجمونها إلى اللغة السريانية وانتشروا في الأديار العراقية والشامية، وفلسفوا بها النصرانية في شمالي العراق، وأسس النساطرة مركزا هاما لهذه الثقافة اليونانية في جند يسابور. وهناك في «حران» كانت جماعة وثنية نبغوا في الدراسات اليونانية علمية وأدبية، وكانوا يسمون «الصائبة»، وفي الإسكندرية كانت بقايا مدرسة الإسكندرية، وهي وإن ضعفت تعاليمها ودراستها، فقد كان لها أثر باق في هذا العهد - فهذه كلها ذابت في الدولة العباسية وروت أرضها وملأت جوها بعد أن تحولت إلى اللغة العربية - وكذلك أخذوا من الهنود فلسفتهم ورياضتهم.

هذا كله إلى نمو الثقافة العربية من علوم دينية ولغوية وأدبية. وجاء الزمن الذي نضج فيه الموالي، فاستعربوا وأتقنوا اللغة ودراسة الدين، فكانوا عنصرا هاما في بناء صرح المدنية العلمية، وامتزجت هذه الثقافات امتزاجا غريبا، وأثر كل فرع منها في الفروع الأخرى، وأثر كل ركن من أركان الدولة في الأركان الأخرى في سرعة عجيبة.

كل هذا جعل الحركة العلمية والأدبية في العصر العباسي تبلغ أوجها، ولكن العنصر العربي نفسه ضعف أمام هذه القوات الكبيرة، وقبض الفرس على السلطة أولا والترك ثانيا، فانحلوا وضعفت فيهم - بعد زمن - العصبية العربية، وتكسبوا بالزراعة والحرف، بعد أن كانوا جند الدولة وقادتها وولاتها وأمراءها.

ومما يؤسف له أن هذه الحركة العلمية والأدبية لم تستغل الأدب اليوناني - كما استغلت العلم اليوناني والفلسفة اليونانية - استغلالا كبيرا، فلم ينقلوا ملاحمهم ولا رواياتهم التمثيلية ولا شعرهم ولا سائر فنونهم الأدبية، وإنما نقلوا حكمهم وبعض قصصهم، ولو فعلوا لتأثر الأدب العربي تأثرا كبيرا، وفتحت له مناح جديدة. ولعل السبب في ذلك أنهم لم يتذوقوه لبعده عن الذوق العربي، ولأنه مملوء بالآلهة التي تنفر منها عقيدتهم، ولأن البيئة اليونانية الاجتماعية التي أنتجت أدبهم مخالفة تمام المخالفة للبيئة الإسلامية مما يجعل تذوقها عسيرا، إلى غير ذلك من أسباب؛ فظل تأثير الأدب الجاهلي كبيرا على الشعر العربي، من محافظة على التزام الأوزان والقافية، والابتداء بالنسيب والغزل، وذكر الديار والأطلال والظعائن، ووصف الناقة، وقطع الفيافي، ووصف ما فيها من الوحش والصيد.

ومع هذا فلم يخل الأدب - على العموم - من تأثر بالحضارات والثقافات والحياة العقلية والاجتماعية الجديدة.

فقد تأثر الشعر بالحضارة، فوصف القصور والبساتين، ومجالس الأنس، ومصايد الطير والسمك وأنواع السفن.

وزاد استعماله في المجون والخلاعة والتهتك - واستخدم في العصبية بين شيعة العلويين والعباسيين، وبين العرب والعجم، والغزل في المذكر ولم تكن تعرفه العرب - والتوسع في شعر الخمر والإجادة في وصفها.

وحملتهم الحضارة على ترقيق شعرهم، واستعمال التشبيه الذي يتفق ومدنيتهم والإكثار من الأوزان القصيرة اللطيفة.

وكان زعيم هذا التجديد شاعر أعمى فارسي اسمه بشار بن برد، فكان لسان عصره: تهتك عصره فتهتك، وتحضر فتحضر، وتزندق فتزندق، وأجاب داعي النفوس حتى قالوا: «إنه لم يبق غزل ولا غزلة في البصرة إلا ويروي من شعر بشار، ولا نائحة ولا مغنية إلا تتكسب به، ولا ذو شرف إلا وهو يهابه ويخشى معرة لسانه.»

دعا إلى التمتع بالحياة ما أمكن، والجري وراء النساء، فعسرهن إلى مياسرة، وترقق في الغزل:

طال هذا الليل بل طال السهر

ولقد أعرف ليلي بالقصر

لم يطل حتى جفاني شادن

ناعم الأطراف فتان النظر

فكأن الهم شخص ماثل

كلما أبصره النوم نفر •••

يكلمها طرفي فتومي بطرفها

فيخبر عما في الضمير من الوجد

فإن نظر الواشون صدت وأعرضت

وإن غفلوا قالت ألست على العهد؟!

ويهجو فيقذع في الهجاء:

دينار آل سليمان ودرهمهم

كالبابليين حفا بالعفاريت

لا يوجدان ولا يلقاهما أحد

كما سمعت بهاروت وماروت

ويعتب على القدر فيقول:

خلقت على ما في غير مخير

هواي ولو خيرت كنت المهذبا

أريد فلا أعطى وأعطى ولم أرد

ويقصر علمي أن أنال المغيبا

وأصرف عن قصدي وعلمي ثاقب

فأرجع ما أعقبت إلا التعجبا

لعمري لقد غالبت نفسي على الهوى

لتسلى فكانت شهوة النفس أغلبا

ومن عجب الأيام أن اجتنابها

رشاد وأني لا أطيق التجنبا

ويصف المنتشي فيقول:

دارت له الكأس حتى راح باطله

فطرفه نائم في عين يقظان

ريحانة القلب لو كانت تساعدني

إذا رضيت بها من كل ريحان

ويصف العناق فيقول:

فبتنا معا لا يخلص الماء بيننا

إلى الصبح دوني حاجب وستور

إلخ.

وله الشعر الجزل في الفخر والحكم.

وعلى الجملة فكان بشار داعيا إلى الإسراف في طلب اللذات، واستمتاع الإنسان ما استطاع بمتع الحياة.

وجاء بعده أبو نواس، فزاد في الطنبور نغمة بل نغمات، فكان يرى أن الحياة مهزلة، ولا خير فيها إلا في الاستمتاع بنعيمها، ولا بد أن ينسى متاعب الوجود بالخمر، ففتح في الخمر أبوابا لم يفتحها من قبله ولا من بعده، وانغمس في اللهو والتشبيب بالنساء والغلمان، فكان مرآة لطائفة اللاهين والعابثين في عصره، وكان ذا مقدرة أدبية عالية فصرفها في هذه الفنون؛ وقد حدث عن نفسه فقال: «لا أكاد أقول شعرا جيدا حتى تكون نفسي طيبة، وأكون في بستان مونق، وعلى حال أرتضيها من صلة أو وصل أو وعد بصلة.» سار في خمرياته على نهج الأعشى والأخطل والوليد بن يزيد، وفاقهم بمراحل أوحت بها عبقريته وحضارة زمانه:

اصدع شجي الهموم بالطرب

وانعم على الدهر بابنة العنب

واستقبل العيش في غضارته

لا تقف منه آثار منتقب

من قهوة زانها تقادمها

فهي عجوز تعلو على الحقب

أشهى إلى الشرب يوم جلوتها

من الفتاة الكريمة النسب

فقد تجلت ورق جوهرها

حتى تبدت في منظر عجب

فهي بغير المزاج من شرر

وهي لدى المزج سائل الذهب

وابتدع الغزل في الذكور وأفرط فيه، ولم يبلغ في غزله ما بلغه في خمره؛ يصف في خمره الحانة والخمار وامرأته وخمرها المعتقة، ويصف حمله الخمر إلى أصدقائه في بستان، وكيف شربوا بين الرياحين في غفلة الرقباء وأحداث الزمان، ويصف زيارته للأديار، وكيف نعم فيها بالخمر والفتيان والفتيات. وكل ذلك في صراحة واستهتار، لا يأبه لنقد ولا عتاب.

غدوت إلى اللذات منهتك الستر

وأفضت بنات السر مني إلى الجهر

وهان علي الناس فيما أريده

بما جئت فاستغنيت عن طلب العذر

رأيت الليالي مرصدات لمدتي

فبادرت لذاتي مبادرة الدهر

وكانت له صيحة تجديدية في الشعر تنعي على الشعراء سلوكهم مسلك الأولين في بكاء الأطلال والتزام الموضوعات القديمة بالأساليب القديمة:

دع المعلى يبكي على طلله

وخل عوفا يقول في جمله

وقل لكلثوم المفضل بالشع

ر يطيل الإعراض عن حلله

وأعد على اللهو غير متئد

عنه فهذا أوان مقتبله

أما ترى جدة الزمان وما

أبدع فيها الربيع من عمله

فاشرب على جدة الزمان فقد

وافى بطيب الهوا ومعتدله

من قهوة تذكر السرور وتن

سي الهم عند اعتراض مشتكله

ويدعو إلى القول في آثار الحضارة الفخمة لا في الأماكن البدوية التافهة:

دع الرسم الذي دثرا

يقاسي الريح والمطرا

وكن رجلا أضاع العل

م في اللذات والخطرا

ألم تر ما بني كسرى

وسابور لمن غبرا

منازه بين دجلة وال

فرات أخصها الشجرا

لأرض باعد الرحم

ن عنها الطلح والعشرا

ولم يجعل مصايدها

يرابيعا ولا وحرا

8

ولكن حور غزلان

تراعي بالملا بقرا

فذاك العيش لا سيد

بقفرتها ولا وبرا

إذا ما كنت بالأشياء

في الأعراب معتبرا

فإنك أيما رجل

وردت فلم تجد صدرا

ويقول:

دع الأطلال تسفيها الجنوب

وتبكي عهد جدتها الخطوب

وخل لراكب الوجناء أرضا

تحث بها النجيبة والنجيب

ولا تأخذ عن الأعراب لهوا

ولا عيشا فعيشهم جديب •••

فهذا العيش لا عيش البوادي

وهذا العيش لا اللبن الحليب

فأين البدو من إيوان كسرى

وأين من الميادين الزروب

وكنا ننتظر مع هذه الصرخة المدوية في طلب التجديد، والقدرة الفنية الفائقة، أن يفتح أبوابا جديدة كثيرة بما تلهمه الحضارة التي ينشدها، ويخرج ولو بعض الشيء عن الأوزان القديمة، والموضوعات القديمة كالمديح والهجاء، ولكنه اكتفى في التجديد بتوليد معاني الخمر والغزل. وحتى عندما عرض للمديح والهجاء عاد عن دعوته، فبكى الطلول وركب النوق:

أقول والعيس تعروري الفلاة بنا

صعر الأعنة من مثنى ووحدان

لذات لوث عفرناة عذافرة

كأن تضبيرها تضبير بنيان

يا ناق لا تسألي أو تبلغي ملكا

تقبيل راحته والركن سيان

ويظهر أن دعوته للتجديد لقيت مقاومة عنيفة من أدباء عصره، بل ومن الخليفة نفسه، فلم يقو على الوقوف أمامهم، ونكص على عقبه وقال:

أعر شعرك الأطفال والمنزل القفرا

فقد طالما أزرى به نعتك الخمرا

دعاني إلى نعت الطلول مسلط

تضيق ذراعي أن أرد له أمرا

فسمعا أمير المؤمنين وطاعة

وإن كنت قد جشمتني مركبا وعرا

وإن كان بشار وأبو نواس عنيا بتوليد المعاني التي أوحى بها عصرهما، فثم شاعر آخر كانت عنايته في تجويد اللفظ، والإمعان في البديع، والعناية بالموسيقى اللفظية، وهو «مسلم بن الوليد» الملقب صريع الغواني، كقوله في مدح الفضل بن يحيى البرمكي:

تساقط يمناه ندى وشماله

ردى وعيون القول منطقه الفصل

عجول إلى أن يودع الحمد ماله

يعد الندى غنما إذا اغتنم البخل

له هضبة تأوي إلى ظل برمك

منوط بها الآمال أطنابها السبل

وقوله:

إذا التقينا منعنا النوم أعيننا

ولا نلائم يوما حين نفترق

أقر بالذنب مني لست أعرفه

كما أقول كما قالت فنتفق

وقوله:

وإني وإسماعيل يوم وداعه

لكالغمد يوم الروع زايله النصل

فإن أغش قوما بعده أو أزورهم

فكالوحش يدنيها من الأنس المحل

وقوله:

موف على مهج في يوم ذي رهج

كأنه أجل يسعى إلى أمل

ينال بالرفق ما يعيا الرجال به

كالموت مستعجلا يأتي على مهل

وقوله في الخمر:

ومانحة شرابها الملك قهوة

يهودية الأصهار مسلمة البعل

9

معتقة لا تشتكي يد عاصر

حرورية في جوفها دمها يغلي

وبجانب هؤلاء كان شاعر آخر لا يغني للملوك والأمراء، ولكن يغني لنفسه وحبه، ويقف شعره على غزله في رقة وعذوبة، وهو العباس بن الأحنف؛ لقد كان في العباسيين كما كان عمر بن أبي ربيعة في الأمويين، والفرق بينهما فرق الحضارة وما تدعو إليه من رقة في اللفظ، وعذوبة في المعنى، ورقة في الذوق، وتوليد في المعاني، فيقول:

أشكو الذين أذاقوني مودتهم

حتى إذا أيقظوني بالهوى رقدوا •••

أمتيني فهل لك أن تردي

حياتي من مقالك بالغرور

أرى حبيك ينمى كل يوم

وجورك في الهوى عدلا فجوري •••

وأنت إذا ما وطئت الترا

ب صار ترابك للناس طيبا •••

هبوني أغض إذا ما بدت

وأملك طرفي فلا أنظر

فكيف استتاري إذا ما الدموع

نطقن فبحن بما أضمر •••

لعمري لقد كذب الزاعمو

ن أن القلوب تجاري القلوبا

ولو كان ذاك كما يذكرو

ن ما كان يشكو محب حبيبا •••

أتأذنون لصب في زيارتكم

فعندكم شهوات السمع والبصر

لا يضمر السوء إن طال الجلوس به

عف الضمير ولكن فاسق النظر

وكل ديوانه من هذا القبيل.

ويظهر أن دعوته إلى التجديد لم تجد سميعا حتى في العصور بعده.

ولئن كان بشار ثم أبو نواس غنيا للناس ألحان الغرام والخمر والاستهتار والمجون، ودعوا إلى الاستمتاع، وطلب اللذات حيث تكون، فشاعر آخر رد على هذه الألحان بألحان مثلها في الزهد واحتقار الدنيا وذكر الموت، وهو الشاعر المعاصر لأبي نواس «أبو العتاهية».

فقد جدد في الشعر الديني ما لم نجد له نظيرا قبل إلا قليلا من شعر قس بن ساعدة وأمية بن أبي الصلت، ولكن يظهر أنه اتخذ شعره من منابع نثرية كمواعظ الحسن البصري، وصاغه صياغة سهلة أشبه بالنثر، يفهمه العامة والخاصة على السواء، فهو من ناحيته الفنية لا يصح أن يقارن ببشار وأبي نواس. وإنما شهرته أتت من ناحية موضوعه وحسن توليده، وسهولة نظمه، وجميل وعظه؛ فإن كان أبو نواس يزين الدنيا، فهذا يظلمها ويذهب ببهجتها، ويصور الحياة أباطيل. يذكر بالموت دائما، ويذكر بالقبور، ويصف غرور الإنسان وأوهامه في مطامعه:

ألا يا موت لم أر منك بدا

أتيت وما تحيف وما تحابي

كأنك قد هجمت على مشيبي

كما هجم المشيب على الشباب

وإنك يا زمان لذو صروف

وإنك يا زمان لذو انقلاب

أراك وإن طليب بكل وجه

كحلم النوم أو ظل السحاب •••

رجعت إلى نفسي بفكري لعلها

تفارق ما قد غرها وأذلها

فقلت لها يا نفس ما كنت آخذا

من الأرض لو أصبحت أملك كلها

فهل هي إلا شبعة بعد جوعة

وإلا منى قد حان لي أن أملها

أرى لك نفسا تبتغي أن تعزها

ولست تعز النفس حتى تذلها •••

تعلقت بآمال

طوال أي آمال

وأقبلت على الدنيا

ملحا أي إقبال

أيا هذا تجهز ل

فراق الأهل والمال

فلا بد من الموت

على حال من الحال

وهو يكثر في شعره من الأمثال والحكم، وله أرجوزة طويلة كلها أمثال، قالوا إنها بلغت أربعة آلاف مثل، ولكن لم يعثر عليها كلها، منها:

حسبك مما تبتغيه القوت

ما أكثر القوت لمن يموت

إن كان لا يغنيك ما يكفيكا

فكل ما في الأرض لا يغنيكا

لن يصلح الناس وأنت فاسد

هيهات ما أسعد ما تكابد

لكل ما يؤذي وإن قل ألم

ما أطول الليل على من لم ينم

وكل شيء لاحق بجوهره

أصغره متصل بأكبره

لكل إنسان طبيعتان

خير وشر وهما ضدان

والخير والشر إذا ما عدا

بينهما بون بعيد جدا

ما عيش من آفته بقاؤه

نغص عيشا طيبا فناؤه

إن الشباب والفراغ والجدة

مفسدة للعقل أي مفسدة

إن الشباب حجة التصابي

روائح الجنة في الشباب

اصحب ذوي الفضل وأهل الدين

فالمرء منسوب إلى القرين

ويصح بعد ذلك أن نقف وقفة عند شاعر أعقب أبا نواس، وهو أبو تمام فقد طلع على الناس بأسلوب جديد وشكل جديد لا جوهر جديد؛ لقد بنى قصيدته على النمط القديم، وعالج موضوعات من قبله، ولكن أسلوبه غير أسلوبهم في شكل متميز به. هو شامي الأصل تنقل في بلدان كثيرة فزار مصر وخراسان ونيسابور والحجاز وأرمينيا والموصل وبغداد، وحط رحاله في مقام الخلافة العباسية «سر من رأى»، وهو في رحلاته يوسع ثقافته ويكثر اطلاعه على الشعر القديم والحديث، وفي إحدى هذه الأسفار جمع ديوان الحماسة.

وأسلوبه في شعره يكاد يكون خاصا به: إمعان في الاستعارة، وغلو في غموض المعنى وتوليده، وإفراط في الصنعة، وتعمد للبديع، وحب شديد للإغراب، يشعر القارئ - وهو يقرؤه - بتكلفه، وعرق جبينه في البحث عن المعاني المناسبة وإدارتها في ذهنه ليغرب في توليدها، وفي خياله ليلبسها ثوبا غير شفاف من الجناس والاستعارة، كقوله:

فكأن أفئدة النوى مصدوعة

حتى تصدع بالفراق فؤادي

فإذا فضضت من الليالي فرجة

خالفنها فسددنها ببعاد

10

ومع هذا فقد وفق في كثير من صوره الشعرية وأقواله الحكيمة، فيصف فائدة الرحلات، وإنه لا يبلغ الأرب بقوله:

ولكنني لم أحو وفرا مجمعا

ففزت به إلا بشمل مبدد

ولم تعطني الأيام نوما مسكنا

ألذ به إلا بنوم مشرد

وطول مقام المرء في الحي مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدد

فإني رأيت الشمس زيدت محبة

إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد

ويصف ممدوحه فيقول:

وقد كان فوت الموت سهلا فرده

إليه الحفاظ المر والخلق الوعر

ونفس تخاف العار حتى كأنما

هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله

وقال لها من تحت أخمصك الحشر

فهو تلميذ بشار وأبي نواس في توليد المعاني، وتلميذ مسلم بن الوليد في تجويد اللفظ والإمعان في البديع، ونسيج وحده في الصياغة. •••

ولا بد من وقفة عند شاعر يوناني الأصل اسم جده «جورجيوس»؛ عظيم الشاعرية، غير موفق في مسالك الحياة، قوي الخيال، ضعيف العقلية العملية، قوي الشهوة، فقير اليد، فهو في شعره ناقم ساخر عابث هجاء، وصاف:

أسخطت إخواني وأخفق مطمعي

فبقيت بين الدور والأبواب

يذم الزمان ويعجب لكفايته الضائعة وحظه البائس، وغير الأكفاء حوله ينعمون ويسعدون:

أيها الحاسدي على صحبتي العس

ر وذمي الزمان والإخوانا

ليت شعري ماذا حسدت عليه

أيها الظالمي إخائي عيانا

أعلى أنني ظمئت وأضحى

كل من كان صاديا ريانا

أم على أنني أمشي حسيرا

وأرى الناس كلهم ركبانا

أم على أنني ثكلت شقيقي

وعدمت الثراء والأوطانا؟

من أجل هذا امتلأ شعره بالهجاء، وصب سخطه على الناس، وأستاذه في ذلك جرير والفرزدق وبشار، وهو يفوقهم في إجادة التصوير وإثارة الضحك ممن يهجوه، والإقذاع في هجائه - وقد جرى على سبيل معاصريه في المديح وسائر فنون الشعر، ولكنه عرف بالهجاء لأنه تميز به - وهجاؤه أكثره هجاء شخصي، لأن مهجوه أساء إليه أو منع عنه العطاء، أو تخيل هو أنه ناله بشر أو أضمر له سوءا، وكثيرا ما كان يتخيل. وقد انتفع أبو العلاء المعري بهجائه، ولكنه نقله إلى معنى أسمى وهو هجاء المجتمع في عيوبه، وهجاء الإنسان في جوهره، والطوائف في جملتها.

وقد جدد ابن الرومي في الشعر بأسلوبه الخاص، فهو يطيل ولا يمل، ويعرض للمعنى فيولده ويستخرج منه حتى لا يبقي فيه لمن يأتي بعده شيئا، ولا ينتقل إلى معنى حتى يستوفي ما قبله استيفاء تاما. يمدح علي بن يحيى المنجم في قصيدة تجاوز المائة، فيبدأ بوصف المشيب ودلالته عند الغواني في نحو ثلاثين بيتا، ومطلعها:

شاب رأسي ولات حين مشيب

وعجيب الزمان غير عجيب

وهو إلى ذلك سهل النظم، لا تحس وأنت تقرأ شعره إلا كأنك تقرأ نثرا مقفى، ليس فيه تعمل لتقديم أو تأخير، أو لعب بالألفاظ ليستقيم الوزن إلا نادرا.

وهو يتعرض لموضوعات ليست جديدة في الأدب العربي، ولكنه أفاض فيها ووسع معانيها كوصفه أهوال البحر، والإفاضة في وصف الشيب والشباب، ووصف المياه والجنان، والسحاب والبرق والرياح، والألوان والأصوات والمغنيات والمأكولات وسوء الحظ. وله قصيدة رائعة في رثاء البصرة وما أصابها في ثورة الزنج، ووقوعها في أيديهم، لعلها كانت فتحا جديدا في الأدب العربي في رثاء المدن وما ينتابها من حوادث معاصرة.

وهو في شعره يفخر بنسبه اليوناني فيقول:

ونحن بني اليونان قوم لنا حجى

ومجد، وعيدان صلاب المعاجم

وما تتراءى في المرايا وجوهنا

بلى في صفاح المرهفات الصوارم

ويقول:

قد تحسن الروم شعرا

ما أحسنته عريب

يا منكر المجد فيهم

أليس منهم صهيب

ولكن هل كان مثقفا ثقافة يونانية كان لها أثر في شعره؟ ذلك ما لم يظهر في شعره وإن ظهر في طبعه.

فمن نماذج شعره:

لعمرك ما الحياة لكل حي

إذا فقد الشباب سوى عذاب

فقل لبنات دهري فلتصبني

إذا ولى بأسهمها الصياب •••

يذكرني الشباب هوان عتبي

وصد الغانيات لدى عتابي

يذكرني الشباب سهام حتف

يصبن مقاتلي دون الإهاب •••

فيا أسفا ويا جزعا عليه

ويا حزنا إلى يوم الحساب

أأفجع بالشباب ولا أعزى

لقد غفل المعزي عن مصابي

تفرقنا على كره جميعا

ولم يك عن قلى طول اصطحاب

وكانت أيكتي ليد اجتناء

فعادت بعده ليد احتطاب

يصف الخمر وحسناء تشرب:

ومدامة كخشاشة النفس

لطفت عن الإدراك باللمس

لنسيمها في قلب شاربها

روح الرجاء وراحة اليأس

وتمد في أمل ابن نشوتها

حتى يؤمل مرجع الأمس

ومهفهف كملت محاسنه

حتى تجاوز منية النفس

أبصرته والكأس بين فم

منه وبين أنامل خمس

فكأنها وكأن شاربها

قمر يقبل عارض الشمس

ويقول في رثاء البصرة:

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام

شغلها عنه بالدموع السجام

أي نوم بعد ما حل بالبص

رة ما حل من هنات عظام •••

لهف نفسي عليك يا قبة الإس

لام لهفا يطول منه غرامي

لهف نفسي لجمعك المتفاني

لهف نفسي لعزك المستضام •••

بينما أهلها بأحسن حال

إذ رماهم عبيدهم باصطلام

دخلوها كأنهم قطع اللي

ل إذا راح مدلهم الظلام

أي هول رأوا هم أي هول

حق منه يشيب رأس الغلام

إذ رموهم بنارهم من يمين

وشمال من خلفهم وأمام

كم أغصوا من شارب بشراب

كم أغصوا من طاعم بطعام

صبحوهم فكابد القوم منهم

طول يوم كأنه ألف عام

ما تذكرت ما أتي الزنج إلا

أضرم القلب أيما إضرام

إلخ.

وله في الهجاء:

دعتني إلى فضل معروفكم

وجوه مناظرها معجبة

فأخلفتمو ما توسمته

وقل حميد على تجربة

وكم لمعة خلتها روضة

فألفيتها دمنة معشبة

ظلمتكم لا تطيب الفرو

ع إلا وأعراقها طيبة

وفي هجاء صاحب لحية:

إن تطل لحية عليك وتعرض

فالمخالي معروفة للحمير

علق الله في عذاريك مخلا

ة ولكنها بغير شعير

لو غدا حكمها إلي لطارت

في مهب الرياح كل مطير •••

لحية أهملت فسالت وفاضت

فإليها تشير كف المشير

ما رأتها عين امرئ ما رآها

قط إلا أهل بالتكبير

روعة تستخفه لم يرعها

من رأى وجه منكر ونكير •••

فاتق الله ذا الجلال وغير

منكرا فيه ممكن التغيير

أو فقصر منها فحسبك منها

نصف شبر علامة التذكير

لو رأى مثلها النبي لأجرى

في لحى الناس سنة التقصير

ويصف طبعه فيقول:

شكري عتيد وكذاك حقدي

للخير والشر بقاء عندي

كالأرض مهما استودعت تؤدي

أحفظ للأعداء والأود

ما استودعوا من بغضة وود

ماذا يقول القائلون بعدي

ولمع في دولة الأدب الخليفة المنكود الحظ، عبد الله بن المعتز، فأتى بالتشبيهات الرقيقة البديعة مستمدة من عيشته المترفة، وولد من المعاني ما توحيه الحياة المتحضرة، كقوله:

ومقرطق يسعى إلى الندماء

بعقيقة في درة بيضاء

والبدر في أفق السماء كدرهم

ملقى على ديباجة زرقاء

وقوله:

خليلي قد طاب الشراب المورد

وقد عدت بعد النسك والعود أحمد

فهاتا عقارا في قميص زجاجة

كياقوتة في درة تتوقد

يصوغ عليها الماء شباك فضة

له حلق بيض تحل وتعقد

وقتني من نار الجحيم بنفسها

وذلك من إحسانها ليس يجحد

وقوله يصف رعدا:

وجلجل رعد من بعيد كأنه

أمير على رأس اليفاع خطيب

وقوله:

انظر إلى حسن هلال بدا

يهتك من أنواره الحندسا

كمنجل قد صيغ من فضة

يحصد من زهر الدجى نرجسا

وقد أتى بفن في شعره يكاد يكون مبتكرا، فأنشأ أرجوزة في أكثر من أربعمائة بيت عنوانها مدح الخليفة المعتضد، ولكنها في الحقيقة قصة تاريخية شاملة، وصف فيها معايب زمنه من فساد حكم:

فكل يوم ملك مقتول

أو خائف مروع ذليل

وكل يوم شغب وغصب

وأنفس مقتولة وحرب

وكم فتاة خرجت من منزل

فغصبوها نفسها في المحفل

ويصف الثوار والخارجين على الدولة: كالعلوي، وأبي دلف، والصفار، وصاحب الزنج، وأعمالهم وحروبهم وفسادهم.

ويصف التجار وسوء حالهم مما يصابون به من مصادرة ونهب:

وتاجر ذي جوهر ومال

كان من الله بحسن حال

قيل له عندك للسلطان

ودائع غالية الأثمان

فقال لا والله ما عندي له

صغيرة من ذا ولا جليله

وإنما ربحت في التجارة

ولم أكن في المال ذا خسارة

فدخنوه بدخان التبن

وأوقدوه بثفال اللبن

حتى إذا مل الحياة وضجر

وقال ليت المال جمعا في سقر

أعطاهمو ما طلبوا فأطلقا

يستعسل المشي ويمشي العنقا

إلخ.

ولا بد أن نقف وقفة عند شاعرين ممتازين في العصر العباسي الثاني، وهما المتنبي وأبو العلاء المعري؛ ففي المتنبي وصل فن تقصيد القصيد - الذي بدأ به امرؤ القيس ورقا في العصر الأموي - إلى غايته، فقد خالط البدو وتطبع بطباعهم، وتذوق ذوقهم، وعاش في الحضر محتفظا ببداوته في اللغة والأسلوب، يصب فيها معانيه الحضرية، ومحتفظا ببداوته في معيشته؛ فهو فارس تعرفه الخيل والليل والبيداء، إلى عزة نفس وإباء، وخبرة وتجارب كثيرة أكسبته إياها العيشة البدوية والحضرية، ثم لسان طيع يعبر به عن كل ذلك في أسلوب خاص به؛ ولذلك لما طلع على الناس بشعره أقبلوا عليه في عصره، وكادوا ينسون غيره، ورءوا فيه تغذية لعواطفهم المختلفة: فمن هاجت عواطفه لفساد زمنه وجد في شعر المتنبي بغيته، ومن اعتد بنفسه وأحس في شبابه ميلا إلى العلا وطموحا إلى المجد، وجد كفايته، ومن احتاج إلى إثارة الحماسة القومية، ومنازلة الخصوم والأعداء، ففي شعره الغناء، ومن تفلسف ورأى أن الدنيا هباء، وجد في شعره غذاء ، ومن فشل في حياته فبكى حظه، ونقم على أولي الأمر في زمانه ففي شعره مطلبه، وهكذا. كل ذلك في قول جزل، وتفنن في الاستعارات والتشبيهات، ونفخ في الشعر من حماسته وحرارته حتى لينبض بالحياة. لقد قبس قبسة من أبي تمام في غموضه وإغرابه وتصنعه، وخاصة وهو في بلاط سيف الدولة، حيث المنافسون كثيرون من الشعراء والعلماء، وقبس ممن قبله توليد المعاني، ولكن كان نسيج وحده في أسلوبه وقوته وصدق شعره، فلا يقول إلا ما يحس، ولا يصف من حوادث الحرب إلا ما يرى. ثم ملأ شعره حكمة عملية هي خلاصة تجاربه الشخصية، وهي ترقية للأمثال العربية لا ترجمة للحكمة اليونانية.

يقول:

أين فضلي إذا قنعت من الده

ر بعيش معجل التنكيد

ضاق صدري وطال في طلب الرز

ق قيامي وقل عنه قعودي

أبدا أقطع الفيافي ونجمي

في نحوس وهمتي في سعود

عش عزيزا أو مت وأنت كريم

بين طعن القنا وخفق البنود

فرءوس الرماح أذهب للغي

ظ وأشفى لغل صدر الحقود

وقال في مدح سيف الدولة:

ومن تكن الأسد الضواري جدوده

يكن ليله صبحا ومطعمه غصبا

ولست أبالى بعد إدراكي العلا

أكان تراثا ما تناولت أم كسبا

فرب غلام علم المجد نفسه

كتعليم سيف الدولة الدولة الضربا

إذا الدولة استكفت به في ملمة

كفاها فكان السيف والكف والقلبا

وقال يعاتبه:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي

فيك الخصام وأنت الخصم والحكم

أعيذها نظرات منك صادقة

أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم

وما انتفاع أخي الدنيا بناظره

إذا استوت عنده الأنوار والظلم

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا

بأنني خير من تسعى به قدم

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعت كلماتي من به صمم

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

ويصف المتنبي قوة نفسه ومضاء عزيمته:

يحاذرني حتفي كأني حتفه

وتنكرني الأفعى فيقتلها سمي

طوال الردينيات يقصفها دمي

وبيض السريحيات يقطعها لحمي

برتني السرى بري المدى فرددنني

أخف على المركوب من نفسي جرمي

وأبصر من زرقاء جو لأنني

متى نظرت عيناي ساواهما علمي

كأني دحوت الأرض من خبرتي بها

كأني بنى الإسكندر السد من عزمي

ويصف طموحه:

ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها

فمفترق جاران دارهما العمر

ولا تحسبن المجد زقا وقينة

فما المجد إلا السيف والفتكة البكر

وتضريب أعناق الملوك وأن ترى

لك الهبوات السود والعسكر المجر

وتركك في الدنيا دويا كأنما

تداول سمع المرء أنمله العشر

فلما فشل فيما يطمح إليه قال:

تمن يلذ المستهام بذكره

وإن كان لا يغني فتيلا ولا يجدي

وغيظ على الأيام كالنار في الحشا

ولكنه غيظ الأسير على القد

يمتاز المتنبي في شعره بأنه فلسف القوة - قوي في حملته على الناس والزمان، قوي في احتقاره اللذات الوضيعة، وطلبه لمعالي الأمور، قوي في نفسه لا يهاب الدهر ولا يكترث لأحداثه، قوي في دعوته للناس أن يثوروا ويؤسسوا مملكتهم على حد السيف - يجد في شعره كل إنسان وصفا لناحية من نواحي نفسه، ويرتاح للاستشهاد فيها بشعره. •••

ثم جاء أبو العلاء المعري ففتح في الشعر بابا جديدا، قد عالج الشعر منذ شبابه، فسار فيه على نهج من قبله من مديح وفخر ورثاء وغزل، كما يتجلى ذلك في مجموعة شعره «سقط الزند»، فلما نضج عقله وشعوره اتجه جهة جديدة في كتابه اللزوميات، وهذا التجديد يتميز بشيئين: (1) نقده للحياة الاجتماعية التي حوله. (2) تغنيه في شعره بإيمانه وشكه ويقينه وإلحاده وحيرته بين المعقول والمنقول وتفكيره في أمور الغيب من بعث وحساب وخلود الروح والجنة والنار؛ وهذان بابان جديدان في الشعر العربي؛ نعم نقد النقاد الحياة الاجتماعية قبله كما فعل ابن المعتز في أرجوزته التي قصصنا عليك خبرها، وكما فعل قبله أبو العتاهية أحيانا، ونحو ذلك، ولكن كان نقدهم عارضا وفي غير شمول وإمعان، أما أبو العلاء فكان نظره شاملا وافيا متقصيا متوفرا عليه؛ فينقد الملوك والأمراء:

يسوسون الأمور بغير عقل

وينفذ أمرهم فيقال ساسة

فأف من الحياة وأف مني

ومن زمن رياسته خساسة •••

مل المقام فكم أعاشر أمة

أمرت بغير صلاحها أمراؤها

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها

فعدوا مصالحها وهم أجراؤها

وينقد رجال الدين والوعاظ:

رويدك قد غررت وأنت حر

بصاحب حيلة يعظ النساء

يحرم فيكم الصهباء صبحا

ويشربها على عمد مساء

يقول لكم غدوت بلا كساء

وفي لذاته رهن الكساء

إذا فعل الفتى ما عنه ينهى

فمن جهتين لا جهة أساء

وينقد النساء للغدر والخيانة:

فوارس فتنة أعلام غي

لقينك بالأساور معلمات

ودفن - والحوادث فاجعات -

لإحداهن إحدى المكرمات

ثم يذم الناس جملة:

وكل حي فوقها ظالم

وما بها أظلم من ناسها •••

يحسن مرأى لبني آدم

وكلهم في الذوق لا يعذب

أفضل من أفضلهم صخرة

لا تظلم الناس ولا تكذب

وهكذا هو ينقد الناس في مرارة وسخط، ويتمنى أن لو امتنعت الرجال عن الزواج والنساء عن الولادة حتى يفنوا عن آخرهم:

لو أن كل نفوس الناس رائية

كرأي نفسي تناهت عن خطاياها

وعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا

ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها

أما شعره الديني فيدل على أنه حائر يمر به طائف من إيمان فيؤمن شعره، ويمر به طائف من إلحاد فيلحد شعره، وتتنازعه الفكرتان فيختلف الشعران، ولكنه في أكثر شعره مؤمن بإله واحد؛ حائر في التفاصيل والشعائر، قائل بسلطان العقل، مرتاب في النقل الذي لا يوافق العقل، ساخط على رجال الدين الذين لا يعقلون.

في كل ذلك قال الشعر ممزوجا بشعوره وعواطفه، وإيمانه وكفره وحيرته، وسمح له الشعر بما لم يسمح به النثر، فلم يضطهد ولم يعذب، ولو قال نثرا ما قاله شعرا لما نجا.

كثيرا ما نرى في شعره الإيمان بالله من مثل قوله:

والله حق وابن آدم جاهل

من شأنه التفريط والتكذيب

وقوله:

إذا كنت من فرط السفاه معطلا

فيا جاحد اشهد أنني غير جاحد

أخاف من الله العقوبة آجلا

وأزعم أن الأمر في يد واحد

ثم الشك في مثل قوله:

أما اليقين فلا يقين وإنما

أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

ويشك في القيامة فيقول:

أما القيامة فالتنازع شائع

فيها وما لخبيئها إصحار

ويشك في الأديان فيقول:

هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدى

ويهود حارت والمجوس مضللة

اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا

دين وآخر دين لا عقل له

وهكذا تردد بين الإيمان والشك، ولكن كما قلنا نرى الغالب عليه الإيمان بالله والشك فيما عداه.

وبهذا كله نزع في الشعر نزعة جديدة قوامها نقد الحياة الاجتماعية حوله وتحليل شعوره الديني.

فهو في اللزوميات قد تحرر من قيود الشعر القديم من حيث الموضوع، وأما من حيث الأوزان والقوافي فقد التزمها، بل زاد في التزامه فالتزم ما لا يلزم. •••

ونحن إذا دققنا النظر في الشعر العباسي كله وجدنا أنه عني - على وجه العموم - بالنظر إلى الحياة الواقعية وتصويرها من وصف للشراب ومجالسه وغلو فيه، واستقصاء معانيه، والإعجاب بالأزهار والبساتين وجمال النساء والغلماء، ونحو ذلك من جمال العين، كما أولعوا بوصف المباني والمصنوعات، كالبركة والفوارة والشمعة والأطعمة، وكلما انغمس الناس في الملاذ والملاهي تبعهم الشعراء يغنون بما يسرهم ويعجبهم، حتى إذا بلغوا الغاية من السرف والترف ظهر شاعران وقفا حياتهما الشعرية على المجون بأصرح لفظ وأفحشه، وهما ابن الحجاج المتوفى سنة 391ه، وابن سكرة المتوفى سنة 385ه.

وكانا لا يقولان إلا في المجون الفاحش، وقد أقبل الناس على شعرهما، وراج ديواناهما لأنهما يغذيان ميول الشعب في ذلك العصر.

وغلب على الشعر الصنعة والنحت والاقتصار على العبارات والأخيلة الجميلة، فهو يعجب السامع والقارئ من حيث صياغته وتشبيهاته وخياله وفنه، وإن كان قلما يمس مشاعره وروحه، هذا إلى ما يؤخذ عليهم من تقصير أكثرهم في الوصف الشامل، ومن غلوهم البالغ في المديح، وإفراطهم في الغزل، يقدمونه بين يدي المديح. •••

وكان شعر العراق والشام الذي وصفنا شأنه، وألممنا باتجاهاته، وعددنا بعض نوابغه، هو قبلة العالم العربي كله، يقلد في مصر والمغرب والأندلس وسائر الأقطار، ويحذى حذوه، فلا تشعر شعورا قويا بطابع إقليمي، ولا بفنون مخترعة تقتضيها بيئة الإقليم، ولا بأوزان مبتكرة تنتج من رنات موسيقية يوحي بها الإقليم، بل كلهم يقلد العراقيين في مذهبهم ومنحاهم، وموضوعاتهم وأساليبهم.

ومن أجل ذلك لا ترانا في حاجة إلى وقفة لوصف الشعر في الأمصار المختلفة لنبين خصائصها وميزاتها، إلا الفن الشعري الذي اخترعه الأندلسيون وهو التوشيح.

فقد كان فنا جميلا، قالوا إن مخترعه مقدم بن معافى القبري شاعر الأمير عبد الله بن محمد المرواني في أواخر القرن الثالث الهجري، وتبعه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وجرى على آثارهما آخرون نموه ورقوه، وكانوا ينظمون الموشحات على أساليب شتى، أشهرها جعل اللازمة بيتين وكل دور بعدها خمسة أبيات، وأحيانا ينهجون فيها مناهج أخرى مختلفة خالفوا فيها أوزان الشعر المشهورة، وذلك مثل:

بدر تم شمس ضحى

غصن نقا مسك شم

ما أتم ما أوضحا

ما أورقا، ما أتم

لا جرم من لمحا

قد عشقا قد حرم

ومثل:

يا هاجري هل إلى الوصال

منك سبيل

أو هل ترى عن هواك سالي

قلب العليل

ومثل:

قسما بالهوى لذي حجر

ما لليل المشوق من فجر

جمد الصبح ليس يطرد

ما لليلي - فيما أظن - غد

صح يا ليل أنك الأبد

أو فقصت قوادم النسر

فنجوم السماء لا تسري

ومثل:

لازمة

جادك الغيث إذا الغيث همى

يا زمان الوصل بالأندلس

لم يكن وصلك إلا حلما

في الكرى أو خلسة المختلس

دور

إذ يقود الدهر أشتات المنى

تنقل الخطو على ما يرسم

زمرا بين فرادى وثنى

مثلما يدعو الوفود الموسم

والحيا قد جلل الروض سنى

فثغور الزهر فيه تبسم

لازمة

وروى الدهر عن ماء السما

كيف يروي مالك عن أنس

فكساه الحسن ثوبا معلما

يزدهي منه بأبهى ملبس

ومثل:

ما العيد في حلة وطاق

وشم طيب

وإنما العيد في التلاقي

مع الحبيب

إلى كثير من أمثال ذلك، وقد قلد الأندلسيين في هذا الفن شعراء الأقاليم الأخرى، وأعجب به العامة من الشعراء في الأمصار، فتركوا فيه الإعراب ونظموه على لغتهم العامية، فنشأ من ذلك فن الزجل. •••

و بعد فإذا نحن نظرنا إلى الشعر العربي في ضوء ما استعرضناه من الشعر عند اليونان والرومان ومن سار على نهجهم من الأمم الأوروبية، وجدنا أن الشعر العربي كله أو أكثره من الشعر الذي اصطلحنا على تسميته بالشعر الغنائي ، من: فخر وغزل وهجاء ومديح وحماسة ورثاء وغير ذلك، وليس فيه ما يصح أن نسميه شعر ملاحم، وليس فيه شعر تمثيلي.

أما الملاحم فقد رأينا كثيرا من الأمم لها ملاحمها، فرأينا للهنود والمهايهاراتا، واليونانيين الإلياذة والأوذيسية، وللرومان الإنيادة إلى غير ذلك؛ أما العرب فلم يكن لهم ملاحم كهذه مع أن المواد الخامة للملحمة موجودة عندهم، فالحروب الحارة بين القبائل وافرة كثيرة، وفيها الأبطال فعنترة لا يقل شجاعة وبطولة عن أخيل، والخيال العربي أضفى على عنترة ما أضفى اليونان على أخيل، والمعيشة ساذجة فطرية كالجاهلية اليونانية، والكرم ونحر الجزور كحياة حاتم، والعدو والصعلكة كحياة تأبط شرا، كلها مادة صالحة لتغذية الملحمة، وأيام العرب المتلاحقة كحرب البسوس، ويوم داحس والغبراء، ويوم الكلاب، ويوم الفجار كلها يصح أن تؤلف فصولا من الملحمة، وكلها قيلت فيها أشعار، وليست قدرة العرب على قول الشعر بأقل من قدرة الهنود واليونان والرومان عليه، فما السر إذن في عدم الملحمة عند العرب؟

هل السبب أن الهندي واليوناني والروماني قد غذاهم في وضع ملاحمهم الخيال البعيد في الأساطير والآلهة؛ فآلهة في السماء، وآلهة لكل مظهر من مظاهر الطبيعة وعرائس البحر، وتوزع اختصاص الآلهة والخصومة بينهم كخصومة الأفراد والقبائل، كل هذا وسع الخيال، وغذى الملاحم؛ فلما لم يكن للعرب أساطير كثيرة وآلهة من هذا النوع، وكانت لهم فقط أصنام حجرية جامدة لاصقة بالأرض ليست بذات أجنحة، لم تصلح أن تكون غذاء صالحا للملحمة؟

أو السبب أن العربي في الجاهلية اعتاد أن ينظر إلى المسائل نظرة جزئية لا كلية، فرأى حرب البسوس ولكن لم ير الحروب متتابعة كوحدة، وشعر في الوقعة الواحدة المعينة، ولكن لم يشعر في الوقائع كلها متلاحقة يأخذ بعضها بناصية بعض، ونتج عن ذلك أنه قال الشعر في أجزاء ملاحم، ولكنه لم يقله في ملحمة واحدة، وأنه قصر شعره على اعتزازه بفعال قبيلته ونكايتها بالقبيلة المعادية، ولم تسمح له أنفته وإباؤه وعصبيته أن ينظم في فعال القبائل الأخرى غير قبيلته؟

أو السبب أن الشعر العربي الذي وصل إلينا تاريخه لا يتجاوز مائة وخمسين سنة قبل البعثة، وهو زمن متقدم من حيث رقي العقل البشري لا يسمح بالأساطير الممعنة في الخيال، والتي كان يسبح فيها العقل البشري قبل أن يلمس الواقع، فلما رقا حول الأساطير إلى تاريخ، والملحمة الشعرية إلى نثر تاريخي، فرويت أيام العرب على أنها تاريخ لا أسطورة، واختلط فيها النثر بالشعر إذ كان هذا مرحلة انتقال؟

أو السبب أن الطبائع البشرية مختلفة، ولا اختلفت بيئة كل أمة اختلافا كبيرا، سواء أكان ذلك بيئة طبيعية أم اجتماعية، ونشأ عن هذا الاختلاف في البيئة اختلاف في العقلية والقدرة الفنية ونوع الفنون الناتجة، فإذا نظم اليونان الملاحم نظم العرب المعلقات مثلا، وتكليف الأمم كلها أن يسير فنها وأدبها على نمط واحد تكليف بالمستحيل، وخاصة في عصور لم تتصل فيها الأمم بعضها ببعض اتصالا وثيقا كالذي يحدث اليوم، وخاصة أيضا في الأمة العربية التي أدتها ظروفها في الجاهلية أن يكون اتصالها بغيرها ضعيفا نسبيا؟

قد يكون السبب بعض ذلك، وقد يكون كل ذلك، وقد يكون غير ذلك.

وقريب من هذا يصح أن يقال في الشعر التمثيلي، فليس عند العرب شيء منه يعتد به، ويضاف إلى بعض الأسباب التي ذكرناها - مما يصح أن يقال في تعليل ذلك - أن غلبة البداوة في العصر الجاهلي لم تسمح بإقامة مسارح وتنظيم اجتماعات، وأنهم لم يحتفلوا بالشعائر الدينية حول الأصنام احتفالا عظيما كالذي كان عند الأمم الأخرى فنبع منه الشعر التمثيلي.

ثم كانت العقدة الكبرى، وهي تقديس الخلف لآثار السلف في الأدب، فقد سادت فكرة أن القوالب الأولى التي صب فيها الأدب في العصر الجاهلي هي وحدها التي تحتذى، فيصح أن تهذب، ويصح أن ترقى، ويصح أن تجمل بفعل الحضارة، ولكن لا يصح أن تخترع قوالب جديدة، وأنماط جديدة، فلما لم يكن في القوالب الجاهلية ملاحم ولا شعر تمثيلي، فكذلك لم يكن في الشعر العربي الذي كان بعد ظهور الإسلام، إلى أن ظهرت النهضة الحديثة، وليس هنا موضع الحديث عنها. (2) النثر

طبيعي أن يكون للجاهليين نثر يتكلمون به في شئون حياتهم، ولكن نثرهم الفني المنمق اللفظ الذي صيغ في قالب أدبي قليل عندهم بالنسبة لشعرهم؛ وطبيعي ذلك، فالنثر الفني لا ينضج إلا بالكتابة، ولأن الشعر وليد الخيال، والنثر وليد العقل، والأمة في بدء أمرها كالطفل، خيالها أكبر من عقلها، ولأن الشعر يسهل حفظه وروايته، والنثر يصعب فيه ذلك.

وأكثر ما روي لنا من نثرهم: (1) قصص تروى فيها أخبارهم وأيامهم، وقد ورد من هذا كثير في كتاب الأغاني، وهذا النوع قد روي بألفاظ من العصر الإسلامي - غالبا - احتفظ فيه الراوي بالمعنى. (2) مواعظ دينية، كالتي رويت لقس بن ساعدة. (3) خطب قيلت في المواقف الهامة، كالخطب يلقيها الحكم عند منافرة عظيمين من قبيلتين، وخطب الوفود حين كان يفد العرب على عمال كسرى. (4) أمثال، وهي من نوع ممتاز مملوء بالحكمة والتجربة، وقد اختلط جاهليها بإسلاميها إلا في القليل النادر. (5) سجع الكهان، وهو أقرب ما يكون إلى الشعر لما فيه من غموض وسجع يشبه القافية.

ولا نطيل بذكر النماذج فهي في متناول قراء العربية. (2-1) القرآن

يعد القرآن كتابا أديبا، كما أنه كتاب ديني، فهو من الناحية الأدبية آية في البلاغة، ومن ناحيته الدينية مبين للناس ما ينبغي أن تكون عليه عقائدهم وشعائرهم ومعاملاتهم، ويقتصر قولنا هنا على ناحيته الأدبية إذ هي موضوعنا.

فأسلوب القرآن لا يجري على وزن الشعر، ولا هو سجع بالمعنى الدقيق للسجع - وهو موالاة الكلام على وزن واحد - ولذلك سميت أواخر آياته فواصل عوضا عن القافية في الشعر أو الحروف المتحدة في السجع. والقرآن يراعي هذه الفواصل فيؤثر بذلك أيضا أثرا بليغا، فتارة يعبر بهارون وموسى في الفواصل الألفية، وتارة بموسى وهارون في الفواصل النونية، وهو - كما قلنا - لم يسر على قواعد السجع المألوفة من التزام تساوي الفقرتين، فقد تكون إحداهما قصيرة والأخرى طويلة، مثل:

ن والقلم وما يسطرون ، وأحيانا لا تتحد الحروف الختامية مثل:

وإن لك لأجرا غير ممنون * وإنك لعلى خلق عظيم ، ومع هذا فله من القوة البلاغية ما ليس للسجع التام. ومراعاة هذا التناغم واضحة في القرآن، فيحذف أحيانا ياء الفعل مراعاة للفاصلة، مثل:

والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر

أو حذف الياء مثل:

وكل شيء عنده بمقدار * عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال ، أو يستغنى بالإفراد عن التثنية نحو:

فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ، أو بالفرد عن الجمع مثل:

واجعلنا للمتقين إماما ، أو يقدم الضمير على ما يفسره نحو:

فأوجس في نفسه خيفة موسى

أو حذف ياء المتكلم مثل:

فكيف كان عذابي ونذر

إلخ، أو يزيد هاء السكت، مثل:

فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه * إني ظننت أني ملاق حسابيه * فهو في عيشة راضية ؛ وأغلب الفواصل في القرآن تنتهي بواو ونون أو ياء ونون، مثل:

فلا تطع المكذبين * ودوا لو تدهن فيدهنون ، أو ألف ودال مثل:

الذين طغوا في البلاد * فأكثروا فيها الفساد

أو ألف لينة مثل:

طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى ، أو حرف مد (من ألف أو واو أو ياء) ككثير من آيات سورة الإسراء. وقد تأتي الفاصلة حرفا لا يسبقه مد، وأكثر ما يكون ذلك في الآيات المكية، مثل:

اقتربت الساعة وانشق القمر ،

لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد * ووالد وما ولد

ونحو ذلك.

ونرى أن القرآن أحيانا يسلك مسلكا أدبيا خاصا، فيجعل للسورة آية تتكرر، تدور حولها الفواصل، مثل سورة المرسلات إذ تتكرر جملة

فويل يومئذ للمكذبين

عقب كل مجموعة من الفواصل، وسورة الرحمن تتكرر فيها كذلك

فبأي آلاء ربكما تكذبان ، وفي سورة القمر تتكرر

فكيف كان عذابي ونذر ، وكذلك في كثير من الآيات التي تقص سير الأنبياء. •••

ثم إن القرآن تتنوع أساليبه بين شدة ولين، وترغيب وترهيب، ووعد ووعيد، انسجاما مع السيرة النبوية، وموافقة لحال المسلمين والمشركين في أوقات نزول الآيات؛ ونلاحظ ذلك تمام الملاحظة إذا نحن أمعنا النظر في القرآن حسب ما روي من ترتيب النزول، وهو يختلف عما رتب به في المصحف، فهناك الآيات التي نزلت بمكة، والآيات التي نزلت بالمدينة، ثم الآيات التي نزلت بمكة تعاقبت في أزمان مختلفة وقف فيها المناهضون للدعوة مواقف مختلفة، وكذلك الآيات المدنية.

ففي الآيات المكية نراها تتجه اتجاها قويا نحو الدعوة إلى عبادة إله واحد هو رب العالمين، وبيده ملكوت كل شيء، وإلى الدعوة إلى الإيمان بيوم آخر فيه البعث والحساب، والمكافأة على الخير بخير، والشر بشر، والاستدلال على الله بآثاره في العالم

أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت ، وتقرير أن الأصنام عاجزة كل العجز عن أن تعمل عملا في الكون، ثم صور رائعة لما أعد في الجنة للمؤمنين، وفي النار للكافرين.

والآيات الأولى آيات قصيرة لها رنين قوي، تدعو إلى الله، وتقسم بالليل والنهار، والسماء والأرض، والشمس والقمر، والأماكن المقدسة، والوالد وما ولد، والنفس وما سواها، إشعارا بعظمة الله في خلقه.

وقد سالم المشركون محمد

صلى الله عليه وسلم

أول الأمر، ثم ناصبوه العداء ورموه بالكذب والجنون، فنزلت آيات القرآن شديدة على الكافرين، متوعدة أشد الوعيد، مصورة لكبرائهم صورة هزؤ وسخرية:

ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ،

ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا وعدده * يحسب أن ماله أخلده * كلا لينبذن في الحطمة * وما أدراك ما الحطمة * نار الله الموقدة * التي تطلع على الأفئدة * إنها عليهم مؤصدة * في عمد ممددة ،

تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب

السورة؛ ويهاجم الذين يعتزون بمالهم وجاههم ونسبهم، ويعد الله النبي بنصرته وإتمام نعمته:

ولسوف يعطيك ربك فترضى ،

فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا

ويذكر قومه بقصة ثمود، إذ خالفوا نبيهم وقتلوه

كذبت ثمود بطغواها * إذ انبعث أشقاها * فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها * فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها * ولا يخاف عقباها

وهي أول ما جاء في العبرة بالأمم السابقة، وموقفهم من أنبيائهم. ويحفل في هذه الفترة - رسول الله - ببعض الأغنياء، ويعبس في وجه الفقراء ، فيعاتبه الله على ذلك بقوله:

عبس وتولى * أن جاءه الأعمى

مبينا أن لا عبرة للغنى والجاه، ويشد الله أزر المؤمنين ويثبتهم، ويحثهم على التمسك بدينهم بما يضرب من أمثال المؤمنين في الأمم قبلهم:

قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . وهو إلى ذلك يوضح في قوة ما سيناله الكافرون من عذاب أليم، ولعل أوضح مثل لهذا سورة القارعة، وما سيناله المؤمنون من نعيم مقيم:

وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ * من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب * ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ؛ ثم يدعو إلى الصلاة والزكاة فيقول:

إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون * والذين في أموالهم حق معلوم * للسائل والمحروم .

ولبث القرآن في العهد المكي بعد المدة الأولى يحاج المخالفين، ويقص العبرة من سيرة الأولين من قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وآل فرعون، في فواصل أطول وأسلوب أهدأ، ويندر فيه القسم كما في الفترة الأولى، ويكثر فيه الخطاب بيا أيها الناس.

وفي القرآن في هذا العهد المكي قصة الإسراء، وكثير من قصص الأنبياء كقصة إبراهيم - ويشير في أكثر من موضع إلى أن إبراهيم أبو العرب ومنبع الإسلام ومصدر شعائر الحج - وقصص بني إسرائيل كقصة يوسف وموسى، كما أن فيه قصة مريم وعيسى ويحيي، وقصصا نصرانية كقصة أهل الكهف، والأسلوب فيها قصصي جميل، لا يتعرض للجزئيات والتفاصيل، ولا يكثر من ذكر الأشخاص وذكر التاريخ كما يفعل الكتاب المقدس، وإنما يعنى أكثر ما يعنى بموضع العبرة، ولكن في هذا العهد لم يجادل القرآن اليهود ولا النصارى إلا قليلا لقلة اليهود الذين كانوا بمكة ومسالمة النصارى.

فلما هاجر النبي إلى المدينة كان الشأن فيها غير الشأن في مكة؛ فأكثر سكان المدينة من الأوس والخزرج فشا فيهم الإسلام، وآمنوا به إيمانا صادقا على العكس من أهل مكة الذين لم يسلم منهم إلا القليل، وأسلم المسلمون من الأنصار والمهاجرين أمرهم إلى رسول الله يقودهم في دينهم ودنياهم كما يشاء الله، واستراح الأنصار - من الأوس والخزرج - مما كان بينهم من حروب وإحن، واستراح المهاجرون مما كان يؤذيهم به صناديد قريش في دارهم، وكان المدنيون أكثر ثقافة بالكتب المنزلة السابقة لليهود الذين يسكنون بينهم والنصارى على حددوهم، وكان هذا من الأسباب التي دعتهم أن يتقبلوا دعوة النبي، ويفهموا النبوة ومراميها أكثر مما فهمت قريش، ولكن كان بجانب هؤلاء المسلمين من الأنصار والمهاجرين قبائل يهودية، لهم مزايا العرب في الحروب والقتال ولكنهم - كشأن اليهود عامة - شديدو المحافظة على تقاليدهم وأوضاعهم وشعائرهم؛ فأبوا أن يتركوا شيئا من ذلك، وأبوا إلا الإصرار على دينهم وشعائرهم، وناصبوا النبي العداء، وأخذ الخلاف يشتد بينهم وبين المسلمين كلما تقدم الزمان وحدثت الأحداث.

وبجانب هؤلاء وهؤلاء قوم من الأوس والخزرج - حتى من رؤسائهم - حقدوا على الإسلام، إما لأن الإسلام أفقدهم رياستهم الدنيوية وإما لأنهم أتباع هؤلاء أو نحو ذلك، ولم يستطيعوا أن يجهروا بالخصومة لقلة عددهم، ولأن التيار العام هو تيار المسلمين فأسلموا ظاهرا وانطووا على الكفر باطنا، وسموا «المنافقين».

في هذا الجو الجديد نزلت الآيات المدنية تحمل على اليهود حملة شعواء، فهم يدبرون له الدسائس، وهم يمطرونه بالأسئلة المتعنتة، فيسألونه عن الروح وعن الأهلة وعن الساعة وعن ذي القرنين، ويشيعون عدم تصديقه فيما ينزل عليه، فجاء القرآن يكذبهم، ويذكر سلسلة أعمالهم التاريخية، وخصومتهم لأنبيائهم:

فريقا كذبوا وفريقا يقتلون .

وكذلك المنافقون كانوا يدسون ويمكرون، ويحاولون أن يفسدوا الخطط، فكان القرآن ينزل مبينا مكايدهم، متوعدا لهم سوء أعمالهم من غير ذكر أسمائهم لعلهم يهتدون، كذلك يجادل النصارى في عقيدة التثليث وألوهية المسيح.

وإلى جانب هذه الآيات في الجدال والتسفيه ونقض المؤامرات كانت الآيات الأخرى مخاطبة المؤمنين، مبينة لهم شعائرهم، راسمة لهم طريق حياتهم الدينية والدنيوية - وفي هذا العهد كان يخاطب المؤمنون بيا أيها الذين آمنوا - واضعة لهم القوانين، متممة لهم ما بدئ به في مكة من الشرائع والشعائر، ولذلك ترى أن الخطاب والإخبار كثيرا ما يتجه إلى هذه الطوائف الثلاث، مسميا لهم بطوائفهم:

يا بني إسرائيل ،

يأيها الذين آمنوا ،

وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض

وفي هذا العهد المدني يأتي التشريع للعائلة من زواج وطلاق ووصية وتوريث، ويوضع نظام المعاملات والعقوبات.

ولما كان القتال بين المسلمين في المدينة والمشركين في مكة، وبين المسلمين في المدينة واليهود فيها، كانت الآيات المدنية مبينة قوانين الجهاد، مسجلة لأحداث الغزوات؛ فآيات في غزوة بدر، وآيات في غزوة أحد، وسورة في غزوة الأحزاب وهكذا. وهي قوية قوة الحرب، حتى إذا تم فتح مكة نزلت سورة الفتح، وأخيرا نزلت:

إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .

ويغلب على الأسلوب في الآيات المدنية الطول مع التزام الفواصل التي أشرنا إليها قبل، ومع الهدوء الذي ينسجم والتشريع، وليست الآيات وحدها هي التي تطول، بل السور كذلك، ولذلك سميت بعض السور السبع الطوال. •••

وفي القرآن صور أدبية رائعة متعددة من جمال تشبيه كقوله:

والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ،

إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس ،

مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون - وحسن استعارة مثل:

بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ،

وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ،

ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ،

والصبح إذا تنفس ،

فضربنا على آذانهم ،

فذو دعاء عريض ،

وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ،

أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم .

والأمثال اللطيفة:

فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ،

ولكم في القصاص حياة ،

من يعمل سوءا يجز به ،

ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ،

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ،

كل نفس بما كسبت رهينة ،

تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ،

قل لا يستوي الخبيث والطيب ،

ولا ينبئك مثل خبير ،

قل كل يعمل على شاكلته ،

قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى .

ومن أمثلة الحجاج:

ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض ،

لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ؛ وفي الوعيد والتهديد:

وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل ،

وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي . وفي الترغيب:

وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون ، ونجد في بعض المواضع استعمال محسنات بديعية لم تكثر فتسأم مثل:

وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة ،

وجنى الجنتين دان ،

فروح وريحان ،

على شفا جرف هار فانهار به ،

ليريه كيف يواري سوأة أخيه ،

وإن يردك بخير فلا راد لفضله ،

يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر .

وإذا هجا في غير هجر:

أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون .

وإذا راجع أوجز وأجزل:

قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين .

وإذا وصف الله أو دلل عليه ففي إجلال وإعظام:

سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى ،

قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير * تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب ،

إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .

وعلى الجملة فالكلمات مختارة حروفها، والجملة منسجمة كلماتها، والفقر مؤتلفة جملها وشرح ذلك يطول. •••

والنثر الفني في العصر الأموي لم يرق كثيرا لحاجته إلى الإمعان والتروي بالكتابة، ومع هذا فقد خلف لنا هذا العصر بعض كتب دعا إليها تنظيم الحكومة والدواوين ووضع نظم للدولة، ككتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء، وكتاب علي إلى الأشتر النخعي في نظام الدولة (وهو مذكور في كتاب نهج البلاغة)، ويظهر أن له أصلا صحيحا وإن تزيد فيه بعد، فلما استخدم العرب الموالي في كتابة الدواوين، بعد أن عربوها ظهر موال مثقفون ثقافة فارسية أو يونانية وثقافة عربية، أمثال سالم مولى هشام بن عبد الملك، وتلميذه عبد الحميد الكاتب كاتب مروان بن محمد؛ فسالم كان يعرف اليونانية وعبد الحميد يعرف الفارسية، فحذقا صناعة الكتابة الديوانية، وخاصة عبد الحميد الكاتب فقد ابتكر في العربية الرسائل المطولة، المفصلة الموضوع، المرتبطة الأجزاء، فكتب الرسائل الرسمية كرسالته إلى ولي عهد مروان بن محمد على لسانه، وفي المسائل العامة كنصيحته إلى الكتاب، ونحو ذلك، ووضع للرسائل العربية نظاما احتذي فيما بعد، كصور البدء والختام والتحميدات.

وكان بجانب ذلك نوع من النثر يعد نموا للعصر الجاهلي من كتب وخطب تشبه خطب الوفود، وحكم تشبه أقوال أكثم بن صيفي، نجدها في كثير مما روي في هذا العصر، كأقوال الأحنف بن قيس، وما روي من أقوال العرب في كتب الأدب كالعقد الفريد، جمل حكيمة موجزة تشبه الأمثال، منفصلة كل جملة عن الأخرى، يعتمد في ربطها على الذهن وحده. والحق أن العرب أبدعوا في هذا النوع إبداعا عظيما، فجرت ألسنتهم بالحكم الدالة على حسن نظر وتجربة، والمركزة في جمل قصيرة منتقاة.

وإلى هذين نوع ثالث من الحكم والمواعظ الدينية متأثرة بتعليم القرآن وأحاديث الرسول، تدور حول قيمة العمل الصالح والزهادة في الدنيا والتخويف من عذاب الأخرى. وأحسن مثل لهذا ما روي عن الحسن البصري. وكل هذا في جمل قصيرة متلاحقة ليس فيها تفصيل ولا ربط لفظي ، ولهذا عد العرب ما جاء به عبد الحميد الكاتب من تفصيل وبسط وربط فنا مبتكرا.

ومن ضروب الفن الأدبي الخطابة، وقد جادت في العصر الأموي لكثرة الفتن والثورات وتعدد الأحزاب السياسية، وكان العرب فيها مهرة لاعتمادها على الفصاحة اللسانية لا الكتابة. وقد كان الولاة الذين يتولون الخطابة عربا يعرفون مناهج القول في الجاهلية وفي الوفود على كسرى، وفي الإسلام في الوفود على رسول الله وفي سقيفة بني ساعدة ونحو ذلك، وكانوا عارفين بنفسية العرب والظروف الاجتماعية والنفسية التي تحيط بهم، ويعرفون الألفاظ المنتقاة التي تتلاقى مع هذه الظروف، فمهروا في ذلك ونجحوا في خطبهم، وخدموا بذلك خلفاء الدولة الأموية خدمة لا تقل عن السيف. واشتهر من هؤلاء زياد بن أبيه في أول الدولة، والحجاج في وسطها، وخالد بن عبد الله القسري في آخرها، وكانوا في خطبهم يحافظون على التقاليد العربية من تزييهم بالزي العربي، واعتمادهم على القوس وقائم السيف. وممن برعوا في هذه الخطب الخوارج كقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان، وأبي حمزة الأباضي، فقد عرف عن الخوارج شجاعتهم المتناهية، وعيشتهم البدوية، وتحمسهم الشديد لمذهبهم وصفاء عربيتهم فكان ذلك كله داعيا لإجادتهم.

أما التأليف فلا يهمنا هنا إلا ما كان متصلا بالأدب كالتاريخ، فقد ولد التأليف فيه في العصر الأموي، فقد بدأ الرواة يروون أحوال العرب في جاهليتهم وأخبار الأمم الماضية؛ إذ كان بعض الخلفاء الأمويين مولعا بسماع أخبارها، وقد روي كل ذلك في شكل بدائي مملوء بالأساطير، مستعار مما يرويه الأخباريون عن الفرس، والكتب غير الموثوق بها في اليهودية والنصرانية، كما عنوا بشيء أقرب إلى الصحة وأدعى إلى الوثوق به وهو تدوين السيرة النبوية وأحداث الفتوح، ولكن أكثر ما كتب أو ألف في هذه الموضوعات لم يصل إلينا، وإن دخل معظمه في ثنايا ما ألف في العصر العباسي، مثال ذلك ما روي من أن عبيد بن شرية ألف كتاب الملوك وأخبار الماضين لمعاوية بن أبي سفيان، وما ألفه عروة بن الزبير في المغازي، وما روي عن وهب بن منبه اليهودي الأصل. •••

فلما جاء العصر العباسي رأينا أن عبد الحميد الكاتب أثر في الكتابة أثرا كبيرا بما ابتدعه من طريقته، التي من خصائصها إطالة الرسائل، وترتيب المعاني، وربط بعضها ببعض، والميل إلى المزاوجة، وأعني بها الفقر المتوازنة من غير التزام للسجع، وكثرة المترادفات، وخير الألفاظ، كقوله ينصح الكتاب: «وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه، وواسوه حتى يرجع إليه حاله، ويثوب إليه أمره، وإن أقعد أحدكم الكبر عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه، واستظهروا بفضل تجربته، وقدم معرفته.»

وقوله: «ولا يجاوزن الرجل منكم - في هيئة مجلسه وملبسه، ومركبه ومطعمه ومشربه، وبنائه وخدمه، وغير ذلك من فنون أمره - قدر حقه، فإنكم - مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم - خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير، وحفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير؛ واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم، وقصصته عليكم، واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف، فإنهما يعقبان الفقر، ويذلان الرقاب ... ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة، وأصدقها حجة، وأحمدها عاقبة.»

وقد تأثر في ذلك بأصله الفارسي كما ذكر أبو هلال العسكري، وجاء صديقه الفارسي أيضا عبد الله بن المقفع في الدولة العباسية فكان رافع لواء النثر الفني.

وهو ربما فاق عبد الحميد الكاتب في سعة ثقافته وكثرة إنتاجه، وتعرضه لضرب المثل الأعلى لكثير من الشئون الاجتماعية، كالسلطان والقضاء والصداقة، كما يمتاز بأنه رسم لمن بعده أحسن مثل في الترجمة إلى العربية عن الكتب المكتوبة باللغات الأخرى بترجمته كليلة ودمنة، وربما كان في أسلوبه أميل إلى الإيجاز من صديقه عبد الحميد، وأقرب إلى القصد في السجع والبديع، وربما أداه ذلك إلى الغموض أحيانا، وهو لسعة ثقافته يملأ أقواله بالحكم المأثورة والأمثال السائرة، وهو أكثر ميلا إلى التقسيم المنطقي في التعبير؛ فالموضوع واحد مرتبطة أجزاؤه كفقرات السلسلة، وكل فقرة مقسمة إلى جمل مترابطة، وهكذا.

وحسبنا أن نحيل القارئ على الأدب الصغير والكبير، ورسالة الصحابة وكليلة ودمنة، ليظهر له صدق ما ذكرنا.

وجرى على أثرها تلاميذهما من الكتاب، أمثال سهل بن هارون، والحسن ابن سهل، وعمرو بن مسعدة.

حتى أتى إمام الناثرين الجاحظ، فوضع قواعد النثر الفني علما، وطبقه عملا؛ فقد وضع في كتابه البيان والتبيين قواعد البلاغة في اختيار اللفظ وانسجامه مع المعنى، وفي الخطابة ونحو ذلك، ثم التزم ذلك فيما كتب وألف.

كان مثقفا ثقافة واسعة؛ ثقافة دينية في فروعها المختلفة، وثقافة كلامية، فقد كان أحد أساطين المعتزلة، والمعتزلة في ذلك العصر كانوا قادة الفكر، مزودين بالمعارف الواسعة في الفلسفة والدين، وكانوا حاملي لواء التفكير الحر حسبما يؤدي إليه النظر والمنطق، في حدود الدين. وكان مثقفا ثقافة فلسفية، إذ قرأ ما نقل إلى العربية من الفلسفة اليونانية في فروعها المختلفة. وكان مثقفا ثقافة أدبية؛ إذ قرأ الأدب على شيوخه، وحصل منه أقصى ما يمكن أن يحصله إنسان، ومزج كل ذلك وهضمه، ثم أخرجه للناس تأليفا ممزوجا بشخصيته، وكاد بتآليفه الكثيرة أن يمس كل موضوع في عصره من سياسة واجتماع واقتصاد، وحيوان، ونبات، وشعوب، ونحو ذلك، معروضا عرضا أدبيا فيه الفكاهة الحلوة، والاستطراد المريح. وخير كتاب له يمثل هذه الاتجاهات كلها «كتاب الحيوان» في سبعة أجزاء، ليس الكلام فيه على الحيوان أكثر الكلام.

وله الفضل الكبير على الأدب العربي في أنه جعل للأدب موضوعا يعنى فيه بالمعاني والمعلومات الواسعة، وفي أسلوبه الواسع الفضفاض المتدفق.

وأسلوبه إذا كتب كتابة أدبية أقرب إلى المزاوجة من غير التزام للسجع الدقيق، كقوله: «والكتاب وعاء مليء علما، وظرف حشي ظرفا، وإناء شحن مزاحا، إن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت سرتك نوادره، وشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مله، وبناسك فاتك، وناطق أخرس، ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب، والرفيع والوضيع، والغث والسمين؟ وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن، وروضة تنقل في حجر، ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من الأرض، وأكتم للسر من صاحب السر ، وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة ... إلخ.»

وقد أثر الجاحظ فيمن أتى بعده من الكتاب أثرا بليغا من حيث موضوعاته وأسلوبه، فإذا نحن قرأنا لعبد العزيز الجرجاني في كتابه الوساطة بين المتنبي وخصومه، أو لعبد القاهر الجرجاني في كتابيه «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة»، أو بعد ذلك لأبي حيان التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، أو «الصداقة والصديق»، أو «المقابسات»، رأينا أثر الجاحظ في كل ذلك واضحا جليا حتى لقب أبو حيان بالجاحظ الثاني.

وجاءت بعد ذلك طبقة تبتعد قليلا قليلا عن المزاوجة، وتقترب قليلا قليلا من التزام السجع الكامل، ونرى مصداق هذا التحول في كتابات الثعالبي في مثل كتابه «يتيمة الدهر»؛ فلما تم هذا التحول نرى السجع غالبا في مدرسة على رأسها ابن العميد، ومن رجالها أبو إسحاق الصابي، وأبو بكر الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، والحريري.

وهؤلاء لم يكتفوا بالسجع المطلق، بل نمقوه بكثير من أنواع البديع، كقولهم: «من ألبسه الليل ثوب ظلمائه، نزعه عنه النهار بضيائه.» وكقولهم: «قاصم الأصلاب، وقاسم الأسلاب.» وكقولهم: «يتردد بين الرخاء والبأس، والرجاء واليأس.» وكقولهم: «إذا حالف فأحسبه قد خالف، وإذا أعار فأحسبه قد أغار.»

وتفننوا في ذلك وأكثروا حتى قد يؤلفون الكتاب كله مسجوعا، كما فعل العتبي في كتابه «اليميني»؛ «وقلائد العقيان» للفتح بن خاقان، وتلون الأدب كله بهذا اللون السجعي، ونسي الترسل والازدواج، واتبع ذلك في الكتب الرسمية والإخوانيات، وغير ذلك إلا في القليل النادر.

وقد نقد أبو حيان التوحيدي الصاحب بن عباد في ولعه بالسجع فقال: «كان يبلغ به حب السجع أنه لو رأى سجعة تنحل بموقعها عروة الملك، ويضطرب بها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل، وكلفة صعبة ... لما كان يخف عليه أن يخليها، بل يأتي بها ويستعملها.»

وقد وصف هذه الحال ابن خلدون أجمل وصف، ونقده أشد نقد، فقال: «وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر، وموازينه في المنثور من كثرة الأسجاع والتزام التقفية، وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، لم يفترقا إلا في الوزن، واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة، واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وسلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل. وتناسوه وخصوصا أهل المشرق.»

ويعلل ذلك بفقر الكتاب في المعاني وغلبة العجمة على الألسنة فيقول: «وما حملهم على ذلك إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة، وانفساح خطوبه، وولعوا بهذا السجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك.»

وإلى جانب السجع تفننوا في ضروب من الأفانين ككتاب يقرأ من آخره إلى أوله، وكتاب إذا قرئ من أوله إلى آخره كان كتابا، وإذا عكست سطوره مخالفة كان جوابا، وكتاب ليس فيه حرف منفصل كراء منفصلة أو دال منفصلة، أو كتاب أول سطوره كلها ميم، أو كتاب إذا فسر على وجه كان مدحا، وإذا فسر على وجه آخر كان ذما، أو كتاب كله حروف معجمة أو كله حروف مهملة ... إلخ. (2-2) النثر القصصي

كان من أثر الفتوح الإسلامية، ودخول كثير من الأمم المختلفة في الإسلام أن حملت كل أمة أسلمت أو خضعت للإسلام قصصها، فكان بين يدي المسلمين قصص هندية وفارسية ويونانية ورومانية ومصرية، وكل هذه كانت تقص في المملكة الإسلامية باللغة العربية بعد أن دخل أهلها في الإسلام؛ فبدأت عند الكتاب فكرة تدوينها وجمعها، فترجم ابن المقفع كليلة ودمنة عن اللغة الفارسية المترجمة عن الهندية.

ويمكننا القول إن هذا القصص اتخذ شكلين: شكل قصص شعبي يحكى بلسان العامة أو بلغة عربية قريبة من اللغة الشعبية، وقصص أرستقراطي يترجم أو يؤلف بلغة أدبية راقية.

فكان من القصص الشعبي ألف ليلة وليلة، وكانت في عهدها الأول نحو مائتي حكاية موزعة على ألف ليلة، ثم ظلت تنمو مع الزمن؛ وقصة السندباد البحري ولم تكن ملحقة بألف ليلة. وروي لنا أن الجهشياري ألف كتابا على نسق ألف ليلة وليلة اختار فيه أسمارا من أسمار الأمم، ومات قبل أن يتمه وهو لم يصل إلينا. ووجدت قصص أخرى كثيرة ضاع أكثرها، حكي لنا أسماءها ابن النديم في كتابه «الفهرست»، وحكي حمزة الأصفهاني المتوفى سنة 530ه أنه كان في عصره من كتب السمر التي تتداولها الأيدي ما يقرب من سبعين كتابا.

أما القصص الأرستقراطي المكتوب بلغة الأدب فكتاب كليلة ودمنة المترجم، ثم أخذ الأدباء يعنون بالتأليف الأدبي القصصي، ومن أشهر هذا الضرب في العصر العباسي المقامات؛ مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري.

والمقامات جمع مقامة، وهي المجلس أو الجماعة من الناس، سميت بذلك لأن الشأن فيها أن كل مقامة تقص في مجلس واحد يجتمع لسماعها جماعة، وكل مقامة حكاية قصيرة تدور حول حيلة يحتالها رجل لكسب شيء من المال عن طريق التكدي، صيغت في أسلوب أدبي. وكل مقامات مؤلف تجعل بطلها رجلا واحدا يمثل دور المحتال لقنص المال في كل مقامة، وهو أبو الفتح الإسكندري في مقامات البديع، وأبو زيد السروجي في مقامات الحريري.

هذا في الأصل، وإن وضعت مقامات بعد في غير الكدية كمقامات الزمخشري في الوعظ، ونحو ذلك.

وأسلوب البديع في مقاماته أسهل وأقل تقيدا بالسجع والمزاوجة، وهو أخف روحا وألطف نفسا وأكثر دعابة. وأسلوب الحريري أكثر مادة لغوية، وأجود شعرا، وأكثر التزاما للسجع وأنواع البديع، وأكثر تفننا في احتيال بطلها.

وكلاهما إذا قسناه بمقياس أصول الرواية من حيث التصميم والتشخيص والحوار، ونقد الحياة وشرف الموضوع لم يبلغ في الفن القصصي منزلة رفيعة، ولكن إذا نظرنا إليه من حيث مادته اللغوية وأساليبه الفنية والمهارة اللفظية كان - من غير شك - موضع الإعجاب.

وربما كانت رسالة الغفران التي ألفها أبو العلاء المعري - والتي ألفت في نفس الوقت الذي ألفت فيه مقامات الحريري تقريبا - أمعن في باب الخيال وأدخل في باب القصة، وإن كانت كذلك مليئة بالاستطراد الأدبي واللغوي مما أبعدها عما تستحقه في باب الرواية، وهي نوع من «الكوميديا الإلهية»؛ وكثيرا ما يقرن اسمها بالكوميديا الإلهية لدانتي، وأبو العلاء أسبق منه . وقد عرض فيها أبو العلاء للشعراء والزنادقة، ومن غفر الله لهم ومن لم يغفر، ومكانهم في الجنة أو النار، كما عرض للآراء الدينية والمعتقدات الشائعة في أسلوب ملفوف ساخر.

ولعل من الواجب أن نذكر هنا قصة ممتعة حقا، قصة فلسفية محبوكة، فيها الفن القصصي أكثر إتقانا وأمتن سبكا، وهي قصة «حي بن يقظان» ومؤلفها هو ابن طفيل الأندلسي المتوفى سنة 581م، وبطل القصة «حي» ولد في جزيرة من جزر الهند تحت خط الاستواء ، وقد نشأ في هذه الجزيرة وحيدا لا يرى بها أحدا من بني آدم فأرضعته ظبية، ونشأ نشأة الظباء يحاكي صوتها في الاستدعاء والاستئلاف، وتعلم المشي واستطاع بالملاحظة والتجربة والتفكير والتأمل أن يحصل غذاءه؛ وما زال عقله ينمو وتجاربه تكثر، وتأمله ينضج حتى حصل من المعارف فيما حوله من الطبيعة قدرا كبيرا، ثم أكثر من التفكير في نفسه فجمع بين الملاحظة الخارجية والملاحظة الداخلية. ولما قارن بين نفسه وبين الحيوانات التي حولها وجدها مستورة وهو عار، ومسلحة وهو أعزل، فأخذ بعقله يستر نقصه فستر جسمه، واتخذ من الأدوات الطبيعية سلاحا يتغلب به على الحيوان، وكلما نما زاد تفكيره في الأمور المعنوية. فلما ماتت أمه الظبية أخذ يفكر فيما عرض لها ويشرح جسمها ليعرف سر موتها، واهتدى بتفكيره إلى أن القلب مصدر الحياة وفيه الروح الحيواني, وقارن بين الأعضاء في الحيوانات المختلفة وبين النبات والحيوان، واهتدى بالتأمل إلى أن جميع الأشياء في الحقيقة تؤلف وحدة، وأن الأجسام من جمادات وأحياء إنما هي مركبة من الجسمية ومن شيء وراء الجسمية، واهتدى بذلك إلى العالم الروحاني، وآمن بقانون السببية وطبقه على جميع ما يحدث حوله. وأخيرا اهتدى إلى الله بتفكيره، وما زال يرقى حتى وصل إلى أرقى أنواع التصوف من الاستغراق والفناء في الله وأن لا شيء في الوجود غير الحق.

وأخيرا وصل إلى الجزيرة رجل صالح اسمه «آسال» رحل إلى هذه الجزيرة طلبا للعزلة في عبادة الله، فتعرف بحي بن يقظان وعلمه الكلام، وكان آسال متدينا أخذ تعاليمه عن رجال الدين الذين تلقوا علمهم خلفا عن سلف عن الأنبياء، فعرض كل من حي وآسال تعاليمه على الآخر، عرض «حي» ما وصل إليه بطريق التفكير المحض، وعرض آسال ما وصل إليه عن طريق الأنبياء، فوجدا أن الأساس في تعاليمهما واحد، غاية الأمر أن «حيا» فيلسوف كل مبادئه تناسب الفلاسفة، أما تعاليم الأنبياء فممزوجة بأشياء أتى بها لتناسب العامة والشعب.

وقد عجب حي لما حكى له آسال معيشة الناس في الجزر الأخرى واعتقاداتهم المشوبة بأشياء لا ترضى عنها الفلسفة، وأراد أن يعظ الناس ليقتصروا من الديانات على المبادئ الفلسفية، فرحل ووعظ، ولكنه فشل فترك الناس ومعتقداتهم، ورجع مع صاحبه آسال إلى جزيرته يتأمل ويرتاض ويتصوف ويتفلسف إلى أن مات.

والقصة فلسفية لذيذة ظريفة الأسلوب عميقة الفكرة، وفيها نظرات دقيقة في كل ما يعرض له.

وقد تأثر بهذه القصة الروائي الإنجليزي دانيال دي فو

11

في رواية روبنسن كروزو، وصور رجلا عاش وحيدا، واستطاع أن يعيش مدة ثمانية وعشرين عاما في جزيرة خالية، وتوصل بعقله إلى أن يكشف كثيرا من الأمور العملية والصناعية ثم يهتدي إلى الله.

والفرق بينهما أن «حيا» فيلسوف ينظر إلى الحياة بعينه الفلسفية وروبنسن رجل عملي يستخدم عقله في شئون الحياة وتصريفها، وإن اهتدى أخيرا إلى الله وتصريفه للكون. (2-3) التاريخ

وبعد أن عني المسلمون بتاريخ السيرة والمغازي في آخر العهد الأموي - كما أسلفنا - اتجهوا إلى تدوين تاريخ الفتوح، وكان من أشهر من عني بذلك أبو جعفر أحمد بن يحيى البلاذري (279ه)، فألف كتابه فتوح البلدان، ذكر فيه أخبار الفتوح الإسلامية من أول الفتح الإسلامي إلى آخره؛ يذكر فيه الفتح وأخباره قطرا قطرا بل وبلدا بلدا، مع حسن التعبير ورصانة القول، ثم هو يعرض أثناء كتابته في الفتوح لمعلومات اجتماعية ومالية. ومن أقدم المؤرخين الإسلاميين ابن واضح اليعقوبي (278ه)، رحل إلى الهند ومصر وبلاد المغرب، وألف كتابا في مجلدين: الأول في التاريخ القديم من آدم إلى ظهور الإسلام، ويدخل فيه أخبار الإسرائيليين والسريان والهنود واليونان والرومان والفرس والنوبة والعرب في الجاهلية ؛ يدون فيه معارف عصره التاريخية بأساطيرها وخرافاتها، والثاني في تاريخ الإسلام إلى زمن المعتمد على الله سنة 209ه مرتبا حسب الخلفاء. وكان اليعقوبي شيعيا فلون تاريخه باللون الشيعي من العطف عليهم، والنقد الهادئ لبعض أعمال العباسيين.

ثم جاء ابن جرير الطبري (المتوفى سنة 310ه) فألف أعظم كتاب في التاريخ الإسلامي واسمه «تاريخ الرسل والملوك»، وبدأه بتاريخ الأنبياء والملوك في الأمم القديمة، ثم تاريخ الفرس في عهد الساسانيين، ثم السيرة النبوية والخلفاء الراشدين، وهكذا إلى سنة 302ه. وقد جرى من بدء تاريخه للمسلمين على حسب ترتيب السنين، فما حدث من الأحداث في السنة الأولى الهجرية ثم الثانية، وهكذا.

وقد اعتمد الطبري فيه على ما ألف قبله من الكتب، وعلى سماعه من رواة الأخبار، وساعده على ذلك رحلاته الكثيرة إلى الأقطار والأخذ عن شيوخها؛ فهو من طبرستان، ورحل إلى بغداد، ثم شخص إلى مصر فالشام، ثم عاد إلى العراق، وفي كل ذلك يلتقي العلماء ويأخذ عنهم في التفسير والحديث والفقه والتاريخ.

وسلك في التاريخ مسلك المحدثين، فهو يروي الحادثة التاريخية بالسند عن فلان عن فلان، وإذا رويت في الحادثة جملة روايات قصها بأسانيدها، ولذلك عد عمدة المؤرخين، كما عد كتابه في التفسير عدة المفسرين.

وهو إلى جانب قيمته التاريخية ذو قيمة كبيرة أدبية، فهو يروي ما يروي بأسلوب جزل ضخم، وفي خلال قصته يروي مأثور القول ومأثور الشعر، وما أثر من خطب وحوار ومساجلات، ونحو ذلك مما يعد ذخيرة أدبية كبيرة. وكل من ألف في التاريخ الإسلامي بعده كان عالة عليه.

وجاء المسعودي (المتوفى سنة 346ه) فنهج في تأليفه منهجا آخر، فلم يقتصر على الفتوح كما فعل البلاذري، ولا على ذكر الأحداث حسب السنين كما فعل الطبري، ولا وجه كل عنايته لتاريخ الأنبياء والملوك، بل وسع معارفه من ناحية خاصة وهي ناحية الشعوب وجغرافيتها وأديانها وعوائدها وحالتها الاجتماعية والسياسية، واستفاد في ذلك كله من رحلاته العديدة البعيدة، فقد رحل إلى الهند وسار إلى «ملتان»، ثم قصد «سيلان»، ومن هناك ركب البحر إلى الصين، وطاف في البحر الهندي إلى مدغشقر، ومنها إلى عمان، ورحل رحلة أخرى إلى أذربيجان وجرجان، ثم إلى الشام وفلسطين، ثم استقر بمصر ونزل الفسطاط وتوفي بها.

وقد ألف كتبا كثيرة لم يصل إلينا - مع الأسف - إلا أقلها. وأهم ما وصل إلينا كتاب «مروج الذهب»، ذكر فيه الأمم القديمة أيضا وأديانهم وعاداتهم، ثم تاريخ الأمة الإسلامية. ويتجلى فيما كتب ثقافته الواسعة وتجاربه الكثيرة التي أشرنا إليها، ففيها نظرات اجتماعية وسياسية وفوائد كثيرة من هذه النواحي لا نجدها في غيره .

وربما وجب أن نقف على مؤلف آخر في التاريخ له مسحة خاصة، هو كتاب «تجارب الأمم» لمسكويه، أو كما هو المشهور ابن مسكويه (421ه)؛ فقد كان في ظل الدولة البويهية، وكان مثقفا ثقافة فلسفية، وكان مجوسيا وأسلم. وقد ألف هذا الكتاب في تاريخ الأمم، ويمتاز بأنه لم يجمع الحوادث كما جمع غيره، وإنما عني بتخير أهمها والتعليق عليها والوقوف على موضع العبرة منها. فإن كان الطبري عالم دين يتأثر تاريخه بثقافته الدينية، وكان المسعودي رحالة جغرافيا أخباريا، فمسكويه فيلسوف أخلاقي يحتل مكانته في السياسة الواقعية، وتتأثر كتابته التاريخية بذلك كله، يعنى بالحكم على أخلاق الأشخاص وموضع المدح والذم منهم، ويعرف كيف تدبر المؤامرات والدسائس، ولا يؤمن بالأحلام والتنجيم والشعوذات والولايات، وإنما يؤمن بمنطق الواقع، وربما دل اسم كتابه «تجارب الأمم» على منزعه في كتابة التاريخ. وأسلوبه في كتابة التاريخ أسلوب العالم لا الأديب.

وهناك كتب في التاريخ غلبت عليها الصبغة الأدبية كالتاريخ المعروف باليميني، الذي ألفه أبو النصر العتبي في سيرة محمود بن سبكتكين، وقد وضعه كله سجعا، وتلاه عماد الدين الأصفهاني في كتابه «الفتح القدسي في الفتح القدسي»، وصف فيه فتح صلاح الدين لبيت المقدس.

وتنوعت كتب التاريخ عند العرب من تاريخ عام إلى تاريخ خاص ببلد، إلى ترجمة رجال، إلى تاريخ علماء بلد، إلى تاريخ علماء مذهب أو فرقة دينية أو فلاسفة أو أطباء، إلى غير ذلك مما قل نظيره في الكثرة والوفرة عند أمة أخرى، وإن كان يؤخذ على أكثره عدم العناية، وعدم التوسع في شرح الحالات الاجتماعية للأمم المؤرخة، وقلة النقد للمصادر والروايات، وقلة التحليل الوافي الثاني إلا في القليل النادر، كما يؤخذ عليه الإجادة عند النظر الجزئي في الحادثة، والتقصير في النظر الكلي الشامل، وربط الحوادث بعضها ببعض. (2-4) الفلسفة

عندما جاءت الدولة العباسية وبسطت سلطانها كانت الفلسفة اليونانية قد انتقلت من اليونان إلى العراق باللغة السريانية؛ فسرجيس الرسعني

12

الطبيب العراقي كان قد ترجم إلى السريانية كثيرا من الكتب اليونانية الإلهية والأخلاقية والتصوفية والطبية والطبيعية، وكان على علم وافر بنتاج مدرسة الإسكندرية، وجاء بعده يعقوب الرهاوي وغيره، فاستمروا في النقل، وصبغوا الفلسفة اليونانية صبغة مسيحية، واستعانوا بمنطق أرسطو الذي ترجموه على المجادلات الدينية؛ فجاء الخلفاء العباسيون وشجعوا نقل هذه الفلسفة من اللغة السريانية إلى العربية، والذين بدءوا بهذا النقل في أول الأمر كانوا هم السريان أنفسهم، فنقل في عهد أبي جعفر المنصور كتب في الطبيعة والطب والمنطق، ثم تتابعت الترجمة في سائر فروع الفلسفة. وكان أشهر المترجمين حنين بن إسحاق (260ه)، ومدرسته التي كان منها ابنه إسحاق بن حنين وابن أخته حبيش بن الحسن، وجاء بعدهم في القرن الرابع متى بن يونس، ويحيى بن عدي المنطقي وغيرهما، فأكملوا ما بدأ السابقون.

وكان طبيعيا أن الفلسفة اليونانية يدخلها عند نقلها إلى العرب شيء من الخلط، فينسب إلى أرسطو ما ليس له، ولأفلاطون ما هو لأفلاطين وهكذا. وقد أثر هذا الخلط بعض الأثر في فهم المسلمين للمذاهب اليونانية، وبدأ المسلمون بعد هذه الترجمة إلى العربية يدرسون الفلسفة ويتفهمونها، ويوفقون بينها وبين تعاليم الإسلام، ويخلعون على بعض فلاسفة اليونان بعض صور المسلمين كما فعل النصارى من قبل.

ومر أثر الفلسفة اليونانية في المسلمين في دورين: «دور علم الكلام»، ثم «دور الفلسفة الصرفة».

ففي دور علم الكلام أخذ المسلمون يقيمون الدين على أساس من الفلسفة والمنطق، ويحاجون غيرهم من أرباب الديانات الأخرى، وقام بهذه الحركة أول الأمر المعتزلة، فوسعوا ثقافتهم حتى شملت الفلسفة اليونانية، وخصوصا أبا الهذيل العلاف والنظام والجاحظ، ويثيرون في بحوثهم كثيرا من الإلهيات والطبيعيات والعلاقة بين الله والإنسان، والعلاقة بين الإنسان والطبيعة. كل ذلك على أساس الدين، فبحثوا في الجبر والاختيار وأفعال العباد وعلم الله، وبحثوا في الشر وعلته، وفي قدرة الإنسان على خلق أفعاله، وسلطة العقل ومقدرته على المعرفة ونحو ذلك. وجاء الجاحظ فوسع دائرة البحث في الطبيعة والحيوان على أنها من دلائل قدرة الله وعظمته. وعن المعتزلة أخذ غيرهم من المتكلمين منهجهم وإن خالفوهم في بعض معتقداتهم كما فعل أبو الحسن الأشعري.

ثم جاء دور الفلسفة الصرفة تعنى بالفلسفة اليونانية وفهمها وشرحها والتعليق عليها وتلونها بلون الإسلام لونا خفيفا. وكان من أول المشتغلين على هذا النمط أبو يعقوب الكندي، وكان مرحلة الانتقال بين الكلام والفلسفة، وكان عربي الأصل من كندة فسمي «فيلسوف العرب». وقد رووا عنه أنه كان يعرف اليونانية ويترجم منها إلى العربية بنفسه، وأمعن في دراسة الرياضيات والطبيعيات، وتبحر في دراسة الفيثاغورية الحديثة والأفلاطونية الحديثة وتأثر بهما في مذهبه، كما تأثر بكتب أرسطو كما نقلت له وكما أصلحها هو، وألف في ذلك كتبا كثيرة وصل إلينا بعضها، وقد أفاض فيها بحث العقل ونظرية المعرفة.

ثم جاء بعده الفارابي، فكان أعمق تفكيرا، وأوسع اطلاعا، وأنضج رأيا، وحياته أكثر انطباقا على حياة الفلاسفة من صدوف عن الدنيا، وانقطاع للنظر والتأمل. وقد اتخذ أرسطو إمامه، وسماه المسلمون «المعلم الثاني»؛ إذ كان أرسطو هو المعلم الأول، فهو الذي عني بفلسفة أرسطو وتقريبها إلى أذهان فلاسفة المسلمين، وقد ألف كتبا كثيرة في المنطق وفي الإلهيات، بحث فيها في الله، وفي العالم السفلي، وفي العالم العلوي، وفي النفس الإنسانية، وفي العقل وفي الأخلاق، وفي السياسية.

وقد كانت كتب الفارابي أستاذا للفيلسوف المشهور ابن سينا، وهو أكثر فلاسفة المسلمين تأليفا في الفلسفة وشرحها، ويكتب الموسوعات الكبيرة، والمختصرات الصغيرة، والمطنبة والموجزة، وفي بعضها حلاوة الخيال والشعر على أسلوب أفلاطون وفي بعضها العمق والغموض والواقعية على نمط أرسطو، وهو يمزج الفلسفة اليونانية بالحكمة المشرقية، وينظر إلى العالم كوحدة يوجه إليها نظراته أحيانا جزئية ، وأحيانا كلية، فقل أن تجد شيئا في العالم لم يتعرض له بالبحث في تأليف من تآليفه، مقلدا في ذلك أرسطو.

وتألفت في البصرة في القرن الرابع الهجري جماعة تسموا «إخوان الصفاء» وضعوا رسائل فلسفية تشمل ما عرف من الفلسفة في عصرهم ممزوجة بالدين، وملونة بالتشيع، وتتكون من إحدى وخمسين رسالة في الرياضيات والمنطق والطبيعيات والإلهيات. ومن حين لآخر ينفثون في كتابتهم آراءهم السياسية وسخطهم على النظام القائم في زمنهم والخوف من اضطهادهم، والأمل في قلب هذا النظام، وحلول آخر خير منه محله، ولعل الذي كانوا يأملونه هو نظام الدولة الشيعية من إمام معصوم يملأ الأرض عدلا. وهم في رسائلهم متسامحون مع الديانات الأخرى، معظمون للأنبياء والفلاسفة ودعاة الدين من كل ملة.

ومن أقوم هذه الرسائل رسالة الحيوان والإنسان، ففيها استطاعوا أن يضمنوا انتقادهم للحياة الاجتماعية نقدا لاذعا على طريقتهم الرمزية.

وكذلك أينعت الفلسفة الإسلامية في المغرب متأثرة بأسلوب المشرق، فنبغ ابن باجه وابن الطفيل، ثم الفيلسوف الكبير ابن رشد القرطبي. وكان أكثر الفلاسفة كلفا بفلسفة أرسطو وإخلاصا لها، شرحها وقربها إلى الأذهان.

وجاء الغزالي فتسلح بالفلسفة ثم هاجمها بسلاحها، فأعلن الحرب عليها في كتابه «تهافت الفلاسفة» يريد إفساد مذاهبها وقصور أدلتها، ويقصد من وراء ذلك الدعوة إلى إحلال الدين والتصوف محل الفلسفة، والقلب والذوق محل العقل. ولقد نجح في دعوته هذه عند الجمهرة العظمى من المسلمين بما كان له من قوة خطابية فائقة، وأسلوب واضح قوي، رغم ردود الفلاسفة عليه أمثال ابن رشد في تأليفه في الرد عليه «تهافت التهافت».

وكان لابن سينا وابن رشد والغزالي أثر كبير في الأوربيين في العصور الوسطى، فأول ما اشتغلوا بالفلسفة نهلوا من فلاسفة العرب، وتعلموا عليهم، إما مباشرة أو بواسطة اليهود الذين تعلموا في الأندلس على ابن رشد وتلاميذه. واستفاد المسيحيون من دفاع الغزالي عن الدين، واقتبسوا كثيرا من أقواله في إثبات الخلق من العدم، وشمول علم الله للجزئيات، والبعث بعد الممات ونحو ذلك.

وظلت الفلسفة الإسلامية، وكتبها العربية هي المنبع الذي يستقي منه فلاسفة الغرب، إلى أن وضعوا يدهم على المنابع الأصلية من كتب الفلسفة اليونانية. •••

وبعد، فما منزلة الأدب العربي بين الآداب التي استعرضناها، وخاصة الأدب اليوناني والروماني وآداب أوروبا في القرون الوسطى؟ ما جوانب القوة فيه، وما جوانب الضعف؟ هل هو مع الآداب الأخرى يقف على سلم واحد ذي درجات كل أدب يقف على درجة مرتفعة أو منخفضة، أو هناك سلالم مختلفة، يقف الأدب العربي منها على سلم خاص؟ هل الأدب في جميع الأمم وفي كل العصور متكون من عناصر ثابتة ، وإنما تختلف هذه العناصر فقط رقيا وانحطاطا، أو أن العناصر تختلف، وفي الأدب العربي عناصر تخالف الأدب الغربي والعكس؟

هذه أسئلة من العسير جدا الإجابة عنها، وخاصة في مثل هذا الكتاب الذي يحاول أن يقدم صورة عامة لكل أدب.

لا شك أن الأدب العربي في الجاهلية كان أدب أمة واحدة هي الأمة العربية في جزيرة العرب، فكان متأثرا في الأعم الأغلب بهذه البيئة الطبيعية والاجتماعية. وإذا كانت هذه البيئة العربية تخالف البيئات الأخرى - كالبيئة اليونانية والرومانية - كان طبيعيا أن يختلف عنها بوحي البيئة، فالجمل وبكاء الدمن والأطلال وعادات القبائل وتاريخها ونحو ذلك أثر في اللغة العربية تأثيرا لم تخضع له الآداب الأخرى على هذا الوضع.

في كل أدب عناصر إنسانية اشتركت فيها الآداب عامة في كل العصور، كالحب وما يستتبع من غزل، وأخلاق الناس وما فيها من رفعة أحيانا، وضعة أحيانا، ووجود طامعين دساسين، وبجانبهم أخيار كرماء عادلون ونحو ذلك. كل هذا ملازم للإنسان من حيث هو إنسان، وكل هذا عالجته الآداب المختلفة، والخلاف بينها في طرق العرض.

وبجانب ذلك أشياء خاصة هي نتيجة البيئة الخاصة، كأنواع التشبيهات المشتقة من البيئة الصحراوية البدوية، فإنها تخالف تلك المشتقة من البيئة البحرية أو الحضرية، ونوع الأساطير الدينية، ونحو ذلك. ومقياس مقدرة الأمة الأدبية - إذن - ليس في نوع ما عرضوا، ولكن بمقدار استخدامهم لبيئتهم في أدبهم. والحق أن الأمة العربية الجاهلية استخدمت بيئتها في أدبها استخداما يدعو إلى الإعجاب، فلم تترك صغيرة ولا كبيرة إلا أولتها عنايتها، وأفاضت عليها الطبيعة من فصاحة القول وقوة اللسن ما يصح أن تقف به أمام الأمم الأخرى مباهية.

فلما جاء الإسلام وامتدت فتوحه، وتحولت ألسنة الداخلين فيه إلى اللسان العربي، وأخذوا يساهمون في النتاج الأدبي، أصبح الأدب العربي أدب أمم لا أدب أمة واحدة، وأدب بيئات مختلفة لا بيئة واحدة؛ أصبح يشارك في إنتاجه الفارسي والهندي والشامي والمصري والمغربي، وأصبح كل عنصر يدخل في الأدب شيئا من خصائصه في الأخيلة والتشبيهات وفي العقلية والصياغة الفنية، وكان هناك عاملان تفاعلا: القالب الجاهلي القديم - بأساليبه وموضوعاته - والعقلية والصياغة والأخيلة والموضوعات التي للأمم المفتوحة. وهذان العاملان تنازعا كتنازع المحافظين والأحرار، وكان من مظاهر هذا النزاع حركة الشعوبية، وأنصار القديم وأنصار الجديد من العلماء، ثم كانت النتيجة المصالحة، أعني أن ينزل كل عن بعض دعاويه، وفاز القديم بالقوالب والموضوعات، وفاز الجديد ببعض الصياغة وبعض الموضوعات، وربما كان حظ دعاة القديم في الشعر أكثر، وحظ دعاة الجديد في النثر أوفر.

وعلى الجملة كان للأدب العربي المتكون من هذه العوامل طابع خاص وملامح مميزة.

فالذوق الذي يتذوق الأدب اليوناني والروماني قد لا يتذوق الأدب العربي إلا بجهد وطول ممارسة، والعكس، ولكن هذا لا يقدح في الأدبين كذوق الأمة في نوع عمارتها وهندسة أبنيتها، ونوع أطعمتها وأشربتها. لقد يخالف ذوق الأمة الأخرى وقد يكون ذلك الاختلاف نتيجة البيئة الطبيعية والاجتماعية، وقد يكون الذوقان معا - مع اختلافهما - راقيين، ومن العسير وجود حكم محايد في هذا لا يكون متأثرا بتذوق أحد الأدبين بحكم نشأته أو طبيعته أو تربيته؛ فإن نحن قاربنا وجدنا أن الأدبين اليوناني والروماني وما تفرع عنهما ربما كانت أوفر موضوعا وأكثر تنوعا وأكثر تفننا في نقد الحياة في أشكالها المختلفة الخاصة منها والعامة. أدب الملاحم وسع خيالهم، وأدب التمثيل وسع نقدهم في السياسة العامة للحكومات وللقادة والزعماء، وللحياة العامة ولحياة الأفراد الشعبية، والأدب العربي لم يتجه هذا الاتجاه في وفرة وكثرة، وإن وجد منه بعض أمثلة. أما الأدب العربي فغني غنى تاما في بعض النواحي، من أهمها ناحية الأدب الذي سميناه أدبا غنائيا، أعني وصف الأديب مشاعره من فخر وحماسة وغزل وهجاء ورثاء ومديح، وخاصة الحب؛ فقد برع الأدب العربي فيه، ونوعه من حب عذري إلى حب شهواني، ومن حب مادي إلى حب فلسفي، ومن وصف للجمال الحسي إلى وصف للجمال المعنوي، فهذه النواحي قد تفوق فيها الأدب العربي تفوقا كبيرا، واهتزت عواطف الأديب فيها إلى درجة كبيرة، وتفنن ما شاء له التفنن في عرض الصور حتى كاد يستوفيها مع قوة وروح وحرارة ؛ حتى إن هذا النوع من الأدب لما ظهر في الأدب الأوروبي في القرون الوسطى اتجه كثير من النقاد الأوربيين يبحثون عن مصدره في الأدب العربي، وكيف أخذ عنه، ومن أخذه؛ شعورا منهم بأن منبع هذا النوع من الأدب هو الأدب العربي، وكذلك كان الشأن لما ظهرت في أوروبا حركة الأدب الرومانتي

Romantic

فقد رأى كثيرون أن لها بالشعر العربي علاقة وثيقة.

ثم الأدب العربي غني في أسلوبه حتى من قرأ الأدبين اليوناني والعربي وحذقهما أقر بغنى الأدب العربي في ذلك، فهو متنوع الجمال، فيه ما يتحلى بجمال البساطة، وفيه ما يتزين بالجمال المركب، ولذلك قل أن يتعثر المترجم القدير بالأسلوب، فهو يجد الأسلوب العربي مطواعا رحبا متنوعا، وإنما يتعثر أكثر ما يكون بالألفاظ الحديثة، والمصطلحات الجديدة، وليس ذلك عيب اللغة والأدب وإنما هو عيب القائمين عليهما.

فالأدب العربي غني في بعض النواحي فقير في بعض النواحي، وسبب هذا الغنى أن الموضوع الذي غنوا فيه كان هو الموضوع الذي وافق نفوسهم ونبع من بيئتهم منذ جاهليتهم، فتقدمت فيه الأمة العربية بتقدم الزمان وتقدم الحضارة وتتابع نوابغ الأدباء؛ وسبب هذا الفقر فيما افتقروا فيه أنهم في أيام حضارتهم العباسية لم يوسعوا صدرهم للأدب اليوناني والروماني فيترجموه ويتذوقوه ويقتبسوا منه، ويهضموا ما يصلح منه لذوقهم ويحاكوه، ويسبغوا عليه شخصيتهم كما فعلوا ذلك في العلوم والفلسفة؛ فقد أفسحوا لها صدرهم ونقلوها إلى لغتهم واستفادوا منها، ولم يفعلوا ذلك في الأدب لأسباب يطول شرحها، من أهمها: أن الأدب اليوناني والروماني وليد بيئات تخالف البيئة العربية، فلو نقل لم يتذوق، وإنما استسيغت العلوم والفلسفة لأنها قدر مشترك بين العقول، والعقول تتفاهم بأسرع مما يتجاوب الذوق، فشأن الأدب اليوناني والروماني للذوق العربي كشأن الموسيقى الغربية للأذن الشرقية، لا تستساغ إلا بعد طول مران، ومراحل انتقال، ولم توفق الأمة العربية لمن يقوم لها بهذا العبء في عصر الترجمة والنقل. ثم القارئون للأدب اليوناني والروماني في ذلك العصر رأوه مملوءا بالأساطير التي عرضنا بعضها فيما تقدم، وهذه الأساطير مملوءة بالآلهة الخرافية وبالأخيلة التي إذا أخذت على ظاهرها لا يرتضيها العقل إذا نضج، فكانت الاستفادة من الأدب اليوناني تحتاج إلى مهرة في اللسانين يقومون بمهمة الانتخاب من الأدب اليوناني والروماني، وأمامهم في ذلك مجال فسيح في الروايات النقدية للحياة الاجتماعية، ونحو ذلك، ثم تقريب بعض النماذج الأدبية إلى الذوق العربي بشتى الوسائل، ولكن لم يوجد هذا الصنف أيضا، فظل الأدب العربي محتفظا بمجراه لم تصب فيه روافد أجنبية كثيرة، كتلك الروافد العامية والفلسفية التي كانت تصب في مجرى العقليات، إلى أن أتت حركة الترجمة في النهضة الحديثة، ولها موضع آخر من هذا الكتاب إن شاء الله.

الفصل السادس

الأدب الفارسي الإسلامي

في العصور الوسطى

الأدب الفارسي الإسلامي، أو الأدب الفارسي الحديث، هو أدب الأمة الفارسية المسلمة، نشأ في القرن الثالث الهجري، واستمر متصل السنى، مسلسل التاريخ إلى عصرنا هذا؛ فعمره زهاء ألف سنة.

وموطنه موطن الأمة الفارسية في العصور الإسلامية، وهو نجد إيران من وادي دجلة في الغرب إلى بلاد الأفغان في الشرق، ومن خليج البصرة وبحر الهند في الجنوب، إلى بحر الخزر ونهر جيحون في الشمال.

وتتصل به الآداب التي أنشئت باللغة الفارسية في غير بلاد الفرس - الآداب التي أنشئت في بلاد الهند والأفغان والترك - وهي آداب واسعة جديرة بالعناية والدرس، ولكنا لا نعرض لها في هذا البحث المجمل، اكتفاء بوصف الأدب الفارسي في موطنه الأصيل، فهو المثل الذي احتذى عليه المنشئون في المواطن الأخرى.

ولا ريب أن الأدب الفارسي له مكانة في البلاد المجاورة لإيران، وله أثر بين فيما أنشأت هذه البلاد من آداب، كالأدب التركي والأدب الأردي، وكان واسطة لتأثير الأدب العربي في آداب تلك البلاد أيضا؛ فالأدب الفارسي هو الأدب الثاني ذيوعا وتأثيرا في الأمم الإسلامية بعد الأدب العربي.

والبحث في الفصول الآتية يتناول الأدب الفارسي في إيران وحدها. (1) اللغة

الفهلوية هي اللغة الوسطى من لغات إيران؛ هي بين الفارسية القديمة التي عرفت في آثار الدولة الفارسية الأولى، دولة الأكمينيين التي أزالها إسكندر المقدوني، واللغات المعاصرة لها كلغة الآوستا (كتاب زرادشت) وبين الفارسية الحديثة التي نشأت في القرن الثالث الهجري.

نشأت الفهلوية في الفترة التي تلت غارات الإسكندر إلى قيام الدولة الساسانية في القرن الثالث الميلادي، فبلغت أوجها في عصر هذه الدولة، إذ صارت لغة الدولة ولغة الأدب والعلم في إيران. ووقفت بالفتح الإسلامي، فحلت العربية محلها واستأثرت بالعلوم والآداب في تلك البلاد، إلى أن نشأت الفارسية الحديثة فتبعتها ثم سايرتها ثم سبقتها على مر العصور.

ومعظم الفروق بين الفهلوية والفارسية الحديثة تتجلى في هذه الأمور: (1)

اعتماد الفارسية الحديثة على الثقافة الإسلامية العربية. (2)

اشتمالها على ألفاظ عربية كثيرة، وتأثرها بالمفردات والجمل العربية في صياغة بعض مفرداتها وجملها. (3)

اتخاذ الأوزان والقوافي العربية والسجع والمحسنات الأخرى. (4)

كتابتها بالخط العربي بدل الخط الفهلوي. (2) الثقافة الإسلامية العربية

دخل الفرس في أخوة الإسلام، واشتملت عليهم الجماعة الإسلامية العظيمة التي يسيطر عليها الإسلام ويقوم عليها العرب، فاستأثرت العربية بالعالم والأدب زهاء قرنين، ثم ظهرت الفارسية في رعاية العربية فاستمدت الإسلام - عقائده وكتابه ولغته - واستمدت التاريخ العربي، وزادت عليه ما أورثها الزمان المديد والحضارة القديمة من تاريخ وأساطير وآداب وأفكار وأخيلة؛ فكان الأديب الفارسي مثقفا بثقافة إسلامية واسعة شاملة تجمع بين ثقافة العرب والعجم. وكانت ثقافة العرب أو ثقافة اللغة العربية واعية خلاصة ما أدركه البشر إلى تلك العصور. وقد بقيت بلاد إيران موطنا للأدب العربي منذ انتشر العرب في إيران، ودخل الفرس في أخوة الإسلام إلى غارات التتار. وبقي الأدب العربي أدبا لشعرائها وكتابها وأدبائها حتى عصرنا هذا. وحسب الباحث أن يتتبع تاريخ أدباء العرب الخلص والمستعربين الذين عاشوا في إيران، وحسبه أن يعبر كتابا مثل يتيمة الدهر، فيعرف نصيب إيران من أدباء العربية، وحسبه أن يتعرف نصيب أدباء إيران المعاصرين من الأدب العربي.

وهذه جملة من كتاب المقالات الأربع «جهار مقاله» لنظامي العروضي، من مقالة الكتابة، تبين منهاج أدباء الفرس في دروس الأدب:

وكلام الكاتب لا يبلغ درجة عالية حتى يأخذ من كل علم نصيبا، ومن كل أستاذ نكتة، ويسمع من كل حكيم لطيفة، ويقتبس من كل أدب طرفة، فينبغي أن يعتاد قراءة كلام رب العزة، وأخبار المصطفى، وآثار الصحابة، وأمثال العرب، وكلمات العجم، ومطالعة كتب السلف، والنظر في صحف الخلف، مثل ترسل الصاحب والصابي وقابوس، وألفاظ الحمادي والإمامي وقدامة بن جعفر ومقامات البديع والحريري وحميد وتوقيعات البلعمي وأحمد بن الحسن (الميمندي)، وأبي نصر الكندري، ورسائل محمد عبده وعبد الحميد وسيد الرؤساء، ومجالس محمد منصور، وابن عبادي، وابن النسابة العلوي.

ومن دواوين العرب ديوان المتنبي، والأبيوردي، والغزي؛ ومن شعر العجم شعر الأزرقي، ومثنوي الفردوسي، ومدائح العنصري إلخ. (3) الألفاظ

دخلت في اللغة الفارسية ألفاظ عربية كثيرة، في لغة الخطاب ولغة الأدب والعلم. ونترك لغة الخطاب هنا لأنها لا تهم القارئ في موضوعنا هذا ولأنها تختلف باختلاف البقاع.

ولغة العلم أكثر ألفاظا عربية من لغة الأدب، والنثر أكثر من الشعر نصيبا من هذه الألفاظ؛ فالنثر العلمي تكثر فيه الاصطلاحات العربية حتى لا يبقى أحيانا من الفارسية إلا الفعل وروابط الجملة وحروف الجر؛ والنثر الأدبي بين هذا وبين الشعر. والشعر قد يخلو فيه بيت أو بيتان متتابعان أو ثلاثة من لفظ عربي، ولكن يندر أن تجد أكثر من ثلاثة أبيات خالية من لفظ عربي.

ولا يحسبن القارئ أن الألفاظ العربية كثرت في الفارسية حين نشوئها، ثم قلت على مر الزمان، فلعل الأمر على عكس هذا؛ ربما تجد شعرا قديما أقل ألفاظا عربية مما هو أحدث منه، وكذلك النثر. (4) الصياغة الفنية

وكان نشوء الأدب الفارسي وازدهاره في حضانة الأدب العربي وسيطرته، فتبع الأدب الناشئ الأدب القديم في الصياغة الفنية التي أولع بها بعض شعراء العرب منذ القرن الثالث الهجري، ثم زادت صنوفها وشاعت وعمت حتى صيرت الشعر صناعة لفظية في القرون الأخيرة. فصيغت المجازات والاستعارات الفارسية على غرار ما ألف في الأدب العربي. وكان في فارس من ينظم باللغتين العربية والفارسية، فلا جرم تقاربت اللغتان في بيانهما. وكثير من الشعراء نظموا شعرا ملمعا فيه بيت عربي وآخر فارسي، أو شطر وشطر، وهو كثير في الشعر الفارسي .

ومن أمثلته:

يضرب سيفك قتلى، حياتنا أبدا

فإن روحي قد طاب أن يكون فداك

وقوله:

در حلقه كل ومل خوش خواند دوش بليل

هاتوا الصباح حيوا يا أيها السكارى

وطبق على النظم والنثر في اللغة الفارسية قواعد البلاغة العربية حينما صارت البلاغة قواعد؛ فكانت كتب البلاغة الفارسية في قواعدها واصطلاحاتها لا تختلف كثيرا عن نظيراتها في اللغة العربية، بل طبقت هذه الكتب قواعدها على الكلام العربي والفارسي على السواء، مثل كتاب حدائق السحر في دقائق الشعر لرشيد الدين الوطواط العمري الكاتب. وهو أحد بلغاء اللسانين، وقد جمع بين أصله العربي وموطنه الإيراني. ولست في حاجة إلى التمثيل ولا أراه يجدي كثيرا على القارئ العربي في هذا الفصل المجمل. (5) الأوزان والقوافي

اللغة الفارسية ليست معربة، وليس فيها علامات للتأنيث ولا أداة للتعريف، فهي في جملتها أقصر ألفاظا وأقل حركات من اللغة العربية، وقد يجمع في كلماتها ساكنان أو ثلاثة، ويقوم المد في أوزانها مقام الحركة. وقد أدرك الجاحظ هذا من قبل إذ قال:

العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزونا على غير موزون.

1

ومن أجل هذا كان البيت من الشعر الفارسي في الغالب أكثر ألفاظا من مثله في الشعر العربي. وكان لا بد أن تختلف الأوزان في اللغتين بعض الاختلاف، وأن يجري من الزحاف والعلل في إحداهما ما لا يجري في الأخرى، ويحسن من الوزن وأجزائه في الفارسية ما لا يحسن في العربية. وهذا ما نجد بيانه مجملا فيما يأتي:

لا مراء أن الشعر الفارسي الحديث نظم على أوزان الشعر العربي، ولكن بعض أوزان العرب كانت أقرب إلى طباع الفرس ولغتهم من بعض، وكذلك اقتضى مزاج الفرس وطبيعة لغتهم من التغيير والزيادة والنقص في الأوزان التي أخذوها عن العرب ما لا نجده في الأوزان العربية.

ولهذا كان العروض الفارسي في أصوله واصطلاحاته، ودوائره وبحوره وتفصيلاته هو العروض العربي، وكان في بعض الأضرب والزحافات والعلل مخالفا له. ولما أراد صاحب «كتاب المعجم» أن يضع كتابا في العروض وضعه في العروضين معا، وكتبه بالعربية وجعل شواهده بالعربية والفارسية. فأنكر عليه هذا الصنع جماعة من أدباء الفرس، فقسم كتابه قسمين: المعرب في معايير أشعار العرب، والمعجم في معايير أشعار العجم. وهذا مصداق ما قلت من اتفاق العروضين في الأصل اتفاقا دعا المؤلف إلى أن يضع كتابا واحدا لأوزان العرب والفرس، واختلافهما اختلافا أدى إلى الإنكار عليه، وإلى أن يفصل هو العروضين أحدهما عن الثاني، ولكنه حين تكلم على العروض الفارسي لم يجد بدا من شرح العروض العربي، فجاء كتاب معايير أشعار العجم مشتملا على معايير أشعار العرب.

يقول صاحب المعجم في أول الباب الرابع في البحور القديمة والحديثة:

وصناعة الشعر في بدو الأمر مخترع طبع العرب، ومبتدع خاطرهم، والعجم في كل الأبواب تابعون لا واضعون، وفي تسمية الأجزاء والأركان وتقدير البحور والأوزان، وتقرير الجائز وغير الجائز فيها ناقلون لا مستقلون؛ فلزم أن نقدم في الكلام على البحور والدوائر أجناس شعرهم، وتعديد أوزانهم، كما بدأنا بشرح أوضاعهم واصطلاحاتهم ليتبين الصواب والخطأ، والحسن والقبيح، فيما زاد العجم ونقصوا في أشعارهم.

وخلاصة ما فعل الفرس بالأوزان العربية: (1)

أنهم زادوا أبحرا على الأبحر الستة عشر المعروفة في العروض العربي؛ وهي الغريب والقريب والمشاكل. (2)

وأنهم زادوا في أجزاء الأوزان فأجازوا أن يكون الرمل - مثلا - ثمانيا، وهو في العروض العربي لا يزيد على ستة أجزاء، وكذلك الهزج وهو في العربية سداسي في الأصل، ورباعي في الاستعمال.

ولهذا يشعر القارئ العربي، وهو ينشد الهزج الثماني في الشعر الفارسي أن كل شطر بيت كامل. ومن أمثلة هذا قول حافظ الشيرازي في أول الديوان:

ألا يا أيها الساقي أدر كأسا ونالها

كه عشق آسان نمود أول ولي أفتاد مشكلها

حضوري كرهمي خواهي أزو غائب مشو حافظ

متى ما تلق من تهوى دع الدنيا وأهملها

فالشطر الأول من البيت الأول، والثاني من البيت الثاني بيتان كاملان من الهزج في العروض العربي، وهما شطران في هذه القصيدة. (3)

وأنهم تصرفوا في الزحافات والعلل حتى أخرجوا من الأوزان العربية أضربا تعد في نغماتها مستقلة عن الأوزان العربية، ولا يربطها بها إلا تخريج العروضيين، كما أخرجوا الرباعي ذا الأضرب الكثيرة من بحر الهزج. (4)

وأن طباعهم عدلت بهم عن الأوزان الكثيرة الدوران في الشعر العربي فهجروها هجرا تاما، فلم ينظموا في الطويل والمديد والبسيط إلا لإظهار المقدرة على النظم فيها. وكما عدلوا عن هذه الأوزان أولعوا بالأوزان التي قل فيها شعر العرب، مثل المجتث والمضارع والمقتضب. ووافقوا العرب في أوزان كثر فيها النظم في اللغتين، مثل الهزج والرمل والخفيف والمتقارب. وفي المتقارب نظم الفردوسي الشاهنامة، والشيخ سعدي البستان ونظامي إسكندر نامه. وفي الرمل نظم فريد الدين العطار منطق الطير، وجلال الدين الرومي المثنوي. وفي الهزج نظم نظامي الكنجوي خسرو وشيرين، ونظم في الخفيف بهرام نامه.

وهذا دليل على ما بين طباع الأمتين وأذواقهما من التقارب والتفاوت. فلا ريب أن إحداث أبحر جديدة وهجر أبحر قديمة كان مقتضى الطبع واللغة.

ويمكن أن يفسر هذا كله بأن طباع الفرس أميل إلى الطرب والخفة، فالحركات البطيئة في الأوزان لا تلائم طباعهم. وهذه الأبحر لا تتوالى فيها الحركات تواليها في الأبحر الأخرى لكثرة الأوتاد فيها.

وأما القافية، فقد ساروا فيها على السنن العربية، وأخذوا اصطلاحاتها كلها، ولكنهم أولعوا بالقافية المزدوجة وسموها المثنوي، نسبة إلى كلمة «مثنى»، وكذلك أكثروا من الدو بيت أو الرباعي، وذهبوا في الموشحات مذهبا غير مذاهب العرب وسموها بندا، وقسموه قسمين: ترجيع بند، وتركيب بند. ونظموا المسمط رباع وخماس إلى عشار.

وأغرموا في أنواع القوافي بالرديف، وهو كلمة أو أكثر تكرر في آخر الأبيات وتلغى في التقفية، وتلتزم قافية قبلها.

وقد انتهى العرف بين أدباء الفرس إلى تقسيم المنظومات هذه الأقسام: (1)

القصيدة: وهي منظومة على روي واحد كثيرة الأبيات لا تقل عن ثلاثين غالبا، ويغلب على موضوعها المدح والوصف مثل قصائد الأنوري والخاقاني. (2)

والغزل: وهو منظومة ذات روي واحد، قصيرة لا تقل أبياتها عن سبعة ولا تزيد على خمسة عشر غالبا. وأصل موضوعها الغزل، وأحيانا تتناول موضوعا آخر . ويلتزم الشاعر ذكر لقبه الشعري (التخلص) في البيت الأخير مثل غزليات سعدي وحافظ الشيرازي. (3)

والمثنوي: وهو منظومة في القافية المزدوجة، يتفق كل شطرين منها في الروي. وقد اتسع لهم مجال النظم في هذه القافية، فنظموا فيها المنظومات المطولة التي تتجاوز عشرات الآلاف من الأبيات أحيانا، مثل الشاهنامة والمثنوي، وخمسة نظامي. (4)

والرباعي: وهو أربع أشطر فقط يتفق فيها الأول والثاني والرابع في الروي وينفرد الثالث غالبا. وهو ضرب شائع في الأدب الفارسي، وقد انتقل إلى العربية باسم الدو بيت. وقد خرجه العروضيون من بحر الهزج، ولكنه فيما أظن اختراع الفرس. ويقول شمس الدين الرازي: «ولأن الزحاف المستعمل في هذا الوزن لم يعرف في الشعر العربي القديم لم ينظم شعر عربي في هذا الوزن، ثم أقبل عليه الآن المحدثون المطبوعون، فشاعت الرباعيات العربية في بلاد العرب كلها، وتداولتها الألسن.»

2 (5)

والمسمط: ونظامه أن تتوالى ثلاثة أشطر أو أكثر متفقة في الروي، ثم ينفرد شطر بروي، تشاركه فيه نظائره في المنظومة كلها، كالمربع والمخمس المعروفين في النظم العربي. (6)

البند: وهو قسمان؛ تركيب بند، وترجيع بند. وهو منظومة مقسمة إلى أقسام (القسم يسمى خانه)، وكل قسم فيه أبيات متفقة في الروي، يعقبها بيت مستقل. وهذا البيت المستقل يكرر بعد كل قسم كما هو، فيسمى النظم ترجيعا، أو يكرر رويه فقط، فيسمى النظم تركيبا. وهو يشبه الموشح العربي. (6) الشعر الفارسي أوليته

لا نعرف شيئا من آثار الفرس القدماء في الشعر، وليس بين أيدينا أثارة من الشعر في اللغة الفهلوية أو اللغة الفارسية القديمة أو لغة الآوستا.

وبعيد ألا تنظم الشعر أمة ذات حضارة وأدب كالأمة الفارسية، فلا مناص من أن نقدر أنهم نظموا الشعر، ولم يبق منه شيء على مر الأيام. وربما كانت المنظومات القصيرة، التي تسمى الفهلويات والتي تنظم باللغة العامية، مثلا عن الشعر الفارسي القديم. وربما تكون بعض أضرب العروض التي لا نظير لها في الأوزان العربية بقايا من النظم القديم، وإن وصلها العروضيون بالأوزان العربية.

وقد أدى فقد آثار الشعر القديم إلى أن شاع بين مؤرخي الأدب، من الفرس والعرب في العصور الإسلامية، أن الفرس القدماء لم ينظموا الشعر.

يقول ابن قتيبة: «وللعرب شعر لا يشركها أحد من الأمم الأعاجم فيه على الأوزان والأعاريض والقوافي، والتشبيه، ووصف الديار والآثار والجبال والرمال والفلوات، وسرى الليل، والنجوم.

وإنما كانت أشعار العجم وأغانيهم في مطلق من القول. ثم سمع بعد قوم منهم أشعار العرب، وفهموا الوزن والعروض فتكلفوا مثل ذلك في الفارسية وشبهوه بالعربية.»

وخلاصة ما ذكره محمد عوفي في لباب الألباب - وهو أول كتاب في تاريخ الأدب الفارسي - أن بهرام جور أول من أنشأ شعرا بالفارسية، وأنه تعلم الشعر من العرب؛ إذ نشأ بينهم ووقف على دقائق لغتهم، وأن له شعرا عربيا بليغا، وأن هذا المؤلف رأى ديوانه في خزانة كتب في بخارى

3

وطالعه وكتب أشعارا منه وحفظ. ومنها أبيات نظمها حينما رجع إلى فارس واستقر على سرير الملك بنصرة العرب، وعرض عليه خواصه أن يتزوج، ومن شعره أيضا:

فقلت له لما نظرت جنوده

كأنك لم تسمع بصولات بهرام

فإني لحامي ملك فارس كله

وما خير ملك لا يكون له حامي؟

ثم يذكر عوفي بيتا فارسيا ارتجله بهرام في وقت طربه ويقول: «فكان أول من نظم الكلام الفارسي. وأما الأغاني الخسروانية التي وضعها باربد في الأصوات أيام برويز فكثيرة، ولكنها بعيدة من الوزن والتقفية وأشباههما، فلهذا لا أتعرض لها هنا. حتى جاءت نوبة آخر الزمان وسطعت شمس الملة الحنفية والدين المحمدي على ديار العجم ، وحاور لطاف الطباع من الفرس فضلاء العرب، واقتبسوا من أنوار فضائلهم، واطلعوا على أساليب لغة العرب، وحفظوا الأشعار المطبوعة الرائقة وتعمقوا في معانيها، واطلعوا على دقائق البحور والدوائر، وتعلموا الوزن والقافية، والروي، والردف والإيطاء والأسناد، والأركان والفواصل، وشرعوا ينسجون على هذا المنوال لطائف من نتائج طباعهم ... وحينما علت راية دولة المأمون رضي الله عنه في آخر سنة ثلاث وتسعين ومائة - وكان ممتازا في بني العباس بالحلم والحياء، والجود والسخاء، والوقار والوفاء - كان في مرو واحد من أبناء الكبراء اسمه عباس منقطع النظير في الفضل، وله مهارة كاملة في علم الشعر، وبصر شامل في دقائق اللغتين، فنظم بالفارسية قصيدة مطلعها:

أي رسانيده بدولت فرق خودتا فرقدين

كسترانيده بجود وفضل در عالم يدين «يا من سما فرقه بالسعادة إلى الفرقدين، وبسط في العالم بالجود والفضل اليدين.»

ويقول في أثنائها:

كس برين منوال بيش أز من جنين شعري نكفت

مرزبان بارسي راهست تا أين نوع بين

ليك زان كفتم من أين مدحت تراتا أين لفت

كيرد أز مدح وثناء حضرت تو زيب وزين

وترجمته هذا:

ما قال أحد قبلي شعرا كهذا قط، وما كان للسان الفارسي بهذا عهد.

ولكني نظمت هذه المدحة لتزدان هذه اللغة بمدحك والثناء عليك.

فلما رويت هذه القصيدة في حضرة الخليفة أحسن إليه ووصله بألف دينار عين، وخصه بمزيد العناية والعطف.

ولما رأى الفضلاء هذا صرف كل طبعه إليه، ونقش بقلم البيان فضلا على صفحة الزمان.

ولم يقل أحد بعده شعرا فارسيا، حتى كانت نوبة آل طاهر وآل الليث، فنبغ شعراء قليلون، فلما كان عهد آل ساسان علت راية الكلام، وظهر كبار الشعراء، وبسطوا بساط الفضائل، ووضعوا لعالم النظم نظاما، واتخذوا الشعر شعارا.»

وكذلك يذكر شمس الدين محمد بن قيس الرازي في كتابه «المعجم في معايير أشعار العجم» تربية بهرام جور في الحيرة وتأدبه بآداب العرب، ويقول: إن حماد بن أبي ليلى (حماد الراوية) روى عن أهل الحيرة قطعا من الشعر العربي لبهرام، ثم يروي بيت بهرام الذي يزعم الفرس أنه أول شعر فارسي ويقول: «ورأيت في بعض كتب الفرس أن علماء عصر بهرام لم ينكروا شيئا من أخلاقه وأحواله إلا قول الشعر، فلما بلغت إليه نوبة الملك، واستقر له الأمر تقدم إليه الحكيم آذرباد بن زرادستان ونصحه قائلا: «أيها الملك! اعلم أن قول الشعر من كبار معايب الملوك، ودني عاداتهم، لأن أساسه على الكذب والزور، وبناءه على المبالغة الفاحشة، والغلو المفرط؛ ولهذا أعرض عنه عظماء فلاسفة الأديان وذموه، وعدوا مهاجاة الشعراء من أسباب هلاك الممالك السالفة، والأمم الماضية.»

4

فارعوى بهرام ولم يقل شعرا بعد ولا سمعه، ونهى عنه أولاده وأقاربه. ومن أجل هذا وضع باربد الجهرمي - وهو أستاذ العوادين - في النثر لحونه وأغانيه في مجلس برويز؛ وهي التي تسمى «خسروانية» مع أنها كلها في مدح خسرو، ولم يستعمل قط فيها منظوما.

ويقول بعض الناس إن أول شعر فارسي قاله أبو حفص حكيم بن الأحوص السغدي، وهو من سغد سمرقند، وكان له في صناعة الموسيقى مهارة تامة. وقد ذكره أبو نصر الفارابي في كتابه، وصور الآلة التي تسمى شهرود التي لم يستطع أحد أن يستعملها بعد أبي حفص، وقال إنه كان حيا سنة ثلاثمائة من الهجرة.

والشعر الذي ينسب إليه هو:

أهوى كوهي در دشت جكونه دو ذا؟ يارندارد بي يارجكونه رودا

كيف يسير الظبي الجبلي في الصحراء؟ لا أنيس له، فكيف يسير بغير أنيس» ا.ه.

ذلكم ما يقوله محمد عوفي، وهو أقدم من كتب في تاريخ الأدب الفارسي، وما يقوله شمس الدين الرازي، وهو معاصر له، وهو القول المردد في كتب الفرس.

ومهما يكن فالتاريخ يعي اخبارا وآثارا لشعراء نظموا باللغة الفارسية في القرن الثالث الهجري، على قلة المأثور من أخبارهم وأشعارهم. وقد ذكر محمد عوفي واحدا فقط من الشعراء أيام آل طاهر هو حنظلة البادغبسي، واثنين من الشعراء في عهد آل الليث، هما فيروز المشرقي وأبو سليك الجرجاني. وإمارة بني طاهر في خراسان استمرت من سنة 205ه إلى سنة 259ه. وبنو الليث أو الصفاريون كانت لهم دولة بين سنة 254ه و296ه.

والناظر في تاريخ الأدب الفارسي يراه ينشأ ويترعرع في خراسان والأطراف النائية من إيران، في رعاية الإمارات الفارسية، ثم يمتد على مر الزمان إلى الأصقاع الأخرى، ويعم حتى يصير أدب الأقاليم الإيرانية ترعاه الدول الفارسية وغير الفارسية؛ بل نرى الفردوسي يقدم الشاهنامة للسلطان محمود الغزنوي التركي، والشاهنامة في صميم فصولها الحماسية تصف حروب إيران وتوران، وتتعصب للفرس، وتذم الطورانيين وهم الترك.

فإذا نظرنا إلى الدول التي سيطرت على إيران منذ القرن الثالث وهو العصر الذي نشأ فيه الأدب الفارسي الحديث وجدنا مصداق هذا:

فلم يكن بنو طاهر ذوي عناية بالأدب الفارسي، ولا كان لهم من السلطان وطول المدة ما يجعل لهم أثرا في هذا الأدب، ولا عرفنا أن أحدهم مدح بشعر فارسي.

ويقول عوفي: «كان آل طاهر ذوي كرم ظاهر، وجود وافر، وكان فيض فضلهم وإنعامهم عاما، ولكن لم يكن لهم اعتقاد في اللغة الفارسية واللغة الدرية.»

وقد روي أن عبد الله بن طاهر أتي بقصة فارسية قديمة فأمر بإحراقها.

والصفاريون تتصل أخبارهم بتاريخ الأدب الفارسي قليلا، ويقال إن أول شطر من الشعر الفارسي ترنم به طفل ليعقوب بن الليث (254-265ه). وقد مدح يعقوب بشعر فارسي، ولكن أثر الصفاريين في أدب الفرس ليس بينا.

وأما الساسانيون الذين ينتسبون إلى الملك الساساني بهرام جور (261-389ه) فكان لهم من سلطانهم وطول عهدهم، وقيام دولتهم في الأصقاع النائية عن مركز الحضارة الإسلامية والأدب العربي، وانتسابهم إلى الفرس القدماء ما جعلهم من حماة الأدب الفارسي الناشئ، وسجل مآثرهم في تاريخه.

فقد رعوا الأدب الفارسي وسمعوا المدائح الفارسية، ونظم بعض أمرائهم الشعر الفارسي، ونبغ في أيامهم زهاء ثلاثين شاعرا. وألف لهم العلماء في الفارسية، وترجموا إليها من العربية. ألف كتاب أبي منصور الهروي في الطب،

5

وألف كتاب في التفسير، وترجم تاريخ الطبري وتفسيره؛ فهذه كتب أربعة هي أقدم ما وعي تاريخ الأدب الفارسي الحديث من نثر؛ وبذلك صارت الفارسية لغة علم وأدب، وشرعت تشارك العربية بعض المشاركة فيما استقلت به العربية منذ الفتح الإسلامي.

أما بنو بويه (320-447ه) فقد قامت دولتهم على مقربة من العراق العربي ثم سيطرت عليه، فكان أدبها عربيا خالصا؛ نظم كثير من أمرائهم شعرا عربيا، ومدحهم شعراء العربية. وحسبنا قصائد المتنبي في عضد الدولة. وكان وزراؤهم من حماة الأدب العربي وقادته. كابن العميد والصاحب ابن عباد. ولم نعرف أن أحدا من ملوك بني بويه ووزرائهم مدح بشعر فارسي إلا الصاحب؛ مدحه شاعران من شعراء الفارسية، هما الخسروي والمنطقي. فإذا قسناهما بمن مدح الصاحب من شعراء العربية تبينت الفروق بين الأدبين في تلك البقاع.

وكان ملوك الدولة الزيادية في طبرستان (316-470ه) ينتسبون إلى ملوك الفرس القدماء إلى الملك قباذ (488-531م) وقد احتجزوا قليلا عن مجرى الحوادث والحضارة، بمكانهم في هذا الإقليم الساحلي الذي تقطعه من إيران تلك الجبال الشاهقة، جبال البرز وما يتصل بها. وقد تسموا أسماء فارسية مثل قابوس ومنوجهر وكيكاوس، وعنوا بالأدب الفارسي، وقصدهم بعض شعراء الفرس. مدح قابوس بن وشمكير الشاعران؛ الخسروي والقمري الجرجاني، ومدح ابنه منوجهر الشاعر الذي سمى نفسه منوجهري انتسابا إلى هذا الأمير. وقد ألف كيكاوس حفيد قابوس كتابا فارسيا في الأخلاق سماه قابوس نامه.

ولكن شيخ هذه الدولة قابوس كان كاتبا في العربية، ولا تزال رسائله المسماة كمال البلاغة في أيدينا.

وأما الدولة الغزنوية (351-579ه) فقد امتد سلطانها على شرقي إيران وقسم من خراسان. وكان قيامها بعد أن ازدهر الشعر الفارسي فقصد ملوكها - وهم ترك لا يتعصبون للفارسية - كثير من شعراء الفرس، وألفت لهم كتب كثيرة بالفارسية. وأثر عن السلطان محمود وابنه محمد شعر فارسي. وكانت غزنة في عهد محمود وبنيه حافلة بكبار الشعراء من الفرس، أمثال العنصري والأسدي والعسجدي والفرخي.

وحسبنا أن الشاهنامة - وهي الحماسة الفارسية الكبرى - تم نظمها في عهد محمود وقدمت إليه.

6

وسنفصل الكلام عنها في فصل القصص الآتي:

وألفت لمحمود كتب بالفارسية؛ كتب اليميني أحد شعرائه تاريخه بهذه اللغة، وكتب البيرواني كتاب التفهيم في النجوم بالفارسية وبالعربية ...

وقد عد صاحب لباب الألباب ثمانية وعشرين من الشعراء الذين نبغوا في عهد الغزنويين أيام سيطرتهم على خراسان وما وراء النهر.

وفي عصر السلاجقة - هؤلاء الترك الذين سيطروا على آسيا الغربية بين الهند والبحر الأبيض مدة طويلة على اختلاف الأحوال - نبغ شعراء كثيرون عد منهم عوفي في لباب الألباب أكثر من مائة شاعر، فيهم كثير من أكابر شعراء الفرس، مثل الأنواري والخاقاني والخيام ونظامي. (6-1) أول شاعر فارسي عظيم

اتفق مؤرخو الأدب الفارسي على أن أول شاعر كبير، سجل شعره في ديوان، هو أبو جعفر الرودكي؛ لم يكن أول من نظم الفارسية، فقد سبقه جماعة إلى النظم. وقد جعله صاحب اللباب السابع في ترتيب الشعراء، ولكنه كان أول من أفاض في الشعر فأثر له ديوان.

وكان لتقدمه ومكانته أن أثنى عليه الشعراء من بعد، وجعلوه مضرب المثل في الشعر والحظوة عند الملوك ونيل صلاتهم. وقد أثر الثناء عليه والإعجاب به عن شعراء عظام، مثل الدقيق والعنصري. وقد سماه معروفي البلخي سلطان الشعراء.

ولد في قرية من قرى سمرقند، اسمها رودك، وحفظ القرآن وهو ابن ثماني سنين، وتعلم القراءات، ثم قرض الشعر ونبغ فيه وفي الموسيقى، وكان حسن الصوت جدا. وحظي برعاية ملوك بني سامان، ولا سيما نصر بن أحمد الساماني (301-331ه) ومدحهم كثيرا، وقال بعض الشعراء:

لولا شهود الجود أنكر سامع

ما قاله حسان في غسان

وترى ثناء الرودكي مخلدا

من كل ما جمعت بنو سامان

ونال من الثروة منالا، حتى قيل إنه كان يركب في مائة عبد، ويحمل ثقله على مائة جمل. وقد قال الشاعر العنصري:

جهل هزاردرم رودكي زمهتر خويش

عطا كرفت زنظر آوري بكشور خويش «نال الرودكي بالشعر وهو في موطنه أربعين ألف درهم من ممدوحه.»

وقد بالغت الروايات في تقدير شعره، فقيل إنه دون في مائة دفتر، وقال الرشيدي الشاعر. إنه عد أشعاره فإذا هي ألف ألف وثلاثمائة ألف.

7

ومن القصص الشائعة التي لم يغفلها كتاب من كتب التراجم التي ذكرت الرودكي، قصته مع الأمير نصر بن أحمد. وخلاصة ما رواه العروضي صاحب كتاب جهار مقاله :

أن الأمير نصر بن أحمد الساماني كان يشتو بسمرقند ويصيف ببخارى. ولكنه توجه سنة إبان الربيع إلى باذغيس من نواحي هراة، فأعجبته مياهها ومراعيها، ثم رحل منها إلى هراة فرأى من طيب هوائها وكثرة فاكهتها وأزهارها ما حبب إليه المقام، ومازال يرجئ الرحيل من فصل إلى فصل حتى أمضى أربع سنين.

واشتاق الجند إلى أوطانهم، ولم يستطع أحد من الخبراء أن يكلم الأمير في الرحيل لما رأوا من إعجابه بهراة وإطنابه في وصفها؛ فذهب رؤساء الجند إلى أبي عبد الله الرودكي، ولم يكن بين ندماء الأمير الأعظم منه مقاما، وأنفذ منه عند الأمير قولا، ووعدوه أربعة آلاف دينار إذا صنع لحنا يحرك الأمير من هذه الأرض إلى بخارى ليروا أولادهم وبلادهم، فقبل الرودكي وكان قد عرف مزاج الأمير، فنظم قصيدة ودخل على الأمير حين الصبوح، وأخذ مكانه من المجلس.

فلما بدأ المطربون أخذ هو الرباب وشرع ينشد هذه القصيدة في نغمة العشاق:

بوي جوي موليان آيد همي

بوي يار مهربان آيد همي

ثم يقترب وينشد:

ريك آموي ودرشتي رآه أو

زير بايم برنيان آيد همي

آب جيحون أز نشاط روي دوست

خنك ماراتا ميان آيد همي

أي بخارا شاد باش ودير زي

ميرزي تو شادمان آيد همي

مير ماهست وبخارا آسمان

ماه سوى آسمان آيد همي

مير سرو است وبخارا بوستان

سرو سوى بوستان آيد همي

8

فلما بلغ الرودكي هذا البيت بلغ من تأثر الأمير أن نزل من التخت وركب فرس النوبة غير منتعل، وتوجه إلى بخارا فحمل الخدم النعل واتبعوه فرسخين حتى لبسها، ولم يلو على شيء حتى بلغ بخارا.

فضاعف الجند للرودكي خمسة الآلاف التي وعدوه بها.

وقد أثبت هذه الأبيات في أصلها ليرى القارئ - وإن لم يعرف الفارسية - نموذجا من الوزن والقافية في شعر الرودكي طليعة الشعراء العظام. والقصيدة من الرمل، وهو وزن عربي أولع به الفرس، والقافية مردوفة؛ والردف أن تكرر كلمة أو أكثر في آخر الأبيات، ثم تقفى القصيدة وتبنى على روي قبل اللفظ المكرر وهي صنعة محببة إلى شعراء الفرس جدا، وليست مألوفة في الشعر العربي. وهي مسألة جديرة بالاهتمام في تاريخ نشوء الأدب الفارسي.

وليس يعنينا هنا تمحيص أخبار الرودكي ونقد الروايات التي تضمنت أخباره وشعره، فحسبنا أن نقول إن الأخبار متفقة على أنه طليعة الشعراء الكبار في الفارسية الحديثة، ومن أجل هذا ينبغي أن نقف عنده وقفة لنعرف ضروب شعره وأنواع قوافيه وأوزانه، ونقيسها بشعر اللاحقين والمعاصرين، فنتبين خصائص الشعر الفارسي منذ نشأته ونعرف كيف تطور من بعد.

شعر الرودكي الذي عد بمئات الألوف لم يبق منه إلا قطع متفرقة في كتب اللغة والأدب . وقد جمع الدكتور إيتي منه 52 قطعة فيها 242 بيتا. ومن هذه البقية الضئيلة نستطيع أن نتبين بعض موضوعات شعره وضروب قوافيه وأوزانه، وهي لا تختلف عن معاصريه ومن جاء بعده.

ويمكن أن يستخلص من أخبار الرودكي وشعره النتائج الآتية: (1)

الإكثار من النظم والإسهاب. وهي سنة شعراء الفرس كلهم. (2)

نظم الرباعيات، والوزن والتقفية فيها يشبهان أن يكونا فارسيين وإن خرجهما علماء العروض من بحر الهزج. ولعله ضرب من النظم عرفه الفرس قبل هذا العصر، ولم يؤثر إلا حينما نبغ شعراء الفارسية فأثر شعرهم. (3)

النظم على الأوزان والقوافي العربية مع التوسع في الزحافات والعلل وإدخال الرديف في القافية؛ وهذا يدل على صنعة قديمة في القافية قبل الرودكي, ولكن لا يبعد أن تكون من اختراعه. (4)

الاهتمام بالقصص، فقد نظم الردوكي كتاب كليلة ودمنة في القافية المزدوجة التي يسميها الفرس المثنوي. وقد سبق إلى نظم هذا الكتاب في اللغة العربية، ولكن نظم الردوكي يعد إيذانا بما في طباع الفرس وما دل عليه تاريخ أدبهم من الولوع بالقصص والإطالة فيه. (5)

استمداد التاريخ الفارسي والتاريخ العربي في الموضوع والتصوير.

وهذه سنن سار عليها شعراء الفرس منذ عصر الرودكي إلى هذا العصر. ويرى مؤرخو الأدب الفارسي أن التطور في ألفاظه وأساليبه وموضوعاته قليل، فشعر الرودكي ينشد اليوم فلا يمتاز في لفظه ووزنه وقافيته وموضوعه كثيرا عما نظم في العصور التالية إلى يومنا هذا.

ففي شعر الرودكي أكثر خصائص الأدب الفارسي الحديث. (7) الشعر الفارسي موضوعاته وخصائصه

1

كنت أسير في استانبول مع أديب تركي عالم نتحدث في الأدب، فسألني ماذا ترى في الشعر العربي والفارسي؛ أيهما أبلغ وأجمل؟ قلت: أرى أن الشعر العربي أبلغ وأجمل في حقائق الحياة وعددها: من الأخلاق والسجايا والمكارم والمآثر؛ فالحرب والسلم، والغنى والفقر، وغير الدهر وحادثات الأيام، والشجاعة والإقدام، والصبر، والكبرياء والإباء، والسخاء، والوفاء، والإيثار، وحماية الجار والضعيف، والنفور من الهوان، والثورة على الضيم؛ كل هذه الأخلاق أشيع في الأدب العربي وأجمل، قد فاض بها الشعر العربي منذ عصور الجاهلية وعني بها في كل عصوره .

ثم قلت: وأرى الشعر الفارسي أبلغ وأجمل في الدقائق النفسية، والعواطف الخفية؛ ومن أجل هذا نبغ شعراء الفرس في الشعر الصوفي. وكذلك يفوق الشعر الفارسي في القصص.

كان هذا الجواب عفو البديهة، ولكن لم ينقصه التفكير من بعد. وقد اطلعت في كتاب أردي اسمه «شعر الهند» ألفه الأستاذ عبد السلام الندوي على هذه الفقرات:

الشعر الأردي ظل الشعر الفارسي في أكثر موضوعاته، ففيه من العيوب ما يرى في الشعر الفارسي إذا قيس بالشعر العربي: (1)

يفيض الشعر العربي بموضوعات البطولة، والشجاعة، والإقدام، والمخاطرة، والعزة، والغيرة، والحزم، والحرية، والسخاء والإيثار، وقرى الضيف، وما إلى ذلك؛ وهي موضوعات قليلة في الشعر الفارسي والشعر الأردي. (2)

يصور الشعر العربي - تصويرا بينا - أحوال الحضارة والاجتماع، وأحوال الأسرة، وأساليب المعيشة والأزياء، وهذه أمور لا تظهر في الشعرين الفارسي والأردي. (3)

أغرم العرب بالمرأة، وأبانوا في التغزل بها عن العواطف الإنسانية السامية، والشاعر في الفارسية والأردية يتخيل معشوقا يتحدث عنه في جوانب كثيرة غير مستحسنة. فينحط العاشق والمعشوق من الوجهة الأخلاقية.

وكذلك نرى في الشعر الأردي مزايا الشعر الفارسي التي يبذ بها الشعر العربي: (1)

المثنويات كثيرة في الشعر الفارسي والأردي، ولا توجد في العربية (يقصد المنظومات المطولة في القافية المزدوجة وأكثرها قصص). (2)

مناظر الربيع والأمطار التي صورها شعراء الفارسية والأردية تصويرا دقيقا لا يستطيع شعراء العرب تصويرها، لأنهم لم يروها.

9 (3)

الفرس يفوقون العرب في خيالات الحب والغرام . وقد أبدع الشعر الأردي في بيان لطائف العشق ودقائقه محاكاة للشعر الفارسي. (4)

الفلسفة والتصوف في الشعر الفارسي والأردي لا نظير لهما في الشعر العربي.

10

والخلاصة أني وجدت في هذه الفقرات تصديق ما قلته وإن اختلف رأيي ورأي المؤلف الهندي في التفصيل.

2

الآداب الواسعة الكاملة تتناول كل عواطف الأمة وآمالها وآلامها، وكل المشاعر والحوادث والمرائي؛ فلا تجد أدبا كاملا من آداب الأمم يخلو من موضوع تناوله أدب آخر، ولكن يختلف ميل الأمم إلى الموضوعات، وتصوير الآداب إياها؛ بعض الموضوعات تولع به أمة وتفيض فيه، وتفنن في تصويره حتى يكون ديدن أدبائها، وصورة واضحة في أدبها، ومزية من مزاياها، بينما تتناوله الأمم الأخرى فلا تجيد تصويره، أو تقل معالجتها إياه، أو يأتي في أدبها عرضا أو إشارة.

وبالموضوعات الغالبة على الأدب، والصور المتلألئة فيه التي تكشف الصور الأخرى، تتميز الآداب وتعرف. حسب الكاتب في هذا الفصل المجمل أن نبين الموضوعات التي تغلب في الأدب الفارسي حتى تعد من معالمه، وتسمو حتى تحسب من مفاخره؛ وإنما يجيء الحديث عن الموضوعات الأخرى توفية للبحث وتكميلا للموضوع. (7-1) القصص في الشعر الفارسي

رأينا في شعر الرودكي - أول شعراء الفرس العظام - كثيرا من موضوعات الشعر الفارسي الحديث وخصائصه، وقلنا إن نظمه كتاب كليلة ودمنة كان إيذانا بما عرف في الأدب الفارسي بعد من الكلف بالقصة والإطالة فيها. ونقول هنا إن ميل الشعراء إلى القصص لم يلبث أن استبان في شعر أبي المؤيد البلخي، الذي نظم قصة يوسف وزليخا، وهو من شعراء الدولة السامانية. وقد ذكره الفردوسي في مقدمة منظومته «يوسف وزليخا».

ثم جاء أبو منصور الدقيقي من شعراء القرن الرابع، ومن الذين مدحوا الصاغانيين ثم السامانيين، وتوفي حوالي سنة 370ه. وهو أول من شرع ينظم أساطير الفرس القدماء وتاريخهم؛ أمره بهذا الأمير نوح بن منصور الساماني (365-387ه) فاختار بحر المتقارب ونظم ألف بيت في سيرة الملك كشتاسب وانتصاره لزرادشت واهتمامه بنشر دينه. ثم فتل وهو شاب، فبقي هذا العمل المرهق ينتظر شاعرا مفلقا صبورا يضطلع به، حتى جاء أبو القاسم الفردوسي الشاعر المطبوع الصبور، فعكف على نظم الكتاب زهاء ثلاثين سنة حتى فرغ منه. وهو يقول في مقدمة الكتاب: «فلما قرئت هذه القصص على الناس أعارتها الدنيا سمعها وقلبها، وأولع بها العقلاء والحكماء حتى ظهر فتى فصيح اللسان، حسن البيان، ذكي الفؤاد، فقال سأنظم هذا الكتاب، ففرح الناس به أي فرح ... ثم انقلب به جده فقتله أحد عبيده؛ نظم ألف بيت عن كشتاسب وأرجاسب. ثم انتهى عمره فذهب والكتاب لم ينظم ... إلخ.»

ثم يقول الفردوسي في مقدمة فصل كشتاسب إنه رأي الدقيقي في المنام فسأله ألا يبخل عليه بإثبات ألف البيت التي نظمها في كتابه فأثبتها. وقد نقدها الفردوسي وقاسها بشعره، وبين قصور نظم الدقيقي عن نظمه. (أ) الشاهنامة

في هذه المنظومة الهائلة زهاء خمسة وخمسين ألف بيت من البحر المتقارب والقافية المزدوجة (المثنوي)، وهذا الوزن يلائم الحماسة، ويفخم الإنشاد.

ولهذا الكتاب عند الفرس مكانة عظيمة؛ هو سجل تاريخهم وأساطيرهم، وأناشيد مجدهم، وديوان لغتهم، وموضع سرهم ولهوهم، ينشدونه في المحافل، ويعنى به العالم والجاهل. يقول شيكس: «وقد استمعت إلى أبيات منها ينشدها بدوي غاضب لا يقرأ ولا يكتب، فعرفت كيف يبذل الفارسي روحه في مثل هذا الموقف.»

ويقول نلدكه ما خلاصته:

11 «إن الفردوسي شاعر مطبوع يستولي على فكر القارئ، ويحيي القصة التافهة بإنطاق الممثلين، بل كثيرا ما تختفي الأفعال في جلال الأقوال. وهو يفصل الحادث المجمل تفصيلا حسنا، ويخلق حادثات صغيرة أحيانا ليكمل الوصف، وهو بصير بإحياء الأبطال وأحيانا يخلقهم على غير ما صورتهم الأساطير. وما أقدره على بيان ما وراء أفعال الأبطال من أسباب وأفكار. ووصفه النفساني رائع، ونغمة البطولة مسموعة في الكتاب كله. وعظمة الماضي وأبهته، وفرحه وترحه، وجهاده وجلاده مصورة في أسلوب عجيب، حتى ليسمع القارئ صليل السيوف، وضوضاء المحافل. هو لا يبلغ في التفصيل مبلغ هوميروس، ولا يستطيع أن يجمل واقعة في كلمات قليلة مثله، ولكنه مع هذا، يمشي قدما إلى غايته حين يصف الوقائع، وإن يكن في الخطب والرسائل ثرثارا ككل فارسي .

مشاهد الحرب تلقى القارئ في كل فصل، ولكن هناك ميادين للحب. والعواطف اللطيفة أيضا، هناك قصص غرامية رائعة كقصة زال وروذابه وقصة بيزن وفينزه. وهي أجمل فصول الكتاب.

والشاعر في هذا - بل في الكتاب كله - يملك القارئ بسهولة الوصف. وعاطفة الأمومة والأبوة والقرابة بينة في الكتاب كله، ولكن يصحبها الظمأ إلى الدماء ثأرا للأقارب؛ فقصة الانتقام لسياوخش - مثلا - تشغل صفحات كثيرة جدا. وهذا الظمأ إلى الدم يتجلى حتى نجد الرجل الوقور جوذرز يشرب دم بيران أطيب أعدائه نفسا.»

هذا الوصف المعجب الذي يصفه «نلدكه» لا ينقض ما يرى في الشاهنامة من عيوب، كتكرار صور قليلة من التشبيهات في مواضع كثيرة، وكالإطالة المملة، في وصف تعبئة الجيوش وقتالها، وتكرار هذا في وقائع متعاقبة، كما يصف المبارزة بين عشرة من قواد الإيرانيين وعشرة من قواد التوارنيين، ويسمي كل قرنين ويصف مبارزتهما ولاء.

12

وأنقل هنا الواقعة التي أشار إليها نلدكه في آخر الفقرة التي ترجمتها عنه، لتكون نموذجا من قصص الشاهنامة على اختلاف ما بين النظم والنثر، والتفصيل والإجمال!

13

مبارزة جوذرز وبيران وقتل جوذرز له. «فزحف البهلوانان أحدهما إلى صاحبه، وتقاتلا زمانا طويلا، تارة بالسيوف، وأخرى بالرماح، ومرة بالخناجر، وأخرى بالعمد، حتى كل كل منهما ومل. فتراميا فأصاب جوذرز فرس بيران بنشابة خرقت التجفاف، ومرقت فيه، فانقلب على بيران فانكسرت يمنى يديه؛ فتقلب في التراب، ثم وثب وعدا هاربا نحو جبل هناك، فارتقى فيه وهو يرجو ألا يتبعه جوذرز. فنظر إليه جوذرز فأذرى دمعه واستشعر الخشية من تصاريف الأيام، علما منه بأن الدنيا غدارة، دأبها الجفاء، وعادتها الغدر وقلة الوفاء.

فصاح به وقال:

أيها البهلوان المذكور! مالك تفر بين يدي راجلا؟ أما زعمت أنك لا ترى لنفسك مساجلا؟ أين ذلك الفيلق الجرار؟ ما بالك لا يعنيك منهم أحد؟ أين عدتك وشوكتك، وأين بطشك وقوتك؟ لقد أدبرت السعادة عنك، وانكسفت شمس أفراسياب بما حدث بك. وإذا بلغ بك الحال إلى هذا فينبغي لك أن تسأل الأمان حتى أحملك حيا إلى الملك كيخسرو، فإنك شيخ مثلي أشيب الرأس، وقد رق قلبي عليك ولست أريد قتلك.

بيران: «حاشاي من هذا، ومن أن أذل لأحد من الأنام. إني لم أولد إلا للحمام، فلا أحب أن أموت إلا ميتة الكرام.

فترجل جوذرز، ورفع الترس فوق رأسه، وصعد إليه. فرماه بيران بمزراق كان معه فأصاب عضد جوذرز، ومرق منه. فاستشاط جوذرز عند ذلك ورماه بمزراق في ظهره فنفذ من كبده، ففار الدم إلى فمه، ووقع إلى الأرض يتغرغر بحشائشه حتى قضى نحبه. فصعد إليه جوذرز، وغرف من دمه غرفة وتشربها تشفيا لسياوخش وأولاده (أولاد جوذرز) السبعين. وهم بأن يحتز رأسه فأدركته رقة منعته من ذلك، فتركه وغرز علمه عند رأسه ليحمي وجهه من حر الشمس. وركب وعاد إلى عسكره والدم يفيض من عضده فيضا.»

فانظر إلى التفصيل فيما وقع بين المتبارزين، وهي مبارزة القائدين بعد مبارزة عشرين من الأبطال. ثم انظر ما أنطق به الفردوسي جوذرز حين رأى قرنه قد أصيب فرسه وانكسرت يمناه، فقد جعله يعتبر ويذكر غير الدهر وتقلبه. وهذا ديدن الفردوسي في كل الوقائع. ثم تراه لم يحاول تحقير عدو الإيرانيين بيران فيجعله يؤثر الموت على الأسر، وجعل جوذرز يغلبه برمية سهم أصابت فرسه بعد أن أعجزه أن يغلبه بالسيف والرمح والخنجر والعمود. ثم جعله يشرب من دمه انتقاما، ثم يرق له فلا يقطع رأسه، ويحمي رأسه من الشمس بعلمه.

هذا مثال منثور مجمل من قصص هذا الكتاب. وفيما يلي مثال ترجمته نظما، وهو يصف ما فعلته أم سهراب حينما جاء الخبر بأن ابنها قتل بيد أبيه رستم:

وتواران دوت بهذا الخبر

بمصرع سهرابها المنتظر

لملك سمنجان

14

جاءوا سراعا

فقد عليه الثياب التياعا

وأخبرت الأم أن البطل

بسيف أبيه أتاه الأجل

فمزقت الدرع أظفارها

وشقت من الحزن أستارها

تئن وتجأر جهد الحزين

وينتابها الموت في كل حين

تلف أصابعها بالشعر

فتجتز من أصلهن الطرر

وتذري على الخد دمع الدم

وتكبو وتنهض في المأتم

تعض على الكف في يأسها

وتذرو التراب على رأسها

تقول: بني وروحي! ترى

بأية أرض طواك الثري؟

منحت الطريق ضياء البصر

عن ابني ورستم أبغي الخبر

حسبتك جاوزت سهلا وصعبا

وطوفت في الأرض شرقا وغربا

وجئت أباك وحم اللقى

فأقبلت نحوي تحث الخطى

وما خلت أن الأب المسعرا

يحطم في صدرك الخنجرا

ألم يرحم القامة الهائلة

ووجهك والوفرة السائلة

وذاك الشطاط - أما يرحم -

يمزقه بالظبى رستم!

إلى أن يقول:

وجاءت إلى تاجه تلتدم

دم القلب في دمعها ينسجم

وجاءت إلى طرفه الطائر

إلى زينة الزمن الناضر

فلزت إلى رأسه صدرها

يرى الناس في عجب أمرها

تقبل جبهته جهدها

وتدني لحافره خدها

وجاءت لحلته في كمد

تعانقها كابنها المفتقد

وجاءت إلى السيف والمقمعة

15

خليفيه في حومة المعمعة

وجاءت إلى درعه والشليل

إلى القوس والسمهري الطويل

وبالترس جاءت ولحم الذهب

تصك بها رأسها المستلب

ووهق ثمانين في الأذرع

تغل بها جيدها لا تعي

وبالخود جاءت وبالخوشن

تهيب بليث الوغى المطعن

وثارت تجرد من سيفه

تجز السبيبة من طرفه ... إلخ.

وتتبين قدرة الشاعر وجلده في القصص الطويلة كقصة سهراب ورستم، وهي ستمائة وثمانون بيتا، وقصة رستم واسفنديار وهي تسعون وستمائة وألف بيت.

كما تتبين مهارة الشاعر وحسن احتياله في المواقف الحرجة، فهو يحتال لتقاتل رستم وابنه سهراب الذي خرج من بلد أمه ليلقى أباه. وهو يحمل على عضده خرزة أعطاها رستم أمه لتعلقها على عضده فيعرفه بها، ثم يلتقي الابن والأب في معارك عدة، وتتعاقب الحوادث ولا يعرف الأب ابنه إلا بعد أن يصرعه ويضربه بخنجره ضربة قاتلة. والشاعر في هذا كله يحتال ويتلطف ليجعل القصة ممكنة عقلا.

وأحرج من هذا موقف الشاعر في حرب رستم واسفنديار. رستم بطل إيران الذي كفل لها النصر على أعدائها، وأنقذها من كل كارثة أكثر من ثلاثمائة سنة. واسفنديار ابن الملك كشتاسب البطل الناشئ، بل دين زرادشت الذي أشبه رستم في وقائع كثير. وتنتهي الحوادث بالتقاء البطلين في الحرب، ولا تريد القصة أن تجحد تاريخ البطل القديم المتوج بمآثر العصور المتطاولة، ولا أن تغض من بطولة اسفنديار ابن الملك، وبطل الدين الجديد. وهذه خلاصة مجملة جدا:

كشتاسب وعد ابنه اسفنديار أن يفوض إليه الملك إذا انتصر في بعض الحروب، ففعل واستنجز أباه الوعد. ويريد كشتاسب أن يحرضه على حرب رستم البطل القديم لأنه اغتر بنفسه وأقام في وطنه، ولم يبال بالملك كشتاسب. ويعظم اسفنديار رستم ويثني عليه، فيأبى أبوه إلا أن يسيره إليه؛ فيخرج البطل كارها حرب البطل؛ فهذا أول تحيل في القصة.

وسار اسفنديار إلى زابلستان مواطن رستم، وأرسل ابنه بهمن يدعو رستم إلى طاعة الملك، ويخبره أن الملك أقسم في غضبه أن يأتيه رستم مقيدا.

فيجيب رستم ذاكرا مآثره وماضيه في خدمة الملوك، ويدعو اسفنديار إلى ضيافته وعدا بأن يسير معه إلى الملك.

ويتلاقى البطلان على الود والتصافي، فيستضيف رستم اسفنديار، فيعتذر بأن الملك لم يأذن له في المقام، ويدعوه إلى أن يبر يمين الملك.

وانتهى الأمر إلى أن احترب البطلان، وكانت سهام اسفنديار الملكية تنال رستم، ولا تصل سهام رستم إلى اسفنديار، جرح رستم ورخشه (فرسه).

فاستعان زال أبو رستم بالعنقاء - وهي التي ربت زالا رضيعا - فأبرأت رستم والرخش من الجراح، وأعطته غصنا من الطوفاء يتخذه سهما يرمي به اسفنديار.

ثم يذهب رستم إلى اسفنديار ويتضرع إليه ليكف عن حربه فيأبى، فيرميه بالسهم فيصيب حدقته.

ويتوجع رستم لما أصاب اسفنديار، ويعترف اسفنديار أن الذي قتله هو أبوه الملك كشتاسب الذي ألجأه إلى حرب رستم. ثم يوصي إلى رستم بولده بهمن ليربيه، ويتعاهدان على هذا.

وهكذا تنتهي القصة، والقارئ لا يدري من الغالب ومن المغلوب، وإذا البطلان بريئان من جناية هذا القتال، كلاهما مكره عليه، وكلاهما لم يجد منه بدا.

16

وقد قتل رستم اسفنديار وهو يحبه كما قتل بروتس قيصر. (ب) الشاهنامة والملاحم الأخرى

الشاهنامة سجل ما وعته الروايات الفارسية من تاريخ وأساطير منذ أقدم العصور إلى الفتح الإسلامي. وقد جمعت ونظمت لتكون تاريخا للقوم. وهي مرتبة ترتيب التاريخ، تتناول أربع دول، تتدرج من الخرافات إلى التاريخ حتى تنتهي بالدولة الساسانية والفتح الإسلامي، ويستمر القصص فيها 3872 سنة.

فهي ليست قصة واحدة كالإلياذة والأوذيسية والمهايهارتا والراما يانا والإنيادة وغيرها، ولكنها تحتوي على قصص حماسية أو غرامية، كل واحدة منها تشبه هذه الملاحم ويمكن فصلها من الشاهنامة؛ مثل: حرب بني أفريدون أو حرب كيكاوس والجن في مازندران، أو قصة سهراب ورستم، من القصص الحماسية. ومثل: قصة زال وروذابه، وبيزن ومنيزه من قصص الحب.

وكذلك يظهر القاص - وهو الشاعر - في أثناء الفصول، واعظا أو شاكيا، لأنه يجد فرجا بين القصص يظهر فيها، لا كالقصص الأخرى التي يختفي فيها القاص في القصص كله.

وهذا مثل من تحدث الفردوسي عن نفسه أثناء المنظومة:

شكوى الفردوسي من الدهر

أيا فلكا دائرا عاليا

غدوت على كبري زاريا

حدبت علي وعمري قشيب

وأنحيت بالذل حين المشيب

ويذوي على الدهر كل نضير

وكالشوك يصبح مس الحرير

حنى الدهر سرو الرياض السوي

وأطفأ ذاك السراج البهي

وقد كنت كالأم لي مكرما

وها أنا ذا منك أبكي دما

وما إن وفيت ولم تحلم

فويلاه من صرفك المظلم

فليتك لم ترني ناشئا

وليتك لم تنقلب شانئا

إذا حم تركي هذا الظلام

أبث شكاتي لرب الأنام

سأشكو إلى الله هذا العذاب

برأسي مما جنيت التراب

رأى الدهر ضعفي حين الكبر

فأضعف لي إثمه واكفهر •••

فرد الجواب إلي الفلك

كفى أيها الشيخ ما أجهلك

لماذا ترد إلي الأمور

أهذي الشكاة شكاة البصير؟

ومن لي بأوج تبوأته

لك العقل بالعلم روأته

طعام ونوم وعيش رغد

وحكمك بين الهوى والرشد

ومالي يدان بهذا الخطر

ولا الشمس تدري بذا والقمر

فسل عن سبيلك رب السبيل

ورب الدجى والضحى والأصيل

أجل واحد ظاهر لا ينام

ولا بدء في فعله أو ختام

وإني في الخلق بعض العبيد

أوجه وجهي حيث يريد

وما إن أطعت سوى حتمه

ولا أعرف الوجه عن حكمه

إلى الله سر وعليه اتكل

وسل راضيا خير من قد سئل

فما غيره قد أدار الفلك

وأذكى مصابيحه في الحلك (ج) القصص الحماسية بعد الشاهنامة

كلف الناس بالشاهنامة، وأنشدوها في محافلهم، وعاشروا أبطالها وأعجبوا بهم؛ فاتجه كثير من الشعراء إلى نظم القصص القديمة التي أغفلها الفردوسي أو لم يعرفها، فنظموا قصصا معظمها يدور حول أبطال الشاهنامة أو ذوي قرابتهم ولا سيما أسرة رستم التي لها المكانة الأولى في بطولة الشاهنامة.

17 (د) القصص الغرامية

ونظم الفردوسي بعد الشاهنامة قصة يوسف وزليخا، وهي قصة قرآنية أراد الشاعر أن يكفر بنظمها عن نظمه أساطير القدماء في الشاهنامة؛ يعلن هو هذا في مقدمة القصة. ويقول الفردوسي إنه قد سبقه إلى نظمها شاعران: أبو المؤيد البلخي والبختياري.

كان نظم هذه القصة بدء سلسلة أخرى من القصص الفارسية، هي قصص ليست حماسية، ولكنها غرامية أو تاريخية أو فلسفية وأخلاقية، يخالطها نزعات من الزهد والتصوف، وتغلب عليها هذه النزعات أحيانا فتدخلها في التصوف الذي يأتي حديثه من بعد.

نظم الشاعر عمعق البخاري - من شعراء القرن الخامس - قصة يوسف وزليخا أيضا. ثم نظمها عبد الرحمن الجامي الصوفي العظيم - من شعراء القرن التاسع - ونظمها آخرون من بعد.

وقد نظم الشاعر العنصري (المتوفى سنة 431ه، وهو معاصر للفردوسي، وأحد كبار الشعراء الذين عاشوا في حماية السلطان محمود الغزنوي) قصة وامق وعذراء، وهي قصة قديمة كتبها سهل بن هارون بالعربية. ويروى أنها نظمت بالفارسية في عهد بني طاهر أي في القرن الثالث الهجري. ثم نظمها من بعد فصيحي الجرجاني - من شعراء القرن الخامس - وكثير من الشعراء المتأخرين في عهد الصفويين والقاجاريين.

وقصة أخرى من قصص الغرام الفارسية القديمة نظمها خير الدين الجرجاني - شاعر السلطان طغرلبك - في القرن الخامس، وهي قصة ويسن ورامين.

ومن القصص التي أولع بها الشعراء فنظموها مرات، قصة خسرو وشيرين (كسرى برويز وحظيته شيرين)، نظمها الشاعر العظيم نظامي وتبعه شعراء.

ثم القصة العربية الخالصة، قصة ليلى والمجنون، نظمها نظامي، ثم الأمير خسرو الدهلوي (المتوفى سنة 825ه) أحد شعراء الفارسية في الهند، ثم عبد الرحمن الجامي، ثم مكتبي الشيرازي (المتوفى سنة 895ه) ونامي من شعراء القرن الثاني عشر.

وقد انتهت الصنعة والإحكام والدقة في هذا الضرب من القصص إلى نظامي الكنجوى (المتوفى في حدود سنة 600ه) وقد نظم منظومات خمسا، منها أربع قصصية، هي خسرو وشيرين، وليلى والمجنون، وقصة بهرام، وقصة إسكندر. وقد كلف بعض الشعراء من بعده بأن يكونوا أصحاب «خمسة» أيضا.

ولا يتسع المجال هنا لترجمة نماذج من هذه القصص فأكتفي بهذا الإجمال. (7-2) شعراء الصوفية

التصوف ليس فلسفة محدودة المسائل، ولا مذهبا بين المعالم، يجتمع الذاهبون فيه على رأي واحد في الفكر، وخطة واحدة في الفعل، بل الصوفيون يكرهون الحدود، وينفرون من القيود، وقد قالوا: إن الطرق إلى الله كعدد أنفس بني آدم، يعنون أن لكل نفس طريقها إلى الله، ولكن مع هذا قد اجتمعت من أقوال الصوفية وأفعالهم على مر الزمان آراء وأفعال تعد من قواعد مذهبهم ويسمي الناس من يرى هذه الآراء، أو يفعل هذه الأفعال «صوفيا».

وقد كثرت تعريفات التصوف والصوف، لأن المعرفين لم يحاولوا الحد المنطقي الجامع، ولكن نظر كل واحد إلى وصف مستحسن فعرف التصوف به، أو غلب عليه حال من أحوالهم فآثره على غيره. وقد جاء في رسالة القشيري تعريفات منها:

قال الجنيد: التصوف هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به.

وقال عمرو بن عثمان الملكي: أن يكون العبد في كل وقت بما هو أولى به في الوقت.

وقال رويم. استرسال النفس مع الله تعالى على ما يريد.

وقال معروف الكرخي: الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق.

وقال الشبلي: الجلوس مع الله بلا هم.

ومن التعريفات ما ينظر فيه إلى جانب العمل، كقول أبي محمد الجريري وقد سئل عن التصوف:

الدخول في كل خلق سني، والخروج من كل خلق دني.

وقول رويم: التصوف يبنى على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار ... إلخ.

وقال سمنون: هو ألا تملك شيئا، ولا يملكك شيء.

وأرى أن العارف بتاريخ القوم وأحوال أئمتهم لا يبعد أن يعرف التصوف تعريفا مجملا بأنه فكر وذكر وعمل يراد بها الفناء في الله تعالى.

ثم الناظر في تاريخ التصوف الإسلامي يجد فيه ثلاث مراحل:

الأولى:

التعبد والزهد والخوف الشديد من الجزاء. وهذا نجده في سيرة الحسن البصري وسفيان الثوري، وأمثالهما.

والمرحلة الثانية:

ذكرت فيها المعرفة والمحبة، كما نجد في أقوال معروف الكرخي، وبشر الحافي، والسري السقطي وأمثالهم. قال الجنيد سألني السري يوما عن المحبة: فقلت، قال قوم الموافقة، وقال قوم الإيثار. وقال قوم كذا وكذا. فأخذ السري جلدة ذراعه ومدها فلم تمتد. ثم قال: وعزته تعالى لو قلت إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته لصدقت.

وممن أكثر الكلام في المعرفة ذو النون المصري.

والمرحلة الثالثة:

مرحلة الفناء التي أدت إلى القول بوحدة الوجود. ومن أوائل المتكلمين في الفناء الجنيد، والشبلي. ومن المفرطين فيها المغلوبين على أقوالهم أبو يزيد البسطامي. وفي كتاب اللمع لأبي نصر السراج صورة مما لقيه الجنيد من العناء في تأويل أقوال أبي يزيد.

وقد اتضحت هذه النزعات على مر الزمان، وشرحت ووضعت فيها المؤلفات، واختلفت فيها المناهج والأقوال.

وانقسم الناس منذ القرن الثالث إلى أهل الصحو الحافظين أقوالهم وأفعالهم، وأهل السكر الذين يغلبهم الوجد على أنفسهم.

وليس يتسع المجال لإجمال الكلام في هذا الموضوع بله تفصيله.

وإنما أردت أن أقدم هذه اللمحة قبل الكلام على شعراء الصوفية في اللغة الفارسية. وفي شعرهم تتجلى هذه المراحل الثلاث، ولكن اهتمامهم بالزهد والتعبد قليل، وحديث المعرفة والعشق والوجد والفناء يفيض به شعرهم في صور لا تعد، بين الحقيقة والمجاز، والتصريح والكتابة، والوضوح والخفاء. وقد كثر حديثهم عن الحبيب والوجه والطرة والعين، والخمر والكأس والساقي، ونحو هذا حتى صار لهم لغة خاصة يعرفون هم ما يريدون بها. وقد فسر كثيرا منها محمود الشبستري في كتابه كلشن راز (حديقة السر).

ومع هذه المعاني ألوف من المعاني النفسية والآفاقية، هي أسمى ما أحسه الإنسان في نفسه أو أدركه في العالم مشاهدة أو سماعا، مما يتصل بمقاصد الإنسان وما يلقاه في سبيله إلى هذه المقاصد. والخلاصة أن النفس الإنسانية مصورة في جمالها وقبحها، وسموها وإسفافها، وحبها وبغضها، وسعادتها وشقائها، وفي نزعاتها العليا إلى عالمها وإلى الله مبدئها ومنتهاها.

والقصص والتمثيل له من اهتمامهم نصيب كبير، فالقصص الطويلة والقصص الصغيرة المستقلة، أو التي تأتي في ثنايا القصص الكبيرة، والتمثيل والإشارة إلى القصص والحوادث، أظهر ما يراه قارئ الشعر الصوفي.

ويحسن - على ضيق المجال - أن أبين تصور الصوفية لوحدة الوجود، فهي النغمة الشائعة في أناشيدهم، والفكرة المستكنة وراء أبلغ أشعارهم.

وحدة الوجود نبع يفيض فيخرج الشجر المختلف، والزهر المتعدد، والعشب الشتيت؛ صور متعددة مختلفة الأشكال والألوان ووراءها هذه الفكرة.

وخلاصة ما تنم عنه أشعارهم فيها أنه ليس في العالم كله إلا وجود واحد، هو الوجود الحق المطلق، وهو الخير المحض والجمال المحض. وقد تجلى هذا الوجود المطلق فصدر عنه العالم؛ أراد هذا الجمال أن يعرف، وأول صفات الجمال التجلي أو كما قال أفلوطين: «الكمال يقتضي الظهور.» وفي ذلك يروي الصوفية هذا الحديث القدسي: «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني.» وما أكثر ما يشير شعراء الصوفية إلى هذا الحديث.

وهذا العالم ليس وجودا، بل هو عدم ظهر كالخيال في المرآة أو أشعة الشمس في الماء.

وفي هذا يروي الصوفية أثرا آخر، «كان الله ولا شيء معه. وهو الآن على ما عليه كان.»

وقد تنزل الفيض عن الله في مراتب حتى بلغ عالم المادة، ثم ترقت المادة فصارت نباتا، ثم حيوانا، ثم إنسانا كاملا، وهو الحلقة التي تصل العالم بالوجود المطلق مرة أخرى.

الإنسان خلاصة العالم، وهو العالم الأصغر الذي انطوى فيه العالم الأكبر:

وتزعم أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وهو وجدان العالم الشاعر بنفسه وبالله وهو صلة المادة أو العدم بالموجود المطلق، فهو مركب من وجود وعدم، من روح ومادة.

والروح من عالم الغيب، وهي في حنين دائم إلى عالمها. وغاية الصوفي في هذه الحياة أن ييسر للروح النجاة، وأن يخلصها من هذا التقفص، ويحررها من كل علاقة حتى تتصل بالله. والطريق إلى النجاة هذه هي الرياضات والمجاهدات التي تحرر الروح من الأهواء والشهوات، وتطلقها من القيود، وترجعها وجودا مطلقا غير محدود بزمان أو مكان أو ميل أو هوى.

ولهم في هذا الطريق مراحل وأودية يقطعها السالك بهداية المرشد حتى يبلغ غايته. فيفنى ثم يوجد في الفناء، وتلك حال وراء المعرفة والعقل يتحد فيها العاشق والمعشوق.

والعشق هو النار التي تنفي كل خبث، وتطهر من كل دنس، وهو أجرأ من العقل وأقدر منه على مباشرة الأهوال واقتحامها.

يقول العطار: «العاشق من يمضي كالنار مضطرما سريعا أبيا، يحرق مئات العالم ولا يبالي طرفة عين ... العشق نار، والعقل دخان، فإذا جاء العشق ولى العقل هربا.»

ويقول جلال الدين: «العشق أن تنظر إلى السماوات، وتمزق كل لحظة مائة حجاب، وأول خطواته أن تهجر الحياة.»

ويقول حافظ: «كم في الطريق إلى منزل ليلى من أهوال وأخطار، شرط أول خطوة أن تكون المجنون.»

ويقول الجامي: «العشق ينغم ألحانا من وراء حجاب. فأين العاشق ليسمع، إن له في كل نفس نغمة جديدة، وفي كل آن لحنا عجيبا. كل العالم أصداء نغماته، فمن ذا الذي استمع لهذا الصدى الدائم؟ تلك أسرار يفشيها العالم، وكيف تحفظ الأصداء أسرارا! إن سره على لسان كل ذرة، فاستمع أنت فما أنا بنمام.»

ويتصل بعقيدتهم في الوحدة إعظامهم الحقيقة العليا التي تجاهد النفس لمعرفتها، واحتقارهم الأشكال والصور التي يختلف بها الناس: «ليست وجوه الاثنتين وسبعين ملة إلا إلى هذه السدة، عالم حائر وليس فيه ضال.» «أطلبك تارة في الكعبة، وتارة في الدير، أعني أفتش عنك في بيت بعد بيت.»

بل يقول بعضهم: «إن الإيمان والفكر يتركان في صف النعال حين يقصد الإنسان هذه الحضرة، كما يخلع المصلي نعليه، وكما خلع موسى نعليه في الوادي المقدس.»

تطور الشعر الصوفي وكبار شعرائه: في شعر الفردوسي، وشعر المعاصرين لمع من التصوف جاءت أثناء الموضوعات الأخرى ولا سيما القصص الدينية مثل قصة يوسف وزليخا. ولكن أحد معاصري الفردوسي قصر شعره على التصوف فلم ينظم في غيره، فكان أول شاعر صوفي. وقد اختار هذا الشاعر للإبانة عن أفكاره ضربا من النظم قصيرا هو الرباعيات، فكان من أوائل الناظمين فيها، وكانت كل رباعية تحوي فكرة من أفكاره تسير بها مسير الأمثال، فتذيع الفكرة والصورة التي اختيرت لها، أي التصوف والرباعيات.

أبو سعيد: ذلكم الشاعر هو أبو سعيد بن أبي الخير من بلدة مهنا في خرسان (357-440ه)، وكان معاصرا للشيخ الرئيس ابن سينا. ويروى أنهما التقيا فلما افترقا قال أبو سعيد: «هو يعرف ما أرى.» وقال ابن سينا: «هو يرى ما أعرفه.» فإن صحت الرواية أو لم تصح فهي إشارة إلى ما بين الصوفية والفلاسفة من فرق. الأولون يحاولون الكشف والمشاهدة، والآخرون يعتمدون على العقل والتفكير.

ويعتبر أبو سعيد أول من صاغ الفكرة الصوفية في الصور الشعرية التي شاعت في أقوال الصوفية من بعده.

تعزى إليه هذه الرباعية العربية:

يا من بك حاجتي وروحي بيديك

عن غيرك أعرضت وأقبلت عليك

مالي عمل صالح أستظهر به

قد جئتك راجيا، توكلت عليك

ومن رباعياته الفارسية ما ترجمته:

يا من وجهه قمر يضيء العالم، ووصله في كل قلب تمن دائم؛

ويلي إن كنت مع غيري خيرا منك معي، وإن كنت مع كل إنسان مثلي، فويل بني آدم. •••

الغازي للظفر بالشهادة يعمل، لا يدري أن العاشق منه أفضل.

كيف يشبه هذا ذاك يوم القيامة، هذا قتيل العدو وذاك بيد الصديق يقتل. ••• «كل سير في طريقك جميل، وكل توجه إلى ذراك جميل.» «ووجهك بكل عين تراك جميل، واسمك بكل لسان يذكرك جميل.» ••• «جسمي كله ألم، وعيني كلها دمع من أجلك، وإنما يعاش بغير جسم في عشقك.» «لم يبق مني أثر، فما هذا العشق؟ صرت كلي معشوقا فمن العاشق لك.» ••• «منذ أحسست في قلبي نارا، حسبت النظر إلى الجنة عارا.» «ولو رأيت الجنة ولم أرك، لعددت هذه الجنة نارا.»

الأنصاري: ثم ظهر في هراة الشيخ عبد الله الأنصاري (396-481ه) وقد كتب كتبا منثورة في التصوف، منها طبقات الصوفية، وله ديوان ومناجاة منثورة، هي من أجمل ما وعى النثر الفارسي. وهذه نبذ منها: «إلهي أمامي خطر، وليس خلفي طريق، خذ بيدي، فمالي إلا فضلك والتوفيق.»

إلهي في رءوسنا خمارك، وفي قلوبنا أسرارك، وعلى ألسنتنا أشعارك، إذا طلبنا فإنما نطلب رضاك، وإذا قلنا فإنما نرتل ثناك. إلهي، كل إنسان مفلس مما ليس عنده، وأنا مفلس مما عندي، لا حد لفضلك، ولا لسان لشكرك. إلهي، ليست الجنة بدونك دار سرور، وكيف بغير محبتك الحرية والحبور. إلهي امنحنا عينا لا ترى سواك، وهبنا قلبا لا يختار إلا تقواك. إلهي إن سألت فليس لنا حجة، وإن وزنت فليس لدينا سلعة، وإن أحرقت فما فينا طاقة، نحن مفلسون معدمون، ومن زينة الطاعة عاطلون، وإليك فقراء محتاجون. إلهي، أنت حاضر فماذا أطلب، وأنت ناظر فماذا أقول؟ إلهي، كل الناس يرجون أن ينظروا إليك، وعبد الله يرجو أن تنظر إليه. إلهي ، لك الجمال، وقبيح ما سواك، والزهاد يشترون الجنة بتقواك. إلهي، ليل الفراق مظلم رهيب، ولكن القلب يوقن أن صبح الوصال قريب. إلهي، أنت ألقيت في حجر آدم در الاصطفاء، وأنت نثرت على فرق إبليس تراب الشقاء، نقول تأدبا فعلنا الشر لا أنت، والحق أنك الذي فتنت. إلهي، عندك نار الفراق، فلماذا تبغي في جهنم الإحراق.

سنائي: ثم جاء على آثار هؤلاء الشاعر الكبير الذي يعد طليعة أئمة الشعراء الصوفية، وهو مجد الدين سنائي الغزنوي المتوفى سنة 545ه. وقد قال جلال الدين الرومي: «كان العطار وجها، وكان سنائي عينيه، وجئنا على أثر سنائي والعطار.»

18

فما زال الناس يجمعون الثلاثة في أحاديثهم وكتابتهم لقول جلال الدين هذا.

ولسنائي أول مثنوي مطول في التصوف، وهو كتاب تعليمي اسمه «حديقة الحقائق» نظمه سنة 525ه.

ومما يختار من آراء سنائي قوله: «رجعت عن كل ما قلت حين لم أجد في الألفاظ معاني، ولا للمعاني ألفاظا.»

19

وهو خلاصة ما يقوله الصوفية حين يحسون العجز عن الإبانة عما في أنفسهم من الوجد أو الإدراك الخفي.

ومن عجيب أقواله أبيات أحسبه يريد أن يبين فيها أن الرقي في عالم المادة أو عالم الروح بطيء جدا لا بد له من جهاد طويل وزمن مديد، وذلك قوله: «ألم الدين ألم عجيب، كلما مرضت فيه كنت كالشمع صحته أن يقطع عنقه .

20

كيف يبلغ الإنسان غايته في هذا الطريق بالقول واللسان؟ لا بد من ألم يذيب الصبر، ورجل مقدام.

تمضي القرون حتى يصير الطفل بلطف طبيعته عاقلا كاملا أو فاضلا فصيحا.

وتمضي السنون ليصير الحجر في حر الشمس لعلا في بدخشان أو عقيقا في اليمن.

21

وتمضي الشهور لتصير قبضة صوف من ظهر شاة خرقة لصوفي أو رسنا لحمار.

22

وتمضي الأسابيع لتخرج قطعة قطن من الماء والطين فتصير حلة لجميل أو كفنا لشهيد.

وتمضي الأيام في انتظار بعد انتظار ليصير المطر في جوف الصدف درا في عدن.

ولا بد من صدق وإخلاص، واستقامة، وطول عمر لتخرج قرن رجلا قرينا للحق.

23

لا تمكن الاستقامة على طريق التوحيد بقبلتين، فاختر إما رضا الحبيب وإما هوى النفس.»

ويظهر أن الشاعر أراد أن يبين أن الكمال ليس يسيرا، ولكنه يقتضي جهادا وزمنا طويلا. وينبغي ألا يبالي القارئ بذكر القرون والسنين والشهور ... إلخ، فإن حب الشاعر أن يذكر مقادير الزمان كلها أخل بالفكرة بعض الإخلال.

العطار: مهد هؤلاء الطريق للشاعر العميق الفياض، شاعر الحب الإلهي، الذي كانت أقواله تسمى «سوط السالكين»؛ وهو فريد الدين العطار النيسابوري المتوفى في أوائل القرن السابع.

نظم هذا الشاعر العظيم زهاء أربعين منظومة طويلة وقصيرة، أسيرها بندنامه (كتاب النصائح)، ومنطق الطير.

فأما الأولى فمنظومة أخلاقية دينية اتخذت للتأديب، وترجمت إلى العربية والتركية.

منطق الطير: وأما منطق الطير فهو الكتاب الذي ضمن للعطار الصيت والخلود. منظومة فيها زهاء أربعة آلاف وستمائة بيت في بحر الرمل والقافية المزدوجة (المثنوي)، لها مقدمة في التحميد والصلاة على الرسول ومدح الخلفاء الراشدين تستغرق ستمائة بيت، ثم يقص الشاعر قصته في خمس وأربعين مقالة وخاتمة. وخلاصة هذه القصة العجيبة:

إن الطير اجتمعت فتشاكت ما هي فيه من التفرق والفوضى، وأنها ليس لها رئيس يجمع كلمتها على حين لا تخلو أمة من ملك.

الهدهد :

خبرت الدهر، واعتزلت الناس، وجهدت في طلب الحق، وصحبت سليمان، وطوفت في الأرض سهلها وحزنها، ودانيها وقاصيها، وعرفت أن لنا ملكا ولكني عجزت عن المسير إليه وحدي، فإن تعاونا استطعنا أن نبلغ مكانه. ملكنا اسمه السيمرغ، وراء جبل اسمه قاف، هو منا قريب، ونحن بعيدون. هو في حرم جلاله، لا يحيط البيان بوصفه، ودونه آلاف من الحجب.

وأول العهد به أنه كان طائرا في ظلمات الليل في سماء الصين، فسقطت من جناحه ريشة، فقامت قيامة الأمم تعجبا من ألوانها العجيبة. ألم تسمعوا الأثر: اطلبوا العلم ولو في الصين؟ ولولا أن ظهر نقش هذه الريشة في هذا العالم ما ظهر طائر منكن. (فلما سمعت الطير مقال الهدهد هاجها الشوق إلى السيمرغ وأزمعت الرحيل إليه، ثم ذكرت ما في الطريق من أهوال فأخذ كثير منها يعتذر.)

البلبل :

أنا إمام العاشقين ، أفعمت القلوب وجدا بأغاريدي؛ فكيف أطيق فراق حبيبي الورد؟

الببغاء :

حسبي ما قاسيت. إن جمال هذا الريش أغرى الناس بي فحبسوني فقاسيت الغم الطويل والألم الممض. على أني لا أستطيع الطيران تحت جناح السيمرغ.

الطاووس :

كنت مع آدم في الجنة فطردت منها، وكل همي أن أرجع إليها، ولست أطيق مصاحبة السيمرغ.

البط :

ألفت الطهارة، ولزمت الماء، وزهدت فيما عند غيري، ولست أستطيع مفارقة الماء والعيش على اليبس.

الحجل :

وأنا ألفت الجبال، وسكنت إليها، فكيف أستطيع أن أبرحها؟

الصعوة :

أنى لي أنا الصغيرة الضعيفة، أن أسلك هذه السبيل إلى ذلك المقصد؟

البازي :

تعلمون مكاني من أيدي الملوك، ولا أود أن أترك هذه المكانة.

الهدهد :

لا آلوكن نصحا، ولست أبغي إلا الخير، كيف تعتذرن بما ألفتن وتتركن هذا المطلب الخطير؟ إن العزم والصبر يهونان كل صعب، ويقربان كل بعيد.

الطير :

كيف نقطع هذه الطريق الشاقة البعيدة؟ وما الذي يصلنا بهذا الملك العظيم؟ (وتكثر الأسئلة).

الهدهد :

ما هذا التواني في الطلب، والركون إلى الدعة، والوجل من لقاء الشدائد؟ تزودن بكفاء هذا الطلب من الهمة والعزم والتجلد. وأما صلة الطير بالسيمرغ فقد تجلى كالشمس من وراء الحجب فوقعت على الأرض آلاف الظلال؛ فأنتن هذه الظلال أيتها الطير.

إن العشق إذا صدق استسهل العاشق كل صعب في سبيله، واقتحم كل عقبة إلى حبيبه . (وهنا يستطرد الشاعر إلى قصة الشيخ صنعان الذي أخرجه العشق من دينه، ونصحه تلاميذه فلم يجد النصح، حتى أدركه لطف الله. وهي قصة عجيبة في مائتي بيت.)

هاجت الطير شوقا إلى السيمرغ، وأجمعت على المسير إليه، وعلى أن يقرع بينها ليتولى أحدها الإمارة في الطريق، فأصابت القرعة الهدهد. فوضع التاج على رأسه وتقدم، واجتمعت إليه أسراب الطير فأوفى بها على طريق موحشة.

طائر :

ما لهذه الطريق مقفرة موحشة مخيفة؟

الهدهد :

إن الناس تجنبوها إشفاقا وخوفا. أما سمعت قصة أبي يزيد البسطامي حين خرج إلى البرية في ليلة مقمرة والناس نيام، فراقه جمال الليل وتهويده، وعجب كيف حلت هذه البرية من السالكين. فسمع مناديا يناديه: إن الملك لا يأذن لكل أحد أن يسلك طريقه، وإن عزتنا أبعدت السائلين عن بابنا.

وسارت الطير فرأت طريقا ولا غاية، وألما ولا دواء. هنالك تهب ريح الاستغناء فينحني لها ظهر السماء،

24

هنالك صحراء لا يعبأ فيها بطاووس الفلك فكيف بطير هذه الدنيا؟

الطير :

أيها الهدهد، إنك طوفت في الآفاق، وعرفت كل شيء فارق المنبر لنسألك عما حاك في صدورنا، فلا بد أن تنفي الريبة عن قلوبنا. (فصعد البلبل المنبر وغرد بعض الطير تغريدا أذهل الطيور. ثم تواترت الأسئلة.)

طائر :

أخبرني أيها الإمام، كيف فضلتنا جميعا، وما هذا التفاوت بيننا وبينك؟

الهدهد :

نلت هذه الدولة بنظرة من الملك؛ إنها دولة لا تنال بالطاعة، فكم أطاع إبليس! لست أهون أمر الطاعة فعليك بها، ولا تفتر عنها ساعة، ولكن لا تقدمها ثمنا. أمض عمرك في الطاعة حتى تصيبك نظرة من سليمان. (ثم سئل الهدهد عشرين سؤالا أجاب عنها مسهبا مفصلا ضاربا الأمثال، وكان السؤال التاسع عشر والعشرون كما يأتي.)

طائر :

ما الهدية اللائقة بتلك الحضرة التي نقصد إليها؟

الهدهد :

لا تحمل معك شيئا، فهنالك كل شيء، ليس خيرا لك من العشق والطاعة.

طائر :

كم فرسخا مسافة هذه الطريق، وما الذي نلقاه فيها؟

الهدهد :

أمامنا سبعة أودية لا نعرف مسافاتها، فإن أحدا لم يرجع منها فيحدث عن طولها؛ أمامنا أودية الطلب، والعشق، والمعرفة، والاستغناء، والتوحيد، والحيرة، والفقر، والفناء.

ويصف الهدهد هذه الأودية وصفا هائلا مسهبا حتى يبلغ الوادي السابع، فيقول إنه وادي الدهشة، والصم والبكم والذهول. هناك آلاف من الظلال تمحى في ضوء الشمس. إذا ماج البحر المحيط، فكيف يبقى النقش على صفحة الماء، ولكن كل من فقد نفسه في هذا البحر فهو في فناء وسلام أبدا. ويضرب الهدهد أمثالا منها:

إن الفراش اجتمع ليلة وأجمع على طلب الشمعة، واقترح أن يذهب بعضه ليراها ويصفها، فذهبت فراشة إلى قصر ينبعث منه نور الشمعة، فرجعت تصف الشمعة لأخواتها. قالت فراشة خبيرة: مالك بالشمعة علم. فانبعثت فراشة أخرى حتى أتت موضع الشمعة، فاقتربت ثم اقتربت، حتي آلمها حر النار، فرجعت تصف ما عرفت من أسرار الشمعة. قالت الفراشة العارفة أيتها الأخت: ما هذا إلا الذي سمعنا من قبل. فانطلقت ثالثة سكرى من الشوق راقصة، مرفوقة حتى ألقت نفسها في لهب الشمعة أحاطت بها النار فاحمرت كاللهب ثم رجعت. فلما رآها الخبير في ضوء النار ولونها، قالت أجل: لقد عرفت هذه الشمعة، إنما يدرك الحبيب بالفناء فيه.

ولما فرغ الهدهد من مقاله جزعت الطير، وعرفت أنها لا طاقة لها بهذا السفر، ومات بعضها في مكانه فرقا. ثم سارت الأسراب، فلقيت ما لا يوصف من الهول، وهلك أكثرها في الطريق، فمنها غارق في البحر، ومنها ضال في الفيافي، ومنها هالك عطشا على قنن الجبال، ومنها محترق في وهج الشمس، وبعضها ساقط إعياء، وبعضها شغلته عجائب الطريق فوقف، وبعضها وجد ما يلهو به فركن إلى الدعة وآثر العافية، وبعضها أصابته مصيبة أخرى.

لم يبلغ الغاية من هذه الآلاف المؤلفة، إلا ثلاثون طائرا (سي مرغ). بلغت الغاية، وقد أشرفت على الهلاك ألما وإعياء؛ فماذا وجدن هناك؟ وجدن ما لا يدركه العقل، ولا يناله الوصف؛ رأين برق الاستغناء يومض فيحرق مئات العوالم في لمحة؛ رأين آلاف الشموس والكواكب حائرة كالذرات. قال بعض الطير لبعض: وا أسفاه على ما تحملنا من مشاق السفر. إن مائة فلك هنا كذرة من التراب، فما وجودنا وما عدمنا في هذه الحضرة؟

وبقين في حسرة وحزن حتى خرج حاجب العزة:

الحاجب :

أيتها الحائرات المضنيات! من أين جئتن، ولماذا أقبلتن؟ وما اسمكن؟ وماذا سمعتن، ومن أخبركن أن قبضة من الريش والعظم مثلكن تقدر على شيء؟

الطير :

جئنا هنا ليكون السيمرغ ملكنا. وقد طال علينا الطريق؛ كنا آلافا فما بقي منا إلا ثلاثون. جئنا من بعيد، راجيات أن يؤذن لنا في هذه الحضرة. جئنا لعل الملك يرضى أعمالنا فتنالنا منه نظرة.

الحاجب :

أيتها الحائرات! ما أنتن؟ ما وجودكن وعدمكن في حضرة الملك المطلق الباقي، إن مئات العوالم لا تزن شعرة أمام هذا الباب. هلم فارجعن أيتها المسكينات.

الطير :

إن هواننا على هذا الباب عز، وسنبقى هنا نحترق كالفراش في النار، ولن نيأس من رحمة الملك.

فخرج حاجب الرحمة، وفتح لهن الباب وتقدمهن يرفع مئات من الحجب كل لمحة؛ فانبعث النور في الأرجاء، وبدا عالم التجلي، وأجلست الطير على أرائك القرب. ثم أعطي كل طائر ورقة، فقرأ فيها ما قدم من عمل، فغشي عليه خجلا، ثم محيت الأعمال وأنسيت فلم تذكر الطير شيئا.

ثم أضاءت شمس القرب محرقة كل روح فرأين السيمرغ حينئذ، وما أعجب ما رأين! كن إذا نظرن إلى السيمرغ، رأين سي مرغ (ثلاثين طائرا) وإذا نظرن إلى سي مرغ (الثلاثين طائرا) رأين السيمرغ. وإذا نظرن إلى أنفسهن والسيمرغ معا؛ رأين السيمرغ وحده. فأخذتهن الحيرة، وسألن فقيل لهن: إن هذه الحضرة مرآة، فمن جاءها لا يرى إلا نفسه، جئتن سي مرغ (ثلاثين طائرا) فرأيتن السيمرغ. كيف تدركنا الأبصار، كيف تنال الثريا عين النملة؟ ليس الأمر كما رأيتن وعلمتن، ولا كما قلتن أو سمعتن، ولكن قد خرجتن من أنفسكن؛ فها هنا مكانكن، فامحين وضاع الظل في الشمس.

فلما مضى مائة آلاف من القرون - القرون التي لا زمان لها - أرجعت الطير الفانية إلى أنفسها. فلما رجعت إلى أنفسها بغير أنفسها، رجعت إلى البقاء بعد الفناء.» (7-3) مولانا جلال الدين الرومي

استبحر الشعر الصوفي، وفاض بمنظومات سنائي والعطار ومن حذا حذوهما حتى القرن السابع، فولد في أوائله أكبر شعراء التصوف وفلاسفته ومعلميه وشيوخه، محمد بن محمد بن الحسين البكري البلخي المعروف باسم مولانا جلال الدين الرومي.

رحل أبوه بهاء الدين من بلخ وجلال الدين في الرابعة من عمره، وانتهى به التطويف في الأقطار الإسلامية إلى آسيا الصغرى (بلاد الروم) ونشأ بها جلال الدين وعاش فيها فسمي «الرومي». وإليه تنسب طائفة «المولوية» الصوفية.

ولا يتسع المقال للكلام في تاريخ مولانا، ولا في تفصيل الكلام في شعره ومذهبه الصوفي والفلسفي. فحسبنا هذه الكلمة:

ترك جلال الدين أثرين خالدين على الدهر: المثنوي، والديوان. (أ) المثنوي

منظومة صوفية في بحر الرمل والقافية المزدوجة (المثنوي)، فيها خمسة وعشرون ألف بيت وسبعمائة، في ستة أجزاء، وقد صدر كل جزء بمقدمة منثورة منها ثلاث مقدمات عربية.

والشاعر فيها معلم مختلف الأساليب، ينتقل من تفسير آية أو شرح حديث إلى ضرب مثل، وينصح ويعظ وينتقل بتلاميذه من فن إلى فن، وكل هذا موصول بذكر الله والفناء فيه.

والقصص شائع في ثنايا المنظومة، وفصولها لا ينفصل بعضها من بعض، بل يؤدي الاستطراد من فصل إلى فصل. وربما يبدأ القصة ثم يستطرد إلى قصة أخرى، ثم يرجع ليتم الأولى على النسق المعروف في كتاب كليلة ودمنة. ويأخذ القصة القصيرة يتوسل بها إلى مقاصده فيطول بها البيان حتى تصير حوادث القصة ضئيلة خفيفة في البيان الذي يبتغيه.

وهو قوي البيان فياض الخيال، رائع التصوير، يضع المعنى الواحد في صور مختلفة، ويسوق المثل إثر المثل، والمعاني تأتيه أرسالا، والمعاني تواتيه انثيالا، وبحر الرمل يجاريه رهوا مسترسلا حتى ينظم حول القصة الصغيرة مئات الأبيات، ويصل بها ما يشاء من الآراء والنصائح والعبر. فقصة الوحوش والأسد والأرنب التي أهلكته من قصص كليلة ودمنة، نظم فيها زهاء خمسمائة بيت، وأخرج منها جدالا طويلا بين الأسد والوحوش في الاختيار والجبر.

وقلب الشاعر مفعم بالعشق الإلهي، مستغرق به؛ فكل بحث يذكر به، وكل فكر يؤدي إليه، فتراه يبدأ القصة التي تحسبها بعيدة كل البعد من العشق والفناء، فإذا هو ينتهي إلى هذه المعاني ويغوص فيها، ويغلبه الوجد بين الحين والحين فيرتمي في البحر الذي لا يعرف سابحه أو غريقه ساحلا. تلكم قبلته أنى توجه، وغايته حينما سار، ومقصد تصريحه وكناياته، ومرمى نفيه وإثباته: «أنا غريق العشق الذي غرق فيه عشق الأولين والآخرين. إذا ذكرت الشفة فإنما أريد شفة البحر (شاطئ البحر). وإذا قلت لا فإنما مرادي إلا (يعني إذا نفى فإنما يبغي الإثبات كما في لا إله إلا الله).»

هذا البيان وهذا الفيض، وهذه الحرفة، وهذا الوجد، كل هؤلاء تقصر عن الإبانة عما في نفسه، فيشكو هذا العجز في الحين بعد الحين، ويقف حائرا صائحا: إن الذي أحسه وراء الحروف والأصوات بل وراء الأسماء والأفهام. «ما الحرف فتفكر فيه، إنه الشوك على جدار البستان، إني أمحق القول والحرف والصوت لأناجيك بغير هذه الثلاثة.»

وقد افتتح المثنوي بمقدمة في الناي، وهو رمز الروح التي نحن إلى عالمها وتنوح، وقد أولع به المولوية واستعانوا به في أذكاره:

وأول الكتاب:

استمع للناي غنى وحكى

شفه الوجد وهدرا فشكا:

مذ نأى الغاب، وكان الوطنا

ملأ الناس أنيني شجنا

أين صدر من فراق مزقا

كي أبث الوجد فيه حرقا

من تشرده النوى من أصله

يبتغي الرجعى لمعنى وصله

كل ناد قد رآني ناديا

كل قوم تخذوني صاحبا

ظن كل أنني خير سمير

ليس يدري أي سر في الضمير

إن سري في أنيني قد ظهر

غير أن الأذن كلت والبصر

إن صوت الناي نار لا هواء

كل من لم يصلها فهو هباء

هي نار العشق في الناي تثور

وهي نار العشق في الخمر تفور

حدث الناي بأهوال الطريق

وعن المجنون صبا لا يفيق

أهل هذا الحس من لا حس له

أرهف السمع لهذي المعضلة

ضلت الأيام في آلامنا

ليس إلا النار في أيامنا

إلى أن يقول:

ومن العشق، وأنى يحمل؟

رقص الطور وخف الجبل

عشق الطور أجل قد عشقا

فهوى إذ خر موسى صعقا

لو تسنى من نديم لي فم

قلت، كالناي، حديثا أكتم

صمت البلبل عن ألحانه

حين غاب الورد عن بستانه ... إلخ.

وتتخلل المثنوي أحيانا أبيات أو أشطار عربية، منها هذه الأبيات:

عن لي يا منيتي لحن النشور

ابركي يا ناقتي، تم السرور

ابلعي يا أرض دمعي قد كفى

اشربي يا نفس وردا قد صفا

عدت يا عيدي إلينا مرحبا

نعم ما روحت يا ريح الصبا (ب) الديوان

وأما الديوان فقد سماه «ديوان شمس تبريز» باسم أستاذه في التصوف وصديقه شمس الدين التبريزي. وليس الديوان منظومة متحدة البحر والقافية كالمثنوي، ولكنه قصائد مختلفة الأوزان والقوافي متقاربة الموضوع. وهي فيض من العشق والفناء وغيرها من المعاني العالية في نحو ستة وأربعين ألف بيت.

وهو في معانيه وألفاظه وأساليبه أدخل في معاني الشعر وصنعته من المثنوي. جلال الدين في المثنوي أستاذ صوفي حكيم شاعر، وفي الديوان شاعر صوفي. (ج) مثال من آراء جلال الدين وأقواله

شرح جلال الدين آراءه في المسائل الدينية والصوفية والفلسفية والأخلاقية، وصور عواطفه وإلهاماته في المثنوي والديوان، في أكثر من سبعين ألف بيت؛ فعسير على الباحث أن يفضل مذهبه ولو في مسألة واحدة من المسائل الكبرى، وحسب المعرف بمذهب جلال الدين وشعره أن يعرض أمثلة مجملة متفرقة.

العالم والله: أجملنا في أول الكلام عن الشعر الصوفي رأي الصوفية في صلة العالم بالإنسان وبالله، وعن وحدة الوجود والفناء، وجلال الدين يتحدث كثيرا عن حال تزول فيها الاثنينية، وتمحى «أنا» و«أنت»، ويذكر إلى جانب هذا تطور العالم وارتقاءه من مادة إلى نبات إلى حيوان إلى إنسان إلى ملك، إلى الفناء في الله.

يقول في الجزء الثالث من المثنوي في قصة وكيل صدر بخاري على لسان العاشق الذي لا يبالي بالموت، وهذه ترجمة تكاد تكون لفظية:

صرت، إذ مت جمادا، ناميا

مت نبتا صرت حيا ساعيا

مت حيوان إذا بي بشر

كيف أخشى الموت ماذا أحذر؟

ثم أغدو ميتا بين البشر

طائرا في ملك لا أستقر

ليس لي إلا مسير نحوه «كل شيء هالك إلا وجهه»

25

ثم أفنى ، والفنا كالأرغنون

منشدي؛ إنا إليه راجعون

ويقول في الديوان:

قد وضع أمامك منذ جئت إلى الوجود سلم للنجاة؛ كنت جمادا فصرت نباتا ثم صرت حيوانا فكيف خفي عليك هذا، ثم صرت إنسانا ذا عقل وعلم وإيمان، انظر كيف أزهر هذا الجسم الترابي، وإذا جاوزت الإنسان صرت - ولا ريب - ملكا فتترك هذه الأرض إلى السماء.

جاوز الملكية كذلك، وادخل في ذلك اليم، لتصير قطرتك بحرا هو مائة بحر.

الروح: يتفق الصوفية على أن الروح من عالم آخر امتحنت بهذا السجن الأرضي، وهي في حنين دائم إلى عالمها تسمع كل حين من عالمها نداء «ارجعي».

26

يقول جلال الدين في الديوان: «نسمع الصوت كل حين ، من شمال ويمين، ها نحن أولاء ذاهبون إلى الفلك، لقد كنا من قبل في الفلك، وكنا أصدقاء الملك، وسنعود فتلك ديارنا.

بل نحن أعلى من الفلك، وأسمى عن الملك. فلماذا لا نجوزهما. ألا إن منزلنا الكبرياء.

27

أين عالم التراب من هذا الجوهر الطاهر؟ سنعود وإن هبطنا، فما هذا لنا بمقام ... جاء موج «ألست»

28

فحطم سفينة القالب (البدن) وإذا حطمت السفينة فقد حان اللقاء.»

الجبر والاختيار: ليس جلال الدين من دعاة الاستسلام والخضوع للحوادث، والتنحي عن معترك الحياة، بل يدعو إلى العمل الدائم، والجهاد المستمر، ويعلم الإنسان أنه حر وضع على هذه الأرض ليكد ويكدح.

ومن نماذج كلامه في الجبر والاختيار محاورة بين الأسد والوحوش في قصة أخذها من كتاب كليلة ودمنة.

الوحوش: أي شيء خير من التسليم؟ كم فار من البلاء إلى البلاء، وكم هارب من الثعبان إلى التنين، وكم احتال الإنسان فكانت حيلته شركه، وأقفل الباب والعدو في الدار. وكذلك كانت حيلة فرعون: قتل آلاف الأطفال، الذي يخشاه في داره. إن أبصارنا كليلة ينبغي أن تفنى في بصر الحبيب. نعم العوض عن أبصارنا بصره. إن في بصره كل ما نبغي، ألا ترى الطفل يحمل على عنق أبيه، فإذا اعتمد على رجليه وكل إلى نفسه فوقع في الكبد والعناء. وكذلك كانت أرواح الخلق قبل أن تخلق الأيدي والأرجل ، طائرة في صفاء؛ فلما أمرت بالهبوط لبثت في سجن من الحرص والغم. نحن أطفال رضع وقد قيل: الخلق عيال الله. والذي يقول المطر من السماء قادر على أن يعطي الخبز والماء.

الأسد: نعم ولكن رب العباد نصب أمامنا سلما، فعلينا أن نصعد فيه درجة بعد درجة، ما الجبرية إلا غفلة. إن لك رجلين فكيف تجعل نفسك زمنا وإن لك يدين فكيف تجحدها، إذا أعطى السيد عبده فأسا فقد أعلمه ما يريد بغير قول. أليست اليد كالفأس؟

فافهم إشاراته فإنها عباراته ... إن السعي شكر نعمه، والجبرية كفرها. الجبرية نوم في الطريق، نوم بين قطاع الطرق. كيف يأمن الطائر إذا عطل جناحيه؟ إن أردت التوكل فاعمل. ازرع ثم اتكل على الخلاق ... إلخ.

وينتهي الحوار بما يريد جلال الدين من فلج المحتج للاختيار، ودحض حجة الداعين إلى التسليم.

والحياة في رأي جلال الدين جهاد دائم. يقول في المثنوي، في قصة التاجر والببغاء من الجزء الأول: «الغريق يجتهد، ويرمي يده إلى كل عشبة يبغي النجاة، والحبيب (الله) يجب هذا اضطراب، وإن الاجتهاد سدى خير من النوم. الملك نفسه ليس فارغا من العمل؛ ألم يقل الرحمن: كل يوم هو في شأن؟»

وينبغي ألا يصد الإنسان عن السعي ما يلقى من آلام وأحزان؛ فالألم وسيلة اللذة، بل الألم واللذة كلاهما محبوب. «كيف يضحك المرج إن لم يبك المطر؟ وهل ينال الطفل اللبن بغير بكاء؟»

العناء أجدى والكد أنفع، ورجل الطريق أو رجل الله يلقى الخير والشر واللذة والألم راضيا مقدما، موقنا أنه يكمل بالآلام حتى يبلغ غايته. يقول في المثنوي: «إن مكروهه محبوب في نفسي، وروحي فدى للحبيب المعذب قلبي. أنا أعشق نصبي وألمي في رضاه ... إن الدموع التي تمطرها العين درر يحسبها الناس ماء ... إني عاشق قهره ولطفه، فاعجب لعاشق الضدين! أقسم لئن جاوزت هذا الشوك إلى البستان لأنوحن نواح البلبل؛ فاعجب لبلبل يفغر فاه ليأكل الشوك والورد معا! أي بلبل هو؟ إنه تنين ناري يحبب العشق إليه كل مكروه.»

بل يرى جلال الدين أن أنين الأرواح المجاهدة مناجاة دائمة ورقي مستمر: «منه كل حين مائة صرخة، ومن الله مائة رسالة. منه يا رب مرة، ومن الله سبعون لبيك. وله كل لمحة معراج، ولرأسه مائة تاج، صورته على الأرض وروحه في لا مكان.»

تلكم قطرة من بحر جلال الدين، وشرارة من ناره، وشعاع من نوره.

وما تزال الأرواح الكبيرة تستضيء بحكمة جلال الدين، وتقبس من ناره في البلاد التي عنيت بمعرفة مذهبه وقراءة شعره. (7-4) ضروب الشعر الأخرى

نظم الفرس في الموضوعات المعروفة في الأدب العربي: المدح والهجاء والغزل والرثاء والوصف، ولا سيما وصف الرياض والمياه، وفي الأخلاق والحكم.

ولست أجد حاجة إلى الكلام في هذه الأضرب، ووصف منهجهم فيها فهي في جملتها صور مما في الشعر العربي - لا سيما الشعر العربي المعاصر للشعر الفارسي، شعر القرن الرابع وما بعده - مع حساب ما في شعراء الفرس من نزوع إلى الإكثار والغلو.

ولكن الشعر الأخلاقي جدير أن يخص بكلمة بعد هذا الإجمال:

شعر الأخلاق والحكم يأتي كثيرا في ثنايا قصائد المدح والرثاء كما نعهد في الشعر العربي، ويتخلل المنظومات المطولة في الفارسية، مثل منظومات نظامي والجامي، ولا سيما منظومات التصوف كحديقة «الحقائق»، ومثنوي جلال الدين ومنظومات ناصر خسرو، ولكن شاعرا فارسيا عظيما يستحق أن يذكر وحده في هذا الضرب من الشعر، شعر الأخلاق والتهذيب، وهو: الشيخ سعدي الشيرازي المتوفى سنة 691ه.

سلك سعدي في الأدب طرائق مختلفة حتى الهزل؛ فقد نظم فيه، على تقواه وورعه، وله فيه قطع سماها «الخبيثات». وله «غزليات» سماها الطيبات، بز فيها كبار الشعراء حتى عد من أجلها أحد أنبياء الشعر الثلاثة، في أبيات مأثورة بين الأدباء؛ وهم الفردوسي في القصص، والأنواري في القصائد، والسعدي في الغزل.

ثم امتاز سعدي بالتعليم الأخلاقي، يتجلى في شعره الدعوة إلى الرحمة والبر والعدل، والاتعاظ بعبر الزمان، وغير الدهر.

طوف الشيخ في الأقطار زهاء ثلاثين سنة. ذهب إلى بلاد الهند والأفغان والترك، وإلى الحجاز والشام، وآسيا الصغرى، ويقال إنه ذهب إلى إفريقية الشمالية: مصر وغيرها.

وكان يسافر في زي الدراويش، ويخالط الناس جميعا فقراءهم وأغنياءهم، وعلماءهم وجهالهم، وخيارهم وأشرارهم. نراه في قصص الكلستان والبستان تارة حاجا يتبع إحدى القوافل ماشيا، وتارة معلما في كشغر، وتارة أسيرا في أيدي الفرنج في الشام، وأخرى في معبد من معابد الهند، وحينا معتكفا في جامع بني أمية، وحينا واعظا في مسجد بعلبك.

وقد شهد الكوارث الكبرى التي أصابت البلاد الإسلامية على أيدي التتار ورثى بغداد. ثم أوى إلى بلده شيراز، وقد بقيت في معزل من طوفان الحوادث بالصلح بين أمرائها والتتار. وهنالك خلا بنفسه وبتجارب الأقطار الشاسعة، والسنين الكثيرة، ووضع زبدة معارفه وتجاربه وصورة أخلاقه وعواطفه، في كتابيه البستان والسكلستان.

والأول منظوم كله في البحر المتقارب والقافية المزدوجة (المثنوي)، وفيه زهاء ألف بيت نظمها سنة 655ه وضمنها عشرة أبواب:

العدل والإنصاف والملك - الإحسان - العشق - التواضع - الرضا - القناعة - التربية - الشكر على العافية - التوبة - المناجاة.

والكتاب الثاني منثور تتخلله أبيات وقطع في ثمانية أبواب.

والبستان كله دعوة خالصة للخلق الجميل، ولا سيما الرحمة والإحسان والإيثار، وهو في هذا إنساني يشفق على الناس جميعا لا يخص قبيلا دون قبيل. وكأن أبياته هذه كانت شعاره في كلامه كله:

بنو آدم جسد واحد

إلى عنصر واحد عائد

29

إذا مس عضوا أليم السقام

فسائر أعضائه لا تنام

إذا أنت للناس لم تألم

فكيف تسميت بالآدمي؟

وهذه أمثلة من حكايات البستان القصيرة:

1

سمع أحد كبراء العراق مسكينا تحت قصره يقول: أسعف القائمين على الأبواب، فإنك مثلهم قائم على باب، خلص هذه القلوب من أوجاعها يخلص قلبك من أوجاعه. إن اضطراب قلوب العالمين يثل عروش المالكين. أنت تقيل في حرمك سعيدا، والغريب يذوب في الهجير وحيدا، من لم يستطع أن ينال من الملك عدله، فقد كفل الله أن يأخذ له حقه.

2

سمعت أن جمشيد السعيد، كتب بحجر على رأس ينبوع: كم مر أمثالنا على هذه العين، ثم ذهبوا في لمحة عين. قد ملكنا العالم بالشجاعة اغتصابا، ولكن لم نأخذه معنا إلى القبر. إن ظفرت بعدوك فلا تنتقم منه؛ فحسبه ما نزل به، لأن يعيش عدوك أمامك ضعيفا، خير لك من أن تبوء بدمه قتيلا.

3

شبت النار ليلة من آهات الخلق، فأحرقت نصف بغداد. فقال أحد الناس، في هذا الدخان واللهب: الحمد لله لم يصب دكاننا شر. قال شيخ مجرب: أنت لا تبالي بغير نفسك أيها الأحمق، ولا يهمك أن تحترق مدينة إذا لم يحترق بيتك. لا يشبع - وقد ربط الجائعون على بطونهم الأحجار - إلا من استحجر قلبه. كيف يهنأ الغني بلقمة وهو يرى الفقير يقتات دموعه؟ وكيف يصح من يرى مريضا يتلوى من الآلام؟ إن ذا القلب الرحيم لا ينام إذا بلغ المنزل حتى يلحق به المتخلفون في الطريق، وإن قلوب الملوك ليبهظها الهم حين ترى حمارا سقط بحمله في الطين. حسب أهل السعادة كلمة واحدة من مقال سعدي. وحسبك أن تعرف أنك إذا زرعت الشوك لا تجني الياسمين.

حاكى كثير من الشعراء بستان سعدي؛ كتب نزارهي القوهي (المتوفى سنة 720ه) دستور نامه، وكتب كاتبي (المتوفى 838ه) ده باب (عشرة أبواب) وكتب هراتي (المتوفى سنة 961ه) كلزار. (8) النثر

لا يرج القارئ أن يجد وراء هذا العنوان فصلا في النثر الفارسي مطولا كالفصل الذي تناول الشعر؛ فليس في النثر الفارسي ما يستحق الإطالة والتفصيل في مثل هذا الفصل الذي عقدناه للأدب الفارسي كله.

سمعت شاعرا تركيا كبيرا يجيد اللغة الفارسية يقول ليس للفرس نثر. فعجبت من قوله، وما زلت أفكر فيه كلما سنحت الفرصة. وقد سألت فيه العلامة محمد بن عبد الوهاب القزويني في باريس سنة 1356ه/1938م، ففكر قليلا ثم قال: ما فكرت في هذا الأمر. أو قال قريبا من هذا.

ولا ريب أن للفرس نثرا كثيرا قيما، ولكن نثر الفرس لا يقاس من حيث مكانته في تاريخ الأدب، وتصويره حضارة الأمة، والإبانة عن آراء الكبار من أدبائها ومفكريها؛ لا يقاس في شيء من هذا بالشعر الفارسي؛ فقد كانت الأمة أقرب بعواطفها وخيالاتها إلى الشعر، فأطالت فيه وتفننت حتى غنيت به عن النثر أو كادت، فعندها تاريخ منظوم، وقصص منظوم، ومنظومات طويلة في موضوعات شتي.

ثم النثر الفارسي لا يقاس بالنثر العربي صورة أو معنى، وإن حاكاه في كثير من الموضوعات والأساليب.

في النثر الفارسي تاريخ ورسائل ومقامات، ومن التاريخ الرحلات والتراجم: (1)

فأما التاريخ فأوسع جوانب النثر الفارسي؛ حوت الفارسية - منذ ترجم تاريخ الطبري من العربية أيام الدولة السامانية إلى هذا العصر - كتبا كثيرة في التاريخ العام والتاريخ الخاص، وأعظمها ما كتب في عهد التتار الأبلخانيين الذين تسلطوا على إيران بين سنتي 654ه و744ه، وهي: (أ)

تاريخ جهانكشاه (أي تاريخ فاتح العالم وهو جنكيزخان) أتمه عطا ملك الجويني سنة 658ه. (ب)

وجامع التواريخ لرشيد الدين المتوفى سنة 718ه، وهو قسمان في تاريخ المغول، والتاريخ العام. وهو من أجمع الكتب وأصحها. استعان مؤلفه بجماعة من أمم مختلفة ليأخذ الأخبار من مصادرها، وأكمله في أوائل القرن الثامن الهجري. وله نسخة عربية معروفة. (ج)

تاريخ وصاف لعبد الله الشيرازي الملقب «وصاف الحضرة» وهو تكملة لتاريخ جهانكشاه، فرغ من تأليفه سنة 711ه، وقدمه للسلطان ألجايتو (703-716ه). وهو تاريخ عني فيه المؤلف كل العناية بالصناعة اللفظية، فكان بدعة سيئة في أسلوب التاريخ من بعد. وقد سماه: «تجزية الأمصار، وتزجية الأعصار»، وهذه التسمية مثال من صناعته اللفظية. (د)

تاريخ كزيده، أي التاريخ المختار لحمد الله القزويني المعروف بالمستوفي، أتمه سنة 730ه، وقدمه للوزير غياث الدين بن رشيد الدين مؤلف جامع التواريخ.

وقد كتب في التاريخ من بعد كتب كثيرة من أعظمها:

روضة الصفا في سير الأنبياء والملوك والخلفا، لمير خواند المتوفى سنة 903ه، كتبه بإشارة الوزير الشاعر الصالح مير عليشير نوائي، وهو تاريخ عام لعصور الجاهلية والإسلام إلى عصر المؤلف.

وكتاب حبيب السير في أخبار أفراد البشر، لغياث الدين ابن مؤلف الكتاب السابق، لخصه من كتاب أبيه في عهد الشاه إسماعيل الصفوي، وأتمه سنة 927ه.

وتكثر كذلك تواريخ الأقاليم، مثل تاريخ طبرستان، وأصفهان وشيراز وقم، ويزد، وششتر ... إلخ. (2)

ومن كتب التراجم تذكرة الأولياء للشاعر الصوفي فريد الدين العطار من شعراء القرن السابع، ونفحات الأنس للشيخ عبد الرحمن الجامي من شعراء القرن التاسع. وهما في تراجم الصوفية. ومن تراجم الشعراء لباب الألباب لمحمد عوفي الذي ذكرناه في مقدمة الفصل، وهو أقدم كتاب فارسي في تراجم الشعراء. وقد عني العلماء والأدباء من بعد بكتابه تراجم أو «تذاكر» كما يسميها مؤلفو الفرس، فأخرجوا تراجم لطبقات مختلفة مثل تذكرة الشعراء لدولت شاه أتمه سنة 892ه وآنشكده للطيف علي، وتذكرة الشعراء لسام ميرزا ابن الشاه إسماعيل الصفوي ومن أحدثها مخزن الغرائب المؤلف في القرن الثالث عشر الهجري. وهو يحتوي على نحو ثلاثة آلاف ترجمة، ومعجم الفصحاء، ورياض العارفين لرضا قلي خان مؤدب مظفر الدين شاه أحد الملوك القاجاريين. (3)

وأذيع المقامات عند الفرس؛ مقامات القاضي حميد الدين المتوفى سنة 559ه، وهي ثلاث وعشرون مقامة حاكى فيها مقامات الحريري. (4)

ومن القصص المنثور ترجمة كليلة ودمنة لنصر الله بن عبد الحميد في القرن الخامس، وترجمة حسين بن علي الواعظ الكاشفي التي سماها «أنوار سيلى» في القرن التاسع.

ومن القصص الصغيرة التي يعنى فيها بالبلاغة والموعظة أكثر من القصص كتاب كلستان للشيخ سعدي، وبهارستان للجامي.

ولا ننس هذه الحكايات القصيرة في الموضوعات المختلفة التي فاض بها الأدب الفارسي.

وقد جمعت في كتب منها «جامع الحكايات ولامع الروايات»، جمال الدين العوفي. وقد ترجمه ابن عربشاه إلى التركية بأمر السلطان مراد الثاني العثماني.

هذه نظرة عاجلة جامعة في الأدب الفارسي أرجو أن تكون معرفة بهذا الأدب بعض التعريف، كما أرجو أن يتلوها أبحاث واسعة في هذا الأدب الواسع إن شاء الله. (تم الجزء الأول من قصة الأدب في العالم.) (ويتلوه الجزء الثاني في عصر النهضة.)

القسم الأول: في الأدب الحديث إلى مبدأ القرن التاسع عشر‏

1 - النهضة في إيطاليا‏

2 - النهضة في فرنسا‏

3 - النهضة في ألمانيا‏

4 - النهضة في إسبانيا‏

5 - النهضة في إنجلترا‏

6 - الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات‏

7 - من شيكسبير إلى ملتن‏

8 - جون ملتن1 (1608-1674م)‏

9 - من ملتن إلى العصر الأوغسطي أو الأدب الإنجليزي في النصف الثاني من القرن السابع عشر‏

10 - الأدب الفرنسي في «القرن العظيم» وهو القرن السابع عشر ؛ عهد لويس الرابع عشر‏

القسم الثاني: في الأدب الغربي في القرن الثامن عشر والأدب الشرقي من سقوط بغداد إلى مبدأ القرن التاسع عشر‏

مقدمة‏

11 - الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر وهو الأدب الذي مهد للثورة الفرنسية‏

12 - الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر‏

13 - الأدب الألماني في القرن الثامن عشر‏

14 - في الأدب العربي‏

15 - الأدب الفارسي‏

القسم الأول: في الأدب الحديث إلى مبدأ القرن التاسع عشر‏

1 - النهضة في إيطاليا‏

2 - النهضة في فرنسا‏

3 - النهضة في ألمانيا‏

4 - النهضة في إسبانيا‏

5 - النهضة في إنجلترا‏

6 - الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات‏

7 - من شيكسبير إلى ملتن‏

8 - جون ملتن1 (1608-1674م)‏

9 - من ملتن إلى العصر الأوغسطي أو الأدب الإنجليزي في النصف الثاني من القرن السابع عشر‏

10 - الأدب الفرنسي في «القرن العظيم» وهو القرن السابع عشر؛ عهد لويس الرابع عشر‏

القسم الثاني: في الأدب الغربي في القرن الثامن عشر والأدب الشرقي من سقوط بغداد إلى مبدأ القرن التاسع عشر‏

مقدمة‏

11 - الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر وهو الأدب الذي مهد للثورة الفرنسية‏

12 - الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر‏

13 - الأدب الألماني في القرن الثامن عشر‏

14 - في الأدب العربي‏

15 - الأدب الفارسي‏

قصة الأدب في العالم (الجزء الثاني)

قصة الأدب في العالم (الجزء الثاني)

تأليف

زكي نجيب محمود وأحمد أمين

بسم الله الرحمن الرحيم

وهذا هو الجزء الثاني من «قصة الأدب» يصف الأدب من بدء النهضة إلى أول القرن التاسع عشر.

وليس لدي الآن ما أقوله في وصف الكتاب وأغراضه أكثر مما قلت في مقدمة الجزء الأول.

وقد طال هذا الجزء، حتى رأيت أن أقسمه قسمين، وأرجو ألا يفرغ القارئ من قراءة القسم الأول، حتى يكون في يده القسم الثاني إن شاء الله.

ولا يفوتني أن أشكر الدكتور محمد مندور على عنايته بقراءة الكتاب أثناء طبعه.

والله أسأل أن ينفع به وبسابقه ولاحقه.

أحمد أمين

القسم الأول

في الأدب الحديث إلى مبدأ القرن التاسع عشر

الفصل الأول

النهضة في إيطاليا

إن ما يسمى عصر النهضة في مراحل التاريخ الأوروبي، عصر شهد بعثا جديدا للآداب والفنون والعلوم، وامتد خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ويجوز لنا القول بأن دانتي كان يحتضر طوال هذين القرنين؛ فقد زال الأدب الذي تمثله «الكوميديا الإلهية» ليحل محله أدب آخر يعبر عن نزعات جديدة؛ إذ كانت حرية العقيدة الدينية وحرية التفكير العلمي، وما نتج عنهما من العوامل، وليدة قرنين من الزمان.

فقد لبثت أوروبا في الشطر الأعظم من القرون الوسطى في ظلام دامس من الجهل، حيث طويت ثمرات الفكر القديم في أديرة الرهبان، وما إن وجدت سبيلها إلى النشر، حتى أشرقت شمس النهضة في طول البلاد وعرضها تحيي بدفئها الجميل عقولا كانت قد ركنت إلى جمود الموت زمانا طويلا، ولسنا في هذا المقام بصدد بسط مستفيض لبواعث النهضة وأسبابها، وحسبنا أن نوجز في ذلك القول فنذكر أن سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك عام 1453م قد تبعته هجرة العلماء اليونان إلى إيطاليا يحملون معهم علما بالأدب اليوناني كانت أوروبا الغربية قد أضاعته، وجهلت من أمره كل شيء، وشاء الله أن يتعهد هذه الحركة المباركة بالتوفيق، فهيأ للإيطاليين أن يتعلموا قبل ذلك بقرن صناعة الورق، وأن تخترع المطبعة في ألمانيا قبل سقوط القسطنطينية بعشر سنوات، ثم حدث إلى جانب ذلك كله أن استكشف كولمبس القارة الأمريكية عام 1492م، فانقلبت فكرة الناس عن دنياهم التي يسكنونها رأسا على عقب. ويستحيل أن يقع كل هذا، ولا ينتج انقلابا في مذاهب الاجتماع والسياسة والدين.

ولما كانت إيطاليا أقرب الدول الأوروبية إلى اليونان وألصقها بتراث الرومان القدماء، فقد أصبحت مهدا للنهوض؛ ففي إيطاليا رفع الإنسان - لأول مرة بعد محنة القرون الوسطى - بصره المكدود من طول النظر إلى القبور، والتفكير في يوم البعث والنشور، ليستمتع بجمال الحياة فوق هذه الأرض الفاتنة، وكانت المدن الإيطالية بصفة عامة، وفلورنسه بصفة خاصة مهبط النور، وقد استمدت ضياءها من أثينا كما يستمد القمر ضوءه من الشمس، وأول ما هم العلماء الإيطاليون بصنعه أن أنقذوا الوثائق المخطوطة القديمة من فناء كاد يحيق بها في مدافنها، وأخذ المترجمون ينقلون إلى اللغات الحديثة تراث اليونان والرومان، نعم كتبت مؤلفات عظيمة القدر في عصر النهضة، لكن كان لنشر القديم في عالم الفكر القسط الأوفى.

لم يلبث الفكر بعد موت دانتي أن نحا نحوا جديدا في فلورنسه أولا، ثم في إيطاليا كلها، ثم في أوروبا بأسرها، فلئن ظل الأدباء يلتمسون في دانتي نموذجا يحتذى في جودة الأسلوب، فإن رجال الفكر وأصحاب العمل لم يجدوا فيما كتبه دانتي عونا لهم فيما تتطلبه ظروف الحياة الجديدة؛ فإذا قيل إن دانتي لم يؤسس مدرسة، وإنه في الحلبة فريد لا يحيط به التلاميذ والأتباع، فما ذاك إلا لأن العالم سارت قافلته في اتجاه جديد، وخلف وراءه دانتي، وربما كان ذلك لأنه مثال من الأمل تعذر على الحياة العملية أن تحققه فأهملته.

ارجع ببصرك إلى فلورنسه بعد موت دانتي بعشرين سنة (1348-1349م) حيث الوباء يفتك بأوروبا فتكا ذريعا، «والموت الأسود» يحصد الناس ألوفا ألوفا، فماذا ترى؟ زالت من الأذهان فكرة التمتع بالحياة، وأحل رجال الدين مكانها متعة أخرى هي البعد عن بهجة الدنيا وزخرفها إلى الصوامع القصية والأديرة البعيدة، فماذا يكون «الموت الأسود» الفتاك إن لم يكن نقمة من الله أراد بها القصاص من البشر على ما اقترفته أيديهم من خطيئة وشر؟ فلينفض الناس عن أنفسهم دنس الحياة ليخلصوا لله العبادة والتفكير؛ فأثمرت تلك العزلة أثرا أدبيا جميلا هو كتاب «محاكاة المسيح» لمؤلفه «توماس أكمبس»،

1

وكانت النزعة السائدة أن الآخرة قبل الدنيا، والموت فوق الحياة، وإرادة الله نافذة وليس للإنسان بجانبها إرادة، وأن العقل الإنساني ضعيف عاجز فمن الحمق أن يطالب بحريته.

لكن هل يمكن أن يخيم هذا الخمود على العقول من غير أن تحاول الإفلات؟ إن ذلك لا يستوي وطبيعة البشر، فلا بد أن تشرق للنهضة طلائع، تمثلت أولا في «بترارك» و«بوكاتشو» حتى إذا ما ازدهرت النهضة في إيطاليا شهدت من حماة الشعر والفن أسرة مديتشي وأسرة بورجيا وأسرة أورسيني، وشهدت من رجال الفن «ميخائيل أنجلو» و«رفائيل» و«دافنشي»، ومن الأدباء «أريوستو» و«مكيافلي»، وحسب إيطاليا في عصر نهضتها هذه الأنجم السواطع دليلا على ما بلغته من عظمة ومجد. (1) بترارك

(1304-1374م)

لكن هذه النهضة الأدبية لم تكن لتزدهر لولا أن وجدت تربة صالحة تورق فيها وتثمر، وإنما تعهد هذه التربة نفر هم من حركة النهوض بمثابة الطلائع والبشائر تهتف بقادم جديد، ومن هؤلاء بترارك الذي كان يصغر دانتي بجيل واحد، ويكبر بوكاتشو بتسع سنوات، والذي غلبت شهرته في زمانه - وإلى قرنين مقبلين - اسم دانتي، فضؤل دانتي عند الناس بالقياس إلى بترارك الذي توج أميرا للشعراء في روما، وخلع عليه معاصروه كل علائم التمجيد.

لقد أنفق بترارك شطرا عظيما من حياته في بلد قريب من «أفنيون

Avignon » ولم يكد يغادر مكتبته قط إلا إلى رحلة يرجو بها أن يجد مخطوطات قديمة أخرى، وكان من الكنوز التي هبط عليها «شيشرون» الذي وجد فيه بترارك متاعا لا حد له، إذ كانت غايته المنشودة أن يستمد لإيطاليا الجديدة حياة من ينابيعها القديمة، فكان مما عبر فيه بترارك عن حبه للاتينية القديمة ملحمته «أفريقيا» التي أدارها حول حروب «سيبيو

Scipio »

2

و«هانيبال

Hannibal »، والعجيب أن بترارك قد آثر هذه القصيدة التي أعجمت على أهل عصره كما تعجم علينا الآن فلا نحاول قراءتها، آثرها على قصائده الغنائية، مع أن هذه القصائد قد أصبحت في أوزانها نموذجا يحتذيه الشعراء من بعده، فبترارك خالد في عالم الأدب بأغانيه، وأشهرها وارد في ديوانه «أشعار إلى سيدتي لورا» ولعلها أنفس ما تقدم به رجل لامرأة، فالقصائد التي عبر فيها بترارك عن حبه لها، وعن أمله ويأسه، والتي صب فيها حزنه العميق لموتها، تعد من أروع ما أنتجت قرائح الشعراء.

كان بترارك يكتب اللاتينية في يسر وطلاقة، ويدعو الناس إلى دراسة الأدب الإغريقي في أصوله، فكان بذلك أول مذيع للدعوة الهلينية في أوروبا الحديثة، مع أنه هو نفسه لم يتعلم قراءة اليونانية، ومات وهو يقرأ ترجمة «الأوذيسية»، ويكتب مذكراته على هوامشها في مكتبته على سفح جبل معشوشب، فكان حبه للإقامة في حضن الطبيعة حلقة أخرى تربطه بالاتجاه الطبيعي الجديد، ذلك الاتجاه الذي أفصح عن نفسه في رحلات الناس الاستكشافية في الزمان وفي المكان معا، أما رحلاتهم في الزمان فقد تمثلت في الرجوع إلى ثقافة الماضي ونشرها، وأما رحلاتهم في المكان فقد تمثلت في كشف أمريكا وغيرها من أصقاع الأرض.

ومن مقطوعاته الغنائية التي أنشدها في حبيبته لورا:

لا سكينة لي في الليل

نشر الصمت على الأرض والسماء جناحا،

ورقد الوحش والطير لا يبدي في النعاس حراكا،

وسرى الليل في محفة مرصعة يشق في السماء طريقا،

وسكن سطح البحر فوق القاع لا يعلو صدره موج،

وأنا - يا ربة الشعر - يقظان أبكي وأحترق،

لا تزول عن خاطري علة شقائي، وما أحلاها!

إني خلقت لحياة النضال يملؤها الحزن والغضب،

تملك علي الحبيبة لبي، لكني أستمد من ذلك راحتي.

فمن معين واحد نابض متألق

ينبع غذائي من حلو ومر.

إن يدا واحدة فيها شقوتي وراحتي

وهكذا أجاهد في الحب جهادا غير محدود؛

فأحس كل يوم ألف موت وألف حياة.

ألا ما أبعد الطريق إلى سكينتي وسلامي!

هذا هو بترارك الذي لا يزال حيا بيننا بأغانيه، بل إن البحر الذي اختاره لأناشيده لا يزال قائما في الأدب الإنجليزي باسم «البحر البتراركي»

3

إبقاء على ذكره، واعترافا بفضله، ولم يكن بترارك شاعرا وكفى، بل كان فوق ذلك بشيرا بالثقافة الإنسانية الصحيحة، يبذر للمدنية بذورها لتنمو وتورق، والمدنية عنده هي مدنية اللاتين والإغريق. (2) بوكاتشو

Boccaccio

ولكن أين بترارك في هذه النزعة الإنسانية من بوكاتشو الذي كان أول من نبغ بين الكتاب الإيطاليين في النثر القصصي، بل إن كثيرا من النقاد ليذهبون إلى أنه لا يزال حتى يومنا هذا رب القصة القصيرة وسيدها.

ولد جيوفاني بوكاتشو في باريس عام 1313م من زواج غير شرعي لأب كان يشغل منصبا على كثير من الوجاهة واليسار، فقد كان في مقدمة رجال التجارة في مدينة فلورنسه في وقت كانت تسود المدينة فيه جماعة من الطبقة الوسطى أثرت فأزاحت الطبقة العليا عن عرشها، وقضت أعمال التجارة أن يذهب الوالد إلى باريس في رحلة قصيرة، فاتصلت الأسباب بينه وبين امرأة فرنسية، وكان «جيوفاني» ثمرة ذلك الاتصال، ثم عاد الوالد مع وليده إلى بلده فلورنسه.

ولما شب الغلام أراد أبوه أن يعلمه التجارة وشئون المال، فأرسله إلى نابلي ليمارس تلك الأعمال في أحد أفرع تجارته الممتدة الأطراف، غير أن بوكاتشو الصغير لم يتعلم شيئا عن البيع والشراء؛ إذ لم تصادف التجارة من نفسه إلا نفورا، لكنه وجد الحياة هنالك زاخرة فعب منها عبا، وقد قال بوكاتشو في نابلي إذ ذاك: «إنها مدينة بهيجة غنية فاخرة تفوق سائر المدن الإيطالية جميعا، يملؤها اللهو واللعب وأسباب المرح ... وكانت فينوس معبودة الناس، فكثير من النساء قدمن المدينة وهن في طهر لوكريس

4

وغادرنها في خلاعة كليوبطره.» فقد بلغت الأخلاق فيها غايتها من الانحلال، وانغمس الناس في المجون، بحيث جاز أن ينازع الملك «روبرت الحكيم» رجلا من أهالي نابلي في أبوة طفلة ولدتها زوجة ذلك الرجل، فزعمها الملك روبرت لنفسه بحجة أنه اتصل بأمها في إحدى ساعات اللهو منذ تسعة أشهر، فأجابه الرجل إنه على فرض صدقه، فما زال الأرجح أن تكون الطفلة ابنته؛ لأنه اتصل بزوجته في الفترة التي أشار إليها الملك، فضلا عن شبابه وفتوته.

وشاء القدر أن تكون هذه الطفلة أشد المثيرات الوجدانية في حياة بوكاتشو، فقد شهدها في الكنيسة لأول مرة، وكانت عندئذ في عامها السابع عشر تصغره بعام واحد، وكانت قد تزوجت قبل ذلك بعامين، فأحبها للنظرة الأولى، وأخذ يحدق فيها حتى اضطرت الفتاة أن تسدل على وجهها قناعها، على أنه لم تمض أيام حتى توثقت بينهما الصلات، وهي التي أشار إليها بوكاتشو في حكاياته باسم «فيامتا

Fiametta »، وما مضت على حبهما عشر سنوات حتى قضى عليها «الوباء الأسود»، كما قضى على «لورا» حبيبة بترارك، ثم لم يلبث أن ألمت به ملمة أخرى، وهي أن أباه أضاع كل ماله فهوت الأسرة كلها في مسغبة ردت عنها الأصدقاء، فلما أثقل الهم قلب بوكاتشو حج إلى قبر فيرجيل، وهنالك قطع على نفسه عهدا أن يهب حياته للأدب.

وأول ثمراته في الأدب قصيدة «فيلو ستراتو

Filostrato »

5

التي تتكون كل مقطوعة فيها من ثمانية أشطر، وقد نسج على منوالها «شوسر» قصته «ترويلس وكرسدا

Troilus and Criseyda »، وكذلك أثمر حبه للأدب أثرا أدبيا آخر هو قطعة نثرية عنوانها «فيلوكولو

Filocolo » كتبها ليدخل السرور على قلب حبيبته، ثم قصة «فيامتا» التي قيل عنها إنها أول قصة تحليلية عرفتها الآداب الأوروبية، وهي تعالج عواطف الزوجة التي هجرها الحبيب، وبعدئذ أنشد قصيدة «ننفيل فيسولو

Ninfale Fiesolo » التي قال عنها إنها خير ما أنشد من شعر.

ولم يمض طويل زمن بعد موت حبيبته «فيامتا» (واسمها الحقيقي مارية)، حتى عاد بوكاتشو إلى فلورنسه، وأخذ في إنشاء آيته الكبرى، وهي كتاب «ديكامرون» أو الأيام العشرة. وموضوع الكتاب عشرة أشخاص - سبع نساء وثلاثة رجال - قرروا أن يلوذوا بالفرار من المدينة الموبوءة إلى الريف الطلق، وأخذوا على أنفسهم أن يسروا عن أفئدتهم المحزونة بقصص يروونها، فيروي كل منهم حكاية كل يوم، وأن يظلوا على هذا النحو عشرة أيام فيكون من ذلك مائة قصة، وسترى أن شوسر الشاعر الإنجليزي سيستوحي الديكامرون في كتابه «حكايات كانتربري».

قرر هؤلاء العشرة ألا يذعنوا للموت في فلورنسه، وأن يفروا إلى حيث الحياة خارج أسوارها، فجمال السماء لم يغير منه الموت الأسود الذي ألم بالأرض، وقصد الكاتب بذلك أن يرمز إلى الإفلات من قيود العصور الوسطى إلى حيث الحرية والطلاقة، فكأنما خروج تلك الفئة من مدينة فلورنسه هو خروج من التقاليد وانقشاع لغيوم اللاهوت وسحائب التفكير العقيم.

تقول «بامبينيا

» - أحد الأشخاص العشرة - في مستهل الديكامرون: «لا بد أن يقي الإنسان حياته، وأن يصونها ويحميها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فهذا ما يحتمه العقل الفطري في كل إنسان.» هذا حق طبيعي للإنسان وسط «هذا الوباء الفتاك الذي قد يكون نتيجة لما يصنعه رجال الدين أو عقابا عادلا من الله على ما اقترفت أيدينا.» ذلك الوباء الذي أصاب «مدينة فلورنسه البهيجة، أجمل المدن الإيطالية على الإطلاق ... وقد تغلغل هذا الوباء في عقول الرجال والنساء؛ فانصرف من هوله الأخ عن أخيه ... بل هجرت الزوجة زوجها، بل هجر الآباء والأمهات بنيهم لغير راع أو زائر، فخلفوهم للفناء كأنما هم عنهم غرباء!» ومع ذلك الهلع والجزع استشارت «بامبينيا» أصحابها كيف السبيل إلى نجاة الكرامة الإنسانية، حتى في مدينة الموتى، وقالت: «لا بد لنا من بهجة بالحياة ما دمنا لا نجاوز حدود العقل في كل صغير من الأمر، ففي الريف الجميل سنصغي إلى تغريد الطير، ونلقي بأبصارنا إلى التلال والسهول الخضراء، وإلى حقول القمح تميل كما يميل موج البحر، وإلى ألوان الشجر وما أكثرها! هنالك سننظر إلى السماء نظرة أوسع أفقا، فمهما تكن قاسية علينا فلسنا نحد ما لها من جمال فاتن دائم.»

تلك نظرة جديدة بغير شك، فبعد أن كان الناس في العصور الوسطى يركزون اهتمامهم في أنفسهم، ويقيسون الأشياء بمقياس مصالحهم، فينظرون إلى السماء كأنما هي وحش يكشر لهم عن أنيابه لينتقم، أصبح الناس في مستهل النهضة ينظرون إلى الطبيعة نظرة موضوعية، يرون مناظرها، ويسمعون أنغامها ليعيشوا فيها وفق ما يحتمه العقل السليم، وحين أطلق بوكاتشو لسان بامبينيا قائلا: «نريد أن نحيا حياة مرحة.» إنما أراد بذلك أن يخلق جمهورا قارئا يستمتع بقراءة حكاياته.

والحق أن قصص الديكامرون ممتعة تشتمل على كثير من مواقف الجد والهزل؛ فيها سخرية بالقساوسة والرهبان الذين غصت بهم العصور الوسطى، وفيها أصول لكثير جدا من الملاهي التي جرت بها أقلام الكتاب المسرحيين، وفيها بهجة ومرح ومجون. ولعل خير ما يوصف به هذا الكتاب هذه العبارة الموجزة الجامعة التي اختارها له مترجمه إلى الإنجليزية في القرن السابع عشر، وهي: «نموذج للمرح والبديهة الحاضرة والفصاحة وحسن الحديث.» فموضوعات هذه القصص من التنوع والتباين، بحيث لا تجد لها في ذلك ضريبا، فمنها ما يخوض في مهاترات الحمقى، ومنها ما يستدر أرق العواطف وأرقاها، وبعضها تافه الموضوع، وبعضها يخرج على حدود العرف الاجتماعي، بحيث لا يصلح أن ينشر اليوم في مجلة تطالعها عامة الناس، ولكنك لن تجد في هذه القصص المائة واحدة قد زلت فيما يزل فيه الكثير من الآثار الأدبية، وهو جمود العاطفة وبرودها.

إن من الآثار الأدبية ما يصور للإنسان مثله الأعلى ليجتذبه نحوه، ومنها ما يصور له عيوبه ليضحكه من نفسه، فالكوميديا الإلهية لدانتي من الضرب الأول، والديكامرون لبوكاتشو من الضرب الثاني. إن الإنسان حيوان طموح تراه دائما يزخرف حقائق طبيعته بأوهام ليتوهم أنه كامل أو مقترب من الكمال؛ ولذا تراه أحيانا يبذل مجهودا محمودا محاولا أن يحيا وفق أوهامه لعله يدنو فعلا مما رسمه لنفسه من مثل أعلى، لكنه كثيرا ما يفشل ضعفا وعجزا، فيجد العزاء والسلوى حين يقرأ كتابا كالديكامرون يذكره بأن في الناس آلافا يماثلونه ضعفا ونقصا.

لقد زعمنا فيما سلف أن الكوميديا الإلهية تمثل ذروة ما بلغه الأدب في العصور الوسطى، وأن الديكامرون يمثل البادرة التي بشرت بالنهوض والإحياء، فمن أين أتى هذا الخلاف؟ هو في أن الكوميديا الإلهية تهيئ القارئ لحياة الآخرة، بينما أريد بالديكامرون أن يعد الإنسان نفسه للحياة على هذه الأرض، وها هنا يقع الفارق بين روح العصور الوسطى وروح العصر الحديث.

إن الديكامرون من أكثر الآثار الأدبية ميلا إلى تصوير الواقع من غير تأثر بالميل والهوى، فأدبه موضوعي متطرف، إذ لا تلمس شخصية المؤلف في أي موضع من الكتاب، ولا هو يلون القصة بميوله الخلقية، فالحكايات تروى من وجهة نظر إنسان متفرج يقص علينا أن شيئا معينا وقع على نحو معين، دون أن يضيف الكاتب عاطفته من إشفاق أو تأنيب، لذلك ترى بعض ما يثير الأسى والحزن في شخصيات القصة يثير فينا الضحك، وهذا تصوير دقيق لما يحدث في الحياة الواقعة، فقد يحب فتى فتاة، وتقوم في وجهه عقبات تستدعي منه سلوكا معينا فيه غرابة وشذوذ، فمثل هذا السلوك في عين صاحبه فرض محتوم عليه لا قبل له برده، ولكنه حين يروى لنا قد نراه مهزلة مضحكة، وإذن فالقصة الواحدة قد تضحك وقد تبكي حسب أسلوب روايتها. وقد حكى بوكاتشو حكاياته على نحو يثير في قارئه الضحك من ضعف الإنسان؛ لأنه حكى الواقع، والواقع أكبر المهازل.

كان بوكاتشو مبتكرا لبعض حكاياته، لكنه لم يصنع في بعضها الآخر غير الصياغة والتعبير؛ إذ كان منها ما هو شائع يحكيه الناس بعضهم لبعض، ومنها ما ترجمه عن الخرافات الفرنسية القديمة. ومهما يكن من أمر مصادر الكتاب، فقد أصبح الديكامرون جزءا من الأدب العالمي، ولا يزال الشعراء الإنجليز من أقدمهم إلى أحدثهم يردون حوضه الغزير، ويستقون منه. وقد ترجم إلى اللغات الأوروبية، وظهرت أول ترجمة إنجليزية له في سنة 1620م، وقد نقله إلى الإنجليزية حديثا «رج

G. M. Rigg » كما نقلته الكاتبة القصصية «فرانسز ونوور

Frances Winwor »، وحاولت أن تنقل لهجة بوكاتشو التسكانية المتدفقة المرنة إلى إنجليزية سلسة مما يستخدم في الحديث.

ذلك هو كتاب ديكامرون الذي قال عنه أحد النقاد: إن الأدب قد انتقل به «من منطقة ما وراء الطبيعة والقصة الرمزية واللاهوت، وأخذ يحيا حياة جديدة وفق الأصول الكلاسيكية القديمة التي تعمل على تقليد الطبيعة تقليدا مباشرا.»

فرغ بوكاتشو من كتابة ديكامرون بلهجته التسكانية، ثم حدث أن ذهب إلى «بادوا» مبعوثا من جمهورية فلورنسه ليعيد بترارك من منفاه، وكان بوكاتشو قد حفظ أغاني بترارك عن ظهر قلب، وأعجب به منذ الصبا، فلما التقى ببترارك وجده مشتغلا بإحياء اللاتينية واليونانية القديمتين إحياء جعله أبا للنهضة الأدبية غير مدافع، وقد تأثر به بوكاتشو فأمسك عن الكتابة باللهجة التسكانية ليكتب باللاتينية كتابة العلماء. ومما نذكره عن بوكاتشو أنه هو الذي أضاف إلى عنوان ملحمة دانتي لفظة «الإلهية»، فأصبح «الكوميديا الإلهية» كما هو اليوم.

ومات بوكاتشو في ديسمبر من سنة 1375م، وهو في عامه الثاني والستين بعد أن أنفق أواخر أعوامه في فاقة مريرة وحزن أليم، لكنه كان قد شق طريق الخلاص من العصور الوسطى، وقد كان في أوله طريقا ضيقا وعرا، فهو ضيق؛ لأن الرائد الأول كان لا بد له أن يحصر انتباهه في البقعة التي أمامه، ولذلك جاء كتاب بوكاتشو صورة لمكان بعينه وزمان بعينه، حتى ليصح أن يقال عنه إنه يصور إيطاليا في القرن الرابع عشر، وهو وعر؛ لأن تفتيت الصخر عمل مجهد شاق، لكن الطريق الجديد سلك بالنزعة الجديدة عبر جبال الألب إلى مسالك فسيحة طيعة ، هي آفاق الآدب الأوروبي الحديث.

وهاك موجزا لإحدى قصص بوكاتشو، وعنوانها «قصة شابين». •••

طبقت شهرة سليمان في الحكمة الخافقين، فقصد إليه الناس من كل حدب وصوب يستلهمون حكمته، فبين من حج إليه شاب يسمى «مليسو»، وكان غنيا نبيلا. ولما كان «مليسو» في طريقه إلى أورشليم قادما من بلده أنطاكية، صادف شابا آخر يدعى «جيوسيفو» في سبيله إلى الغاية نفسها، فبادله الحديث على نحو ما يفعل المسافرون، وتساءلا عن الغاية المقصودة، فأجاب «جيوسيفو» إنه إنما يريد مشورة سليمان في الطريقة المثلى التي ينبغي له أن يعامل بها زوجته التي لا يضارعها بين النساء ضريب في شذوذها وعنادها، فقد وعدها تارة وتوعدها طورا، لكنه أخفق في وعده ووعيده، ولما سئل «مليسو» عن غايته أجاب: «إن حالي كحالك سوءا، فبرغم يساري وسخائي على بني وطني جميعا، لست أجد فردا واحدا منهم يبدي لي الحب ، فها أنا ذا في طريقي إلى سليمان أستفتيه كيف أستطيع أن أظفر من الناس بالحب.»

ومضى الشابان حتى بلغا بيت المقدس، ومثلا بين يدي سليمان، فلما ذكر «مليسو» أمره موجزا أجابه الملك بكلمة واحدة وهي «أحب» وأخرج مليسو من الغرفة، ثم شرح «جيوسيفو» سبب قدومه، فلم يزد سليمان في إجابته على قوله: «اذهب إلى جسر الأوز.» وأخرج كذلك من حضرة الملك، فوجد «مليسو» في انتظاره وأنبأه جواب سليمان. وفكر الرجلان في الإجابتين، فما وجدا فيهما شفاء، فأخذتهما الريبة لعل الملك قد سخر منهما، وأخذا في المسير راجعين إلى بلديهما.

مضت أيام، ثم بلغا نهرا يصل شاطئيه جسر ضيق، وكانت طائفة من البغال والجياد تعبره واحدا إثر واحد، فاضطر المسافران إلى الوقوف حتى يخلو لهما الطريق، فمضت الدواب في سبيلها إلا بغلا ثبت قوائمه في مواضعها لا يتحول عنها قيد أنملة، وعندئذ أخذ صاحبه يستحثه بالعصا، يضربه ضربا خفيفا، فأخذ البغل يلوي عنقه يمنة ويسرة ولا يسير، فاستشاط الرجل غضبا وضربه ضربا مبرحا آلم المسافرين؛ فقالا له: «ماذا تصنع أيها الوغد؟ أتريد قتل دابتك؟ لم لا تحاول أن تأخذها بالرفق واللين؟ ألا تدري أن اللين أفعل أثرا من ضرب العصا؟» فأجاب الرجل: «أنتما أعرف مني بجواديكما، وأنا أعلم منكما ببغلي، فاتركاني أفعل به ما أشاء.» واستأنف الضرب حتى لم يجد البغل بدا من المسير، وتبعه مليسو وجيوسيفو، فسأل جيوسيفو شابا جالسا عند نهاية الجسر: بماذا يسمي الناس ذلك الجسر، فقال الشاب: «إننا نسميه يا سيدي جسر الأوز.» فتذكر جيوسيفو جواب سليمان، ونظر إلى زميله وقال: «أؤكد لك يا صاحبي أني أدركت الآن أن حكمة سليمان صائبة لا زلل فيها، فقد فاتني أن أعالج عصيان زوجتي بالعصا، وها قد علمني هذا الرجل ماذا أصنع.»

وبلغ المسافران بعد أيام أنطاكية، فطلب «جيوسيفو» من «مليسو» أن يقيم معه يوما أو يومين قبل أن يستأنف السفر، لكن زوجة جيوسيفو قابلتهما بوجه عابس، فأمرها زوجها «جيوسيفو» أن تعد العشاء الذي يأمرها به صاحبه «مليسو»، ورغب الزائر في ألوان معينة من الطعام، فأبدت الزوجة عصيانها المعهود، وأضافت إليه سخرية بما رغب فيه الزائر من ألوان الطعام، فقال لها زوجها مهددا: «ألم يقل لك الضيف ماذا تعدين لعشائه؟» فأجابت: «مرحى مرحى! ماذا تعني؟ إن أردت عشاء، فقم أنت وأعد ما تريد.» فقال: «إنك لا تزالين على عنادك، ولكني سأعلمك هذه المرة كيف تسلكين!» ونظر إلى زميله مليسو، وقال: «سترى يا صديقي بعد قليل حكمة سليمان وصدقها.» وأخذ يضرب زوجته بالعصا، فصرخت صرخة تتوعد بها زوجها، فلما مضى جيوسيفو في ضربها، أخذت تستمطر عطفه وتستدر رحمته، ووعدت أن تكون أوامره منذ ذلك اليوم مطاعة ...

وسافر مليسو بعدئذ إلى بلده، وأنبأ رجلا حكيما ما نصحه به سليمان، فقال الحكيم: إن سليمان ما كان ليجيبك بأصدق من هذا الجواب، ولا بأحكم من هذه النصيحة، إنك تسخو على الناس بمالك، لكنك لا تحبهم، فأنت تصنع ما تصنع حبا للظهور والتماسا للنفوذ «أحب الناس» إذن كما نصحك سليمان يبادلك الناس حبا بحب.

هكذا عوقبت المرأة العاصية فصلحت، وأحب الرجل الناس فأحبه الناس. (3) مكيافلي

Machiavelli

اختار بوكاتشو لقصصه نثرا سلسا دفاقا ليلائم فنه الطروب ، ثم جاء مكيافلي في القرن الذي يليه، فصاغ من النثر الإيطالي لونا آخر يصلح للعرض والتحليل.

ولد مكيافلي في فلورنسه عام 1469م، وقبل أن يبلغ الثلاثين عين في منصب رفيع في حكومة الجمهورية الفلورنسية، فاقتضاه منصبه أن تبعثه حكومته سفيرا إلى سائر المدن الإيطالية كما أرسلته إلى بلاط لويس الثاني عشر ملك فرنسا، ولعل أهم سفارة له هي التي حدثت سنة 1502م حين أرسل ممثلا لحكومة فلورنسه عند قيصر بورجيا

6

الذي كان عندئذ في أوج مجده، وقد قص مكيافلي للناس قصة سفارته تلك في سلسلة من الخطابات وصف فيها قيصر بورجيا بأنه «أمير يحكم لنفسه.» ثم يتحدث عنه في موضع آخر بأنه «رجل لا رحمة عنده، يكفر بالمسيح، وهو كالأفعى التي تقتل بنظراتها أو كالهيدرا ذات الرءوس الكثيرة، وجدير أن ينتهي أمره إلى شر الخواتيم.» ومع ذلك فقد أعجب مكيافلي بهذا الوحش الآدمي وساقه في كتابه «الأمير» نموذجا ليحتذيه سائر الأمراء.

جاء عام 1512م وعادت أسرة مديتشي إلى حكم فلورنسه، فأقيل مكيافلي من منصبه وسجن وعذب، وأخيرا اعتزل في ضيعة ريفية صغيرة، حيث أنشأ كتابه «الأمير» ومات في فلورنسه وله من العمر ثمان وخمسون سنة.

كان مكيافلي سياسيا ينغمس في شئون الحياة إلى قمة رأسه، لكنه إذا ما خلا لقلمه خرج من إهابه فنان بارع، يعرف كيف يستخدم الألفاظ، وإنها لظاهرة تستحق التسجيل في النهضة الإيطالية، أن نرى مناشط العقل يتداخل بعضها في بعض؛ فهذا شاعر وسياسي في آن، وذلك مثال يقرض الشعر ويمتشق الحسام ويضرب في شئون الدولة بنصيب، انظر مثلا إلى «لورنزو دي مديتشي» طاغية فلورنسه الذي كان يكبر مكيافلي بأعوام قلائل، والذي اتخذ مكيافلي من حياته موضوعا لدراسته، انظر إليه كيف كان يصرف سياسة دولته، ثم يشجع رجال الفن، ويخلع عليهم الهبات، ثم لا يكتفي بذلك، فيحمل القلم ليكتب كتابة الأديب.

كان مكيافلي - كما قدمنا - يسفر لأمته عند الملوك والأمراء، وكان مشتغلا بسياسة بلده ينعم بها آنا ويشقى بها آنا، فعرف خفايا الحكم معرفة الخبير، لهذا هم أن يبحث مشكلة الدولة في كتابه «الأمير» الذي يعد أول بحث واقعي تحليلي للمجتمع السياسي، فتراه يبسط في كتابه هذا ما ينبغي أن يصنعه الأمير لو أراد لحكومته النجاح والتوفيق. وبلغت به الجرأة في الرأي حدا لم تألفه الأسماع؛ فهو يقرر - مثلا - في صراحة «بأن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته لا بد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين.» لهذا أصبحت كلمة «مكيافلي» تعني في عالم السياسة المخادع الماكر الذي لا يستمع إلى صوت الضمير، فقد قال مكيافلي في الدولة رأيه عاريا ممثلا للواقع، فلم يزعم - رياء - أن الحكومة من شأنها أن تكون شريفة خيرة، ولم يشطح به الخيال، فيطلب للشعب «دولة فضلى»، لكنه رجل عملي، يحتم أن تقوم على أمور الناس حكومة تسلك في حكمهم ما يتفق وطبائع البشر وظروف الزمان والمكان. إن كتاب «الأمير» أثر عقلي من أعظم ما أنتج الإنسان، وفيه أصالة في الرأي، وإبداع في التفكير، وهو على ما فيه من تفصيلات ذهبت طلاوتها لارتباطها بمكان معين وزمان خاص؛ لا يزال في أفكاره الرئيسية كأنما أخرجته المطبعة بالأمس. وإنك لتجد من كتاب السياسة من يمجه ويلفظه لخروجه على مبادئ الأخلاق وقواعد الشرف، لكن رجال السياسة العملية يعلمون في أعماق نفوسهم أن مكيافلي صريح يصف الأمور كما تقع؛ فهو في كتابه هذا علمي الروح والأسلوب، يلاحظ ويسجل، وهو في نظم الحكم أميل إلى المحافظة والجمود، لا يخضع لمثل أعلى ولا خلق أسمى، تعجبه - إلى حد ما - حكومة الطاغية المستبد؛ لهذا تراه يؤيدها، ويضع لها القواعد والأصول. ونحن فيما يلي نسوق مثالا من كتابه يصور طريقته وأسلوبه: «إن الأمير الذي يبتغي لنفسه القوة لا يجوز له أن يعنى أو يفكر إلا في الحرب، وإلا فقد عرض ملكه للضياع، فإن كان جاهلا بشئون الحرب فلن يظفر باحترام جنده، ولن يجد في نفسه اطمئنانا إليهم؛ لهذا وجب عليه أن يمارس هذا الفن عمليا، وأن يدرسه دراسة نظرية. فأما المران العملي فالصيد من وسائله؛ إذ الصيد يتيح فرصة نادرة لمعرفة البلاد، كما يكسب الجسد قوة وفتوة. وأما الدراسة النظرية فوسيلتها أن يطالع الأمير أخبار التاريخ، وأن يتدبر أعمال العظماء، وأن يبحث ما أدى بهم إلى النصر، وما أدى إلى الهزيمة، وأن يقتفي في سلوكه خطى الأعلام المشاهير.

إن من يأخذ نفسه بمثل أعلى في الخير يحتذيه في كل شيء منته - ولا بد - إلى الدمار؛ لأنه يعيش بين أناس لا يعرفون إلى الخير سبيلا، وإذن فلا مندوحة للأمير أن يعلم كيف ينحرف عن الخير، ومتى يستخدم خيره ومتى ينصرف عنه، تبعا لضرورة الظرف القائم.

قد يكون مما ينفع الأمير أن يشتهر بين الناس بالكرم، أما أن يكون كريما ثم لا يعلم عنه الناس ذلك؛ فمما يعود عليه بالضرر ...

يجب أن يعمل الأمير على أن يقال عنه إنه رحيم لا يعرف القسوة، لكن الأمير الجديد لا ندحة له عن شهرة بالقسوة؛ لأن الذي يقضي على الفوضى بضربات قلائل حاسمات هو الذي يكون في نهاية الأمر أرحم ممن سواه.

إن الناس أسرع إلى الإساءة إلى من وضع نفسه من قلوبهم موضع الحب، منهم إلى من جعل نفسه مخوفا مهيبا، ومع ذلك فينبغي للأمير أن يلقي في نفوس الناس خوفا على نحو إن لم يمكنه من اكتساب حبهم فلا يثير مقتهم، وليذكر أن الناس أسرع إلى نسيان قتل آبائهم منهم إلى نسيان إرث فقدوه.

يجب أن يكون الأمير أسدا، ولكن ينبغي له أن يتعلم كيف يلعب دور الثعلب، فمن أراد أن يخدع لن يعدم أن يجد بين الناس من يستطيب الخداع، وعلى الجملة يجب ألا ينحرف الأمير عن طريق الخير لو استطاع، لكنه يجب أن يعرف كيف يسلك سبل الشر إذا دفعته الضرورة إليها ...» (4) ميخائيل أنجلو

Michelangelo (1475-1564م)

وبينما كان مكيافلي منكبا على الدولة ونظامها، كانت تسطع في سماء فلورنسه عبقرية أخرى لعلها بلغت حدا لم يبلغه سواها من نوابغ النهضة في إيطاليا، وتلك هي عبقرية ميخائيل أنجلو، فهذا المصور والمثال ينتمي كذلك إلى دولة الأدب، فلم يقنع بإزميل النحت وفرجون التصوير، لهذا هب إلى القلم يقرض الشعر، فكانت له مقطوعات جميلة كتبها وهو في سن الستين. (5) بنفنوتو تشليني

Benvenuto Cellini (1500-1571م)

ثم ظهر بعده مثال آخر يشتغل بالأدب، وهو بنفنوتو تشليني الذي كتب بقلمه ترجمة حياته، فأضاف إلى النثر الإيطالي تحفة، وإلى الأدب العالمي أثرا خالدا. وترجمة حياته صورة للرجل تملكته العواطف، واستبد به الغرور. والحق أن آثاره في النحت التي لا تزال معروضة في متحف فلورنسه لتشهد أن الرجل لم يسرف في غروره بنفسه، وهاك صفحة من ترجمته لحياة نفسه:

إنه لواجب حتم على كل ذي موهبة وخلق قويم - مهما تكن طائفته التي نشأ فيها - أن يدون أحداث حياته ما دام قد أنتج أثرا مجيدا أو جديرا بالثناء، ولقد أدرت البصر، ورأيت بعض الحادثات سارا سعيدا، كما رأيت منها حادثات كثيرة تشهد بالحظ المنكود، فهالني ما رأيت من ماضي حياتي، حتى أثار هذا المشهد الرهيب في نفسي عجبا كيف بلغت من العمر عامي الثامن والخمسين، ولا أزال بنعمة الله موفور النشاط؛ فحفزني ذلك أن أنشر على الناس قصة حياتي.

أنا بنفنوتو وأبي جيوفاني تشليني، وأمي ماريا ليزابتا ابنة استفانو جراناشي، وكلا أبوي من أهل فلورنسه، وكان أجدادي يقيمون بوادي أمبرا حيث كانوا يملكون فسيح الضياع، وقد مهروا جميعا في حمل السلاح، ونبغوا في فنون الحرب، وكان جدي أندريا تشليني ذا موهبة لا بأس بها في فن البناء، وبلغ أبي جيوفاني حدا عظيما في فن التصوير.

وجاء مولدي يوم «عيد القديسين» من عام 1500م، وكان الوالدان يرقبان بنتا، لكن أبي لم يكد يرى بعينيه الغلام غير المرتقب مشبكا يديه حتى رفع بصره إلى السماء قائلا: «أحمدك اللهم من أعماق قلبي على ما منحتني، وإنه لعزيز علي، ومقدمه حبيب إلى نفسي.» فسأله الحاضرون في مرح: ماذا اعتزم أن يسمي الوليد؟ فلم يجب بغير هذه الكلمات: «إن مقدمه لخير»، ثم صمم أن يكون هذا اللفظ «مقدم الخير» - وهذا معنى بنفنوتو - اسما لي، وهكذا سميت عند التعميد. ولما بلغت الخامسة عشرة من عمري، اشتغلت مع صائغ يدعى ماركوني، وكان ميلي إلى هذه الصناعة من القوة، بحيث لم تمض شهور قلائل، حتى نافست فيها مهرة صناعها، كذلك مارست فن صياغة الأحجار الكريمة في «سيينا» و«بولونيا» و«لوكا» و«بيزا»، فأخرجت في كل مكان من هذه مصنوعات من الدقة والجمال، بحيث كانت آية في ذلك الفن، فأوحى إلي ذلك أن أكون شديد الطموح. وقد احتفرت لوحة من فضة نقشت فيها مجموعة من أوراق الشجر، وطائفة من أجسام الشباب، وغير هذه من المناظر الفخمة، فلما وقعت على هذه اللوحة أبصار جماعة الصائغين في فلورنسه، ذاع بينهم أني أمهر من يشتغل في ذلك الفن من الشباب ... إلخ. (6) أريوستو

Ariosto

كان كتاب النهضة وفنانوها يجمعون بين الاتباع والابتداع (أو النزعة الرومانتيكية والنزعة الكلاسيكية)، فكانوا من جهة يقلدون القدماء، ويعنون بالفكرة وزخرفة اللفظ، ومن جهة أخرى كانت آثارهم تنبض بالعاطفة والخيال، ولست تجد فيهم سمات واضحة تنحاز بهم إلى جانب دون آخر. ومن أجمل ما تمثلت فيه النزعتان ملحمة أنشدها أريوستو، وسرعان ما ذاعت بين الناس، وأصبحت أحب ما أنتجه الخيال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر إلى قلوب القارئين، حتى أطلق على كاتبها لقب «الإلهي». وقد وصف أحد النقاد المحدثين هذه الملحمة بأنها «أنقى وأكمل مثال مما بقي لنا من شعر النهضة»، وهي تصور عصرها في إحدى نواحيه، إذ تتجه اتجاها إنسانيا، ولا تعنى بشئون الدين أو الحياة الآخرة، مما كان يشغل أدباء القرون الوسطى. فمن أخص خصائص النهضة الأوروبية أنها حولت الأنظار من الآخرة إلى الدنيا، ومن السماء إلى الأرض.

ولد «لودو فيكو أريوستو» عام 1474م، ولما بلغ عامه التاسع عشر، بدأ يخدم أحد الكرادلة، وأخذ ينشئ ملحمته الكبرى «أورلاندو فيوريوزو أي أورلاندو الثائر

Orlando Furioso »، وأكمل إنشاءها في عشر سنوات، ولم تكد تنشر حتى طار صيته في أرجاء إيطاليا، ووضعه البابا ليو العاشر تحت رعايته، وبعد أن أتم الشاعر قصيدته، أخذ يكتب الملاهي مقتفيا فيها أثر كتابها من اللاتين، وعلى رأسهم «بلوتس» و«ترنس». ولما دنا أريوستو من ختام حياته عين حاكما لإحدى المقاطعات في جبال الأبنين، ولم يدفعه إلى قبول هذا المنصب الذي لا يتفق ونزعة الشعر والخيال إلا فقر نال منه كما ينال من معظم الشعراء. وقد حدث أن اجتاحت عصابات اللصوص إقليمه ذاك، بل وقع في أسرهم الحاكم الشاعر! ومن لطيف ما يروى في هذا الصدد أن زعيم اللصوص لما علم أن أسيره هو صاحب قصيدة «أورلاندو» بادر إليه يطلب المعذرة، وأطلق سراحه تقديرا منه لشعره الجميل.

وأورلاندو الثائر قصيدة خيالية تصف عراكا حادا عنيفا ينشب بين طائفة من الفرسان المسيحيين، وأخرى من الفرسان الوثنيين، وفيها بالطبع مغامرات تثير العاطفة وحب فيه الهمة والمروءة الجديرتان بالفرسان. وموضوع القصيدة شديد الشبه بقصص «أرثر» التي مر ذكرها في أدب العصور الوسطى، بل إن «أورلاندو» الإيطالي هو نفسه «رولان» الذي دارت حوله أساطير الأدب الفرنسي الوسيط. وتقع القصيدة في سلسلة من مقطوعات شعرية، تبدأ كل مقطوعة منها بمقدمة تكون بمثابة حلقة تربط الحادثة السابقة بالحادثة اللاحقة، ثم تتيح للشاعر في الوقت نفسه فرصة التفكير العميق في مبادئ الأخلاق وخصائص الوطنية الصحيحة وما إلى ذلك. وقد ترجمت قصيدة «أورلاندو» إلى الإنجليزية في عصر اليصابات، وأثرت في الأدب الإنجليزي إذ ذاك أثرا قويا. ولعل أجمل أجزائها تلك السطور التي يصف فيها الشاعر يأس «أورلاندو»، وما استتبعه من جنون حين يعلم أن حبيبته «أنجلكا» قد خانت عهده، وتزوجت من رجل آخر:

أنا لست «أنا»، لم أعد الرجل الذي كنته،

لم أعد أورلاندو، فأورلاندو قد قبر ومات؛

فحبيبته التي خانت عهده، أواه! أيتها الصبية الحمقاء!

قد قتلت أورلاندو وطاحت برأسه.

أنا - من أورلاندو - شبحه يروح ويغدو

هائما إلى الأبد في هذا الوادي الأليم؛

ليكون عبرة هائلة عادلة

لسائر الحمقى الذين يركنون إلى عهود الحب.

وفي موضع آخر من القصيدة يصف «أريوستو» موت ملك شاب شهم وصفا رائعا فيقول:

انظر إلى هذه الزهرة الأرجوانية تذبل وتذوي،

انظر إلى حامل المنجل يجزها ثم يلقيها.

ها هو ذا رأس الخشخاشة على أرض الحديقة يهوي،

طاحت به قطرات الغيث فألقت به حطيما،

هكذا سقط «داردنل» فوق الأرض على وجهه الشاحب،

وهكذا خلف الحياة ومضى؛

مضى من الحياة فمضت بمضيه

كل حماسة وشجاعة من قلوب أتابعه. (7) توركواتو تاسو

Torquato Tasso

على أن أنبغ الشعراء الإيطاليين في القرن السادس عشر هو توركواتو تاسو، وآيته قصيدة طويلة عنوانها «إنقاذ بيت المقدس» وهي تقص أنباء الحروب الصليبية وتروي كيف استرد «جودفري بويون» قبر المسيح. وتكاد هذه القصيدة تكون ملحمة من حيث بناؤها وأجزاؤها، ويظهر أنه قد كانت لها في عين ناظمها، وفي رأي قرائها قدسية دينية ترجع إلى قدسية موضوعها، لكن القارئ الحديث لا يلمس فيها مثل هذه القدسية، ولا يجد فيها أكثر مما يجد في قصة «الطلسم» للسير وولتر سكت،

7

التي يروي فيها قصة الحروب الصليبية أيضا، ولكنا في الحكم على قصيدة «تاسو» لا يسعنا إلا أن نذعن لرأي «كاردوتشي»

Carducci

الشاعر الناقد الإيطالي الذي عاش في القرن التاسع عشر، واعتبر «تاسو » خليفة دانتي، وقد أنشأ تاسو هذه القصيدة الكبرى وغيرها من الآثار الأدبية، وهو لا يزال في شرخ شبابه، ثم قبل أن تكتمل رجولته وتنضج، أقعدته العلة وأصابه مس من جنون، وهذا مثل من قصيدة «إنقاذ بيت المقدس» قال في أوائلها:

إني بهذا النشيد أغني جموع التقوى وقائدها الأعلى؛

ذلك البطل الذي رد عن قبر يسوع المبارك أيدي العدى،

فكم صال في حومة الوغى، وفي مجلس الشورى كم أبدى،

وكم عانى في الذي أداه من صنع جليل وكم أسدى،

وقفت جهنم في وجهه فعبثا ما قاومت وسدى،

وعبثا تحالفت أفريقية وآسيا وجردتا من الغمد مهندا،

وهل يغلب من مدت له السماء يدا؟

ومن ضل من أصحابه عاد اليوم واهتدى.

ثم يقول الشاعر: إن الله قد أرسل من ملائكته جبريل إلى جودفري يستحثه على المسير بغير إبطاء إلى بيت المقدس، فيلقي جودفري خطابا ثم يعقب عليه بطرس الراهب بخطاب آخر، وبعدئذ يقع الاختيار على جودفري ليكون قائدا للحملة الصليبية، فينهض من فوره ويستعرض جنده، ويبدأ المسير، فيهتز لهذا النبأ أهل أورشليم، ويفزع له ملكها علاء الدين، ويأخذ العدة للدفاع والمقاومة.

وقد أثار «اسمينو» غضب علاء الدين، حين أراد أن يجعل من تمثال للعذراء حرزا يصون أورشليم، وكان هذا التمثال محفوظا في إحدى الكنائس المسيحية، فانتزعه منها علاء الدين، ووضعه في مسجده، لكن حدث أثناء الليل أن اختفى التمثال من موضعه في المسجد، وعبثا حاول علاء الدين أن يعلم من اختطفه وأخفاه في جنح الليل، فأخذته سورة الغضب، وصمم أن يريق دماء المسيحيين في مذبحة شاملة، وهنا تنشأ قصة «سوفرونيا»

8

و«أولندو»

9

فتحول دون وقوع الكارثة.

فهنالك في بيت المقدس كانت تقيم فتاة كريمة النفس فاتنة الجمال، لكنها لم تأبه لجمالها على روعته، ولا اتخذت منه حلية تزدان بها، وإنما انتبذت من المدينة مكانا متواضعا بعيدا عن نظرات المحبين، وظلت في دارها بنجوة من كلمات الحب المعسولة، ولكن هيهات للجمال أن يختفي، ذلك الجمال الذي لا تكاد تشخص إليه ببصرك مرة، حتى يثير في فؤادك عشقا وهياما، فقد وقعت عينا «أولندو» على «سوفرونيا»، فكان لجمالها في قلبه ما يكون لوقع السهام، وكان الفتى والفتاة من بلد واحد ونشآ على عقيدة واحدة، لكنه كان من الحياء بقدر ما كانت الفتاة من الجمال، فتمنى العاشق أن يظفر من معشوقته بشيء كثير، ولكنه لم يتوقع أن يحقق من أمنيته إلا قليلا، ثم انعقد لسانه حين لقيها فلم يطلب منها قليلا ولا كثيرا، وظل يحترق بلذة حبه الصامت.

صممت «سوفرونيا» أن تنقذ بني عقيدتها المسيحيين، فزعمت للسلطان أنها سارقة التمثال، وأنها أحرقته فأزالته من الوجود، وسمع منها السلطان ما زعمت، فثارت ثائرته، وأمر أن يلقى بالآثمة في النار جزاء ما فعلت، لكن «أولندو» أسرع إليه ينفي عن «سوفرونيا» جريمتها، ويعترف بأنه السارق، فأمر السلطان بإحراقه معها، لكن الفتى والفتاة ينجوان من الموت بفضل امرأة مسلمة جديرة أن توضع في زمرة الأبطال، وهي «كلورندا»، فقد أقبلت هذه البطلة مسرعة على ظهر جوادها إلى حيث أعدت موارد الردى للحبيبين، وأمرت ألا تقع تلك الفعلة الشنعاء، وأذعن لها السلطان كارها، على شرط أن ينفى من بيت المقدس ذلك الفتى ومعه فتاته، وعدد من طائفة المسيحيين ...

جاء السفراء من مصر ليعرضوا على جودفري أن يترك المسلمون للصليبيين ما فتحوه من أصقاع، على شريطة ألا يهاجم الصليبيون بيت المقدس، فأعرض جودفري عن رسالتهم، وأعلن مواصلة القتال:

واستيقظت نسائم الصبح بالنذير تهب وتخفق

معلنة أن الفجر الجميل أخذ يبدو ويشرق

وازين الفجر على شعره الذهبي إكليل يتألق؛

إكليل من ورود الفردوس جيء به نديا يعبق.

وقبل أن ينفخ للجند في الصور ماجوا ودمدموا

واهتزت حناجرهم ذات الصوت القوي وهمهموا،

وكانوا في السلاح ألوفا، وصاح البوق بأصدائه يترنم

فدوى في المسامع حيا له في النفس إيقاع وأنغم،

فكأنما اتخذت جناحا قلوب للوغى تواقة وأذرع،

وانطلقوا طيرا في غير وعي، وأسرعوا ثم أسرعوا،

حتى أخذت الشمس في كبد السماء تعلو وتسطع،

وبلغت أوج السماء واحترق بها الفضاء البلقع،

انظر ها قد تبدت أورشليم الجميلة للشاخصين !

انظر! تشير إليها الأصابع في صيحة الصائحين،

وألوف الأصوات وألوفها ارتفعت من الجنود الهاتفين: «إنها أورشليم! سلام الله، سلام الله يا أورشليم!»

أخذت جيوش المسيحيين تدنو من بيت المقدس، فهجمت البطلة المسلمة كلورندا على رأس جماعة من المقاتلين، ولاقت طائفة من الصليبيين على رأسهم «جاردو» وفتكت به، فأمر جودفري أحد قواده «تانكرد

Tancred » أن يتقدم لنصرة تلك الطائفة المسيحية المهزومة، لكن «أرمينيا» ابنة أحد الملوك صعدت برجا عاليا، وأخذت تشير إلى علاء الدين، فتبين له مواضع القواد في الجيش المسيحي، وما هي إلا أن منيت قوة من الأعداء (يقصد المسلمين) بالهزيمة، وجمع جودفري أشتات جيشه، واقترب من بيت المقدس، وعسكر عند بابها الجنوبي، فلما رأى الشيطان - واسمه في القصيدة بلوتو

10 - ما أحرزه المسيحيون من نصر ثار غيظه، وأسرع فجمع مجلسا في الجحيم ليرسم الخطة لمقاومة المسيحيين:

فبينا تعد الفرنجة آلات القتال،

لتكون بها على أهبة لهذا النضال؛

أدار عدو الإنسانية اللدود عينيه الغائرتين

نحو المسيحيين من مكانه في ظلمة الجحيم الدامسة،

فلما رآهم على أعمال التقوى مكبين؛

عض كلتا شفتيه، واحترق بنار الغضب ،

ثم أخرج تلك الغضبة - كأنما هو ثور جريح -

في زئير مدو رنت به جنبات الجحيم،

ولم يعد يعنيه إلا أن يصب دمارا

على المسيحيين ما بعده دمار،

وأمر جنده أن يجتمعوا حول عرشه

في مجلس، يا له من مجلس مخيف!

وبعد أن ألقى فيهم بلوتو خطابا، أرسل رسله إلى عضرءوت الساحر، فأغروه أن يرسل ابنة أخيه «أرميدا» وهي ساحرة كذلك لتضلل قادة المسيحيين، فلما وصلت أرميدا إلى معسكر المسيحيين قابلت «يوستيس

Eustace » فقدمها إلى جودفري، وعندئذ قصت للقائد عن نفسها قصة زائفة، وطلبت أن يعينها جودفري في محنتها، فرفض بادئ الأمر، ثم ألح عليه أخوه يوستيس أن يستجيب لدعاء الفتاة ففعل، وأرسل معها عشرة من فرسانه. وكان يوستيس قد شغفه حب أرميدا، وأخذته الغيرة عليها من فارس مسيحي آخر اسمه «رنالدو» أن يزاحمه في حبه، فأغراه بقتال منافس له حتى اشتبك رنالدو في ذلك القتال، وفتك بمنافسه، وهم جودفري أن يقتص منه ففر رنالدو وخلا الجو ليوستيس ... وهنا يدب في معسكر المسيحيين شيء من الفوضى بفعل الساحرة، من ذلك أنها أخذت تضلل «تانكرد» أحد أبطال الصليبيين، حتى اعتقلته في قلعة لها بعيدة، لكن الله أرسل إلى معسكر المؤمنين كبير ملائكته ميكائيل ليشتت رسل الشياطين:

وصاح كبير الملائكة وملك الملوك،

وقد اتشح بسلاح من الماس البهي الساطع اللامع،

وقال: «ألا ترون شياطين الجحيم المناكيد.»

كيف قذفوا بسلاحهم في وجه أتباعي من المؤمنين؟ •••

وانحنى الملك المجنح بعد أن فاه بهذه الكلمات

على قدميه وقد جللتهما القداسة والهيبة،

ثم نشر في الريح جناحين من ذهب،

وشق بهما الهواء مسرعا يسبق سبحات الخواطر.

طرد ميكائيل الشياطين من حومة القتال، فاستأنف المحاربون نضالهم، وقد ألمت بالمسيحيين الملمات؛ فالشمس محرقة، والظمأ شديد، فدعا جودفري أن ينزل الله لهم غيثا يطفئ ظمأهم، فما هي إلا أن تمطر السماء وينتعش الجنود. ومن معجزاته أيضا أن هبطت على صدره حمامة زاجلة، كان يطاردها بازي مفترس، فوجد تحت جناحها رسالة بعث بها قائد الجيش المصري إلى أمير أورشليم يعده أن ينجده بعد أيام قلائل، وعندئذ أمر جودفري بالهجوم فورا، واستطاع المسيحيون بذلك أن يدخلوا أورشليم ظافرين:

هذا ميكائيل كبير الملائكة لا تدركه العيون؟

لكنه بدا أمام جودفري متشحا بشكة متألقة!

خفت بضوئها ضوء الشمس الساطعة!

وصاح به: «قد دنت الساعة أيها الأمير المؤمن!

فارفع عن أورشليم نيرها الثقيل!

لا تخفض البصر، كلا لا تخفض بصرك المبهور!

وانظر بأي جنود تؤيدك السماء!»

وبعد «تاسو» غربت في إيطاليا شمس نهضتها، ولكنه لم يكن غروبا يستتبع موتها؛ إذ لبثت النهضة الإيطالية حية في نتاجها وثمارها، تراها ماثلة في آثارها من مرمر التماثيل، وأصباغ الصور وكلمات الأدب. ومن إيطاليا شاعت النهضة في سائر الأقطار، وعلى الرغم من أن الشعر قد أفل نجمه في إيطاليا، فقد بقي فيها الفكر حيا ساطعا، بل لعله ازداد قوة وحياة حين خيمت على إيطاليا ظلمة في عالم السياسة، وإنما ظهر ذلك الفكر القوي في النثر الفلسفي والعلمي الذي أنشأه «برونو» و«جاليليو»؛ فهذان الفيلسوفان ينتميان إلى الفلسفة بالفكر العميق، وإلى الأدب بالأسلوب الجميل.

الفصل الثاني

النهضة في فرنسا

ليس من اليسير في تاريخ الأدب أن ترسم حدا دقيقا فاصلا يبين نهاية الأدب الوسيط وبداية الأدب الحديث، وقد يتخلص بعض المؤرخين من هذه المشكلة بأن يعدوا القرن الخامس عشر بأسره فترة انتقال تظهر فيها آثار القديم وبوادر الجديد جنبا إلى جنب. ومهما يكن من أمر فلا شك في أن شعر «فيون» ونثر «كومين» يحددان بداية واضحة للنهوض الأدبي في فرنسا؛ لأنهما يتميزان بما يتميز به الأدب الحديث من الأدب الوسيط؛ ألا وهو الصبغة الإنسانية والنزعة الذاتية، فلم يعد أديب النهضة - كما كان أديب العصور الوسطى - يعنى بالحياة الآخرة والخطيئة والعقاب والثواب، بل تحول بنظره إلى هذه الأرض، وهذا الإنسان الذي يعيش عليها.

وقد اجتازت هذه الصبغة الإنسانية الجديدة - التي لونت أدب النهضة فميزته - جبال الألب، فانتقلت من إيطاليا إلى فرنسا، ولم تكد تبلغها حتى تناولتها العقول والأقلام في حرارة وحماسة. ولنا أن نتساءل لماذا أقبلت فرنسا هذا الإقبال كله، وفي هذه الحماسة المشتعلة لتبذر في أرضها بذور ثقافة جاءتها من بلد أجنبي؟ وجوابنا عن ذلك السؤال أنها الحرب التي تمزج العقول بالعقول، وتقارب بين النزعات والنفوس. فقد نشبت حرب فرنسية إيطالية بين عامي 1494م و1559م، فكانت فرصة سانحة للمجتمع الفرنسي يدنو بها من قصور الأمراء الباذخة في إيطاليا، فينظر إليها عن كثب، ويتأثر بما تزخر به من فنون وآداب. فلئن خرجت فرنسا من الحرب خاسرة فقد اكتسبت حضارة عميقة الأثر، بعيدة المدى، تصطبغ بهذا اللون الجديد الذي أشرنا إليه، وعددناه أوضح ما يميز روح النهضة كلها؛ ألا وهو التفات الإنسان إلى نفسه وحياته فوق هذه الأرض.

ولم تكن هذه النزعة الإنسانية مقتصرة في إيطاليا على دراسة آثار الأقدمين دراسة نقدية عميقة، بل جاوزتها إلى نتائجها، فنفضت عن نفسها كل ما يعلق بها من غبار العصور الوسطى، من حيث وجهة النظر إلى الحياة. فمحال أن ينكب الدارسون على أرسطو وأفلاطون، وأن يستمتعوا بأدب لوكريشس وهوراس، ثم يسيغون مثلا أعلى في الأخلاق والسلوك ينبني على إنكار الجسم والروح؛ لأن هذا الأخير مثل أعلى لا يفسح مجالا لتقدير الجمال لذاته، ولا يفهم الفنون والآداب، إلا أن تكون معينة على تقويم الأخلاق، أما أن يقدر الأثر الأدبي لروعة صورته، أو لجودة أسلوبه، أو لصدق تصويره، فذلك هراء لا تسيغه عقلية القرون الوسطى.

درس رجال النهضة في إيطاليا أدب القدماء ونقدوه واستمتعوا به، فتعلموا بدراسته روح النقد والتقدير لما يقرءون، ثم تناولوا بهذه الروح الجديدة الكتاب المقدس، فلم يكفهم أن يقفوا عند ظاهر العبارة، ومجرد أداء الشعائر أداء آليا، إنما تعمقوا فيه ليستقطروا منه روحه وخلاصته؛ ولهذا نشأت حركة إصلاح ديني جنبا إلى جنب مع النزوع إلى تمجيد الإنسان، والرفع من شأن الحياة الدنيوية، فأصبح الإصلاح الديني ظاهرة ثانية تميز أدب النهضة في إيطاليا، ثم في فرنسا. (1) فيون

Villon

في سنة 1431م، وهو العام الذي ذهبت فيه جان دارك شهيدة جهادها لتحرير فرنسا، ولد في باريس طفل كتب له أن يكون في الصف الأول من شعراء العالمين ؛ إذ حباه الله موهبة في الشعر الغنائي لا يكاد يضارعه في قوتها وجمالها ونفاذها منافس.

ذلك هو فرانسوا دي مونكور بييه

Fronçois de Montcorbier

الذي يعرفه الأدب باسم فرانسوا فيون. ولد لأبوين فقيرين لم يكن لهما حظ من التعليم، وكان مسقط رأسه موضعا مقابلا لجامعة باريس على ضفة النهر الأخرى. ومات أبوه وهو يافع فكفلته أم شابة أرهقت نفسها إرهاقا لترعى وليدها، ولكنها عجزت آخر الأمر، ولم تطق أن تشاهد ابنها يتضور جوعا، فذكرت أن في الجامعة قسيسا على شيء من اليسار تربطه بعائلة مونكوربييه وشائج القربى البعيدة.

كان الطفل إذ ذاك في عامه الخامس، وكانت باريس التي طال بها العهد، وهي تئن من فقر بشع مخيف تخوض في ذلك العام شتاء قارسا، وكان الريف يبابا قد نفدت موارد القوت منه، ومات ألوف وألوف من الناس في أشهر قلائل من الجوع والمرض، وعاش من عاش على الكفاف، وأخذت تعوي في ضواحي باريس الذئاب الجائعة ، فلما عبرت الأم بابنها نهر السين لتسلم الطفل إلى قريبه القسيس كانت أمارات الجوع والإنهاك بادية على وجهها الشاحب، وفي جسم طفلها الهزيل.

رأى جيوم دي فيون - وكان قسيس كنيسة الجامعة وأستاذا للقانون - ذلك المنظر المروع، فأخذته الرحمة بالوليد المسكين وتبناه وأكرم رعايته، بل لعل رحمته بالطفل جاوزت الحدود، وكان يقضي أمسياته يقرأ له القصص آنا ويرويها له آنا آخر، حتى أحاط اليافع علما بشعراء اللاتينية والفرنسية، ثم طلب إليه أن يدرس كتابا فيه قواعد إنشاء الأغاني القصصية الشعرية، وكلما حاول الناشئ قرض الشعر منحه القسيس جوائز التشجيع.

بلغ فرانسوا دي مورنكور بييه عامه الثالث عشر، فسجل اسمه في قائمة الطلاب لدرجة الأستاذية في الآداب، وتلك درجة لا يظفر بها طالب، إلا إن أعد نفسه إعدادا طويلا بعد الدرجة الجامعية في قانون الكنيسة ومذاهب الدين، وأطلق على نفسه اسم متبنيه «فيون» الذي عرف به منذ ذلك اليوم.

وقبل أن نأخذ في وصف الحياة الشائنة التي زل في وهدتها فيون مما كاد ينتهي به إلى المشنقة؛ لأنه سرق واغتال وخرج على القانون في كثير من جرائمه، يحسن أن نرى هل صادفته في حياته ظروف خاصة تخفف من بشاعة ما اقترف. ومهما يكن من أمر، فإنا نحمد الله على حياته تلك؛ إذ لولاها لما ورثنا هذه المجموعة من القصائد التي تكاد تتفرد في نوعها؛ لأنه استمدها من صميم بؤسه وشقائه.

لم ينتفع فيون إلا قليلا من دراسة الجامعة بكل فروعها، ولعل ما انحرف به عن الجادة المستقيمة تراخي مربيه في رعايته، وانعدام الحافز الذي يستحثه على الجد في العمل؛ لأن الجامعة كانت ستنتهي به إلى وظيفة في الكنيسة، ولم يكن فيون ينظر إلى مثل هذا المستقبل المرتقب إلا بالمقت والنفور.

أضف إلى ذلك ما انتاب باريس عندئذ من فقر مدقع شمل الناس جميعا، إلا فئة قليلة جدا؛ فلم تكن السرقة من تلك الفئة الغنية من البشاعة كما يقع في حسابنا اليوم! نعم كانت باريس غاية في البؤس، فنضب المال، وقلت الأعمال. ولكن ما حاجة فيون إلى عمل ومال؟ إنه الشاعر الموهوب الذي اتخذ القريض متعة له وسلوة، ومع هذا كان له بمثابة المورد الذي يدر عليه المال؛ إذ كان ينشئ الأغاني «البلدية» والقصائد المستهترة، ثم ينشدها في الحانات، فيقدم له الموسرون خمرا وطعاما، لهذا غادر فيون أروقة الجامعة الباردة ليلتمس طعامه وشرابه وصحبته عند من يرتادون الحانات، فقد وجد هؤلاء أقرب إلى نفسه بيسارهم وانحلال أخلاقهم واستخفافهم بكوارث الأيام، ثم أحبهم فوق ذلك كله للهجتهم العامية الجميلة التي حسن وقعها في أذنيه بعد تلك المحاضرات الميتة التي ألف سماعها في الجامعة حول موضوعات غامضة ملتوية في قانون الكنيسة. فما عتم فيون أن جرفه هذا التيار الجديد، وأخذ يقرض شعره فيمن يصادف في الحانات من طوائف الشبان والشابات المستهترين والمتشردين، وكان يقرضه باللغة الدارجة بين تلك الطوائف.

ومع ذلك كله، فقد أتم فيون في عامه التاسع عشر دراسته الجامعية، وظفر بدرجة «البكالوريوس»، ولم تمض بعد ذلك ثلاثة أعوام، حتى أصبح أستاذا في الآداب، واستحق بذلك إما أن يحترف التعليم، أو أن يسير في سلك الكنيسة، لكنه كان عندئذ قد أوغل في الطريق الآخر، وآثر آخر الأمر أن ينفض عن نفسه غبار الدراسة الجامعية، وأن يوثق الروابط بينه وبين الصحبة الجديدة من طوائف المجون، ولعله وجد فيها ما يلائم شاعريته؛ وقد اشتغل فترة من الزمن مع الفرق التمثيلية الجوالة وجماعات الموسيقيين و«الحواة» والبهلوانات، لكن هذه الفرق كان قد ضؤل شأنها في فرنسا في عهد فيون بعد ازدهارها في عهد الإقطاع من العصور الوسطى.

وحدث له وهو في عامه الرابع والعشرين أن اقتتل مع قسيس فقتله، وافتضح الأمر وحكم عليه بالنفي من باريس سنة لا ندري كيف أنفقها، والراجح أنه اتصل بعصبة من اللصوص عاشت في الريف على النهب والسرقة، وقد أرغمته الفاقة أن يعيش في غضون ذلك العام على نحو ترتعد له فرائص التقوى، يصفه لنا في قصيدة عنوانها «فرانسوا فيون والعاهرة مارجو».

واتصلت وشائج العشق بينه وبين نساء كثيرات، منهن كاترين دي فوسل التي يطالعنا اسمها في شعره، والتي كان حبه إياها على شيء من العفاف.

عاد فيون من منفاه في الريف، ولكنا لا نلبث أن نراه في إحدى ليالي الشتاء من نفس السنة التي عاد فيها جالسا في منزل متبنيه يكتب له مذكرة منظومة لينبئه أنه على وشك أن يغادر باريس من جديد. وهذه القصيدة هي التي يطلق عليها «الوصية» أو «العهد الأصغر» تمييزا لها عن القصيدة الكبرى التي أنشأها فيما بعد، ويطلق عليها «العهد الأكبر»؛ فقد اشترك فيون بعد عودته إلى باريس في ارتكاب جريمة، وأراد الفرار من وجه الشرطة، ولعله قصد بتلك المنظومة التي تركها في منزل متبنيه أن يضلل الشرطة بإيهامهم أنه لم يكن في باريس ساعة ارتكاب الجريمة.

كتب «العهد الأصغر» في ليلة واحدة، وفي فورة واحدة من فورات النفس، وقرأها بعد أن فرغ من قرضها، فأخذته هزة الفرح لما رآها آية فنية، فقرأها في الصباح مرة أخرى، وأخذته بها هزة أخرى من الطرب والنشوة، فأضاف إليها مقطوعة جاء فيها: «تالله إن فرنسوا فيون لشاعر، فأما من حباهم الله مالا وجمالا، فمصيرهم إلى النسيان، وأما فرانسوا فيون فسيحيا بين الخالدين.»

وظهرت الجريمة بعد بضعة أشهر، وتبين أن الشاعر قد اشترك مع عصبة من اللصوص في سرقة خزانة المال من كنيسة كلية نافار، وانتهى الأمر بسجن فيون في قلعة مان

Meung

وظل فيها صيف ذلك العام (1457م) لا يقتات إلا الخبز العفن والماء، حتى تحطمت قواه، وذبل ذبولا لم يبق له إلا هيكلا عظميا يكسوه جلد متغضن، ويخلو من شعره وأسنانه، ويسعل سعال العلة بين آن وآن. ولم يطلق سراحه إلا حين زار الملك لويس الحادي عشر مدينة مان زيارة رسمية، فأفرج عن المسجونين وبينهم فيون.

عاد إلى باريس وكأنه الشبح المخيف، وأخذ يكتب آيته الكبرى «العهد الأكبر»، وهي من أكثر الآيات الأدبية تصويرا لكاتبها وللطبائع البشرية على السواء، وهي من أجود الشعر، يستعرض فيها حياته كلها، وكان عندئذ في الثلاثين من عمره، إلا أنه أصبح من أهوال حياته كهلا محطما لم يبق له إلا أعصاب نشيطة وذهن وقاد. إنه في هذه القصيدة يعرض نفسه عرضا يبدي كل ما فيها بغير حذف أو إضافة، ويفحصها فحصا دقيقا، وينبئ القارئ عن كل أسرارها، ويطلب المغفرة ممن لحقهم أذاه، كما يغفر لمن لحقه منهم الأذى، ولم يخل من الفكاهة وهو يصور نفسه، فيقول مثلا: إنه إن نفذ فيه الإعدام الذي كان على وشك أن يقع، لاستحال ذلك لخفة جسمه، فلا بد أن تشد إلى رجليه الأثقال، حتى تجذبه إلى أسفل، فيطبق على عنقه حبل المشنقة، ثم يقول إنه بعد ذلك لن يجدي سباع الطير شيئا، فما به لحم ينهش. «والعهد الأكبر» قصيدة طويلة تتألف من ثلاث وسبعين ومائة مقطوعة مثمنة الأبيات، وفي كل بيت منها ثمانية مقاطع، وتجري القافية في الأشطر على هذا النحو: أ - ب - أ - ب - ب - ج - ب - ج، ويستهلها بهذه الأبيات:

ها أنا ذا أشعر بنفسي إلى الشيخوخة تنحدر،

ها قد طار مني المال ونحل البدن،

لكن حسي باق لم يفتر ولم يفتقر.

ألا ما أقل ما أعطانيه الله من منن!

ولست على غير الله أرتكن.

ها هي وصيتي قبل الموت أكتبها،

ها هو ذا عهدي ثابت على الزمن،

لن يزول، فما لدي سوى وصيتي هذي أدونها، •••

إني لأرثي لأيام الشباب،

ألا ما أسعد الحياة في عهدها!

قد فاجأتني الشيخوخة في غير ارتقاب،

ومضت أيام الشباب لم أشعر بها.

عجبا لم يكن للشباب أقدام يجري بها!

عجبا، لم يفر الشباب على ظهر الجواد؟!

كيف إذن غافلتني أيام الشباب ولم أحس فرارها؟

كيف أفلتت بغير رجعة ومعاد؟ •••

لقد مضى الشباب وخلفني في عرض الطريق،

طار مني الجسم والعقل شعاعا

وبت حزينا واهيا كالريح وحيدا بلا رفيق.

وتبدد ملكي مالا وأرضا ومتاعا،

وانفض عني ذوو القربى تباعا،

لم تعد صلة الأرحام توحي لهم بعطف جميل،

بل أنكروني وآثروا لأنفسهم بعدا وانقطاعا؛

فلم يبق من مالي كثير أو قليل. •••

لو كنت - وا أسفا - أيام الشباب

واصلت درسي وزدت حكمتي،

وسرت لم أنحرف عن طريق الصواب،

لنعمت اليوم بالدفء في شيخوختي،

ولكن كما يفعل الطير السجين كانت فعلتي؛

فررت من معهد الدرس هاربا،

وها أنا ذا إذ أدون فوق القرطاس سيرتي

يوشك قلبي أن يتحطم نادما تائبا

وفي «العهد الأكبر» أغنية هجا بها النساء قال فيها:

اعبد الحب والنساء مع الصباح وفي المساء،

فلن تجني منهن نفعا أو متاعا.

وأقم لهن من الملاهي والمآدب ما تشاء،

فلن ترجع إلا محطم الرأس ملتاعا؛

فرعونة الحب قمينة أن تطير بلب الحكيم شعاعا.

واذكر سليمان الحكيم إن أردت مثالا،

أو شمشون الذي أضاع في الحب عينيه فيما أضاعا.

أنعم به رجلا من كان بالنساء جهولا!

حتى أنا وأنا الأحمق المسكين

ضربنني بالعصي كضرب الثياب

حين تخبطها في الأواني عصي الغاسلين.

ومن ذا أنزل بي ذاك العذاب

غير كاترين فوسل ذات المرح الخلاب؟

وكذلك «نويل» فهن أنزلن به العذاب وبيلا،

فأشبعنه في ليالي اللهو باللطمات وبالسباب؛

أنعم به رجلا من كان بالنساء جهولا!

وكذلك وردت في العهد الأكبر أغنيتان جميلتان، إحداهما على لسان امرأة عجوز كانت أيام شبابها آية في الجمال، وكان لها عشاق كثيرون، ثم هي في شيخوختها تتحدث إلى بعض الفتيات اللائي يغامرن في مهالك الحب، فيبدأ الشاعر أغنيته بوصف للمرأة العجوز، ويقارن فيها كل لمحة من جمالها السابق بما آلت إليه، ثم تأخذ المرأة في إسداء النصح للفتيات قائلة إن علة شقائها أنها ذهبت في الحب إلى أغواره العميقة، وما كان ينبغي لها أن تفعل، وأنها لم تكسب من عشاقها مالا تدخره، حتى أتى زمن لم تصبح فيه موضعا لحب إنسان؛ ولذا فنصيحتها للبنات هي: خذن من عشاقكن مالا، اخدعن الرجال بجمالكن الظاهر، ولكن حذار أن تسلمنهم قلوبكن، لأنكن إن فعلتن أسرعت إليكن الشيخوخة، وعندئذ ماذا يكون في أيديكن؟ لا جمال ولا مال، ستفقدن قيمتكن كورق النقد، حين يبطل استعماله فلا يرضى به أحد.

ثم عقبها الشاعر بأغنية أخرى يقف فيها هو نفسه من الشبان موقف الناصح، وهو الرجل الذي عركه الدهر، فينصح للمستهترين الخليعين الذين يحيون في شبابهم كما كان يحيا في شبابه، أن ينشدوا النساء دون أن يركزوا قلوبهم في امرأة واحدة، ولا يقعوا في شراكها؛ لأن النساء مجلبة للهم والشقاء.

ذلك هو «العهد الأكبر» الذي لم يكد يفرغ من إنشائه، حتى زج في السجن لجريمة أخرى، وحكم عليه بالموت شنقا، فاسترحم فيون أولي الأمر، فأعيد النظر في قضيته. وعلم القضاة هذه المرة أن المتهم الماثل أمامهم شاعر نابغ نزل ضيفا في بلاط شارل دوق أورليان، وأن شارل هذا قد أعجب به إعجابا حدا به أن يكتب قصائده بيده. وعلم القضاة كذلك أن هذا المتهم هو الذي أنشد بعض القصائد الوطنية التي سار ذكرها في البلاد عندئذ؛ فتبدل الحكم بحيث أصبح نفيا يدوم عشر سنوات.

ومات فيون وهو في منفاه خارج باريس. ولسنا ندري على وجه الدقة أين مات ولا متى (وإن كان موته على الأرجح عام 1485م)، وجاء رابليه بعد ذلك بنحو خمسين عاما، فسمع عنه من أهل تورين قصصا وأساطير، فاستخدمها في تكوين شخصيته البديعة، شخصية بانيرج

التي خلقها في كتابه «مغامرات بانتاجريل» كما سيأتي ذكره بعد. (2) كومين

Commines

وهذا لون آخر من الأدب الفرنسي أيام النهضة يختلف أشد الاختلاف عن أدب فيون، لكنهما يعودان فيلتقيان في تمثيل الروح الجديدة، غير أن كومين يمثل بأدبه تلك الروح الجديدة إزاء الحياة العملية، وأما فيون فيمثل وجهة النظر الجديدة في الفن والعاطفة.

ولد فيليب دي كومين في عام يقرب من 1447م، ولم يكن تعليمه موضع عناية، فلم يتعلم من اللاتينية شيئا، ولما شب التحق بحاشية فيليب أمير برجنديا، ثم بحاشية ابنه شارل الجسور، وسفر لشارل هذا في فرنسا،

1

وإنجلترا وإسبانيا، لكنه لم يلبث أن غادر برجنديا وأميرها ليخدم لويس الحادي عشر، الذي كان قد أجرى عليه راتبا، والذي أجزل له العطاء حين قدم إليه، ولكن سرعان ما ولي الملك شارل الثامن، ولم يكن راضيا عن كومين فزجه في السجن، ثم عاد فولي العرش لويس الثاني عشر، فارتدت إلى كومين مكانته. ولما نشبت الحرب الفرنسية الإيطالية اتسع نفوذه، وذهب إلى إيطاليا ليمثل حكومته، فقابل مكيافلي في فلورنسه، ولم يزل يزداد نفوذا ويعلو منصبا حتى وافته منيته عام 1511م، وله من العمر ما لا يقل عن أربعة وستين عاما.

لم يكن كومين في أدبه بارع الأسلوب، ولو أنه في بعض المواضع يزاوج بين العبارة السهلة، والفكرة العميقة، فيحدث في قارئه أثرا جميلا. ومن مميزاته انتقاء الألفاظ الغريبة وتركيب الجمل على غير المألوف، فيقلب عبارته صدرا على عجز، ويقف وقفات مفاجئة ليبث شيئا من الحياة في كتابته. ومع هذا كله فلسنا نمدح في كومين براعة الأسلوب، بل ولا نحمد له دقة التصوير وروعته. وأهم ما عني به كومين فيما كتب تقلبات الدهر، وصروف الزمان، والعبرة التي تلقيها على الإنسان حوادث الأيام، ولما كانت هذه الغاية نصب عينيه، تراه دائم الاستطراد في أدبه، فهو يقص عليك حوادث أمة من الأمم، فتتوارد على خاطره حوادث أمة أخرى، فيستطرد في سردها.

وإنما يمثل كومين روح النهضة؛ لأنه أضاف إلى مميزات العصور الوسطى نزعة جديدة، ففي الوقت الذي تراه مهتما بالدين واليوم الآخر إلى حد ما، تراه يمجد في السياسة أسلوبا ينافي أخلاق الدين تتطلبه الحياة العملية، هذا إلى الدعوة التي تلمسها في كل ما كتب، والتي تعارض النظام الإقطاعي - وهو روح العصور الوسطى وصميمها - وتدعو إلى حكومة مركزية تقوم مقام هذه المجموعة المفككة من الأمراء.

وما خلفه لنا كومين من تراث أدبي هو «ذكريات»، وهي لمحات تاريخية لم تبلغ أن تكون تاريخا متصلا، تقص الكتب الستة الأولى منها: أنباء الصراع الذي قام بين لويس الحادي عشر وشارل الجسور من 1465م إلى 1483م، وأما الكتابان السابع والثامن فيرويان أنباء الحروب الإيطالية التي شنها شارل الثامن. وله غير «الذكريات» «خطابات ومفاوضات».

ومع هذا فكومين أول كاتب فرنسي يستحق أن يسمى مؤرخا؛ وذلك لأنه لم يكتف بسرد الوقائع كما فعل سابقوه، بل بحث دائما عن أسبابها ووضح نتائجها كما قضى فيها وفقا لقواعد الأخلاق التي كانت سائدة في ذلك العصر، وهي نفس القواعد التي جمعها بعد ذلك بقليل مكيافلي في كتاب «الأمير»، وإن يكن كومين قد خالف مكيافلي في تسليمه لإرادة الله بأثرها الفعال في كبار الحوادث التاريخية. (3) مارو

Marot

ها نحن أولاء نوغل في القرن السادس عشر، وقد تمكنت عناصر النهضة الأدبية في الشعر الفرنسي على يدي هذا الشاعر كليمان مارو

Clément Marot ، فقد كانت بداية عصر النهضة في فرنسا مزيجا من مميزات العصور الوسطى ومميزات العصر الجديد، وليس عجيبا أن يتأخر النهوض الأدبي في فرنسا، حتى النصف الأول من القرن السادس عشر بعد أن جرى تياره زاخرا دفاقا في إيطاليا في القرن الخامس عشر؛ لأن حركة التطور تسير وئيدة الخطى، وتتسرب خلال التقاليد الكثيفة قطرة قطرة.

ولد كليمان مارو لأب شاعر في أوائل سنة 1497م، فأخذه أبوه في غير يسر بدراسة ما يتصل بالشعر، ولم يلبث الناشئ أن عرف الشعراء وأعجب ببعضهم، ثم أخذ ينشد المواويل كما ينشد غيرها من ضروب الشعر ذات الصياغة المحكمة والمعاني الرمزية، ولا شك في أن هذه النشأة الأدبية قد كان لها أكبر الأثر في تكوينه الأدبي، فمهما بلغت مقدرته في الأصالة والخلق، فلا مندوحة له عن التأثر بهذه النماذج القديمة التي درسها على أبيه؛ ولهذا جاء شعره ذا وجهين: يتلفت بأحدهما، وينظر بالآخر إلى الأمام، فقد أحب أدب العصور الوسطى حبا شديدا، مثال ذلك إعجابه ب «قصة الوردة»

2

كما أحب شعر سلفه فيون، حتى إنه قام بنشر هذا وذلك.

ولما بلغ الفتى عامه العاشر «قدم إلى فرنسا» على حد تعبيره، وهي عبارة تدل على انحلال فرنسا من الوجهة السياسية، إذ كانت مقسمة إلى دويلات مستقلة عن «فرنسا» بمعناها الضيق المعروف إذ ذاك، ودخل جامعة باريس فاكتملت دراسته، وعين تابعا لأحد النبلاء، فانفتح أمامه الطريق إلى منصب في البلاط الملكي، ولم يكد يتمم عامه السابع عشر، حتى أنشأ قصيدة «حكم ملك عادل»، وقدمها إلى فرانسوا الذي أصبح ملكا بعد قليل، بل إنه أنتج قبل ذلك ترجمة لأول أناشيد فرجيل الريفية. وكلتا القصيدتين محكمة النظم، متينة اللفظ، لكنهما من غير شك جاءتا على غرار أدب البلاغة اللفظية الذي سبقته إليه جماعة تعرف في الأدب الفرنسي باسم «أنصار البلاغة اللفظية». ثم تعاورت حياته العقبات حتى اتهم بالزندقة أربع مرات، وزج في السجن مرة، ولاذ بالفرار من فرنسا مرتين، كانت ثانيتهما إلى بيدمونت في إيطاليا، حيث مات سنة 1544م بمدينة تورينو.

ترك لنا مارو تراثا أدبيا مختلف الألوان كالروضة تباينت أزهارها، فقد كتب ما يقرب من اثنتي عشرة مقطوعة من الشعر التي نذكر منها قصيدة «معبد كيوبد» جعل وزنها عشرة مقاطع للبيت الأول وثمانية للبيت الثاني، وسار في القصيدة كلها على هذا التوالي، ثم كتب قصيدة «حوار بين حبيبين»، ثم «نشيد ريفي للملك»، وبعدئذ أنشأ قصيدة «الجحيم» جاء فيها بوصف قوي جميل للأيام التي قضاها في السجن. وللشاعر بعد ذلك خمس وستون رسالة منظومة كتبها في أبيات من ذوات المقاطع العشرة والقافية المزدوجة (قافية واحدة لكل بيتين متتاليين)، ومن هذه الرسائل قطعة مشهورة عنوانها «مفارقات» وهي ضرب من الدعابة الخفيفة التي تشيع فيها روح السخرية، وقد كان شائعا عندئذ تقليدا لنوع من الشعر عرف في العصور الوسطى، وهذا يبين لك كيف اتجه مارو بجزء من نظره إلى الوراء يستقي مصادر العهد الوسيط.

وكتب مارو كذلك ستا وعشرين مرثية بالقافية المزدوجة التي برهن في صياغتها على براعة تستوقف النظر، وخمس عشرة أغنية شعبية، واثنتين وعشرين أنشودة في مختلف الأوزان، واثنين وثمانين موالا، واثنتين وأربعين أغنية قصد بها إلى التلحين الموسيقي.

كل هذه الصور الأدبية كانت قمينة في قلم الشاعر الضعيف أن تنتج شعرا جافا باردا لا طلاوة فيه، لكن مارو امتاز فيها جميعا بأسلوب سلس رشيق جذاب تغلب به على ما قد تؤدي إليه تلك الصور من جفاف وبرود، بل استطاع أن يخلع على شعره بأسلوبه ذاك نغما حلوا لا يكاد يفوقه فيه شاعر فرنسي آخر إذا استثنيت فيون.

وبعد ذلك كله كتب شاعرنا كثيرا جدا من شعر تهاني العيد، ونعي الموتى تختلف في طولها وأسلوبها، وله ما يدنو من ثلاثمائة حكمة منظومة، وترجمات كثيرة، ومزامير بلغ عددها خمسين، وأدعية، ونظم مسامرتين من «مسامرات إرزم».

3

وأنت ترى من هذا أن معظم ما أنتجه مارو هو مما نطلق عليه اسم شعر المناسبات؛ فليس بين قصائده كلها قصيدة واحدة تزيد في طولها على بضع مئات من الأسطر، ويوشك إنتاجه كله أن يكون ذا صلة بأشخاص وحوادث مما صادف في حياته. وقد كان لمارو شهرة بعيدة في عصره، بل كان له كثير جدا من الأتباع بعد موته على الرغم من ظهور منافس قوي في شخص «رونسار» الذي سيأتي ذكره فيما بعد.

ولطالما قيل عن مارو إنه أبو الشعر الفرنسي، وهذه الأبوة إن لم تخل من بعض الخطأ، فهي كذلك لا تخلو من كثير من الصواب، فنسبة هذه الأبوة إليه خاطئة إن أريد بالشعر الفرنسي تلك القصائد الجادة الرصينة الطامحة إلى أعلى مراتب الشعر، أما إن أردت بالشعر الفرنسي ذلك الضرب الخفيف الذي يصادف في فرنسا وفي غيرها إقبالا وإعجابا أكثر مما يلقى زميله الرصين الجاد، فالأبوة صحيحة لا سبيل إلى الشك فيها . ولعل أهم ما يمتاز به أسلوبه السلاسة والرشاقة لا شدة العاطفة أو عمق الفكرة، فعلى الرغم من أن الروح التي كانت تسود عصره هي الميل إلى الثقافة القديمة والاكتفاء بتقليدها، ترى مارو قد خرج على هذا الاتجاه السائد، فهو لا يمثل روح عصره. وليس ذلك بعجيب؛ إذ تمثلت في شخصه الثورة على أسلوب «أصحاب البلاغة اللفظية» الذي عرف بالجفاف والنبو والشذوذ. ولما كان مارو ثائرا على تجويد الصياغة والإسراف في الصناعة والتزويق، فقد عده «السابوع» الذي أعقبه في تاريخ الأدب شاعرا من العوام لا يسمو إلى مرتبة الشعر المهذب المصقول، لكنه حكم فيه كثير من الإجحاف؛ لأن مارو لم يفعل سوى أن تناول الشعر الفرنسي القديم وجرده من الزوائد الصناعية التي تشوه جماله ورقته، وأخرجه من جديد رقيقا رشيقا. فهو أديب فرنسي بكل ما تحمل هذه الكلمة من خصائص ومميزات، وهذه الروح الفرنسية الخالصة التي تتمثل فيه هي التي أوقفته في العبارة والأداء عند حدود معينة لا يجاوزها، حتى لا تشوب خصائصه الفرنسية شائبة، ولكنها هي التي جعلت له منزلته ومكانته.

أمثلة من شعر مارو:

حلم

رأيت في حلمي في الليلة الماضية

أننا متعانقان ونحن عاريان،

فلما استيقظت طارت فرحتي

بما استمتعت به في نومتي،

فجئت من فوري إلى أبولو

أستفسره الحلم،

فأخذ أبولو يفكر فيك وهو غيران،

ثم أجاب: «ذاك نعيم لن تظفر بمثله»

وا حسرتاه يا غرامي! كذبيه فيما يقول

وددت لو كان أبولو من الخاطئين!

رسالة (قالها وهو يغادر القصر)

وداعا أيها القصر، وداعا أيتها السيدات

وداعا للعذارى، وداعا للغانيات،

هذا وداعي ولن يطول.

وداعا لما يحيط بكن من لهو وتسلية

وداعا للرقص والمرقص،

وداعا للنغم والإيقاع،

وداعا للدفوف والقيثار والكمان؛

فنحن إلى الوغى ذاهبون ...

وداعا لهذه النظرات الفاتنات،

إنها رسل لقلوب العاشقين،

وداعا لما يدور هنا من عميق الأفكار

تارة ساخطة وطورا راضية،

وداعا للأصوات المنسجمة المتناغمة

تنبعث إذ تتلى المواويل والمقطوعات والأغاني

بل وداعا لهذا الفراق الحزين،

ثم وداعا لما لقيته هنا من حسرات وآلام •••

وداعا يا من أنت بين الصديقات

أعلاهن فضيلة وأولاهن جمالا،

أتوسل إليك أن تردي لي الساعة

قلبا كنت أهديته إليك،

فلا بد لي منه في ساحة الوغى

وإليها يدعوني الواجب نحو سيدي،

فإذا ما هتف هنالك قلبي بذكراك

وإذا ما استحثه مهماز الشرف

إلى النزال وجليل الأفعال،

ثم أثمرت أفعاله ونزاله ثمرا

جديرا بالثناء لا تشوبه الشوائب

فستكونين أنت وارثة ما أثمر،

إذن فاذكري قلبي فهو قلبك،

وإن كتب لي الله أن أعود

فسأرده إليك في هذا المكان الجليل،

وبهذا أختم وداعي. (4) رابليه

Rabelais (1490-1553م)

جاوزت النهضة الأدبية حدود إيطاليا لتنشر لواءها على فرنسا من بعدها، وكان «رابليه» علم النهضة الفرنسية غير منازع، وهل من شك في أن رابليه الفرنسي، و«سرفانتيس» الإسباني، و«شيكسبير» الإنجليزي، كانوا جبابرة النهضة الأدبية في أوروبا وروادها؟ وهل كانت النهضة الأدبية إلا عهدا اشتد فيه الشعور بالحياة بعد جمود طويل، وعهدا للتحصيل العلمي يستقبل الحياة في بشر وإقدام؟ وقد وجدت روح النهضة هذه خير ما يعبر عنها فيما كتب رابليه.

ولد «فرانسوا رابليه» على أرجح الظن عام 1490م في إقليم «تورين» جنوبي فرنسا، ولسنا ندري عن نشأته إلا قليلا، فيقال إن أباه كان صيدليا أو صاحب فندق، وكان لأبيه كرمة إلى جوار دير فيه مدرسة، ففي تلك المدرسة تلقى رابليه أول تعلمه الذي أريد به أن يعده للوظائف الدينية. ولما بلغ عامه الخامس عشر التحق بدير صادق فيه بعض الزملاء، فكان لهؤلاء الأصدقاء شأن في مستقبل حياته.

ثم دخل «رابليه» ديرا لجماعة «الفرانسسكان»، وهي طائفة تعتقد أن الإمعان في العلم والبحث عن الحقيقة كفر وزندقة؛ ولهذا كان على العضو الجديد أن يقسم أن يظل جاهلا، وهكذا فعل رابليه، ولم يلبث أن نصب قسيسا، وهو أبعد الناس ميلا إلى مثل هذا المنصب، وقد صادف في الدير رجلا يماثله روحا، ويضارعه منزعا، وهو الراهب «بيير آمي

» الذي استطاع أن يدرس في غرفته عددا من الكتب اليونانية والعبرية، وكتبا في الفقه الإسلامي والقانون الروماني، فأخذ هذان الثائران على تعاليم الطائفة يدرسان تلك الكتب في الخفاء، وسرعان ما ألف رابليه وزميله جماعة مستنيرة تناقش المسائل الفكرية التي كانت في ذلك العهد ذات شأن وخطر. وحسبك لكي تعلم في أي عصر عاش رابليه أن تذكر أنه عصر شهد كولمبس وكوبرنيق وليوناردو دافنشي وميخائيل أنجلو وروفائيل وسرفانتيس، فاتسعت التجارة بسبب الكشوف الجغرافية الجديدة، وازدادت المعرفة والعرفان باختراع الطباعة.

كانت جمعية نشيطة تلك التي كونها رابليه وزميله آمي، فوشى الواشون بهما لأولي الأمر في الكنيسة أنهما يخفيان في غرفتيهما كتبا يونانية وغير يونانية، وضبطت الكتب، وعوقب الرجلان بالسجن في حجرات ضيقة منعزلة في الدير، لكن «آمي» فر من الدير إلى سويسرا، حيث هاجم الكاثوليكية، وتبع «لوثر» في دعوته الدينية، وأما «رابليه» فخرج على طائفته الدينية، وانضم إلى سواها.

ودرس رابليه الطب، ومنح فيه الدرجة من جامعة مونبلييه، وعينته الجامعة أستاذا للتشريح، وعندئذ أخذ يشتغل بدراسات دنيوية لا شأن لها بالدين، وألف ملهاة عنوانها «الرجل الذي تزوج امرأة صماء»، وهكذا أخذ ينسحب شيئا فشيئا من الكنيسة لينغمس في مجرى الحياة الاجتماعية.

وفي عام 1532م نشر ترجمة لاتينية لمؤلفات أبقراط وجالينوس في الطب، لكن الناشر أصابته خسارة فادحة، فأقسم له رابليه أنه معوضه عن هذه الخسارة ربحا كثيرا قال: «وأقسم لك إن رابليه الذي لا يعرفه الآن إلا نفر ضئيل لن يلبث طويلا، حتى يصبح في أفواه الناس جميعا وبين أيدي الناس جميعا، وسيمتد صيته إلى خارج البلاد كما ينتشر في أرجائها.»

فما هو إلا أن أخرج لذلك الناشر كتابا صغيرا عنوانه «بانتاجريل»، ثم لم يلبث أن أعقبه بكتاب آخر عنوانه «جارجانتوا»، حتى نجح المؤلف ونجح الناشر نجاحا عظيما. وسنتناول هذا الكتاب العظيم بالتحليل.

بدأ رابليه عام 1532م فأخرج «بانتاجريل»

، ولم تمض أعوام ثلاثة بعدئذ حتى أخرج «جارجانتوا»

Gargantua ، لكن جارجانتوا هذا، وإن يكن جاء ثانيا في التأليف، إلا أنه أول في ترتيب الكتاب في مجموعته التي بين أيدينا اليوم. ثم مضت إحدى عشرة سنة قبل أن يستأنف رابليه قصته، إذ أخرج في عام 1546م الجزء الثاني من بانتاجريل، وبعد ستة أعوام أخرى نشر الجزء الثالث من بانتاجريل أيضا، وأخيرا ظهر الجزء الرابع من هذه القصة في عام 1564م، وعلى ذلك يكون الكتاب كله مؤلفا من خمسة أجزاء: جارجانتوا، وأربعة أقسام في بانتاجريل.

وليس من اليسير أن نقدم للقارئ ملخصا لهذا الكتاب إلا بمقدار ما يتيسر التلخيص لقصص ألف ليلة وليلة مثلا، فقد كتب الكاتب كتابه منجما على أعوام طوال، وفي أيام متباعدة، يكتب في كل ساعة وحيها، بل يكتب وهو يأكل طعامه، وحين يشرب شرابه، فليس من طبيعة هذه الأجزاء المتناثرة المفككة أن تختصر في صفحات قلائل. وحسبنا أن نقول إن جارجانتوا وابنه بانتاجريل بطلان من أبطال المغامرات على غرار من جاء وصفهم في قصص الفروسية في العصور الوسطى، غير أن الكاتب بالغ في الوصف، وهول في التصوير كي ينشئ قصته في جو ساخر. وأشهر الحوادث التي جاء ذكرها في القصة الأولى حرب نشبت بين «جرانجوزييه»

Grandgousier

4

أبي جارجانتو، وهو ملك من طراز متسامح لا يأبه كثيرا بفخامة الملك وأبهته ، وبين بكروكول

وهو ملك مستبد لا يهوى شيئا غير الفتح والغزو، ومن حوادث القصة الأولى كذلك إنشاء «دير ثلما

Thelema »، وهو دير خيالي يرسم له رابليه الخطط والمبادئ، فيجعلها معارضة لذلك الحرمان البغيض الذي كانت تفرضه الأديرة على رهبانها، فمن مبادئه الأولى «افعل ما بدا لك.» ونقش على باب الدير أبياتا من الشعر تصف من لا يريدهم الدير بين نزلائه، كالمتعصبين والمنافقين والمرابين والسكارى والمخرفين والكسالى والحاسدين والقساة والسذج، وأما نزلاء الدير فمتزوجون يعرفون بالاعتدال والحكمة والذكاء والإحسان والتسامح والرحمة والشهامة والعدل.

ويبدأ كتاب جارجانتوا بقائمة طويلة تسجل أنساب الأسرة تسجيلا يبعث القارئ على السخرية، ثم تتلو ذلك قصة عجيبة عن مولد جارجانتوا بعد حمل دام أحد عشر شهرا، ونزل من جوف أمه وهو يصيح في صوت قوي عريض يسمعه الناس على مسافة أميال بعيدة «ايتوني بالشراب! إني أريد شرابا! أريد بعض الشراب!» ثم يتلو ذلك كيف نشأ رضيعا وطفلا ويافعا، ووصف ذلك كله وصفا مليئا بالسخرية الممتعة.

حتى إذا ما فرغ الكاتب من قصة جارجانتوا، أخذ يقص قصة ابنه «بانتاجريل» وهو كأبيه عملاق تجري تصرفاته على قياس ضخامة جسمه، غير أن «رابليه» في هذا الجزء لم يطرد في وصف حياته على مقياس واحد كما استطاع أن يفعل في جزء جارجانتوا. ومن أبرع الشخصيات التي صورها رابليه في قصة بانتاجريل «بانيرج

» الذي التقى به بانتاجريل في باريس فاصطحبه، وقد أبدع رابليه في تصوير هذه الشخصية إبداعا لا يكاد يضارعه فيه إلا شيكسبير في شخصية «فولستاف»

Falstaff ، والفكرة الرئيسية في شخصية «بانيرج» انعدام المبادئ الخلقية بمعناها الواسع الذي ورد في فلسفة أرسطو، غير أن بانيرج فيما عدا ذلك يتحلى بكل الخلال الحميدة. وما هو إلا أن يشتبك بانتاجريل وإلى جانبه رفقاؤه جميعا، في حروب متصلة على نمط الحروب التي جاء وصفها في القصص القديمة إذا ببانيرج يبدي مسلكا شاذا يختتم به القصة فجأة، ويميل بانيرج إلى الزواج، فيخصص الكاتب جزءا كاملا من كتابه يبسط فيه الوسائل التي لجأ إليها بانيرج ليرى هل يقدم على الزواج أو لا يقدم، وأخيرا يعتزم القيام برحلة إلى راعية إلهية تتلقى الوحي من السماء ليستلهمها طريق الصواب. ويشغل وصف هذه الرحلة الجزأين الأخيرين من الكتاب. فلما بلغ الراحل غايته، وألقى سؤاله على الراعية ليهتدي بجوابها إلى الصراط المستقيم، أجابت الراعية الإلهية بكلمة واحدة هي «امرح.» فجاءت الكلمة مبددة لما يساور بانيرج من وساوس، بل جاءت حلا لمشكلة كبرى هي الحياة الأليمة فوق هذه الأرض.

هذا هو كتاب رابليه «جارجانتوا وبانتاجريل» الذي يمثل براعته الأدبية وميوله الشخصية أصدق تمثيل، ولقد أثار هذا الكتاب نقاشا حادا، وبحثا مستفيضا حول ما يقصده المؤلف من هذا الكتاب. وإنك لترى الكاتب يخلط في شخصياته خلطا عجيبا كأنما يريد متعمدا أن يربك من بعده من الناقدين، فتارة يذكر أشخاصا حقيقين بأسمائهم الصحيحة، وتارة يستر أشخاص كتابه بقناع خفيف يشف عما تحته من أشخاص حقيقيين، وطورا ثالثا يستخدم شخصيات خلقها بخياله خلقا، ثم تراه أحيانا جادا رصينا لا يهزل ولا يسخر، كما فعل في الفصول التي عقدها للكلام في تربية النشء، وأحيانا أخرى - بل وأغلب الأحيان - يهزل ويسخر إلى حد الإسراف. ومن أوضح صفات رابليه أمران؛ أولهما: حبه الشديد لاستعمال الألفاظ المترادفة في كثرة تستوقف النظر والإفراط في التفصيل حين يثبت قائمة بأشياء، وثانيهما إسرافه في ذكر إشارات وأوصاف لا يراعى فيها الذوق المهذب المرهف.

وقد اختلف النقاد في تفسير هذا الكتاب وفي تقديره، فقيل إنه هجاء سياسي شخصي تستطيع أن ترد كل حادثة فيه، وكل شخص من أشخاصه إلى مقابل في الحياة الواقعة في عصره، وقيل كذلك إنه نقد للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، وقيل أيضا إنه دفاع عن الفلسفة المادية الأبيقورية التي تنادي بالبحث عن حياة لذيذة ممتعة، بل زعم فريق آخر أن الكاتب إنما أراد مهاجمة العقيدة المسيحية من أساسها، وأخيرا ذهب بعض الناقدين إلى أنه مخادعة ماكرة من مؤلف ماهر أراد بها أن يضلل قراءه، فيوهمهم أن شيئا مقصودا يكمن وراء هذه الألفاظ، وعليهم أن يتعقبوه ليكشفوا عنه. والواقع أن ليس وراء الستار من شيء مستور، وبعد فليس غرضه الصحيح بعسير - كما يقول سانتسبري في كتابه عن تاريخ الأدب الفرنسي - إذا لم نفتعل إخراج المعاني مما يخلو من المعنى، فالكتاب يجري في نسقه على نمط معروف مشهور، وهو قصة تروي مغامرة لبطل أو أبطال. وإذن فرابليه لم يبتكر من حيث الصورة شيئا جديدا، وإنما الجديد هو ما أخذ يحشره خلال قصة المغامرة من تعليق وإشارة واستطراد، وساعده على ذلك غزارة علمه، فقد كان عالما ضليعا، ولم يغمض عينه عن الدنيا التي يعيش فيها، فجمع مما حوله معرفة واسعة، وكان ذا مزاج مرح يميل إلى اللهو والسرور، فضلا عن انغماسه في السياسة واتصاله بمشكلات الدين. وإذن فقد جمع رابليه عناصر النهضة في أولى مراحلها، وهي حب اللهو والسعي وراء الربح والدراسة.

نعم إن كتاب «جارجانتوا وبانتاجريل» آية أدبية برغم ما فيه من فقرات طوال تبعث الملل في نفس قارئها لفتورها وخلوها من المعنى، ولكأننا بالكاتب في مثل هذه الفقرات يلهو لهوا بريئا بالألفاظ كما يلهو الطفل العابث بالرمل على شاطئ البحر، فالطفل لا يفحص كومة الرمل حبة حبة، ثم هو لا يريد أن يستخدم الرمل لشيء ذي نفع أو غرض مقصود، وكل ما يعنيه منه أن يملأ منه وعاءه، ثم يفرغه مستمتعا بذلك، وهكذا ترى رابليه في كثير من أجزاء كتابه يكيل الألفاظ بقلمه كيلا لغير ما غاية منشودة سوى أن يملأ الوعاء فرحا مرحا مسرورا.

وإذا وجدت رابليه في هذا الكتاب قد خرج على حدود اللياقة، وأفحش القول، وأرخى للشهوة الجسدية عنانها، فمرجعه أنه رجل ضاق صدره بقيود العصور الوسطى، ومحنة السلطة الدينية. وإذا كنت ممن لا يطيقون قراءة الكلام الفارغ من المعنى، وإن كنت ذا عقل صارم يريد أن يقرأ ما يفيد، وإذا كنت ممن يقرءون ليجدوا حلا حاسما مباشرا لمشكلات الحياة، فليس رابليه بالكاتب الذي تريد؛ لأنه كاتب مارق خرج على كل هذه الأوضاع ازدراء لها، واحتجاجا على الدوافع التي بعثت عليها. إن الكثرة الغالبة من الناس تؤثر الحزن على المرح ، واليقين على الشك، هم يحبون الحزن، حتى ولو لم يكن ثمت ما يحزن، وهم يحبون اليقين والتمسك بما يعتقدون، حتى ولو كانت عقائدهم أوهاما في أوهام ينكرها الواقع إنكارا صريحا، وهم كذلك يحبون اطراد الفكر غير عالمين أن صاحب الفكر المطرد هو المجنون الذي لا يتردد قطعا في أنه قيصر ذو السلطان والجبروت.

لقد أخذ رابليه يقذف بمادة كتابه قذفا لا ينشد غاية ولا يترسم خطة، بل لعله لم يقرأ ما كتب ولم يعن بالصقل والتجديد، وليس في كتابه قصة مطردة، وإنما يسوق الحديث سوقا، فتتساقط الشخصيات في السياق بغير تمهيد لظهورها، ثم تختفي فجأة إلى أن يتذكرها الكاتب بالمصادفة العابرة. ففي الكتاب محادثات ونكات وقصص وسخرية ولعب بالألفاظ، وصور مختلفة للحياة الممتعة اللذيذة، وتصوير للأصدقاء ونقد أدبي، وترى كل هذا يتدفق من عقل رابليه كأنما هي أنغام مختلفة تخرجها آلة كبرى تعددت أوتارها، وتراها جميعا تتسابق أمام عينيك على صفحات الكتاب في تلاحق سريع ونغم وتوقيع لا يضارع رابليه فيهما كاتب آخر. إن تاريخ «جارجانتوا وبانتاجريل» لكالسيل المتدفق ينبثق من شبه الشعور بعد أن أترع بالأفكار والصور والرغبات والتجارب، ثم فك إساره بعد قيد طويل؛ فكأنما هو تخليط مخمور أسكرته الراح.

نشر الكتاب فقالت عنه كلية اللاهوت بجامعة باريس إنه مناف للدين في بعض مواضعه؛ فراجعه الكاتب وحذف منه إشارات جنسية صريحة، وملأ الفراغ بسخرية لاذعة برجال اللاهوت في تلك الكلية؛ فصدر أمرها بمصادرة الكتاب، لكن ذلك لم يكن إلا إعلانا قويا عنه فازداد نجاحا.

لقد قيل إن في الإنتاج الأدبي درتين نادرتين لا يظفر بهما إلا القليل من الكتاب، أما أولاهما فهي النظم الذي يبلغ أن يكون شعرا، وأما أخراهما فهي الفكاهة التي تبعث قارئها على الضحك، وقد كانت فكاهة «رابليه» من هذا القبيل النادر، وما أكثر ما كتب من فصول فلسفية ونفسية في تحليل الفروق بين فكاهة وفكاهة، فهذا «سوفت

Swift » الكاتب الإنجليزي في القرن الثامن عشر كاتب فكه، لكن فكاهته تثير في قارئها رعدة؛ لأنها تبعث على الأسى، ويستحيل على قارئها أن يضحك في قهقهة عالية، وهذان «دكنز

Dickens » و«مارك توين

Mark Twain » ينظران إلى الحياة نظرة جادة صارمة تفهم ما فيها من بؤس ومرارة، ثم هما يجعلانك بفكاهتهما تقهقه طربا وتهتز مرحا، ويشعرانك بما في الحياة من عبث يبعث على الضحك. ومن هذا القبيل كانت فكاهة رابليه، فهو حكيم عاقل، لكنه ساخر ضاحك، فهو في كتابه الذي أشرنا إليه يرسل بطله «جارجانتوا»، ثم ابن بطله «بانتاجريل»، ثم يرسل «بانيرج» - وهو أظرف أشخاص قصته - يرسل كل هؤلاء إلى دنيا الواقع ودنيا الخيال، فيلاقون أثناء مغامراتهم ورحلاتهم كل صنوف الناس، وجميع ألوان الحياة في هيئة مضحكة هي الحق بمقدار ما في النظرة الهازلة إلى الحياة من حق. فهو يلطم بسخريته ضروب الناس على اختلافهم، لكنه يوجه أقسى لطماته إلى أصحاب المهن المحترمة كالقساوسة ورجال القانون.

وقد أثارت سخريته بعض النفوس التي كانت تضيق بالنقد في عصره، فإذا أضفنا إلى سخريته خروجه على حدود العرف في لفظه، وجدناه نابيا على الذوق السائد في عصرنا، لكن قد يشفع له في ذلك أنه بضحكاته العراض يمزق عن وجوه الناس أقنعة النفاق والتكلف، فلعله بلفظه الجارح يشفي من جسم المجتمع العليل هذا الداء إن كان لمثله دواء.

ويستخدم رابليه جزل الألفاظ ورنانها، وهو الذي خلق بعض ألفاظه خلقا، وتراه فيما يكتب يكثر من الصور والتشبيهات، حتى أصبحت غزارتها وتلاحقها عيبا يؤخذ على أسلوبه. وقد أراد رابليه بكتابه هذا أن يبشر بمذهب أدبي هو أن الفكاهة والسخرية وحدهما السبيل إلى نجاة العالم، وتخليصه من شوائبه، حتى ليطلق على هذا المذهب في الأدب «المذهب البانتاجريلي»، وقد اقتفى أثره من بعده كثير من الأدباء.

وهذه قطعة من وصفه لحياة الرهبان والراهبات في دير «ثلما» الذي تخيله رابليه، وأورد ذكره في قصة جارجانتوا:

كانوا ينفقون حياتهم كلها في غير حرص على قانون ولا شريعة ولا نظام، إنما يسيرون فيها وفق أهوائهم وإرادتهم المطلقة من القيود؛ فهم يغادرون المخادع حينما يشاءون، ويأكلون ويشربون ويعملون وينامون، حينما يريدون وحيثما مال بهم الهوى، فليس لأحد أن يوقظهم من نعاس، وليس لأحد أن يضطرهم إلى طعام أو شراب أو أي شيء آخر. هكذا رسم لهم جارجانتوا طرائق العيش، وليس فيما يتبعون من قواعد وروابط دقيقة تضبط جماعتهم إلا عبارة واحدة جديرة في رأيهم بالاتباع ألا وهي: «افعل ما بدا لك.» ذلك لأن أحرار الرجال الذين حسنت بيئتهم، وصلحت تربيتهم، وعرفوا كيف يعيشون في صحبة شريفة، ورثوا في جبلتهم غريزة أو حافزا يستحثهم على عمل الفضائل، ويبعدهم عن الرذائل، وذلك الحافز الفطري هو ما يسمى بالشرف، ولكن هؤلاء الرجال أنفسهم لو خضعت نفوسهم خضوعا ذليلا، واضطرتهم القيود أن يذلوا ويخنعوا، فإنهم ينحرفون عن ذلك الحافز الشريف الذي كان قبل يميل بهم نحو الفضيلة، ويتجهون نحو أن يزيحوا عن أنفسهم تلك الأصفاد، ويحطموها تحطيما؛ لأنها أصفاد استعباد تسترقهم في طغيان غشوم، فإن طبيعة الإنسان تملي عليه أن يسعى وراء الممنوع، وأن يشتهي ما حرم عليه ...

وقد قيض الله لكتاب رابليه أن يترجمه إلى الإنجليزية في القرن السابع عشر السير توماس إركارت

Sir Thomas Urquhart

ذلك الاسكتلندي النابغ الذي جعل من رابليه علما في الأدب الإنجليزي، بل لعله في إنجليزيته أقرب إلى نفوس القراء الإنجليز المحدثين، منه في فرنسيته إلى القراء الفرنسيين. (5) السابوع الأدبي

شهدت فرنسا في منتصف القرن السادس عشر حركة أدبية كبيرة تعرف باسم «السابوع الأدبي». ولعلنا لا نعدو الحق إذا قلنا إن رجال هذه الحركة هم الذين أثبتوا قدرة اللغة الفرنسية على أن تصبح لغة أدب وثقافة بعد أن كانت تعتبر لغة عامية ضئيلة القدر إلى جانب اللغة اللاتينية التي ظلت إلى عصرهم لغة التأليف والأدب الرفيع. ومن البديهي أنهم لم يسلكوا في جهادهم من أجل اللغة الفرنسية طريق الدفاع النظري فحسب، بل رأوا بحق أن خير السبل لتأييد قضيتهم هي أن ينشئوا الشعر والنثر بتلك اللغة العامية. ولقد وفقوا في ذلك الإنشاء أكبر توفيق حتى ليعدون في تاريخ الأدب الفرنسي آباء ذلك الأدب وواضعي أسسه. ولا أدل على ذلك من أنه عندما ظهرت الحركة الابتداعية (الرومنتيكية) في القرن التاسع عشر، ونادى القائمون بها بوجوب ترك الآداب الإغريقية واللاتينية باعتبارها غريبة عن فرنسا، والرجوع إلى المصادر الفرنسية البحتة؛ لم يجدوا خيرا من «السابوع» يتدارسونه ويستوحونه ويجددون مذاهبه.

هذه الحركة من الأهمية، بحيث تستحق أن نقف عندها قليلا لنجمل بعض آرائها في تجديد الأدب، وسيرى القارئ في مبادئها ما يمكننا أن نستفيد منه في المرحلة الراهنة من حياتنا الثقافية. (5-1) السابوع وتكوينه

حوالي منتصف القرن السادس عشر ظهر أستاذ كبير اسمه دورا

Daurat

كان يدرس اللغتين الإغريقية واللاتينية بإحدى المدارس، وكان من بين تلاميذه شابان هما: رونسار

Ronsard

وباييف

Baif

سيصبح لهما في الشعر شأن كبير. وانتقل الأستاذ رئيسا لمدرسة أخرى، فتبعه الشابان النابهان. وفي المدرسة الجديدة تعرفا بشابين آخرين من أعلام المستقبل هما بللو

Belleau

وجودل

Jodelle ، وبعد قليل انضم إليهم في حلقة الدرس دي بللي

Du Bellay .

وتابع هؤلاء الشبان الخمسة دروس أستاذهم في حماسة بالغة، حتى ليروون أن رونسار وباييف كانا يتناوبان في الليل مائدة المذاكرة ، فيحتلها رونسار إلى الساعة الثالثة صباحا، ثم يوقظ باييف ليحل محله. وبلغ بهم فرح النفس بالتحصيل أن صاح أحدهم يوما بأستاذهم عندما شرح لهم لأول مرة قطعة لشاعر إغريقي كبير «لم أخفيت عنا - أستاذنا! - هذه الكنوز إلى اليوم؟» وطلبة قلوبهم في هذه الحرارة لم يكن بد من أن تطمح نفوسهم الفتية إلى أن يكتبوا بلغتهم أدبا يستطيع أن يثبت عند المقارنة بالآداب الإغريقية واللاتينية التي أحبوها كل هذا الحب.

وهذا ما كان. فقد اجتمعت كلمتهم: رونسار، باييف، وبللو، جودل، دي بللي - ومعهم طبعا أستاذهم دورا، ثم بونتيس دي تيار

الذي انضم إليهم عندما علم بحركتهم العظيمة - اجتمعت كلمتهم على أن يجددوا كما قلنا اللغة الفرنسية والشعر الفرنسي.

وسموا أنفسهم في بادئ الأمر «الفرقة»

Brigade ، وكان اسما متواضعا لا يخلو من سذاجة ونبل، ولكنهم كانوا فنانين، ورجال الفن لا يخلون قط من نوع من الكبرياء اللطيف. ورأوا أنهم سبعة، وذكروا أن الإسكندرية قد شهدت في عصر البطالسة (بطليموس فيلادلف) سبعة من شعراء الإغريق كونوا رابطة لتجديد الشعر الإغريقي، وسموا أنفسهم «بالسابوع» قياسا على مجموعة من الكواكب التي تحمل هذا الاسم، فلم لا يسمون أنفسهم هم أيضا «بالسابوع»؟ وهكذا تكون الاسم وتكونت المدرسة.

وفي سنة 1549م كتب دي بللي بالاشتراك مع رونسار دستورا للجماعة بعنوان «دفاع

5

عن اللغة الفرنسية وإثراء لها»، وهو كتاب عظيم الأهمية في تاريخ اللغة الفرنسية وأدبها، ولقد لقي الكتاب معارضة من أنصار اللغة اللاتينية، ولكن المعارضة لم تلبث أن خمدت. وانتصر «السابوع» انتصارا رائعا حتى لنرى رجاله يسيطرون على حياة فرنسا الأدبية أربعين عاما لا ينافسهم في تلك السيطرة أحد يذكر. بل لقد جاوزت شهرتهم فرنسا فامتدت إلى أوروبا كلها، ولكن الموت لم يلبث أن تخطف أفرادهم الواحد تلو الآخر، حتى إنه لم يكد القرن السادس عشر ينتهي حتى كانت حركتهم قد تهافتت، بل ابتلعها نسيان ظالم. وظل مجدها مطويا لم يبعث إلا في القرن التاسع عشر على يد الرومانتيكيين. (5-2) مبادئ السابوع

يمكن إجمال مجهودات السابوع وتعاليمه فيما يأتي : (1)

الدفاع عن اللغة الفرنسية: وذلك لأن تلك اللغة كانت تعتبر عندئذ بمثابة لغة عامية إلى جوار اللغة اللاتينية، وكان الأمر شديد الشبه بلغتنا العامية اليوم إزاء اللغة الفصيحة، وذلك مع ملاحظة أن اللغة الفرنسية كانت قد بعدت عن أصلها اللاتيني أكثر من بعد لغتنا العامية الآن عن العربية الفصحى بكثير. وكان الكتاب والعلماء ينظرون إلى اللغة الفرنسية باحتقار، ويرون أنها لا تستطيع أن تحل محل اللاتينية. فانبرى لهم السابوع؛ ليثبت أن اللغات لا تمدح ولا تعاب في ذاتها، وإنما تمدح وتعاب بما كتب فيها، وليس غنى اللغة وفقرها إلا من عمل المتكلمين والكاتبين بها. ولقد كان فيما فعل الإيطاليون أمثال دانتي وبترارك وغيرهما خير مثل يحتذى؛ فهؤلاء قد كتبوا عيون الأدب باللغة الإيطالية التي كانت تعتبر لغة عامية كالفرنسية سواء بسواء إلى جوار اللغة اللاتينية، فما على الفرنسيين إلا أن يعملوا كما عمل الإيطاليون، وسوف يكون في مؤلفات السابوع ما يثبت أن اللغة الفرنسية لا تقل صلاحية للأدب الرفيع عن اللغة الإيطالية إن لم تفقها. (2)

إثراء اللغة الفرنسية وآدابها، وذلك بالطرق الأربع الآتية: (أ)

الاستعارة من اللغتين القديمتين الإغريقية واللاتينية: ولقد اتهمهم خصومهم - بغير حق - بالإسراف في هذا الاتجاه، حتى قال الناقد الفرنسي بوالو «إن رونسار وجماعته قد أنطقوا ربة الوحي الفرنسية باللغتين الإغريقية واللاتينية.» إشارة إلى كثرة تلك الاستعارات. (ب)

التجديد في الأوزان والقوافي: وقد كان اتجاههم العام في ذلك نحو الاطراد وإحكام الأصول، وإن لم يصلوا في ذلك إلى حد التزمت الذي سيصل إليه فيما بعد الناقد ماليرب

Malherbe ، ونستطيع أن نضرب لذلك بعض الأمثال بقولهم بوجوب انتهاء المعنى عند مقطع الشطر في كل بيت، بحيث لا يكون هناك تدوير في المعنى، وأما القافية فيلحون في ضرورة إشباعها. وفي الأوزان حرصوا على أن يجعلوا الصدارة للوزن الطويل المكون من اثني عشر مقطعا، وهو الوزن المسمى بالإسكندري كما استعاروا من الإيطاليين «السونتا» البترركية. (ج)

فنون الشعر: لقد عمل السابوع على التخلي عن الفنون الشعرية الصغيرة كالمواويل وما شابهها من الأنواع التي سادت في القرون الوسطى، وعادوا إلى الفنون الكبيرة التي عالجها اليونان والرومان القدماء كقصائد الهجاء والرثاء وشعر الرعاة وشعر الملاحم، بل والتراجيديا والكوميديا، وإن يكن إنتاجهم المسرحي ليس بشيء إذا قيس بإنتاجهم الغنائي الذي خلدوا به. (د)

ضرورة العمل: وهذا مبدأ لعله من أنفع مبادئهم، فقد قالوا بأن خلق الأداة الشعرية من لغة وأوزان لا يكفي، بل لا بد من طول الجهد والمران حتى تسلس الأداة لهم، وعندهم أن العبقرية ذاتها لا تغني، بل لا بد من مواصلة العمل، حتى تخرج العبقرية ثمرات سليمة. (ه)

محاكاة القدماء: وهذا هو طابع السابوع الواضح، فقد قالوا بأن المحاكاة هي خير وسيلة لتجديد الشعر الفرنسي. ولقد كان إعجابهم بقدماء الإغريق واللاتين لا حد له، وما كانوا يستنكفون من أن ينهبوا كنوزهم الأدبية نهبا، حتى قالوا بمحاكاة الصياغة والموضوعات على السواء؛ ومن هنا كثر استخدامهم للأساطير القديمة. ولقد أثبت الزمن أنهم كانوا على حق؛ إذ أصبحت المحاكاة مدرسة للأصالة.

وكما قلدوا القدماء قلدوا كذلك الإيطاليين الذين كانوا قد سبقوهم إلى خلق أدب جديد.

وسنعرض فيما يلي موجزا لأكبر اثنين من أعلام ذلك السابوع المجيد: (6) رنسار

Ronsard

ولد «بيير دي رنسار»

في بلد ريفي على ضفاف اللوار عام 1524م، ومات سنة 1585م. والعالم يعترف له بالزعامة بين الشعراء الأحياء، حتى لقبه معاصروه «أمير الشعراء». ولقد قضى رنسار أولى سنيه منغمسا في شئون الحياة، فقد كان أبوه تابعا في حاشية «فرانسس الأول»، والتحق رنسار بخدمة البلاط حين كان صبيا في عامه العاشر، فسافر إلى اسكتلنده وإنجلترا في حاشية السفراء الفرنسيين، كما التحق بالسفارات الفرنسية في فلاندر وهولنده وألمانيا، لكنه لم يلبث أن أصابه مرض أحدث في سمعه صمما أعجزه عن العمل في مناصب الحكومة، فارتمى في أحضان الأدب لعله يجد في رحابه العزاء والسلوى. وتتلمذ «لدورا»، وزامله في الدراسة «دي بلاي» و«بيلو» و«باييف» فكانت جماعة قوامها هؤلاء الأربعة وأستاذهم خامسهم، ثم أضيف إليهم «جودل» و«بونتي دي تيار»، وبذلك اكتمل السابوع الذي أخذ على نفسه إصلاح اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي، وأن تكون وسيلة الإصلاح دراسة الآداب القديمة والنسج على منوالها.

وأول ما أنتج السابوع ليدلوا على مذهبهم بطريقة عملية هو «أغان» للشاعر رنسار، ثم عقب ذلك بإنتاج آخر هو «غراميات كاسندرا»، ثم أتبع ذلك بديوان عنوانه «ترانيم»، ثم بطائفة من المقطوعات الشعرية.

لم يلبث رنسار طويلا بعد أن أخذ يقرض الشعر، حتى عظمت مكانته في القصر، وإن قصة لتروى في هذا الصدد عن «مرغريت سافوا» أخت هنري الثاني، أنها سمعت منشدا في القصر يقرأ شعر رنسار في صوت تهكمي، فجذبت منه الديوان جذبا، وأخذت هي تنشد لأخيها الملك وحاشيته، فحكم الحضور جميعا للشاعر بالعظمة، ثم أخذت شهرة الشاعر تزداد في القصر في أيام شارل التاسع. وقد أنفق رنسار بعدئذ عشر سنوات ينتج للقصر قصائد الشعر في المناسبات المختلفة، كما ينتج لنفسه آنا بعد آن. وأخيرا ظهر في سنة 1572م الجزء الأول من ملحمة «فرانسياد» التي كان يطمع أن يصل بها إلى ذروة الشعر، لكنه لم يوفق فيما أراد، ولعلها أن تكون أسوأ ما أنشد من شعر. ومات شارل التاسع وغادر الشاعر القصر، وقصد إلى إقليمه الريفي، وهنالك جادت قريحته بخير شعره في «قصائد غزلية» و«مقطوعات شعرية إلى هلن» وغيرهما.

كان رنسار أميرا للشعراء في عصره، لكن النقد فيما بعد اختلف في تقدير أدبه اختلافا بعيدا، فلم يتورع خلفه «ماليرب

Malherbe » أن يخرجه من زمرة الشعراء إخراجا، ولم يتردد «بوالو

Boileau » في الغض من شأنه، ولكن ما جاءت الحركة الابتداعية في القرن التاسع عشر، حتى أوشك رنسار على يديها أن يستعيد مجده كما كان في أيام حياته، وأصبحت آثاره إنجيلا يقدسه أتباع «سنت بيف

Sainte Beuve » وتلامذة «هيجو».

ومهما يكن من رأي النقد في رنسار فلا شك في أن مجده يبدو على حقيقته حين ننظر إلى مقدار ما أثر في خلفه، فقد تمكن بفضل دراسته للآداب القديمة أن يدخل على الأدب الفرنسي أبحرا جديدة، وقد كان من أكبر عيوب الشعر في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وفي أوائل السادس عشر أن بذل الشعراء كل عنايتهم في ترتيب القوافي والمقطوعات، وأهملوا البيت الواحد إهمالا تاما، فجاء رنسار وجعل البيت وحدة القصيدة كما هو الشأن في الشعر العربي، ولعل ذلك نتيجة دراسته لشعر هوراس الذي ترى لكل مقطع فيه أثرا في قوة البيت، ولكل بيت أثر في قوة المقطوعة. أضف إلى ذلك أن رنسار أطلق يده في إدخال كلمات جديدة من اليونانية واللاتينية، وألوان من التعبير لم تألفها أسماع الفرنسيين، ثم احتفظ مع ذلك بكلمات فرنسية قديمة لها روعة في التصوير. وكان مما يميزه كذلك إسراف في استخدام صيغة التصغير، وكان هذان الجانبان الأخيران، الكلمات القديمة وصيغة التصغير، مما امتدت إليه يد النقاد في القرن السابع عشر بالحذف، ومع ذلك فقد بقي لما أدخله رنسار من تغيير وتعديل على الشعر الفرنسي أثر عميق ولون ناصع نلمسه فيه كلما نهض واستقام بعد ركود وانحلال.

وهاك نماذج من شعره: «ماري» استيقظي، ما هذا الكسل؟

ها هي ذي القبرة المرحة في السماء تغني،

ها هو ذا البلبل الشجي نواح من الحزن،

ما أرق شجوه وهو جالس فوق الأسل! •••

هبي انهضي نشهد العشب ولؤلؤه الندي،

نشهد البراعم تاجا لشجيرة ورد قد ملكتها،

نشهد القرنفلات الصغيرة الجميلة التي سقيتها

ليلة الأمس كأنما كنت حالمة يدا. •••

لما أويت إلى الفراش مساء الأمس استحلفت عينيك

أن تبكرا عني هذا الصباح فتنفضا الكرى من فوق جفنيك،

لكن لذيذ النوم عند العذارى في السحر. •••

ظل مطبقا في السبات الحلو عينيك،

فا هأنا ذا ألثم العينين، ثم جميل ثدييك،

مائة قبلة تعلمك النهوض وقت الفجر.

ومن أناشيده:

إلى كاسندرا

هيا بنا يا عزيزتي الصغيرة نشاهد الوردة

هل فتحت هذا الصباح

رواءها الأرجواني للشمس،

ولم تفقد خلال المساء

ثنيات ثوبها الأرجواني،

أو لونها الذي يماثل لونك؟

وا حسرتاه! انظري يا صغيرتي

كيف انتثر جمالها

في هنيهة قصيرة!

وفي هذا المكان، وا حسرتى وا حسرتى!

أواه، ما أقساك أيتها الطبيعة!

أتذوي زهرة كهذه الزهرة،

فلا تعمر إلا يوما من الصباح إلى المساء ؟

صدقيني أي صغيرتي!

إذا كنت من عمرك في زهرته،

أو كنت من عمرك في يانع خضرته

فاقطفي، ثم اقطفي ثمرات الشباب؛

فسيذوي بالشيخوخة جمالك كما ذوت هذه الزهرة. (7) دي بلاي

Du Bellay

ويأتي «دي بلاي» بعد رنسار، بل ربما تفوق عليه إذا اتخذنا أساسا للمفاضلة اطراد الجودة لا ضخامة الإنتاج وتنوعه، وقد كان يصغر رنسار بأعوام قلائل، وزامله في الدراسة الأدبية على يدي «دورا»، وقد ذكرنا من قبل منهاجه الذي عبر فيه عن مبادئ السابوع، ثم لم يلبث أن أخرج ديوانا يطبق فيه تلك المبادئ عنوانه «مقطوعات شعرية إلى أوليف» قصد به إلى حبيبته «فيول»،

6

وحدث بعد ذلك بقليل أن سافر إلى إيطاليا في صحبة عظيم من أقربائه بالسلك السياسي، إلا أنه لأمر ما فقد عطف قريبه ذاك، وأخذت تتوارد عليه العقبات والمصاعب، وعندئذ أخرج ديوانا آخر من مقطوعات شعرية عنونه «حسرات»، ولم تطل بعد ذلك حياته فوافته منيته عام 1560م، وهو لم يعد الخامسة والثلاثين من عمره.

وكانت إقامته بإيطاليا قد أوحت إليه بخير ما أنشد من شعر، وهي قصيدة «آثار روما» التي ترجمها «سبنسر» إلى الإنجليزية، وكذلك من آياته قصيدة «الذاري» وقصيدة «رثاء على قبر كلب صغير»، وقصيدة «ملاهي الريف»، وكلها من جيد الشعر. فلئن فوت الأجل القصير على «دي بلاي» أن يكون غزير الإنتاج فقد عوضته العبقرية جودة، حتى أطلق عليه «أبولو السابوع» إذ كان أجودهم شعرا، كما كان أقواهم نثرا.

وهاك نماذج من شعره:

رثاء على قبر كلب صغير

تحت هذه البقعة الخضراء

التي يغطيها السوسن والورد

يرقد «بيلوتون» الصغير.

كان شعره الناعم

يغطي ظهره وبطنه والفخذ بفراء متموجة بيضاء.

أفطس الأنف كبير العينين

لم يكن فيهما أذى،

طويل الأذن يكسوها الشعر

الحريري المائج،

في ذنبه ذؤابة صغيرة

كأنها الباقة الصغيرة،

دقيق الساق والقدم

إنه لأظرف من قطة

تداعب صغارها.

أثداؤه أربعة صغار،

وأسنانه عاجية دقاق،

وله لحية سوداء

تتدلى تحت فمه العذب،

كل هذا، كل محياه الباسم،

كل جماله من رأسه إلى القدم،

سمات هذا الكلب،

وإن كلبا له ذاك الجمال

حري أن يكون له قبر أجل وأجمل.

ومن شعره في حبه لوطنه:

سعيد من طاف في رحلة جميلة كما فعل يوليسيز،

أو كما فعل الذي نال الجزة الذهبية جزاء،

7

ثم عاد وقد عرك الأيام تجربة ومرانا؛

ليقضي بين عشيرته بقية عمره •••

ويح نفسي! متى تبصر عيناي من بلدي مداخنه

ترسل في الهواء دخانها، متى؟

متى أرى حديقة داري المتواضعة

وهي عندي تعدل إقليما بأسره، وأكثر؟ •••

أحب إلي دار بناها أجدادي

من وجهات فخمة لقصور رومانية

فالأردواز الناعم في داري أحب إلي من مرمر القصور. •••

إن اللوار يشق بلادي - بلال الغال - خير عندي من «تيبر» اللاتين،

و«ليريه» الصغير خير من قمة بالاتان

8

والجو الرقيق في «إنجو» أفضل من هواء البحر. (8) كلفن

Calvin

لقد كان رابليه - كما أسلفنا - يمثل النهضة الأدبية في كل خصائصها، يمثلها في وجهة نظرها إلى مشكلات الدين والفلسفة، وهي نظرة يشوبها الشك والحيرة، ويمثلها في إخلاصها للعلم القديم والأدب القديم، ويمثلها في محاسنها للانغماس في الحياة وشئونها، ثم يمثلها في نزوعها إلى الاغتراف من متعة الدنيا ولذائذها.

هذه خصائص أربع تميز الروح السائدة في عصر النهضة الفرنسية، تجمعت كلها في رابليه، لكنها تفرقت في الكتاب الناثرين الأربعة الذين ظهروا في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وهم «كلفن» و«أميو

Amyou » و«مونتيني

Montaigne » و«برانتوم

Brantome » نعم إن مونتيني كاد يمثل العناصر الأربعة كلها في النصف الثاني من ذلك القرن كما تمثلت في رابليه في نصفه الأول، لكن عنصرا منها كان له الرجحان على غيره في أدب مونتيني، وذلك هو الميل إلى الشك الفلسفي، وكان كلفن أول من عني بمسائل الدين في نثر أدبي، أما «أميو» فتتمثل فيه الدراسة المنظمة للآداب القديمة، وظهر في «برانتوم» الميل إلى شئون الحياة العملية وما فيها من طيبات.

وسنكتفي من هؤلاء الأربعة الناثرين باثنين: كلفن ومونتيني.

ولد «كلفن» عام 1509م، وأخذ يدرس الدين في سن مبكرة، وكان له في دراسته تقدم ملحوظ، ثم لم يلبث أن تحول إلى دراسة القانون ، لكن اهتمامه لم يزل متجها إلى دراسة الدين، وقد صادفت المذاهب الجديدة التي دعا إليها المصلحون من نفسه قبولا حسنا، لكن سرعان ما تجهم له وجه الزمان، فغادر فرنسا عام 1534م قاصدا مدينة «بال

Basle » حيث جد في دراسة اللغة العبرية، وهنالك نشر كتابه «شرائع الديانة المسيحية»، ثم انتهى به الأمر إلى الإقامة في جنيف، حتى وافته منيته عام 1564م.

كان كتاب «الشرائع» أهم ما أنتج كلفن في الأدب والدين على السواء، وقد كتبه باللاتينية أول الأمر، ثم ترجمه بعد أربعة أعوام إلى الفرنسية، فكان بغير شك أول كتاب جدي كتب بالنثر الفرنسي، وكانت له قيمة عظيمة في الأدب، وهو مصطبغ بالخصائص اللاتينية في الصياغة والإنشاء، فالثروة اللفظية التي يستخدمها كلفن في هذا الكتاب - على خصوبتها وتنوعها - هي في صميمها فرنسية خالصة، وأما الصبغة اللاتينية فظاهرة في طريقة بناء الجمل لا في اختيار الألفاظ، وكانت هذه الطريقة الجديدة في إنشاء العبارة ذات خطر عظيم؛ لأن الفرنسية - كسائر اللغات الدارجة على الألسن إذ ذاك - كانت في طرق التعبير فقيرة عاجزة، فتركيب الجملة كان تركيبا خاليا من أصول الفن، يصلح للحديث، ولكن لا يصلح لمعالجة موضوع رصين يناقش نقطة معينة بالدليل والبرهان؛ لهذا أخذ كلفن يصب عباراته الفرنسية في قالب لاتيني، وأخرجها في اطراد من الصياغة لم تعهده اللغة الفرنسية من قبل، وبهذا أكسب اللغة سلاسة ووضوحا لم يستعصيا على قلمه، حتى في الجمل الطويلة، وهما خاصتان لم تعرفهما بعض اللغات الأوروبية - بما في ذلك اللغة الإنجليزية - في نثرها إلا بعد ذلك التاريخ بزمان طويل. ولا بد أن نضيف إلى السلاسة والوضوح صفة ثالثة امتاز بها كلفن في نثره، وهي تخلصه من أكبر عيوب النثر الفرنسي، وأعني به الميل إلى الأسلوب الخطابي في الكتابة، ومع ذلك فهو لم ينبذ المحسنات البديعية نبذا مطلقا، إنما زخرف نثره بما تقتضيه أوضاع الفن والذوق السليم. فإذا عرفت أن كلفن قد فرغ من كتابه هذا قبل أن يبلغ السابعة والعشرين من عمره، استطعت أن تقدر مبلغ قدرته ونبوغه؛ إذ أمكنه برغم فورة الشباب أن يجري قلمه متزنا هادئا في موضوع جاد رصين.

ويتألف كتاب «الشرائع» من أربعة أجزاء؛ الأول: موضوعه «الله»، والثاني: «التكفير عن الخطيئة» أي مهمة المسيح، والثالث: في نتائج تلك المهمة الكبرى، والرابع: في إدارة الكنيسة. والغرض من الكتاب كله أن يؤيد مذهب الجبر والخطيئة الأولى، ومهاجمة بعض عقائد الكنيسة الكاثوليكية.

وهاك صفحة من هذا الكتاب:

معرفة الله

إن حكمة الإنسان تتألف من جزأين لا ثالث لهما: معرفة الله ومعرفة أنفسنا، وإن ما بالإنسان من ضعف وجهل وفساد ليذكره بأن أسطع أضواء الحكمة والفضيلة والخير لا تجتمع إلا في «المولى» دون سواه، وبديهي أن الإنسان يستحيل عليه أن يعرف نفسه معرفة صحيحة إلا إذا تأمل وجه الله، ثم هبط بعد تأمله إلى نفسه يتفكر فيها.

ليس من شك في أن العقل البشري قد جبل على إدراك الله على نحو ما، وقد أصاب شيشرون - برغم وثنيته - في قوله إنك لا تجد أمة بلغت من الهمجية مبلغا لا يمكنها من الاعتقاد بوجود الله، بل إن الوثنية نفسها لتنهض دليلا على ذلك.

فالتجربة تدل على أن يد الله قد غرست العقيدة الدينية في نفوس الناس جميعا، لكن قل بين الناس من يتعهد تلك البذرة المغروسة في قلبه، فمن الناس من يهيم في الخرافات، ومنهم من تشاء له تعاسته أن يفر من الله فرارا، وطائفة منهم تفكر في الله برغم أنوفها، وهي لا تدنو من الله دون أن تجتذب إلى حضرته اجتذابا.

ولما كان كمال النعمة لا يتم إلا بمعرفة الله، فقد شاء - سبحانه - ألا يكتفي بغرس بذور الدين في نفوسنا، بل أراد أن يتجلى بكمالاته في بناء الكون بأجمعه، وأن يظهر نفسه كل يوم أمام أبصارنا، حتى لا نستطيع أن نفتح الأعين دون أن نضطر اضطرارا إلى رؤيته، نعم إن حقيقته فوق إدراك العقول، لكن جلاله منقوش على كل آية من آياته بأحرف ساطعة، حتى لا يسع إنسانا كائنا ما كان غباء وجهلا، أن يتخذ الجهل ذريعة.

ولعل أقبح منظر لعقوق الإنسان أنك تراه - برغم ما يحمل في شخصه من مصنع يموج بأعمال الله - قد انتفخت أوداجه كبرا يدل أن يلهج بحمد الله. ما أقل من يفكر في الله حين يشخص ببصره نحو السماء، أو يرسله إلى الأفق البعيد! فعبثا - بسبب غبائنا - ما يعرض الكون أمامنا من سرج وهاجة أضيئت لتدل على جلال خالقها!

لهذا كان لا بد لنا إلى جانب الكون من معين آخر يهدينا سواء السبيل، نحو الله خالقنا، فأضاف الله «كلمته» ضوءا جديدا يكشف لنا عن سر خلاصنا بفضله. (9) مونتيني

Montaigne

كاتبان كان لهما التفوق في النثر الفرنسي إبان القرن السادس عشر، وهما بين أدباء العالم كله في الطليعة من حيث الإبداع والابتكار، وهما «رابليه» و«مونتيني»، وقد عاش رابليه في النصف الأول من القرن السادس عشر، وعاش مونتيني في نصفه الثاني. وكانت طبيعتاهما على أشد ما يكون التباين؛ فرابليه لعوب طروب، ومونتيني جاد ساخر متأمل. والأرجح أن مونتيني لم يطالع ما كتبه سلفه العظيم؛ إذ شغلته الآداب القديمة، وكان يزدري كل ما أنتجته القريحة الفرنسية الخالصة. ومع هذا الاختلاف بين الرجلين، فقد تعاونا على خلق النثر الفرنسي، وكان لهما أثر عظيم في الأدباء الإنجليز، كما كان لهما أعمق الأثر في الأدب الفرنسي. «هيا امرحوا يا بني، ولتفرح قلوبكم.» تلك كانت رسالة رابليه إلى الناس. أما زميله مونتيني فلم يكن يعنيه في كثير أو قليل أن يمرح الناس أو لا يمرحوا، وعكف هادئا على نفسه يستوحي خواطره ومشاعره، وانكب صامتا على كتبه يقرأ ما خلف الأقدمون، وكان مونتيني هو رب المقالة الأدبية وخالقها في الأدب الأوروبي؛ ولهذا كانت «المقالة» هي القالب الأدبي الوحيد الذي نستطيع أن نتعقبه إلى منشئه وإلى يوم مولده. أما الرواية التمثيلية والقصيدة الغنائية والقصة القصيرة أو الطويلة، فتضطرب أوائلها وأصولها في ظلام الماضي، بحيث لا تجد رجلا واحدا بعينه ينفرد بخلق هذه الصورة الأدبية أو تلك، وإذن «فالمقالة» وحدها هي التي يحدد لها التاريخ مولدا، لم تعرفها قبله أقلام الكتاب، وظهرت بعده عند كثير من الأدباء.

ولد «ميشيل دي مونتيني» بين الساعة الحادية عشرة والساعة الثانية عشرة من اليوم الثامن والعشرين من فبراير عام 1533م، وكان ثالث أبناء أبيه التسعة، لكن مات أخواه الأكبران فآلت إليه ضيعة الأسرة، وتلقى تعليمه في سن مبكرة، فدرس اللاتينية بالمحادثة في سن صغيرة، ثم درس اليونانية على سبيل التسلية، ولما بلغ السادسة عشرة دخل كلية في بوردو، حيث قضى سبع سنوات أكمل فيها دراسته. ولسنا ندري إلا قليلا عن حياته في أعوام شبابه. ثم نعود فنلتقي به في شهر مارس عام 1571م، وكان عمره ثمانية وثلاثين عاما، إذ ضاق صدره بضجيج العالم الصخاب وفر إلى قلعته يأوي إلى برجها الهادئ، وأخذ يحدث نفسه عن نفسه، وعندئذ ولدت «المقالة» الأدبية.

ظهر الكتابان الأولان من مجموعة «المقالات» عام 1580م، ثم لم يلبث بعد ذلك أن تعاورته الأمراض، فارتحل إلى إيطاليا وسويسرا وألمانيا، وسجل هذه الرحلات في يوميات ليست بذات خطر من الوجهة الأدبية. وبينا هو في رحلته جاءه نبأ تعيينه عمدة لمدينة بوردو؛ فأسرع بالعودة إلى وطنه. وما جاء عام 1588م، حتى نشر الجزء الثالث من «المقالات»، ومات بعد ذلك بأربعة أعوام، بعد أن أنجب أطفالا كثيرين ماتوا جميعا إلا ابنة واحدة، وقد تبنى فتاة اسمها «جورني

Gournay » سيكون لها شأن في الجيل المقبل، وهي أول من نشرت مؤلفات مونتيني كاملة بعد موته.

ولسنا نستطيع في هذا المقام أن نلخص ما كتبه مونتيني تلخيصا وافيا؛ وذلك لأن موضوعاته أشتات لا تربط بينها فكرة عامة أو آصرة واحدة، اللهم إلا وحدة الروح وطريقة التفكير.

قلنا إن مونتيني كان أول من كتب «المقالة» الأدبية بالمعنى الذي يفهمه الأدب الحديث من هذه الكلمة، وأعجب العجب أن أول كاتب للمقالة هو أعظم كتابها، فقد حاول أن يقلده فيها كثيرون، لكن لم يصب فيها التوفيق إلا قلة ضئيلة، وهنا نرى لزاما علينا أن نقول كلمة في أصول المقالة الأدبية كما تفهمها الآداب الأوروبية؛ لأن المقالة توشك أن تكون في مصر القالب الوحيد الذي يصب فيه الأديب خواطره ومشاعره.

يراعى في المقالة الأدبية أنها على غير نسق دقيق من المنطق، أعني أن تكون أقرب إلى قطعة مشعثة من الأحراج الحوشية منها إلى الحديقة المنسقة المنظمة، فكاتب المقالة الأدبية على أصح صورها، هو الذي تكفيه ظاهرة صغيرة مما يعج به العالم من حوله، فيأخذها نقطة ابتداء، ثم يسلم نفسه إلى أحلام يأخذ بعضها برقاب بعض، دون أن يكون له أثر قوي في استدعائها عن عمد وتدبير، حتى إذا ما تكاملت من هذه الخواطر المتتابعة صورة عمد الكاتب إلى إثباتها في رزانة لا تظهر فيها حدة العاطفة.

ويشترط في كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه محدثا لا معلما؛ بحيث يجد القارئ نفسه إلى جانب صديق يساعده لا أمام معلم يعنفه. يشترط في كاتب المقالة الأدبية أن يكون لقارئه زميلا مخلصا يحدثه عن تجاربه ووجهة نظره، لا أن يقف منه موقف الواعظ فوق منبره، أو موقف المؤدب يصطنع الوقار، حين يصب في أذن سامعه الحكمة صبا ثقيلا. يشعر القارئ وهو يطالع المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعا عنيفا إلى مكتبته ليقرأ له فصلا من كتاب.

وما دمنا نشترط في المقالة الأدبية أن تكون أقرب إلى الحديث والسمر منها إلى التعليم والتلقين، وجب أن يكون أسلوبها عذبا سلسا دفاقا، أما إن أخذت تجمل نبرات اللفظ هنا وتزخرف تركيب العبارة هناك، كان ذلك متنافرا مع طبيعة السمر المحبب إلى النفوس. هذا من حيث الشكل، وأما من حيث الموضوع فلا يجوز عند الناقد الأدبي أن تبحث المقالة في موضوع مجرد، ولا بد أن تعبر عن تجربة معينة مست نفس الأديب، فأراد أن ينقل الأثر إلى نفوس قرائه. ومن هنا قيل إن المقالة الأدبية قريبة جدا من القصيدة الغنائية؛ لأن كلتيهما تغوص بالقارئ إلى أعمق أعماق نفس الكاتب أو الشاعر، وتتغلغل في ثنايا روحه، حتى تعثر على ضميره المكنون. وكل الفرق بين المقالة والقصيدة الغنائية هو فرق في درجة الحرارة والإيقاع، تعلو وتتناغم فتكون قصيدة، أو تعتدل وتتناثر فتكون مقالة أدبية.

هكذا كانت مقالة مونتيني، يتخذ من موضوعها نقطة ابتداء أو يبدأ بعبارة مقتبسة، ثم يطلق خواطره إطلاقا حرا من القيود، فيستطرد إذا ما اعترضته نقطة أخرى في طريقه، ثم يستطرد ثانية فثالثة، أو يعود إلى مجرى حديثه بغير ضابط ولا نظام. ومن مميزاته في الكتابة كثرة الشواهد، التي يستقيها من الآداب القديمة. على أن أوضح ما يميزه طابعان؛ الأول: صراحة جريئة في مناقشة شئونه الخاصة، وفي عرض نفسه أمام القارئ عارية لا يخفيها ستار، والثاني: نغمة من الشك الخفيف تراها شائعة في كل ما كتب.

يقول «مونتيني» إني أتحدث إلى القرطاس كما أحدث أول رجل أصادفه. ويقول أيضا: «إن نفسي هي أساس كتابي.» فمقالات مونتيني هي نفسه أراقها على الورق، وقد أجاب هنري الثالث حين امتدح له كتابه بقوله: «إنني وكتابي شيء واحد.» فهو في «المقالات» يشرح دخائل نفسه ودقائقها، تلك الدقائق التي لا ينفذ إليها إلا كل أديب ثاقب النظر، ويميط عنها اللثام ويعرضها لنا في جلاء ووضوح، لا يخشى في نقده عرفا ولا عقيدة، وكان مونتيني يقول: «أنا الحقيقة!» يقصد بذلك أنه لا يعرف شيئا معرفة صحيحة غير نفسه، ثم يقول: «لم أر في العالم كله ما يثير في العجب والدهشة أكثر من نفسي، إن المرء ليتعود نفسه بطول عشرتها فينسى غرابتها، ولكني كلما عرفت نفسي زاد عجبي من عيوبي وقلت قدرتي على تفسيرها.»

وكان مونتيني شكاكا يرتاب في أوضاع عصره، ولكنه في الوقت نفسه أميل إلى الإيمان بالطبيعة البشرية، فتراه يسرع إلى تصديق ما يروى له عن نزوعها إلى الخير، وليس هذا التناقض في وجهتي نظره إلا تناقضا في الحياة نفسها، هو تناقض لا بد منه لمن يشهد الحياة في حالات نفسية مختلفة. ولعل مونتيني أول أديب غربي أدرك ما في الإنسان من تناقض، وعنه أخذ كبار الأدباء الذين درسوا الطبيعة البشرية من أمثال شيكسبير وسيرفانتيس وراسين، فكأن مونتيني يقدم لهم المبادئ النفسية التي يبنون على أساسها ما يكتبون من قصص ومسرحيات، فليس العاشق عنده عاشقا فحسب، وليس الشجاع شجاعا خالصا، وليس الجبان جبانا دائما، وإنما قد يجمع الفرد في شخصه بين هذه الصفات جميعا، بل قد تتألف نفسه من الأضداد والنقائض.

وكتاب «المقالات» مؤلف من ثلاثة أجزاء، وتختلف مقالات الجزء الأول عن مقالات الجزء الأخير اختلافات شتى، أوضحها الاختلاف في الطول، ففي الجزء الأول سبع وخمسون مقالة، طول الواحدة منها نحو عشر صفحات من قطع متوسط، وفي الثاني ست وثلاثون مقالة طول الواحدة منها اثنتا عشرة صفحة، وقد كتب هذان الجزءان في وقت واحد تقريبا، أما الجزء الثالث ففيه ثلاث عشرة مقالة طول الواحدة منها يزيد على أربعين صفحة في المتوسط.

لقد قال «مونتيني» عن نفسه: «لست بالفيلسوف» وهذا قول صواب لو كانت الفلسفة نظاما فكريا مرتب الحجج متساوق المقدمات والنتائج، ولكنه فيلسوف لو كانت الكلمة تعني من يحب الحكمة وينشدها. وقد جاء «مونتيني» بعد «رابليه» بنحو نصف قرن، ولم يشب أسلوبه ما شاب أسلوب زميله من فحش في القول، وإقذاع في السخرية، لكنه أيضا لم يكن له ما كان لزميله من فكاهة لطيفة وابتهاج ومرح بالحياة. رأى المذاهب الدينية تصطرع فوقف بينها يرقب ولا يميل هنا أو هناك، ويقول: «إنها لنقيصة ممقوتة أن يظن الرجل بعقيدته متانة الأساس، وأن يعتقد أن نقيض تلك العقيدة لا يكون موضع التصديق والإيمان أبدا.» فقد كره مونتيني العصبية الدينية، وكره ألوان القسوة وفظائع التعذيب التي كانت شائعة في عصره، استمع إليه يقول في مقال «عن القسوة»: «أما أنا فلم أحتمل قط أن أرى - بغير عطف وأسى - حيوانا مسكينا بريئا يتعقبه المتعقب ليفتك به، وقد يكون غير ذي أذى، لم يسئ إلينا البتة، ولم يملك ما يدافع به عن نفسه، وكثيرا ما يأخذ الأعياء وعلا هاربا، وأن تخور قواه، فلا يجد أمامه حيلة سوى أن يستسلم ويسلم نفسه إلى متعقبيه، وكأنما يترقرق في عينه الدمع ضارعا يطلب الرحمة.

فبالدماء من حلقه وبالدمع من مآقيه.

يصيح كأنما يستمطر الرحمة من قانصيه.

ذلك منظر لم أشهده إلا أثار في الحزن، فقلما يقع لي الحيوان حيا دون أن أرد له حريته السلبية. وكم ود فيثاغورس أن يشتري الأسماك من صائديها، والأطيار من بائعيها ليطلقها حرة كما كانت.»

وهاك نماذج أخرى من مقالاته توضح طريقته في التفكير:

في عدم المساواة

يقول بلوتارك في بعض ما كتب إنه لا يجد بين الحيوان والحيوان مثل هذا الفارق البعيد الذي يراه بين الإنسان والإنسان، وهو في مثل ذلك يشير إلى عقل الإنسان وصفاته الذاتية. وإني لأحب أن أضيف إلى ذلك أن الفارق بين إنسان وآخر قد يكون أبعد مما بين أدناهما وبين الحيوان، وأن هنالك في التفاوت بين النفوس درجات قد تبلغ ما بين الأرض والسماء.

وأما تقويم الرجال بأقدارها، فليس أعجب من أن الإنسان وحده دون سائر الكائنات لا يقوم نفسه بما فيه من أهم الصفات، فبالسرعة والقوة نمتدح الجواد، لا بما في عدته من زخرف وزينة، ونثني على الكلب السلوقي لخفته لا لجمال طوقه، ويعجبنا من الصقر جناحه لا أجراسه، فلماذا لا نقدر الإنسان - على هذا النحو - بمواهبه؟ قد تكون له حاشية عريضة من الأتباع، قد يسكن قصرا باذخا، قد يكسب مالا كثيرا، قد يكون له بين الناس جاه وسلطان، ولكن وا أسفاه إن كل ذلك عنه لا فيه، إنك إذا اشتريت حصانا، فإنك تفحصه عاريا من سرجه وغطائه، فلماذا لا تعنى في حكمك على رجل إلا بلفائفه؟ إنك تقدر السيف بخصائص حده لا بقيمة غمده، فيجب كذلك أن تقوم الإنسان بمخبره لا بمظهره.

فليتجرد الإنسان مما يملك من مال وسلطان مما هو خارج النفس لا داخلها، وليعرض نفسه في غلالة لنرى: أله جسم سليم؟ كيف حال عقله؟ أهو متزن قدير لم يصبه الفساد؟ هل أعد في كل ملكاته إعدادا طيبا؟

في نفع الثياب

كنت أفكر - في هذا الشتاء الذي بلغ برده الزمهرير - فيما إذا كانت حياة العري عادة فرضتها حرارة الهواء في البلاد المستكشفة حديثا، أم العري حالة أصيلة في طبيعة الإنسان. ورأيي أنه كما أن كل صنوف النبات والأشجار والكائنات الحية قد أعدتها الطبيعة لحماية أنفسها بين عاديات الجو بكل أنواعها؛ فكذلك نحن، ولكننا كهؤلاء الذين يطفئون نور النهار بالضوء الصناعي؛ إذ أتلفنا ما خلعته علينا الطبيعة بما استعرناه، فهنالك من الأمم من يعيش تحت سماء كسمائنا، في جو مثل جو بلادنا، بل أشد منه بردا، ولا يعرفون الثياب، أضف إلى ذلك أن أرق أجزائنا مكشوفة عارية، وأعني العينين والوجه والفم والأنف والأذنين، ولا يزال الفلاحون في الريف - كما كان أسلافنا - يكشفون صدورهم، ولو كنا بطبيعة أجسامنا في حاجة إلى الأثواب والسراويل، لحصنت الطبيعة أجزاءنا التي تركتها معرضة لضربات الفصول، فكستها جلدا كثيفا كما فعلت في أطراف الأصابع وباطن الأقدام.

سأل رجل أحد الدهماء وهو يجول في الشتاء عاريا إلا من قميص لفه حول جسده، وكان رغم ذلك مرحا مقبلا على الحياة كما يفعل من دثر نفسه بالفراء حتى أذنيه، سأله عن ذلك، فأجاب الرجل العاري: «أوليس وجهك عاريا كله يا سيدي؟ إذن فصور لنفسك أني وجه كلي ...»

الخوف

أولئك الذين هم في خوف متصل خشية أن يضيع ما يملكون، أو أن يلقى بهم في مطارح النفي، أو أن يذلوا خاضعين، إنما يعيشون في عذاب موصول وركود دائم، وهم بذلك كثيرا ما يفقدون لذة الشراب والطعام والراحة، على حين ترى الفقراء والمبعدين والخدم الخاضعين يعيشون في أغلب الأحيان كما يعيش سواهم في مرح لا يعرف الهموم.

المجد

قلب النظر في حماقات العالم، تجد السعي وراء الشهرة والبحث عن المجد أوسعها انتشارا وأكثرها عند الناس قبولا، فترانا أمام رغبتنا في المجد نهمل ونزدري الثراء والأصدقاء والراحة والحياة والعافية (وهي أشياء لها أثرها وقدرها)، نزدري كل هذا لنتعقب خيالا موهوما، ولنتبع صوتا أجوف ساذجا لا يتجسد في جسم، ولا يتماسك في حقيقة ...

وهكذا تقرأ «المقالات» التي دبجها يراع مونتيني فتحسبك مستمعا إلى حديث ممتع من محدث ماهر، وقد ترجمها إلى الإنجليزية «فلوريو

Florio » في أوائل القرن السابع عشر. وكان فلوريو يتقن كثيرا من اللغات، فهو إيطالي الأصل، وكان يعلم الإيطالية والفرنسية في جامعة أكسفورد، وقد استطاع أن يجعل من مونتيني قطعة خالدة في الأدب الإنجليزي.

الفصل الثالث

النهضة في ألمانيا

للألمان أدب قوي غزير، لكنه لا يستمد قوته - كغيره من الآداب - من طائفة من الأعلام البارزين، بل يستمدها مما بينه وبين الشعب الألماني من صلة وثيقة لا تجد لها مثيلا في سائر الشعوب، فللأمة - عادة - تراث ضخم من الشعر الشعبي والقصص الشعبي، يعبر بها العوام عن أمانيهم وآلامهم الفطرية التي لم تصقلها المدنية، ولم تشذبها يد التهذيب، ولكن كلما سارت المدنية شوطا إلى الأمام، وكبحت جماح الدوافع والنوازع الغريزية الفطرية، ازداد الناس نفورا من أدبهم الشعبي ليلتمسوا التعبير عن عواطفهم عند الأدباء المحترفين، وفي ذلك بالطبع تكلف وتصنع. ولهذا ترى في تاريخ الأدب حينا بعد حين جماعة من المصلحين تضيق صدورهم بهذا النفاق المصطنع، فتنادي بضرورة العودة إلى الأدب الشعبي، أو ما يماثله بساطة وصدقا، كما حدث في أول القرن التاسع عشر في إنجلترا.

أما في ألمانيا فلم تنفصم قط تلك الروابط الوثيقة التي تصل قلوب الناس بالشعر الشعبي والأساطير القومية. ومن هنا كان الشعر في ألمانيا عاملا قويا في تكوين عواطف الشعب ونزعاته العقلية، ومن هنا أيضا كاد الأدب الألماني قبل نهاية القرن الثامن عشر لا يسترعي أنظار العالم لشعبيته الصميمة، وكان البحث في تطور الأدب الألماني أمرا شاقا عسيرا على مؤرخي الأدب من غير الألمان.

ولا شك أن مشكلة اللغة كانت قوية الأثر في هذه الظاهرة التي بسطناها؛ فقد جاء القرن السادس عشر، ولما ترجح إحدى اللهجات الألمانية على سواها، فتصبح لغة قومية معترفا بها، ولعلك تذكر أن الدويلات الألمانية لم تنصهر في وحدة سياسية إلا منذ عهد قريب، فكان من الطبيعي أن تتنافس الدويلات في السيادة اللغوية كما تتنافس في السيادة السياسية، ولم يكن يسيرا على دويلة منها أن تفرض لسانها على سائر الأجزاء. (1) مارتن لوثر

جاء لوثر (1483-1546م) والحالة كما رأيت، فلما هم بترجمة الإنجيل إلى الألمانية، وجد اللغة السكسونية أوسع اللهجات انتشارا في المخاطبات الرسمية بين الدويلات، فاستخدمها في الترجمة، وبذلك أصبحت لغة ألمانيا الوسطى لغة قومية أدبية.

ولعلك لا تجد في التاريخ كله رجلا اجتمع في شخصه ما اجتمع في شخص لوثر من قوة في توجيه أمته في السياسة والأدب والدين في آن معا، ولسنا ندري هل استطاع لوثر أن يكون قوة دافعة في الدين والسياسة بسبب براعته الأدبية، أم كان في مقدوره أن يبلغ ما بلغ من الزعامة بغيرها. وكذلك لا ندري إن كانت اللهجة الألمانية في مقاطعة سكسونيا قد بسطت سيادتها، وأصبحت لغة أدبية قومية بسبب زعامة لوثر الوطنية، أم تلك نهاية كان لا بد منها، ولم يكن لوثر إلا معجلا بها؟ ومهما يكن من أمر فقد شاء القدر أن يظهر في ألمانيا المفككة في القرن السادس عشر بطل قومي وزعيم ديني وأديب ممتاز هو «مارتن لوثر». ثم شاءت الظروف القائمة أن يكتب «لوثر» بلهجة معينة دون سائر اللهجات الألمانية، فلم تلبث أن أصبحت لغة البلاد الأدبية القومية، وإن هذا ليذكرنا بما صنعه دانتي حين كتب باللهجة «التسكانية»، ففرضها بذلك على سائر اللهجات ، وأصبحت بفضله لغة إيطاليا الأدبية، كما يذكرنا كذلك بما تم على يدي «شوسر» في إنجلترا حين أنشد شعره باللغة الشائعة في جنوبي إنجلترا بالقرب من لندن، فسرعان ما طغت على سائر اللهجات في البلاد، واعترف بها الجميع لسانا قوميا.

استحق «لوثر» مكانته في الأدب لترجمته الإنجيل، إذ أراد بهذا الصنيع أن يقرب بين الناس وبين كتابهم المقدس، حتى تتزعزع سلطة رجال الدين الذين تفردوا عندئذ بقراءة الإنجيل في لغته العبرية، فلم يكن في وسع الشعب إلا أن يستعين بهم في فهم الكتاب وأحكامه، أما وقد نقل الإنجيل إلى لغة يفهمها الناس، فقد بات يسيرا على الزارع أن يتغنى بآياته وهو يفلح الأرض، وأن يترنم بأنغامه الصانع وهو إلى جانب مغزله. ورب معترض يقول: وهل عرف الدهماء في ذلك العهد القراءة، حتى يقتنوا الإنجيل ويطالعوه؟ والجواب على ذلك: أنهم إن لم يقرءوا هم أنفسهم، فحسبهم أن يفهموا ما يسمعون. والعجيب في أمر لوثر أنه استطاع أن يكتب نثرا سلسا مستساغا، برغم ما عرف عن النثر الألماني، حتى في العهود التالية له من غموض وتعقيد.

ومما نذكره للوثر في عالم الفن أنه كمعظم معاصريه، من أميرهم إلى حقيرهم، قد ألم بقواعد الموسيقى واشتهر ببراعته في العزف على «العود»، وقد أنشد طائفة من الترانيم تميزت بقوة إنشائها، ولعله لحنها بعد الإنشاء، وأشهر هذه الترانيم ترنيمة عنوانها «إلهنا حصن منيع».

وهي مستوحاة من المزمار السادس والأربعين من مزامير داود، ولما كان البروتستانت لا يزالون إلى اليوم يرددونها في صلواتهم، فها نحن ننقلها للقارئ:

إلهنا حصن منيع، درع متين، سيف ماض، إنه سينقذنا من كافة الآلام التي تطوقنا. إن شيطان الشر العتيق يتربص بنا اليوم الدوائر، فتحيك قوته العاتية، ومكره الشديد دروعه المخفية. إن العالم لم يشهد له مثيلا.

إن قوتنا لا تجدي، فسرعان ما تنزل بنا الهزيمة، ولكنه يحارب من أجلنا، ذلك البطل الذي اختاره الإله نفسه. أتريد أن تعرف اسمه؟ إنه اليسوع عيسى، سيد الجيوش، الذي ستظل له الغلبة دائما.

إذا امتلأ العالم بالشياطين، وأرادت أن تبتلعنا، لم نستشعر أي خوف؛ لأننا واثقون من النصر. فسيد هذا العالم (الشيطان) بالرغم من جهامة وجهه لن يمسنا بسوء، لماذا؟ لأن الأمر قد بت فيه، فكلمة واحدة تقصمه.

و«الكلمة» بمنأى عن أيدي الشياطين، ونحن نتحداهم أن يمسوها ف «هو» الذي معنا بروحه ونعمه. فإذا سلبونا أجسامنا وأموالنا وسعادتنا وأطفالنا ونساءنا لم نكترث لشيء. إنهم لن يجنوا من ذلك شيئا، وأما نحن فسيبقى لنا الملكوت. (2) «شعراء الغناء»

Meistersinger

كان لوثر في عصر النهضة الألمانية علما بارزا، وكان الإصلاح الديني عنده شغلا شاغلا، لكن لوثر والإصلاح الديني لم يكونا كل شيء في عصر النهضة في ألمانيا؛ إذ ازدهر الشعر في موضوعات من الحياة الدنيوية، وكان القائمون به نقابات العمال والصناع، كما ساهم في إنشاده بعض السادة والفرسان، وقد سارت تلك الطائفة من «شعراء الغناء» على النهج الذي كان قد رسم أصوله «شعراء الغزل»

1

في ألمانيا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكان الشعر عند هؤلاء الشعراء موضوع جد لا يأخذونه مأخذ اللهو والتسلية، ولم يكن الشاعر ليحشر في زمرة «شعراء الغناء» إلا إذا أقام الدليل على براعته في ابتكار الألفاظ والأنغام، ولم يكن نجاح الشاعر في هذا بأقل شأنا من تنصيب الرجل فارسا أو منح الطالب شهادته الجامعية. وقد احتفظ لنا «فاجنر» في رواياته الغنائية بما كان لتلك الطائفة من روح، وبما أنتجوا من شعر ومن ملاه تمثيلية. (2-1) هنس سخس

Hans Sachs

وأشهر تلك الطائفة من الشعراء هو «هنس سخس» (1494-1576م)، وهو من أهل نورنبرج، وكان معاصرا للوثر وتابعا من أتباعه، كان سخس إسكافا شاعرا، لكن لا يذهب بنا الظن أن مثل تلك الصناعة في ذلك العهد كان مما يزري بصاحبه، فقد كان الصانع عندئذ صاحب عمل مستقل وعضوا في نقابة قوية تكسبه في الناس مكانة واحتراما.

كان سخس خصب الإنتاج في الشعر والنثر على السواء، فقد أنشد ما يربي على أربعة آلاف أغنية، وأنشأ ما يزيد على سبعمائة وألف حكاية وقصة استقى بعضها من الإنجيل، لكن سخس برغم هذا كله لم يكن شاعرا أو كاتبا من الطراز الأول، بل أسره في نقده ناقد ألماني، فقال إنه كاد يجعل من كل شيء حوله قصيدة، ولكنه مع ذلك لم ينشئ قصيدة واحدة! فلم يكن سخس إلى جانب معاصريه النوابغ أمثال «رابليه» في فرنسا و«أريوستو» في إيطاليا سوى أديب متواضع. (2-2) سباستيان برانت

Sebastian Brant

ولا نستطيع أن نستعرض النهضة الأدبية في ألمانيا دون أن نذكر سباستيان برانت (1457-1521م) لشهرة كتابه «سفينة الحمقى». وفيه يعرض المؤلف أكثر من مائة صورة للحماقة البشرية، تشيع فيها السخرية، وكلها ترمي إلى غاية خلقية. وقد كان لهذا الكتاب أثر بليغ في الأدب الذي يعرض سخف الإنسان وغفلته، فلم يمض على إخراجه خمسة عشر عاما، حتى نشر إرزم سنة 1509م كتابه «امتداح الجنون»، الذي أهداه إلى زميله الأديب الإنجليزي المشهور «السير توماس مور» - وسيأتي ذكره في النهضة الإنجليزية - وقد ترجم الكتاب إلى الإنجليزية إسكندر باركلي (1475-1552م تقريبا) الأديب الأسكتلندي. (2-3) آثار من الأدب الشعبي

على أنه إلى جانب هذا نشأت أساطير شعبية، منها أسطورة «الدكتور فاوست» التي كان أول ظهورها عام 1587م، ثم ضربت بجذورها بعدئذ في آداب العالم، فأخرج «مارلو» الشاعر الإنجليزي بعد ذلك بعام واحد روايته «الدكتور فاوست»، ثم أخذت القصة تلعب بخيال الأدباء، حتى أدركها «جيته»

2

الشاعر الألماني العظيم، فرفعها إلى أعلى ذراها، كذلك أضاف الأدب الشعبي الألماني إذ ذاك شخصية مزاح مهرج لم تلبث أن أصحبت شخصية عالمية في الأدب، وهي تيل أيلنشبيجل

Thill Eulenspiegel ، ومعنى أيلنشبيجل الحرفي «مرآة البوم»، وهي شخصية فلاح ذاعت عنه بين الشعب الألماني «حكايات» يعبث فيها بالأمراء والفرسان والقسس وأرباب الحرف، وقد دونت حكاياته أول مرة بلهجة ألمانيا العليا، ثم انتشرت في أوروبا كلها، حتى لقد تحور الاسم في اللغة الفرنسية، فأصبحت كلمة

Espiègle

وصفا للأطفال الأشقياء، ومن أهم ما تتميز به حكاياته تنفيذ ما يصدر إليه من أوامر تنفيذا حرفيا بغير فهم، فإذا أرسله سيده لشراء مشمش مثلا ذهب أيلنشبيجل واشترى من خادم الجيران قطه «مشمش»، وأحضره للسيد. وهكذا.

فإذا أردت أن تلتمس النهضة الأدبية في ألمانيا، فلا تلتمسها عند أفراد نوابغ، بل أدر بصرك إلى الحركة الشعبية التي كان أثرها ظاهرا في طبقات الناس جميعا، فألوف وألوف من الأدباء الهواة بين صفوف الشعب ومن غمار الصناع أخذوا ينشئون الأغاني ويتغنون بها، وقد يكون تعليل هذه الظاهرة الأدبية في ألمانيا تغلغل الموسيقى في نفوس الشعب، حتى إنك لترى الألمان يفرضون على صغارهم فرضا أن يتعلموا في طفولتهم أصول الشعر والموسيقى.

وأيا ما كانت الحال، فإن العبقرية الأدبية عند الألمان لم تظهر إلا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أما القرن السابع عشر الذي ازدهر فيه الأدب في فرنسا وإنجلترا، فكان عهدا مظلما في ألمانيا، ولعل حرب الثلاثين سنة التي امتدت حتى 1648م أن تكون قد أصابت ألمانيا بالجدب والعقم، وأي غرابة في هذا الزعم، وهي حرب أطاحت برءوس الشباب وأثقلت نفوس الشيوخ؟

كما أن من المؤرخين من يرى أن حركة الإصلاح الديني التي قام بها لوثر قد أخرت ظهور النهضة في ألمانيا، وتفتح النفوس لنتاج ثقافي حر جديد؛ وذلك لما هو معلوم من أن حركة لوثر كانت تسعى إلى بعث المسيحية في حالتها القديمة بما تحمل من صرامة. والبروتستانت لا يزالون حتى اليوم ينفرون من كثير من الفنون، وتخلو معابدهم من كافة الصور والتماثيل. يقول هذا النفر من المؤرخين: إن حركة الإصلاح الديني قد أخرت ظهور النهضة في ألمانيا قرنين كاملين، وجعلت من هذين القرنين امتدادا للعقلية المدرسية (

Scolastique ) التي سادت في القرون الوسطى بما عرف عنها من تزمت وضغط على الحرية الفكرية، وهذا رأي لا نناقشه هنا، ولكننا نميل إلى التسليم بوجاهته.

فسراج النهضة الذي اشتعل وتوهج في سائر الدول الأوروبية كان ضوءه خامدا في ألمانيا، فلم تنتج إلا أدبا هزيلا ضعيفا.

الفصل الرابع

النهضة في إسبانيا

لقد تعاقبت على إسبانيا غزوات الغزاة، لكنها جميعا لم تستطع أن تفرض لغتها على أهل البلاد، وهي في ذلك شبيهة بالفرس التي لبثت لغتها قائمة في وجه الفاتحين، ففي القرون الثلاثة الخامس والسادس والسابع، كانت إسبانيا خاضعة لحكم الغوط، لكن لم يترك هؤلاء في لغتها إلا أثرا طفيفا، ثم جاءت قرون سبعة كانت السيادة فيها للعرب، ومع ذلك بقيت اللغة الإسبانية حافظة لكيانها، وإن ضمت إليها طائفة من الألفاظ العربية، أما بناء العبارة وأوضاع الكلام فلم تتغير، والشطر الأعظم من الأدب الإسباني مكتوب باللغة الكاستيلية (القشتالية) التي كان مركزها في «توليدو» (طليطلة) كما كانت اللغة التسكانية هي لغة الأدب في إيطاليا، وكان مركزها فلورنسه، وكما باتت لهجة أهل الوسط الشرقي في إنجلترا لسان الأدباء، وكانت تتمثل في أكسفورد ولندن.

وأول من نبغ من الكتاب الإسبان في أوائل النهضة هو «جوان رويز

Juan Ruiz » حوالي 1350 ميلادية، الذي كان في إنتاجه وفي موقفه من الحركة الأدبية شبيها بشوسر

1

في الأدب الإنجليزي، حتى لقب «بشوسر الإسباني»، وقد صور لنا في أدبه حالة إسبانيا وأهلها في القرن الرابع عشر.

ثم جاء «لوبيز دي أيالا

Lopez de Ayala » (1332-1407م)، الذي نظر إلى العالم الفاسد من حوله نظرة قاتمة. وقد لبث «دي أيالا» بضعة أعوام سجينا في إنجلترا، وعاش في عهد أربعة ملوك غلاظ قساة هم «بطرس القاسي»، و«هنري الثاني» و«يوحنا الأول» و«هنري الثالث»، وأرخ للحوادث في ذلك العهد في مذكراته

Les bhroniques . ومن آثاره الأدبية الأخرى أنه ترجم للإسبانية أجزاء من المؤرخ اللاتيني «لفي»

2

والكاتب الإيطالي «بوكاتشو»، وكذلك كانت له محاولات في قرض الشعر على الأبحر المستحدثة في عصر النهضة، فكان بحق بشيرا بالنهوض الأدبي في إسبانيا.

ومن كتاب إسبانيا البارزين كذلك «جورج مانريك

Gorge Manrique » (حوالي 1440-1479م)، الذي عالج بأدبه الجوانب المألوفة من الحياة الإنسانية؛ ومن ثم كانت شهرته الواسعة. وكذلك اشتهرت في النهضة الإسبانية امرأة متصوفة هي «سانتا تريزا

Santa Teresa » (1515-1582م)، إذ عرفت بشعرها وقصصها وخطاباتها الأدبية، ودعوتها إلى الإصلاح الديني، ثم أعقبها في الظهور أديب إسبانيا العظيم «سرفانتيز»، وسنتناوله بشيء من التفصيل لمكانته العظيمة في آداب العالم. (1) سرفانتيز

Cervantes

كانت حياة «ميجويل دي سرفانتيس سافيدرا

Miguel de Cervantes Saavedra » (1547-1616م) معركة طويلة متصلة، حارب بها البؤس والفقر والحظ العاثر، فقلما تجد بين رجال الأدب في العالم كله من احتمل من العناء ما احتمله «سرفانتيز».

لم يكن حظ سرفانتيز من التعلم كبيرا؛ فقد وقف عند مرحلة التعليم الأولي، وليس صحيحا ما زعمه بعض مؤرخيه من أنه دخل الجامعة، إذ حسبنا أن نعلم أنه يعترف بجهله باللاتينية؛ لأن الجامعات في ذلك العهد لم تكن تعنى بشيء عنايتها بتلك اللغة. ولما كان صبيا عمل خادما لأحد الكرادلة، وكان لسيده الكردنال ابن ربطته أواصر الصداقة بسرفانتيز، ثم حدث لابن الكردنال أن اقتتل في سبيل فتاة أحبها مع رجلين شهرا في وجهه السلاح، وكان يعاونه في القتال صديقه سرفانتيز، فقتلا الرجلين معا، وفرا هاربين إلى دير، ومن ثم هاجرا إلى بلد أجنبي متنكرين في ثياب الرهبان، وكان سرفانتيز إذ ذاك قد بلغ من العمر اثنين وعشرين عاما.

ونشبت حرب بين إسبانيا وتركيا، فأسرع سرفانتيز إلى صفوف المحاربين، لكنه لم يلبث أن فقد ذراعه اليسرى في معركة «لبانتو » التي انتصر فيها الأسطول الإسباني على الأسطول التركي، فأراد سرفانتيز أن يعود إلى بلاده، وطلب إلى قادته أن يزودوه بخطابات التوصية لملك إسبانيا فليب الثاني، وظفر بما أراد، وأقلع من نابلي على ظهر سفينة تحمل جندا وتقصد إلى إسبانيا، لكن السفينة سرعان ما سقطت غنيمة في أيدي القراصنة الجزائريين قرب شاطئ الرفييرا الفرنسية، وكان من سوء طالعه أن وجد القراصنة خطابات التوصية التي كان يحملها موجهة إلى الملك ومرسلة من أعظم القواد، فرسخت عندهم العقيدة أن أسيرهم رجل له مكانته، فضاعفوا في فديته وجعلوها مبلغا طائلا من المال لم يكن في وسع أسرته أن تدفعه، وبقي سرفانتيز في الأسر خمس سنوات عاش خلالها حياة هينة، إذ ظن آسروه أنه من أسرة نبيلة فلم يكلفوه ما كلفوا سواه من العمل الشاق، ثم جاء راهب من إسبانيا ليفاوض في افتداء النبلاء الأسرى، وقد اتصل بسرفانتيز وأحبه فافتداه فيمن افتدى، وكان على ظهر سفينة على وشك أن تقلع به إلى القسطنطينية لتبيعه رقيقا في أسواقها بعد أن طال انتظار الآسرين لفديته. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن أمه كانت طوال تلك السنين تحاول ما وسعها أن تجمع لابنها الفدية المطلوبة ، حتى ناءت في سبيل ذلك تحت عبء باهظ من الدين.

عاد سرفانتيز إلى إسبانيا فاطرح الجندية ليعتنق الأدب، وأخذ يقرض القصائد، ويكتب الروايات التمثيلية وينشئ نقدا أدبيا، فكتب كثيرا من قصائد المدح لعله يجد من يحميه بين رعاة الأدب الأغنياء، ولكنه لم يصب نجاحا، وكاد لا يجد ما يقتات به، فأخذ يكتب للمؤلفين إعلانات منظومة عن كتبهم ليعيش من كسبه الضئيل، ثم تزوج سرفانتيز من أرملة غنية، وحاول أن يكتب للمسرح، فأخرج له ما يقرب من ثلاثين رواية جاءته بربح قليل مع أنها على حد تعبيره «لم تقابل من النظارة بالقذائف ترمى على الممثلين وبالصفير وبالمواء.»

وكانت إسبانيا حينئذ تعد أسطولها العظيم «الأرمادا» لتحارب به إنجلترا، فعين سرفانتيز في إحدى الوظائف الرئيسية في الجيش، لكن شاء جده العاثر أن تضيع منه مائتا جنيه فزج في السجن، ثم قدم للمحاكمة، فاختفى عامين ظهر بعدهما في «بلد الوليد»، وكانت سنه سبعة وخمسين عاما، وكان معه مخطوط آيته الخالدة «دون كيشوت»

Don Quichote ، ولم يلبث الجزء الأول من هذا الكتاب أن صادف رواجا شديدا، لكنه لسوء حظه لم يكسب منه إلا قليلا؛ لأن حقوق الطبع لم يكن معترفا بها، فسطا على الكتاب من سطا، وهرب ربح الكتاب إلى سواه.

لم ينقطع سرفانتيز عن إنتاجه الأدبي، وأخرج كتابا ثانيا عنوانه «القصص النموذجية»، وهي مجموعة من القصص الرمزية، وكذلك أخرج قصيدة طويلة عنوانها «رحلة إلى بارناسس ثلاثية القافية»

Voyage to Parnassus in terza rima ،

3

لكنه في تلك الأثناء كلها لم ينقطع عن التفكير في أعز آثاره لديه وأدناها إلى قلبه، وهو «دون كيشوت»، فأخرج الجزء الثاني منه وأعطاه للناشر عام 1615م، وعندئذ طبقت شهرته الخافقين، وترجمه إلى الإنجليزية عندئذ «سكلتن

Skelton »، لكنه برغم ذلك كله ما انفك يعيش في فقر مدقع وضنك شديد.

قصة دون كيشوت ضحكة ساخرة يوجهها سرفانتيز إلى ما يلعب بخيال الإنسان من مثل عليا، كثيرا ما تكون لسوء الحظ متنافرة مع حقائق الحياة العملية، فدون كيشوت رجل نبيل فقير يعيش في أرض لا زرع فيها، أزاح المطر عن سطحها التربة الخصبة ، ولم يبق منها إلا صخورا ورمالا، فأصبح نبلاؤها كمزارعيها في مسغبة لا تنبت لهم الأرض ما يقيم أودهم، فيفر دون كيشوت من هذا الواقع الأليم إلى دنيا الخيال، ويأخذ في قراءة كتب عن فروسية العصور الوسطى، فما هو إلا أن يملك عليه اللب هذا اللفظ الفخم، وتلك المشاعر الجياشة العالية، فيشتري كل ما يقع عليه من كتب الفروسية، لكنه يحتاج مالا؛ ليشتري هذه الكتب، فلا يسعه إلا أن يبيع أرضه الجدباء جزءا جزءا، وبدل أن يعنى بفلاحة أرضه واستنباتها أخذ يناقش قسيس القرية (وكان قسيسا متبحرا في العلم)، ويجادل حلاق القرية عن تقدير الفرسان القدامى والمفاضلة بينهم، ترى هل يفضل «بامرين» الفارس الإنجليزي زميله الغالي «أماديس» أم العكس؟ تلك وأمثالها كانت في نظره من أعوص المسائل التي لا مندوحة له عن إدمان القراءة حولها، حتى يتبينها ويجتليها. وهكذا تدرج به الأمر، حتى أصيب المسكين بنوع من الجنون الخفيف، وذلك أنه رأى حتما لازما عليه أن يكون هو نفسه فارسا كهؤلاء الفرسان الذين يقرأ عنهم القصص، وأن يضرب في أرجاء الأرض على ظهر جواده وفي شكته ليبحث عن مغامرة كتلك المغامرات التي استهدف لها أبطال الفرسان، وأن يمارس بنفسه كل ما قرأ من أعمال الفرسان السابقين، فيثأر لكل ضروب العدوان، ويهب نفسه لأخطار ومغامرات لو أصابه التوفيق فيها لكتب له الخلود. وهكذا رسخت عند المسكين تلك العقيدة رسوخا حدا به أن يهم بالتنفيذ.

وكان فيما ورثه عن آبائه شكة يعلوها الصدأ وليس لها غطاء للرأس، لكنه لم يلبث أن أكمل نقصها بقطع من الورق المقوى، وكان له كذلك سيف مكسور المقبض، فشرع يربط أجزاءه بعضها ببعض، وله حربة نحيلة وحصان هزيل، لكنه ظن أنه جواد كريم، أين منه جواد الإسكندر الأكبر المشهور الذي يطلق عليه «بيوسفالس» (ذو الرأسين)؟ وهل يجوز أن يكون لجواد الإسكندر اسم خاص به، ولا يكون لجواده هو اسم؟ فأنفق أربعة أيام كاملة يفكر، ويفكر ماذا عسى أن يسمي حصانه ذاك الكريم، وأخيرا استقر رأيه على أن يتخذ «روسنانتي» اسما له، ثم نشأت له بعد ذلك مشكلة أخرى، وهي أن يختار لنفسه اسما خليقا أن يقرن إلى مثله، فلا يصح أن يقنع باسمه العادي «كويسارا»، وقلب صحائف كتبه، فإذا به يرى «أماديس» الفارس المشهور لا يقنع باسمه، فيضيف إليه اسم بلده، ولهذا أطلق فارسنا على نفسه اسم «دون كيشوت لامانشا»، وبهذا ظن أنه يزيد من شرف بلده «لامانشا».

بدأ دون كيشوت رحلته مرتديا شكته العتيقة المهشمة المضحكة، فسافر يوما كاملا دون أن يصادف مظلوما يعمل على إنصافه، أو وحشا ضاريا يلاقيه فيفتك به، أو فتاة أحاط بها الخطر فيسرع إلى إنقاذها، وأخيرا بلغ فندقا صغيرا يقوم على إدارته رجل عملي على شيء من بلادة الذهن، وفيه خادمتان فاجرتان، فتبدو لعينه هاتان المرأتان «عذراوين جميلتين جالستين في غير تصنع عند باب الحصن» فيوجه الخطاب إليهما في ألفاظ رنانة ومعان شعرية خلابة، وتنصت له العاهرتان في صبر ماكر، حتى إذا ما فرغ من خطابه سألتاه: «هل تريد طعاما؟» فيتذكر دون كيشوت أنه لم يأكل طيلة نهاره، وأنه لا بد له من قوت يسد به رمقه؛ ليحتفظ بقواه لما هو مقبل عليه من أهوال جسام، فيطلب الطعام ويأكل، لكنه مؤرق الجنبين مهموم؛ لأنه يعلم أنه ليس فارسا حقا، إذ لا بد للفارس الحق أن ينصب فارسا بصورة رسمية تواضع عليها العرف، فحول لصاحب الفندق أن يضربه على رأسه بالسيف تلك الضربة التقليدية التي لا يكون الفارس فارسا إلا بها، وأن ينطق بالعبارات المألوفة التي تقال عند تنصيب الفرسان، ويطيعه صاحب الفندق؛ لأنه كسائر أصحاب الفنادق لا يترددون في إرضاء زبائنهم ما داموا يدفعون ما يطلب إليهم أن يدفعوه.

ثم لم يلبث دون كيشوت أن أبدى جهلا شنيعا بشئون هذه الدنيا العملية، فها هو ذا صاحب الفندق يقدم له قائمة بالحساب، فلا يجد في جيوبه مليما واحدا، ولم يحمل المال مع أنه لم يقرأ قط في قصص الفرسان أن فارسا حمل ماله معه في رحلاته ومغامراته، ولم يدر دون كيشوت أن مظاهر الشرف والفروسية لا بد لها من مال، فأفهمه صاحب الفندق هذه الحقيقة، وبهذا تلقى أول درس في عيوب هذا العالم ونقائصه. ويعود دون كيشوت إلى داره ليبيع هذا ويرهن ذاك، ويخرج في كلتا الحالتين بصفقة المغبون، حتى تجمع لديه قدر ضئيل من المال.

وقبل أن يغادر منزله هذه المرة تذكر فجأة أنه لا بد له من تابع كما كان لسائر الفرسان، لكن دون كيشوت لم يكن ليستطيع أن يظفر بمثل هذا التابع إلا إذا أغراه بالمال والسلطان، وكان له جار يدعى «سانكوبانزا»، وهو رجل شريف، لكنه محدود الذكاء، فأخذ دون كيشوت يشرح له كيف أنه مقبل على حروب تحقق المثل الأعلى، وأنه لا ريب منتصر ظافر، ثم وعد سانكوبانزا أن يمنحه أول جزيرة يغزوها، فتكون ملكا خالصا له، فرضي سانكوبانزا أن يكون تابعا لدون كيشوت لعله يحقق هذا المجد الموعود، وفي الوقت عينه يجد طريقا للخلاص من زوجته، ثم هو يمتطي بغله، ويرافق دون كيشوت في رحلته.

ويأخذ سرفانتيز في وصف الرحلة، وما وقع فيها من فروسية كاذبة، في صورة فكهة ساخرة، فها هو ذا يصادف في بعض الطريق فلاحا يضرب خادمه، فيطلب إليه الفارس المخدوع أن يمسك عن ضربه وإلا طعنه بحربته، فيجيب الفلاح إن ضرب الخادم حق له بحكم القانون، فيرد عليه دون كيشوت إنه مستعد لافتداء الخادم بالمال، فلا يمانع الفلاح ويمسك عن ضربه، فيمضي دون كيشوت، وينتظر الفلاح عبثا أن يعود له الفارس بالمال، وتغرب الشمس ويسخط الفلاح فينقض على خادمه المسكين ضربا مبرحا ليثأر وينتقم، وهكذا أصلح دون كيشوت ما صادف من ظلم وإجحاف!

وهذا دون كيشوت يبصر طواحين الهواء دائرة، فيظنها وحوشا كواسر تتهيأ للوثوب عليه، فيرفع رمحه في يده ويندفع نحوها في حماسة بالغة، حتى يصطدم بذراع إحداها ويهوي إلى الأرض، فإذا أفاق ظن أن جماعة من السحرة قد ردت الوحوش طواحين هواء لتنقذها منه! وهكذا.

وبعد، فماذا يقصد سرفانتيس بكتابه دون كيشوت؟ إنه يريد قبل كل شيء أن يقضي على عصر الفروسية الذي ملأته الأوهام ليفتح أعين الناس لعلها ترى حقائق الدنيا الواقعة التي يعيشون فيها، وفي هذا كان سرفانتيز نقيض السير وولتر سكت (الكاتب الإنجليزي في القرن التاسع عشر)، الذي أراد في عصره أن يعيد الفروسية إلى الوجود والحياة.

ثم أراد الكاتب فوق ذلك أن يصور لنا ضربا من الناس يعيش في أوهامه، وتتملكه فكرة خاطئة، فتتحكم في سلوكه كأنما هي حق واقع.

وإننا في روايتنا لقصة الأدب في العالم لنتعلم دروسا من هذا الكتاب ومؤلفه، فسرفانتيز مثل يصح أن يساق دليلا على استحالة التنبؤ بالسن التي يظهر فيها نبوغ النابغ، فقد حاول سرفانتيز في شبابه أنواعا كثيرة من الكتابة نثرا وشعرا، ولم تبد فيما كتب علامات النبوغ، ثم لم يبدأ في كتابة هذا الأثر الخالد «دون كيشوت» إلا وهو في سن السابعة والخمسين، فجاء كتابا في طليعة الآداب العالمية، ولم يتردد «السير وولتر رالي» الناقد الإنجليزي في القول بأنه «أحكم وأعظم كتاب في العالم».

ودون كيشوت مثل يصح أن يساق أيضا لتفنيد الرأي القائل بأن الأثر الأدبي العظيم لا بد من وضع خطته كاملة في ذهن منشئه قبل الشروع في إنشائه، فقد بدأ دون كيشوت بغير ما انتهى إليه، إذ كان ينحرف الكاتب في طريقه هنا وهنالك عفو الساعة، فها هو ذا «سانكوبانزا» أحد الشخصيات الرئيسية في الكتاب، لم يدر بخلد سرفانتيز إلا بعد أن سار في القصة شوطا بعيدا، بل إن هذه الشخصية نفسها حين ارتسمت أول الأمر في ذهن الكاتب لم تكن كاملة الأجزاء إنما أخذت تتكامل كلما مضى في قصته.

وأخيرا تدلنا عظمة سرفانتيز على خطأ الرأي القائل إن العبقري ينبت في عصر الازدهار؛ فقد كان سرفانتيز معاصرا لشيكسبير، ومات هذان النابغان في عام واحد، أما سرفانتيز فكان قد بلغ نضجه بعد أن تجاوزت إسبانيا أيام مجدها، وأما شيكسبير فقد ازدهر وأينع عندما خرجت بلاده ظافرة على «الأرمادا» الإسبانية، وكم قال النقاد وأفاضوا في القول بأن العظمة الأدبية في عصر اليصابات نتيجة لعظمة إنجلترا في السياسة والتجارة عندئذ! فمن قائل إن روايات شيكسبير ومارلو، وترجمة شابمان لقصيدتي هومر، وغير هذه وتلك من آيات الأدب الرائعات في عصر اليصابات، نتيجة مباشرة لانتصار الأسطول الإنجليزي على الأسطول الإسباني، إذ وسع هذا النصر الأفق العقلي عند الإنجليز، وأيقظهم ليبصروا ما هم فيه من عظمة ومجد. لكنا نقول: هل كتب «العهد القديم» حين كان اليهود سادة العالم؟ وهل أنشد هومر ملحمتيه لما بلغ اليونان أقصى مجدهم؟ وهل تفجر من رابليه كتابه «جارجانتوا وبانتاجريل» إذ كانت فرنسا ظافرة في حروبها؟ وأخيرا كيف أنتجت هزيمة الأرمادا شيكسبير في إنجلترا وسرفانتيز في إسبانيا في وقت واحد؟ إن كان شيكسبير نتيجة النصر العظيم، فهل جاء سرفانتيز نتيجة الهزيمة المنكرة؟ كم يبهرنا التعليل بعمق الفكرة فيه، مع أن عمق الفكرة قد لا يخفي وراءه من الحق شيئا ! ولعل سرفانتيز كان يرمي بكتابه، فيما يرمي إليه، إلى مهاجمة «الأفكار العميقة».

هكذا تجلت النهضة الأدبية الإسبانية في سرفانتيز، ولقد شهدت النهضة في إسبانيا - كما شهدت في إيطاليا وفرنسا وإنجلترا - اتجاها عاما نحو الشعور القومي والإحساس بالوطن، وظهر ذلك الاتجاه فيما نتج عندئذ من آداب وفنون، وكان سرفانتيز لإسبانيا إذ ذاك لسانها الناطق، ولو استثنينا روايات شيكسبير، لكان كتاب «دون كيشوت» أجمل ما أنتجه عصر النهضة في أوروبا على الإطلاق.

وشاء الله أن يلفظ سرفانتيز وشيكسبير آخر أنفاسهما في يوم واحد. (2) لوب دي فيجا

Lope de Vega (1564-1635م)

بلغت إسبانيا نهاية مجدها عام 1588م حين أصيب أسطولها العظيم «الأرمادا» بهزيمة نكراء أمام الأسطول الإنجليزي، وكان سرفانتيز إذ ذاك في الأربعين من عمره، وكان بين البحارة الإسبان شاب لا يزال في فتوته وهو «لوب دي فيجا» الذي عاد إلى وطنه سالما؛ ليكون مؤسس المسرح الإسباني وزعيم الأدب هناك في القرن السابع عشر، وهو رجل ذاع صيته في بلده، لكن قل من يعرفه في سائر البلدان، على خلاف زميله سرفانتيز الذي أصبح أديب العالم أجمع. وقد كان «لوب» غزير الإنتاج إلى حد تدهش له العقول؛ إذ أنتج ما يقرب من 1800م رواية تمثيلية! وصلنا منها ما يقرب من 470 رواية. وذلك إلى جانب ما أنشأه من غير الروايات كالملاحم والأغاني الريفية والأقاصيص. والعجيب أنك لا تجد بين هذا الإنتاج الخصيب شيئا واحدا يصح أن يتخذ نموذجا لأدبه ونبوغه، ولعل كثرة الإنتاج من شأنها دائما أن تؤدي إلى مثل هذه الحيرة عند الاختيار. لكننا يجب أن نعجب بهذا الكاتب الذي استطاع أن يكتب الرواية من ذوات الفصول الثلاثة في اليوم الواحد!

لم يكن «لوب» في تصويره لشخصياته يتقيد بنماذج معينة، فهو يطلق الشخصية على سجيتها لتكون مطابقة للحياة الإنسانية الصحيحة، ولم يأبه قط للأوضاع والقيود التي يحتمها أصحاب المذاهب النظرية من رجال النقد، وهو في تلك الثورة شبيه بمعاصريه الروائيين في عصر اليصابات في إنجلترا. ولو قارنا بينه وبين شيكسبير لقلنا إن له ما لشيكسبير من نظرة إنسانية واسعة عميقة، ومن قدرة في الملهاة فائقة، بحيث استطاع أن يرج النظارة رجا من الضحك، لكنه بالطبع لم يبلغ ما بلغه ذلك الجبار من أوج، وخصوصا في المأساة، ولعل ضعفه في الشعر هو الحائل المنيع الذي صده عن مجاراة شيكسبير في المأساة كما جاراه في الملهاة، أو لعل كثرة إنتاجه وسرعته هما علة ضعفه، فقد كتب عشرة أمثال ما أنتجه شيكسبير. (3) بدرو كالدرون

(1600-1681م)

وأعقب «لوب دي فيجا» في الكتابة للمسرح «بدرو كالدرون» الذي يعده العالم أعظم كاتب مسرحي شهدته إسبانيا، وعلة هذا التفضيل أن العالم لا يعرف «لوب» حق المعرفة. ومهما يكن من أمر، فقد أخذ «كالدرون» يكتب للمسرح بعد «لوب»، حتى أشرف القرن السابع عشر على ختامه، وكان أقل إنتاجا من سلفه، لكنه كان أعظم منه شاعرية.

وقد ترجم «فتز جرلد»

Fitz Gerald - مترجم رباعيات الخيام إلى الإنجليزية - ست روايات لكالدرون خيرها «عمدة زالاميا»، وهي تبرز نواحي الضعف في كالدرون كما تبين جوانب المقدرة سواء بسواء؛ فقد كان عسيرا عليه أن يسلك أجزاء الرواية في وحدة مسرحية متصلة، ففيها مأساة وفيها ملهاة، بل وفيها ألوان أخرى من ضروب المسرحية، لكنه لم يوفق إلى صب هذه الأنواع المتباينة في قالب واحد متسق كما استطاع شيكسبير حين ألف في بعض رواياته بين المأساة والملهاة - مثال ذلك «قصة الشتاء» - ومما يؤخذ على كالدرون فوق ذلك استطراده وانحرافه عن الجادة كلما عن في سياق الرواية ما يغريه بالاستطراد والانحراف، فينتج عن هذا أن تكون الرواية سلسلة من المناظر التمثيلية لا أكثر ولا أقل، أضف إلى ذلك أنه يورد في الرواية أشخاصا لا داعي لوجودهم، غير أن هذه العيوب كلها إنما تمس الرواية من حيث البناء والتأليف، وذلك لا ينفي أن تستمتع بالرواية جزءا جزءا، ففي كل منظر لذة فنية قائمة بذاتها، وإن فشلت مجموعة المناظرة في أن تكون تأليفا جميلا.

ولئن فات «كالدرون» أن يكون رائعا في تأليفه المسرحي، فقد كان بغير شك بارعا في مواهبه الأدبية من حيث جمال التعبير، نعني بهذا أن رواياته كانت تعتمد في تأثيرها على جمال العبارة وقوتها لا على حوادثها وشخصياتها. ومما يستحق الذكر أيضا أن «كالدرون» كان أمهر في بداية الرواية منه في ختامها - وهو عيب ملحوظ في كثير من كتاب المسرحية - وأنه كان يقدم الشخصيات في سياق الرواية، لكنه يعجز عن تصويرها من نواحيها جميعا، وبخاصة في شخصياته الهزلية، فكثيرا ما كان بارعا في تقديم الشخصية للوهلة الأولى، ثم لا يستطيع أن يواصل تصويرها كما بدأها، ولهذا ترى الشخصية في ملاهيه لا تضحك النظارة إلا بموقف واحد في أغلب الأحيان.

ومن رواياته التي ترجمها «فتز جرلد» غير «عمدة زالاميا» «مصور العار» ورواية «احذر الماء الذي ينساب هادئا»، وفيها تصوير بديع لأختين مختلفتي المزاج - هما كلارا ويوجينيا - أما الأولى فتحب الوداعة والتحفظ، وأما الثانية فتحب المرح والنشاط، استمع إليها - مثلا - إذ هما تتحدثان في غرفة من بيت أبيهما في مدريد:

كلارا :

أحب في هذا المكان هدوءه.

يوجينيا :

أريد الشوارع الصخابة مزهرة بحوانيتها وعرباتها وجنودها وسيداتها وفرسانها، أريدها بما فيها من غبار الصيف ووحل الشتاء، أريد مكانا تجلس فيه المرأة خلف ستار النافذة فترى كل ما يمر في الطريق.

ذلك هو كالدرون بعيوبه ومزاياه، وقد وصفه «جيته» - وهو خير حكم في الإنتاج الأدبي - بقوله: «إن رواياته قد بلغت حد الكمال في فنها المسرحي.» لكنه عاد في موضع آخر فقال عن شخصياته: «إنها متشابهة كأنها جنود صفت كلها في قالب من صفيح.» وحسبنا لكي نبين ما بلغه كالدرون من البراعة في الفن المسرحي أن نشير إلى قصة تروى عن خفير كان ذات يوم بين النظارة، وجاء على المسرح منظر تباع فيه البطلة الإسبانية لعربي، فانتفض الخفير شاهرا سلاحه يرد ذلك العربي عن ابنة وطنه، ففي هذا دليل على ما في المنظر المسرحي من حياة وقرب من الواقع.

ولا نستطيع أن نطوي الحديث عن كالدرون قبل أن نشير إلى نوع من المسرحية أجاد فيه إجادة منقطعة النظير، ونعني به تلك الروايات الدينية التي تشبه «رواية المعجزة» التي سادت في فرنسا وإنجلترا - وسيأتي وصفها عند الكلام على الأدب الإنجليزي في عصر النهضة - وذلك أن عادة جرت بأن يمر في الشوارع موكب فيه أشخاص يمثلون بملابسهم ومواقفهم بعض المناظر الدينية، وقد ألف كالدرون من هذا النوع سبعين رواية. (4) لويس دي كامينس

Louis de Camoëns (ولد عام 1524م)

وجدير بنا في هذا المقام أن نوجه نظرنا لحظة إلى جارة إسبانيا وأختها الصغرى، وهي البرتغال، فنذكر أمير شعرائها في القرن السادس عشر «دي كامينس

de Camoens » الذي كان بحارا يضرب في المناطق البحرية المجهولة بسفينة ضئيلة، فعلمته التجربة المرة القاسية كم عانى «فاسكو دي جاما» - المستكشف العظيم الذي دار حول رأس الرجاء - من أهوال، فأنشد الشاعر ملحمة لا يغفل ذكرها مؤرخو الأدب الأوروبي، ففي هذه الملحمة التي يطلق عليها اسم «لوسياداس»

Lusiadas

أي سكان لوسيتانيا أو اللوسيتانيون [لاحظ أن اسم البرتغال كما ورد في الأساطير هو لوسيتانيا] يقص قصة أمته، ويروي بطولة «فاسكو دي جاما»، بل إنه ليتجاوز ذلك، فيجعل ملحمته قصة الكشف البحري أينما كان. وقصة الكشف البحري تروعك بما بين الإنسان والموج من صراع عنيف جبار، وبما في استكشاف الأراضي الجديدة من نشوة وانتصار، فجاءت «لوسياداس» أقوى ملحمة تدور حول أهوال البحر بعد «الأوذيسية»، فلو كان دي جاما شاعرا، لما جرت شاعريته بأفضل من ملحمة «لوسياداس»، وقد ترجمها إلى الإنجليزية في القرن التاسع عشر «رتشارد بيرتن

Richard Burton »، الذي كان مثل «دي كامينس» شاعرا ومغامرا.

وكان لهذه الملحمة فضل وطني عظيم، وذلك أنه لما احتل الإسبانيون لشبونة - عاصمة البرتغال - وجعلوا لغتهم الكاستيلية لغة البلاد الرسمية، وقفت ملحمة «لوسياد» وحدها تحتفظ باللغة القومية، وتثير في البرتغاليين غيرة على لغتهم أن تجتاحها لغة الإسبان الفاتحين، وإن في هذا لمثلا قويا يساق لقدرة القلم أحيانا على أن يقرر مصائر الأمم.

نهضت إسبانيا - كما رأيت - في القرنين السادس عشر والسابع عشر نهضة زاهرة، لكنها عادت فهوت إلى الحضيض في إنتاجها الأدبي، حتى إنك لا تكاد ترى فيها في القرنين التاليين أديبا واحدا يستحق أن يذكر إذا ما أردت أن تقص قصة الأدب في العالم.

الفصل الخامس

النهضة في إنجلترا

(1) الشعر في القرن الرابع عشر (1-1) جوفري شوسر

Geoffrey Chaucer

لبثت إنجلترا قرونا طوالا مجدبة عقيما في قريحتها الأدبية، فكادت لا تنجب أديبا واحدا نابغا قبل القرن الرابع عشر، ثم شاءت الأيام بغتة أن تلد لها شاعرا عظيما هو في الطليعة بين شعراء العالم، وذلك هو «شوسر» الذي جاء في التاريخ الأدبي لإنجلترا كالواحة الخضراء في البيداء القاحلة، أو كالدوحة السامقة ارتفعت بفرعها إلى السماء، وكل ما حولها كلأ ضئيل.

نبت «شوسر» في أسرة أقامت في لندن أجيالا متعاقبة، وكان أبوه وجده يتجران في الخمر، ويجنيان من تجارتهما ربحا طائلا، وجاء مولد شاعرنا في عام قريب من 1340م، ولم يلبث أن التحق بحاشية دوق كلارنس، وتزوج من فتاة كانت وصيفة لزوجة الدوق، وما جاء عام 1359م حتى سافر «شوسر» في صحبة «كلارنس» إلى فرنسا في حملة حربية أرسلها «إدورد» ملك الإنجليز، وينبئنا «فرويسار»

1

في تاريخه «أنه لم يبق في البلاد فارس ولا محارب ولا سيد ممن تقع أعمارهم بين العشرين والستين دون أن يرحل في تلك الحملة.» وما هو إلا أن وقع «شوسر» أسيرا في أيدي الأعداء، لكنه لم يطل به زمن الأسر، حتى افتدوه بالمال، وساهم الملك في فديته بمبلغ كبير، ثم وضعت الحرب أوزارها، وعاد «شوسر» إلى إنجلترا وعين عضوا في حاشية الملك، وأخذ يدرج صاعدا في مناصب القصر ويسفر لملكه في بعثات سياسية، وزار إيطاليا في عام 1373م، وكان لهذه الزيارة أثر كبير في حياته الأدبية، ثم عين بعد ذلك محصلا للرسوم الجمركية المفروضة على الصوف والجلود في ميناء لندن، وكان دخله إذ ذاك قد ضخم إلى حد كبير. أما إنتاجه الأدبي في تلك الأعوام التي ازدهر فيها من الوجهة المادية، فلم يزد على بعض القصائد والأغاني والمواويل التي لم يبق لنا منها إلا شطر ضئيل، وأما الجزء الأعظم من أدبه، فلم يظهر إلا في عهد الملك رتشارد الثاني.

2

أرسل شوسر في بعثة سياسية أخرى عام 1378م إلى إيطاليا، ثم انتخب بعد ذلك بثمانية أعوام ممثلا لمقاطعته «كنت

Kent » في البرلمان، وعندئذ انقلب النواب على دوق لانكستر الذي كان يحميه، ومن ثم أخذت الأيام تقلب للشاعر ظهر المجن، فحرم مناصبه جميعا وماتت زوجته، لكن شاء الله أن يكون حرمانه خيرا للأدب؛ إذ أنفق الشاعر فراغه الطويل في الإنتاج الأدبي، فقضى عامين خصبين، لا ينفك عن الكتابة والإنشاء.

وفي عام 1389م تولى الملك بنفسه زمام الأمور في الدولة، فأعاد شوسر إلى مناصبه، وعينه كاتبا خاصا له، ثم عبس له الدهر من جديد، وعزل مرة أخرى، وعانى ما عانى من الفقر والعوز، حتى ولي العرش هنري الرابع في آخر عام من حياة الشاعر، فأرسل له شوسر قصيدة عنوانها «شكاة إلى كيس نقودي الفارغ» فاستجاب الملك دعاءه، ومات شوسر عام 1400م، ودفن في مقبرة العظماء في «دير وستمنستر».

كان أول ما أنتجه «شوسر» في الأدب مما يستحق الذكر ترجمته لقصيدة «قصة الوردة»،

3

ولا عجب فقد كان للأدب الفرنسي أعمق الأثر في «شوسر» في المرحلة الأولى من حياته الأدبية، وإنك لتلمس هذا الأثر واضحا فيما يميز شعره من سلاسة ورشاقة، والقصيدة الأصلية لشاعرين فرنسيين هما «لورس» و«دي منج» وهي مفرطة الطول تربي أبياتها على اثنين وعشرين ألفا، ولم يترجم إلى الإنجليزية منها إلا أقل من ثلثها، وهذا الثلث نفسه ينقسم في الترجمة ثلاثة أقسام، فأما القسم الأول الذي يمتد من فاتحة القصيدة إلى البيت الخامس بعد السبعمائة والألف، فلا شك في نسبة ترجمته إلى شوسر، وأما القسم الثاني الذي يمتد إلى السطر العاشر بعد الثمانمائة والخمسة الآلاف، فلا شك أنه لم يكن من ترجمة شوسر، وأما الجزء الثالث الذي يشمل ثمانمائة وألفا من الأبيات فموضع شك. وأما موضع القصيدة فيتخذ صورة الحلم - كما هو مألوف في الأدب الوسيط - فيرى محب ولهان في حلمه أنه صادف حديقة طويلة عريضة مسورة، أسوارها عالية كأسوار القلاع الحصينة، فلما دخل قابل فيها أشخاصا كثيرين كل منهم يرمز إلى شخص معروف، حتى انتهى به السير إلى بئر نارسيس،

4

فرأى في قاعها البلوري اللامع منظر الحديثة منعكسة على سطحه، وكان فيما رأى شجرة ورد جميلة، ورأى بين أزهارها وردة فتنته بجمالها، حتى ليتعذر على الشاعر أن يصف شيئا من بهائها ورونقها، فيشغف بها حبا وترشقه خمسة من سهام الحب في وقت واحد، ويأخذ من فوره في السعي وراء هذه الوردة الفاتنة ليقتنيها. وبقية القصيدة وصف لهذا السعي في سبيل الوردة المعشوقة.

وفي عام 1369م أنشأ شوسر «كتاب الدوقة»، ينعى به موت زوجة الدوق لانكستر. وإن هذه القصيدة لتوضح في جلاء خصائص شعره في صدر حياته، وتبين إلى أي حد كان تأثره بالأدب الفرنسي إذ ذاك، فتراه ينسج فيها على منوال العصر في أوضاع الشعر، فيجسد الأفكار المجردة، ويتحدث عنها كأنما هي أشخاص حية من لحم ودم، وهو في تلك المرحلة الأولى من حياته الأدبية لم يمزج شعره بالفكاهة إلا قليلا، مع أن روح الفكاهة أصبحت فيما بعد طابعا يميزه.

تلك كانت آثار الشباب، فلما نضجت رجولته وقعت له الزيارة الثانية لإيطاليا، فتأثر بها في سفره أعمق الأثر؛ إذ تعلم الإيطالية ودرس «دانتي» و«بوكاتشو»، وقد كتب قصته الشعرية «ترويتس وكرسدا» على غرار قصيدة بوكاتشو «فيلوستراتو»

5 (ومعناها جندي الحب). وتتألف قصة «ترويتس وكرسدا» من ثمانية آلاف بيت، لم يكن شوسر مدينا فيها للقصصي الإيطالي العظيم، إلا بما يدنو من الثلث، ولعل هذه القصة تكون أجمل أثر أدبي كامل بين آثار شوسر جميعا، وإنما نقول ذلك لأن «حكايات كانتر بري» - وهي أروع إنتاجه على الإطلاق - لم يكمل إنشاؤها كما أراد لها، ويقسم «شوسر» هذه القصة خمسة أقسام، وموضوعها هو الحب بين الفتى ترويتس ومعشوقته كرسدا إبان الحرب الطروادية، وهو بعينه الموضوع الذي أدار عليه شيكسبير روايته التي أطلق عليها هذا العنوان، أما «ترويتس» فيصوره الشاعر على نهج عشاق القرون الوسطى كما رسمتهم «أنشودة الوردة» فهو محب متفان في حبه، يضحى بكل شيء في سبيل معشوقته، ويراعي أوضاع الحب كما تواضع عليها فرسان العهد الوسيط، وأما صورة «كرسدا» فهي من إبداع الشاعر إلى حد كبير، على أن خير صورة وردت في هذه القصة شخصية «بانداروس» - وهو عم كرسدا - الذي جعله الكاتب يسعى للتوفيق بين العاشق ومعشوقته. وشخصية «بانداروس» فكهة مرحة لا تحلق في الخيال، بل تعالج الأمور من جانبها العملي المنتج. وقد أجرى الشاعر على لسانه حكمة الساخر الهازئ، فكان له في كل موقف مثال يضربه، وهو يشبه إلى حد ما شخصية شيكسبير الفكهة المشهورة؛ وأعني بها «فولستاف». وقصة «ترويتس وكرسدا» تحدد مرحلة في حياة شوسر الأدبية؛ لأنها وسط بين النقل والإبداع، فقد كان شوسر في شبابه ينقل ولا يضيف من عنده شيئا، ثم تقدم في رجولته خطوة هي المزج بين الجانبين، ثم خطا بعد ذلك خطوة أخرى في «حكايات كانتر بري»، فكان أغلب إنتاجه خلقا خالصا. والقصة منظومة في البحر الذي اشتهر به شوسر، وهو الذي يقسم القصيدة مقطوعات من ذوات الأسطر السبعة تجري القافية فيها على هذا النحو:

أ - ب - أ - ب - ب - ج - ج.

ثم لم يلبث شوسر أن أخرج بعد ذلك قصيدة «برلمان الطير»، وهي قصيدة رمزية يشير بها إلى المفاوضات التي كانت قد دامت عاما كاملا بشأن زواج الملك رتشارد الثاني من «آن بوهيميا»

6

التي كان يخطب ودها ثلاثة رجال في وقت واحد، والقصيدة مكونة من البحر نفسه الذي كتبت به قصة ترويتس وكرسدا، أعني أنها تتألف من مقطوعات من ذوات الأسطر السبعة التي تجري قوافيها على النحو الذي ذكرناه، وهي كذلك تتخذ صورة الحلم،

7

فيبدأ الشاعر يروي عن نفسه أنه بينما كان يقرأ أثرا أدبيا لأحد الكتاب اللاتين القدماء إذا به يغفو ويأخذه النعاس، فيرى في حلمه حديقة غناء، حيث السطوة كلها في قبضة إلهة - هي «الطبيعة» - تصرف الأمر هنالك كيف تشاء، وبينا هو يجوس خلال ذاك البستان رأى الطير كله قد اجتمع لينتقي كل زوج زوجة ترافقه طوال العام، وكانت «الإلهة» الرئيسة - وهي «الطبيعة» - وقد أمسكت في يدها بأنثى النسر، ووقف بين يديها ثلاثة ذكور من النسور تتنازع أيها يظفر بملكة الطير، فأصدرت «الطبيعة» أمرها أن يمثل كل نوع من الطير طائر واحد، يبدي رأيه في الأمر على سبيل الشورى، وهنا يبدي شوسر غاية البراعة في وصف ذلك المنظر الريفي، وفي إطلاق الحديث على ألسنة الطير، كما يبدي روحا فكهة بلغت من الروعة حدها الأقصى، واشتد النقاش والجدل، فلم تجد «الطبيعة» بدا من أن تترك أنثى النسر تختار من الذكور المتنافسة ما تشاء.

ولم يمض عامان على إخراج «برلمان الطير»، حتى أنشأ شوسر قصيدة جديدة عنوانها «دار الشهرة»، وهي مزدوجة القافية، أعني أن كل سطرين متتاليين يشتركان في قافية واحدة، وفي كل سطر منها ثمانية مقاطع، وتتألف من ثلاثة فصول، لكن الشاعر لم يتمها على ما أراد لها، وطول ما كتبه منها ألفا بيت ومائة، وهي أيضا تتخذ الصورة المألوفة، صورة الحلم، فيرى الشاعر في رؤياه أنه في معبد من زجاج امتلأ بالتماثيل الذهبية والتصاوير التي تمثل أشخاصا ومناظر من الأدب القديم، وقد حمله نسر إلى «دار الشهرة» بأمر من الإله «جوبتر» جزاء وفاقا بما أسدى من يد بيضاء في سبيل الحب، فوجد تلك الدار العجيبة قائمة على ذروة صخرة عالية من الثلج، وهي - كما يقول الشاعر - «أساس ضعيف لقصر شامخ»، ويستعرض الشاعر في قصيدته ما يشاهد من تماثيل وصور تمثل الآداب القديمة، فيعرض لقارئه اطلاعا واسعا على تلك الآداب، ثم هو ينتهز فرصة الرمز والتلميح، فيبيح لنفسه التعليق على ما كان في عصره من أحداث وأشخاص.

ولا شك في أن شوسر قد تأثر في هذه القصيدة «بدانتي» في الكوميديا الإلهية

8

فهي - كالكوميديا - ثلاثة فصول، وهي كذلك حلم يراه الشاعر في نعاسه، وكما يتخذ «دانتي» من «فرجيل» دليلا له يهديه، يتخذ شوسر من النسر دليلا هاديا. غير أن الفارق بعيد في قوة الشعر في القصيدتين، «فدار الشهرة» ضئيلة متهافتة البناء إذا قيست «بالكوميديا» ذات البناء الأشم الجبار، وشوسر في هذه القصيدة لا يزال محاكيا ومقلدا يترسم الأوضاع التقليدية في الشعر، إلا أنه بدأ يعبر عن شخصيته ونفسيته حين أخذ يحدث النسر عن نفسه، ويشيع في القصيدة كلها فكاهة ساخرة كالتي أجراها على لسان «بانداروس» في قصة «ترويتس وكرسدا» التي أسلفنا ذكرها.

وكان آخر ما أنشأه «شوسر» في وسطى مراحله الأدبية قصيدة عنوانها «أسطورة المحصنات»، وهي تقع في ستمائة وألفي بيت من الشعر، وقافيتها مزدوجة، أنشدها الشاعر ليشيد بالمحصنات من النساء كأنما أراد أن يكفر عما اقترف في حقهن في الجزء الذي ترجمه من «أنشودة الوردة»، فقد رأى الشاعر في حلمه أن إله الحب جاءه يؤنبه على استخفافه بالنساء وسخريته بعاطفة الحب الخالدة، فدافع عن نفسه «بأسطورة مجيدة عن المحصنات من النساء، العذارى منهن والزوجات، اللاتي أخلصن للحب طوال حياتهن.» ولم يستطع شوسر إتمام القصيدة، فتركها ناقصة كما فعل بقصيدة «دار الشهرة». وإن القارئ ليحس في كلتا الحالتين أن الشاعر إنما نفض يده من القصيدة حين أدركه الملل، ففي قصيدة «دار الشهرة» اندفع هو ونسره إلى عالم خيالي، ثم لم يسغ أن يعود من عليائه هابطا فوق هذه الأرض، فظل مع النسر محلقا. وفي هذه القصيدة تحس كأنما مل الشاعر رواية قصص قديمة؛ لأنه عند بداية القصيدة اعتزم أن يروي قصة عشرين امرأة من نساء التاريخ والأساطير ممن كن مخلصات في الحب، لكنه لا يقدم لنا سوى سبع قصص من بينها قصة عن كليوبطره، وقصة عن ديدو ملكة قرطاجنة.

9

وأهم أجزاء القصيدة «مقدمتها» التي يمهد بها لحلمه، ويقطع فيها على نفسه عهدا أن يقص هذه القصص عن طيبات النساء، ليعتذر بها عن كفرانه بالحب الذي أبداه في ترجمته لأنشودة الوردة، وفي تصويره لكرسدا التي لم تخلص في حبها لترويتس، وكذلك يبين في المقدمة مقدار حبه للكتب ولزهور الأقحوان، ويثبت فيها قائمة بقصائده، منها أسماء لقصائد لم تهبط إلينا، ومما هو جدير بالذكر عن «مقدمة» هذه القصيدة أن لها صورتين باقيتين، تختلفان في اللفظ وصياغة بعض الأبيات، والمفروض في إحداهما أن تكون قد كتبت أولا، وفي الأخرى أن تكون إصلاحا للأولى، فمن هاتين الصورتين يتبين كم كان «شوسر» يعنى بتجويد شعره.

وأروع آية أبدعتها عبقرية شوسر «حكايات كانتر بري» التي لم يكن إنتاجه السابق بالقياس إليها سوى إرهاص وتمهيد، وقد تابع فيها «بوكاتشو» في كتابه «ديكامرون» الذي روى فيه عددا من حكايات أجراها على ألسنة عشرة من الرجال والسيدات فروا من الوباء المتفشي في مدينة فلورنسه، إلى منزل بالريف النقي الخالص.

كان ضريح القديس تومي أبكت

St. Thomas-à-Becket

في كانتر بري بإنجلترا مكانا مقدسا يحج إليه الناس من كل حدب وصوب في أوروبا إبان العصور الوسطى، وكان هنالك في الطريق إلى ذلك الضريح فندق يسمى «فندق تابرد» فتخيل الشاعر أن تسعة وعشرين حاجا اجتمعوا ذات مساء في ذلك الفندق، فاقترح «هنري بيلي» صاحب الفندق أن يروي كل مسافر قصتين وهم في طريقهم إلى ضريح القديس، وقصتين أخريين وهم عائدون، وأن يوازن بين القصص جميعا ليكافأ المتفوق الممتاز عشاء على حساب زملائه حين يعودون إلى الفندق، هكذا وضع الشاعر تصميما ليروي لقارئه أكثر من مائة وعشرين قصة، المسافرون تسعة وعشرون، أضف إليهم صاحب الفندق والشاعر، هذا في رواية، وفي رواية أخرى أن مسافرين آخرين انضما إلى تلك المجموعة في الطريق، وفي كلتا الحالتين كان عدد من يقص القصص في نية الشاعر واحدا وثلاثين، فقد كان مشروعا أدبيا عظيما، لكن الشاعر لم يرو مما اعتزم أن يرويه إلا أربعا وعشرين، منها واحدة لم تكمل وأخرى ليس منها سوى بدايتها.

وكان شاعرنا أشد طموحا في قصصه من «بوكاتشو» لأن الشخصيات التي صورها «بوكاتشو» كانت كلها تمثل طبقة واحدة من الناس، فسرعان ما تبعث القصص المتشابهة مللا في نفس قارئها على الرغم من كل ما فيها من براعة وفن، أما «شوسر» فقد اختار «حجاجه» من طبقات المجتمع المختلفة ليجعل كلا منهم يصور بقصته وبشخصيته طبقة معينة من الناس، فإذا استثنيت طبقة النبلاء الرفيعة، وطبقة السفلة الوضيعة، وجدت كل طوائف المجتمع الإنجليزي مرسومة مصورة في قصص شوسر أدق رسم وأبرع تصوير. وقد أعمل الشاعر فنه في تتابع القصص ليكون بينها شيء من التباين يزيل ما عساه أن يحدث في نفس القارئ من ملل، وقدم الشاعر لقصصه «بمقدمة» هي آية آياته على الإطلاق، إذ عرض فيها شخصياته عرضا سريعا قبل أن يبدءوا رحلتهم ويقصوا قصصهم، فعرف كيف يقدم لك كلا منهم في صورة ناطقة ساطعة، حتى لكأنك حين تقرأ «المقدمة» تنظر إلى معرض للصور علقت على حوائطه صورة كل مسافر في إطار خاص. فمن أشخاصه «فارس» و«محارب» و«حامل السلاح للفارس»؛ فهؤلاء يمثلون الطبقة المحاربة في تلك العصور، ومنهم «رئيسة دير» تمثل البساطة والطهر، وامرأة أخرى يسميها «زوجة باث» تصور المرأة التي انغمست في شئون الدنيا، ومنهم «قسيس» فقير متقشف لا يزن للدنيا وحطامها وزنا، تراه طيلة اليوم ضاربا في الأرض وعكازته في يده يعظ الناس من قلب مخلص، وإلى جانبه ترى صورة «راهب» تريك كم كان له من الجياد والثياب الجميلة! وكم كان يلهو بالصيد ويكره العمل! فعباءته من فاخر النسج، يحلي أطرافها جميل الفراء، ويشبك غطاء رأسه بمشبك من ذهب تدلت منه شارة الحب، هكذا يصور لك «الراهب» ساخرا هازئا. وفيمن يصورهم كذلك «طالب علم في أكسفورد»، و«رجل قانون» و«طباخ»، و«ملاح»، و«طحان»، و«فلاح»، و«تاجر» إلخ إلخ. وهكذا يصور كل طبقات المجتمع؛ رجال الدين ورجال الأعمال والصناع والزراع والفرسان والمحاربين وغيرهم. ولا يقتصر الشاعر في تصوير إنجلترا في القرن الرابع عشر على الحكايات التي يحكيها الحجاج في رحلتهم، بل يزيد على ذلك تعليقات بين كل حكايتين وأوصافا لمناظر مما يجعل الصورة أشد وضوحا.

وسنقدم لك فيما يلي نموذجا من تصويره للشخصيات في «المقدمة»، فهاك وصفا «لرئيسة دير»:

وكان بين القوم راهبة، هي رئيسة ديرها،

وكانت في ابتسامتها غاية في السذاجة والحياء،

إن أقسمت ف «لوي» القديس أغلظ أيمانها؛

واسمها السيدة «إجلنتين».

إذا رتلت الدعاء المقدس أحسنته ترتيلا؛

فجاء منغما من أنفها أجمل النغم.

وكانت تتكلم الفرنسية في روعة وطلاقة،

تتكلمها بلهجة «ستراتفورد-آت-بو»

10

لأنها جهلت فرنسية، باريس،

وفي تناول طعامها قد أجيد تدريبها؛

فلا تسمح للقمة واحدة بالسقوط من شفتيها،

ولا بللت أناملها في المرق العميق،

لا تسقط منه قطرة على صدرها؛

لأنها تجيد حمل الطعام إلى فيها،

وكانت تمسح شفتها العليا مسحا نظيفا،

ولا ترى على فنجانها ذرة واحدة

من الدهن، حين تشرب شرابها؛

فكانت تبدو بعد طعامها غاية في البهاء. •••

وكانت تفيض إحسانا وإشفاقا؛

حتى لتبكي إن رأت جرذا

أمسكه الفخ فمات أو جرح!

وكان لها عدد من كلاب الصيد تطعمها

بمشوي اللحم واللبن وطازج الخبز،

فإن مات كلب منها بكته بالدمع السخين،

بل كان يبكيها أن يضرب ضارب كلبها بعصاه!

فقد كانت كلها ضميرا حيا وقلبا رحيما.

وحول عنقها حزام محبوك،

هي شماء الأنف رمادية العينين اللامعتين

صغيرة الفم، وكان بضا قانيا،

ولها جبهة لا شبهة في جمالها،

عريضة بعض الشيء فيما أرى،

لا ضيق في أبعادها.

ورأيتها أنيقة الثياب

تطوق ذراعها خرزات من المرجان

وعقدان من خرز خضر «الشواهد»،

وتدلت حلية من ذهب وهاج

نقش عليها «أ» مزخرفة،

ثم كتبت هذه العبارة: «الحب قهار.»

فإذا ما فرغ الشاعر من استعراض أشخاصه في «المقدمة» واحدا فواحدا، بدأ بحجاجه المسير، وأخذوا يحكون، وكان أول من روى «الفارس» فقص قصة من بوكاتشو خلاصتها أن «بالامون» و«أرسيتي» كانا صديقين، ثم تنازعا على فتاة تسمى «إملي»، فكان لا بد لهما من مبارزة لتكون الفتاة للظافر، وفي اللحظة التي كاد يكتب النصر فيها لأرسيتي تدخل «بلوتو» في الأمر وأنزل «أرسيتي» عن جواده، فخرج «بالامون» من المبارزة ظافرا، وتزوج من «إملي». هذه خلاصة لا قيمة لها إلى جانب ما حكاه شوسر في قصته؛ لأنه إنما يرمي قبل كل شيء إلى تصوير الفرسان في ذلك الزمان حين يقتتلون، فكل القيمة الفنية إنما هي في تفصيلات الوصف، وفي نصوع الصورة التي ترتسم في ذهن القارئ، وهكذا قل فيما نعرضه من ملخصات لبعض حكاياته. «فرجل القانون» يروي قصة عن فتاة اسمها «كونستانس» ابنة الإمبراطور الروماني تزوجت من سلطان الشام، على شرط أن يعتنق هذا السلطان العقيدة المسيحية، لكن أم السلطان لا تحتمل ردة ابنها عن دينه فتقتله وتطلق الفتاة هائمة في سفينة على وجه البحر، وتبلغ «كونستانس» بسفينتها «نور ثمبريا» وتتزوج ملكها، لكن أم الملك في هذه المرة أيضا يغضبها هذا الزواج، فتنتهز فرصة غياب ابنها، وتبعد الفتاة عن المدينة، فلا يسع الفتاة إلا أن تعود إلى روما. ويعود الملك فلا يجد زوجته «كونستانس» فيقتل الأم الآثمة، ويرحل إلى روما؛ ليكفر عما اقترف، وهنالك يصادف زوجته.

ويأتي دور «رئيسة الدير» فتحكي حكاية ولد مسيحي صغير قتله اليهود في بلد أسيوي، إذ كان يرتل آيات من الإنجيل.

وهنا ينادي «صاحب الفندق» شوسر،

11

ويأخذ في مداعبته قليلا، ثم يطلب إليه أن يقص على الجماعة قصته، وها هنا تبدو من الشاعر لفتة فنية جميلة؛ إذ قص على السامعين إحدى القصص الخيالية القديمة - حكاية السير توباس - وإنما قصد إلى المعاتبة والنقد، فقصها في صورة الحكايات المنظومة القديمة، فلم يطق صاحب الفندق هذا «النظم الركيك» على حد تعبيره، وطلب إلى الشاعر أن يحكي حكاية أخرى، فروى شوسر قصة نثرية.

ويأتي دور «المحارب» فيروي قصة جميلة عن قمبيز ملك التتار، وابنته «كاناس». فبينما كان قمبيز ذات عام يحيي عيد تتويجه في قصره العظيم، إذا بهذا «المحارب» يجيئه راكبا جوادا سحريا، ويحمل معه خاتما ومرآة فيهما كذلك قوة السحر، فأما الخاتم فيمكن لابسه من فهم لغة الطير والحيوان، ومن معرفة خصائص العشب في معالجة المرضى، وأما المرآة فتبدي لمن ينظر فيها أوجه الأصدقاء والأعداء منزوعا عنها أقنعة الرياء والنفاق، وأما الجواد فيطير براكبه في الجو أنى شاء، وبأية سرعة أراد، وقصة الجواد هذه مأخوذة - على الأرجح - من قصص ألف ليلة وليلة بكل تفصيلاتها، ولم يتمم الشاعر «قصة المحارب» لسبب لا ندريه.

ويحكي «طالب العلم في أكسفورد» حكاية مأخوذة من بوكاتشو، وتحكي «القسيسة الراهبة» حكاية «الديك والثعلب». وهكذا مما لا يغني التلخيص عن قراءته شيئا لترى إلى أي أوج ارتفعت عبقرية شوسر في خصوبة الإنتاج، وفي رشاقة الأسلوب وقوته.

ومما هو جدير بالملاحظة أن شوسر، على الرغم من أنه عاش في عهد امتلأت أيامه بالقلاقل والاضطراب، وعلى الرغم من أنه غاص في تلك الحياة جنديا وسفيرا ورجلا من رجال الأعمال، وعضوا في بلاط الملك، وقاضيا وعضوا في البرلمان وشاعرا، فإنه لم يذكر في شعره حادثة واحدة من كبريات الحوادث التي وقعت في زمانه، وذلك دليل على إيمانه بأن أحداث الحياة المادية مؤقتة عابرة ليست جديرة بالشعر الخالد مهما بلغت جسامتها، وإنما عني شوسر بتصوير الإنسان؛ لأنه كان قبل كل شيء شاعرا.

بقي لنا أن نقول كلمة موجزة في تأثيره في اللغة الإنجليزية نفسها، فقد كان له أثر عميق في توحيد اللغة القومية في البلاد؛ إذ كان ثمت لهجات مختلفة، فلما كتب شوسر بلغة الوسط الشرقي لإنجلترا - وكانت أكثر اللهجات طلاقة وأبسطها في القواعد - لم تلبث أن أصبحت اللغة الأدبية في البلاد كلها، وهذا يذكرنا من جديد بدانتي حين كتب باللهجة التسكانية، فأصبحت بفضله لغة بلاده، كما يذكرنا بسرفانتيز حين كتب باللهجة الكاستيلية (القشتالية)، فجعلها أداة التعبير الأدبي في إسبانيا.

لهذا كان شوسر قمينا أن يكون كما أسماه دريدن

Dryden «أبا الشعر الإنجليزي». (1-2) وليم لانجلاند

William Langland (1332-1400م)

عاش لانجلاند معاصرا لشوسر، فشهد عهدا ملأته الحوادث الكبرى؛ إذ عصفت به عواصف الانقلاب في السياسة والاجتماع والدين، ودارت فيه أعنف المعارك وأبشع الحروب، وتفشى به الطاعون، ففتك بالناس فتكا ذريعا.

وأهم شعره قصيدتان؛ «بيرز الحراث» وقصيدة «أحسن صنيعا»، وكلتا القصيدتين في صورة الحلم، كمألوف ذلك العهد، فتأخذ الشاعر سنة من النوم إذ هو على سفح تل ذات صباح جميل من شهر مايو، فيرى حلما رائعا «رأيتني أدثر نفسي باللفائف، في يوم صائف، حين كانت الشمس رخية، فكنت في هيئة الراعي، أرتدي ثوبا شبيها بمسرح الراهب، ولست أعني الراهب القابع في صومعته، بل الذي يجوس خلال الأرض باحثا عن الأخطار يركبها.»

ويرى «بيرز» في حلمه حقلا جميلا يموج بالناس، وما هو إلا أن تتقدم «الرشوة» لتتزوج من «الزيف»، لكن اللاهوت يتدخل ليمنع الزواج، فتعرض القضية أمام الملك في لندن، وهنا يصف الشاعر مناظر لندن ومناظر الريف. والقصيدة كلها رمزية تشير حوادثها وأشخاصها إلى غير معانيها المباشرة.

وكذلك تتألف قصيدة «أحسن صنيعا» من سلسلة من الأحلام الرمزية.

وأما عن اللغة التي استخدمها «لانجلاند» في شعره، فلم تكن لهجة الوسط الشرقي لإنجلترا «صافية» خالصة - كما هي الحال مع شوسر - إنما هي خليط بين لهجتي الوسط والجنوب. وقد أجرى بعض العلماء مقارنة دقيقة بين شوسر ولانجلاند من حيث الألفاظ، فوجد أن ثمانية وثمانين في كل مائة من ألفاظ مقدمة «بيرز الحراث»، وفي ألفاظ الأربعمائة والعشرين سطرا الأولى من «مقدمة» شوسر، كلمات أنجلوسكسونية أصيلة، وأن عدد الكلمات الفرنسية عند «لانجلاند» كبير نسبيا. والحقيقة هي أنه قبل أن يبلغ القرن الرابع عشر ختامه، كانت الألفاظ الفرنسية قد شاعت في اللغة الإنجليزية، فلم يستطع شوسر أو لانجلاند، أو أي كاتب آخر اجتنابها إذا أراد أن يعبر عما في نفسه تعبيرا كاملا تاما؛ فقد كانت الفرنسية عندئذ لغة المحاكم والسياسة ولسان الملك وحاشيته، ولم يبطل استخدامها بصفة قاطعة إلا في منتصف القرن الخامس عشر، أي بعد موت شوسر ولانجلاند بخمسين عاما.

وخلاصة القول أن الشاعرين كليهما استخدما نسبة واحدة من الألفاظ الإنجليزية الأصيلة والألفاظ الفرنسية الدخيلة، غير أنهما يعودان فيختلفان في الاتجاه والصبغة؛ فشوسر يصطبغ باللون النورماندي، ولانجلاند تسوده النزعة السكسونية. ويصف شوسر طبقة الموسرين والمحاربين الذين يعيشون في شيء من البذخ، فيتناول بقلمه قصور النبلاء وحصون الفرسان ومدن التجارة والصناعة. أما لانجلاند فيتجه ببصره نحو الفقراء فيصف لنا من ساء غذاؤهم وشق عليهم العمل، ويصور حياة الريف التي أبهظها وأضناها الظالمون من الطبقات العالية، بل التي أرهقها وأذواها قانون الدولة. وكذلك يختلف الشاعران في الاتجاه الأول نفسه، فشوسر يصور بقلمه أفرادا ذوي معالم محدودة وألوان ناصعة، حتى إنك لتصادف في أدبه كل أنماط الناس في العصور الوسطى، أما لانجلاند فيعنى بجموع الدهماء، وينصت لأنينهم وشكواهم، وكان شعره أول صيحة بعثها الأدب الإنجليزي في سبيل الديمقراطية. وشوسر أشمل نظرا من لانجلاند، فبينا تراه يجيل البصر في العناصر الإنسانية المشتركة بين شعوب العالم أجمع، ترى لانجلاند يقصر نظره على بلاده، حتى قيل عنه إنه بحق الإنجليزي الصميم. يعرض لنا شوسر أشخاصا ضاحكين يمرحون ويرفلون في فاخر الثياب، ويعرض لانجلاند الطبقات العاملة منهوكة القوى في أداء واجبها بأمانة وبسالة، لكنهم صفر الوجوه، يرتدون الأسمال. (1-3) جور

Gower (1327-1408م)

كان «جور» صديقا حميما لشوسر، ولد قبله ببضع سنوات ومات بعده ببضع سنوات، وله ثلاث من طوال القصائد؛ كتب إحداها بالفرنسية، والأخرى بالإنجليزية، والثالثة باللاتينية. فأما الفرنسية فقصيدة «مرآة المفكر»، وأما الإنجليزية فهي «اعتراف المحب»، وأما القصيدة اللاتينية فعنوانها «صوت إنسان يصيح». وكانت الفرنسية التي كتبها هي اللغة الفرنسية النورماندية،

12

التي أطلق عليها فيما بعد «فرنسية ستراتفورد-آت-بو» وهي اللهجة التي أشار إليها شوسر في تصويره الدير في «مقدمة» حكايات كانتر بري، وكذلك كتب «جور» بالفرنسية مجموعة أشعار عنوانها «خمسون حكاية منظومة».

لبث «جور» طوال حياته تقيا ورعا، ولما أدركته الشيخوخة اعتزل مع زوجته في أحد الأديرة، وقد أجزل الإحسان للكنيسة التي دفن فيها، والتي لا نزال نرى فيها قبره الجميل، حيث رقد جثمانه واستند رأسه على مجلدات ثلاثة اشتملت على قصائده الثلاث. وكان «جور» موسرا نبت في أسرة مجيدة، وقد اتصل بالقصر وصادق الملك رتشارد الثاني، وكان لهذا الملك سيئات وآثام لم يشأن جور أن يسجلها له في قصيدته «صوت إنسان يصيح» مع أنه استعرض في القصيدة كافة سيئات العصر. وإلى «جور» أهدى شوسر قصته العظيمة «ترويتس وكرسدا».

ولسنا نزعم أن شعر «جور» قد بلغ حدا بعيدا من الجودة والروعة، بل إن الأمر على نقيض ذلك؛ فقصائده باردة الشعور، ضعيفة التركيب، رتيبة النغم، ولا يقرؤها إلا قلة من الناس، لكنه برغم ذلك كله جدير بمكانة عالية في تاريخ الأدب الإنجليزي؛ لأنه يمثل في أدبه التقاء اللغات الثلاث التي كانت مستعملة في إنجلترا مدى قرون متتابعة، فكتب قصائده الثلاث بتلك اللغات المختلفة كما أسلفنا، أما اللاتينية فقد كانت أداة الكتابة عند العلماء جميعا منذ القرن السابع حتى القرن السادس عشر. وأما الفرنسية النورماندية فقد لبثت أمدا طويلا سدا منيعا في وجه اللغة الإنجليزية، فلا تسمح لأصحاب العبقرية والمواهب أن يدفعوا بلغتهم الأصيلة إلى مكان السيادة. وها نحن أولاء بصدد أديب يقف في مفترق الطرق مترددا بين اللغات الثلاث، ولعله لم يكتب بعض شعره بالإنجليزية إلا بعد أن ضرب له شوسر المثال فاحتذاه، وقد أنشأ «جور» قصيدته الإنجليزية «اعتراف المحب» في أبيات مثمنة المقاطع مزدوجة القافية، وهي تتألف من عدد يزيد على خمسة عشر ألفا من الأبيات، وتقع في خمسة أجزاء. وهذه القصيدة إنما كتبت بدعوة من الملك الشاب رتشارد الثاني؛ ولذلك أهداها عند أول إخراجها إليه، لكنه عاد بعد ذلك فأهدى طبعتها الثانية لدوق لنكستر الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الرابع.

وأما قصيدته الفرنسية «مرآة المفكر» فتتألف من ثلاثين ألفا من الأبيات على وجه التقريب، تدور كلها حول الفضائل والرذائل.

ثم قصيدته اللاتينية «صوت إنسان يصيح»، وقد أوحى له بها ثورة الفلاحين في مقاطعة «كنت» عام 1381م بسبب فداحة الضرائب، وكان «جور» صاحب أرض في تلك المقاطعة، ولا بد أن يكون قد لحقه الأذى.

وظهر في القرن الرابع عشر شاعران آخران هما «جون لدجت»

John Lydgate

و«توماس أكليف»

Thomas Occleve ، وبعد ذلك تدهور الشعر الإنجليزي قرنا كاملا هو القرن الرابع عشر، وأخذت ترد أنغام الشعر الغنائي من الشمال، حيث طائفة من الشعراء الأسكتلنديين الذي اقتفوا أثر شوسر دون أن يقتصروا على تقليده، بل كانت لهم شخصياتهم المستقلة التي زادها خصوبة واستقلالا ما أضافوه من ألفاظ أسكتلندية، وسنستعرض هؤلاء الشعراء بعد قليل. (2) كتاب النثر في القرن الرابع عشر

أمسك بزمام النثر في القرن الرابع عشر ثلاثة كتاب، هم «السير جون ماندفيل» و«جون ويكلف» و«جوفري شوسر»، ولم تكن براعة هؤلاء الكتاب في أدب مبتكر، بل بدت قدرتهم على الكتابة النثرية فيما ترجموه عن اللغات الأخرى. وسنعرض موجزا قصيرا لكل منهم. (2-1) السير جون ماندفيل

Sir John Mandeville

هذا اسم أطلق إطلاقا على أديب مجهول ترجم عن الفرنسية كتابا عنوانه «رحلات السير جون ماندفيل»، والراجح أن المؤلف الأصلي لهذا الكتاب طبيب فرنسي اتخذ لنفسه اسم «جون ماندفيل»، ليكون ضربا من التنكر الأدبي. ويقول المؤلف عن نفسه إنه أنفق أربعين عاما في خدمة «السلطان» وفي خدمة «الخان الأعظم» إمبراطور الصين، وفي الرحلة في ربوع آسيا وأفريقيا. ويظن أنه نشر كتابه هذا سنة 1356م فترجمه بعضهم إلى اللاتينية، ثم تناوله كاتب آخر فترجمه إلى الإنجليزية، فجاءت الترجمة مثالا من أروع ما كتب بالإنجليزية في ذلك العهد لما فيه من سلامة وتدفق، بل إن هذا الكتاب ليعد من أمتع الآيات في الأدب الإنجليزي كله؛ ففيه مجموعة من القصص الرائعة، وهو في مجموعه بمثابة «دليل» يهدي المسافر إلى «الأرض المقدسة»، فالكاتب الفرنسي، الذي يطلق عليه عادة اسم «يوحنا ذو اللحية أو يوحنا البرجندي

Jean de Bourgogne »، قد صور هذه الشخصية الخيالية «السير جون ماندفيل» على نحو ما ابتكر «سويفت

Swift » شخصية «جلفر»، وكما خلق «دفو

Defoe » شخصية «روبنسن كروسو»، ثم أطلق السير جون ماندفيل هذا يضرب في الأرض مرتحلا من بلد إلى بلد، فيزور بيت المقدس والصين وغيرهما، ويجمع أثناء رحلته قصصا من أي كتاب يصادفه، يجمعها من كتب الرحلات مثل كتاب ماركو بولو،

13

ومن كتب الحكايات الخرافية ومن كتب الأحلام وغير ذلك. ويذكر للقارئ أعجب ما رأى خلال رحلته، من ذلك - مثلا - أنه رأى أهل القاهرة يفقسون البيض بطريقة صناعية، وأنه رأى شجرة تنتج صوفا (يقصد القطن)، ويؤكد للقارئ عقيدته بأن الأرض كروية، ودليله أنه لو بدأ الملاحون من بلد وساروا بسفينتهم في اتجاه واحد، فإنهم يعودون من جديد إلى البلد الذي بدءوا منه الرحلة. والألفاظ التي اختارها المترجم غاية في السهولة كأنما جرت بها براعة كاتب حديث، ولذة الكتاب راجعة إلى سذاجته وإلى الصور الزاهية المختلفة التي يرسمها آنا بعد آن.

وشاع الكتاب في القرنين الرابع عشر، والخامس عشر شيوعا عظيما، يدلك على مقداره أن بين أيدينا اليوم ثلاثمائة نسخة مخطوطة بقيت منذ ذلك العهد. وقد تواضع بعض النقاد على تسمية «ماندفيل» «أبا النثر الإنجليزي» - كما عد شوسر أبا للشعر - لكن هذا اللقب يتنازعه أيضا «جون ويكلف» و«السير تومس مور»، على أن النثر الإنجليزي كانت له بدايات عدة، ولا يجوز أن ننسب ابتداءه لكاتب واحد كائنا من كان. (2-2) جون ويكلف

Gohn Wyclif (1324-1384م)

كان «ويكلف» يمقت البابوية مقتا شديدا، فحفزه ذلك إلى الكتابة ضدها، ولكنه لم يلبث أن اتهم بخروجه على الدين وحوكم على زندقته سنة 1377م، فأرسل في حمايته دوق لانكستر قوة مسلحة تصحبه إلى دار المحكمة، ثم حدث أثناء المحاكمة أن نهض هذا الدوق - وقد أرهقته المناقشات الطويلة - وأعلن أنه لو أدانت المحكمة صديقه «ويكلف»، فلن يتردد في أن يجر الأسقف من شعره، حتى يخرجه من الكنيسة التي كانت تجري المحاكمة في حرمها، وعندئذ انفضت الهيئة الدينية التي كانت منعقدة لمحاكمته، ثم حوكم «ويكلف» مرة أخرى لخروجه على الدين أيضا، ونجا من العقاب بفضل «أميرة ويلز».

وإنما يحتل «ويكلف» مكانته في الأدب الإنجليزي؛ لأنه ترجم «الكتاب المقدس» إلى لغة بلاده؛ إذ نقل إلى الإنجليزية «العهد الجديد» (الإنجيل)، واستعان بآخر

Hereford

في ترجمة «العهد القديم» (التوراة)، وكانت الترجمة نقلا عن اللاتينية، واستطاع أن ينقله إلى نثر قوي سلس مستقيم العبارة، لكن هذا العمل الأدبي الجليل قوبل من أعدائه بالسخط، حتى إنهم أخرجوا جثمانه من قبره، وأحرقوه، وذروا رماده في نهر قريب. (2-3) شوسر

Chaucer

لقد درسنا شوسر شاعرا، وها نحن نثبت له في النثر أثره، وإن يكن ضئيلا إلى جانب شعره، فأول ما نسجله له أنه كتب نثره كله بالإنجليزية؛ لأنه آثر لغته القومية على اللاتينية والفرنسية، وخير ما أنتجه في النثر ترجمته لكتاب «بيثيس

Boethius »

14

وعنوانه «عزاء الفلسفة»، وكذلك كتب نثرا حكاية القسيس وحكاية أخرى حكاها هو باعتباره حاجا من الحجاج في «حكايات كانتر بري». (3) الشعر في القرن الخامس عشر

كان القرن الخامس عشر حقبة مجدبة في تاريخ الشعر الإنجليزي لم يكد يشهد نصفه الأول شاعرا واحدا، ثم ظهر في نصفه الثاني ضرب من الشعر هو «الحكايات المنظومة»

Ballads

ومعظم «الحكايات المنظومة» لم يجد سبيله إلى الكتابة أو الطباعة، بل أخذ ينشده المنشدون وينصت إليه السامعون، معتمدين في روايته على الذاكرة وحدها، على أن هذه «الحكايات المنظومة» لم تحتفظ بصورة واحدة، وإنما تغيرت وتبدلت حسب الظروف المكانية والمشاعر القومية، مثال ذلك أن يسمع إنجليزي حكاية منظومة عن عشيرة في اسكتلنده، فيحفظها ثم يرويها في بلده بعد تعديل بعض أجزائها، بحيث تناسب المقام الجديد، وهكذا تدور الحكاية المنظومة في مختلف الأرجاء، فيضاف إليها هنا ويحذف منها هناك، ويتعاورها التغيير والتبديل في مختلف البلدان. فتكون في نهاية طوافها شيئا جديدا اشترك في صياغته عدد كبير من الناس، وكان المنشدون الطوافون يتغنون بالحكايات المنظومة على القيثارة في المدن والقرى والفنادق والحانات والأسواق، وكان لكل حكاية منها نغمة خاصة عرفت بها، وأحيانا تشترك عدة حكايات في نغم واحد، وعلى كل حال فقد كانت هذه الحكايات المنظومة تجد آذانا مصغية أينما تغنى بها المنشدون أو عزف ألحانها العازفون على القيثار، واختصت كل جماعة من العمال بأغان آثرتها على غيرها وأصبحت كأنها شعار لهم يتغنى بها كل منتسب إلى تلك الصناعة المعينة.

وجدير بنا في هذا المقام أن نحدد على وجه الدقة ما يراد «بالحكاية المنظومة» في الآداب الأوروبية، فهي قصيدة قصصية قصيرة، لقارئها أن يتلوها تلاوة أو يتغنى بها، وهي مزيج من «شعر الملاحم» و«الشعر الغنائي». وقد تتخذ بعض الحكايات المنظومة قالبا تمثيليا فيه حوار بين أشخاص، وأما موضوع «الحكاية المنظومة» فقد يكون بطولة المحاربين أو مغامرة المحبين أو عجائب بلاد الجن، والخيال فيها ساذج جامح، والشعور عميق يصور عواطف الإنسانية بأسرها، وكثيرا ما تتخير المواقف والمناظر التي تثير في السامعين الحزن والشجن. تلك هي المميزات العامة للحكاية المنظومة، على أن بعضها يقوم على أساس من التاريخ مع تغيير في الحوادث من حيث الزمان والمكان والأسماء، بحيث لا تكاد تتبين فيها من الحقيقة التاريخية شيئا.

وهنا قد يسأل سائل: ومن نظم تلك الحكايات؟ والجواب أن تاريخ الأدب لا يسمي من شعرائها أحدا. فقد كان في إنجلترا قبل شوسر بقرون عدة طائفة من هذه الحكايات المنظومة، وأخذت تنتقل من جيل إلى جيل، ومن بلد إلى بلد، ويطرأ عليها أثناء انتقالها ما تحدثنا عنه من ألوان التغيير التي تقتضيها مشاعر الناقل أو ظروف المكان المنقولة إليه ، فهي حكايات «نظمها الشعب للشعب» كما يقولون، وشاعت أمثال هذه الحكايات المنظومة الشعبية في ألمانيا والدنمركة وغيرهما من أقطار أوروبا. ومما يلفت النظر أن معظم الأقاصيص التي ترويها تلك المنظومات الشعبية مشتركة في مختلف البلاد، وكلما وجد النقاد هذا الأساس المشترك جزموا بقدم المنظومة إلى ما قبل عهد الكتابة، وكان الناس يتغنون ببعض هذه المنظومات عند الحرث والبذر والحصاد، ويتغنون ببعضها الآخر عند الزواج، ويرتلون طائفة منها عند دفن الموتى، ولبثوا كذلك طوال القرون الثلاثة: الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، ومع ذلك فلم تجد سبيلها إلى الطباعة حتى جاء القرن الثامن عشر.

ومن أشهر الحكايات المنظومة مثلا:

منظومة «سير باترك سبنس» وهي تروي قصة مأساة وقعت في القرن الثالث عشر، وذلك أن ملك اسكتلنده أرسل حملة حربية إلى النرويج عام 1285م لتحمل «فتاة النرويج» إلى اسكتلنده كي يتزوج منها ولي عهد البلاد، لكن السفينة تحطمت فوق الصخور وحلت بالحملة كارثة فادحة، ومنظومة «تشفي تشيس

Chevy Chace » تصف رحلة صيد قام بها «إيرل نورثمبرلاند» والتقاءه بعصبة «دوجلاس» جاء فيها:

بدأ القتال صبيحة الاثنين

على سفوح «الشفيات» العالية؛

مشهد يحزن له الطفل وهو جنين

يا لها من مأساة باكية! •••

خمسمائة وألف من حملة الحراب الإنجليز

لم يعد منهم سوى ثلاثة وخمسين!

وألفان من أصحاب الرماح الاسكتلنديين

لم ينج منهم سوى خمسة وخمسين!

وفي منظومة «الفتاة السمراء» يجري الحوار بين العاشق ومعشوقته على نحو جميل، وقد قال عنها ناقد إنها أبدع قصيدة التقى فيها الشعر الشعبي والشعر الفني، والبطل في هذه المنظومة من أتباع «روبن هود» [وهو رئيس عصبة مشهور في الأساطير] يحاول أن يسبر غور معشوقته ليرى مقدار ثباتها على حبه، فيقول (ونعتذر للقارئ عما يفقده الأصل في الترجمة من نغم حلو ولفظ سلس جميل):

أنا الفارس، جئت في الليل الدامس،

في ستر خفي،

أصيح وا حسرتى، هذي كما رأيت حالتي!

كالمبعد المنفي

فتجيب «الفتاة» قائلة:

يا حبيب الفؤاد، ما الداهي، ما العادي؟

عجل بربك ما الخبر؟

فليس لي في النفس، سواك دون الإنس،

لست أحب إلاك بين البشر.

فينبئها أنه قد أتى أمرا وقع به تحت طائلة القانون، وأنه لا مندوحة له عن الفرار إلى جوف الغابة، فتعرض عليه أن ترافقه إلى مخبئه من الغابة، لكنه يبين لها ما عساها أن تواجهه من مشاق وصعاب، فتصر على أن تشقى في رفقته، فيذكر لها احتمال أن تجده الشرطة، وأن يكون مصيره الشنق، فلا يكون جوابها سوى أن تكرر «لست أحب إلاك بين البشر.» فيعترض عليها بأنه لا يطمح في اختطاف ابنة رجل من علية القوم، لكنها تجيبه بأنها لا تستطيع الحياة بعد فراقه، ثم يلقي بآخر سهم عنده فيعلنها بأنه يحب امرأة سواها أروع منها جمالا، فلا تتحول الفتاة عن ثباتها، وعندئذ يفصح لها عن جلية الأمر قائلا: إن ذلك كله لم يكن سوى اختبار يمتحن به حبها له، ثم يختتم اعترافه قائلا:

الآن اسمعي لي، إلى «وستمورلند» سبيلي

فهي ضيعتي

وهناك سوف أدعوك، خاتما سوف أهديك؛

لتكوني زوجتي.

ستكونين في صحبتي، ستكونين زوجتي،

غير مبطئ ولا وئيد

إن من اتخذته حبيبا، لم يكن إلا حسيبا،

وما هو بالطريد.

ومن هذا المثال تستطيع أن ترى أوضح ما يميز «الحكاية المنظومة» من بساطة الفكرة واستقامة التعبير.

وما دمنا قد ذكرنا «روبن هود»، فجدير بنا أن نتحدث عنه قليلا في هذا الموضع؛ إذ كان شخصية دارت حولها «الحكايات المنظومة»، حتى بلغ ما كتب عنه عددا يقرب من الخمسين، ولسنا ندري هل كان «روبن هود» شخصا حقيقيا أو وهميا، فيقال إنه عاش في عهد هنري الثاني، وإنه كريم المحتد، غير أنه شرد بحكم القانون لسبب لا ندريه، وصحبه في تشريده صحبة من الإخوان، وأووا جميعا إلى «الغابة الخضراء»، حيث يصيدون غزلان الملك، ويسطون على الأغنياء، ويعاونون الفقراء، كصعاليك العرب، واشتهروا برقتهم وعطفهم على الأطفال والنساء، ولم يلبث «روبن هود» أن أصبح رمزا يشير به الناس إلى كراهيتهم لما كان سائدا عندئذ من قوانين حددت بها الحكومة حق الصيد في الغابات.

هكذا كان للحكايات المنظومة شأن أي شأن في القرن الخامس عشر. تصدر من قلوب الناس في غير تكلف ولا تصنع، تتحدر على الشفاه جيلا بعد جيل، لكن نشأت المطبعة وشاعت الطباعة، فزالت «الحكاية المنظومة» شيئا فشيئا؛ ذلك لأن أصحاب المطابع شرعوا ينشرونها مطبوعة، فاستأجروا لها الشعراء يصلحونها فأفسدوها، وزال عنها ما كان طابعا مميزا لها، وهو السذاجة والبعد عن التكلف. •••

وظهرت في القرن الخامس عشر طائفة من الشعراء الاسكتلنديين قرضوا الشعر بلهجة بلادهم، واللهجة الاسكتلندية لون من الإنجليزية أصابها بعض التغير، وليست هي لغة مستقلة قائمة بذاتها.

15

وأول من استخدم اللهجة الاسكتلندية في قرض الشعر ملك اسكتلندي شاعر هو جيمس الأول (1394-1436م)، وقد اعترضته في حياته مأساة أليمة، ذلك أن عمه حبس عن أخيه القوت حتى مات، فخشي أبوه أن يصيب ابنه جيمس ما أصاب أخاه، فأرسله إلى فرنسا في طي الخفاء لينجو به من براثن عمه، لكن سفينة إنجليزية وجدته في طريقه إلى الفرار. فقبضت عليه وعادت به إلى لندن، حيث زج به في «البرج» وفي غيره سجينا مدى ثمانية عشر عاما، غير أنه لم يلق عنتا في سجنه. وجاء له ساجنوه بمن يتعهده بالتعليم والتثقيف، فشجعه هؤلاء على دراسة آيات الفن والأدب، وقد أعجب الطالب السجين بشوسر وجور ولدجت، حتى أطلق عليهم «القادة»، وأنشد وهو في سجنه قصيدة عنوانها «كتاب الملك» تكريما لسيدة تزوج منها فيما بعد، وقد اغتيل في قلعته بعد زواجه بثلاثة عشر عاما، وكان جيمس في قصيدته تلك متأثرا بشوسر. وبفضل تلك القصيدة نشأت في اسكتلنده طائفة من الشعراء تنسج على المنوال نفسه في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، فبحر القصيدة هو نفس البحر الذي آثره شوسر، وهو الذي يقسم القصيدة مقطوعات كل منها تتألف من سبعة أسطر تجري قوافيها على هذا النحو: أ - ب - أ - ب - ب ج - ج.

وقيل عن جيمس إنه «خير من أنشد الشعر بين الملوك وخير من تولى الملك بين الشعراء.» (3-1) روبرت هنريسن

Robert Henryson (1430-1500م)

كان في زمرة الشعراء الاسكتلنديين الذين اقتفوا أثر شوسر، وقد كتب «وصية كرسدا» يعقب بها على قصة شوسر «ترويتس وكرسدا» كما كتب «حكاية أورفيوس» وقصيدة «روبن وماكين» وهي حوار لطيف بين راع وراعية، وهذه القصيدة لها شهرة في تاريخ الأدب الإنجليزي من «الشعر الريفي»، على أن أوضح ما امتاز به «هنريسن» هو نظمه لخرافات إيزوب،

16

وقد استطاع أن يقصها في شعر سلس جذاب تشيع فيه الفكاهة على نحو لا يقصر فيه باعا عن «لافونتين» كاتب الخرافات الفرنسي الذي يعده العالم أجمع أمير هذا اللون من الأدب.

وتبدأ مقدمة «الخرافات» بحلم يظهر فيه «المستر إيزوب أمير الشعراء» وينبئ «هنريسن» أنه (أي إيزوب) من أسرة نبيلة، وأن موطنه الأصلي مدينة روما، ثم يأخذ في رواية حكاياته الخرافية. (3-2) وليم دنبار

William Dunbar (1460-1513م)

لو استثنيت «بيرنز

Burns »،

17

كان «دنبار» أعظم شاعر أنجبته اسكتلنده في كل عصورها، وهو بغير شك أفحل من شهده الأدب الإنجليزي بين شوسر وسبنسر.

أراد له ذووه منذ نعومة أظفاره أن يكون للكنيسة، حتى اعتادت مربيته أن تطلق عليه «الأسقف الصغير»، فلما فرغ من دراسته الجامعية وظفر بالأستاذية في الآداب عام 1479م، اتصل بطائفة دينية معينة تحتم على عضوها أن يجوب البلاد سائلا. فأخذ يرتحل من بلد إلى بلد يعظ ويطلب الإحسان، لكنه لم يلبث أن ضاق ذرعا بهذه الحياة، وانسلخ عن تلك الطائفة، بعد أن أفاد خبرة واسعة من تجواله، وخالط أفرادا من أعلام القوم، وجمع بملاحظته الدقيقة تجارب عن دقائق الحياة وبواطن النفوس، كانت خير عون له حين شرع في إنشاء شعره.

كان «دنبار» قد بلغ الثلاثين من عمره حين هجر حياته الدينية، والتحق بخدمة القصر الملكي في اسكتلنده، وبعث في بعوث سياسية كثيرة إلى ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وإسبانيا، ولا شك أنه زار لندن فيما زاره من بلدان خلال رحلاته. ولما دنا القرن الخامس عشر من ختامه استقر به المقام في أدنبره، وظل على اتصاله بالقصر، حتى أصبح أميرا للشعراء، وعرف في إنجلترا باسم «رب القوافي في اسكتلنده»، ثم حدث عام 1501م أن أرسل عضوا في سفارة بعث بها إلى لندن لتفاوض في زواج جيمس الرابع من «مرغريت»

18 - وهي من أسرة تيودور المالكة في إنجلترا إذ ذاك - وتم الزواج فعلا عام 1530م، فأنشأ دنبار قصيدة جميلة تكريما لهذه المناسبة عنوانها «الحسك والوردة»، وسرعان ما انعقدت أواصر الصداقة بين الشاعر والملكة، ووضعته الملكة في رعايتها، ولبث الشاعر متصلا بالقصر، حتى خرج مع الملك في موقعة حربية عام 1513م، وهنا تختلف الرواية، فمن قائل إنه لاقى منيته في تلك الموقعة، ومن قائل إنه اختفى حيا، حتى مات عام 1530م، والرواية الأولى أقرب إلى الصواب.

وأجود قصائده: «الحسك والوردة» و«الدرع الذهبية» و«رثاء الشعراء»، و«رقصة الخطايا السبع الفاتكة»، وتعد هذه الأخيرة آية شعره، ففيها قوة في التعبير، وروعة في التصوير، فضلا عما تمتاز به من رشاقة وتنوع وفكاهة ودراسة دقيقة لطبائع البشر. وكان «دنبار» في معظم شعره متأثرا بشوسر، واختار لبعض قصائده البحر الذي كان كثيرا ما يستخدمه شوسر، وقد تقدم وصفه، وهاك نموذجا نقتطفه من قصيدة «الحسك والوردة»:

لما انقضى مارس برياحه الهوج،

وأقبل أبريل برذاذه الفضي،

وهب على الطبيعة بريح من الشرق،

وأعقبه مايو الزاخر بالأزاهير؛

انطلق الطير مغردا

بين الورود الشذية أبيضها وأحمرها،

فكان اتساق ألحانها متعة للسامعين. •••

كنت نائما في مخدعي حتى الصباح،

فخلت فلق الفجر بأعين من بلور

يطل من نافذتي ليبدأ النهار،

ويحييني بوجه فيه خضرة وشحوب،

وعلى كفه قبرة تغرد له تغريدا متلاحقا: «قم، انهض، هب من نعاسك

انظر كيف انتعش الصباح الزاخر بالحياة.» •••

وظننت «مايو» النضر أمام مخدعي قائما

في ثياب ازدانت بشتى الأصباغ،

رزينا هادئا يفيض بعنفوان الحياة

يتلفع بثوب ناصع من نضر الزهور

ذوات الأصباغ الفاتنة، بيضاء، حمراء، قاتمة، زرقاء،

يعلوها الندى وتصبغها أشعة الشمس بلون عسجدي؛

فتشيع في الدار كلها أضواء شعاعها. (3-3) جاون دوجلاس

Gawain Douglas (1474-1522م)

ظفر «دوجلاس» بدرجة الأستاذية في الآداب من جامعة «سنت أندروز» - وهي الجامعة التي تخرج فيها عدد كبير من أعلام اسكتلنده - وهو في العشرين من عمره، ثم عين في منصب ديني، لكن طوائف الدين وأحزاب السياسة لم تلبث أن نشب بينها نزاع عنيف، ففر شاعرنا هاربا إلى إنجلترا قاصدا لندن، وما أقام طويلا في تلك المدينة، حتى تفشى بها الطاعون فقضى عليه.

وله في الأدب ثلاثة آثار تستحق الذكر، وهي «قصر الشرف» و«القلب الملك» وترجمة «الإنياذة»؛ أما القصيدتان الأوليان فتتخذان أسلوب الرمز وتتبعان الطريقة التي سادت في الأدب الإنجليزي، بل في معظم الأدب الوسيط في أوروبا كلها، منذ القرن الثاني عشر، وأعني بها طريقة الحلم، فيأخذ الشاعر نعاس ذات صباح من شهر مايو الجميل إذ هو سائر في حديقة غناء، ويرى في حلمه آلهة ينبئونه كيت وكيت.

وقصيدة «القلب الملك» قصة الصراع بين البدن والروح، وأما آيته الكبرى التي استحق بها الذكر في تاريخ الأدب، فهي ترجمته للإنياذة؛ إذ أبدى براعة عظيمة في نظمها، ولقد قدم لكل جزء من الملحمة بقصيدة مبتكرة، وفي هذه المقدمات الشعرية أظهر الشاعر نبوغه، ومما هو جدير بالذكر - في هذا الصدد - أن هذه الترجمة لإنياذة فيرجيل كانت أول ما نقل إلى الإنجليزية من الأدب اللاتيني، وقد استخدم «دوجلاس» في ترجمته القافية المزدوجة.

وهذه أبيات - في الشمس - مأخوذة من مقدمته للأغنية الثانية عشرة من الإنياذة:

مرحبا ربة الضياء ومصباح النهار!

مرحبا منشئة العشب الأخضر الرقيق!

مرحبا مسرعة النماء في الزهور ذات البريق!

مرحبا ربة الكروم والجذور كلها!

مرحبا منضجة الحب والفاكهة بكل صنوفها!

مرحبا يا مأوى الطير فوق الغصون !

مرحبا يا من لسلطانه تدين السنون!

مرحبا يا صابغة المروج المزهرة!

مرحبا يا روح الحياة المثمرة!

مرحبا يا كافلة البقاء لكافة الحيوان!

مرحبا بشعاعك الوهاج وكلنا به فرح نشوان. (4) النثر الإنجليزي في القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر

الشعر أسبق من النثر ظهورا في آداب العالم كلها، لكن النثر لم يبطئ في بلد مثلما أبطأ في إنجلترا؛ فقد لبث الشعر قائما وحده قرونا عدة قبل أن تبدأ الكتابة النثرية، لهذا قد يسارع القارئ إلى الحكم بأن القرن الخامس عشر الذي أجدب في الشعر الإنجليزي، لا بد أن يكون أشد إجدابا في النثر؛ لأنه إذا تلكأت حركة النهوض بالشعر، فالأرجح أن تتلكأ معها نهضة النثر، لكن عاملا جديدا نشأ في القرن الخامس عشر كان من جرائه أن تغيرت أوضاع الأمور؛ ذلك أن بدأت المطبعة حياتها في إنجلترا في القرن الخامس عشر على يدي «وليم كاكستن». والطباعة أفعل أثرا في نشر النثر منها في استنهاض الشعر؛ لأنها تعمل على بذر بذور العلم والعرفان، وما أداة العلم سوى الكتابة النثرية، أضف إلى ذلك أن صاحب المطبعة إن أراد لبضاعته رواجا عمد إلى نشر ما يصادف الهوى عند عامة الناس كالقصص، أما الشعر فأدب أرستقراطي إلى حد ما، لا يقبل على قراءته إلا فئة قليلة، فالأرجح - إذن - أن تبدأ المطبعة بنشر المنثور قبل المنظوم، وفي هذا ما فيه من تشجيع الأدباء على الكتابة نثرا.

شهد القرن الخامس عشر بداية قوية في النثر تمثلت في كتاب «سير تومس مالوري» «موت آرثر»، إلا أن النثر برغم هذه البداية الجيدة لم يقنع، فأخذ يجود ويجود حتى إذا ما شرع بيكن في ختام القرن السادس عشر يكتب «مقالاته» كان قد انتقل النثر من العبارة الفضفاضة القصصية المنحلة المفككة إلى الجمل القصيرة الواضحة المركزة المصقولة.

وسنعرض فيما يلي أنبغ الناثرين في ذلك العهد: (4-1) سير تومس مالوري

Sir Thomas Malory (1430-1480م)

لسنا ندري من حياته إلا قليلا، وحسبنا علما به أنه كاتب الآية الخالدة «موت أرثر»، وهذا الكتاب المشهور مقتبس من الحكايات الفرنسية القديمة التي رويت عن «الملك أرثر» الذي اتخذه سكان إنجلترا وشمال فرنسا معا بطلا في أساطيرهم، وتكون قصصه في مجموعها شيئا أقرب ما يكون إلى الملحمة التي تدور حول حياة ذلك الملك وموته، وتروي الأعاجيب عن بطولة فرسانه الذي يطلق عليهم «فرسان المائدة المستديرة»، وفرغ الكاتب من كتابه هذا عام 1470م وطبعه «كاكستن» سنة 1485م، ونثر الكتاب يتميز بالأسلوب القصصي والبساطة القوية، ولم يلق كتاب من الرواج بين قراء القرن السادس عشر ما لقيه هذا الكتاب، ثم أصبح فيما بعد مصدرا استقى منه كثير من الكتاب الإنجليز مادة أدبهم.

وهذا نموذج نقتبسه منه يدل بعض الدلالة على أسلوب مالوري:

كيف حصل «أرثر» بمعونة «مرلين» على سيفه «إكسكالبتره» من «سيدة البحيرة» «رحل الملك يرافقه زميله، وبلغا راهبا في صومعته، وكان رجلا صالحا، فأخذ الراهب يفحص للملك جروحه، ثم أعطاه لها بلسما شافيا، ومكث الملك عنده ثلاثة أيام التأمت فيها جروحه التئاما يمكنه من الركوب والسفر، فاستأنف السير، وبينما هما في الطريق راكبين، قال أرثر: «لست أحمل سيفا.» فأجاب «مرلين»: «على مقربة منا سيف سيكون سيفك لو استطعت إلى ذلك سبيلا.» ولبثا راكبين حتى أقبلا على بحيرة نقية الماء فسيحة الأرجاء، ورأى أرثر في وسطها ذراعا حولها كساء أبيض، وفي قبضتها سيف جميل، قال «مرلين»: «انظر! ذلك هو السيف الذي حدثتك عنه.» ثم ما لبثا أن شاهدا فتاة تسير فوق ماء البحيرة، فسأل أرثر: «من تلك الفتاة؟» فقال «مرلين»: «تلك سيدة البحيرة، وإن في جوف البحيرة لصخرة، وإلى جوارها مكان كأجمل ما ترى فوق الأرض من مكان، وستأتيك تلك الفتاة بعد حين قصير، فلاطفها في الحديث تمنحك ذلك السيف.» وما عتمت الفتاة أن أقبلت نحو أرثر وحيته. فرد لها التحية، ثم قال: «أيتها الفتاة! ما ذلك السيف الذي ارتفعت به تلك الذراع فوق سطح الماء؟ وددت لو كان سيفي؛ لأنني لا أحمل سيفا.» فأجابت الفتاة: «أيها الملك أرثر، إن السيف سيفي، وهو لك إن وهبتني هبة حين أطلبها.» فقال أرثر: «أقسم لك بشرفي إني معطيك تلك الهبة التي تطلبين.» فردت الفتاة: «اذهب إذن في ذلك الفلك وادفعه بالمجداف، حتى تبلغ مكان السيف، فخذه مصحوبا بغمده، وسأطلب هبتي حين تسنح لي فرصة لذلك.» فترجل سير أرثر ومرلين وربطا جواديهما إلى شجرتين، وأقلعا بالسفينة، حتى إذا ما بلغا مكان السيف الذي ارتفعت به اليد أمسكه السير أرثر بمقابضه وعاد به، وعندئذ غاصت الذراع وغاصت اليد في جوف الماء، ثم بلغ الرجلان الشاطئ، وامتطيا الجوادين وأخذا في المسير.»

ذلك هو الكتاب وهذا مثال منه، ولسنا نذكره إلا ذكرنا معه القصيدة الرائعة التي كتبها «تنسن» - الشاعر الإنجليزي في القرن التاسع عشر - وعنوانها «أناشيد الملك»، وهي مستمدة من هذا الكتاب، بل لم يفعل «تنسن» في بعض أجزائها سوى أن حول نثرها إلى نظم جميل. (4-2) السير تومس مور

Sir Thomas More (1478-1535م)

ولد في لندن، وتعلم في أكسفورد، وهنالك تملكته رغبة شديدة في دراسة اليونانية، ولما كان في عامه العشرين ربطته أواصر الصداقة بالعالم الهولندي الذائع الصيت «إرزم»، وأخذا يتراسلان ما بقيا على قيد الحياة. وقد اختير «مور» عضوا في البرلمان سنة 1504م نائبا عن جزء من مدينة لندن، واتصل فيما بعد بالملك هنري الثامن، ثم أخذ يعلو في مناصب الدولة صعدا، حتى إذا ما سقط «ولزي» - كبير الوزراء في عهد هنري الثامن - تولى مكانه «تومس مور»، لكنه لم يلبث أن لمح في الجو السياسي مشكلات معضلات تنشأ من طلاق الملك لزوجته كاترين، فاعتزل منصبه وأوى إلى الريف. غير أن الملك هنري الثامن حمل البرلمان على أن يدعو كل من تولى الوزارة في الماضي إلى جانب من كانوا يتولونها عندئذ، ليقسم الجميع يمين الإخلاص لقانون أصدره إذ ذاك يعلن فيه أن زواجه من الملكة كاترين لم يكن زواجا شرعيا، وأن رئاسة البابا أصبحت منسوخة ملغاة في البلاد، فرفض «مور» أن يقسم كما طلب إليه، فلم يتردد الملك في إعدامه.

وأشهر ما خلفه لنا «مور» هو كتابه المعروف «يوتوبيا»

19 - أي المدينة الفاضلة - وقد نشره باللاتينية أول الأمر سنة 1516م، ثم ترجم إلى الإنجليزية عام 1551م،

20

وأهم ما كتبه «مور » بالإنجليزية كتاب «تاريخ إدورد الخامس ورتشارد الثالث»، كتبه سنة 1513م، لكنه لم ينشر إلا سنة 1543م.

ويتحدث «مور» في كتابه «يوتوبيا» على لسان رحالة جاب البلاد وطوف، ثم ألقى مراسيه في تلك الجزيرة الخيالية، وأخذ يصف لنا أوضاع الحياة الصميمة فيها، فاستطاع في سياق قصته أن يعرض صورة واضحة لأوجه الإصلاح التي كانت بلاده في أمس الحاجة إليها.

لا ريب في أن «مور» استوحى في كتاب «يوتوبيا» جمهورية أفلاطون، كما أوحى بدوره لبيكن أن يكتب «أطلنطس الجديدة» ولغيره من الكتاب أن يكتبوا أحلامهم في مستقبل الإنسانية على هذا النحو من الخيال.

إنه ليتعذر عليك أن تفهم روح النهضة بمعناها الصحيح، إلا إذا ذكرت أن العصر كان عصر كشف عن قارة جديدة كما كان عصر استكشاف للتراث الأدبي القديم، وما عساه أن يحدث في النفوس المستنيرة من لذة ومتاع، فشهدت النهضة أعظم الرحالة، وأنبغ الشعراء في آن معا، فكان من الطبيعي لأديب أنقضت ظهره سيئات عصره، وأخذ يجيل البصر لعله واجد للمجتمع الإنساني أملا جديدا. من الطبيعي لأديب النهضة - وتلك حاله - أن يطير على جناح الخيال إلى إحدى تلك الجزائر القصية التي كشف عنها المغامرون، فهنالك إذن في جزيرة جديدة وقع الشاعر بخياله فوجد مجتمعا سعيدا، وواجبه أن يصفه لبني قومه لعلهم يصلحون ما في أنفسهم من فساد. (5) المؤرخون

كان التاريخ مجال الناثرين منذ نشأ النثر في الأدب الإنجليزي، وقد بدأ مزيجا من الحقيقة والأساطير، ثم تطور وسار نحو الدقة شيئا فشيئا، حتى بلغ في ذلك شأوا بعيدا في القرن الخامس عشر والنصف الأول من السادس عشر، وهو العهد الذي نتحدث الآن عنه، وتولت كتابته جماعة من المؤرخين لا نرى المقام يتسع لذكرهم. (5-1) هيو لاتمر

Hugh Latimer

21 (1491-1555م)

ومن الناثرين في ذلك العهد «هيو لاتمر» الذي تخرج في جامعة كمبردج عام 1510م، والتحق بمناصب الكنيسة قسيسا فأسقفا، وقد جاهد في سبيل الإصلاح الديني في عهد الملك إدورد السادس، فلما وليت العرش الملكة ماري زج في برج لندن، ثم أحرق.

ويتألف إنتاجه الأدبي من «عظات دينية» كتبها في أسلوب ينبض بالحياة ولا تشوبه شائبة من حذلقة علمية، فهي أقرب إلى الحديث وأدنى إلى السمر الخفيف، فأسلوبه في «عظاته» على نقيض الأسلوب اللاتيني القديم؛ إذ هو يميل دائما إلى البساطة، واستقامة التعبير والجدة، ويؤثر قصار الجمل على طوالها.

والعبارة الآتية مثال نسوقه دليلا على وضوح أسلوبه واستقامة عبارته، وبعدها عن التواء التركيب:

كان أبي مزارعا لا يملك أرضا، فكل ما لديه مزرعة تدر عليه ثلاثة جنيهات أو أربعة كل عام على أكثر تقدير، وكان يجيد فلاحتها، بحيث تكفي غلتها طعاما لستة رجال، وكان يملك حظيرة تسع من الأغنام مائة، وكانت أمي تحلب ثلاثين بقرة ... لقد بعث بي إلى المدرسة وإلا ما استطعت أن أعظ الآن بين يدي جلالة الملك. (5-2) روجر أسكام

Roger Ascham (1515-1568م)

ومن كتاب النثر أيضا في النصف الأول من القرن السادس عشر «أسكام» وهو مشهور بكتابته في الرمي بالسهام وفي التربية، تخرج في جامعة كمبردج؛ حيث انكب على دراسة اليونانية وتدريسها لصغار الطلاب، وقد أغرم برمي السهام منذ صدر شبابه، وألف فيه كتابا قدمه إلى الملك هنري الثامن وله من العمر ثلاثون عاما، فصادف الكتاب عند الملك قبولا حسنا، وقرر لكاتبه راتبا سنويا لا بأس به، وبعد ذلك بثلاثة أعوام عين مربيا للأميرة اليصابات، التي كانت في دراستها ذكية جادة، وخصصت لقراءة اليونانية على أستاذها بضع ساعات كل يوم. وأما كتابه الثاني فموضوعه التربية، وعنوانه «المعلم»، ولم ينشر إلا بعد موت كاتبه. وعلى الرغم من تعمق أسكام في دراسة اليونانية، كان يؤثر في كتابته الألفاظ الإنجليزية الخالصة، على الكلمات المزوقة الثقيلة المشتقة من اللاتينية واليونانية، وكان يسمي مثل هذه الألفاظ «ألفاظ المحبرة» يريد بذلك أنها نتيجة الدراسة العلمية لا ثمرة للحياة الشعبية. وقد كتب في مؤلفه عن رمي السهام يقول: «أنا أكتب في هذا الموضوع الإنجليزي باللغة الإنجليزية ليقرأه الإنجليز.»

وفيما يلي عبارة مأخوذة من هذا الكتاب، يعلل بها ما أصاب رياضة الرمي بالسهام من تدهور:

أما صغار الأطفال فلا يمارسون، وأما الشباب فخوفا ممن يكبرونهم لا يجرءون، والعقلاء من الرجال لاشتغالهم بما هو أهم لا يريدون، والشيوخ لعجز في قواهم لا يستطيعون، والموسرون جشعا لا يبالون، والفقراء لنفقاتها وتكاليفها لا يقدرون، وأرباب الأسر هما لا يأبهون، والخدم يمسكهم سادتهم في المنازل معظم الوقت فهم على تركها مرغمون، والصناع يكدحون لكسب القوت، فالفراغ لا يجدون، ويبدؤها كثيرون، ثم تعوزهم المهارة فلا يمضون، وفئة كبيرة من الرماة يمهرون فيها ثم يهملون، فعامة الناس - لهذا السبب أو ذاك - عن الرماية يرغبون.

22 (6) المسرحية وكتابها في عصر النهضة

تستمد المسرحية أصولها من الطبيعة البشرية ذاتها، فالأطفال يحبون «التمثيل» بطبعهم، فيمثلون في لعبهم ألوانا من الحياة المحيطة بهم، تراهم مرة يلعبون دور البائع والشاري، ومرة أخرى يلعبون دور الجنود المحاربين يتقاذفون الأحجار وهكذا، فالفعل والحديث والضحك عناصر الملهاة، والفعل والحديث والبكاء عناصر المأساة.

وقد نشأت المسرحية الإنجليزية أول ما نشأت في الشعائر والطقوس الدينية، ففي وقت أن كانت الكثرة الغالبة من الشعب الإنجليزي تجهل القراءة، أخذ رجال الكنيسة يعلمونهم ما جاء في الكتاب المقدس من أنباء وحوادث بتمثيلها، فيلبس رجل الدين ثيابا معينة ترمز لشخص ورد ذكره في الإنجيل، ثم يتحرك ويتكلم على نحو يصور للناس ما يريد تصويره لهم، فنتج عن هذا التمثيل الديني نوعان من الرواية التمثيلية، أو إن شئت فقل لونان من نوع واحد: «روايات الألغاز الغامضة»

23

و«روايات المعجزات»،

24

أما رواية «اللغز الغامض» فتدور حول أشخاص الكتاب المقدس وأحداثه، وأما «رواية المعجزة» فتوضح ما لقيه القديسون الصالحون إبان الحياة من حوادث. وأول ما كتب من روايات الألغاز الغامضة كتب ومثل باللاتينية، وكانت الكنائس نفسها مسارح التمثيل، ورجال الكنيسة هم الممثلون.

أما «رواية المعجزة» فقد بدأت في أوائل عهد الملك إدورد الثالث (1327-1377م) تمثل بالإنجليزية، واختاروا لتمثيلها أعياد الكنيسة التي كانت أيام عطلة للسادة والدهماء والأغنياء والفقراء على السواء، وموضوعها - كما قدمنا - أبناء القديسين ومعجزاتهم، والقائمون بتمثيلها رجال الكنيسة أنفسهم، لكنها أخذت - على مر الزمن - تنتقل من أيدي رجال الدين إلى «نقابات العمال في المدن»، فكانت كل نقابة تعد لنفسها مركبات تسير الواحدة منها على أربع عجلات أو ست، وتقيم فوق كل عربة بناء من طابقين، في أسفلهما يرتدي الممثلون ثيابهم ويصبغون وجوههم، وفي أعلاهما يمثلون الرواية التي أعدوها، وما نظارتهم إلا جمهور الناس في الطريق. فإذا ما فرغوا من تمثيلها في مكان، انتقلت بهم العربة إلى مكان آخر، حيث يعيدون تمثيلها وهكذا، فكأنما كانت المدينة كلها مسرحا واحدا عظيما في العراء. وكان الناس يقبلون على رؤية التمثيل مؤثرين هذه المتعة على أعمالهم. وكثيرا ما كانت تشترك عدة مركبات في تمثيل رواية واحدة، فتقف متباعدة بعضها عن بعض ليمثل كل منها مكانا معينا من الأمكنة التي وقعت فيها أحداث الرواية. فإن كانت القصة طويلة ذات حلقات متتابعة كان الأغلب أن تشترك في تمثيلها عدة نقابات، فتقوم كل نقابة بتمثيل حلقة واحدة، فمثلا جرى العرف في أحد الأعياد أن يقوم «دباغو الجلد» بتمثيل «سقوط الشيطان»، ثم يقوم «البزازون» بتمثيل «خلق العالم وسقوط الشيطان»، ثم يمثل «السقاءون» قصة «الفيضان ونوح». وكان على كل نقابة أن تعد الأثاث والثياب وغير ذلك مما يطلب لتمثيل الحلقة الخاصة بها، مثال ذلك، أن يعد الذين يمثلون أرواح الصالحين (في رواية «يوم الحساب») جلودا بيضاء يكتسون بها رمزا للطهر والنقاء، وأن يعد الذين يمثلون أصحاب النار ثيابا من التيل يلونونها بأصباغ سوداء وصفراء وحمراء لتوحي إلى الناظرين بنار الجحيم.

وقد بقي لنا حتى اليوم مثال من «رواية المعجزة» في أول مراحلها - أعني حين كانت تمثل داخل الكنيسة - عنوانها «القديس نقولا» كتبت باللاتينية في القرن الثاني عشر بقلم كاتب إنجليزي يسمى «هلاريوس

Hilarius »، وكانت تمثل هذه الرواية في الكنيسة التي بنيت تمجيدا لذكرى القديس نقولا، ففي عيد مولده كانوا يزيلون تمثال القديس من مكانه في الكنيسة ليحل محله في الضريح ممثل يرتدي ثيابا شبيهة بالثياب التي يكتسي بها القديس في تمثاله، وتقف الصلاة والشعائر القائمة يومئذ فترة قصيرة، يدخل فيها «وثني» غني فاخر الثياب، ويضع كنزه الثمين إلى جوار الضريح، ويدعو القديس أن يرعى الأمانة أثناء غيابه في رحلة يعتزم القيام بها، ثم تدخل جماعة من اللصوص وتلوذ بالكنز هاربة، وبعدئذ يعود الوثني فلا يجد أمانته، فيرفع سوطا في يده ويشرع في الهوي به على القديس جزاء ما أهمل، وهنا يتحرك التمثال (هو في الحقيقة ممثل يقف مكان التمثال)، ويغادر المكان ويتحدث إلى اللصوص حيث هم، فيفزع اللصوص إذ يرون القديس قد ارتدت إليه الحياة، ويعيدون الكنز المسروق.

وكذلك لدينا من «روايات المعجزة» في طورها الثاني - أي حين انتقلت إلى أيدي نقابات العمال تمثلها في الطرق بدل الكنائس - مجموعات أربع سميت بأسماء المدن التي كانت تنتجها وتمثلها، وهي:

مجموعة «يورك» وقوامها ثمان وأربعون رواية كتبت في منتصف القرن الرابع عشر، ومجموعة «ويكفيلد»، وتشتمل على اثنتين وثلاثين رواية كتبت في منتصف القرن الخامس عشر، ومجموعة «كفنتري» وتحتوي على اثنتين وأربعين رواية كتبت في القرن الخامس عشر، واخيرا مجموعة «تشستر» وفيها أربع وعشرون رواية كتبت في ختام القرن الخامس عشر.

وقد كتبت هذه الروايات في أبحر متباينة أشد ما يكون التباين، تلتزم القافية أحيانا والجناس أحيانا، وترى فيها مقطوعات غنائية ترد في السياق آنا بعد آن. وكانت هذه المدن الأربع تستعير الروايات بعضها من بعض، لكننا نستطيع القول بوجه عام إن كل مدينة منها استقلت بمجموعاتها وتميزت بها.

كانت الأعياد الدينية - كما أسلفنا - أهم المناسبات لتمثيل هذه الروايات التي توضح مناظر الكتاب المقدس، وتبين معجزات القديسين، لكنهم لم يقتصروا على تلك الأعياد، بل كانوا ينتهزون غيرها من المناسبات كحفلات الزواج، وزيارات الملوك وسفر الحجاج إلى فلسطين وغير ذلك من أيام يحتشد فيها الناس، وكانت العادة أن تكنس الشوارع في أمثال تلك الأيام وتزين بالأعلام وأكاليل الزهر والشموع والمصابيح وغير ذلك. وإن يوما من هذه الأيام ليضرب مثالا لما امتاز به من زينة، وذلك أن أهل لندن كانوا قد أساءوا إلى رتشارد الثاني، فأرسل إليهم الملك أنه قد عفا عنهم، وأنه معتزم زيارة لندن في موعد حدده لهم (29 أغسطس سنة 1393م)، فبذل أهل لندن كل ما في وسعهم لتمجيد ذلك اليوم استرضاء لمليكهم، فأخذت نقابات العمال واحدة بعد أخرى تسير في شوارع المدينة مرتدية أفخر الثياب، ويحيط بها الأقزام والعمالقة، وتحمل معها أمساخا وصنوفا من غريب الحيوان اجتلبتها من البلاد النائية، بل أعد الناس لذلك اليوم غابة صناعية وضعوا فيها أنواعا من الحيوان، فأطلقوا فيها الثعابين والأسود، ووضعوا بها دبا ونمرا وفيلا وقردة، وتركوها تعدو وتقفز ويقاتل بعضها بعضا، هذه صورة ليوم تبين كيف كان يحتفل القوم ببعض أيامهم، وفي مثل تلك الأيام كانت تمثل الروايات في الميادين، وعند تقاطع الطرق لتشهدها جموع الناس .

لكن «روايات المعجزات» كانت بالطبع تتميز بالجد والرصانة ما دامت تمثل حوادث الإنجيل وأبناء القديسين، فلا بد للقوم، في فترات تقع حينا بعد حين، من لون مرح يخفف عن أنفسهم كربها، ولهذا أعدت بعض المناظر المضحكة تتخلل المشاهد الجادة، وهكذا دخلت عناصر الملهاة. ومن الموضوعات التي وقع عليها المنظمون لتلك المناظر المضحكة في كثير من الأحيان، النزاع بين الرجل وزوجته، فذلك - فيما يظهر - ميدان خصيب للملهاة منذ نشأتها، فكنت تراهم يصورون نزاعا يقع بين نوح وزوجته، في صور مختلفة، لكن زوجة نوح كانت في كل حين امرأة جموحا تأبى أن تركب الفلك مع زوجها، وفيما يلي نموذج للحوار الذي كان يدور في مثل هذا المنظر، فيعجب السامعين:

نوح :

السفينة معدة وآن لها أن تقلع، فتعالي معي أي زوجتي الصالحة!

الزوجة :

ماذا؟ أدخل السفينة وأغادر الأرض اليابسة؟ كلا، ثم كلا، لا تحاول ذلك معي، فلدي كثير من عمليات الشراء لا بد من إنجازها.

نوح :

لكن الفيضان آت وستغرقين.

الزوجة :

كلا، لست أخشى ذاك.

نوح :

ها هو ذا المطر يزداد غزارة، لقد طال بانهماره الأمد، حتى ليخيل إلي أن لا حد لهطوله، فبالله تعالي واتخذي مكانك من السفينة.

الزوجة :

السفينة؟ ماذا تعني؟ أي سر هذا الذي أخفيته عني طوال هذه السنين؟ لماذا لم تستشر زوجتك في هذا؟

نوح :

سر! لا سر في الأمر، لقد لبثت قرنا كاملا أعد هذه السفينة، وكان بوسعك أن تريها في الفناء أي وقت شئت من هذه الأعوام المائة .

الزوجة :

قد يكون ذاك، لكني لا أميل إلى ركوب السفينة، فأنا أستطيب الإقامة حيث أقيم، ولا تعجبني البتة حياة فوق سطح الماء، وليس في نيتي أن أرحل.

نوح :

ولكنك ستغرقين، ولا ريب.

الزوجة :

هل أعددت في سفينتك مكانا لرفيقاتي لكي أتحدث إليهن أحاديثي المستفيضة التي أعددتها؟ إنه لا غنى لي عن الثرثرة في مثل هذه الجماعة، أما أن تزجني في سفينة كبيرة، وليس إلى جانبي أحد أحدثه، فتضعني في زمرة الوحش والطير والزواحف فلا! أواه! إن مجرد الفكرة في ذهني حري أن يصيبني بالدوار. (وهنا تلطم زوجها فوق أذنه.)

نوح :

أي زوجتي الصالحة! اهدئي. (وتدخل الزوجة في نهاية الأمر سفينة زوجها، لكنهما يواصلان النزاع أثناء الرحلة حينا بعد حين.)

ولما استهل القرن الخامس عشر، شاع لون آخر من الرواية التمثيلية، أطلق عليها «المسرحية الخلقية»؛

25

لأنها تقصد إلى درس في الأخلاق تلقنه النظارة. ومن مميزات هذا النوع، أن شخصيات الرواية لم يكونوا أشخاصا من الناس، بل طائفة من المعاني المجردة، كالفضائل والرذائل، وقد أعجب الناس بهذا اللون من تجسيد المعاني؛ لأن القصائد الرمزية كانت شائعة في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فكأنما تهيأت بها النفوس لروايات أساسها الرمز بالأشخاص إلى المعاني، ومن المعاني التي ألف الكتاب أن يرمزوا لها عندئذ «الخطايا السبع القاضية»، و«العدالة» و«الحقيقة» و«السلام» وغيرها، وكانت «الشخصية» الرئيسية في أمثال هذه الروايات الخلقية هي «الرذيلة»، وقد أخذت شخصية «الرذيلة» شيئا فشيئا تكتسب خصائص معينة؛ لأن ممثلها كان دائما يركن إليه في التهريج والتنكيت وتدبير الأضاحيك؛ لأن الناس كانوا في حاجة إلى عنصر التخفيف عن النفس في رواية تثقل بحوادثها وعظاتها. ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن هذه الشخصية أخذت تتطور في المسرحية الإنجليزية، حتى أصبحت عند شيكسبير شخصية «المضحك» التي يلجأ إليها في مآسيه للتخفيف من شدة المأساة على المشاهدين (كما نرى في رواية «الملك لير»).

ثم تفرع عن المسرحية نوع جديد، كانوا يمثلونه في حفلات الطبقة العليا ومآدبها، ليملئوا به الفراغ بين مرحلتين متعاقبتين من مراحل الاحتفال لتسلية الحاضرين وإدخال السرور على نفوسهم، ويمكن أن نطلق على هذا النوع من المسرحية «رواية الفترة»

26

وهي - بالطبع - قصير مليئة بأسباب المرح.

وأول رواية من هذا القبيل كتبها «جون هييود

John Heywood » عام 1521م في عهد الملك هنري الثامن، وأجود هذا النوع رواية عنوانها «الباءات الأربعة»، وإنما سميت كذلك؛ لأنها تقص عن أربعة أشخاص هم: حاج وقسيس وصيدلي وبائع جائل، والألفاظ الدالة على هذه المهن في الإنجليزية تبدأ كلها بحرف «

ب»،

27

وتتلخص الرواية في أن نزاعا نشأ بين الحاج والقسيس أيهما أنفع في السمو بالروح، فيقول الحاج لبيان فضله إنه سافر في بلاد كثيرة، وإن خير ما يصلح الروح هو السفر. فيجيب القسيس قائلا: إن مجرد الرحلة قد لا يفيد أن الراحل قد أفاد شيئا من رحلته، فربما عاد كما سافر دون أن يضيف إلى علمه شيئا جديدا. وهنا يدخل الصيدلي فيفاخر الآخرين بعلمه الواسع بالسموم والعقاقير. ثم يدخل البائع الجائل فيضع حمل بضاعته فوق الأرض، ويعرض ما لديه من صنوف مختلفة، لكنه لا يجد بين الحاضرين شاريا. ويتفق الثلاثة الآخرون على أن يحكموا هذا البائع الجائل في موضوع الخلاف: أي المهن الثلاث تفيد الروح؟ ويرفض البائع أن يكون حكما في مثل هذه المشكلة العسيرة، ولكنه يلحظ في الرجال الثلاثة مقدرة على تلفيق الأكاذيب، فيقول إنه قمين أن يبين لهم أيهم أقدر على الكذب. وهنا يأخذ كل منهم في حكاية قصة يتعذر على العقل تصديقها، وفاز بالجائزة الحاج؛ لأنه قرر أنه زار كثيرا جدا من بلاد الأرض، منها الريف ومنها الحضر، وتحدث إلى ألوف وألوف من النساء، لكنه لم يصادف بينهن امرأة واحدة تهورت وانفعلت واحتدت في النقاش، وتلك بالطبع أكذوبة الأكاذيب وأعجوبة الأعاجيب.

ونلاحظ أن «رواية الفترة» ضرب من «الرواية الخلقية» إلا أنه يتميز بالقصر، فضلا عن إهماله للرمز وبعده نوعا ما عن قصد التعليم والتلقين، و«رواية الفترة» من ناحية أخرى تسير بالمسرحية خطوة في طريق التطور؛ لأنها كانت تمثل داخل الدور لا في العراء، وكانت تمثل للطبقة الممتازة لا للطبقة الوسطى والدنيا من الدهماء.

وكما شهد أوائل عهد هنري الثامن «رواية الفترة»، شهد لونا آخر من المسرحية يطلق عليه «رواية القناع» ورد إلى إنجلترا في ذلك الحين من إيطاليا. ورواية القناع قصيرة وتصاحبها الموسيقى ويشترط فيها أن تكون مناظرها زاهية الألوان، وأن يلبس الممثلون فيها ثيابا مزخرفة، وأن يسايرها رقص. ولا يمثل «رواية القناع» ممثلون محترفون، بل يقوم بتمثيلها السادة والسيدات أنفسهم، كل يضع على وجهه قناعا يتنكر به. وقد بقي هذا النوع من التأليف المسرحي في إنجلترا حتى القرن السابع عشر، فكان من كتابه الأعلام «بن جونسن» و«بومنت» و«فلتشر» و«ملتن» كما سيأتي بعد، حين نتحدث عن هؤلاء الأدباء في القرن السابع عشر. •••

كانت «روايات المعجزات» - كما رأيت - يؤلفها ويمثلها رجال النقابات، كما كان يمثلها قبل شمامسة الكنيسة، فلما أخذت الروايات التمثيلية تبعد عن موضوعات الدين شيئا فشيئا، وتخوض في أمور دنيوية، بدأ اتجاه جديد نحو تدريب فئة خاصة من الناس على صناعة التمثيل، ومن هنا سار التمثيل في طريقه إلى الاستقلال عن النقابات الصناعية وعن الكنائس ورجالها ليصبح فنا قائما بذاته، وبدأت تتكون فرق التمثيل على نحو عجيب، وذلك أن تألفت لكل قصر من قصور الأشراف والنبلاء فرقة خاصة به، بحيث لا تسمح الحكومة لفرقة تمثيلية أن تباشر عملها إلا إذا انتسبت لواحد من هؤلاء، ثم تطور الأمر خطوة جديدة، إذ شرعت تلك الفرق تضرب في أنحاء البلاد لتعرض على الناس تمثيلها كلما مرت بإحدى المدن، ولكنها في تجوالها ظلت محتفظة بانتسابها لهذا أو ذاك من طبقة الأشراف خشية أن يطبق عليها قانون التشرد فينزل بها أليم العقاب.

وإن كان ذلك كذلك فأول المسارح التي شهدتها إنجلترا لم تكن إلا أبهاء القصور وأفنية الفنادق، فإن كانت الفرقة التمثيلية في مقر سيدها وراعيها، مثلت رواياتها في بهو قصره تسلية له ولذويه، وإن كانت مرتحلة نزلت في الفنادق العامة، وأقامت تمثيلها في أفنيتها؛ إذ كان لكل فندق في إنجلترا فناء في وسط البناء أعد لمركبات النزلاء، وكان يطل على الفناء من اضلاع البناء الأربعة شرفة طويلة تمتد بامتداد الجوانب الأربعة، وكانت الغاية منها أن تكون طريقا للوصول إلى غرف الفندق. في هذا الفناء الذي تحيط به شرفة ذات أضلاع أربعة كانت تمثل الروايات إذا ما حلت بالمدينة فرقة تمثيلية، وكانوا يقيمون مصطبة في أحد جوانب الفناء لتكون مسرحا للتمثيل، وكانت تلك المصطبة - بالطبع - يظللها جزء من الشرفة البارزة من جوانب البناء، فكانوا يستخدمون الجزء من الشرفة الواقع فوق المصطبة في تمثيل «الغرفة العليا» أو «الحصن» إن اقتضت ظروف الرواية حصنا أو غرفة عليا، ولم يكن في المسرح عندئذ مناظر مرسوم لتوهم المتفرج ببيئة معينة، كأن يتخيل أن القوم في بحر - مثلا - أو في غاية أو غير ذلك، بل تواضع الممثلون على أن يعلقوا سبورة إلى جانب المسرح يكتبون عليها المكان الذي تقع فيه الحوادث المعروضة على المسرح، وعلى النظارة أن يتخيلوا، كأن يكتبوا عليها مثلا «هذه غابة كذا.» أو «هذا حصن كذا.» أو «هذه مدينة كذا.» وكلما اقتضى التمثيل تغيير المكان محي المكتوب على السبورة، وكتب اسم المكان الجديد، وهكذا. وأما النظارة فقسمان؛ قسم يقف أو يجلس في الفناء نفسه أثناء التمثيل، وقسم آخر يجلس في الغرف أو في الشرفة المحيطة بالفناء في موضع يمكنهم من السمع والرؤية. وجدير بنا أن نلاحظ في هذا المقام أن صفوف المقصورات التي تمتد في مسارحنا اليوم ما امتد الجدار إن هي إلا تهذيب للمسرح الأول، فهي تقوم مقام غرف النوم التي كانت تحيط بفناء الفندق، وفيها كان يجلس نزلاء الفندق، ويرون ما يدور فوق المسرح.

ثم لم يلبث المسرح الحقيقي أن بدأ حياته حين أنشئ أول مسرح مستقل بذاته عام 1576م على مقربة من لندن، وإنما نشأ على غرار ما اعتاده الناس؛ فناء مكشوف في الوسط تحيط به شرفة أو شرفات بعضها فوق بعض. وكان لبعض النظارة الحق في أن يجلسوا على جوانب مصطبة التمثيل ذاتها لقاء أجر إضافي يدفعونه. ولم يكن في فرق التمثيل الأولى ممثلات، بل قام بأدوار النساء غلمان. وقد كان للمسرح عند أول إنشائه في لندن بعض التقاليد، منها أن يقف «مضحك» الفرقة عند نهاية كل فصل، فيغني أغنية يشير فيها إلى أهم الحوادث والأشخاص مما كان يشغل الأذهان. ومنها أن يجثوا الممثلون إذا ما فرغوا من تمثيل الرواية، ويرتلوا دعوات معينة أن يحفظ الله مليكة البلاد (الملكة اليصابات). ومنها أن يبدأ التمثيل عصرا حول الساعة الثالثة دائما، وأن يعلن البدء بثلاث نفخات في بوق، وإذا كانت الرواية مأساة روعي في تذكرات الدخول أن تكون حمراء. ولم يكن بالمسرح الأول مناظر - شأنه في ذلك شأن التمثيل في الفندق - بل كان يكتفي في تعيين المكان بما يكتب على لوحة أو سبورة معلقة إلى جانب المسرح. •••

وما دمنا نتتبع المسرح الإنجليزي في أصوله، فجدير بنا أن نختم القول بخلاصة وجيزة لأول ما شهد المسرح الحقيقي من روايات بمعناها الصحيح:

أول ملهاة منظمة مثلت باللغة الإنجليزية، رواية عنوانها «رالف رويستر دويستر» ومؤلفها هو «نقولا يودل

Nicholas Udall » (1505-1556م) الذي كان ناظرا لمدرسة إيتن فناظرا لمدرسة وستمنستر، وكانت العادة في أمثال تلك المدارس الخاصة الكبرى أن يمثل الطلاب في مناسبات معينة روايات تنتخب من الأدب اللاتيني القديم، فرأى «يودل» أن يطالع الناس بشيء جديد يميز مدرسته من سواها، وهو أن ينشئ لطلابه رواية إنجليزية؛ فألف هذه الملهاة التي نحن الآن بصددها، فكانت أول ما شهدت اللغة الإنجليزية من ملاه كتبت على أصول فنية، وإن لم تكن من الطراز الأول في الأدب. وخلاصتها أن «رالف» كثير المفاخرة بنفسه على أساس كاذب، وهو فدم أحمق يثير الضحك بغفلته، تراه يطلب الزواج من أرملة مخطوبة لغيره، ولا يرى في ذلك غضاضة ولا شذوذا.

والملهاة الثانية هي «إبرة الجدة جيرتن» كتبها «جون ستل

John Still » (1543-1607م)، وخلاصتها أن هذه الجدة العجوز كانت تصلح سراويل خادمها، فافتقدت إبرتها ولم تجدها، وتصادف أن مر بدارها سائل مخبول، فأنبأها أن امرأة معينة سرقت إبرتها؛ وهنا تنشأ معركة حانية يشترك فيها عدد كبير من أهل القرية، ثم وجدت الإبرة مغروزة في السراويل التي كانت تصلحها حيث تركتها.

وأما أول مأساة في اللغة الإنجليزية فرواية «جور بودك» اشترك في تأليفها كاتبان هما «تومس ساكفيل

Thomas Sackville » و«تومس نورتن

Thomas Norton »، وقد مثلت هذه الرواية أمام الملكة اليصابات في العام الثالث من حكمها، وكانت هذه أول مسرحية إنجليزية كتبت بالشعر المرسل. وخلاصتها أن كان لجور بودك - ملك بريطانيا العظمى - وملكته «فيدينا» ولدان هما «فركس» و«بوركس»، وحدث أن قسم جور بودك ملكه بين ولديه، فاقتتل الولدان وانتهى الأمر بهما أن قتل «بودكس » أخاه «فركس»، فأقسمت فيدينا لتثأرن لولدها المقتول من ولدها القاتل، وطعنته الطعنة القاضية وهو نائم، فثار الشعب الإنجليزي لهذا الانتقام الشنيع تقترفه أم ضد ولدها، وفتك بالملك والملكة معا. ويلاحظ أن هذا القتل كله لم يكن يحدث على المسرح، إنما كان يخرج إلى النظارة رسول ينبئ بما حدث في سياق الحوار بين الممثلين.

وإنما أوحى بهذه البواكير من الملهاة والمأساة روايات «بلوتس» و«سنكا» الكاتبين الرومانيين القديمين، فعلى أساس أولهما قامت الملهاة الحديثة، وعلى أساس ثانيهما نهضت المأساة، ولكن وحيهما لم يكن إلا قطرا لم يلبث أن انهمر غيثا في شيكسبير ومعاصريه، وموضع ذلك فصل قادم.

الفصل السادس

الأدب الإنجليزي في عصر اليصابات

(1) الشعر في عهد اليصابات

في سنة 1557م - قبل أن تبدأ اليصابات حكمها الزاهر بعام واحد - أخرج ناشر يدعى «توتل

Tottel » مجموعة من الأغاني والمقطوعات الشعرية، باتت تعرف في تاريخ الأدب باسم «متفرقات توتل»، ولما كانت هذه المجموعة الشعرية تعبر عن روح النهضة الجديدة، عدت فاتحة للشعر في عصر اليصابات العظيم.

وفي هذه المجموعة ما يقرب من ثلاثمائة قصيدة أنشدها شعراء مختلفون، لكننا نخص منهم بالذكر شاعرين، هما «سري» و«ويت»؛ إذ كانا أول من أدخل «المقطوعة الشعرية»

1

في الأدب الإنجليزي، ثم كان «سري» - فوق ذلك - أول من أنشأ شعرا مرسلا بين الأدباء الإنجليز، وقد أطلق على هذين الشاعرين «نجما الفجر التوأمان»، فهما إذن طليعتان للمدرسة الحديثة في الشعر الإنجليزي. (1-1) سير تومس ويت

Sir Thomas Wyatt (1503-1542م)

ولد «ويت» في «كاسل آلنجتن» في مقاطعة «كنت» بإنجلترا، ولم يتم عامه الخامس عشر حتى أتم معه الدراسة الجامعية في كمبردج، واتصل بالبلاط الملكي، فارتبط بأواصر الصداقة مع الملكة «آن بولين»،

2

وقد تعددت جوانب المهارة في «ويت» فكان مبارزا بالسيف ماهرا، وكان عازفا على القيثار بارعا، وكان محدثا يستوقف الأسماع، وأتقن من اللغات الأجنبية الفرنسية والإيطالية والإسبانية، وكان يسفر لمليكه «هنري الثامن» عند الإمبراطور شارل الخامس. ولم يسلم من وساوس هنري التي كادت لا تستثني أحدا من أعوانه، فلقي «ويت» نصيبه من السجن حينا من الزمن، وحدث في عام 1942م أن أرسل الإمبراطور شارل الخامس سفيرا له في إنجلترا، فأمر «ويت» أن يستقبل السفير الجديد، ويصحبه إلى لندن، فركب شاعرنا إلى الميناء في يوم عاصف، وهطلت عليه الأمطار في الطريق، فأصابته الحمى، ولم يكد يأوي إلى فراش المرض حتى أسلم الروح، وله من العمر تسعة وثلاثون عاما.

ويتألف إنتاجه الأدبي من مقطوعات شعرية وقصائد غنائية وحكم منظومة ومواويل، وهو متأثر فيها جميعا بالشعراء الإيطاليين بصفة عامة، وبيتراك على وجه أخص. وروح الشاعر في شعره إنما تجلو روح النهضة بأسرها، في العودة إلى نماذج الأقدمين يحتذيها، وفي اتساق الأنغام والعناية ببناء القالب الأدبي الذي يصب فيه مادة شعره، وهو فوق ذلك يمتاز بالوضوح وطلاقة التعبير وإحكام الوزن.

وفيما يلي نموذج من شعره:

المحب يشكو لقيثارته قسوة حبيبه

إيه يا قيثارتي استيقظي! هبي فأدي

آخر ما أبدد وتبددين من جهد،

أنجزي لي الآن ما فيه شرعت،

فإذا ما تم هذا النشيد وانقضى

يا قيثارتي! اصمتي بعد ذاك فقد قضيت. •••

لن نسمع إن لم تصغ آذان

إلا كما ينصت في القبر المرمري جثمان

فكالقبر الأصم قلبها، لا ينسل إليه نشيد بعثت،

أيجوز لنا بعد ذاك تنهد وبكاء وأحزان؟

كلا، كلا، يا قيثارتي! فإني قد قضيت.

كفي الآن يا قيثارتي! فهذا آخر ما تبذلين

من الجهد الذي أبدد وتبددين.

فقد انقضى ما فيه شرعت

هذا نشيدك قد أنشدته وذهب مع الذاهبين؛

فاصمتي يا قيثارتي! لأني قد قضيت. (1-2) سري

Surrey (1517-1547م)

كان «سري» جنديا محاربا ورجلا من حاشية القصر، وقد أنفق في البلاط الفرنسي عاما، وساهم في كثير من الحروب. وفي عامه الثامن والعشرين كان حاكما على بولونيا، لكن وساوس هنري الثامن امتدت إليه بلهبها كما فعلت بزميله «ويت»، فظن الملك أن أبا الشاعر يعمل في الخفاء ليعتلي العرش بعد هنري، فأمر بالوالد والولد جميعا أن يزجا في برج لندن، وما هو إلا أن أعدم الشاعر الشاب، وهو في الثلاثين من عمره.

وكان «سري» قد هام حبا بفتاة يشير إليها باسم «جيرالدين

3

الحسناء»، رآها وهي ما تزال في عامها الثاني عشر، وكان أبوها قد لقي حتفه في برج لندن، فعطف الشاعر على هذه الأسرة المنكودة بما كان يضطرم في نفسه من نوازع الفروسية، وكانت هذه الفتاة مصدر سيل دافق من العواطف التي سكبها في شعره.

ولم يكد «سري» ينشد من الشعر إلا القصائد الغنائية والمقطوعات الشعرية، وكذلك ترجم الجزأين الثاني والرابع من إنياذة فيرجيل إلى شعر إنجليزي مرسل، فكان بذلك أول كاتب إنجليزي يستخدم هذا الضرب من الشعر، الذي كتب له أن يكون فيما بعد أداة قوية في أيدي الشعراء الفحول، ويتصف شعره بالصفاء والرشاقة والحيوية، ونصوع الصورة، واتساق الأنغام، وطلاقة العبارة.

وهاك مثالا من شعره:

أمسكوا أيها العاشقون

أمسكوا أيها العاشقون عن ذكر المفاخر،

لا ترسلوا عبثا ما ترسلون من زهو ومن فخر؛

أين من حبيبتي في الجمال الساحر

أجمل معشوقاتكم؟ لست أغلو ولا أفتري؛

فبينها وبينهن أبعد مما بين الشمس والشمعة الواهية،

وبينها وبينهن أبعد مما بين النهار المشرق والليلة الداجية. •••

أستطيع لو شئت أن أعيد وأردد

ما راحت به الطبيعة شاكية،

إذ غاب عنها القالب الأسمى وبدد،

وعجزت أن تعيد له قرينا في صورته الزاهية،

يا لصياحها وهي تفرك من أسف كلتا اليدين!

لقد وعيت ما قالت، لم يغب قصدها عني. •••

إن كانت الطبيعة تثني عليها كما تشهدون،

إذ رأتها آية ما تصنع،

فاسلكوا سبيلا غير التي تسلكون؛

ذلك عندي أجدى وأنفع.

فلا تقارنوا - كما فعلتم - لا توازنوا؛

وهل شمعة بضوء الشمس توزن؟

على أن «متفرقات توتل » - التي ورد فيها شعر ويت وسري، والتي كانت طليعة الشعر الناهض في عصر اليصابات - لم تكن سوى القطر الذي يسبق الغيث؛ فقد أخذت مجموعات الشعر الغنائي تترى واحدة في إثر واحدة لتنهض دليلا على تفجر ينبوع الشعر في القلوب، كما أخذت دواوين الشعراء تظهر وتذيع، نذكر منها «مرآة العظماء»

4

لتومس ساكفيل

Thomas Sackville (1536-1608م). وأهم ما جاء في هذا الديوان قصيدتان، هما «شكوى هنري ستافورد، دوق بكنجهام» و«المقدمة»، والأسلوب في كلتا القصيدتين قوي رائع ناصع التصوير، يشهد بأن ساكفيل أعظم شاعر شهده الأدب الإنجليزي بين شوسر وسبنسر - لو استثنينا الشاعر الاسكتلندي دنبار - والقصيدتان مكتوبتان في البحر الذي استخدمه شوسر في شعره.

أما قصيدة «شكوى هنري ستافورد» فتصور سقطة العظيم من أوجه، مبينة أن المنصب العظيم إنما يتكئ على دعامة واهية، إذ يرتكز على ابتسامة واحدة، فليس أيسر من هوي صاحب المنصب الرفيع إلى هاوية البؤس والشقاء.

وأما في قصيدة «المقدمة» فينبئنا الشاعر كيف هبط إلى العالم الأسفل الذي يخضع لحكم «بلوتو» - إله الجحيم - وهنالك أخذت أرواح الموتى تقص عليه أنباء سقوطها في الحياة الدنيا من الأوج إلى الحضيض الأسفل، وكان «الأسى» مشخصا مجسدا هو الذي يهدي الشاعر في رحلته، وهاك مثالا قصيرا من «المقدمة»:

واستطرد «الأسى» في قصته المروعة:

تعال فاسمع الشكاة والحزن المرير،

من رجال أمجاد أطاح بهم «القدر».

تعال فانظر إليهم، وقد اصطفوا مستعطفين؛

لم يكونوا سوى أشباح كسوتها بعقلك لحما ودما.

تعال، تعال معي لتشهدهم عيناك.

والمقطوعة الآتية من قصيدة «شكوى هنري ستافورد»:

لقد بقيت - ما أذن لي «الحظ» أن أبقى -

بين خيار القوم حاكما ثريا،

وأنفقت أيامي أرفل في شرف ومجد،

فلم يدر بخلدي خوف أن يسوء طالعي،

لكن «الحظ» الغادر - حينما كنت أقل ما أكون ريبة فيه -

أدار عجلته وأسقطني سقطة منكودة؛

سلبني بها مجدي وحياتي وما ملكت يدي.

وكذلك نذكر من قصائد الشعراء التي ظهرت حينئذ، قصيدة للشاعر جورج جاسكوين

George Gascoigne (1536-1577م) عنوانها «مرآة الصلب»،

5

وهي قصيدة ساخرة قوامها مائة وألف بيت من الشعر المرسل، أريد بها أن توضح للناس قيمة الحياة البسيطة القوية؛ «فمرآة البلور» خداعة تبدي الأشياء خيرا مما هي في الواقع، وأما «مرآة الصلب» فصادقة تصور الرجال والأشياء تصويرا أمينا.

وللشاعر غير ذلك مجهودات يسجلها له تاريخ الأدب، فهو أول من كتب ملهاة في النثر الإنجليزي، وقد ترجمها عن أريوستو الشاعر الإيطالي؛ وهو أول من أنشأ قصيدة ساخرة في الشعر المرسل، وهي قصيدة «مرآة الصلب» التي أشرنا إليها، وهو أول من ترجم عن الأدب اليوناني رواية تمثيلية، إذ نقل إحدى روايات يوريبيد، وهو أول من كتب مقالا في النقد الأدبي إذ كتب في «صناعة الشعر»، فهذه كلها محاولات أولى في ألوان مختلفة من الأدب. (1-3) سير فلب سدني

Sir Philip Sidney (1554-1586م)

على أنك تستطيع أن تضع «سير فلب سدني» في طليعة المنشدين للشعر الغنائي الجديد.

كان «فلب سدني» شاعرا وناقدا وعالما وجنديا ورجلا من رجال السياسة، فكان يصور بشخصه ما يصبو إليه الناس في عصر النهضة من مثل أعلى، ولم يكد يتمم دراسته في أكسفورد، حتى غادر بلاده مرتحلا في أنحاء القارة الأوروبية، وشاءت له المصادفة أن يكون في باريس في اليوم الذي وقعت فيه «مذبحة بارثلوميو»، وهو الرابع والعشرون من شهر أغسطس سنة 1572م، ولم ينج من الموت إلا بأن لاذ بدار السفير الإنجليزي هناك، ولم يلبث أن غادر باريس إلى فيينا، حيث أنفق فراغه كله في ركوب الجياد والمبارزة بالسيف والتدرب على استخدام آلات القتال المختلفة، ثم غادر فيينا إلى البندقية وبادوا حيث تعلم الهندسة والفلك، وبعدئذ عاد إلى وطنه، فكان للبلاط الملكي فخرا. ولما بلغ عامه السابع والعشرين انتخب عضوا في البرلمان عن مقاطعة كنت، وأرسل بعد ذلك بعام واحد ليقاتل الإسبانيين، وهناك لقي حتفه، فحمل جثمانه إلى أرض الوطن، ودفن في كنيسة «القديس بولس» الشهيرة بين مظاهر الحزن التي شملت الأمة كلها.

وإنما أفضنا بعض الإفاضة في ذكر جوانبه المختلفة؛ لأنه خالد في التاريخ بشخصه وبأدبه معا، ففي عصر النهضة تغير في تقدير الناس مثلهم الأعلى، ولم يعد - كما كان في العصور الوسطى - يتمثل لهم في المسيحي المتبتل الزاهد، بل أصبح مثلهم المنشود عالما يدرس ظواهر الطبيعة، أو مغامرا يركب الصعاب، أو رجلا يستمتع بلذات الحياة، فإن اجتمعت لرجل واحد هذه الصفات؛ فكان محبا للعلم والأدب، مقاتلا باسلا، ممعنا في ألوان الرياضة والصيد، عاشقا توافرت فيه شروط الحب الصحيح؛ فذلك هو المثل الأعلى. وقد جاهد الأدباء في عصر النهضة أن يصوروا ذلك المثل. ورأى الناس أن هذه الصفات قد تجسدت في «السير فلب سدني» فخلدوه نموذجا يحتذى.

كان سدني قد تشرب الروح الإيطالية، فكما أهدى دانتي شعره إلى حبيبته «بياترس»، وكما أهدى بترارك قصائده إلى حبيبته «لورا»، فكذلك سدني توجه بأشعاره إلى معشوقته «ستلا»، وهي ابنة إيرل إسكس، صادفها وهي لا تزال في عامها الثاني عشر، وهو في ذلك شبيه بدانتي أيضا حين لاقى حبيبته في نحو هذه السن، وشبيه بزميله الشاعر الإنجليزي «سري» حين التقى لأول مرة «بجيرالدين الحسناء». تزوج سدني من فتاته زواجا لم يقم له حفل في الكنيسة، لكن العلاقة بين الفتى والفتاة سرعان ما وهنت، وأصابها الفتور لضائقة مالية ألمت بسدني، فلم يمض على ذلك أعوام أربعة، حتى أعلن زواج الفتاة من رجل سواه، وهنا تضرمت جذوة الحب في قلب الحبيب، فأنشأ قصائده في حبها. ومن مجموعة المقطوعات الشعرية التي أنشدها تكون ديوانه المشهور «آستروفل وستلا»،

6

ومن أجمل ما جاء في هذا الديوان هذه المقطوعة:

إلى القمر

بأي خطى حزينة - أيها القمر - تصعد أجواز السماء!

ما أشد ما في سيرك من صمت وما في وجهك من شحوب!

ماذا! أو يكون هذا حتى في معارج السماء

فيقذفك رامي السهام

7

بحاد سهامه، وهو لا ينفك يرمى بها؟

حقا، إذا استطاعت أعين طال إلفها للحب

أن تحكم عليه، فقد أصابتك علة العاشقين،

إني أطالعها في نظراتك وفي رقتك الواهنة

هذا ما ألمحه فيك، أنا الذي أشعر بمثل ما تشعر،

فناشدتك - المشاركة في الحب - أيها القمر، إلا حدثتني،

هل الثبات على الحب عندك إلا ضعف في الذكاء؟

هل تبلغ الكبرياء بجميلات النساء عندك ما تبلغه هنا ؟

هل يظفرن عندك بجب فوق الحب المألوف،

ثم يسخرن من المحبين الذين ملك عليهم اللب ذلك الحب؟

هل يسمين الفضيلة عندك نكرانا للجميل؟ (1-4) أدمند سبنسر

Edmund Spenser (1552-1599م)

هو بغير شك أعظم الشعراء في عهد اليصابات - إذا استثنينا كتاب المسرحية - حتى جاز «لشارلز لام»

8

أن يسميه «شاعر الشعراء»، فقد كان عميق الأثر في الشعراء من بعده، واعترفوا له جميعا بالفضل، فقال فيه «فلتشر»:

9

هو الذي أرضعته ربات الفن والجمال جميعا.

وقال «دريدن»:

10

لقد كشف للشعر عن منجم خصيب.

وقال «تومسن»:

11

هو ابن أنجبه «الخيال» طروبا.

ويصوره «وردزورث»

12

بقوله:

سبنسر الحبيب، إنه يشق طريقه في سمائه الغائمة،

في فتنة القمر، وفي خطوه الوئيد.

ويعترف «شلي»

13

بالجميل فيقول:

لله شيكسبير وسدني وسبنسر وسائر الشعراء

الذين جعلوا من بلادنا جزيرة مباركة!

ويطرب «كيتس»

14

لإيقاع ألفاظه فيقول:

إن النبرات السبنسرية تنساب في يسر

وتمضي مرفرفة كما تفعل الأطيار فوق بحار الصيف.

ويقول في شعره «تنسن»:

15

تلك القباب المتناغمة التي ملأت

أياما رحيبة في عهد اليصابات العظيمة

لا تزال إلى اليوم ترن بأصدائها.

وهكذا كلما جاء شاعر في إنجلترا، وتلفت فوجد هذا المعين الدافق الفياض، لم يسعه إلا أن ينطق معترفا بالجميل.

ولد «شاعر الشعراء» في لندن التي شهدت مولد كثير من أعلام الأدباء، وكان أبوه خياطا، فأرسله إلى مدرسة تتعهد أبناء الطائفة، ومنها أرسل إلى «كيمبردج» يتلقى العلم فيها بأجر زهيد نظير خدمات يؤديها، وهنالك توثقت أواصر الصداقة بينه وبين «جبريل هارفي»

16

الناقد المشهور في ذلك العهد. ولما أتم سبنسر دراسته الجامعية، قصد إلى شمالي إنجلترا يقضي بين ربوعه زمنا، ولعله أراد زيادة ذويه في لانكشير، فصادف فتاة هام بحبها، تدعى «روزالند»،

17

ولم يوفق إلى خطبتها، فكان لذلك رجة عنيفة في نفسه، لا يبعد أن تكون إرهاصا لشاعريته. ولم يكد يعود من ربوع الشمال حتى قدمه صديقه «هارفي» إلى «سير فلب سدني»، فنشأت بينهما صداقة قوية، هيأت له أن يتصل بعم عظيم لسدني، هو «إيرل لستر» الذي ما لبث أن ضم الشاعر إلى حاشيته، ورحب شاعرنا بهذه الفرصة السانحة لعلها تعرج به إلى ذروة المجد، ولم يلبث سبنسر أن أخرج «حكاية الأم هبرد»

18 - أخرجها في صورة أولية، ثم أدخل عليها تعديلا فيما بعد - وأراد بها أن يؤيد لستر بأن يبين ما زلت فيه الملكة من ضلال، قائلا عن «لستر»: إنه الرجل الذي يستطيع أن ينقذ البلاد ومليكة البلاد جميعا، لكن الشاعر قد أسرف في سخريته في هذه القصيدة، فما نفع أميره ولا انتفع ، ولبثت قصيدته ما يربي على عشر سنوات لا تجد سبيلها إلى النشر.

ولم تكن «حكاية الأم هبرد» أول ما أنتج، فقد كان أنشأ وهو في عامه السابع عشر - أيام أن كان طالبا - خمس عشرة مقطوعة شعرية قدمها إلى أديب جاء هاربا من هولنده ومعه مجموعة من شعره كتبها بالهولندية، ونشر لها ترجمة إنجليزية، فأراد شاعرنا سبنسر أن يضيف مقطوعاته إلى هذا الكتاب، ومعها قصائد أخرى ترجمها عن «بترارك» الشاعر الإيطالي، و«دي بلاي» الشاعر الفرنسي، وفي صدر شبابه أيضا كتب سبنسر تسع ملاه فقدت كلها، فكانت خسارة جسيمة على الأدب.

وفي 1579م ظهرت لسبنسر أولى خرائده، وهي قصيدة «تقويم الراعي»

19

التي أهداها إلى صديقه «سير فلب سدني»، وإنها لتعد بمثابة الفجر الذي إذا ما بلغت شمسه الضحى كان لنا شيكسبير العظيم.

و«تقويم الراعي» من الشعر الريفي، وهو من الصور الأدبية الكثيرة التي دخلت إنجلترا في عصر النهضة لاتصالها بالشعراء الإيطاليين، فقد كان «بترارك» في القرن الرابع عشر قد نسج في هذا الشعر الريفي على منوال سلفه «فيرجيل»، وكان هذا قد تأثر خطو «ثيوقريطس»،

20

ثم ازداد الشعر الريفي شيوعا في إيطاليا في القرن الخامس عشر، وكان في طليعة منشئيه «جون بابتست سبانيولي»،

21

الذي يعرف عادة باسم «مانتوان»

Mantuan ، وكثر كتاب هذا الضرب من الشعر في أواخر القرن الخامس عشر وأوائل السادس عشر، فكان منهم في إيطاليا «سانازارو»

Sannazzaro ، وفي فرنسا «مارو» الذي أعجب به سبنسر فترجمه إلى الإنجليزية، واتخذه مثلا يحتذيه.

كتب سبنسر «تقويم الراعي» بلغة تعمد أن ينتقي ألفاظها من المهجور؛ ليعيد إلى الحياة ألفاظا جميلة بادت، وكان سبنسر قد درس سلفه العظيم «شوسر» ودرس تراثه دراسة دقيقة، فاستمد منه كثيرا من ألفاظه، وجمع طائفة أخرى من الألفاظ المهجورة إبان إقامته في ربوع الشمال، أو من دراسته لشعراء تلك الأصقاع الشمالية، بل ذهب به حبه لحوشي اللفظ وغريبه أن خلق بعضه خلقا. وإذن فقد كانت اللغة التي قرض بها شعره على كثير من التكلف والصناعة - وهو في هذا شبيه بهومر - إذ نسج ديباجتها من لهجات كثيرة مختلفة، واستعمل جملا وعبارات يرجع تاريخها إلى عصور مختلفة، وسواء أكانت هذه اللغة المصنوعة حسنة من حسناته أم لم تكن، فلم تصادف قبولا عند معاصريه، ولكن ما لشاعرنا ولرأي معاصريه، فقد كان يقصد بشعره هذا أن يصور «أغاني الرعاة»، فلم يسعه إلا أن ينطق بألفاظ الرعاة، وأن يتحدث فيما يتحدثون فيه، وأن يطلق على رعاة قصيدته أسماء الرعاة في حياتهم الواقعة أو أسماءهم كما وردت في أدب الأقدمين والمعاصرين.

والقصيدة مقسمة إلى اثني عشر قسما، كل قسم منها يقابل شهرا من شهور العام، وهي تختلف بعضها عن بعض في الأسلوب والبحر ومصدر الوحي، فيناير أغنية حزينة ينشدها «كولن كلاوت

Colin Clout » ليشكو ما يلقاه من حبيبته «روزالند» من الزراية بحبه، والبحر في هذا الجزء هو المقطوعة ذات الستة الأبيات، وفي كل بيت عشرة مقاطع، وتجري القافية على هذا النحو: أ - ب - أ - ب - ج - ج. وفي فبراير حوار فكه يدور بين «كدي

Cuddie » و«ثينوت

Thenot »، ويشتمل على قصة «السنديانة والعوسج» يرويها على أسلوب شبيه بأسلوب «شوسر» في حكاياته، والبحر هنا هو المزدوج الذي يقفي كل بيتين ويجعل منهما وحدة. ومارس فيه وصف جميل لرماية «الصبي المجنح» - كيوبد - وبحره هو المقطوعة ذات الأبيات الستة، وقوافيها: أ - أ - ب - ج - ج - ب، وهو في هذا الجزء يحاكي ثيوقريطس؛ رب الشعر الريفي. وأبريل يشتمل على إشارات كثيرة جدا إلى الآداب القديمة، وفيه تكلف وصناعة في ألفاظه وأوزانه، وقد جاء في هذا الجزء نشيد رائع تقدم به «كولن» إلى الملكة التي يقتضب اسمها، فيطلق عليها «إليزا» اختصارا لإلزابث اليصابات. وفي مايو ينسج الشاعر على منوال الشاعر الفرنسي «مارو» في وقوفه موقف المدافع عن الكنيسة التي أخذت بمبدأ الإصلاح الديني. ثم يجيء يونيو وفيه استمرار لما أورده الشاعر في شهر يناير، فنرى روزالند تؤثر حبيبا آخر - هو

Menalcas - على حبيبها كولن، فيرثي كولن لحبه الضائع في مقطوعات موسيقية تشتمل الواحدة منها على ثمانية أبيات، وقوافيها: أ - ب - أ - ب - ب - أ - ب - أ، وكذلك يعود الشاعر في يوليو فينشد نشيدا دينيا ريفيا كما فعل في مايو، والبحر هنا مقطوعات رباعية الأبيات، قوافيها: أ - ب - أ - ب، قوام الأول والثالث منها ثمانية مقاطع، والثاني والرابع ستة مقاطع. وفي أغسطس نرى الشاعر متأثرا بفيرجيل، فيتنازع «ولي

Willie » و«بريجوت

» أيهما أشجى غناء، ويقف «كدي» من المتنافسين موقف الحكم. وفي سبتمبر يشكو «دجن ديفي

Diggon Davie » لؤم قساوسة الكنيسة الرومانية. وفي أكتوبر يعود الشاعر فيحاكي رب الشعر الريفي - ثيوقريطس - في أبيات تفيض بالشاعرية. وفي نوفمبر يرثي لديدو إخفاقها في حب إينياس. وفي ديسمبر جزء نسجه على منوال «مارو»، بل نقل بعض أبياته نقلا عن هذا الشاعر الفرنسي.

واختلاف الأوزان في قصيدة «تقويم الراعي» نقطة هامة جدا، فكأننا بالشاعر قد اتخذ من هذه القصيدة حقلا لتجاربه ليرى أين يقع نبوغه من أبحر الشعر. والقصيدة في بعض أجزائها تبعث الملل في نفس القارئ الحديث، لكنها على وجه الجملة آية من آيات الأدب الإنجليزي. ولا بد لنا إذ نزنها بميزان النقد أن نتغافل عن حالة اللغة الإنجليزية حينئذ، وأن نتذكر كيف استطاع الشاعر أن يذلل صعابها، حتى تسلس في يده، فلك أن تعد «تقويم الراعي» بمثابة الطليعة التي استكشفت الطريق وعبدتها لسائر الشعراء من بعد، ولو لم يكتب سبنسر غير قصيدته تلك لسلكانه في الصف الأول من الشعراء الإنجليز. •••

سافر شاعرنا عام 1580م إلى أيرلنده التي كانت يومئذ قد امتشقت حسامها في وجه حكامها من الإنجليز، وإنما سافر كاتما لسر «لورد جراي» (وهو الذي يشير إليه في قصيدته الكبرى «ملكة الجن» باسم «آرتجول فارس العدالة»). ومنذ ذلك الحين أقام سبنسر معظم أيامه في أيرلنده، وكان لتلك البلاد أثر واضح فيما أنتج بعد من نثر وشعر، فقد كتب «عرض للحالة القائمة في أيرلنده»،

22

وهي رسالة نثرية يصف فيها حالة البؤس الشديد التي غشيت تلك البلاد، فبرع أيما براعة في تصوير الدمار الشامل الذي أحدثه السيف والنار، وفي تصوير المجاعة المخيفة التي أعقبت ذلك الدمار. والعجيب أن الشاعر لم يقف في جانب الشعب المهضوم المهزوم ، فقد كانت الأراضي الأيرلندية قد صودرت، وقسمت بين مستعمرين من الإنجليز، وكان سبنسر ممن ظفر بنصيب من تلك الأراضي؛ لهذا رأى الحرب على أنها مظهر لمبادئ الفروسية العالية، وجهاد في سبيل الثقافة والتنوير العقلي، وكفاح من أجل الديانة الحقة يصرع الهمجية والجهل، ويستأصل العقيدة البابوية. وكما ترى هذه الآثار في رسالته النثرية، تراها في وضوح في قصيدته «ملكة الجن» التي سنعرضها بعد حين.

ففي نفس العام الذي انتقل فيه الشاعر إلى أيرلنده، قدم إلى صديقه الناقد «جبريل هارفي» هيكلا لقصيدة ينوي صياغتها عن «ملكة الجن»،

23

ولم يكد يستقر في أيرلنده حتى أخذ في قرضها، وحدث بعد تسع سنين من ذلك التاريخ أن وهنت صلات الود قليلا بين الملكة اليصابات وبين «سير وولتر رالي»،

24

فارتحل «رالي» إلى أيرلنده، وقصد إلى زيارة سبنسر، فأطلعه الشاعر على أجزاء ثلاثة أتمها من القصيدة، فأعجب بها «رالي» إعجابا شديدا، واستصحب الشاعر وشعره إلى إنجلترا، حيث قدمه إلى القصر، وكانت هذه هي المرة الثانية التي يتصل فيها الشاعر بالقصر. ولم يمض عامان حتى طبعت تلك الأجزاء الثلاثة من «ملكة الجن»، وأمل الشاعر أن يرقى في مناصب القصر، لكنه لم يظفر من الملكة إلا براتب سنوي قدره خمسون جنيها.

ولما كان عام 1594م تزوج سبنسر من «اليصابات بويل»، وأنج منها طفلين، وقد كتب تكريما لزوجه مجموعة من المقطوعات الشعرية كما كتب «إبثالاميون»،

25

وهي أجمل ما في الأدب الإنجليزي على إطلاقه من أناشيد العرس، بل قيل إنها أجمل ما عرفت الآداب في العالم كله من ذلك الضرب من فنون الشعر. وقد اتخذ الشاعر في مقطوعاته بحرا خاصا به، إذ يقسم المقطوعة أربعة أقسام، في كل من الثلاثة الأولى أربعة أبيات، وفي القسم الرابع بيتان، فأما قوافيها فتجري هكذا: أ - ب - أ - ب، ب - ج - ب - ج، ج - د - ج - د، ه - ه.

ظهرت مجموعة المقطوعات وقصيدة إبثالاميون في سنة 1595م، فلما كان العام الذي يليه أخرج الشاعر «الترانيم الأربع»

26

و«بروثالاميون»،

27

وهذه الأخيرة أنشدها تكريما لزواج ابنتي «إيرل ووستر»، وقد اعتمد الشاعر في هذه القصيدة، بل اقترف فيها سرقة أدبية جريئة؛ إذ اعتمد على قصيدة مغمورة عنوانها «حكاية طائرين من طيور التم»، ثم أخرج في السنة نفسها الثلاثة الأجزاء الثانية من «ملكة الجن». وحدث عام 1598م أن قامت ثورة في أيرلنده، وأحرق الثوار القلعة التي كان الشاعر اتخذها مقاما له ولأسرته، واستطاع سبنسر أن يفر مع زوجته سالمين إلى لندن، حيث لاقى منيته في منتصف يناير سنة 1599م، ونشر الجزآن الباقيان من «ملكة الجن» بعد موت الشاعر بعشر سنوات.

وما أجدرنا في هذا الموضع أن نحدثك عن آيته الكبرى «ملكة الجن»، ولعلنا نحسن صنعا لو تركنا الحديث للشاعر نفسه، يبسط لنا ما أراد لقصيدته، كما جاء في خطاب وجهه إلى «رالي» مقدمة لتلك القصيدة: ... الغرض العام من هذا الكتاب بأجمعه هو أن أصوغ سيدا، أو إنسانا نبيلا، في قالب من الفضيلة والرقة ... وقد اخترت لذلك تاريخ الملك أرثر ... واقتفيت آثار الشعراء القدامى جميعا؛ فأولا هومر الذي ضرب مثالا في شخص أجاممنون ويوليسيز، للحاكم الصالح والرجل الفاضل، أما الأول ففي الإلياذة، وأما الثاني ففي الأوذيسية، وثانيا فيرجيل الذي كان يرمي إلى نفس الغاية في شخص إنياس، ثم جاء بعد ذلك أريوستو الذي ضم الجانبين معا في شخص «أورلاندو»، وأخيرا جاء تاسو ففصلهما من جديد، وصاغ الجانبين في شخصين، وأعني بذينك الجانبين ذلك الذي يسمونه في الفلسفة ب «الأخلاق» أو فضائل الرجل من عامة الناس، وقد صور ذلك الجانب في شخص «رنالدو». وأما الجانب الثاني فما يسمونه ب «السياسة»، وقد صوره في شخص جودفرد، ونسجا على منوال هؤلاء الشعراء الأفذاذ تراني أجاهد أن أصور في أرثر - قبل أن يصبح ملكا - صورة الفارس الباسل، وقد تحلى بالفضائل الخلقية الاثني عشر كما رسمها لنا أرسطو، وذلك هو ما أقصد إليه من هذه الأجزاء الاثني عشر التي أبدأ بها كتابي، والتي إن صادفت حسن القبول، فربما شجعني ذلك أن أمضي في صياغة الجزء الثاني الذي يصور الفضائل السياسية ممثلة في شخصه بعد أن تولى الملك ...

وإنما قصدت ب «ملكة الجن» أن أصور بها المجد، تمشيا مع الغرض العام الذي أرمي إليه، على أن لي غرضا خاصا بعد ذلك الغرض العام، وهو أن أصور بها مليكتنا التي بلغت بشخصها أوج العلا والمجد، وأن أصور مملكتها في بلاد الجن، ... وكذلك في شخص الأمير أرثر أصور سمو الروح بصفة خاصة، وهي الفضيلة التي يتمثل فيها كمال سائر الفضائل جميعا (كما ورد في أرسطو وغيره)، وهي تشملها كلها؛ ولهذا تراني في الكتاب كله أذكر أفعال أرثر كما تقتضي تلك الفضيلة التي أكتب عنها في هذا الكتاب.

وأما عن الفضائل الأخرى الاثني عشر، فإني أسوق اثني عشر فارسا آخرين لأصورها فيهم، وهذه الأجزاء الثلاثة (التي أقدمها) تشتمل على ثلاثة من أولئك الفرسان؛ أما أولهم ففارس يدعى «الصليب الأحمر» أمثل القداسة في شخصه، وأما ثانيهم فهو «سيرجاين»

28

الذي أصور به «الاعتدال»، وأما الصورة الثالثة فلفارسة تدعى «برتومارتس»

29

صور فيها «العفاف».

انتهى خطاب المقدمة الذي صدر به الأجزاء الثلاثة الأولى من «ملكة الجن»، وقد أراد لها أن تكون اثني عشر جزءا - كما رأيت - ولكنه لم يكتب منها إلا ستة. فرابع الأجزاء يصور الصداقة ممثلة في «كامبل وتريامند»،

30

والخامس يصور العدالة ممثلة في «آرتجول»،

31

والسادس يصور الرحمة ممثلة في «سير كاليدور.

32

وكل جزء من هذه الأجزاء الستة التي تم إنشاؤها مقسم إلى اثني عشر فصلا، في كل فصل ما يزيد على خمسين مقطوعة من ذوات الأبيات التسعة، فانظر إلى هذا البناء الشامخ الجبار! إن الجزء الأول وحده، «أسطورة فارس الصليب الأحمر، أو القداسة» يشتمل على خمسة آلاف وخمسمائة بيت، فلو تمت القصيدة لبلغت أبياتها ستة وستين ألفا!

ولعل أعظم ما أبدعه الشاعر في هذه الآية الخالدة هو البحر الذي أجرى فيه مقطوعاته، فقد وفق في ابتكاره توفيقا كبيرا؛ لأنه جاء ملائما أتم الملاءمة لأنغامه الموسيقية التي امتاز بها ونبغ فيها، حتى ليقال إن الأدب الإنجليزي كله لا يعرف لسبنسر ضريبا في اتساق الأوزان والألفاظ والأنغام. وجد سبنسر عند سلفه شوسر بحرا استخدمه ذلك الشاعر في «حكاية الراهب»، وهو أن تنقسم القصيدة مقطوعات قوام الواحدة منها ثمانية أبيات، تجري قوافيها هكذا: أ ب - أ ب - ب ج - ب ج، فأضاف سبنسر سطرا تاسعا يتحد في القافية مع البيتين السادس والثامن، على أن يكون هذا البيت التاسع من الوزن الإسكندري - والبيت الإسكندري يشتمل على ست تفعيلات في كل تفعيلة جزآن لا يكون في أولهما ضغط صوتي عند النطق، ويقع على ثانيهما ضغط صوتي عند النطق - فكان له بذلك مقطوعة قوامها تسعة أبيات تاسعها طويل بطيء يكون للقارئ بمثابة الخاتمة الموسيقية الهينة الهادئة، فيرى نفسه مضطرا أن يقف عندها وقفة قصيرة قبل أن يبدأ في تلاوة المقطوعة التالية.

لكن القصيدة - إلى جانب حسناتها - جاءت معيبة من بعض الوجوه، فهي أجزاء مفككة لا يصل بينها رباط متين كأنما هي خرزات متناثرة لا تنتظم في عقد، فلولا هذا الخطاب الذي قدم به الشاعر كتابه إلى «سير وولتر رالي» - وقد أسفلنا بعضه - لما أدرك قارئ القصيدة إلا حكايات منظومة يتبع بعضها بعضا، هذه تقص قصة عن فارس متعبد، وهذه تقص عن فارس غلب عليه الاعتدال، وهكذا. أضف إلى هذا عجز الشاعر عن تمييز الشخصيات التي يصورها تمييزا يجعل لكل منها فردية مستقلة قائمة بذاتها، فكل من حاول تصويرهم من الفرسان والسيدات متشابهون في الملامح والقسمات، حتى الفرسان الذين أراد بهم أن يكونوا نماذج تمثل فضائل معينة، لم يستطع أن يبرز فيهم تلك الفضائل، بحيث تميزهم من سواهم، فقد لا يكون الفارس الذي جاء ليمثل فضيلة الاعتدال أكثر اعتدالا من سواه. وكذلك المغامرات التي جعل الفرسان يخوضونها، متشابهة كلها، فلا بد للفارس أن يصادف أفعوانا يصارعه ويصرعه، وعملاقا يقاتله ويقتله، وغانيات اشتد بهن الكرب فيتقدم إليهن بالنجدة.

ويؤخذ على سبنسر إغراقه في الخيال وبعده عن الواقع، ثم قدرته على التدفق اللفظي العجيب - فهي قدرة وامتياز، ولكنها انقلبت نقيصة ومأخذا في بعض المواضع - لأنك تراه إذا ما بدأ وصف شيء راح يطنب ويطيل ويهلل إلى حد لا يحتمله القارئ العادي؛ فلا يكاد مثل هذا القارئ يخطو في قصيدة من قصائد الكتاب، حتى يشعر كأنما هو في متاحة لا يعرف لنفسه مخرجا منها، فالشاعر لا يفتأ ينعرج به في الحنايا والمسالك، حتى يضل عن معالم الطريق. ولهذا قلما يصبر على قراءة سبنسر إلا شاعر لا يضنيه أن يماشي زميله الشاعر في حناياه ومسالكه؛ لأن الشعراء يطيب لهم المقام حيث الجمال، ليس لديهم سوى هذه الغاية غاية يتعجلونها؛ من هنا كانت تسمية سبنسر بشاعر الشعراء، ومن هنا أيضا قيل عن «ملكة الجن» إنها ليست قصيدة بالمعنى المألوف، وإنما هي جبل شامخ من الشعر ليس له إطار محدود المعالم.

ولكن مع كل هذا الإغراق في الخيال والبعد عن الواقع، كانت حوادث العصر وأعلامه البارزون تملأ ذهن الشاعر، فأخذ يشير إليها هنا وهناك في قصيدته، فإلى جانب الغرض الرمزي الأساسي في «ملكة الجن» - وهو تصوير الفضائل الاثنتي عشرة في اثني عشر فارسا، بحيث يخلق بالصورة في مجموعها إنسانا كاملا - كانت هنالك رموز أخرى تستشف منها تاريخ العصر، فملكة الجن نفسها هي اليصابات، و«دوسا»

33

التي رمز بها إلى الريف في الجزء الأول هي «ماري» ملكة اسكتلنده في بعض المواضع، وهي «كنيسة روما» في مواضع أخرى، وفي الجزء الأول أيضا مخلوق عجيب أطلق عليه الشاعر اسم «الخطأ» - وهذا من قبيل تشخيص المعاني - وقد أخذ هذا «الخطأ» يتقيأ كتبا، وبهذا يشير الكاتب إلى مجموعة من الرسائل الثورية التي نشرتها جماعة من الكاثوليك ضد اليصابات، والجزء الخامس كله دفاع رمز عن السياسة التي اتبعها «لورد جراي» في أيرلنده، وهكذا وهكذا.

ولكي نقدم للقارئ صورة من هذه الآية الأدبية سنكتفي بعرض موجز للجزء الأول الذي أراد به أن يصور القداسة ممثلة في «فارس الصليب» الأحمر، ولا تكمل الصورة للقارئ إلا إن قدمنا بين يديه شذرة مما اعتزم الشاعر أن يورده في الكتاب الثاني عشر، إذ مما هو جدير بالذكر عن «ملكة الجن» أن مقدمته أرجئت لتوضع في آخره، فلما وجد الشاعر أن القراء تعذر عليهم الفهم، اضطر أن يقدم كتابه بخطاب وجهه إلى «سير وولتر رالي» - وقد أسلفنا ذكره - يشرح فيه غايته.

فقد كان المفروض في الكتاب الثاني عشر أن تقيم «ملكة الجن» حفلا اعتادت أن تقيمه كل عام، يدوم اثني عشر يوما، تقابل فيها الفرسان الاثني عشر، تخليدا لمغامراتهم الاثنتي عشرة، التي بسطها الشاعر في أجزاء كتابه الاثني عشر، فإذا بدأ الاحتفال يتقدم شاب ممشوق إلى الملكة، ويجثو بين يديها ملتمسا أن تخلع عليه من نعمها، وما أراد من نعمة سوى أن توكل إليه مغامرة جديدة.

ولم يكد يفرغ الفارس الشاب من حديثه، حتى أقبلت فتاة رائعة الجمال اسمها «يونا» ترتدي ثوب الحداد، وتمتطي حمارا أبيض، وخلفها قزم يقود جوادا حربيا أعد بشكة الفرسان، وقدمت الفتاة شكاتها بأن أفعوانا ضخما قد أمسك بأبيها وأمها، فألقاهما في سجنه، وتضرعت إلى ملكة الجن أن تبعث بفارس من فرسانها ليفتك بالأفعوان ويطلق سراح أبويها، وهنا وثب الفارس الشاب ملتمسا أن يعهد إليه بهذه المغامرة الجديدة. ولم يعجب الفتاة أن يكون فارسها ذلك الشاب الناشئ، لكنها عجزت عن رده، واشترطت لقبوله أن تلائمه الشكة التي جاءت بها، فتناولها الشاب ولبسها، فإذا هي عليه أتم ما تكون اتساقا، فراق الشاب عندئذ للفتاة واستصحبته. وهنا يبدأ الجزء الأول فيقص أنباء المغامرة، وإنما سمي الفارس بفارس الصليب الأحمر؛ لأن علامة الصليب كانت منقوشة على الدرع:

فارس وديع على صهوة الجواد عبر البطاح،

يلفه قوي السلاح ويحميه درع قوي متين،

وبقيت في الدرع آثار قديمة لعميق الجراح،

فهي للمعارك الدموية التي خاضها دليل بشع مبين.

لكنه لم يكن حتى ذلك اليوم قد هز الحسام ،

وجواده الغضبان يعض على الشكيمة الراغية،

يأبى ازدراء أن يذعن للجام.

والفارس معتدل، وعلائم البشر عليه بادية،

كأنما هيئ لمنازلة الفوارس، وللمعارك الحامية، •••

يحمل الصليب على صدره

أثرا عزيزا يذكره «بالسيد» الذي مضى

فقد حمل الصليب المجيد في سبيله الحبيب،

فهو يمجد «السيد» ميتا، كما لو كان حيا،

وكذلك ارتسم الصليب على درعه

آملا أملا عظيما، ما زال له معينا ،

وهو إن قال أو فعل كان الأمين - المصيب - الصادق،

لكنه في بشره نم عن حزن عميق دفين،

لم يخف شيئا، وكان أبدا هو المخوف!

وركبت سيدة جميلة بجواره

حمارا وطيئا أنصع بياضا من الثلج الأبيض،

لكنها في بياضها أشد نصوعا، وإن سترت ذاك البياض

تحت غلالة عقدتها عند أسفل أطرافها،

وطرحت على كل ذاك ثوبا أسود،

كما يفعل من ضم الفؤاد على الأسى، وإنها لحزينة

جلست على مطيتها الوئيدة، وقد أثقل الهم قلبها،

فكأنما دست في سويدائها غما خبيئا،

وإلى جانبها ضمت حملا أبيض ناصعا. •••

فهي كذاك الحمل براءة وطهرا

في حياتها وفي فضيلتها

هبطت نسلا لسلالة ملكية

من ملكات وملوك أقدمين، حملوا الصولجان يوما،

فامتد من الشرق إلى شاطئ الغرب ما يملكون،

وذلت لهم أعناق العالمين طرا،

حتى مرق عليهم في خسة شيطان مريد؛

فأفسد أرضهم كلها وأخرجهم منها هائمين،

وفي سبيل الثأر جاءت بهذا الفارس من قصي البلاد. •••

وخلفها من بعيد تثاقل قزم سائرا،

فلعله من كسل تخلف آخرا،

أو لعله من نصب بما حمل من حقيبة

على ظهره حوت حوائجها، فلما أمعن الركب ماضيا،

تجهمت بغتة صفحة النهار بالسحاب،

وأنزل «جوف» في غضبته عاصفة هاطلة مروعة،

جاء مدرارها فاجئا سريعا؛

فراح كل بدريئة يتقيها،

والتمس الفتى والفتاة كذلك منها ملاذا. •••

لم يكن مناص أن يجدا ملاذا قريبا

فأبصرا على مقربة منهما دغلا ظليلا،

أحيا فيهما أملا أن يدرآ عنهما هول العاصفة،

فأشجاره بواسق ألبسها الصيف ما يزدهي به،

وانتشرت أفنانها حتى أخفت ضوء السماء،

هيهات أن ينفذ خلالها نجم مهما بلغت قوته،

وانشق جوفها بعريض المسالك والمماشي ،

دقها المشاة بأقدامهم، وهي في قلب الغاب ضاربة

فبدت لهما مأوى جميلا، فدخلاها آمنين. •••

أخذتهما النشوة فأخذا يتسليان في الغاية ماشيين،

حتى أفرغت العاصفة الهوجاء أنفاسها،

ثم شاءا الرجوع إلى حيث انحرفا عن جادة الطريق،

فلم يهتديا إلى الطريق وقد كان في البداية واضحا،

وأخذا يضربان في مجهول المسالك جيئة وذهوبا،

وكلما ظنا أن قد دنوا كانا في الحقيقة بعيدين !

فأخذتهما الريبة أن يكون مسهما جنون،

فما أكثر ما يشهدان من حنيات ومسالك!

حتى توزعتهما الشكوك أي سبيل يسلكان! •••

وامتلأ الفارس الشاب حماسة وبسالة طامحة،

فأبى القرار في الغابة مهما كان الجزاء.

وفي جب مظلم اندفع داخلا،

ونظر في جوفه، وهنالك انبعث من شكته الناصعة

ضوء خافت ضئيل، ما كان بالظل أشبهه!

فانكشف له بالضوء مسخ ساذج الخلق كئيب،

شبيه الثعبان في نصفه، بشع مخيف،

وأما نصفه الثاني ففي هيئة النساء تبدى

ألا إنه لكريه، قذر، خبيث، يملؤه ازدراء خسيس. •••

أصابه في حسه بهر لما أفزعته من الفارس قوته

لكن احتدمت غضبته فاستجمع في حوية أطرافه،

وما هو إلا أن ارتفع بجسمه وهو كأجسام الوحوش،

ارتفع به فوق الأرض عاليا وقد ضاعف قوته

ثم التفت منه مؤخرة كللتها الزعانف،

ووثب على درع الفارس وثبة جبارة فباغته

بذيلها الضخم يلفه حول البدن

وعبثا جاهد الفارس أن يحرك قدما أو يدا

كان الله في عون الذي يلفه «الخطأ».

34

بذيل لا ينتهي.

واستطاع الفارس بعد لأي أن يتخلص من هذا المسخ القبيح، وخرج تصاحبه «يونا» من جوف الغابة إلى حيث السهل الطليق، لكن ساحرا خبيثا - يدعى «أر كماجو» - تنكر لهما في هيئة الراهب وباعد بينهما، فأخذت «يونا» من جديد تضرب وحدها في الغابة:

وذات يوم كادت وعثاء الطريق تنهكها،

فترجلت عن دابتها الوئيدة الخطى،

وعلى النجيل أرخت دقاق أطرافها،

في مكمن ظليل بعيدا عن أبصار الرجال جميعا،

وخلعت عن رأسها الجميل عصابته،

واطرحت رداءها جانبا، فأضاء وجهها الملائكي

كما تضيء في السماء عينها الكبرى؛

فشعت كضوء الشمس في ذاك المكان الظليل،

فما رأت مثل هذا الحسن السماوي عين من بشر. •••

وشاءت الأقدار أن يخرج من أكثف الغاب

هزبر وثاب على غير ارتقاب.

يتصيد دماء الحيوان في نهم شديد،

فما كادت تقع العذراء الملكية تحت البصر،

حتى اندفع في شره فاغر الأنياب نحوها

ليفتك من فوره بجسمها الرقيق،

لكنه ما دنا من فريسته واقترب

حتى سكنت سورته العنيفة في ندم،

ووقف حيال ما يرى دهشا، فأنسي من نفسه سطوة حامية،

لم يفترسها، بل قبل قدميها المنهوكتين،

ولعق بلسانه المتذلل يديها وهما في بياض السوسن،

لأنه - فيما ظن - أساء إلى طهرها.

فكم للجمال من سلطان على أقوى الأقوياء!

وكم يخضع للحق البسيط خطأ منتقم؟

ولبثت من خضعت في كبرياء وتكبرت في خضوع

تخشى منيتها، إذ طال من عينيها النظر،

ثم أخذ قلبها يذوب من فرط ما عطفت،

وأخذت تذرف الدمع مدرارا من إخلاص حبها، •••

وأبى الهزبر أن يخلفها وحيدة،

فسايرها حارسا قويا،

يصون عفيف شخصها، وزميلا وفيا،

يشاطرها الهموم الحزينة والجد العاثر،

فإذا ما أخذت في نعاس كان حاميا وحارسا،

وإذا ما استيقظت كان لها خادما معينا،

مستعدا أن يكون رهينة ما تشاء،

يستمد الأمر من جميل عينيها،

فمن نظراتها يدرك ما تريد.

ولكن شاء حظها المنكود أن يفتك بالأسد فارس همجي أرعن نقش على درعه حكمة «خارج على القانون»، واختطفها على ظهر جواده وفر بها هاربا، وكان «فارس الصليب الأحمر» قد التقى حينئذ بامرأة خادعة زائفة تسمى «دوسا» سارت به إلى بيت يدعى «دار الكبرياء» حيث زج فيه سجينا.

أما «يونا» فقد أنقذها من براثن الفارس الخارج على القانون جماعة من آلهة الغاب. ولما نمى إليها سجن فارسها، أسرعت في سبيله، وصحبها الملك أرثر ليعاونها، وكان أن أخرج الفارس من سجنه، وأخيرا أوت «يونا» وحاميها الفارس إلى مكان يطلق عليه «دار القداسة»، حيث علم فارس الصليب الأحمر أنه أمير إنجليزي اختطفه الجن من مهده رضيعا، وأنبأه راهب أن اسمه الحقيقي هو «جورج»، ثم تنبأ له أنه سوف يكون بين عباد الله الصالحين قديسا، وأن إنجلترا ستتخذ منه شعار النصر.

واستأنفت «يونا» سيرها من «دار القداسة» يصحبها الفارس، فقصدا معا إلى برج نحاسي يسكن فيه الأفعوان، ووقعت بين الفارس والأفعوان معركة مخيفة عنيفة ارتجت لها الأرض ارتجاجا، وانتهت بموت الأفعوان، فأطلق والد «يونا» من سجنهما، وكان ختام القصة زواجا سعيدا بين الفارس والفتاة. •••

ذلك موجز للجزء الأول من «ملكة الجن» يبين كيف كان الشاعر يحلم في خياله، وكيف كان يسوق القصة في مقطوعاته الشعرية. على أن «ملكة الجن» لم تكن وحدها مجال نبوغه، فله قصيدتان أشرنا إليهما فيما سلف، هما «بروثالاميون» و«إبثالاميون» وهما من أناشيد العرس قيلتا في مناسبات زواج كما سبق القول، ولئن كان الشاعر في القصيدة الأولى قد سطا على إنتاج غيره سطوا جريئا، فقد مس المادة المستعارة بسحر عبقريته، كما هي الحال دائما حينما يسطو أديب نابغ على أديب. ومهما يكن من أمر، فالقصيدة الثانية تفضل الأولى، ومحال أن نقتبس شيئا ونترك شيئا بغير إجحاف بالشاعر؛ لأنك لن تجد بيتا أجمل من بيت، وقوة القصيدة في مجموعها، وروعتها في اتصال أنغامها من بدايتها إلى ختامها، وهاك مطلع إبثالاميون (نشيد عرس):

افتحوا لحبيبتي أبواب المعبد،

افتحوها واسعة أمامها لتدخل،

زينوا الدعائم كلها بما يلائمها،

وزخرفوا العمد كلها بأنيق الأكاليل؛

لتستقبل هذه البتول بالتكريم الواجب

حين تدخل إليكم.

إنها بخطوات مرتعشات ووقار خاشع

تتقدم بين يدي الله العلي القدير،

تعلمن منها أيها العذارى طاعة الله،

إذا ما أتيتن بيوت الله كما جاءت اليوم،

تعلمن أن تطأطئن وجوهكن الشوامخ،

تعالين بها إلى المذبح الرفيع؛

كي تشارك عنده في الحفل والشعائر

التي لا تزال تعقد زواجا بعد زواج.

مرن «الأراغن» الصداحة أن تعزف عاليا؛

لتحمد الله في أنغام تنبض بالحياة،

ثم قلن بأصوات خواشع

للمرتلين أن يغنوا مرح الأناشيد،

فترددها الغابات كلها، وتدوي بأصدائها. •••

اشهدنها واقفة أمام المذبح،

تنصت إلى حديث القس الأقدس

الذي يباركها بيديه السعيدتين،

فانظرن كم تحمر الورود في وجنتيها!

ويصطبغ بياضها الصافي بالقرمز الجميل!

كأنما هو في صبغته قرمزي أصيل،

فحتى الملائكة التي ما فتئت

حول المذبح المقدس قائمة،

نسيت فروض واجبها، وأخذت تحوم حولها،

فهي لا تني محدقة في وجهها،

فكلما أنعمت نظرا، ازدادت فتنة بجمالها.

لكنها ما زالت تصوب نحو الأرض عينين خاشعتين

يملؤهما حياء جميل،

فلا تأذن لبصرها أن ينحرف بنظرة واحدة

تثير في الأذهان أدنى ما ينم عن سوء،

لم تستحيين يا حبيبتي أن تسلمي يدك إلي ؛

لتكون لدي عهدا وميثاقا؟

أنشدوا أيها الملائكة! ثم لله سبحوا؛

لتردد أناشيدكم الغابات كلها، وتدوي بأصدائها.

ومن «بروثالاميون» (نشيد تمهيدي لعرس) نقتبس ما يلي:

هناك في المرج على صفة النهر

صادفت ببصري سربا من الحور،

كلهن من بنات هذا النهر الحسان،

تتدلى على ظهورهن ذوائب الشعر المخضر المنفوش؛

لأن كلا منهن في ذلك اليوم عروس،

وكل منهن في يدها سلة من الصفصاف،

ضفرها دقيق من رقيق الغصون،

يجمعن فيها الزهور ليملأن بها المزاهر،

وبالأنامل الرقيقة كن يقطعن في مهارة

رقيق الغصون العالية.

ومن كل ما ازدهر فوق ذلك المرج

أخذن يقطفن شيئا، فمن البنفسج الأزرق الشاحب،

ومن الأقحوان الدقيق الذي يضم أوراقه في المساء،

ومن السوسن الغض وزهر الربيع الأصيل،

يصاحبها مئات من ورود القرنفل،

ليزين بها أزواجهن

يوم الزفاف، وإنه لوشيك الزوال.

يا نهر «التيمز» الجميل، تدفق برفق حتى أتم نشيدي! •••

ورأيت تمين

35

لونهما جميل،

يسبحان على الماء العكر في ترفق ولين،

لم أشهد قط أجمل منهما طائرين،

فلا الثلج المنثور فوق جبال «بندس»

36

كان يوما أنصع من الطائرين بياضا،

ولا «جوف» نفسه حينما تنكر في صورة التم

في سبيل حبه «لليدا» بدا أشد منهما بياضا،

مع أنه بلغ من بياضه - فيما يقال - بياض ليدا،

كل هذا لم يكن في بياض الطائرين ولا دنا منه،

لقد كانا من صفاء لونهما الأبيض،

بحيث بدا النهر الرقيق الذي احتواهما

كدرا ليس بهما خليقا، فأمر النهر موجه أن قف،

لا تبلل منهما ناعم الريش!

خشية أن يلوث بياض ريشهما بماء لا يدانيه بياضا،

أو يشوه ذلك الجمال الرائع،

الذي تلألأ مثل نور السماء

في يوم عرسهما، وإنه لوشيك الزوال.

يا نهر «التيمز» الجميل، تدفق برفق حتى أتم نشيدي.

أما «الترانيم الأربع» فكان الشاعر قد أنشد منهما اثنتين أول الأمر، وكانت الأولى منهما تمجيدا «للحب»، والثانية تمجيدا «للجمال»، لكنه عاد فاعتذر عنهما؛ لأنه كتبهما - كما يقول في مقدمة «الترانيم الأربع» عند نشرها سنة 1596م بعد تمامها - «في أيام الشباب الغضة»، ثم شعر فيما بعد كأنما صوت الوحي يدفعه دفعا أن يكتب ترنيمتين أخريين عن الحب الإلهي والجمال السماوي ليصلح بهما أولئك الذين ضللتهما الترنيمتان الأوليان اللتان امتدح بهما حب الإنسان وجمال الطبيعة، ولسنا ندري فيم هذا الاعتذار كله؟ إنه في «ترنيمة الحب» يصرح أن الحب هو الدعامة التي تمسك اتساق الكون فلا يتهافت أو ينهار، فالحب:

هو للعالم خالقه العظيم، وهو للأحياء

حافظ رحيم، وهو لكل شيء مولاه الحاكم.

والإنسان الذي لا يزال يحتفظ في دخيلته بقبس سماوي من أصله الإلهي، يستطيع مستعينا بالحب أن يسمو عن القدرة المفطورة في تراب الأرض الكثيف، حتى يصعد إلى ذروة السماء. وكذلك في «ترنيمة الجمال» ترى الشاعر يعلن أن الجمال ليس في ظواهر الأشياء كما تبدو للعين، إنما هو سلطان خالد، هو سراج «لن يخمد ولن يخبو ... لأنه وليد الآلهة ويستحيل عليه الفناء.» وذلك لأنه «نموذج مثالي» وضعه الخالق العظيم نصب عينيه حين شرع يصوغ الكائنات، فلما صفت روح الإنسان لطفت مادة جسده؛ لأن «النفس صورة وهي التي تصوغ البدن.»

هكذا تلمس في ترنيمتيه الأوليين اللتين اعتذر عنهما فيما بعد؛ لأنهما تصفان ما في الأرض من حب وجمال، تلمس فيهما - برغم اعتذار الشاعر - نزعة أفلاطونية صريحة، استمدها من رجال النهضة الإيطالية، وهؤلاء بدورهم استمدوها من أفلوطين

37

فيلسوف الإسكندرية الذي تأثر بفلسفة أفلاطون.

ومهما يكن من أمر، فلم يقتصر الشاعر في ترنيمتيه الأخريين «في الحب الإلهي» و«في الجمال الإلهي» على النزعة الأفلاطونية، إنما أضاف إليها شيئا من الفلسفة المسيحية، فأصبحت عاطفة الحب روحية خالصة، يتمثلها في التضحية بالمسيح، وأصبح جمال العالم صورة لله، وصفحة نطالع فيها ما لله من خير وجمال؛ لأن كل ما هو خير جميل. (1-5) ميخائيل درايتن

Michael Drayton (1563-1631م)

كانت مجموعة المقطوعات الشعرية «آستروفل وستلا» التي لم تنشر إلا سنة 1591م، أي بعد موت صاحبها «سدني» بخمس سنوات، هي كل ما شهده الناس، حتى ذلك الحين من هذا الضرب من ضروب الشعر، منذ أدخله «ويت» و«سري» في الأدب الإنجليزي، لكن لم تكد هذه المجموعة تجد سبيلها إلى النشر، حتى أعقبها سيل دافق من المقطوعات، فبلغ ما كتبه الشعراء منها بين عامي 1591 و1957م ما يزيد على ألفين، كان بينها المجموعة التي أخرجها «إدمند سبنسر»، والتي أشرنا إليها عند الحديث عن هذا الشاعر، بل كان شيكسبير نفسه ينشد مقطوعاته في تلك السنين، وكذلك كان بينها مجموعة أخرجها «درايتن» الذي نتحدث الآن عنه.

إن عد الشعراء في عصر اليصابات - فيما عدا كتاب المسرحية - كان «سبنسر» - كما أسلفنا - في طليعتهم جودة، وكان «درايتن» تاليا له. وإنه ليمثل الشاعر في ذلك العهد من حيث تنوع الإنتاج، فهو يقرض «المقطوعة» و«الحكاية المنظومة» و«القصيدة الغنائية» وطوال القصائد التاريخية، بل إن «داريتن» ليعد في طليعة شعراء الموضوعات التاريخية في عصره. ومما كتبه في هذا الباب «رسائل البطولة عن إنجلترا»،

38

نظمها في قافية مزدوجة (لكل بيتين قافية واحدة) وقوام كل بيت عشرة مقاطع. ومن بين تلك الرسائل التاريخية رسالة بعثت بها «جيرالدين» إلى حبيبها «سري»، وأخرى أرسلتها الملكة «كاترين» إلى «أون»،

39

وثالثة وجهتها «روزامند» إلى هنري الثاني، وله كذلك «حروب البارون»

40

يقص فيها قصة «مورتمر» والملكة «إزابل» واغتيال إدورد الثاني، وهي مكونة من أجزاء مثمنة الأبيات، على أن خير ما كتبه «درايتن» من الشعر التاريخي قصيدته «حكاية منظومة عن وقعة أجنكورت»،

41

وله غير ذلك كله قصيدة هي أطول قصائده، عنوانها «بولياولبيون»

42 - ومعناها أرض النعم الكثيرة - كتبها في البحر الإسكندري وبالقافية المزدوجة،

43

وهو في هذه القصيدة يبسط تاريخ بريطانيا وجغرافيتها وأساطيرها، وكانت قصة «أرثر» الأسطورية بين ما أورده الشاعر من تلك الأساطير، وللشاعر فوق هذه القصائد التاريخية قصيدة ممتعة - لعلها أمتع ما جادت به قريحته الشاعرة - عن الجن عنوانها «نمفيديا»

44 - بلاد الجن - يقص فيها قصة غرام بين جنية تدعى «تيتانيا» وجني يسمى «بجوجن» وما يحسه «أوبرن» في ذلك من غيرة.

مثال من مقطوعاته الشعرية:

طغت على «الحب» نزوة مالت به إلى الإسراف،

وأدب للحس مني وليمة وقورة ودعاه،

ثم أضاف من كرم إلى الرفاق رفيقا؛

إذ دعا قلبي ليكون بين الأضياف ضيفا أولا.

ولم يرض هذا المنهوم أن يدير شرابا

سوى عبرات مني غوال تقطرها محاجري،

فاحترق هذا العربيد بحر أنفاسي،

وأخذ يعب الكئوس من هذا الخمر الثمين،

فلما غلبه في شرابه إفراط بغيض

تمثل فيه من فور مسلك المأفون المختال،

وأخذ في الوليمة من سكره

يفتك بعزيزه الحبيب، وهو قلبي الرحيم،

هكذا ترون في ذاك - يا أحبائي - نذيرا رقيقا؛

فتدركون ما يصيبكم إن أبقيتم على زميل سكران.

وهذا مثال من «رسائل تاريخية»، وهي رسالة بعث بها الملك هنري إلى روزامند ردا على خطابها:

الزهرات الرقاق التي تقطر طلها المعسول،

والتي - كما تقولين - تسفح فوق حذائك عبرات،

ليست تئن - أي روزامند الجميلة - لجريرة اقترفتها،

إنما هي ترثى إذ رأتك ماضية عنها سريعة،

لأنه إن مس النبات السام قدماك إذ تسيرين

انقلب ذاك النبات السام أحلى من الورود. •••

ها هي صيحات القتال العنيفة داوية في معسكري

لكن صدري يرتج بصراع أهول من صراع القتال،

فإن ضجت المعركة كانت صيحتي

اسم روزامند الجميلة، وإنه لاسم كريم،

ألا لعنة الله على قلب، أو لسان، أو نفس

يجري بموتك خاطرا، أو حديثا، أو همسا،

فإن في ابتسامة واحدة من عينيك أو أدنى،

حياتي، وأملي، وانتصاري. (1-6) جورج تشابمان

George Chapman (1559-1634م)

أقبل شعراء عصر اليصابات على روائع الأدب اليوناني والأدب الروماني يترجمونها إلى الإنجليزية، فكما ترجم «نورث»

45

كتاب بلوتارك «حيوات متوازية» في نثر إنجليزي، قام تشابمان بترجمة الإلياذة والأوذيسية - ملحمتي هومر الخالدتين - في شعر جيد، أما الإلياذة فقد أجراها في أجزاء يتألف كل جزء منها من أربعة عشر بيتا، وأما الأوذيسية فقد استخدم فيها القافية المزدوجة، وترجمته للإلياذة على وجه الإجمال أقوى وأجود، وعلى كل حال فقد جاءت الترجمة كلها من القوة، بحيث استثارت إعجاب الأدباء، ولعل خير ما جوزيت به من ثناء الشعراء مقطوعة شعرية «لكيتس»

46

عنوانها: «عندما طالعت هومر للمرة الأولى في ترجمة تشابمان»، ولم ينافس تشابمان في ترجمة هومر إلا «بوب» الذي ظفرت ترجمته بالإيثار خلال القرن الثامن عشر، لكن هذا لا ينفي الحقيقة التي كاد يجمع عليها رجال النقد، وهي أن تشابمان كان أقرب من «بوب» إلى روح الشاعر اليوناني.

وما دمنا بصدد الترجمة في عصر اليصابات، فخليق بنا أن نثبت في هذا الموضع أنه كان بين ما ترجم عندئذ من آيات الأدب القديم قصيدة «أورلاندو فيور يوزو» لأريوستو وقد نقلها «سير جون هارنجتن»

47

سنة 1591م، وقصيدة «إنقاذ بيت المقدس» لتاسو، وقد نقلها «فيرفاكس».

48 (2) النثر في عصر اليصابات (2-1) القصة

ظهر في عصر اليصابات نوعان من القصة: نوع يريد به كاتبه تسلية العظماء من رجال القصر، فيجعل أبطاله وأشخاصه من الأشراف والسادة، ونوع يدور حول الطبقتين الوسطى والدنيا من طبقات المجتمع، يخوض فيه الكاتب في صميم الحياة الواقعة، ويقصد به إلى قراء الطبقة الوسطى.

أما النوع الأول فمن أبرز أعلامه «للي» و«سيرفلب سدني» و«جرين» و«لدج»، وأما النوع الثاني فأهم من كتب فيه «تومس دلوني». (أ) جون للي

Gohn Lyly (1554-1606م)

لسنا ندري عن حياته إلا قليلا؛ فقد تخرج في عامه التاسع عشر في جامعة أكسفورد، وأنفق معظم سنيه متصلا بالقصر، ومن أجل القصر أخرج ما أخرج من روايات مسرحية سنعرض لها حين نعرض لرجال المسرحية في ذلك العصر.

وأعظم ما جادت به قريحة هذا الكاتب العظيم كتاب «يوفيوز»

49

وهو جزآن، جزء عنوانه «يوفيوز، أو تحليل للفطنة»، وجزء آخر عنوانه «يوفيوز في إنجلترا».

و«يوفيوز» هذا شاب آثيني من السادة الأغنياء، أخذ يطوف في إيطاليا، فيناقش من يصادفه أثناء رحلته ويكتب الرسائل لأصدقائه، فيتخذ لأحاديثه ورسائله موضوعات من الدين وتربية النشء وما إلى ذلك من موضوعات تستثيرها في نفسه الحوادث العارضة العابرة التي تلاقيه في أسفاره، وهو إنما يقصد في كل ما تحدث به أو راسل به الأصدقاء إلى دروس خلقية في الفضيلة؛ ففي الجزء الأول تتوشج أواصر الصداقة بينه وبين «فلاوطس»،

50

ويأخذ الصديقان معا في خوض المخاطر مدفوعين بحبهما لابنة حاكم نابلي، وهي فتاة تدعى «لوسلا»،

51

ثم تنتهي الرحلة بعودته إلى جامعة أثينا. وفي الجزء الثاني يزور «يوفيوز» إنجلترا وفي صحبته صديقه «فلاوطس»، ثم يعود إلى أثينا مرة أخرى لينتبذ منها مكانا معتزلا، تاركا صديقه، وقد سعدت حياته بالزواج.

على أن ما يستوقف النظر في هذا الكتاب هو أسلوبه الذي كانت له خصائص واضحة جعلت النسبة إلى «يوفيوز» صفة تشير إلى لون معين من الكتابة، فالأسلوب اليوفيوزي هو الذي يكثر فيه التقابل بين أجزاء الجملة، فترى الصدر نقيضا للعجز أو مقابلا له على نحو ما، بحيث يتم للجملة توازن في السمع وهو ما يسمى بالمزاوجة، وكذلك ترى الأسلوب اليوفيوزي مسرفا في الشواهد يسوقها من الأساطير ومن تراجم العظماء، بل يستمدها من الحقائق العلمية عن ظواهر الطبيعة، وتراه أيضا يكرر الكلمة الواحدة تكرارا يريد به المقابلة بين أجزاء الجملة، ويحاول جهده أن يدل جرس اللفظ على المعنى. وبعبارة أخرى أراد «للي» - منشئ هذا الأسلوب - أن يكتب نثرا فيه كل ما يستوقف السمع من خصائص النظم، لكننا لا نستطيع - رغم ذلك - أن نعد كتابته قصيدة من الشعر المنثور؛ لأنه إن وفق في محاكاة النظم في أيسر جوانبه، فقد فاته لب الشعر وصميمه، وهو ذلك الروح الحساس المرهف الذي يجعل الشعر شعرا، فهو يعلم أنه يكتب قصة فيها الخيال وفيها الغرام، ويعلم أن مثل هذه القصة لا بد لها - فيما جرى به العرف حتى ذلك الحين - أن تتخذ النظم أداة للتعبير، فلا مناص له إذن عن اصطناع أدوات النظم، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يكون في كتابه واعظا يبشر بالأخلاق الفاضلة، وليس الوعظ مجال الشعر. وهكذا تجاذب الكاتب محوران، فسقط صريعا بين المحورين، فلا هو الشاعر الحق في روحه، ولا هو الناثر الحق في أسلوبه، لكن عصر اليصابات لم يكن يفرق بين قصة تطير بجناح الخيال وبين موعظة خلقية، فلم ير في أسلوب «للي» شيئا مما نأخذه عليه اليوم، بل ذاع اسمه في الطبقة العليا ذيوعا بعيد المدى، فكان «البدع» بين سيدات الطبقة الرفيعة أن يجري الحديث بالأسلوب اليوفيوزي المنمق المزخرف، وجرى في إثرهن من كان يبغي رضاءهن من العاشقين.

وهاك نموذجا قصيرا من نثره لعله يوضح بعض خصائص أسلوبه التي ذكرنا:

أراك قد ثقل على نفسك أن تتهم في غير إثم، وأن تنفى بغير علة، لكني أعدك سعيدا لخلاصك من حاشية القصر، ولطهارة ذيلك من الجرم. إنك تزعم أن النفي مرير لمن ولد حرا، لكني أظنه أجدى عليك إذا برئت من مواضع اللوم، هنالك أطعمة كثيرة مذاقها مر في فم الإنسان ووقعها أليم في معدته، لكنك إن مزجتها بألوان المرق السائغ جعلت مذاقها شهيا وغذاءها صحيا في آن معا. وهنالك ألوان كثيرة هي للعين أذى، فإن خلطت بها اللون الأخضر أصبحت للبصر شاحذة. وإنما قصدت بهذا القول أن نفيك وإن بدا لك محزنا، ففي وسعك أن تهتدي بهدي الفلسفة فتهون من كربه. إن من يحس البرد لا يدثر نفسه بالهم، بل بالثياب يلبسها، وإن من تبلله الأمطار لا يجفف نفسه بخياله، بل بالنار يصطليها. وأنت يا من أصابك نفي لا ينبغي أن ترثي لحالك بالدموع، بل عليك بالحكمة فهي بلسم جرحك. (ب) سير فلب سدني

اشتهر «سدني» في عالم النثر بقصته «أركاديا»،

52

وهي من القصص التي تعالج أمورا يقصد بها إلى إمتاع الطبقة الرفيعة. وقد فرغ سدني من كتابة قصته هذه سنة 1580م، لكنها لم تنشر إلا بعد كتابتها بعشرة أعوام، وقد كانت غايته الأولى من تأليفها أن تتخذ منها شقيقته «كونتس بمبروك»

53

وسيلة للتسلية. وهي قصة أميرين يونانيين كانت لهما مغامرات ومخاطرات، ولكل من هذه المغامرات والمخاطرات قصة، وإذن فأركاديا مجموعة من حكايات كتب بعضها على غرار حكايات الفروسية التي شاعت في العصور الوسطى، وكتب بعضها الآخر على نسقي الأدب الريفي الذي يعنى بوصف الريف وحياته الساذجة.

وأما الأسلوب فشبيه بالأسلوب اليوفيوزي الذي حدثناك عنه عند الكلام على «جون للي». ووجه الشبه بينهما هو الزخرفة والتزويق، إلا أن سدني كان أقل من زميله «للي» في اصطناع فنون البيان والبديع، فكان في بعض المواضع أطلق روحا وأقرب إلى النثر الشعري الصحيح.

وللكاتب أثر نثري آخر هو «دفاع عن الشعر» سنحدثك عنه بعد قليل حين نستعرض أدب النقد في عصر اليصابات. (ج) روبرت جرين

Robert Greene (1560 تقريبا - 1592م)

هو أيضا من كتاب القصة للطبقة الراقية، كما كان «جون للي» و«فلب سدني»، وهو في قصصه يتأثر خطو «يوفيوز» في أسلوبه، وينسج على منوال «أركاديا» في سياق القصة.

تخرج «جرين» في جامعة كامبردج، وله من العمر عشرون عاما، وعندئذ شد رحاله إلى القارة الأوروبية يجول في أقطارها وربوعها مسايرة للروح السائدة عندئذ بين شباب ذلك العصر، ولبث في رحلته عامين أو ثلاثة، فزار إيطاليا وإسبانيا حيث «شهدت ومارست من ألوان الفجور ما يروعني أن أذكره!» ولما بلغ الثلاثين من عمره نشر قصة «باندوستو»

54

أو انتصار الزمن، فكانت هذه القصة أساسا لرواية من أروع روايات شيكسبير هي «قصة الشتاء».

عاش «جرين» - كما عاش كثير من أدباء العصر - حياة مستهترة، وانتهى به الأمر إلى فقر وإفلاس، فمات في بيت حقير لحذاء فقير، ويقال إن زوجة الحذاء توجت رأس الأديب عند موته بإكليل من الغار.

وهاك مثالا من قصة «باندوستو» يمثل سياقه في النثر:

وا أسفاه أيها الرضيع الوديع البائس! إنك لم تكد تشهد النور، حتى حسدك الدهر، فيا ليت يوم ميلادك كان ختاما لحياتك؛ إذن لختمت بذلك هموم أبيك، وحلت دون مرارة نفسه. ومهما يكن لك من وزر فلست تستحق كل هذه النقمة المضطرمة؛ فقد كانت أيامك أقصر من أن تستوجب هذه الضربة الحامية. لكن موتك هذا الذي جاء وشيكا لا بد أن يشفع لأمك آثامها ... أفأسلمك للدهر أيها الرضيع الوديع، والدهر قد صب عليك نقمته؟ أتكون أمواه البحر مثواك، والقارب الصلب مهدك أتعصف بثغرك الرفيق هوج العواصف بدل أن تلثمه القبل الحنون؟ أتكون الرياح الصافرات أنشودة مهدك، ترقد على أنغامها ، ويكون رغاء البحر الأجاج في مكان اللبان المستساغ؟

وا أسفاه، أي المقادير قد أرادت لك هذه النازلة الفادحة؟ دعني ألثم شفتيك أيها الرضيع الوديع وأبلل بدمعي وجنتيك الرقيقتين، دعني أطوق جيدك بهذه السلسلة، حتى إذا ما أنجاك «الدهر» ساعدتك على النجاة. لئن كان محتوما عليك أن تغوص في اليم المخيف، فها أنا ذا أودعك بقبلة حزينة، وأضرع إلى الآلهة أن تحالفك في رحلتك.

لكن «روبرت جرين» كان أعظم في المسرحية منه في كتابة النثر، فلنا إليه عودة حين نعرض كتاب المسرحية في عصر اليصابات. (د) تومس دلوني

Thomas Deloney (1543 تقريبا - 1600م)

ذكرنا ثلاثة من أصحاب القصة التي قصد بها كتابها إلى الطبقة الرفيعة، والتي اختارت لأشخاصها نفرا من النبلاء أو السراة، وها نحن نختم الحديث عن القصة في عهد اليصابات بكاتب يمثل الضرب الثاني الذي يعالج حياة الطبقة الوسطى، وهو «تومس دلوني» الذي يعد أبرع من كتب في هذا الضرب إذ ذاك، وقد كان نساجا، أنفق معظم سنيه في لندن، وأنشأ قصتين وهما «تومس من أهل ردنج»،

55

وهي تدور حول رجل قماش و«جاك من أهل نيوبري»،

56

التي أهداها إلى جماعة النساجين، ذلك فضلا عن مجموعة قصص عالج فيها حياة الأساكفة، وأطلق عليها «الصناعة الرقيقة»،

57

وقد اتخذ أحدها كاتب مسرحي فيما بعد، هو «دكر»

58

أساسا لرواية له عنوانها «عطلة الحذاء». ولعل أعظم أثر خلفه «دلوني» في تاريخ القصة - مما جعله قمينا أن يسجل في صفحات التاريخ الأدبي - هو أولا: نقله موضوع القصة من طبقة النبلاء إلى الطبقة الوسطى، وتحركه في جو من الأمانة والشرف، بعد أن كانت القصة التي تكتب لحاشية القصر تختار بين أشخاصها رجلا محتالا متشردا ليتفكه قارئوها بخبثه وخداعه. وثانيا: تصويره للحياة في لندن في عصره تصويرا قويا ناصعا. (2-2) الترجمة

وأعظم ما جرى به القلم نثرا في عهد اليصابات مما ترجمه المترجمون عن الأدب القديم والأدب المعاصر، كتابان كان لهما أثر قوي في شيخ أدباء ذلك العصر - شيكسبير - فقد ترجم «تومس نورث»

59

كتاب بلوتارك «حيوات متوازية» عن ترجمة فرنسية «لأميو »،

60

وقد استطاع «نورث» أن يسوق عبارته في نثر سلس قوي، وكانت هذه الترجمة معينا لشيكسبير استقى منه رواياته الرومانية مثل «يوليوس قيصر» و«أنطون وكليوبطره»، حتى ليقال إن شيكسبير قد نقل عن المترجم عبارات بأسرها دون أن يدخل عليها تغييرا يذكر.

وكذلك ترجم «جون فلوريو»

61

كتاب «المقالات» للكاتب الفرنسي «مونتيني »، وإن يكن في نثره أقل جودة من زميله «نورث»، وكانت «المقالات» أيضا مما أعان شيكسبير على إعداد مادته. (2-3) النقد الأدبي

النقد الأدبي لون من الأدب يأتي دائما في مرحلة متأخرة من مراحل التاريخ الأدبي؛ لأن العقل مصدره، ونتاج العقول يتخلف في الظهور عن نتاج القلوب، كما بسطنا في الجزء الأول من هذا الكتاب؛ لذلك لم يكن عجيبا أن تظهر باكورة النقد الأدبي في إنجلترا سنة 1580م، وكانت تلك الباكورة الأولى رسالة «للسير فلب سدني»، الذي حدثناك عنه شاعرا وقصاصا، وهي «دفاع عن الشعر».

62

ومما يستوقف النظر في هذه الرسالة النقدية رأي «سدني» في الشعر، إذ لا يرى النظم ضرورة من ضروراته، استمع إليه يقول: ... نعم إن الكثرة العظمى من الشعراء قد ألبسوا إنتاجهم الشعري ثوبا من الإنشاء الموزون الذي نطلق عليه اسم النظم، لكن ليس النظم الموزون إلا زخرفا لا يبرر أن يجعل من الكتابة شعرا. وحسبك أن تعلم أن كثيرين من أنبغ الشعراء لم ينظموا، وإننا نشهد اليوم حشدا من الناظمين يستحيل أن نسلكهم في زمرة الشعراء ... إن القافية والوزن لا يجعلان من الرجل شاعرا، كما لا تجعل العباءة الطويلة الواسعة من لابسها محاميا، وليس المحامي الذي يرافع في شكة حربية جنديا محاربا، إنما العلامة التي تميز الشاعر هي تلك الصور الخيالية الرائعة، التي يرسمها الشاعر للفضائل والرذائل وما إليها، فيكون منها درسا تتلقاه النفس في ارتياح. نعم إن قادة الشعراء قد رأوا في النظم أجمل ثوب يلبسونه إنشاءهم؛ وذلك لأنهم يريدون أن يمتازوا عن سواهم في طريقة الأداء كما يمتازون في المعاني سواء بسواء، فهم لا يرسلون الحديث كما يرسله المحدثون، ولا يلقون الألفاظ من أفواههم كما اتفق كأنما هم يحلمون، بل تراهم يقدون كل مقطع في كل لفظة بنسب مضبوطة تتناسب مع جلال الموضوع.

وحارب «سدني» في هذه الرسالة أيضا ميل الكتاب في عصره إلى التكلف والإغراب في اختيار اللفظ وصياغة العبارة، فهو يريد طلاقة التعبير وسلاسته، ووضوح التصوير ونصوعه، وهو ينقد كذلك خروج الكاتب المسرحي على قاعدة «الوحدات»، فهنالك مذهب في الرواية التمثيلية يحتم على الكاتب أن يلتزم «وحدات» ثلاثا؛ فلا بد أن تقع حوادث الرواية كلها في مكان واحد، ولا بد أن تتم حوادث الرواية كلها في يوم واحد، ولا بد أن تتصل حوادث الرواية كلها بسلك واحد. لكن فريقا من كتاب المسرحية في عصر اليصابات آثر الخروج على هذه القيود، فنقدهم «سدني» بهذه العبارة الآتية التي يوجهها بصفة خاصة إلى رواية «جور بودك»:

63 ... إنها أخطأت في المكان والزمان معا، وهما لازمان ضروريان لكل ما يؤديه الناس من أعمال، فالواجب أن يمثل المسرح مكانا واحدا، وأن يكون الحد الأقصى للزمن المفروض للرواية يوما واحدا، تبعا للمبدأ الذي وضعه أرسطو ولما تمليه الفطرة السليمة، لكنك ترى في هذه الرواية أياما عدة وأماكن عدة لا تتفق في تصورها مع قواعد الفن.

ولئن كان ذلك كذلك في رواية جور بودك، فلقد أسرفت سائر المسرحيات في ذلك إسرافا شديدا، فقد تشهد آسيا على جانب من المسرح، وأفريقيا على جانب آخر، وقد يكون هنالك أيضا من الأقطار عدد كثير، بحيث لا يجد الممثل عند دخوله على المسرح مناصا من افتتاح حديثه بإيضاح يدل على مكانه، وإلا تعذر فهم الرواية! فقد ترى حينا ثلاث نساء سائرات يجمعن الزهور، وإذن فلا بد لك أن تتخيل حديقة على المسرح، ولكنك لن تلبث قليلا حتى تجيئك الأنباء بأن سفينة تحطمت في هذا المكان بعينه، وإذن فلنا الويل إذا لم نصور لأنفسنا ذاك المكان صخرة، ثم ما هو إلا أن يتبدى لك وحش مخيف يبعث الدخان واللهب، وإذن فعلى النظارة المنكودة أن تتخيل هنالك كهفا، وما هي إلا لحظة حتى يندفع في المسرح جيشان تمثلهما أربعة سيوف؛ وإذن فأين هذا القلب الغليظ الذي لا يتصور المسرح حومة للقتال العنيف؟

وهم في وحدة الزمان أكثر تحللا من قيودهم، فليس بمستغرب عندهم أن تلتقي أميرة شابة وأمير فيقعا في شراك الحب، وما هي إلا مرات تغدو فيها الأميرة على المسرح وتروح حتى تلد طفلا، وإذا بالطفل يافع جميل، ثم يضل اليافع ويشب رجلا ويقع هو كذلك في شراك الحب، ويتأهب لإنسال طفل جديد، وكل هذا في زمن طوله ساعتان ...

هكذا كتب «سدني» رسالة «دفاع عن الشعر»، وتستطيع أن تلمح خلال النماذج المترجمة استقامة تعبيره ووضوح معانيه، فهو في هذه الرسالة لا يثقل نفسه بالتكلف الذي التزمه في قصته «أركاديا» فأفسد عليه كتابته بعض الشيء. (3) المسرحية قبيل شيكسبير

كان قد نشأ عدد من المسارح اشتدت بينها المنافسة، وحرص كل منها أن يحتجز لنفسه مجموعة من الروايات التمثيلية يسابق بها منافسيه، كما حرص كل منها كذلك أن يطالع الجمهور بروايات جديدة بين حين وحين، لهذا تسابق أصحاب المسارح في استخدام الممثلين والكتاب الذين في وسعهم أن يحوروا من الروايات القديمة لتبدو أمام النظارة في ثوب جديد، ولقد لبث شيكسبير نفسه أعواما لا يعدو بفنه حدود التغيير والتحوير، فلما دنا القرن السادس عشر من ختامه ظهرت طائفة من كتاب المسرحية أطلقت على نفسها «فطناء الجامعة»؛

64

لأن رجالها تخرجوا في جامعتي أوكسفورد وكيمبردج، وأراد فطناء الجامعة أن يعيشوا بأقلامهم، فعرضوا على المسارح بضاعتهم من روايات بعضها تحوير للقديم، وبعضها جديد مبتكر، وإنما أطلق هؤلاء الكتاب على أنفسهم هذه الكنية ليمتازوا بها من فريق الكتاب الذين لم يدرسوا دراسة جامعية، وكانوا بالطبع يلمون بما خلفته الآداب القديمة في الفن المسرحي، فيعلمون ما كتبه «بلوتس»،

65

وما تركه «سنكا»

66

من أدباء الرومان، وحاولوا جهدهم أن يطبعوا أذواق الناس على هذا النمط الموروث من المسرحية، وقد أنتج فطناء الجامعة هؤلاء طائفة كبيرة من المآسي والملاهي، ومن الروايات التي تمزج بين المأساة والملهاة، وهذا ضرب جديد من المسرحية يميز المحدثين عن القدماء.

وأشهر هؤلاء «الفطناء»: «مارلو»

67

و «جرين»

68

و«ناش»

69

وهم من أبناء كيمبردج، ثم «للي»

70

و«بيل»

71

و«لدج»،

72

وهم من أبناء أكسفورد. (3-1) جون للي (1554-1606م)

لقد حدثناك عنه قصاصا، وقدمنا بين يديك كتابه «يوفيوز» الذي هو عماد شهرته الأدبية، والذي خلق في الأدب أسلوبا متميزا بخصائصه، وها نحن نعرضه مسرحيا شق طريق الرواية التمثيلية أمام بطلها الجبار وليم شيكسبير، كتب «للي» تسع ملاه قصد بها إلى متعة رجال القصر، منها رواية «المرأة التي في القمر»،

73

وقد كتبها على غرار الشعر الوسيط، فاختار له حلما وجعل شخصياتها معاني مشخصة، فمن أشخاصها «الطبيعة» و«الاتساق» و«التنافر»، ومن ملاهيه «انديميون»

74

و«سافو دفاو»

75

و«إسكندر وكامباسبي»

76

و«ميداس»

77

و«الأم بمبي»

78

و«جالاتيا»

79

و«تحول الحب»

80

وكلها نثر إلا «المرأة التي في القمر» فقد كتبها شعرا.

وكان «للي» يكثر في رواياته تلك من القصائد الغنائية وأروعها القصيدة الآتية التي وردت في «إسكندر وكامباسبي»:

جلس «كيوبد» وحبيبتي «كامباسبي» يلعبان

الورق، وللرابح منهما قبلات، فخسر كيوبد،

فقد قامر بكنانته وقسيه وسهامه،

ثم قامر بما ملكت أمه من حمائم وعصافير،

فضاعت كلها منه، ثم طوح

بعقيق شفتيه، وبالورد

الذي ازدهر على خديه (وليس يدري أحد كيف استطاع)!

ثم ألقى مع العقيق والورد بلور جبهته،

وبعدئذ طوح بنونة ذقنه

وقمرته حبيبتي «كامباسبي» كل هؤلاء،

وأخيرا أسلم لها عينيه،

فربحتهما ونهض كيوبد من لدنها ضريرا،

وا أسفا - أيها «الحب»

81 - أصنعت فيك كل ذاك؟

فيا ويحي! ما عسى أن يكون مصيري!

وجدير بنا أن نذكر فضلا ل «للي» على شيكسبير؛ فقد ترسم شيخ المسرحية خطوه في روايتين من رواياته، هما «جهد الحب ضائع» و«حلم ليلة في منتصف الصيف». ولعل أبقى أثر ل «للي» في تاريخ المسرحية استخدامه النثر في تأليفها، وقد برع في إدارة الحوار براعة كانت لشيكسبير بمثابة النموذج فاحتذاه، وكان مما أخذه عنه شيكسبير كذلك إدخال القصائد الغنائية في مواضع مختلفة من الرواية التمثيلية، وتنكر البطلة الأنثى في هيئة الغلام، واستغلال هذه الحيلة المسرحية في وقت كان يمثل الغلمان فيه أدوار النساء، ولو أن حيلة التنكر هذه كانت شائعة لم تقتصر على «للي» دون سواه. (3-2) جورج بيل

George Peele (1558 تقريبا - 1597م)

هو من طائفة الجامعيين الذين أمدوا المسرح بإنتاجهم، وكان أهم ما أنتجه «محاكمة بارس»

82

و«تاريخ إدورد الأول»

83

و«حكاية الزوجات العجائز»

84

و«داود وباتشيبع»،

85

ثم رواية أخرى يرجح المؤرخون نسبتها إليه وهي «معركة القصر».

أما «محاكمة بارس» فتعرض لنا بارس وقد مثل بين يدي زيوس ليحاكمه على إيثاره فينوس بالتفاحة، فقد كانت نشبت بين الآلهة خصومة إذ ألقت إلهة الشقاق «إيزيس» بين الأضياف في حفلة عرس تفاحة نقشت عليها هذه الكلمات «إلى ربة الجمال»، وكان بين الحضور ثلاث إلهات هن «جونو» و«فينوس» و«مينرفا»، وكل منهن تزعم لنفسها السيادة في دولة الجمال، وترى أنها أولى من زميلتها بالتفاحة، فقرر كبير الآلهة أن يكون «بارس» ابن ملك طروادة حكما بين الإلهات الثلاث، فحكم بارس لفينوس.

86

وترى الشاعر في رواية «محاكمة بارس» يستخدم أوزانا منوعة؛ فهو يستخدم حينا طوال الأبيات المقفاة، وحينا آخر القافية المزدوجة، وحينا ثالثا يكتب شعرا مرسلا وهكذا. وهو يجعل الأشخاص الذين يمثلون «القدر» - جريا على طريقة القدامى - يتكلمون اللاتينية، ثم هو يجري أغنية باللغة الإيطالية على لسان «هلن»، ولعله التزم كل هذا ليدل على دراسته الجامعية العلمية التي كانت مصدر زهو لتلك الطائفة جميعا.

وأما «تاريخ إدورد الأول» فجديرة بالذكر؛ لأنها تحدد مرحلة التطور التي بلغتها طريقة الكتابة التاريخية، فهي حلقة وسطى بين أنباء التاريخ كما كانت تكتب قديما وبين التاريخ كما أجراه شيكسبير في رواياته التاريخية الخالدة.

و«حكاية الزوجات العجائز» ملهاة ممتعة قصد بها الكاتب فيما قصد إليه أن يسخر من الناقد المعاصر له «جبريل هارفي»، ولهذه الرواية فوق ذلك أهمية في تاريخ الأدب؛ لأنها أوحت بقطعة أدبية عظيمة جادت بها قريحة ملتن فيما بعد، وأعني بها «كومس» التي سنحدثك عنها في فصل تال سنعقده لهذا الشاعر العظيم. ومما يزيد في أهمية هذه الرواية من الوجهة التاريخية أيضا أنها كانت أول مسرحية تقصد إلى السخرية.

على أن أروع ما خلفه لنا «بيل» رواية «داود وباتشيبع» التي كتبها في شعر مرسل سلس جميل.

وهاك بضعة أسطر منها تجري على لسان «داود» لتلم بقبس من طريقته في التعبير والخيال:

ها قد أقبلت حبيبتي طافرة كالغزال،

أقبلت ومعها مهجتي موشجة في شعرها،

ولكي أستمتع بحبها سأقيم لها مخدعا باذخا

سأقيمه على مسمع من مائة جدول بالماء جارية،

تدور بموجاتها الرشيقات في منشعب من الحنايا،

تلف مناطق تطوافها الجميلة

كما تتحوى الثعابين في أعشاشها،

وذاك خشوعا منها لجلال غبطتها،

إنها ستجتلب بغمغمتها النعاس المريح؛

ليمس بصولجانه الذهبي منها الجبين.

افتحوا الأبواب واستقبلوا حبيبتي!

أقول افتحوها وانشدوا وأنتم تفعلون،

مرحبا باتشيبع الجميلة، يا مهجة الملك داود. (3-3) روبرت جرين

Robert Green (1560 تقريبا - 1592م)

لقد ذكرناه منذ قليل بين كتاب القصة، وبسطنا لك طرفا من حياته المستهترة الخليعة التي أورثته الندم في أخريات سنيه، وأما نتاجه المسرحي الذي أنتجه كله في خمسة أعوام تقع بين عامي 1586 و1591م، فهو «بيكن الراهب وبنجي الراهب»

87

و«ألفونس ملك أرجون»

88

و«أورلاندو فيور يوزو»،

89

وله كذلك «مرآة للندن ولإنجلترا»

90

اشترك في تأليفها مع زميله «تومس لدج» كما ساهم - فيما يقال - في رواية هنري السادس مع شيكسبير، وله غير هذه رواية أو روايتان ليس لهما شأن كبير.

وخير مسرحياته «بيكن الراهب وبنجي الراهب» وهي في حقيقتها روايتان موصولتان بصلة واهية، ويمكن فصلهما في غير عسر، وهما: قصة ساحر يجري فيها على نسق «الدكتور فاوست» لمارلو،

91

ثم قصة حب ريفي جاءت في جودتها دليلا قويا على موهبة «جرين» في الأدب المسرحي. ولعل شيكسبير أن يكون مدينا لهذه القصة بشيئين، فهو مدين لها بشخصية من أبدع شخصياته الريفية، وهي «برديتا»

92

في «قصة الشتاء»، وهو كذلك مدين لها بالجو الريفي العذب الجميل الذي أشاعه في المناظر الريفية التي وردت في رواية «كما تهواه».

وجدير بنا قبل أن نختم الحديث عن «روبرت جرين» أن نشير إلى حقده المضطرم على شيكسبير حين رآه يصعد في عالم المسرح ويتلألأ في سمائه، بينما ألفى نفسه يهوي ويتضاءل. فقد أرسل نفثة حامية وهو على فراش الموت يحذر بها زملاءه الثلاثة: «مارلو» و«ناش» و«بيل» من الخطر الداهم الذي يوشك أن يكتسحهم جميعا، وينصحهم أن يتخلوا عن الكتابة للمسرح؛ لأن طائفة من الممثلين - يقصد شيكسبير - تستغل ما ينتجونه من مسرحيات في بناء مجدها، قال جرين في هذه الرسالة المشهورة:

توافه العقول ثلاثتكم إذا أنتم لم تتعظوا بشقوتي، إن تلك الدببة لم ترد أن تفتك بأحد منكم كما أرادت أن تفتك بي، وإنما أعني تلك الدمى الي تتحدث بأفواهنا، وتلك الأمساخ التي تزدان بألواننا الزاهية ... لا تركنوا إلى هؤلاء الممثلين، فإن بينهم «غرابا» ناشئا يتحلى بريشنا، ويظن أنه بمثل قوله «قلب نمر اكتسى بجلد ممثل.»

93

قادر على صياغة الشعر المرسل في لفظ جزل كأحسن رجل بينكم ... (3-4) كرستفر مارلو

Christopher Marlowe (1564-1593م)

هو أعظم «فطناء الجامعة» إطلاقا، وأفحل من شهدهم الأدب الإنجليزي قبل شيكسبير من كتاب المسرحية، ولد في نفس العام الذي ولد فيه شيكسبير من أب حذاء، وتلقى تعليمه بالمجان في المدرسة الثانوية في بلده «كانتر بري»، ومنها قصد إلى كيمبردج، حيث تخرج عام 1583م. وهنالك في تلك الجامعة توشجت أواصر الود بينه وبين «جرين» و«ناش» من كتاب المسرحية. وقد عاش «مارلو» مستهترا ماجنا حتى ختم حياته قبل أن يبلغ الثلاثين بطعنة من خادم في حانة.

كتب «مارلو» سبع روايات مسرحية أهمها «السيرة المفجعة للدكتور فاوست» و«يهودي مالطة» و«تيمور لنك» و«إدورد الثاني» التي تعد أولى المسرحيات التاريخية العظيمة التي ظهرت في عهد اليصابات.

لم تكن رواية «تيمور لنك» رائعة في فنها وشعرها فحسب، بل جاءت فاتحة قوية للمسرحية تكتب بالشعر المرسل ليستمتع بها الشعب على اختلاف طوائفه، فلئن سبقتها «جور بودك» في الشعر المرسل، فلم تكن هذه شعبية إنما قصد بها إلى الخاصة المستنيرة. وتقع «تيمور لنك» في جزأين قوام كل منهما خمسة فصول، وهي تتميز بفخامة أسلوبها وبما فيها من مواقف تستثير العاطفة، ويؤخذ على الشاعر فيها إغراقه في اختيار اللفظ الرنان وإطنابه فيما كان يكفي فيه الإيجاز. وهاك أسطرا منها :

قال تيمورلنك عن مرض زوجته الملكة «زيتوقراط»:

سواد جمال يوم هو أسطع الأيام ضياء،

إن الكرة الذهبية التي تحمل للسماء نارا سرمدية،

والتي كانت ترقص في جلال فوق مفضض الموج؛

ليعوزها اليوم وقود كان يذكي شعاعها،

فاعتراها الإعياء، ولما جللها شنيع العار

عمدت إلى سحابة عابسة فعصبت جبهتها،

واستعدت أن تظلم الأرض بليل لا ينتهي.

ولما ماتت زوجته وجه الخطاب إلى صديقه ملك فاس قائلا:

ماذا! أماتت؟ جرد أي «تكليز» حسامك،

واثلم به الأرض علها تنشق نصفين،

فنهبط إلى قباء كانت منذ الأزل؛

لنجذب «أخوات الفناء» من الذوائب،

ونلقى بهن في خندق الجحيم ذي الشعب الثلاث

جزاء ما اختطفن جميلتي زيتوقراط.

أما رواية «الدكتور فاوست» فهي قصة الساحر والشيطان التي تناول «جيته» فيما بعد وجلاها في آيته الخالدة، وهي بغير شك أعظم مسرحية شهدها الأدب الإنجليزي قبل شيكسبير، وقد ظهر فيها «مارلو» شاعرا مجيدا كما ظهر مسرحيا من الطراز الأول. اقرأ له هذه الأسطر الممتازة التي قالها «فاوست» مخاطبا بها شبحا لهلن - بطلة طروادة - أتى له به الساحر:

أذاك هو الوجه الذي سير في البحر ألفا من الأفلاك؟

وأحرق في «اليوم» أبراجها الشوامخ؟

أي هلن الجميلة! خلديني بقبلة منك.

إن شفتيها لتمتصان الروح من جسدي: انظر إليها سابحة!

تعالي، هلن، تعالي ردي إلي روحي!

لأقيمن ها هنا، فالفردوس في هاتين الشفتين،

كل ما عداك يا «هلنا» حثالة ممجوجة،

سأكون لك «بارس»

94

وفي سبيل حبي إياك

سأقوض «ورتنبرج» كما تقوضت في سبيلك طروادة،

سأنازل «منلاوس» الضعيف،

وأضع رايتك على قبعتي المريشة،

نعم، وسأطعن «أخيل» في عقبيه،

ثم أعود إلى هلن لقبلة أقبلها،

يا لهف نفسي! لأنت أرق من هواء المساء،

وقد لفه جمال خلعته مئات النجوم.

ويختتم الشاعر رواية «الدكتور فاوست» بخاتمة هي من أروع ما نصادفه في الأدب المسرحي على إطلاقه، يقولها البطل «فاوست»، وهو ينتظر قضاءه المحتوم، وها نحن ننقلها إليك:

فاوست (تدق الساعة الحادية عشرة): لهفي عليك يا فاوست!

لم يعد لك في العيش إلا ساعة واحدة،

وبعدئذ ستنزل بك النازلة إلى أبد الآبدين!

اجمدي يا أفلاك السماء. فأنت دوارة منذ الأزل،

اجمدي ليقف الزمن فلا ينتصف الليل أبدا،

يا عين الطبيعة الفاتنة أشرقي، عودي إلى الشروق،

واجعليه نهارا دائما، أو فاجعلي هذه الساعة الباقية

تدوم عاما، أو شهرا، أو أسبوعا ، أو ليلة ونهارا. •••

لعل فاوست أن يتوب فينقذ روحه!

إن النجوم ما تزال تتحرك، والزمن ما يزال يجري، وستدق الساعة دقتها.

إن الشيطان آت وستنزل اللعنة بفاوست،

أواه! أريد الصعود إلى ربي واثبا - من ذا إلى الأرض يجذبني؟ -

انظر، انظر إلى حيث دماء المسيح دافقة تحت القبة الزرقاء!

إن قطرة واحدة لتنقذ روحي، بل تنقذها نصف قطرة، أواه يا مسيحي!

أواه، لا تصدعوا قلبي لندائي باسم المسيح!

سأظل أناديه: آه! اعف عني أيها الشيطان!

أين هو الآن؟ إنه اختفى، انظر إلى حيث الله

يمد إلي ذراعا ويحني جبهة متجهمة.

إلي أيتها الجبال والتلال، إلي فانقضي علي،

واستريني من غضبة الله العاتية!

لا، لا!

لأغوصن في الأرض رأسا وعقبا،

فانشقي أيتها البطحاء! أواه، لا تفعلي، لن تكون الأرض لي مستقرا!

أيتها النجوم التي سطعت عند ولادتي،

فأجرت لي الأقدار بالموت والجحيم،

اجذبي اليوم فاوست كما ينجذب الضباب الكثيف،

اجذبيه فاحشريه في أحشاء تلك الغمائم السارية،

حتى إذا ما نفثت نفثك في أرجاء الفضاء

كان لأطرافي أن تمرق من أفواهك الداخنة.

فيتاح لروحي عندئذ أن تصعد إلى السماء! (الساعة تدق نصف الساعة.)

وا حسرتاه نصف الساعة قد مضى! وسرعان ما تمضي الساعة كلها. ويلاه يا رباه!

إن لم ترد أن تشمل روحي برحمتك

فباسم المسيح الذي افتداك بدمه

مر بختام لهذا العذاب الموصول،

مر فاوست أن يحيا في الجحيم ألف عام،

بل مائة ألف إذا كان يأتيه في النهاية خلاص!

أواه! ليس للنفوس المنكودة ختام محدود!

لم لم تكن مخلوقا بغير روح؟

أو لماذا كتب لروحك التي فيك الخلود؟

آه! وودت لو صدق فيثاغورس في تناسخ الأرواح؛

إذن لطارت هذه الروح عني، وتحولت

إلى حيوان أعجم! ألا إن العجماوات كلها سعيدة،

لأنها إذ تموت

لا تلبث أرواحها أن ترتد إلى عناصرها،

أما روحي فلا بد أن تبقى وأن تنغمس في الجحيم،

يا لعنة الله تنزلي على أبوين أنجباني!

كلا، فاوست، لا تلعن إلا نفسك والشيطان

الذي استلبك نعيم الفردوس. (تدق الساعة الثانية عشرة.)

آه! دقت الساعة. دقت الساعة! فتحول يا جسد إلى هواء،

أو حملك الشيطان سريعا إلى جهنم! (رعد وبرق.)

أيتها الروح تحولي إلى قطرات ماء دقاق،

ثم اسقطي في المحيط فلا يجدك واجد! (تدخل الشياطين.)

رباه، رباه، لا تلق إلي بهذه النظرات الحداد!

أيتها الأفاعي والثعابين، دعيني أتنفس قليلا!

لا تفتحي فاك أيتها الجحيم البشعة! لا تقبل أيها الشيطان!

سأشعل النار في كتبي! أواه مفستوفولس. (يخرج فاوست في صحبة الشياطين.)

وله غير ذلك - كما أسلفنا - «يهودي مالطة»، التي ربما أوحت بشيء لشيكسبير في روايته «تاجر البندقية»، ثم «مذبحة باريس» التي عبر فيها عن روح المقت للعقيدة الكاثوليكية، وهي روح سادت عصره، وله فوق ذلك «إدورد الثاني» التي هي بحق أول رواية تاريخية عظيمة في تاريخ الأدب الإنجليزي، وبدأ رواية أخرى عنوانها «ديدو ملكة قرطاجنة»، لكنه لم يتمها وأكملها «ناش».

ولكي تعرف لمارلوا قدره في الأدب الإنجليزي نسوق لك العبارة الآتية التي قالها عنه الشاعر الإنجليزي «سونبيرن»:

95 «مهما قيل في مكانة «كرستفر مارلو» وقيمته كزعيم في زمرة الشعراء الإنجليز، فلن يتجاوز حدود الإنصاف، إذ لست تجد بين هؤلاء الشعراء شاعرا سواه كان له مثل ما لمارلو من أثر عميق مباشر، كان مارلو - وحده دون سواه - أول من هدى شيكسبير في العمل الأدبي سواء السبيل، وليس في موسيقاه نغمة واحدة جاءت مرددة لشاعر سابق، بيد أن أصداءه أخذت تتردد في أنغام «ملتن» الإنجليزي، التي كانت أطول نفسا، لكنها ليست بحال أعلى قدرا، ومارلو أعظم مستكشف في الشعر كله، فهو في هذا المجال رائد لا يشق له غبار في الجرأة وصدق الوحي، فما سبقه في اللغة الإنجليزية شعر مرسل بمعناه الصحيح، ولا سبقته مأساة بالمعنى الدقيق، ثم تمهد الطريق من بعده واستقامت المسالك أمام شيكسبير.»

فبماذا يمتاز مارلو؟

يمتاز بمذهبه في المأساة، فهو فيها يعتنق مذهب اليونان القدماء، وقد دخلته روح النهضة، ففي مأساته بطل عظيم عملاق يعلو برأسه فوق سائر الشخوص، ويزدري سلطان الآلهة، ثم يسقط سقطة قاضية لا حياة له بعدها ، لكنه إلى جانب ذلك لا يجعل أبطاله أنصاف آلهة أو رجالا أريد بهم أن يتبوءوا مكانة عالية، فهذا هو «تيمورلنك» يصعد من أصل وضيع، ثم هذا «باراباس» اليهودي و«فاوست» لم يبلغا في الحياة شأوا بعيدا.

وتستطيع أن تلمس أثر النهضة واضحا بارزا في هذا التعديل الذي أدخله «مارلو» على المأساة القديمة؛ إذ كان من آثار النهضة أن ضاعفت شعور الإنسان بفرديته، فلم يعد يجوز للمسرحي بعدئذ أن يجعل أساس مأساته سقطة العظيم؛ لأنه عظيم سقط، بل ها أنت ترى «مارلو» يقيم مأساته على شخصية ضخمة تتجسد فيها عاطفة مضطرمة تطمح إلى المجد، وقد يكون هذا المجد سلطانا كما في «تيمور لنك»، وقد يكون ثراء عريضا كما في «يهودي مالطة»، وقد يكون علما ومعرفة كما في «الدكتور فاوست»، ثم يجعل هذه الشخصية الطامحة مندفعة بعاطفتها القوية، حتى تلاقي حتفها في سبيل تحقيقها. فليس سر المأساة إذن عند مارلو هو مجرد السقوط، بل سرها في الصراع العنيف بين دوافع الطموح وبين عقبات الحياة وعوائقها، ثم هو يضيف في «فاوست» صراعا آخر يحتدم أواره في دخيلة نفس البطل.

الغاية من المسرحية عند مارلو أن يصور بها بطلا عملاقا يصارع الظروف التي تعترض سبيله إلى ما يريد لنفسه من عظمة؛ ولذا ترى سائر الشخصيات في الرواية أعراضا عابرة تتجمع حول الشخصية الرئيسية التي هي قطب الرحى، وليس لها قيمة في مجرى الحوادث إلا بمقدار ما تتصل بحياة ذلك القطب العظيم. وللنساء عنده جانب ثانوي؛ ولذلك لا يقيم الرواية على الحب. لكنه حين كتب روايته «إدورد الثاني» غير من طريقته لتلائم موضوعا تاريخيا، فقد جعل بطله محورا رئيسيا لحوادث الرواية، غير أنه اضطر أن يصور أعداء الملك على شيء من القوة ليستطيع أن يمهد لسقوطه، ولكيلا يعدو الحقيقة التاريخية التي تشير إلى ما كان عليه إدورد من ضعف وتهافت. ومما هو جدير بالذكر أن شيكسبير جرى على منواله في الطريقتين جميعا، ففي رواية «رتشرد الثالث» طغت شخصية رتشرد على كل من عداها، بحيث لم تكن هذه سوى أشياء تافهة، وفي رواية «رتشرد الثاني» نفخ في شخصيات أخرى شيئا من القوة تنافس به الشخصية المحورية.

من ذلك ترى أن المأساة عند مارلو نوعان: نوع نسج فيه على منوال المسرحية اليونانية مع تعديل اقتضته النهضة، وآخر كان فيه بعيد الشبه عن آثار اليونان. فأما في النوع الأول فقد جعل في الرواية محورا واحدا جبارا تدور حوله الحوادث كلها، وأما في النوع الثاني فقد عني بعض العناية بشخصيات الرواية الأخرى؛ لأن حبكة الرواية تقتضيها. وقد يجمل بنا في هذا الصدد أن نقول إن شيكسبير قاس على مارلو حينا، وتقدم عليه حينا، وخرج عليه حينا ثالثا. فأما خروجه عليه ففي إيثاره أن تكون أبطاله دائما من ذوي المكانة العالية، وأما تقدمه عليه ففي أنه في الكثرة الغالبة من رواياته عني بتصوير طائفة من الشخصيات إلى جانب الشخصية الرئيسية، وذهب في ذلك إلى حد جاوز ما ذهب إليه مارلو في «إدورد الثاني». وأما قياسه عليه ففي أنه جرى على غرار «فاوست» في أنه جعل أمس المأساة ما يضطرم في دخيلة نفس البطل من صراع.

كانت روح المأساة عند مارلو يونانية إلى حد كبير في موضوعها، أما في صورتها فقد اتخذت وضعا مبتدعا جديدا، فشقت بذلك الطريق أمام المسرحية بعده. فالمأساة اليونانية تتوخى «الوحدات الثلاث»، إذ هي تركز زمن المأساة فلا يجاوز يوما واحد، ثم هي لا تكاد تغير مكان الحوادث، وهي فوق ذلك تربط الحوادث كلها في سلك واحد. أما عند مارلو فيجوز أن تقع حوادث الرواية في أعوام كثيرة، ويجوز أن يتغير موضع الحوادث من بلد إلى بلد، ثم يجوز ألا ترتبط حوادث الرواية إلا بكونها متصلة بشخصية البطل الواحد، وسواء بعد ذلك أكان في الرواية حبكة واحدة أم حبكتان. وكذلك كان مما أدخله مارلو فانحرف به عن المسرحية اليونانية أنه أجاز القتل والقسوة والعنف على مشهد من النظارة؛ وذلك لأن أهل عصره قد مالت بهم العاطفة القوية الجارفة إلى استساغة مثل هذه المناظر، أما النظارة في عصر اليونان فلم يجيزوا قط أن يروا على المسرح فتكا ولا تعذيبا.

ولا بد لنا قبل ختام الحديث عن مارلو أن نذكر كلمة قصيرة عن تجديد عظيم في الشعر الإنجليزي كان له فيه أكبر الفضل، وذلك أنه استخدم الشعر المرسل، فمهد بذلك الطريق سوية أما شيكسبير. ولقد قلنا إن «ساكفيل» سبقه إلى الشعر المرسل في رواية «بوربودك»، لكن لم تكن تلك البداية إلا باكورة ضئيلة لهذا الشعر المرسل القوي الذي كتب به «مارلو» حتى سمي البيت من شعر مارلو «بالبيت الجبار»، وأصبحت هذه كنية تطلق على البيت ذي المقاطع العشرة الذي تدوي تفعيلاته في الأذن كما تدوي ضربات الطبل، وهو الوزن الذي استخدمه مارلو. وتبع شيكسبير زميله في الشعر المرسل، وأدخل عليه تعديلا ليس هنا موضع تفصيله. ولسنا ندري ماذا كان شيخ الشعراء ليصنع لولا هذه الأداة الطيعة التي خلقها له «مارلو» فأحسن استخدامها. (3-5) تومس كد

Thomas Kyd (1558-1595م تقريبا)

هؤلاء هم «فطناء الجامعة»، وما أدوه للأدب المسرحي قبل شيكسبير، وسنضيف إليهم الآن كاتبا آخر نكاد نجهل عنه كل شيء، إلا أنه أخرج روايتين أو ثلاثا، وذلك هو «تومس كد»، الذي ولد عام 1558م، وزامل سبنسر في الدراسة، ومات سنة 1595م تقريبا.

وإنما نذكره في قصة الأدب؛ لأنه كان أول كاتب مسرحي أنشأ في الأدب الإنجليزي ما يسمى «بمأساة الدم»، التي لا تدور حوادثها إلا على سفك الدماء، ولا تكاد تنتقي من الحوادث إلا الطعن والضرب والفتك والمنازلة والجنون. وقد استمد «تومس كد» مأساته هذه من «سنكا» كاتب المأساة في الأدب اللاتيني القديم، وأشهر ما خلفه لنا هذا المسرحي «المأساة الإسبانية».

لكن «كد» لم يكن مقلدا «لسنكا» بغير تجديد، فلئن أخذ عنه فكرة أن يكون للمسرحية مقدمة تمهد لها، كما أخذ عنه فكرة أن يكون في الرواية «شبح» لأحد الموتى يعد ويتوعد، فقد حاول أن ينزل من جفاف العلماء وتكلفهم إلى ما يثير العاطفة في عامة الشعب، ونبذ من روايته «الجوقة» التي كان يستخدمها المسرحي القديم لتستخلص العظة والعبرة من الحوادث.

وجدير بنا في هذا الصدد أن نذكر أوجه الشبه بين مأساة كد وبين رواية هاملت لشيكسبير، لنرى في جلاء أن شيخ المسرحية قد اهتدى بزميله «كد» في أثر من أعظم ما جادت به قريحته من آثار؛ فالمسرحيتان كلتاهما تقومان على الثأر، وفي كل منهما «شبح» يؤثر في مجرى الحوادث، وفي كل منهما تسفح على خشبة المسرح دماء القتلى، وفي كل منهما رواية تمثل ليكون تمثيلها عاملا هاما في سير الأمور إلى غاية منشودة، وفي كل منهما جنون حقيقي وجنون مفتعل، ثم في كل منهما بطل متردد يقدم رجلا ويؤخر أخرى! فكأنما كانت «المأساة الإسبانية» نصب عيني شيكسبير وهو يكتب هاملت.

بهؤلاء الكتاب عبد طريق المسرحية حتى انتهت إلى جبارها العظيم وليم شيكسبير. (4) وليم شيكسبير (1564-1616م)

على نهر آفن الذي ينساب خلال المروج، تقع مدينة ستراتفورد عندما ينعطف مجراه في قوس جميل. وهنالك على ضفة النهر ترى كنيسة بنيت على غرار الفن القوطي الجميل، وعلى مقربة منها حديقة غناء فسيحة الأرجاء، ويحيط بستراتفورد ريف فاتن رائع، تعلو فيه الأرض هضابا وتهبط وهادا، تكسوها الخضرة في كل أرجائها، فإن ارتفعت على السفوح وجدت قطعان الضأن ترعى، وإن هبطت إلى بطون الوديان رأيت الماشية زرافات. والحياة الريفية في تلك المنطقة زاخرة بصنوف النشاط، ففيها الرعي، وفيها الزراعة، وفيها صيد الحيوان.

في هذه المدينة ولد الشاعر العظيم «وليم شيكسبير»، وفي كنيستها القوطية عمد، وفي ريفها الجميل نشأ وتربى، وعرف ما الرعي والرعاة وما الأرض وزارعوها، وكيف يكون صيد الحيوان، وفي حديقتها الفسيحة كان يقضي أماسيه إن صفا الجو وعذب الهواء.

أبوه «جون شيكسبير» لم يكن من أبناء ستراتفورد، إنما هبط إليها سليلا لأسرة كانت من ملاك الأرض يوم كانت الأرض عصب الحياة. جاء أبو الشاعر إلى هذا البلد وهو ما يزال في شرخ الشباب، ولم يلبث أن اختار شريكة حياته «ماري آردن» وهي ابنة تاجر غني كان يقيم في بلد قريب من ستراتفورد، وهو سليل أسرة من أمجد الأسر في إنجلترا وأعرقها أصولا، فورث الأرض والحدائق ، ولم يكن له ابن يئول إليه ماله، إنما كانت له بنات كثيرات، صغراهن هذه الفتاة التي كتب لها أن تنجب أعظم الشعراء، وكانت أحب البنات إلى أبيها، فأوصى لها بما يملك من فسيح الضياع، ولولا أن هذا الإرث قد ضاع في سداد دين لانتهى أمره إلى شاعرنا وليم شيكسبير.

استهل «جون شيكسبير» حياته العملية في يسر وتوفيق، وسرعان ما أصبح علما بين أبناء ستراتفورد، ومن بين عقار كان يملكه بيت لا يزال قائما يحج إليه الزائرون ألوفا كل عام.

ففي تلك الدار ولد «وليم شيكسبير» في الثالث والعشرين من أبريل عام 1564م، ولما بلغ عامه السابع، أرسله أبوه إلى المدرسة في ستراتفورد، حيث تعلم اللاتينية وطالع أجزاء من الأدب اللاتيني كان لها أثر أبلغ الأثر في تكوينه الأدبي. ولبث «وليم» في مدرسته ما يقرب من ثمانية أعوام، ثم غادرها وله من العمر أربعة عشر عاما ونيفا، وأخذ يتقلب في أحضان الطبيعة بين أترابه من الشباب، يعب من خضمها عبا حتى امتلأت بها نفسه. فإذا ما آن أوان الكتابة أخذ ينثر علمه الواسع بأجزائها هنا وهناك. ويختلف الرواة في الصناعة التي امتهنها في سني شبابه، فقال منهم قائل إنه اشتغل بالتدريس في مدرسة ريفية، وزعم لنا آخر أنه مارس صناعة أبيه فكان قصابا، ولما كان النقد الحديث قد نفى عن أبيه هذه الصناعة، فالأرجح أنها تسقط كذلك عن ابنه.

وتزوج «وليم شيكسبير» عام 1582م من «آن هاثاواي»، وهي ابنة مزارع غني كان يقيم على مقربة من المدينة، وكان بين أبويهما صداقة قديمة، وكانت الفتاة تكبره بما يدنو من ثمانية أعوام، وأنجب منها «سوزانا» وتوأمين هما ولد أسماه «هامنت» وبنت أطلق عليها «جودث».

ولما بلغ الفتى عامه الحادي والعشرين، كان لا يزال متصلا بصحبة الشباب المستهتر الماجن، وشاءت لهم ميعة شبابهم ذات ليلة أن يتسوروا حديقة يملكها عظيم المنطقة «السير تومس لوسي» على مقربة من ستراتفورد؛ ليسرقوا من غزلانه، فكان وليم شيكسبير بين من أمسك بهم الحراس، ووضع في محبس الاتهام حينا ، وهنا أزهرت الباكورة الأولى من شعره، فأنشأ «حكاية منظومة» يهجو بها السير لوسي انتقاما لما أصابه. وقد ضاعت هذه الباكورة الأولى، التي أثارت الغضب في نفس المهجو، فشدد عليه النكير، حتى لم يجد شاعرنا بدا من الفرار إلى لندن.

ويقول بعض الرواة: إنه لما وصل إلى لندن أخذ يرتزق من إمساك الجياد لأثرياء القوم الذين كانوا يقصدون إلى المسارح على ظهور جيادهم، لكنها رواية يميل النقد الحديث إلى نفيها، وسواء صحت الرواية أو كذبت، فسرعان ما وجد شاعرنا سبيله إلى جوف المسرح، وكان أول عمله به أن يعاون الملقن، فيعلن الممثلين أن يستعدوا للظهور على المسرح كلما اقترب دور أحدهم، ثم ما لبث بعد ذلك أن علا شأنه ممثلا وكاتبا، فدر عليه التمثيل والكتابة مالا وفيرا، مكنه من شراء عقار في بلده الذي أوى إليه عام 1612م بعد أن أفرغ جعبته في لندن. ولم تمض عليه سنوات أربع حتى أسلم الروح عام 1616م في الثالث والعشرين من أبريل، وهو نفس اليوم الذي شهد مولده.

ولقد تواضع النقاد على أن يقسموا حياته الأدبية أربعة أقسام، يتميز كل منها بسمات وخصائص، ويمتد كل قسم منها ستة أعوام على وجه التقريب، فأما ثمرات المرحلة الأولى (1588-1594م)، فهي «تيتس أندرونكس»

96

و«جهد الحب ضائع»

97

و«ملهاة الأخطاء»

98

و«حلم ليلة في منتصف الصيف»

99

و«روميو وجوليت»

100

و«سيدان من فيرونا»

101

و«هنري السادس» بأجزائها الثلاثة و«رتشرد الثاني» و«رتشرد الثالث»، كما أنتج في هذه المرحلة عدا رواياته قصيدتيه العصماوين «فينوس وآدنس»

102

و«لوكريس».

103

وأما نتاج المرحلة الثانية (1595-1601م) فهو «الملك جون»

104

و«تاجر البندقية»

105

و«ترويض المتمردة»

106

و«هنري الرابع» بجزأيها و«زوجات وندسور المرحات»

107

و«هنري الخامس» و«جعجعة ولا طحن»

108

و«كما تهواه»،

109

و«الليلة الثانية عشرة»

110

و «خير كل ما ينتهي بخير»،

111

كما أنتج أيضا «مقطوعاته الشعرية» في هذه المرحلة.

وأما المرحلة الثالثة (1601-1607م)، فقد أنتج فيها «يوليوس قيصر»

112

و«هاملت»

113

و«كيل بكيل»

114

و«عطيل»

115

و«ماكبث»

116

و«الملك لير»

117

و«ترويتس وكرسدا»

118

و«أنطون وكليوبطره»

119

و«كوريولانس»

120

و«تيمن الأثيني».

121

وفي المرحلة الرابعة (1608-1613م) أخرج «بركليس»

122

و«العاصفة»

123

و«سمبلين»

124

و«قصة الشتاء»

125

و«هنري الثامن».

ولما كانت رواياته تقع في ثلاثة أقسام، فهي إما أن تكون روايات تاريخية، أو ملاهي، أو مآسي، فسنتناول كل مرحلة من مراحل إنتاجه الأربعة، لنعرض فيها ما أنتجه الشاعر من تلك الأنواع الثلاثة في شيء من التفصيل. (4-1) المرحلة الأولى (1588-1594م) (أ) الروايات التاريخية

يظهر أن الشاعر في هذه المرحلة من حياته الأدبية لم يكد يصنع في رواياته أكثر من تنقيح الموجود مما أنتجه سواه، وهو هنا في شبابه المرح الطليق المضطرم بحدة العاطفة؛ ولذلك تراه يعنى بالعبارة الجزلة الرنانة، ويصوغ الفكرة الواحدة في عبارات كثيرة مختلفة، ويستخدم ألوان البديع ليزيد عبارته قوة على قوة.

فيرجح النقاد أن الجزء الأول من «هنري السادس» إنما كان نصيبه من شيكسبير لمسة خفيفة أمرها بيده الصناع على رواية كان قد سبقه إلى كتابتها ثلاثة من أدباء المسرح هم «مارلو» و«بيل» و«جرين». وموضوع هذا الجزء من «هنري السادس» هو القتال بين إنجلترا وفرنسا، والخصومات العنيفة التي شب أوارها بين الأشراف الإنجليز. ومضى على إخراج الجزء الأول عام أو عامان، ثم أعقبه الجزآن الثاني والثالث، وهما كذلك يعتمدان على روايات كان أخرجها من قبل أولئك المسرحيون الجامعيون، أما الجزء الثاني ففيه استمرار للنزاع الحزبي بين طوائف الأشراف، وينتهي بانتصار أسرة يورك

126

على أسرة لانكستر

127

في وقعة «سنت أولبانز»

128

في حروب الوردتين

129

المعروفة في تاريخ إنجلترا، ثم يأتي الجزء الثالث من الرواية نفسها فيستأنف قصة حرب الوردتين، ويبين كيف أخذ النصر يحالف هذا الفريق مرة، وذلك الفريق مرة أخرى، حتى انتهى بفوز أسرة يورك.

وأما رواية «رتشرد الثالث» فتدور كلها حول هذا الرجل، وكيف استطاع بغدره وختله وخداعه أن يذلل كل عقبة تعترضه في الطريق إلى عرش البلاد. وكان رتشرد هذا أحدب الظهر مشوه الخلق يحمل في صدره نفسا شريرة مجرمة كأنما أرادت أن تنتقم لذلك الجسد القبيح. وفي هذه الرواية ختام لسلسلة الحروب الأهلية، وإنما كان الختام طعنة صوبها رتشمند (سيكون هنري السابع) إلى صدر رتشرد فقضى عليه في حومة القتال. ويذهب بعض النقاد إلى أن شيكسبير في هذه الرواية أيضا كان ناقلا عن روايات قديمة؛ لأنها تختلف اختلافا بينا عن الروايات التاريخية التي لا شك في نسبتها إليه، ولأنها من جهة أخرى شديدة الشبه بأجزاء من «هنري السادس» التي لا شك في نقلها. على أن الرأي الراجح عند «دودن»

130 - وهو من أنبغ من كتب عن شيكسبير - أن مادة الرواية من ابتكار الشاعر، أما الصورة فقد نهج فيها نهج «مارلو» كما أسلفنا القول عند الكلام على هذا الأخير، فقد اقتفى أثره في جعل محور الرواية شخصية واحدة جبارة هي شخصية رتشرد الثالث، وأما سائر الشخصيات في الرواية فلم تصور لذاتها، إنما خلقها الشاعر لتكون منافذ لنقمة البطل وشره وقسوته. وكذلك اقتفى أثره في جعل الغضبة الباطشة التي تفجرت نيرانها من نفس البطل المتأججة غضبة جامحة لا تحدها القيود الخلقية، وتكيل ضرباتها متلاحقة في نهم لا يشبع.

لكن الشاعر في رواية «رتشرد الثاني» يخفف من هذه الحدة في تصوير البطل، فترى ألوان الصورة أقل نصوعا وبهرجة، وترى ريشة الفنان أخف وقعا وأدق وضعا وأبرع لفتة، حتى لتعد هذه الرواية فاتحة لرواياته التاريخية الأصلية، وإن يكن قد تأثر فيها خطو «مارلو» إلى حد كبير في رواية «إدورد الثاني» التي أسلفنا الحديث عنها. (ب) الملاهي

تبدأ ملاهي شيكسبير براوية «جهد الحب ضائع»، وهي ملهاة ضاحكة طروب مليئة بالنكات والعبارة المرحة، التي تفصح عن فؤاد خلي فرح. وخلاصة قصتها أن فردناند ملك نافار قد اعتزم أن ينتبذ من العالم مكانا معزولا عن الدنيا وصخبها، بحيث لا يصاحبه من الناس إلا ثلاثة أصدقاء، وكان بين ما قرره هؤلاء المعتزلون ألا تكون صلة بينهم وبين النساء، لكن الخطة لم تلبث أن انهارت من أساسها، إذ قدمت لهم أميرة فرنسا ووصيفاتها الثلاث، فلم يكد يراهن المعتزلون المترهبون، حتى وقعوا في فخاخ الحب صرعى ، ولبث كل منهم يخفي عن زملائه ما اعتراه من ضعف ووهن، ثم لم يطل بهم هذا الموقف الشاذ، إذ تفاهموا جميعا على سخف سلوكهم، وقرروا أن يسلكوا مسلك الناس، فيعملوا ما تمليه طبائع البشر، لكن شاء لهم سوء الطالع أن تسمع الأميرة بموت أبيها، فتعود مع وصيفاتها قبل أن يكاشفهن المحبون رغبتهم في الزواج.

والرواية كلها حملة شعواء على التكلف والتصنع في كل أوضاعه، فهي كذلك تسخر من رجل يتكلف في اختيار ألفاظه، وتسخر من قسيس ومدرس يتعالمان بما يدخلانه في حديثهما من عبارات لاتينية وإشارات تدل على حذلقة علمية. ولما كنا لا نملك ما يدل على أن شيكسبير قد استعار قصة الرواية من سواه، فالأرجح أنها من خلقه وابتكاره.

أما «ملهاة الأخطاء» فتحوير لرواية كانت ترجمت عن «بلوتس» كاتب المسرحية الروماني، وهي ملهاة صاخبة فكاهتها صارخة عالية النبرات غليظة اللفتات، وخلاصتها أن تاجرا من سرقسطة وجد في «إفسوس»

131

التي كانت عندئذ عدوة لبلاده، فحكم عليه «سولينوس»

132

حاكم «إفسوس» بالموت أو يفتدي نفسه بمبلغ ضخم من المال. ولما سأله الحاكم عن علة وجوده في بلاده، أخذ الرجل يقص عليه قصته، فيقول إنه كان في سفينة مع زوجته وتوأميه فضلا عن توأمين اشتراهما لينشئهما تابعين لابنيه، فارتطمت بهم السفينة، وأنقذ أحد الولدين وأحد العبدين، أما الأولى فيدعى «أنتفولس السرقسطي»،

133

وأما الثاني فاسمه «دروميو السرقسطي»،

134

أما زوجته وولده الآخر «أنتفولس الأفسوسي»، وتابعه الآخر «دروميو الأفسوسي» فقد ابتلعهم اليم. ولما شب ابنه أنتفولس السرقسطي استأذن أباه أن يسعى بصحبة تابعه لعله واجد أمه وأخاه اللذين ظن بهما الهلاك، فذهب ابنه هذا ولم يعد وخشي الوالد المحزون أن يفقد من بقي له من أسرته، فأخذ يطوف البلاد ليبحث عنه، وها هو ذا قد جاء إلى أفسوس بحثا عن ولده، فحكم عليه حاكمها بالموت. سمع الحاكم هذه القصة فأجاز للرجل أن ينطلق يوما واحدا لعله يوفق فيه إلى جمع فدية يفتدي بها نفسه، وفي غضون هذا اليوم الواحد وقعت حوادث الملهاة كلها.

فقد بلغ «أنتفولس السرقسطي» وتابعه «دروميو» مدينه أفسوس في صبيحة ذلك اليوم، ولم يكد يبلغها حتى أرسل تابعه في بعض شأنه، وشاءت المصادفات أن يكون أولئك الذين ظن بهم الغرق قد وجدوا سبيلهم إلى أفسوس، فالتقى «أنتفولس السرقسطي» بتوأم تابعه، ويدعى «دروميو الأفسوسي» كما أسلفنا، فظن السيد أن هذا خادمه، وظن الخادم أن ذاك سيده، وهكذا تفجر ينبوع الفكاهة في الرواية، ويتضح آخر الأمر كل ما غمض، وتوجد زوجة «إيجيون»

135

التاجر السرقسطي، ويطلق سراح الرجل ويصلح الأمر كله.

وأما «حلم ليلة في منتصف الصيف»، فهي كذلك من قبيل الملهاة التي يصدر اللهو فيها عن «أخطاء»، غير أن «أخطاءها» لا تنشأ عن تصرفات أشخاصها، وإنما تنشأ عن الخطأ في توجيه الرقى، فقد أراد بها الجن أشخاصا ثم أصابت - خطأ - أشخاصا آخرين.

136

وخلاصة هذه الرواية أن شيخا يدعى «إجيوس» شكا ابنته «هرميا»

137

إلى حاكم أثينا «تسيوس»

138

إذ أمرها أن تتزوج بشاب يدعى «دمتريوس»

139

من أسرة أثينية نبيلة فأبت؛ لأنها كانت تحب شابا آخر من أهل أثينا هو «ليسندر»،

140

وهو الآن يلتمس من الحاكم أن يأمر بموتها تنفيذا للقانون الأثيني. ودافعت هرميا عن نفسها بأن «دمتريوس» قد جهر من قبل بحب صديقة لها تدعى «هلنا»،

141

وأن هذه الصديقة كانت تحب دمتريوس حبا شديدا، لكن دفاعها هذا لم يصادف من حاكم أثينا أذنا واعية، فأمهل «هرميا» أربعة أيام تفكر خلالها في الأمر، حتى إذا ما انقضت هذه الأيام الأربعة وهي على إبائها حق عليها الموت، فذهب «هرميا» إلى حبيبها «ليسندر» وأنبأته بالخطر الداهم، فعرض الحبيب على حبيبته أن يلوذا بالفرار من أثينا، واتفقا أن يتلاقيا في غابة على بضعة أميال من المدينة، وكانت هذه الغابة مأوى لطائفة من الجن، ملكها «أوبرن»

142

وملكتها «تيتانيا»،

143

وكان بين الملك وملكته نزاع شديد، فشاءت المصادفة أن يدفع الكيد بأوبرن إلى الانتقام من زوجته تيتانيا في نفس الليلة التي قدم فيها «ليسندر» وحبيبته «هرميا» إلى الغابة فرارا من أثينا وقانونها الظالم. ثم شاءت المصادفة أيضا أن يجيء إلى الغابة في ذلك المساء عينه «دمتريوس» وحبيبته «هلنا». فلكي يكيد ملك الجن لملكته دعا كبير أصفيائه «بك»،

144

وهو عفريت ماكر خبيث، فقال له الملك: «... جئني بالزهرة التي يسميها الفتيات «الحب الكسل»، وهي زهرة صغيرة أرجوانية اللون، إذا عصر ماؤها على جفون النائمين هاموا بحب أول شيء تقع عليه أعنيهم عندما يستيقظون، وسأعصر شيئا من ماء تلك الزهرة على جفني تيتانيا وهي نائمة، فإذا فتحت عينيها شغفها حب أول شيء تراه، ولو كان هذا الشيء أسدا أو دبا أو نسناسا أو قردا ...» وكان «بك» يحب الخبث من صميم قلبه، ولذلك سره كل السرور هذا اللهو الذي أراد أن يلهو به سيده، وذهب من فوره ليأتيه بالزهرة المطلوبة، وبينا كان «أوبرن» ينتظر عودة بك سمع اشتجارا بين دمتريوس وهلنا علم منه أن الحبيب قد أعرض عن حبيبته فأشفق عليها. وأوصى بك حين عاد إليه ومعه الزهرة الأرجوانية أن يضع بضع قطرات من عصيرها في عيني هذا الحبيب الجافي وهو نائم لعله يفتح عينيه حين يصحو على حبيبته المهجورة، فيشتعل حبه لها من جديد. أما «أوبرن» نفسه فقد أخذ عصير الزهرة، وتربص بملكته تيتانيا، حتى أطبق النعاس جفنيها، فألقى عليهما قطرات من ذلك العصير.

انطلق بك بزهرة الحب يبحث عن الشاب الأثيني الذي أنبأه بأمره الملك أوبرن، لكنه لسوء الحظ صادف في طريقه «ليسندر» و«هرميا» نائمين فظنهما «ديمتريوس» و«هلنا»، فمسح جفني «ليسندر» بعصير الحب، ولما استيقظ «ليسندر» كانت «هلنا» على مقربة منه هائمة على وجهها في جوف الغابة تبحث عن حبيبها الغادر، فما إن وقعت عينا ليسندر عليها عقب يقظته، حتى شغف بحبها بفعل الزهرة العجيبة وامحى من قلبه كل حب نحو «هرميا»، ولما علم أوبرن بالخطأ الذي وقع فيه بك، أسرع بنفسه يبحث عن «دمتريوس» حتى ألفاه نائما، فعصر وردة الحب على جفنيه، وصحا «دمتريوس» وإذا بهلنا على مقربة منه، فأخذ يناجيها بعبارات الحب والهيام، وبهذا أصبحت «هلنا» محبوبة الشابين معا، و«هرميا» حيرى لا تدري لهذا التحول العجيب سببا.

أما تيتانيا ففتحت عينيها على مهرج ضال كان أوبرن قد ألبسه رأس حمار، وجاء به على مقربة من مخدع زوجته لتقع عليه عيناها حين تستيقظ، فتهيم بحبه وتكون أضحوكة الساخرين، وتم ذلك كله، وكان إشباعا لنقمة «أوبرن» على زوجته.

وأخيرا أزيلت الرقى فعادت القلوب إلى قديم حبها، فديمتريوس عاشق لهلنا، وليسندر هائم بهرميا، وأوبرن على صفاء مع تيتانيا.

وأخيرا نختم هذه المجموعة الأولى من ملاهي شيكسبير بموجز لرواية «سيدان من فيرونا». فموضوع الرواية تلك الصداقة التي كانت بين «بروتيس»

145

و«فالنتين»

146 - وهما السيدان من فيرونا - وكيف فصمتها الخيانة التي ولدها الحب، ثم كيف عادت إلى حيث كانت بتوبة الخائن، فبروتيس يحب فتاة من فيرونا تدعى «جوليا»،

147

وجوليا تبادله الحب. وشاءت حوادث الأيام أن يلحق «بروتيس» هذا بصديقه «فالنتين» في مدينة ميلان، فوجده يهيم بابنة حاكم المدينة «سلفيا»،

148

لكن الحاكم كان يطمع لابنته في زوج أكثر مالا وأعز جاها، فما إن رآها «بروتيس» حتى نسي حبه لجوليا وصداقته لفالنتين، وصمم أن يخطب ابنه الحاكم لنفسه، ولم يتورع أن ينبئ الحاكم بمؤامرة كان قد أسرها له صديقه فالنتين؛ إذ اعتزم أن يفر بسلفيا من قصر أبيها، فلم يلبث الحاكم أن أخرج فالنتين من مدينته. وهنا شرع الصديق الخائن «بروتيس» يكيل عبارات الغزل لسلفيا، لكنها أصمت أذنيها، ولما بلغ بها الحرج غايته عمدت إلى الفرار. وعندئذ كانت «جوليا» قد أقلقها غياب حبيبها «بروتيس» فجاءت تسعى إلى ميلان باحثة عنه، وتنكرت في ثياب غلام حين علمت بخيانة حبيبها وتحول قلبه عنها، ثم التحقت بخدمته فاستخدمها رسولا بينه وبين حبيبته النافرة «سلفيا»، وحدث أن التقت سلفيا بحبيبها الأول فالنتين، وأن كشفت جوليا عن نفسها لبروتيس الذي ندم على خيانته، فانتهى الأمر بالزواج والصفاء. (ج) المآسي

أنتج شيكسبير في المرحلة الأولى من مراحل إنتاجه مأساة واحدة هي «روميو وجوليت» التي تقع حوادثها في فيرونا، ولطالما شهدت طرقات فيرونا أعنف المعارك تنشب بين الأسرتين المتنافستين أسرة «كابيولت»

149

وأسرة «مونتاجيو».

150

وحدث أن روميو وهو شاب من أسرة مونتاجيو - أحب «جوليت» - وهي فتاة من أسرة كابيولت - وأحبته الفتاة فتزوجا سرا، لكن شاء سوء الطالع أن يقتل روميو شابا من أسرة كابيولت فنفي من المدينة، وأرغمت جوليت على الزواج من «بارس»، فلم يسعها في الليلة السالفة لليوم المعقود لزفافها إلا أن تجرع مخدرا يذهب عنها الشعور ولا يميتها، فظن الجميع أنها ماتت إلا قسيسا كان يعلم خفية الأمر، وهو الذي هيأ الجرعة المخدرة للفتاة، ونقلت الفتاة إلى بهو الموتى حيث رقدت، وأنبئ روميو - وكان حينئذ في مانتوا - أن جوليت قد ماتت، فجاء إلى قبرها مسرعا، حيث وجدها مسجاة كالميتة، فأزهق روحه بيده عند جثمانها؛ لأنه لم يجد للحياة معنى بغيرها، ثم ما هي إلا أن أفاقت جوليت من إغمائها الطويل فرأت حبيبها صريعا إلى جوارها فطعنت نفسها بخنجر وماتت.

وتستطيع أن تعد رواية «روميو وجوليت» قصيدة غرامية طويلة، فالحبيبان هما أهم أشخاصها، وعاطفة الحب العنيفة التي يتبادلانها هي ما يستوقف انتباه القارئ، والعجيب أن شيكسبير لم يحاول قط بعد «روميو وجوليت» أن يكتب مأساة غنائية أخرى، فلعله أحس أنه قد بلغ بها الأوج في هذا الفن، ولم يرد أن ينتج ما عساه أن يقع دونها من المآسي الغنائية، فيكاد يجمع رجال النقد الأدبي على أن هذه الرواية أعظم ما عرفت آداب العالم أجمع من قصائد الحب الذي يشتغل في قلوب الشباب، ثم يحطمه القدر.

قصيدتا «فينوس وآدونس» و«لوكريس»

لا بد لنا قبل أن نختم الحديث عن إنتاج شاعرنا في المرحلة الأولى من مراحل نتاجه الأدبي أن نذكر له هاتين القصيدتين الرائعتين اللتين أنشأهما في نفس الوقت الذي كان ينشئ فيه رواية «روميو وجوليت» - أو في وقت قريب منه - أي أنه أنشأهما حين كان خياله مشتغلا بخلق مآس تصلح أن تصب في قالب الشعر، فروميو وجوليت - كما أسلفنا - هي في جوهرها قصيدة غرامية تنتهي بالأسى، وكذلك قل في قصيدتيه هاتين.

كتب الشاعر قصيدته الأولى «فينوس وآدونس» بين عامي 1855 و1587م لكنها لم تنشر حتى سنة 1593م، وهي تقص غرام فينوس بشاب جميل لقي حتفه، حين كان يطارد خنزيرا بريا. وأسلوب القصيدة مزخرف بألوان البيان والبديع، فتراه لا يدخر وسعا عند كل معنى من المعاني في أن يحشد العبارات حشدا يتلو بعضها بعضا بكل ما وسعه من قدرة على التعبير والخيال! وهي مليئة بالاستعارات والإشارات. والقصيدة مقسمة إلى مقطوعات من ذوات الستة الأبيات، في كل بيت منها خمس تفعيلات أيامبية (تتألف كل تفعيلة من جزأين ليس على أولهما ضغط صوتي ويقع الضغط على ثانيهما. أما الأسطر الأربعة الأولى فتجري فيها القافية هكذا: أ - ب - أ - ب أي يتفق الأول والثالث في قافية واحدة، والثاني والرابع في قافية أخرى. ثم يتلوها بيتان منتهيان بقافية ثالثة).

أما قصيدة «لوكريس» فقد نشرت سنة 1594م حين كان الشاعر في سن الثلاثين، وهو في هذه القصيدة أكثر احتفالا بالأسلوب منه في قصيدة «فينوس وآدونس» وأشد عناية بألوان البيان والبديع. وهي أيضا مقسمة إلى مقطوعات تجري على غرار المقطوعة التي اشتهر بها «شوسر»؛ أي التي تتألف من سبعة أبيات تجري قافيتها هكذا: أ - ب - أ - ب - ب - ح - ح.

وقصة لوكريس مأخوذة من الأساطير الرومانية القديمة، فقد قيل إنها كانت زوجة جميلة طاهرة، لكن فتى من أبناء «تاركوين» ملك روما اغتصب عفافها في ساعة من ساعات الإثم، فجزعت السيدة وأفضت إلى زوجها وأبيها بما حدث، ودعتهما إلى الأخذ بثأرها، ثم قتلت نفسها.

وهاك مثالا من «فينوس وآدونس»: (فينوس عند جثمان آدونس.)

إنها ترنو إلى شفتيه وإنهما لشاحبتان.

إنها تشد على يده، وإنها لباردة.

إنها تهمس في أذنه رثاء حزينا،

كأنما هو منصت لما تقوله من حزين الرثاء.

إنها ترفع غطاءي اللحدين اللذين أطبقا على عينيه،

فانظر! لقد انطفأ في عينيه سراجان فأضحيا في ظلام! •••

أما وقد أتاك الردى فها أنا ذا أقول نبوءتي:

سوف يكون الأسى للحب تابعا ملازما،

ستكون الغيرة من حواشيه،

سيكون الحب حلو البدء مر الختام.

لن يكون في الحب اعتدال، فإما إلى زيادة، وإما إلى نقصان،

ولن تعدل كل لذائذ الحب حسرته! •••

سوف يكون الحب أرعن باطلا مليئا بالخداع،

سوف يمحى في سرعة الزفير بالأنفاس.

قاعه سم وسطحه مغر جذاب،

فيخدع السطح حديد البصر عن سمه الزعاف.

سيهد الحب أقوى الأبدان فيوهنها،

سيخرس الحب لسان الحكيم، ويطلق لسان الفدم بالكلام.

هذا عرض سريع لما أنتجه الشاعر العظيم في مرحلته الأولى من مسرحيات وقصائد. ويجمل بنا أن نذكر في ختام الحديث عن هذه المرحلة أنها تتميز بكثرة الشعر المقفى، إذ لم يكن الشعر المرسل قد رسخت قدمه بعد، ففي رواية «جهد الحب ضائع» - مثلا - ترى ما يقرب من ثلثي الرواية شعرا مقفى، والثلث الثالث شعرا مرسلا (هذا إذا استثنينا الأجزاء النثرية في الرواية)، ثم يأخذ الشاعر في إهمال القافية شيئا فشيئا إذا ما كانت مرحلة إنتاجه الثانية التي سنحدثك عنها بعد قليل، وأخيرا تختفي القافية من شعره أو تكاد، إلا في الأغاني التي يستلزمها سياق الرواية.

وكما أن القافية تظهر في إنتاجه الأول وتختفي في إنتاجه الأخير، كذلك نلاحظ تطورا آخر، هو أنه في شعر المرحلة الأولى يغلب عليه أن يختم المعنى عند نهاية البيت؛ أعني أنه يجعل كل سطر وحدة معينة قائمة بذاتها، فلما ازداد مهارة ورشاقة في الكتابة بالشعر المرسل أخذت تقل هذه الظاهرة، فيجري المعنى من البيت إلى الذي يليه، ولا يحرص الشاعر على أن ينتهي المعنى بنهاية البيت. وقد عدت الأسطر المستقلة المعنى في إحدى روايات المرحلة الأولى فوجدت تسعة عشر سطرا في كل عشرين، وعدت أمثال هذه الأبيات المستقلة في إحدى رواياته الأخيرة، فوجد أنها لا تزيد على الثلثين.

وهذان تطوران يدلان بغير شك على أن التحلل من القيود من علامات النبوغ عند الشاعر العظيم. (4-2) المرحلة الثانية (1595-1601م) (أ) الروايات التاريخية

لم يزل شيكسبير في هذه المرحلة مشتغلا بتاريخ بلاده ممثلا في ملوكها، فكان ما أنتجه من الروايات التاريخية «الملك جون» و«هنري الرابع» بجزأيها، ثم «هنري الخامس ». وسنلاحظ أن الشاعر بعد ختام هذه المرحلة لم يعد يتخذ من التاريخ الإنجليزي موضوعا لمسرحياته (لا نستثني إلا رواية هنري الثامن التي كانت آخر ما أنشأه ). ولقد كانت هذه المسرحيات التاريخية التي ظهرت في المرحلة الثانية مجالا مكن الشاعر من التعبير عن العاطفة الوطنية القوية التي سادت أوروبا كلها في عصر النهضة، وسادت إنجلترا على وجه أخص عقب انهزام «الأرمادا» الأسطول الإسباني العظيم الذي حاول غزو إنجلترا في عهد الملكة اليصابات.

ولا يحسبن القارئ أن شاعرنا حين كان ينشئ رواية تاريخية لم يكن يعبر عن أحاسيس نفسه، فانظر مثلا إلى هذه الأسطر التي جاءت في رواية «الملك جون» - وقد كتبها في نفس العام الذي مات فيه وحيده «هامنت» - وذلك حين قيل لأم حزينة فقدت ولدها فلازمها الحزن: «إنك مشغوفة بالحزن شغفك بوليدك!» فقالت:

إن الحزن ليملأ الفراغ الذي أحدثته غيبة ولدي،

إنه ليرقد في مخدعه، إنه ليسايرني في جيئتي وذهوبي،

إن فيه لشبها من عينيه الجميلتين، وترديدا لألفاظه،

إنه ليذكرني برشيق أعضائه عضوا عضوا،

إنه يملأ ثيابه الخالية بصورته،

فمن حقي - إذن - أن أكون بالحزن مغرمة!

أفلا ترى الشاعر ينفث في هذه الأبيات لوعته على فقيده متخفيا وراء الحادثة التي يرويها في سياق التاريخ؟

ولا بد لنا في هذا الموضع أن نشير إلى شخصية «فولستاف» التي وردت في «هنري الرابع» - وسترد مرة أخرى، وفي صورة أخرى في رواية «زوجات وندسور المرحات» - فلعلها بين الشخصيات الفكهة التي رسمتها ريشة الشاعر أروعها وأبدعها. (ب) الملاهي

أول ما نلاحظه على إنتاج هذه الفترة أنه يكاد يتجه كله نحو الملهاة، حتى رواياته التاريخية مثل «هنري الرابع» و«هنري الخامس» فهي ملاه إلى جانب كونها تاريخا. وقد ذكرنا أن شخصية من أكبر شخصيات شيكسبير الهزلية - نعني فولستاف - وردت في «هنري الرابع»، ثم استأنفها الشاعر في ملهاة أخرى من ملاهي هذه المرحلة الثانية، وهي «زوجات وندسور المرحات»؛ وذلك لأن الملكة أعجبت بتلك الشخصية في «هنري الرابع»، واستوقف نظرها إسراف أنانيته، فطلبت إلى الشاعر أن يصور لها هذا الرجل الأناني في مواقف المحب العاشق؛ لترى كيف يلتقي الحب والأنانية، ومعلوم أن الحب يتطلب التضحية؛ فاستجاب لها الشاعر في رواية «الزوجات المرحات».

ومن ملاهي هذه الفترة رواية «ترويض المتمردة»، وملخصها أن «كاترين»

151

كبرى بنات «بايتسته»

152

أحد أثرياء مدينة بادوا كانت فتاة متمردة جامحة، حتى كاد يستحيل في رأي الناس أن يتقدم لها رجل للزواج منها، ولكن أباها رفض أن يزوج ابنته الصغرى «بيانكا»،

153

إلا إذا تزوجت كاترين. واتفق أن جاء إلى بادوا رجل يدعى «بتروشيو» ليبحث فيها عن زوجة غنية، فما إن سمع بكاترين، حتى صمم على خطبتها غير عابئ بما يقال عن جموحها؛ لأنه رأى في نفسه القدرة على ترويضها، حتى يجعل منها زوجة وديعة طيعة. وكان أن التقى بالفتاة في منزل أبيها، فما زالت الفتاة المتمردة تخاشنه وتسيء إليه، وما زال هو يحاسنها ويتودد إليها، حتى استمالها واتفقا على الزواج.

وفي اليوم المحدد اجتمع المدعوون لحفلة الزفاف، وطال انتظارهم لبتروشيو، حتى تحرج موقف «كاترين» بين أهلها وصواحبها، فبكت لجرح كبريائها. وأخيرا جاء الزوج في هيئة زرية تثير السخرية والضحك، فكان ذلك إذلالا جديدا للفتاة الشموس، ولم يستطع أحد أن يحمل بتروشيو على تغيير ملبسه، وقال حين خوطب في ذلك: إن «كاترين» ستتزوج منه لا من ملابسه، ثم ذهب الجميع إلى الكنيسة فسلك بتروشيو هناك مسلكا شاذا أيضا؛ إذ أخذ يصخب في ذلك المكان المقدس، وفي تلك الساعة الرهيبة، وضرب القسيس وأسقط من يده الإنجيل، حتى ارتاعت «كاترين» رغم ما لها من جرأة وسلاطة.

وكان والد الفتاة قد أعد للزواج حفلة فخمة، ولكنهم عندما عادوا من الكنيسة أعلن بتروشيو أنه يعتزم أخذ زوجته إلى داره من فوره، ولم يفلح الوالد باحتجاجه ولا الزوجة الغاضبة بصخبها في أن يثنياه عن عزمه، قائلا: إن من حق الزوج أن يتصرف في زوجته كما يشاء. وخرج بها وأركبها على جواد ضئيل هزيل، وسار بها نحو بلده في طريق وعرة مضنية، ووصل الركب أخيرا إلى بيت بتروشيو بعد سفر طويل شاق لم تسمع «كاترين» في أثنائه إلا صخبا ولعنات يصبها بتروشيو على الخادم تارة، وعلى الخيل طورا. ورحب بتروشيو بزوجته عندما دخلت داره، ولكنه اعتزم ألا يسمح لها في تلك الليلة بشيء من الطعام أو الراحة. وهيئت المائدة، ووضع عليها العشاء، ولكن بتروشيو ادعى أن الطعام معيب؛ فألقى باللحم أرضا، وقال إنه يفعل ذلك حبا في «كاترين». وما زال معها على هذا النحو حتى اضطرت - وهي الشامخة بأنفها - أن تتوسل إلى الخدم أن يأتوها بشيء من الطعام خفية، لكنهم أجابوها إن أمر سيدهم يحول دون ذلك.

واعتزم الزوج أن يستصحب زوجته في زيارة لأبيها، وفرحت كاترين لهذه الزيارة، ثم أمر أن تسرج الخيل، وأكد أنه لا بد من الوصول إلى بلد أبيها قبل موعد الغداء؛ لأن الساعة كانت وقتئذ السابعة صباحا، وكان الوقت في الحقيقة ظهرا لا صباحا باكرا كما يزعم، لذلك لاحظت كاترين أن الوصول قبل الغداء مستحيل؛ لأن الساعة كانت الثانية بعد الظهر، فقال الزوج العنيد إنه لن يبرح مكانه إلا إذا وافقت على أن الوقت هو ما يريده هو أن يكون. ومن هذا القبيل أيضا أنهما أثناء الطريق اختلفا على الشمس أهي الشمس حقا أم القمر! قالت الزوجة إن الشمس طالعة، فعارضها بأنه القمر الذي يسطع وقت الظهيرة. وتظاهر بإلغاء الرحلة وبالعودة إلى بلده إذا هي لم توافق على قوله، فقالت كاترين مطيعة: «أرجو أن نواصل السير بعد أن قطعنا هذه المرحلة، وليكن هذا هو القمر أو الشمس أو ما تريد أنت أن يكون، وإذا شئت أن تسميه شمعة، فإني أقسم لك أنه سيكون كذلك بالنسبة لي.»

بهذا وبأمثاله استطاع الزوج أن يذل كبرياء زوجته، حتى أخرج منها في النهاية امرأة وديعة طيعة، حتى بلغت من الطاعة والوداعة مبلغا حسده عليه سائر الأزواج.

ومن ملاهي الفترة الثانية رواية «تاجر البندقية» التي صور فيها الشاعر اليهودي الجشع في شخص «شيلك»

154

الذي أقرض «أنطونيو» مبلغا من المال، واشترط إذا هو لم يرد المال في الموعد المضروب، كان له الحق في أن يأخذ من جسده رطلا من اللحم يقتطعه من أي مكان يرتضيه. وحان الموعد وكان «شيلك» على وشك أن ينفذ شرطه في أنطونيو، لولا أن جاءت «بورشيا »

155

بذكائها المفرط ولبست ثوب المحامي، وقالت لليهودي حين هم بفعلته: «... إن هذا الصك لا يعطيك نقطة دم واحدة، فهو ينص صراحة على رطل من اللحم، فإذا أرقت وأنت تقتطع اللحم نقطة واحدة من دم هذا المسيحي، فإن أرضك ومالك يصادران بحكم القانون.» وهكذا أنقذت حياة أنطونيو من براثن اليهودي القاسي.

أما ملهاة «جعجعة ولا طحن» فخلاصتها أنه قد كان يعيش في قصر «ليوناتو»

156 - حاكم مسينا - سيدتان تسمى إحداهما «هيرو»

157

وتدعى الأخرى «بياترس»،

158

فأما هيرو فكانت ابنته، وأما «بياترس» فكانت ابنة أخيه، وكانت «بياترس» ذات طبع مرح، وكان يسرها أن تروح بفكاهاتها عن ابنة عمها «هيرو» التي كانت أكثر منها جدا ورزانة.

وحدث أن جاء لزيارة ليوناتو جماعة من الشبان بعد حرب أبدوا فيها ضروبا من الشجاعة النادرة، وكان من بينهم «دن بدرو»

159

أمير أرغونة، وصديقه «كلوديو»

160

من أشراف مدينة فلورنسه، و«بندك»

161

من أشراف بادوا، وكان شابا فكها جريئا.

ولم يكد يجلس هؤلاء الأضياف وتقدم إليهم الفتاتان، حتى نشبت معركة عنيفة من النكات اللاذعة بين «بندك» و«بياترس» وكلاهما طروب لعوب ساخر، أما «هيرو» فقد ظلت صامتة لحيائها، فأعجب بها «كلوديو» وصمم على الزواج منها، وتم الاتفاق مع أبيها على يوم قريب يحتفل فيه بذلك الزواج.

ثم نشأت فكرة لطيفة في أذهان بعضهم أن يتفكهوا بمؤامرة يدبرونها، وتلك أن يحتالوا بالخديعة على إشعال نار الحب في نفس «بندك» و«بياترس» رغم ما كان بينهما من كره ظاهر، فحاولوا أن يدخلوا في روع «بندك» أن «بياترس» هائمة بحبه، وأن يقنعوا «بياترس» بأن «بندك» صريع غرامها. وتحقق لهم ما يريدون بأن أسمعوا كلا منهما حديثا من وراء ستار، يفهمونه به ذلك الحب المجهول. ولقد كان منظر «بندك» و«بياترس» ممتعا بعد أن تبدلت عداوتهما حبا، فما كان أجمل لقاءهما بعد أن خدع كلاهما، وأدخل في وهمه أن زميله يحبه!

وبينما كانت الجماعة تلهو على هذا النحو وتمرح انتظارا ليوم زفاف «كلوديو» «بهيرو»، إذا بأخ غير شقيق للأمير، هو «دن جون» يعكر عليها ذلك الصفو بما طبعت عليه نفسه من شر وسوء؛ وذلك أنه دبر مكيدة ليوقع الشقاق بين «كلوديو» و«هيرو»، حتى لا يتم الزواج، فأوصى خادمة هيرو أن ترتدي ثياب سيدتها في منتصف الليل، وتغازل خطيبا لها، ثم جاء بكلوديو ليستمع إلى خطيبته الفاجرة تغازل غيره من الرجال. وتمت الخديعة وأعلن كلوديو الأمر، فكانت فضيحة ارتاع لها الأمير، وارتاعت لها «هيرو» الطاهرة البريئة وارتجت لها المدينة كلها، لكن ما هي إلا أيام حتى عرفت حقيقة الأمر، وعقد الزواج بين «كلوديو» و«هيرو»، ثم بين «بندك» و«بياترس».

ومن أجمل ملاهي هذه الفترة الثانية ملهاة «كما تهواه»، وموجزها أنه في الوقت الذي كانت فيه فرنسا مقسمة إلى ولايات كان يحكم إحدى تلك الولايات مغتصب خلع أخاه الأكبر وهو الدوق الشرعي، وأخرجه من البلاد، ولجأ الدوق بعد أن خرج من ملكه هو وعدد قليل من أتباعه الأوفياء إلى غابة «أردن»، وكان للدوق المنفي ابنة وحيدة تدعى «روزالند»

162

استبقاها «فروديك» - الأخ المغتصب - لتكون رفيقة لابنته «سليا»،

163

ونشأت بين الفتاتين صداقة وثيقة العرى.

وحدث ذات يوم أن شهدت الفتاتان مبارزة بين شابين، فظنتا أنها سوف تفضي إلى مأساة مروعة، إذ رأتا رجلا قويا مارس فن المصارعة يوشك أن ينازل شابا صغير السن قليل التجارب في هذا اللون من الصراع، فتقدمتا واحدة بعد الأخرى تنصحان الفتى ألا يلقي بنفسه إلى هذه التهلكة المحتومة، لكن الشاب أبى إلا أن يمضي في القتال قائلا: «... وإذا قتلت فقد مات شخص راغب في الموت، ولن أسيء بموتي إلى أصدقائي؛ لأنه ليس لي أصدقاء يبكونني، ولن أضر العالم في شيء؛ لأنه ليس لي في العالم شيء.» فزاد هذا القول من إشفاق الفتاتين عليه، وبخاصة روزالند. ولعل عطف الفتاتين استثار الحماسة في نفس الشاب، فأبدى من البسالة ما كان خليقا بكل إعجاب، وتغلب على خصمه القوي آخر الأمر.

وعلم الحاكم المغتصب أن هذا الشاب الباسل ابن صديق لأخيه المنفي فطرده من المدينة، بل ذكره هذا الفتى - واسمه «أورلاندو»

164 - بنقمته على أخيه، فصبها على ابنة أخيه «روزالند»، وأصر على إخراجها من قصره وتشريدها، فلم تر ابنة عمها بدا من مرافقتها خفية؛ إذ كان بينهما من الود ما ربط قلبيهما رباطا قويا، وكانت «روزالند» قد هامت حبا بأورلاندو.

تنكرت «روزالند» في ثوب راع وتخفت «سليا» في ملابس راعية، وأخذتا تضربان في فجاج الأرض، حتى بلغتا غابة «أردن»، وكان قد هدهما الجوع، ونال منهما التعب، فأوتا إلى كوخ أقامتا فيه، وشاءت المصادفة أيضا أن ينتهي الفتى أورلاندو إلى هذه الغابة، وكان حبه لروزالند قد اشتعل في فؤاده، فأخذ يكتب اسمها على جذوع الشجر، ويرسل فيها الأغاني. فلما صادفته روزالند في الغابة جاذبته أطراف الحديث، وهي لم تزل متخفية في ثوب الراعي، وهو بذلك الحديث سعيد إذ رأى شبها قويا بين الراعي وحبيبته روزالند.

أخذ «أورلاندو» يتردد على الراعي في كوخه كل يوم، فعرض عليه الراعي - روزالند في حقيقته - أن يأتيه بفعل السحر بحبيبته روزالند ليتزوج منها إن كان حبه إياها على ذلك النحو العنيف الذي كان يبديه، فقبل ما عرض عليه وهو في عجب من الأمر. وكان «أورلاندو» قد التقى بالدوق المنفي في الغابة - والد روزالند - فأنبأه الخبر. ولبث الدوق في قلق لما سمع أن ابنته سيؤتى بها إلى الغابة بهذه الطريقة العجيبة، ولم يكن في الأمر عجب، فما هو إلا أن خلعت روزالند ثياب الراعي وبدت على حقيقتها، فشاع في النفوس مرح وطرب وتم الزواج. وشاءت العدالة الإلهية أن يتم سرور القوم، فجاء عندئذ رسول ينبئ الدوق أن أخاه قد تاب عما أساء ونزل لأخيه عما اغتصب.

وبملهاتين أخريين «الليلة الثانية عشرة» و«خير كل ما ينتهي بخير» ينتهي إنتاج المرحلة الثانية في المسرحيات. ولقد أخرج في هذه الفترة من حياته الأدبية «مقطوعاته الشعرية» التي كان قد أنشأ معظمها في عامي 1593 و1594م، وهو بين الثلاثين والحادية والثلاثين، وهي تنقسم إلى قسمين؛ القسم الأول وقوامه ست وعشرون ومائة مقطوعة موجه إلى نبيل صغير السن، والقسم الثاني وعدده ثماني عشرة مقطوعة موجه إلى سيدة حسناء، ففي القسم الأول من هذه المقطوعات يتقدم الشاعر إلى نبيل مجهول الاسم، فيعبر له عما يكنه له من الحب، ويذكر ما يلقاه في البعد من الوجد والألم، ثم هو يريد أن يصف جمال الربيع، وأن يحس بهجة الصيف، لكنه لا يجد إلى ذلك سبيلا حينما يخلو إلى عاطفته المشبوبة، إنه يعشق هذا الفتى، ويكاد يقتله الشوق إليه، وهو يعتب على الفتى أنه خان الأمانة فسلبه عشيقته، وهو يغفر له تلك الإساءة ويجزيه عنها إحسانا، ثم يطغى الحزن والألم أحيانا على الشاعر، فيدب في نفسه اليأس، ويثور على الرذيلة التي فشت في أيامه، ويضيق بصناعة التمثيل التي اتخذها حرفة، هذه المعاني تشيع في مقطوعات القسم الأول.

أما في القسم الثاني فيلتفت الشاعر إلى حبيبة ذات شعر أسود وإهاب أسمر، وهذه الغانية التي يستعطفها تتجاهله وتتعالى عليه وتدعه فريسة للأمل الخائب والألم المبرح، بل هي تعشق الفتى النبيل، وتبذل له من النفس والجسد ما كان يبتغيه الشاعر، ثم هو في محنة نفسية حادة؛ إنه موزع بين الفتى والفتاة، فهو يحب هذا ويعشق هذه، وهو يخرج من هذه المحنة خروجا فلسفيا؛ لأنه يدرك أن الحب لا بد أن ينتهي إلى البوار، وأن الشعراء من أمثاله ينبغي ألا يسرفوا في عشق الغانيات.

وبعد، فالمقطوعة عند شيكسبير تتألف من ثلاث رباعيات، ثم بيتين مقفيين، فتجري القافية فيها هكذا: «أ - ب - أ - ب» «ج - د - ج - د» «ه - و - ه - و» «ز - ز». (4-3) المرحلة الثالثة (1601-1607م) (أ) الملاهي

هنا ذهبت عن شيكسبير فرحته بالحياة، وعلمته الحوادث أن ينظر إلى الدنيا من جانبها المظلم القاتم، فهو حتى في ملاهيه ينقصه الجذل والمرح اللذان عهدناهما في ملاهي المرحلتين الأوليين. فها هي ملهاته «كيل بكيل» يسيء فيها الظن بالطبيعة البشرية، ويكاد ييئس من فضيلة الإنسان، فقد كان يحكم مدينة فيينا دوق بلغ من حلمه أن كان يسمح لرعاياه أن يخرجوا على شريعة البلاد دون أن يخشوا عقابا، وكان من قوانين الدولة قانون كاد ينساه الناس؛ لأن الدوق لم ينفذه قط أثناء حكمه، وكان هذا القانون يقضي بالإعدام على كل شخص يعيش مع امرأة غير زوجته، فتتابعت الشكاوى في كل يوم من آباء الفتيات يقولون فيها إن بناتهم قد أغرين بالخروج عن طاعتهم ليصاحبن الرجال الأغراب.

ولما لم يكن في وسع الدوق أن يخرج عن طبعه، فقد ترك بلاده وقتا ما ونزل لغيره عن سلطانه كله ليستطيع من يتولى الأمر عنه أن ينفذ القانون؛ واختار الدوق لهذا الواجب الخطير رجلا عرفته فيينا بالصلاح والتقوى، وهو «أنجلو»،

165

لكن الدوق لم يغب في الحقيقة عن بلاده، بل عاد إليها سرا في ثياب راهب ليراقب خفية مسلك أنجلو الذي يظنه الناس قديسا صالحا.

وحدث أن أغرى «كلوديو»

166

فتاة، فقبض عليه وزج في السجن تمهيدا لموته، فأرسل «كلوديو» إلى أخته «إزابل»

167 - وهي فتاة طاهرة - أن تتوسل إلى «أنجلو» لعله يستجيب إلى شفاعتها فينقذ أخاها من الموت، فما هو إلا أن جثت إزابل أمام الحاكم القاسي، وما زالت به ترجوه أن يعفو عن أخيها، ومما قالته: وارجع إلى قلبك، وسله هل طاف به ما يشبه الذنب الذي ارتكبه أخي؟ فإذا أقر لك بأنه قد ارتكب هذا الذنب الذي هو من طبيعة البشر، فلا تترك له مجالا للتفكير في موت أخي. وكان لهذه العبارة وقع شديد في نفس «أنجلو»؛ لأن جمال إزابل كان قد أثار في نفسه عاطفة أثيمة، واستمهلها يوما، فلما عادت قال لها: إنها إذا أسلمت شرفها إليه وهب لها حياة أخيها. فخرجت إزابل إلى أخيها في السجن، حيث قالت: «لا بد أن تموت، هل تصدق يا كلوديو أن هذا الذي يتظاهر بالصلاح والتقى يرضى بأن يهب لك الحياة إذا رضيت بأن يدنس شرفي؟ قسما لو أنه طلب حياتي لقدمتها راضية ... استعد للموت غدا.» فقال كلوديو: «إن الموت رهيب!» فأجابته أخته: «وحياة العار شيء كريه!» وتملك حب الحياة نفس كلوديو فصاح : «أختي العزيزة! دعيني أعيش، إن الله ليعفو عن الذنب الذي ترتكبينه لتنقذي به حياة أخيك، حتى ليصبح هذا الذنب فضيلة.»

وكان الراهب - وهو في حقيقته دوق فيينا المتنكر - يتسمع إلى هذا الحديث، فدخل عليهما وأشار على الفتاة الطاهرة أن تتظاهر بالرضا لما طلبه «أنجلو»، حتى إذا ما كان الليل بعثت له «ماريانا» متخفية في ثيابها، وماريانا هذه زوجة أنجلو، إلا أنه لم يبن بها؛ لأن السفينة التي كانت تقل مالها غاصت في اليم، وأصبحت فقيرة بغير مال ... وهكذا أخذ الدوق المتخفي يحبك الخطط ليكشف للناس «أنجلو» على حقيقته، ثم أعلن نفسه، وختم الرواية بأن زوج كلوديو من حبيبته، وأنجلو من زوجته، وتزوج هو إزابل الطاهرة.

هكذا أخذ الشاعر ينظر إلى ما في طبائع الناس من لؤم ونفاق. وتستطيع أن تسلك ملهاته الثانية «ترويلس وكرسدا» في هذا الضرب القاتم من الملاهي التي لولا خواتيمها السعيدة لكانت من أبشع المآسي، وهو في هذه الملهاة يقص قصة الحب بين الشاب الطروادي «ترويلس»، والفتاة الطائشة اللعوب «كرسدا»، وكيف خابت أحلام العاشق، وتحطمت على صخرة الواقع المر الكريه. ومن شخصيات هذه الرواية التي أبدع الشاعر تصويرها شخصية «بانداروس»،

168

الذي كان حلقة الاتصال بين العاشقين. (ب) المآسي

في هذه المرحلة الثانية كانت نفس الشاعر قد أترعها الكمد والأسى لما لقي في حياته العائلية من كوارث فادحة كموت وحيده «هامنت» وما كان بينه وبين زوجته من نفور وشقاق، فأخرج أروع مآسيه الخالدة، فهو في «عطيل» يجعل الغيرة الزائفة التي أثارها في نفس عطيل ذلك الماكر الخبيث «إياجو»،

169

سببا في أن يقتل البطل زوجته الطاهرة «دزدمونا»،

170

وموضع المأساة في هذه الرواية هو أن يقتل رجل نبيل الأخلاق كعطيل، زوجة طاهرة بريئة كدزدمونا، لأسباب نبيلة شريفة!

ومن أروع مآسيه «ماكبث» وخلاصة حوادثها أن ماكبث وصديقه «بانكو»،

171

كانا عائدين إلى بلادهما اسكتلنده بعد حرب ظفرا فيها بنصر عظيم، فاعترضتهما ثلاثة أشباح شبيهة بالنساء، أما الأولى فحيت ماكبث باسمه، ثم زادت الثانية على تحية أختها بأن سمته شريف «كودر»،

172

مع أنه لم يكن له في هذا اللقب مطمع، ثم تقدمت الثالثة فحيته بقولها: «مرحبا بملك المستقبل»، ثم التفتت هذه المخلوقات إلى «بانكو»، وتنبأن له بأن أبناءه سيكونون ملوكا على اسكتلنده، وإن لم يجلس هو على عرشها، ثم استحلن هواء واختفين عن الأنظار.

وما هي إلا فترة وجيزة بعد ذاك، حتى جاء إلى «ماكبث» رسول من الملك ينبئه أنه قد خلع عليه لقب «شريف كودر»، فأخذت الآمال تجيش في صدره بأن تتحقق النبوءة الثانية، فيصبح ملكا على البلاد كما تنبأت الساحرات.

وكان لماكبث زوجة أسر إليها نبوءة الساحرات وما تحقق منها، وكانت هذه الزوجة شريرة طموحا، لا تبالي إذا ما وصلت هي وزوجها إلى العظمة أي السبيل يسلكانها، فأخذت تحرض ماكبث وتغريه بأن يقتل الملك «دنكن»

173

أثناء زيارته لهما في قصرهما، وبعد تردد طويل تقدم «ماكبث» بخنجره نحو الملك النائم وقضى عليه بطعنة واحدة.

وأصبح الصباح وكشفت الجريمة، فتظاهر ماكبث وزوجته بالحزن الشديد واتهما بالقتل حراس الملك. فلما خلا العرش بموت الملك وفرار ابنيه، آل الملك إلى ماكبث فتحققت نبوءة الساحرات، وبلغ ماكبث وزوجته ما كانا يبغيان من مجد، ولكن أين لهما طمأنينة النفس وهما يعلمان مما قالته الساحرات لبانكو أن الملك من بعدهما سيئول إلى أولاده، إذن فليقتلا بانكو وابنه ليبطلا هذا الشطر من نبوءة الساحرات.

وأقاما لهذا الغرض وليمة كبرى كان بانكو ممن دعي إليها، غير أنهما رصدا له في الطريق من يقتله فكان ذلك، قتل بانكو ولاذ ابنه بالفرار، ومن نسل هذا الابن تعاقب الملوك على عرش اسكتلنده، وشاء الله بعد أن تم ذلك الاغتيال المخيف أن خيل لماكبث وهو في الحفل كأنما دخل الحجرة طيف بانكو، وكأنما جلس الطيف على المقعد الذي أوشك ماكبث أن يجلس عليه، وارتاع لذلك ودهش المدعوون لارتياعه وهم لا يرون شيئا يدعو إلى الفزع، فأسرعت زوجته إلى فض الحفل خشية أن يؤدي اضطراب زوجها إلى افتضاح الأمر.

وأخذت الرؤى تنتاب ماكبث، فذهب إلى الفلاة ينشد الساحرات يستنبئهن حوادث الأيام، فأخرجن له روحا ناداه باسمه، وأمره أن يحذر «شريف فايف»،

174

ثم أخرجن له روحا ثانيا في صورة طفل مدرج بالدماء ينبئه أن لن يكون لابن أنثى قدرة على إيذائه، ثم أخرجن له روحا ثالثا في صورة طفل على رأسه تاج وفي يده شجرة، فقال له إنه لن يغلب على أمره حتى تسير نحوه غابة «بيرنم».

عاد «ماكبث» بعد هذه النبوءات الجميلة راضي النفس، مطمئن الفؤاد، فلن يؤذيه ابن أنثى، ولن يغلب إلا إن تحركت نحوه غابة، وهل تتحرك أشجار الغاب من منابتها؟ لكن حدث أن تجمع أعداؤه في إنجلترا، وانضم إليهم «شريف فايف»، وسار جيش الأعداء، حتى اقترب من قصره، ولكن نبوءة الساحرات كانت لا تزال تفسح له الأمل، حتى جاءه رسول ينبئه أن غابة «بيرنم» قد تحركت، ولم يكن ذلك وهما ولا خيالا؛ لأن جيش العدو قد اقتلع غصون الشجر ليحمي نفسه بها، فبدا الجند وفي أيديهم تلك الغضون كأنما هم غابة تسير، وكان الختام أن التقى في حومة القتال ماكبث بعدوه «مكدف»

175

شريف فايف، فما إن علم منه أنه لم تلده أنثى كما تلد النساء الرجال، إنما أخرج من بطن أمه قبل أن يحين يوم مولده، حتى خارت قواه، وانتهى الأمر بأن قتل ماكبث وقدم رأسه هدية إلى «ملكلم»

176

بن «دنكن» وهو بحكم الوراثة ملك البلاد الشرعي. •••

ولعل عبقرية الشاعر لم تتجل في مسرحية من مسرحياته بقدر ما تجلت في مأساة «الملك لير»، فقد كان لهذا الملك ثلاث بنات، هن: «جنرل»

177

و«ريجن»

178

و«كورديليا»،

179

وكان «لير» قد جاوز الثمانين من عمره، فقرر أن ينفض يده من شئون الدولة، ولذلك دعا إليه بناته الثلاث ليعرف منهن أيهن أكثر حبا له، فيقسم مملكته بينهن بنسبة هذا الحب، فقالت كبراهن «جنرل» إنها تحب أباها حبا تعجز الألفاظ أن تعبر عنه، فنزل لها أبوها عن ثلث ملكه. وقالت الوسطى «ريجن» إن ما يفيض به قلبها من الحب لأبيها ليتضاءل أمامه كل حب سواه، فوهبها أبوها ثلث ملكه، أما صغراهن «كورديليا»، فعافت نفسها هذا الرياء، وأجابت حين سئلت بأنها تحب أباها بما يليه واجب البنوة نحو الآباء، فغضب الأب وقسم ثلثها بين أختيها وتركها بغير مال، ومع ذلك فقد اختارها ملك فرنسا زوجة له واستصحبها إلى بلاده. وكان «لير» حين نزل لابنتيه عن ملكه اشترط أن يقيم عند كل منهما شهرا بالتناوب هو ومائة من فرسانه ليكونوا حاشية له.

ولكن ما هي إلا أيام حتى أخذت «جنرل» تضيق صدرا بأبيها وحاشيته، وأساءت إليه إساءة لم يجد معها بدا من الانتقال إلى ابنته الأخرى «ريجن»، لكنه كان بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار، فقد أخطأ حين ظن أن «ريجن» ستكون أحنى عليه من «جنرل»، فضاق الرجل بنفسه لما لقيه من عقوق ذميم، وخرج إلى العراء في الليل وقد عصفت بالبلاد عاصفة هوجاء فيها رعد وبرق ومطر، ولكنه كان يرى ذلك كله أرحم من عقوق ابنتيه، وسرعان ما انتهى به الأمر إلى جنون وشرع يغني لنفسه بصوت عال وعلى رأسه تاج من القش.

وترامت الأنباء إلى ابنته الصغرى في فرنسا، فجاءت على رأس جيش لتنتقم لأبيها من أختيها الجاحدتين، وشاءت الأقدار أن تجزيا السوء بالسوء، فتنازعت الأختان على حب رجل واحد، فقتلت إحداهما الأخرى، ثم زجت القاتلة في السجن، حيث أزهقت روحها بيدها، ولكن لما كانت الفضيلة لا تلقى جزاءها في هذا العالم دائما، فقد هزمت «كورديليا» المخلصة، وقضت حياتها في السجن حيث ماتت، ولم تطل حياة أبيها بعدها.

على هذا النحو أخذ الشاعر يخرج المأساة في إثر المأساة، فأنشأ في هذه المرحلة عدا ما ذكرنا «هاملت» و«يوليوس قيصر» و«تيمن الأثيني» و«أنطون وكليوبطره» و«كوريولانس». (4-4) المرحلة الرابعة (1608-1613م)

ها نحن قد بلغنا بشاعرنا مرحلته الرابعة والأخيرة من تاريخ إنتاجه الأدبي، وهي مرحلة ينتقل فيها انتقالا مفاجئا من المآسي المفجعة التي انبثقت من نفسه المكروبة الحزينة في الفترة الثالثة، إلى ملاه رائعة يسودها الوئام والسلام والدعة؛ فهو في هذه المجموعة من الملاهي يربط ما انفصم بين الناس من أواصر، ويلاقي بين من شتت الدهر من أهل وأحباب، ويجعل العدو يصفح ويعفو عن عدوه، والآثم يكفر عن إثمه بالتوبة لا بالموت، في هذه الملاهي ترى الزوجين يتصافحان بعد خصومة والولد يستغفر الوالد بعد عقوق.

ففي ملهاة «بركليس أمير صور» خرج بركليس من ملكه منفيا، وكانت مدينة طرسوس أول بلد يممه، وكان قد سمع أن هذه المدينة حل بها وقتئذ قحط شديد، فأخذ معه مقادير عظيمة من الطعام ليدفع عن أهلها غائلة الجوع، ورحب به «كليون»،

180

وشكر له حسن صنيعه. وبعد أيام غادر بركليس مدينة طرسوس، ولكنه لم يبعد عن البر إلا قليلا حتى ثارت في البحر عاصفة هوجاء هلك فيها كل من في السفينة إلا بركليس؛ فقد ألقته الأمواج عاري الجسد على شاطئ مجهول، ولم يكد يقيم في ذلك البلد، حتى أقام حاكمه احتفالا في عيد ميلاد ابنته «تايسا»،

181

وقد أبدى بركليس يومئذ من البراعة في فنون الفروسية ما جعل الحاكم يزوجه من ابنته «تايسا»، ثم لم يمض طويل زمن، حتى جاءه النبأ أنه يستطيع أن يعود إلى عرشه المفقود، فاستصحب زوجته عائدا إلى صور، ولكن عاصفة أخرى هبت عليهم وهم فوق متن البحر، فمرضت الزوجة، وجاءت إلى بركليس مربية تحمل رضيعا وتنبئه أن «تايسا» قد ماتت حين ولدت هذه الطفلة في السفينة، وظلت الريح تعصف بالسفينة، فطلب البحارة إلى الأمير أن يأذن لهم بإلقاء جثة الملكة في اليم؛ لأن من الأوهام التي تسيطر على عقولهم أن العاصفة لا تسكن ما دام في السفينة جثة ميتة، فلفها بركليس في كفن ووضعها في صندوق وقذف بها في الماء، فحملها الماء إلى الشاطئ، حيث وجدها طبيب، فعرف أنها حية أصابها إغماء، فأنعشها بعقاقيره.

أما بركليس فقد حمل طفلته الصغيرة إلى طرسوس، وسماها «مرينا»،

182

وتركها عند «كليون» حاكم المدينة، واستأنف هو السفر إلى صور، حيث عاد إلى عرشه آمنا، وشبت «مرينا» في قصر كليون، فأثار جمالها نار الحسد في صدر الملكة؛ لأنها كانت تستأثر بإعجاب الرجال دون ابنتها، فدبرت لقتلها، وكاد القاتل المأجور يجهز عليها لولا أن جماعة من قراصنة البحر اندفعوا إليه، واختطفوا الفتاة، وباعوها رقيقا، ومنذ ذلك اليوم أخذت الفتاة تنتقل من بلد إلى بلد، حتى شاءت المصادفة أن تلتقي بأبيها، وأن تكتشف علاقة الأبوة والبنوة بينهما، وبعدئذ طاف ببركليس في نومه طائف أن يزور «أفسوس»، حيث كانت تقيم زوجته، وكانت الزيارة وكان اللقاء.

وتنتقل إلى ملهاة أخرى وهي «قصة الشتاء» فتراها - مثل «بركليس» - تحوي انفصالا بين زوج وزوجته وأب وابنته، وعاصفة في البحر وسفينة تتحطم، ثم التئام للشمل بعد افتراق.

لكن الملكة «هيرميوني»

183

في هذه الرواية لا يفصلها عن زوجها الجد العاثر كما حدث لتايسا في بركليس، وإنما فصلها عنه حمق الزوج وغيرته الطائشة الرعناء، فقد دعا زوجها الملك «ليونتيس»

184

صديقه «بولكسنيس»

185

ملك بوهيميا ليقضي معه في قصره بضعة أيام، فما إن رأى الضيف يحادث «هيرميوني»، حتى ظن الظنون، واحتدمت في صدره الغيرة، وأصر على قتل ضيفه، لولا أن لاذ هذا بالفرار إلى بلده، فزج زوجته «هيرميوني» في السجن، حيث ولدت طفلة سميت «بيرديتا»،

186

فحسبها الوالد الغيران أنها من سفاح، فأمر بها أن تلقى في الفلاة في بلد ناء، فحملت المسكينة إلى شواطئ بوهيميا، حيث وجدها راع فنشأها في أسرته، وهنالك رآها ابن بولكسنيس فأحبها، لكن بولكسنيس لم يرض لابنه أن يتزوج من راعية من غمار الشعب، فلم يسع الشاب الولهان إلا أن يفر بفتاته إلى البلد الذي يحكم فيه أبوها «ليونتيس»، وهنالك انكشفت الأمور الغوامض وردت هيرميوني إلى زوجها، وعاد الصفاء بين الصديقين القديمين، وتزوج الفتى من فتاته. وعلى هذا النحو من ختم الملهاة بالصفاء والوئام كتب الشاعر الملاهي الأخرى في مرحلته الرابعة: «سمبلين» و«العاصفة». وكان ختام نتاجه الأدبي رواية تاريخية عن «هنري الثامن».

تلك لمحة خاطفة عن الصرح الباذخ الذي أقام شيكسبير أركانه في عالم الأدب. فمن أين جاء بمادة هذه المجموعة الزاخرة من المسرحيات؟ لقد كفى الشاعر العظيم نفسه مئونة العناء في خلق موضوعاته، وربما أخذك العجب حين تعلم أن شيكسبير قد أخذ عن غيره موضوعات رواياته كلها إلا اثنتين: «جهد الحب ضائع» و«العاصفة »، ونستثني هاتين؛ لأن النقاد لم يجدوا حتى اليوم دليلا على أنهما مستعارتان، أي قد تكونان مستعارتين والدليل مفقود. ومصادره التي استقى منها ثلاثة : (1) فقد استمد بعضها من أساطير الأقدمين وأغانيهم وأشعارهم. (2) كما استمد بعضها الآخر من كتب التاريخ. (3) على أن أهم مصدر اعتمد عليه في استخراج موضوعات لرواياته هو كتاب «حياة المشهورين من الرجال» لبلوتارك، وقد ترجمه إلى الإنجليزية «نورث» في عهد اليصابات، وكانت هذه الترجمة من الروعة والجمال، بحيث لم يتحرج الشاعر من أن ينقل عنه أجزاء كما هي، وجدير بنا في هذا الموضع أن نثبت لفتة طريفة لأحد النقاد؛ إذ لاحظ أن شيكسبير ربما كانت خسارته من وروده حوض المؤرخ العظيم أرجح من كسبه؛ لأن الشاعر أضعف في الروايات الرومانية التي استقاها من بلوتارك (مثل يوليوس قيصر) منه في الروايات الأخرى مثل هاملت ولير وعطيل وماكبث، كأنما عطلت عبقرية المؤرخ العظيم قدرة الشاعر العظيم. •••

لئن كان النقاد يقرون اليوم لشيكسبير بزعامة الشعر، فلا تحسبن أن ذلك التقدير للشاعر قد سبق القرن التاسع عشر، أما قبل ذلك فلم يكن شيكسبير في حساب النقاد أعظم من بعض معاصريه «بن جونسن» و«بومنت» و«فلتشر» وسيرد لك ذكرهم بعد قليل. ولعل شاعرنا لم تهبط قيمته عند قوم بقدر ما هبطت عند الأدباء الإنجليز في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فقد كان المثل الأعلى في الأدب إذ ذاك فنا يعنى بالصقل، ويلتزم القواعد التزاما لا يحيد عنها قيد أنملة، فليس عجيبا ألا تجد الحرية التي أباحها شيخ الشعراء لنفسه عند أولئك القوم قبولا حسنا.

فلما أشرقت شمس الحركة الابتداعية (الرومانتيكية) في أول القرن التاسع عشر، عاد الأدباء فأقبلوا على شيكسبير يدرسونه ويقدسونه، ومنذ ذلك العهد حتى اليوم حل شيكسبير في مكانة الزعامة بإجماع شمل أطراف العالم، بحيث لا تجد له شذوذا، فليس شيكسبير في ألمانيا بأقل شيوعا منه في إنجلترا ذاتها، وقد أصبح في فرنسا بفضل عبقرية «فكتور هيجو» كأنما هو نتاج أدبي وطني أنبتته فرنسا، وترجم شيكسبير إلى اللغات الروسية والبولندية والإيطالية والإسبانية ترجمة يقال إنها بلغت من الروعة حدا يدنيها من أصلها الإنجليزي، ولقد نقلت إلى العربية طائفة من رواياته، ولا نزال نطمع في أن ينقل سائرها لنضيف إلى لغتنا هذا الكنز الثمين، فتزداد به ثراء. وإنه لمما يلفت النظر في ترجمة شيكسبير إلى أية لغة من اللغات أنه يحتفظ في الترجمة بقبسات من جمال الأصل، مع أن احتفاظ النص الأدبي بجماله في الترجمة أمر عسير.

أصبح شيكسبير شاعر العالم غير منازع؛ لأنه أضخم من أن تستأثر به أمة واحدة، فقد سئل طالب ياباني عقب قراءته لإحدى روايات الشاعر العظيم: «أتستطيع بحق أن تشارك أشخاص هذه الرواية جميعا وجدانهم؟» فأجاب: «نعم؛ لأنهم يابانيون.»

ولقد كتب في نقد شيكسبير وفي شرحه والتعليق عليه ألوف وألوف من الكتب، حتى غصت بها رفوف المكاتب، تخرج منها كلها بهذه النتيجة التي عبر عنها الطالب الياباني في بساطة وقوة، فشيكسبير شاعر العالم؛ لأن رجاله ونساءه يصورون الطبيعة البشرية على اختلاف الأمم، إنه لم يصور عصره وحده، بل صور الزمان كله، فلا عجب إن كان القراء يطالعونه في كل مكان وفي كل زمان، فيجدون أشخاصه أحياء بينهم. اقرأ شيكسبير فلن يسعك إلا أن تحب هذا النفر من أشخاصه وأن تكره ذاك، كما تحب فريقا من جيرتك وتمقت فريقا، نعم إن كل روائي له هذه القدرة على تصوير الأشخاص، لكن قدراتهم في ذلك تتفاوت، ولشيكسبير من هذه القدرة أكبر نصيب.

أضف إلى عالمية هذا الشاعر الفحل تعدد جوانبه وتنوع نتاجه، فقد خلف لنا أروع المآسي وأمتع الملاهي، وخلف لنا طائفة من أجود المقطوعات الشعرية، وعددا من ألطف الأغاني وأحلاها، وخلف لنا شذرات من النثر هي في الذروة من الكتابة النثرية جمالا وقوة، يستشهد بأقواله في الحياة والموت رجال الفلسفة وعلماء الأخلاق، ويرجع إليه العاشقون ليستمدوا من آياته إذا ما أرادوا التعبير عن عواطفهم، بل نستقي منه في أحاديثنا اليومية مأثور القول في مواقف الجد ومواقف الهزل على السواء. (5) معاصرو شيكسبير (5-1) بن جونسن

Ben Gonson (1573-1637م)

كان «بن جونسن» من أصدقاء شيكسبير المعجبين بنبوغه، وكان يصغره بما يقرب من تسع سنوات، مات أبوه - وكان واعظا دينيا - قبل ولادته بشهر واحد، فتزوجت أمه من بناء، ويقال إن «بن» قد اتخذ حرفة زوج أمه فترة من الزمن، ثم تركها ليحترف الجندية، فاشترك في قتال دارت رحاه في الأراضي المنخفضة، على أن «بن» لم تهمل دراسته، فقد أرسل إلى المدرسة وتلقى الآداب الكلاسيكية فأجادها.

عاد الفتى من حرب الأراضي المنخفضة وله من العمر ثلاث وعشرون سنة، فتزوج وبدأ يكتب للمسرح ليرتزق، لكن لم تمض على اتصاله بالمسرح كاتبا وممثلا سنتان، حتى اعتدى على ممثل بالقتل فزج في غيابة السجن حينا، ثم أطلق سراحه، فاتصل من جديد بجماعة المسرح، وكان يغشى ندوة مشهورة تسمى «ميرميد»،

187

حيث يجتمع بأعلام الأدب: شيكسبير و«بومنت» و«فلتشر» وغيرهم، فتحتدم بينهم المعارك الكلامية، كل يحاول أن يعلو بذكائه وفطنته على الآخرين. ولم يكد يفرغ شيكسبير من رسالته الأدبية، حتى ارتفع «بن» إلى إمارة الأدب، وأحاط به الأتباع والأشياع.

في عام 1616م - وهو العام الذي مات فيه شيكسبير - نشر «بن جونسن» أول ما نشر من نتاجه الأدبي، فكان كتابا ضمنه مسرحيات وأشعارا مختلفة، ولم تمض سنوات ثلاث بعد ذلك، حتى منحته جامعة أكسفورد درجة الأستاذية، ونصب أميرا للشعراء، وأجريت عليه الرواتب، لكنه أخذ منذ ذلك الحين يتقلب بين يسر وعسر، يهجر الكتابة حينا، ويلجأ إليها حينا، حتى وافته منيته في شهر أغسطس سنة 1637م، وقد ترك تراثا من مسرحيات ومقنعات وقصائد من الشعر الغنائي وقليل من النثر.

أما إنتاجه المسرحي، فكانت طليعته ملهاة عنوانها «كل وطبعه»،

188

وقد اشترك في تمثيلها شيكسبير، ولهذه الرواية أهمية كبرى في تاريخ الأدب؛ لأنها توضح مذهبا في الملهاة اختص به «بن جونسن» دون أكثر معاصريه، وقد نقل أصوله من الآداب القديمة، فقوام الملهاة في رأي «جونسن» أن تتعقب نزوات الأشخاص ونزعاتهم التي يتميز بها بعضهم من بعض، فلكل إنسان عادة غالبة أو عاطفة مميزة، فيكفي أن تعارض بين هذه النزوات في المسرحية لتكون لك الملهاة في مذهبه، وذلك ما صنعه في روايته «كل وطبعه».

ومن ملاهيه المشهورة أيضا «فولبون، أو الثعلب»،

189

وهي قصة رجل غني، لكنه ماكر شرير يبتز المال من أصحابه وعارفيه بكل وسيلة ممكنة. ومن ملاهيه «الكيمياوي»،

190

التي يسخر فيها من أولئك الذين يزعمون أنهم قادرون على تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب باستخدامهم «حجر الفلاسفة»، ومن خير ملاهيه «إبكين، أو المرأة الصامتة»

191

وفيها ترى «موروز»

192

الشيخ يمقت الصخب والضجيج، ويكره ابن أخيه «دوفين»،

193

أراد «موروز» أن يتزوج حتى لا يرثه «دوفين»؛ لأنه كان أقرب الأقربين إليه، لكنه في الوقت نفسه خشي أن تزعجه الزوجة بلجبها، وأخيرا دبر له ابن أخيه مكيدة، فعمل على أن تقدم له فتاة صامتة تدعى «إبكين»، فأعجب «موروز» بصمتها وهدوئها، وبصوتها اللين الخافت الذي سمعه في الكلمات القليلة التي فاهت بها؛ لذلك لم يتردد في الزواج منها، ولو أنه تعرض لليلة صاخبة يوم زواجه، إذ قضى ابن أخيه ورفاقه تلك الليلة في هرج شديد تسترا وراء تلك الحادثة السعيدة، لكن لم يكد «موروز» يفرغ من حفل زواجه، حتى تبين له في زوجته الصامتة امرأة ثرثارة كانت تدعي الصمت ادعاء، هذا إلى الضجة التي كان يفتعلها ابن أخيه ورفاقه، فكاد يجن الشيخ الهرم الذي يؤثر الهدوء على كل شيء، وحاول المسكين عبثا أن يستعين بالقانون على التخلص من زوجته، ولكي يزيد الرفاق المناكيد من شقائه زعموا له أن امرأته تلك كانت مثلومة الشرف، ولا تصلح زوجة لرجل شريف، لكن القانون لم يسعفه حتى بعد هذا؛ لأن التهمة - وإن صدقت - كانت قد وقعت قبل زواجه منها، فليست تبرر طلاقها، وأخيرا عرض عليه ابن أخيه أن يخلصه من تلك الزوجة إن هو قطع على نفسه وعدا أن يجعل ابن أخيه وارثه الوحيد، ولم يجد «موروز» بدا من الإذعان، وعندئذ كشف «دوفين» عن مكيدته، إذ لم تكن «إبكين» إلا غلاما يرتدي ثياب الفتاة!

هذه ملاه ثلاث مما أخرجه «جونسن»، وهي من أروع الملاهي في الأدب الإنجليزي إطلاقا، وتفوق في حبكاتها الروائية ملاهي شيكسبير، لكن شيكسبير يعود فيفوقه في كل شيء بعد هذا.

وله كذلك مأساتان هما «سجانس وسقوطه»

194

و«مؤامرة كاتلين»،

195

وهو في هاتين المأساتين يبالغ في اتباعه لقواعد الأدب الكلاسيكي، ويسرف في تعالمه، بحيث جاءت المسرحيتان نابيتين عن الذوق العام، وفشلتا على المسرح فشلا ذريعا.

وحقيق بنا في هذا الموضع أن نوازن في لمحة سريعة بين شيكسبير وجونسن، فكلاهما عرف المسرح ممثلا وكاتبا، وكلاهما بدأ حياته الأدبية بتهذيب روايات قديمة، وكلاهما تأثر بمارلو من ناحية، ثم شق لنفسه طريقة جديدة من ناحية أخرى، غير أن شيكسبير يعتمد على خياله وابتكاره، وجونسن يرتكز على علمه بأصول الفن القديم، وشيكسبير يصور الإنسانية أينما كان الإنسان وأنى كان، أما جونسن فيصور شذوذ السلوك في رجال عصره؛ فكانت نتيجة هذا أن أصبح شيكسبير شاعر العصور كلها، وبات جونسن ذكرى تتردد على صفحات التاريخ الأدبي، ولئن كنا نذكر «جونسن» اليوم، فإنما نذكره بقصائده الغنائية أكثر مما نذكره لمسرحياته.

ننتقل الآن إلى «المقنعات»،

196

التي كان لجونسن فيها باع طويل، و«المقنعة» هي تطور حفلات الرقص والمرح التي كانت تحدث في قصور الملوك والأمراء، والتي كان الراقصون فيها يتنكرون بأقنعة يسترون بها أنفسهم ليزيدوا من مرحهم وسرورهم، ثم تطورت حفلة الرقص والموسيقى، وأصبحت فصلا تمثيليا رمزيا يقوم بتمثيله الأمراء والأشراف أنفسهم ترويحا لأنفسهم، وكانوا عادة يلبسون في تلك الفصول التمثيلية أفخر الثياب وأشدها زخرفة وبريقا، على أن التمثيل كان يلازمه غناء وموسيقى وشعر ورقص، والمنظر المزخرف في هذه المقنعات كان أهم الجوانب، أما التمثيل نفسه فشيء عرضي طفيف، والمقنعة لا تزيد على فصل تمثيلي، وتختلف عن الفصول التمثيلية العادية في أنها شيء يراد به التسلية الخاصة داخل القصور.

كانت «المقنعة» - إذن - من عمل رجلين: رسام يقوم بالزخرف والتزويق، وشاعر ينشئ الغناء والحوار، وكان الرسام أهم الرجلين، ثم أخذت مكانة الشاعر تزداد في «المقنعة» شيئا فشيئا، ومكانة الرسام تتضاءل شيئا فشيئا، حتى كادت تصبح المقنعة أدبا خالصا، وكان ذلك على يدي «بن جونسن» وإن نبأ طريفا ليروى عن عراك نشب بين جونسن وبين رسام يزخرف مناظر المقنعات على أيهما أهم وأنفع، وكانت نتيجة المعركة وبالا على الشاعر؛ لأنه طرد من القصر على أثرها، ولم يعد يكلف بكتابة المقنعات للقصر. وعلى كل حال فقد جاءت الحرب الأهلية في إنجلترا عام 1642م، فقضت على بهجة القصور وترفها، فوقع ذلك على «المقنعة» موقع الضربة القاضية، فزالت من الوجود أو كادت، ولم نعد نسمع بها إلا عند «ملتن» إذ كانت له «مقنعة» مشهورة رائعة عنوانها «كومس».

197

ولا ينافس «بن جونسن» في هذا اللون الأدبي منافس لا في القدر ولا في المقدار، ومن مقنعاته المشهورة «عودة العصر الذهبي» و«مقنعة البوم» و«مقنعة الملكات». وفي تمثيل هذه الأخيرة اشتركت زوجة الملك جيمس الأول.

أما في الشعر الغنائي فقد تجد من يساويه جودة، ولكنك لا تكاد تجد من يفوقه في الأدب الإنجليزي كله، وأشعاره الغنائية منثورة هنا وهناك في رواياته ومقنعاته، وفي دواوين شعره.

ومن آثار جونسن قليل من النثر أهمه كتاب عنوانه «مستكشفات في الإنسان والمادة» وأسلوبه فيه واضح محكم يشبه نثر «بيكن» من بعض الوجوه. (5-2) فرانسز بومنت

Francis Beaumont (1584-1616م) وجون فلتشر

John Fletcher (1579-1625م) «بومنت» و«فلتشر» صديقان تعاونا في تأليف المسرحيات معا على نحو يندر وجوده في تاريخ الأدب، بحيث لا تستطيع أن تذكر أحدهما غير مقرون بزميله، وقد مزجا نفسيهما مزجا يعسر معه - أو قل يستحيل في كثير من المواضع - أن تفصل إنتاج الواحد عن إنتاج أخيه.

أما «جون فلتشر» فسليل أسرة عرفت بميلها إلى الأدب، وقد تلقى تعليمه في إحدى كليات كيمبردج، كان أبوه عميدا لها، وبدأ يكتب للمسرح وهو في عامه السابع والعشرين، وكان حتى في محاولاته الأولى شريكا لزميله «بومنت».

وكذلك نشأ بومنت - كزميله - في أسرة طيبة عرفت بنزعة أفرادها إلى الدراسة الأدبية، وتعلم «بومنت» في أكسفورد، وكان ذا مال موروث، وهنا يختلف عن أكثر زملائه من كتاب المسرحية، فلم يكن - مثلهم - مضطرا إلى الكتابة ليكسب القوت.

عاش الصديقان متلازمين متحابين متعاونين، والرأي السائد بين مؤرخي الأدب الإنجليزي هو أن «بومنت» كان صاحب النقد والتوجيه، وكان «فلتشر» صاحب الخلق والإبداع، ذلك يرسم الخطة ويصلح فيها، وهذا يبتكر لها وينشئ.

ومات بومنت عام 1616م ، فلبث زميله تسع سنوات ينتج وحده، وقد استطاع النقاد أن يميزوا الشطر الأعظم من هذا الإنتاج الفردي. فأما المسرحيات التي تنسب إلى الكاتبين معا، مضافا إليها ما انفرد كل منهما بكتابته، فتزيد على الخمسين، أهمها «فيلاستر»

198

و«ملك ولا ملك»

199

و«السيدة المزدرية»

200

و«فارس مالطة»

201

و«مأساة عذراء»

202

و«فارس المدق المحترق».

203

وحسبنا واحدة من هذه نسوقها إليك مثالا. «فيلاستر» ملهاة مأساة بطلها ولي العهد لعرش صقلية الذي كان قد اغتصبه «ملك كالابريا»، وقد سمح لولي العهد الشرعي فيلاستر أن يقيم في قصر الملك الغاصب، فأحب «أرثيوزا»

204

ابنة الغاصب وأحبته، لكن «فارامند»

205

أمير إسبانيا ينشد زواجها. وكان لأحد رجال البلاط ابنة اسمها «يوفرازيا»

206

أحبت فيلاستر، لكنها علمت أنه حب لا أمل فيه، فتنكرت في زي غلام، والتحقت بخدمة حبيبها، فقدمه فيلاستر هدية إلى حبيبته «أرثيوزا»، وكان فارامند - الأمير الإسباني الذي يريد الزواج بأرثيوزا - يمتع نفسه بمعاشرة امرأة شهدت الأميرة المخطوبة ذات مرة، وهي على صلة تدعو إلى الريبة مع غلامها «بلاريو» - وبلاريو هو في حقيقته الفتاة المتنكرة - فوشت بها.

وصدق فيلاستر الوشاية وغضب لحبه الجريح، فطعن «أرثيوزا» وغلامها «بلاريو» في آن معا، وعندئذ تقدم «بلاريو»، فأعلن أنه هو الذي كان يريد اغتيال مولاته أرثيوزا، وإنما فعل ذلك - أو على الأصح فعلت ذلك - ليدرأ الخطر عن الحبيب فيلاستر، الذي في سبيل حبه تنكر وانخرط في زمرة الخدم، لكن ذلك أضره ولم ينفع الحبيب؛ إذ قدم كلاهما إلى الجلاد ليحز رأسيهما، الأول لاعترافه بالجريمة، والثاني للريبة القوية التي حامت حوله، وهنا التمست «أرثيوزا» أن تقام سجانة عليهما ما دامت الجريمة كانت موجهة إليها، ثم ما هي إلا أن أعلنت «أرثيوزا» أباها الملك الغاصب أن سجينها فيلاستر هو زوجها، فاستشاط الملك غضبا، وأراد أن يسرع إلى قتله، فثار الشعب لينقذ ولي عهده الشرعي، ولم يجد الغاصب بدا من إطلاق سراح فيلاستر لتهدأ ثائرة الشعب، وتزوج من الأميرة أرثيوزا، وطرد خطيبها فارامند من القصر، أما «بلاريو» - الفتاة المتنكرة - فقد أصر الملك على أن ينتقم منه لما قيل عن علاقته بابنته، وأمر به أن تنضى عنه ثيابه ليلقى عذابه، وهنا لم تجد الفتاة بدا من إعلان سرها، فاهتز الجميع من فرح لكذب الوشاة، وقال فيلاستر: خبريني فيم التنكر في زي الرجال؟

فأجابته: «لطالما تحدث أبي عن نبلك وفضلك، فلما ازددت دراية وفهما تمنيت أن أرى رجلا موضع هذا الثناء، لكن تلك الأماني لم تكن حينئذ إلا اشتياق فتاة لم يكد ينشأ حتى يزول، ثم كان أن جلست يوما إلى النافذة أسرح الفكر في المروج، فأبصرت من ظننت إلها - لكنه أنت - يدخل بابنا، عندئذ طار مني دمي، ثم عاد إلي، كأنما نفثته من بدني، ثم امتصصته في عروق بسرعة الشهيق والزفير، وهنا نوديت في سرعة لأحييك، فما أظن إنسانا ارتفع من حظيرة الأغنام إلى حيث الصولجان قد أحس بنفسه يصعد في فكره كما أحسست عندئذ، وسمعتك تتكلم فأين من كلامك الغناء! فلما مضيت عنا عدت إلى قلبي أسائله: ماذا أثاره وحركه؟ فوجدته الحب وا أسفا! لكنه الحب الذي لا تشوبه من الشهوة شائبة؛ لأنني لو استطعت أن أعيش إلى جوارك لكان في ذلك بغيتي، ولهذا أوهمت أبي النبيل برحلة مزعومة، وارتديت ثوب غلام ...»

على أن أشهر ملاهيهما وأجودها هي ملهاة «فارس المدق المحترق» التي يسخران فيها من حب أهل لندن لأوضاع الفروسية وتقاليدها.

وبعد «بومنت» و«فلتشر» جاء كاتب واحد للملهاة يستحق أن يذكر وهو «ماسنجر»

Massinger (1583-1640م)، وكاتب واحد للمأساة وهو «وبستر»

Webster (1580-1625م تقريبا). •••

إن كل حركة أدبية تسير في طريق مرسوم منذ نشأتها حتى نهايتها، فتبدأ بتمهيد يتلوه اطراد في الصعود يتلوه نضج وازدهار، ثم تأخذ في تدهور وانحلال، وهكذا كانت المسرحية في إنجلترا في عهد اليصابات وما بعده، بدأت تمهد لنفسها في كتاب المسرحية في عصر النهضة من أمثال «ساكفيل» و«نورتن»، ثم اطرد صعودها على أيدي «فطناء الجامعة»، ثم بلغت نضجها وازدهارها عند شيكسبير، وبعدئذ شرعت عوامل الضعف تدب فيها عند «جونسن» و«بومنت وفلتشر»، وكان انحلالها بطيء الخطى أول الأمر، حتى إذا ما انتصف القرن السابع عشر كان الفساد قد تطرق إلى المسرحية من نواحيها كلها، بحيث لم يكن ثمة منها ما يستحق أن يمثل حين امتدت يد «المتزمتين» الدينيين إلى المسرح بالإغلاق.

الفصل السابع

من شيكسبير إلى ملتن

(1) الشعر

كان للشعر في عصر اليصابات نغمة غنائية حلوة الإيقاع، وكان يجري في سلاسة طبيعية لا صنعة فيها ولا تكلف، فجاء رشيقا خفيفا تقرؤه فتحسب الشاعر قد أرسله من فوره إرسالا لا عناء فيه.

وكان من الطبيعي إذا ما انقضى ذلك العصر الزاهر أن تنهض جماعة من شباب الشعراء، فتزعم أنها قد سئمت ذلك الضرب من الشعر الذي يجري في يد الشاعر في هوادة ورفق، لذلك قام «دن» وأتباعه فغيروا أوضاع الشعر في عصر اليصابات، رأوا في الشعر الأليصاباتي إفاضة في القول، فاستبدلوا بها في شعرهم إيجازا واقتضابا، ورأوا في الشعر الأليصاباتي صورا واستعارات مستقيمة لا عوج فيها ولا التواء، فاستبدلوا بها مقارنات بين الأشياء فيها عنصر الغرابة والمباغتة والدقة، ورأوه شعرا وصفيا فاستبدلوا به شعرا يحلل، وألفوا شعراء عصر اليصابات يسودهم الفرح بالدنيا والإقبال عليها في تفاؤل، فآثروا هم صبغة الجد والتشاؤم والإغراق في التفكير الديني، وكان الشعراء في عهد اليصابات متشابهين في الروح والأسلوب، حتى ليتعذر أن يميز شاعر من شاعر، أما هذه الطائفة الجديدة التي أعقبتهم فنمت في أفرادها الروح الفردية، وأصبح لكل منها طابع خاص يتميز به.

تلك هي الجماعة من الشعراء التي أطلق عليها «الدكتور جونسن» اسم «الشعراء الميتافيزيقيين» (شعراء ما وراء الطبيعة)، فأصبح هذا الاسم دالا عليها في تاريخ الأدب. ولعل السبب في إطلاق هذا الاسم على «دن» وأتباعه الذين عاشوا في النصف الأول من القرن السابع عشر هو أنهم كانوا ينشدون المعاني الغريبة، ويستخدمون عقولهم ويؤثرون الفكرة العميقة، ويتجهون بمجهودهم العقلي والخيالي نحو التأمل في ذات الله، وفي علاقة الإنسان به، فكان شعرهم مما يصح أن يسمى شعرا دينيا.

ولنتناول هذه الجماعة الميتافيزيقية بشيء من التفصيل: (1-1) جون دن

John Donne (1573-1631م)

هو مؤسس «المدرسة الميتافيزيقية» في الشعر الإنجليزي وأعظم شعرائها. ويمكن تقسيم شعره إلى شعر غزلي يمتد منذ بدأ ينشئ الشعر، وهو في عامه العشرين، حتى بلغ من عمره الثامنة والعشرين، وشعر ديني سبقته بعض القصائد التي يسودها عمق التفكير.

أما قصائده الغزلية، فكانت قبل زواجه تختلف عنها بعده، فهي قبل الزواج تنم عن الشاب الذي غلبته الحواس، فأرخى لنفسه العنان في شهواته وعواطفه، دون أن يكون له من ضميره رادع زاجر، ثم أصبح غزله بعد الزواج أعف وأطهر، ولئن كان بين المرحلتين صفة مشتركة، فهي الإخلاص في التعبير.

وتنقضي فترة الغزل في شعره لتبدأ المرحلة التمهيدية لشعره الديني، نعني مرحلة التأمل العميق، وأهم قصائده فيها قصيدة «ترقي الروح»

1

وقصيدة «تشريح العالم»،

2

ففي القصيدة الأولى يتتبع خطوات الترقي لروح يفرض وجودها في تفاحة حواء، فيتعقبها في النبات، ثم في الحيوان، حتى يبلغ بها أعلى مراحلها في الإنسان، وفي القصيدة الثانية يستأنف مسير الروح من هذا العالم إلى العالم الآخر.

وتجيء بعد ذلك مرحلة شعره الديني الذي يسجل فيه خطرات حياته الروحية، فتراه يسبح بفكره الدقيق النافذ وخياله القوي المشتعل في مشكلات الكفر والإيمان، فهو آنا خاضع لله العلي خضوعا لا ثورة فيه:

رباه يا جامع الثالوث حطم فؤادي. •••

اطرحني أرضا، ثم علي بقواك

تمزيقا وتحطيما وإحراقا، لتصوغني من جديد

لعلني بذلك أنهض وأستقيم على قدمين.

وهو آنا يقف ليتساءل: «إذا لم تكن الأفاعي الحاقدة حقيقة بلعنة الله، فماذا أكون؟»

ويتميز شعر «دن» في هذه المرحلة الدينية - فضلا عن خصائصه العقلية والعاطفية والخيالية التي أشرنا إليها - بالغموض والمفارقة والعنف، فغموضه راجع إلى أن أفكاره أعمق مما تستطيع الألفاظ أن تعبر عنه في يسر وطلاقة، أضف إلى ذلك محاولته الإيجاز وعدم الإسراف في استخدام الكلمات مما يزيده غموضا، والمفارقة في قصائده كثيرا ما تبلغ حدا ينبو بها عن الذوق، فتبدأ القصيدة رخية جميلة لتنتهي وعرة غامضة. أما عنف عباراته فكثيرا ما يكون حسنة في شعره، وذلك حين يكون انسجام بين تلك العبارة القوية المفاجئة الشاذة وبين فكره القوي وعاطفته المحتدمة.

وهاك بعض أمثلة من شعره:

الرسالة

ردي إلي عيني اللتين طال بهما الضلال،

واللتين - وا حسرتى - أسرفتا في النظر إليك،

لكن إن كانتا قد تعلمتا السوء حيث كانتا

فعرفتا الأساليب المفتعلة،

ومارستا العواطف المبتذلة،

بحيث أصبحتا

بالذي منك تعلمتا؛

لا تصلحان للبصر السليم، فاحفظيهما لديك،

ردي إلي وديع قلبي من جديد،

الذي لم تكن دنسته الأباطيل،

لكن إن كنت قد علمته

أن يكون في الجد

ما يكون في الهزل،

وأن يكون مخلفا حانثا

في الحلف والوعد؛

فاحفظيه لا ترديه، إنه لم يعد قلبي. •••

ومع ذاك فردي إلي قلبي وعيني؛

لعلي أرى وأعلم ما تكذبين علي،

أو لعلي أضحك وألهو

حين تكتئبين،

وحين تضعفين فتنشدين؛

تنشدين زميلا

فلا تجدين زميلا،

أو حين تبدين ما يبدو منك اليوم من زيف.

ومن شعره:

أيتها الألفاظ! لشد ما بك من ضعف وضيق،

فهيهات أن ننفث فيك كروبنا، إن عظائم الكروب لا تتكلم،

فلو استطعنا أن ننفث التنهد نبرات، والبكاء كلمات

لقل الكرب وامحى؛ لأن له في العبرات مخرجا.

إن القلوب الحزينة كلما بدا حزنها ضئيلا كان حزنها جسيما - كما يزداد صمت المجرم أمام القضاء كلما ازداد وزرا -

لا لأن القلوب الحزينة لا تدرك حالها ولا تشعر به،

بل لأن شدة الإحساس قد أفقدتها الرجاء.

ومن شعره الديني:

ترنيمة إلى الله

أفتغفر لي يا رباه الخطيئة التي بها بدأت،

والتي وإن اقترفت قبل وجودي فهي خطيئتي؟

أفتغفر لي يا رباه تلك الخطيئة التي في لوثها أخوض،

وما أزال فيها أخوض، وإن كنت لا أنفك نادما؟

إنك إن غفرت لي، فلم تغفر؛

لأن وزري غيرها كثير. •••

أفتغفر لي يا رباه تلك الخطيئة التي استملت إليها سواي؛

فزل فيها، فجعلت لهم من خطاياي أبوابا منها يدخلون؟

أفتغفر لي يا رباه تلك الخطيئة التي اجتنبتها

عاما أو عامين، لكني تدنست بها عشرين عاما؟

إنك إن غفرت لي، فلم تغفر؛

لأن وزري غيرها كثير. •••

إن من خطاياي الخوف، فأخشى أنني إذا ما أتممت

غزلي حتى آخر خيوطه، فنيت على الشاطئ،

فأقسم لي بنفسك أن يضيء «ابنك» عند موتي

كما يضيء الآن ولن يزال يضيء إلى يوم الدين.

فإن فعلت هذا، فقد فعلت كل شيء؛

فلن أخشى بعد ذلك شيئا.

ذلك هو «جون دن» زعيم «المدرسة الميتافيزيقية» في الشعر. وكان له أتباع نكتفي بذكر أسمائهم مقرونة بنماذج من شعرهم، لعلنا بذلك نلقي ضوءا أقوى على اتجاهات الشعر الميتافيزيقي الذي أعقب شعراء عصر اليصابات. فمن هؤلاء الأتباع «جورج هربرت»

3 (1593-1633م)، ومن خير شعره قصيدة عنوانها «الفضيلة»:

أيها النهار الجميل الذي اجتمع له السكون والإشراق وعليل الهواء،

كأنك يوم عرس للسماء والأرض،

إن الندى سيبكيك حين تنقضي عند إقبال المساء؛

لأنك عندئذ لا بد أن تموت. •••

أيتها الوردة الجميلة التي أرى صبغتها - من غضب وإقدام -

تأمر المحدق الجريء أن يغض من عينيه،

إن جذورك ما تزال أبدا في قبرها،

ولا بد لك يوما أن تموتي. •••

أيها الربيع الجميل الذي تملؤه جميل الأيام والورود،

كأنك الصندوق امتلأت جنباته بالحلوى صنوفا،

إن أنغامي لتنبئني أن لأيامك أجلا عنده تزول،

ولا بد لكل شيء يومئذ أن يموت، •••

إلا نفسا رضية فاضلة

فلن تفنى كأنما هي الخشب تجمد من تغير الأجواء،

فلو رد العالم كله فحما هشيما

لظلت وحدها قائمة.

ومن رجال هذه المدرسة «رتشرد كراشو»

4 (1613-1649م) الذي يطلق لنفسه العنان في تصوراته الميتافيزيقية متابعا في ذلك «دن» و«هربرت»، وله في الشعر الديني قصائد غر جياد.

قال في قصيدته «القديسة تريزا وقلبها المشتعل»:

5

أنت يا وليدة الشهوات التي لم تفزع،

نشدتك كل ما تملكين من أنوار ونيران،

نشدتك كل ما فيك من قوة النسر ورقة الحمائم،

نشدتك كل ما لقيت في الحب من حياة وموت،

نشدتك ساعات طوالا أنفقتها من نهارك في التأمل،

ثم نشدتك ساعات أطول منها ظمئت فيها للحب،

نشدتك تلك القبلة الأخيرة وما لها من ملك عريض،

نشدتك كل ما لك من كئوس أترعت بالشهوة الحامية،

نشدتك جرعة من ذوب النار ارتشفتها ذاك الصباح، •••

لا تبقي مني على شيء،

دعيني أطالع سيرتك؛

كي أفني ما بقي لي من حياتي!

ومن شعره:

العبرة

أي ماري الجميلة، وما ذلك الشيء الوضيء اللامع

الذي تسفحه عيناك الجميلتان؟

إنه جذوة مبتلة،

إنه ماسة من ماء.

ولعل منها ما قال القائلون: «ماء الماسة.» •••

كلا، فما هي بعبرة

إنها نجم على وشك السقوط

من فلكها، وعينك ذاك الفلك،

سوف تنحني لها الشمس لتعلو بها،

وستختال أخت الشمس بها كبرياء؛

إذ تحلي أذنها بجوهرة سقطت من عينك.

ومن رجال المدرسة الميتافيزيقية أيضا «هنري فوجن»

6 (1622-1695م)، ومعظم قصائده الجيدة ديني الموضوع والروح، ومن خيرها قصيدته «العودة»

7

التي يتمنى فيها أن يرتد طفلا صغيرا لا يدور في خلده إلا أفكار طاهرة. فالطفل في استطاعته أن يرى لمحة من وجه الله، حين ينظر إلى سحابة أو زهرة. إن الناس قد يتمنون السير إلى الأمام، أما الشاعر في هذه القصيدة فيود أن تسير به الأيام إلى الوراء؛ ليعود إلى حيث الطهر والنقاء.

وكذلك تستطيع أن تسلك في جماعة الميتافيزيقيين من أتباع «دن» «إبراهام كاولي»

8 (1618-1667م)، ولو أنه في الحقيقة مرحلة انتقال بين هذه الجماعة وبين طائفة من الشعراء أعقبتها تؤثر الأوضاع القديمة التقليدية. وسنحدثك عنها بعد قليل.

اقرأ له هذه الأبيات التي تدل على نزعته الميتافيزيقية القوية التي تتعلق بالمقارنات العجيبة والتشبيهات التي تستوقف القارئ بغرابتها:

الحب في عينيها المشمستين

الحب يمرح في عينيها المشمستين ليصطلي الدفء فيهما،

الحب يمشي في المتاهات الممتعة التي في ثنايا شعرها،

الحب ما ينفك شاردا على كلتا شفتيها،

وهنالك يبذر ثم يحصد ألوف القبل،

الحب دوما يرى في ظاهر أجزائها طرا،

ولكنه - أواه - لم ينفذ إلى دخيلتها أبدا.

ومن لطيف شعره:

النفس

لو أن عيني يوما أعلنتا

أن شيئا في جمالك قد رأتا،

أو زعمت أذناي أن صوتا سوى صوتك

فيه من الموسيقى لحن مثل لحنك،

أو أنني استمرأت شيئا في الطعم

فوجدته في حلاوة قبلة منك على فمي،

أو حاسة اللمس مني ضلت سبيلا

فظنت سواك بضا جميلا!

لو كان ما به الربيع يزدهر،

أو ما يرسله الشرق من صيف عطر؛

يستطيع أن يقنع شمي

بالأريج غير أنفاسك أن يسمي، •••

لحق علي أن تراني تافها عيناك

كما أرى كل شيء تافها إلاك.

وبينما كانت «المدرسة الميتافيزيقية» بمثابة رد فعل أعقب عصر اليصابات، فحل فيها التصنع وغرابة المقارنة والتشبيه محل النغمة الطبيعية في عصر اليصابات، وأنشأت قصائدها في الدين بعد أن كان الشاعر الأليصاباتي وثني النزعة، يسترعي انتباهه الشيء الجميل؛ نقول بينما كانت «المدرسة الميتافيزيقية» سائرة في طريقها الذي أوضحنا، نشأت في إنجلترا طائفة أخرى من أصحاب الشعر الغنائي في النصف الأول من القرن السابع عشر، تحتفظ بالروح الشعرية الغنائية التي عهدناها في عصر اليصابات من حيث الطلاوة والطلاقة والتدفق، لكنها تختلف عن عصر اليصابات في شدة عنايتها بالصقل والتجويد، فكأنما كان الشعر الغنائي في عصر اليصابات ينبوعا يتفجر منه الماء بطبيعته. وشعر هذه الطائفة آلة صناعية مركبة تستخرج الماء، كلاهما ينساب منه الشعر سلسا رشيقا، لكن الشاعر الأليصاباتي ينشده بغير نصب أو عناء، والشاعر من هؤلاء يبذل في إخراجه مجهودا مضنيا.

وكان على رأس هذه الطائفة «بن جونسن» الذي قدمناه في ختام الفصل السابق، ومن شعره:

إلى سيليا

لا تسقيني الخمر إلا بعينيك،

وسأجعل لهما من ناظري رهينة،

أو اتركي لي في الكأس قبلة،

فلن أنشد بعد ذاك شرابا،

إن ما بالروح من ظمأ

إنما يرويه خمر إلهية،

ولكني لو أعطيت من خمر الأرباب ما أشتهي

ما رضيت بها عن خمر عينيك بديلا. •••

لقد بعثت إليك منذ قريب بإكليل من الورد،

ولن يزيد ذلك من قدرك

بقدر ما يفسح للورد من أمل،

فأملها ألا يصيبها لديك ذبول،

لكنك نفثت في الإكليل أنفاسا،

ثم أرجعته إلي،

ومنذ ذلك الحين والورد ينمو ورسل عبقا،

وما ذاك - وربي - من الورد، إنما هو من نفثتك.

ومن أغانيه الرائعة التي وردت في روايته «إبكين، أو المرأة الصامتة» هذه الأغنية:

تأنقي ما شئت، والبسي ما شئت،

كأنما أنت إلى وليمة ذاهبة،

تزيني بالمساحيق ما شئت، وانثري من العطر ما شئت،

فأنا زعيم لك، سيدتي

أنك وإن أتقنت الفن فأخفيت أسبابه،

فليس ذاك جمالا وليس ذاك كمالا.

أعطيني جميل الملامح، ثم أعطيني صبوح المحيا،

مما يجعل البسيط جميلا،

إن الثوب ترسلينه إرسالا والشعر تهملينه إهمالا،

فمثل ذاك الإهمال الجميل أشد سحرا لنفسي

من خوادع الجمال المصنوع كلها،

فهذه تستوقف عيني ولا تستهوي فؤادي.

وكان روبرت هرك

9 (1591-1674م) أنبغ «أبناء بن» - كما كان يطلق على أتباع «بن جونسن» - وقد تغزل في جمال الجسد وافتتن بجمال الريف وأحب الأزهار. ومن جيد شعره:

إلى أزهار النرجس

أيها النرجس إنا لنبكي إذ نراك

تمضي إلى الفناء وشيكا،

ها أنت ذا تمضي والشمس التي بكرت في شروقها

لم تبلغ بعد في السماء أوجها.

قف، قف،

حتى ترى النهار المسرع في خطاه

قد تقضى.

قف، حتى نغني أنشودة المساء،

فإذا ما أدينا الصلاة معا

فسنمضي معك إلى حيث تريد. •••

إن آجالنا لتماثل أجلك في القصر،

وربيعنا ينقضي في سرعة ربيعك،

وننمو مسرعين كما تنمو، ثم نفنى

كما تفنى أنت وتفنى سائر الأشياء،

إنا لنقضي

كما تنقضي ساعاتك،

ثم نذبل ونذوي

ونمضي كما تمضي أمطار الصيف،

أو كلآلئ الندى في الصباح؛

فنذهب ولا نئوب.

ومن «أبناء بن» - كذلك - «رتشرد لفليس»

10 (1618-1658م) الذي كان مشايعا للملك فأوذى في سبيله. ومن جميل شعره قصيدة يوجهها إلى حبيبته وهو ذاهب إلى حومة القتال، فيقول فيها إنه ليعد بغير قلب إذا هو خلف حبيبته وذهب إلى القتال، لكنه إذا لم يكن محبا للشرف فليس هو جديرا بحبها.

وسجن الشاعر في سبيل الملك، فكتب إلى حبيبته من السجن يقول:

ليس السجن جدرانا من صخور،

وليس القفص قضبانا من حديد،

فتلك عند العقول الهادئة البريئة

كصوامع الرهبان،

فلو كنت في حبي حرا،

ولو كنت في نفسي طليقا،

فذاك ما أبغي، فلا يعرف مثل هذه الحرية

إلا الملائكة التي تحلق في أجواز السماء. (2) النثر

لئن بلغت آيات العصر الأليصاباتي في الشعر والمسرحية من الروعة ما لا يكاد يدنو منها منافس في سائر العصور، فقد كان النثر في ذلك العصر معيبا لا يؤدي رسالته على الوجه الأكمل. ولعلك تذكر خصائص الأسلوب «اليوفيوزي» الذي ساد عندئذ، والذي ينمق العبارة ويزخرفها، كأنما نسي معه الكاتب أنه ناثر؛ فراح يثقل عبارته بخصائص الشعر، أو ما خيل إليه أنه من خصائص الشعر، فجاءت كتابته لا هي بالشعر الصحيح ولا هي بالنثر الصحيح.

وجاء النصف الأول من القرن السابع عشر فتقدم النثر خطوة نحو النثر بمعناه الحديث، وذلك على يدي «بيكن»،

11

وإن كان ذلك التقدم لم يخل من علامات انتكاس ورجعية، فلبث «براون»

12

و«بيرتن»

13

و«ملتن» يكتبون العبارات الطويلة الملتوية جريا على أوضاع القديم.

وكما لاحظنا في الشعر أن شعراء العصر الأليصاباتي تشابهوا حتى تتعذر التفرقة بينهم، أما من جاءوا بعدهم في النصف الأول من القرن السابع عشر، فقد تحددت شخصياتهم، وأصبحت لهم خصائصهم المميزة، فكذلك نلاحظ في النثر. فهيهات أن تفرق بين نثر كتبه «للي»،

14

ونثر كتبه «سدني» - مثلا - لكنك تستطيع بعد دراسة وجيزة أن تميز نثر بيكن، فلا تخلط بينه وبين نثر «بيرتن» أو «براون» ممن أعقبوا عصر اليصابات.

ونحن نصور لك في إيجاز أعلام النثر في الفترة التي نؤرخها من شيكسبير إلى ملتن، أي النصف الأول من القرن السابع عشر. (2-1) فرانس بيكن

Francis Bacon (1561-1626م)

ولد «بيكن» في الثاني والعشرين من شهر يناير سنة 1561م في مدينة لندن، من كريمة مجيدة، فقد كان أبوه السير نكولاس بيكن يتربع في منصب من أسمى مناصب الدولة، وكان نابغا نابها ذائع الصيت واسع الشهرة، فإن يكن قد خفت اسمه فما ذاك إلا لأن ذكر ابنه قد طغى عليه فبدده في ظلاله، فكأنما كانت أسرة بيكن تسير نحو العبقرية صاعدة جيلا بعد جيل، حتى بلغت الذروة في فرانسس بيكن. وكانت أمه سليلة بيت عريق، حصلت من العلم وأصول الدين قدرا محمودا، فأخذت ترضع ابنها من علمها الواسع، ولم تدخر وسعا في تنشيئه وتكوينه منذ نعومة أظفاره لتخرج منه رجلا قويا. ولما بلغت سنه الثانية عشرة أرسل إلى جامعة كيمبردج ، حيث لبث أعواما ثلاثة ترك الجامعة بعدها ساخطا ناقما على مادة التدريس وطريقته على السواء، فقد كره ذلك الجدل الفارغ العقيم، الذي لا ينتهي في أغلب الحالات إلى شيء ذي غناء.

وما بلغ السادسة عشرة من عمره، حتى انخرط في سلك الوظائف السياسية، فعين في السفارة الإنجليزية في فرنسا، ولبث هناك عامين، ثم باغته القدر بموت أبيه، فعاد مسرعا إلى لندن. وما هو إلا أن أخذت مواهبه الأدبية في الظهور والذيوع، فانتخب عضوا في مجلس النواب، وسرعان ما جذب إليه الأنظار لبلاغته الساحرة وبيانه الخلاب.

ولما كان عام 1595م، أهداه صديق له معجب بنبوغه، هو الأيرل إسكس

15

ضيعة واسعة درت عليه ثروة طائلة عريضة هيأت له أسباب الترف والنعيم، وكانت هذه الهبة العظيمة من ذلك المحسن الكريم جديرة أن تأسر بيكن، ولكن حدث لهذا الصديق أن فترت بينه وبين الملكة اليصابات ما كان بينهما من روابط وصلات، واستحكمت بينهما الخصومة واشتد النفور، فدبر إسكس هذا مؤامرة خفية يريد بها أن يزج الملكة في ظلمات السجن، ثم يرفع إلى العرش ولي عهدها، وكاشف بيكن بما صحت عليه عزيمته، وهو لا يشك في أنه إنما يكاشف صديقا مخلصا، ولكنه لشد ما دهش حين أجابه بيكن باحتجاج صارخ على هذه الخيانة الشائنة ضد مليكة البلاد، وبإنذاره أنه سيؤثر ولاءه للملكة على عرفانه للجميل. ومضى إسكس في مؤامرته، وحشد جيوشا سار بها إلى لندن، لكنه هزم وقبض عليه، وكان بيكن عندئذ في أكبر مناصب القضاء، فلم يتردد في اتهام الرجل الذي أكرمه وأحسن إليه، حتى حكم عليه بالإعدام.

واتهم بيكن في أخريات حياته بالرشوة، واستدان وعجز عن الوفاء بدينه. وهكذا خالطت تلك العظمة عناصر الضعف والضعة، وحق لبوب أن يقول عنه بيته المشهور:

إنه أعظم وأحكم وأخس إنسان بين البشر.

كان «تقدم العلوم»

16

في طليعة الإنتاج الأدبي لبيكن، وهو كتاب فيه جانب من فلسفته، ثم هو في الوقت نفسه يذكر لوضوح عبارته وجودة بنائها.

ولكن آيته الأدبية التي استحق من أجلها أن يذكر علما من أعلام الأدب هي مجموعة «مقالاته»؛ فإليه يرجع الفضل في إدخال «المقالة» في الأدب الإنجليزي، فلقد ذكرنا فيما سلف عن «مونتيني» أنه أول من كتب «المقالة» بالمعنى الأدبي الذي تواضع عليه الناقدون، وقد أخرج «مونتيني» الجزأين الأولين من مقالاته سنة 1580م، فترجمهما إلى الإنجليزية «فلوريو» سنة 1603م كما ذكرنا من قبل. وعن «مونتيني» أخذ بيكن اسم «المقالة» وروحها، والمقالة عند بيكن مجموعة من الخواطر يسوقها حول موضوع معين بغير أن يعنى بترتيبها، فليس لها فاتحة يستهل بها الحديث، وليس لها ختام يشعرك بنهايته. إنما هي - كما قلنا - سلسلة من الخواطر يسوق بعضها بعضا، ويتخللها أقوال مقتبسة وحكايات يذكرها لتوضيح المعنى ولتأييد وجهة نظره، وليس بين هذه الخواطر من رباط إلا أنها تقع تحت عنوان واحد. ومما يميز أسلوب بيكن في «مقالاته» التركيز الشديد، فمعنى ضخم في لفظ قليل. على أن بيكن لم ينته بكتابة «المقالة» كما بدأها، فقد نشر من المقالات أول ما نشر عشرا، وكان ذلك سنة 1597م، وكانت المقالة في هذه البداية قصيرة مركزة حتى لكأنها مجموعة من الحكم، فلما كان عام 1612م، أعاد كتابة هذه المقالات الأولى ووسع فيها، ثم أضاف إليها تسعا وعشرين، ثم عاد سنة 1625م فزاد في إطالة مقالاته الأولى، وأضاف إليها مقتبسات وحكايات، ونشر معها إحدى وعشرين مقالة جديدة.

ونستطيع أن نقسم هذه «المقالات» إلى مجموعات أربع، فمجموعة تدور حول الإنسان في حياته الخاصة، ومجموعة ثانية تتناول الإنسان في حياته العامة، وثالثة تعالج أمور السياسة، ورابعة تبحث في موضوعات مجردة.

ومن أمثلة المجموعة الأولى «الحب» و«الآباء والأبناء» و«الزواج والعزوبة» و«الصداقة». وإنك لترى الكاتب في هذه المرحلة كأنما يكتب بغير عاطفة، ويكاد يكون عقلا خالصا يحتكم إلى منطق العقل ولا يأبه بالمشاعر الإنسانية التي تصدر عن القلب؛ ولهذا تراه يقيس الأمور بالنجاح المادي في الحياة.

ومن أمثلة المجموعة الثانية «المنصب الرفيع» و«الرياء والتصنع»، وهو في هذه المرحلة أسوأ ما يكون مبدأ، فبلوغ الغاية هو كل شيء، وليس للأخلاق القويمة في ذاتها وزن كبير، ولعله في ذلك قد تأثر بمكيافلي ومبادئه السياسية، ومع ذلك فلا تخلو مقالات هذه المجموعة من عبارات تصادفها هنا وهناك يرجع فيها الكاتب عن هذا الشطط، ويدعو إلى الفضيلة، فتراه يقول مثلا: «إن القدرة على فعل الخير هي الغاية الحقيقية المشروعة من الطموح إلى المنصب الرفيع.»

ومن أمثلة المجموعة الثالثة «ما للمالك من مجد حقيقي» و«المستعمرات»، وهو في هذه المقالات السياسية يبسط لنا السياسة التي تنطوي على بعد النظر والاتزان، فهو - مثلا - يوجه مر النقد إلى سياسة حصر الثروة القومية في أيد قليلة؛ لأن «المال كالسحاب لا يجود إلا إذا انتشر.» لكنه مع ذلك لم يكن يرمي إلى ديمقراطية صحيحة؛ لأنه لا يؤمن بمقدرة الدهماء، فهو لا يريد أن تسود المساواة بين الناس جميعا، ويتقرح أن يمنح المزارعون ملكية أرضهم، ثم تقوم على رأسهم أرستقراطية تدبر أمرهم، ثم يحكم هؤلاء وأولئك جميعا ملك فيلسوف، ولعله تمنى أن يكونه.

وأما في المجموعة الرابعة التي تعالج موضوعات مجردة، فتجد مقالات «الموت» و«الحق» و«الجمال» وما إليها، وهو في هذه المجموعة أعمق ما يكون علما، وأبعد ما يكون عن التحزب لوجهة نظر بعينها.

وهاك أمثلة من مقالاته:

يقول في مقالة عنوانها «في تصنع الحكمة»:

لقد قيل إن الفرنسيين أحكم مما يبدو عليهم، والإسبانيين يبدو عليهم من الحكمة أكثر مما لهم، ومهما يكن أمر هذه الفوارق بين الأمم، فلا ريب في أن هذا موجود بين الأفراد، فكما يقول «الرسول» عن التقوى بأن من الناس «من يتظاهرون بالتقوى ولا حظ لهم منها.» فكذلك لست أشك في أن من الناس من لا يعملون شيئا، أو قل يعملون قليلا ويتظاهرون بعمل الكثير. إنه لمن المضحك الذي يصلح لسخرية أصحاب الرأي الصائب أن يروا ما يصطنعه هؤلاء المتصنعون للحكمة ليجعلوا معلوماتهم السطحية تبدو كأنما هي ذات عمق وعظمة؛ فبعضهم كتوم متحفظ كأنهم معرضون عن إخراج سلعهم إلا في الظلام، وهم يحرصون دائما على أن يتظاهروا بأنهم أفصحوا عن شيء واحتفظوا في أنفسهم بشيء، وهم حين يوقنون بينهم وبين أنفسهم أنهم إنما يتحدثون فيما لا يحسنون الحديث فيه، تراهم مع ذلك يظهرون للناس بمظهر العارف لشيء هم في الحقيقة يجهلونه، وبعضهم يستعين على تصنع الحكمة بالملامح والحركات، فهم حكماء بما يبدون من إشارات، وذلك كالذي قاله شيشرون عن «بيزو» أنه حين أجابه رفع أحد حاجبيه إلى جبهته، وأنزل الآخر إلى ذقنه ...

ويقول في مقالة عنوانها «في الدراسة»:

القراءة تملأ الإنسان بالعلم، والنقاش يجعله مستعدا بعلمه، والكتاب تجعل منه إنسانا دقيقا، ولذلك لو كان الرجل قليل الكتابة وجب أن يكون قوي الذاكرة، ولو كان قليل النقاش وجب أن يكون حاضر البديهة، ولو كان قليل القراءة لزم أن يكون شديد الدهاء ليظهر العلم بما لا يعلم. إن دراسة التاريخ تزيد الإنسان حكمة، ودراسة الشعر تزيده فطنة، ودراسة الرياضة تزيده دقة، وتزيده الفلسفة الطبيعية عمقا، والأخلاق رصانة، والمنطق والبلاغة قدرة على الجدل.

ولبيكن عدا «مقالاته» كتاب «تاريخ هنري السابع» الذي كتبه بأسلوب نقدي موضوعي، فكان بذلك من طلائع المؤرخين بالمعنى الذي نفهمه اليوم من كتابة التاريخ، فقد كان المؤرخون في العصور الوسطى يستخدمون الشعر أداة للتعبير، ويؤرخون لفترات طويلة من الزمن، ولم تكن لهم القدرة على تصوير الشخصيات التي يؤرخون لها تصويرا واضحا. كما لم يكن في مقدورهم أن يميزوا بين الحقيقة والخيال، فلما جاءت النهضة لم يستطع مؤرخوها أن يتخلصوا دفعة واحدة من ذلك الأسلوب القديم، فظل تاريخهم أقرب - في مجموعه - إلى الحكايات المستطردة منه إلى التاريخ الصحيح، ثم أخذت كتابة التاريخ تتحول بحيث تعنى بتسجيل الحقائق دون الأساطير والخرافة، وبهذا الأسلوب التاريخي الجديد كتب بيكن كتابه عن «هنري السابع»، لقد تناول فيه الموضوع كما تناول أي علم من العلوم، مطبقا في دراسته الطريقة الاستقرائية التي ابتكرها، فكانت آية عظمته في تاريخ الفكر، فهو يجمع الحقائق ويرتب النتائج، فتستطيع أن تعد «تاريخ هنري السابع» أول كتاب تاريخي كتب بالأسلوب العلمي الحديث، وقد برع فيه الكاتب براعة تستوقف النظر من حيث تصويره الناصع لشخصية الملك، وإرجاعه الحوادث إلى أسبابها، وحسبه في ذلك فخرا أن البحث الحديث لم يجد في كتابه شيئا يحتاج إلى تصويب وتصحيح.

ونحب أن نختم لك الحديث عن «فرانسس بيكن» بكتابه «أطلنطى الجديدة»

17

الذي أراد فيه الكاتب أن يرسم دولة مثلى يقوم بنياتها على أساس العلم وحده، فالأمر فيها زمامه في أيدي المهندسين والفلكيين والنباتيين والأطباء والكيمياويين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والنفس ثم الفلاسفة، والحكومة فيها لا تصب سلطانها على الإنسان، إنما توجه حكمها إلى الطبيعة، في هذا الكتاب يتمنى بيكن - كما تمنى قبله كثير من الفلاسفة - أن يسود العلم بدل السياسة، وأن يتربع العالم الفيلسوف على عروش الملك والسلطان. (2-2) روبرت بيرتن

Robert Burton (1577-1640م)

هو أيضا من كتاب النثر في النصف الأول من القرن السابع عشر، وقد اشتهر بكتابه «تشريح المرة السوداء»،

18

وفيه يحدد معنى المزاج السوداوي، ويبحث في أسبابه وطرق علاجه. ويخصص الكاتب جزءا لظواهر المرض السوداوي في الحب، وهو في هذا الجزء فكه إلى حد بعيد، ويختم كتابه بالبحث في ظواهر هذا المرض في نطاق الدين، وهو كلما ذكر لك حقيقة أيدها بمقتبسات استمدها من الآباء والعلماء القدماء والمحدثين على السواء.

ولا نستطيع أن نترك الحديث عن بيرتن وكتابه هذا، دون أن نذكر ما صادفه عند طائفة من أكبر الأدباء من إعجاب شديد، فقد أعجب به «الدكتور جونسن» وافتتن بجماله «تشارلز لام» الذي قال في إحدى رسائله: «إني أمعن النظر للمرة المتممة للألف في إحدى عبارات بيرتن.» وهنالك بعض عبارات ابتكرها هذا الكاتب، فشاعت ولا تزال شائعة لما فيها من طلاوة التفكير وقوة التعبير، نذكر منها: «القزم الواقف على كتف العملاق يستطيع أن يرى أبعد مما يرى العملاق نفسه.» «إن صانع الأحذية حافي القدمين.» «يبني قصورا في الهواء.» «إن الطيور على أشكالها تقع.» (2-3) سير تومس براون

Sir Thomas Browne (1605-1682م)

هو مؤلف الكتاب الذي يحتل في الأدب الإنجليزي مكانة عالية «رلجيو مدتشي»،

19

الذي لم يكد يظهر حتى ترجم إلى الفرنسية والهولندية والألمانية والإيطالية. وقد كان براون في هذا الكتاب من أرباب الأسلوب المصقول؛ فهو يعنى بجودة اللفظ أكثر مما يعنى بقوة الفكرة ، ولم يدخر وسعا في تزويق عبارته وترصيعها، بحيث يخرجها وكأنها النسج المزخرف الموشى، والكتاب في مجموعه تأملات فلسفية في معاني الحياة والموت، نقتطف منه هذه العبارة لتمثل اتجاهه الفكري:

ليست حياتي سوى معجزة تمت في ثلاثين عاما، فإن رويت قصتها فلست بذلك أروي تاريخا، وإنما أقدم قصيدة من الشعر، وستتلقاها المسامع كما تتلقى خرافة من خلق الخيال. أما هذا العالم فلست أراه فندقا بقدر ما أراه بمثابة المستشفى، فليس هو بالمكان الذي نحيا فيه، إنما هو مكان نلفظ فيه الروح ونموت. وما العالم الذي أراه إلا نفسي، فلست بمستطيع أن أرسل البصر إلا ليشهد جرمي الضئيل الذي ينطوي فيه العالم الأكبر.

ليست الأرض نقطة صغيرة بالنسبة إلى أجواز السماء التي فوقنا فحسب، بل هي كذلك بالنسبة إلى الجوهر السماوي الإلهي الذي فينا، إن هذه الكتلة اللحمية التي تحيط بي لا تحد من عقلي، إن هذا السطح الجسدي الذي ينبئ أن لي حدودا لا يحملني على الظن بأنني كائن محدود ... لست أشك في أننا ننطوي على شعلة من الله، إنها شعلة وجدت قبل أن توجد السماء، ولم تستمد ضوءها من الشمس. إن الطبيعة لتنبئني أنني صورة لله كما أن الكتاب المنزل صورة أخرى، وإن من لا يعلم هذا لا يعلم المقدمة ولا الدرس الأول، وعليه أن يعيد دراسته للإنسان مبتدئا بأحرف الهجاء.

الفصل الثامن

جون ملتن1 (1608-1674م)

انقضى عصر اليصابات بأدبه المرح الجذل الطروب، فلاحت في الأفق علائم عصر جديد وروح جديد، فها هو القرن السابع عشر قد أقبل، ثم انتصف أو كاد، وها هي روح التزمت في الحياة والأدب قد ملكت على النفوس زمامها، وإنما تجسمت تلك الروح، وبلغت ذراها في شاعر العصر: جون ملتن.

ولقد أجمع النقاد على أن «ملتن» أحد ثلاثة هم أعظم الشعراء قاطبة في الأدب الإنجليزي. ولسنا نعني بهذا أنك لا تجد بين أدباء الإنجليز عددا من الشعراء قد يبلغ العشرين ممن يرتفعون في بعض أدبهم إلى الأوج الذي ارتفع إليه ملتن، وإنما نعني أن ما أداه هذا الشاعر العظيم من تجسيد روح عصره في شعره، ومن الصعود بشعره إلى أوج لم يهبط منه، لم يتوافر في تاريخ الأدب الإنجليزي كله إلا في ثلاثة: «شيكسبير» و«ملتن» و«وردزورث». فقد تجد من شعراء عصر اليصابات من يبلغ في أروع إنتاجه مبلغ شيكسبير، لكنك لا تجد بينهم من يضارعه في اتساع أفقه، وفي المحافظة على ما ارتفع إليه، فكل ما أنتجه شعراء عصر اليصابات تجد له نظيرا عند شيكسبير، والعكس غير صحيح، أعني أن لشيكسبير آيات لا يدنو منها شيء مما أنتجه سائر الشعراء في عصره، وهكذا قل في «ملتن» و«وردزورث».

كان «ملتن» أصدق لسان يعبر عن خواطر عصره كله، فكانت له غاية واحدة رئيسية ينشدها في كل ما أنشد من الشعر، وما تلك الغاية المنشودة إلا بغية عصره، وأعني بها أن يقيم للناس برهانا على عدل الله وحكمته، تلك هي غايته التي قصد إليها تلميحا في شعره كله، وأفصح عنها تصريحا في مطلع «الفردوس المفقود»، ولكي نفهم روح العصر الذي عاش فيه ملتن، نعود خطوة إلى الوراء حيث عصر اليصابات، فماذا نرى؟ نرى حيوية جارفة تسود العصر، حيوية تدفع الإنسان إلى الانغماس في كل ما يزيده استمتاعا بالحياة دون أن يجد من العقل أو الضمير ما يكبحه، فمغامرات في جوف المحيط، وتلقف لكل ثقافة جديدة يستخرجها رجال النهضة من أسفار القدماء، فعهد اليصابات في الأمة هو مرحلة الشباب الفتي الطموح، فيه تحطيم القيود الذي نعهده في الشباب، وفيه الأمل الباسم، وفيه الجدة والنضارة، وفيه الرغبة الملحة في تحصيل العلم، وفيه الخروج على معايير الأخلاق، وفيه حب الاستطلاع وركوب المخاطر مما نراه كذلك في فتوة الشباب.

فلما انقضت عن العصر دوافع الشباب ونزواته، وذهبت عنه نضارة الشباب وروعته، أقبل على الناس عهد استيقظ فيه الضمير ليحاسبهم على ما قدمت أيديهم في العهد الذي أدبر، عهد لم يعد يقبل الحياة بكل ما فيها وهو بها فرح مغتبط، بل أخذ يقدر خيرية العمل وشريته قبل أدائه، عهد أراد فيه القوم أن يحتكموا إلى الكتاب المقدس كما هو بحروفه وألفاظه بغير تأويل وتحريف، وذلك هو عهد التزمت الديني الذي كان له شاعرنا جون ملتن لسانه المعبر الناطق. «جون ملتن» سليل أسرة من أوساط الناس، ولد في لندن عام 1608م، وأكمل تعليمه في كيمبردج عام 1632م، حيث درس الآداب القديمة درسا دقيقا، وغادر الجامعة وهو يعرف اللغة العبرية خير معرفة، كما يجيد من الآداب الحديثة الإنجليزي والإيطالي والفرنسي، وفضلا عن ذلك فقد برع في الموسيقى، واستمد منها لذة ومتعة.

وما لنا نطيل الوقوف عند أنباء حياته، كأنه ليس أمامنا خضم من أدبه زاخر! فلنأخذ من فورنا في استعراض هذا التراث العظيم، وسنقسمه لتيسير دراسته إلى ثلاث مراحل: (1) المرحلة الأولى

شعره قبل سنة 1639م (أي قبل أن يجاوز الحادية والثلاثين من عمره).

كان من أروع شعره الذي أنتجه مذ غادر الجامعة حتى سنة 1938م قصيدتا «للجرو»

2 (أو الطروب) و«إلبنسروزو»

3 (أو المتأمل) ثم مقنعة مشهورة عنوانها «كومس»،

4

وأخيرا قصيدة تعد من آيات الأدب الإنجليزي هي «لسداس»،

5

التي رثى بها صديقه «كنج».

ففي القصيدتين المتعارضتين «للجرو» و«إلبنسروزو» أي الطروب والمتأمل يصور لنا الشاعر الحياة كما تبدو في حالتين مختلفتين، يصورهما كما تبدو فيمن يستبشر بالحياة، ويطرب لها، ويسترعيه منها اللذائذ والمباهج، ثم يصورها كما تبدو فيمن يغرق في تفكيره وتأمله، ويأخذ الحياة من جانبها الجاد الرصين، وهاتان الحالتان على اختلاف ما بينهما إنما تصوران وجهين لحياة الشخص الواحد، فليس منا من لا يطرب للحياة ساعة، ثم لا يشهد فيها إلا الجد ساعة أخرى، ففي قصيدة الطروب تلمح الشاعر وهو فرح بمباهج الطبيعة سعيد هانئ، وفي قصيدة المتأمل تراه في تفكيره الجاد مثقل الفؤاد، مهموم النفس. ولقد كان يظن أن ملتن أراد بالقصيدة الأولى أن يصور لنا الرجل من حاشية الملك في عصره، وقد كان فارغ القلب لا يرى في الحياة إلا لهوا ومرحا، وأنه أراد بالقصيدة الثانية أن يصور الرجل من «المتزمتين» الدينيين الذين كان الشاعر واحدا منهم، وقد كان لا ينشد في الحياة إلا الجد الذي لا يعرف المزاح والعبث، ولكن عاد رجال النقد فبينوا أن الشاعر لا يريد بقصيدتيه إلا أن يصور نفسه بوجهيها، فليس من اللذائذ التي يحتفل لها في قصيدة «للجرو» ما يتنافى مع خلق التزمت الديني الذي عرف به ملتن، فمباهج النفس في هذه القصيدة هي الربيع ونضارة الصباح وتغريد القبرة وشروق الشمس والرجال والنساء يشتغلون في الحقول، والقصص يروى بجوار المدفأة في المساء، وضجة الحياة في المدينة الشامخة بأبراجها والروايات التمثيلية تجرى على المسارح.

وأما في قصيدة «إلبنسروزو» فترى الشاعر بين كتبه في برج عال منعزل، يقرأ الفلسفة والعلم، وتراه إذا غادر برجه ليمشي فإنما يختار المماشي المنعزلة بين الأحراش، ويقصد إلى الكنائس التي بنيت على أساس الفن القوطي الجليل، تراه يلتفت إلى غروب الشمس لا إلى شروقها، وإذا أنصت إلى تغريد الطير، فإنما ينصت إلى البلبل وهو يغني في جوف الليل، هكذا يصور لك الشاعر نفسه في حالتيه، لكنه يختار لنفسه الحالة الثانية ويؤثرها على الأولى.

استمع إليه في قصيدة «للجرو» - أي الطروب - وهو يقول على لسان شاب جذل:

عني أيتها الكآبة الكريهة، عني. •••

ثم أقبلي أيتها الآلهة الجميلة الطليقة،

يا من يطلق عليها في السماء «يوفروزين»،

ويسميها الناس «بالمرح» المنفس للكروب. •••

أقبلي وفي يمنى يديك هاتي «الحرية» الجميلة عروس الجبال الشاهقات،

وإذا كرمتك يا ربة المرح بما تستحقين

فاسلكيني يا ربة المرح بين التابعين،

حتى أكون لها ولك في الحياة رفيقا،

فأعيش في بريء اللذائذ حرا طليقا،

وأسمع القبرة وهي تأخذ في طيرها،

فتهز وهي تغني جمود الليل بسحرها،

وتظل صداحة في برجها العالي في السماء،

حتى يشرق الفجر بطلعة حسناء. •••

سأظل أستمع إلى كلاب الصيد والبوق

في طرب توقظ الصباح بعد رقاد،

من سفح تل أشيب،

بصرخة الصدى خلال الغابة العالية،

فآنا تراني في غير خفاء سائرا

بجانب صف الدوح فوق خضر التلال،

فأواجه في الشرق مدخلا

حيث تبدأ الشمس العظيمة موكبها الجليل،

ملفعة بلهب وضوء من كهرمان،

والسحائب ترتدي من ألوان الثياب ألوفا،

بينما الحراث مني قاب قوسين،

يصفر فوق حقله المحروث،

وحالبة اللبن تغني طربا،

وحاصد النجيل يرهف منجلا،

والرعاة كل يقص قصته،

إذ تفيأ ظل الأشجار في الوادي.

وهكذا ترى الشاعر في حالة طربه وبهجة نفسه يتخير المواضع التي يرى أنها تزيده طربا وبهجة.

أما في «إلبنسروزو» - أو قصيدة المتأمل - فتراه يهيب بصنوف المباهج الفارغة الخادعة أن تنفض عنه فما هو لها ولا هي له، فهو الآن يريد أن يستمع إلى البلبل في صوته الحزين لا إلى القبرة في تغريدها الشجي، وهو الآن يريد أن يشهد المأساة على المسرح تبدو له بجلالها الرهيب، فهي أقرب إلى نفسه من ألوان المسرحيات الأخرى التي تزدان بصنوف الزخارف، كالمقنعات والمواكب التي عرفتها الأعوام السوالف، والتي صادفت هوى عند «الطروب» في قصيدة «للجرو»، وهو يؤثر أنغام الأرغن الرزينة الرصينة على ألحان الغناء العذبة الشجية، ويفضل الحياة يملؤها العمل على الحياة تقضى في أسباب المتعة.

وبعد فالقصيدتان في حقيقة أمرهما وحدة متصلة؛ إذ هما تبينان معا كيف تكون الحياة المعقولة بوجهيها.

أما مقنعته

6

المشهورة «كومس»، فقد استمد مادتها من الأدب القديم ومن أدباء النهضة وعصر اليصابات على السواء، فقد رجع إلى أسطورة «سيرسي»

7

الساحرة التي وردت في الأوذيسية، وجعل «كومس» ثمرة اتصال هذه الساحرة «بباكس» - رب الخمر عند اليونان - وجمع فيه خصائص الأبوين معا، ولهذا فأنت تصادف في هذه المقنعة إشارات كثيرة للأساطير القديمة، كما تجد فيها ما يذكرك آنا بعد آن بشيكسبير وسبنسر وفلتشر ممن استمد منهم الشاعر واستعان بهم، أضف إلى هذا وذاك ما تراه في هذه المقنعة من عناصر فلسفية استقاها من أفلاطون، ومع ذلك كله فالأثر الأدبي في النهاية مطبوع بطابع الشاعر، وهو مبتكر جديد، فيه ما امتاز به ملتن من نغم في اللفظ وجلال في المعنى.

تفقد البطلة في هذه المقنعة إخوتها في الغابة، فيأسرها الإله العربيد، ويحاول أن يعتدي على عفتها، لكنه يحاول عبثا، فهيهات أن ينال من سيدة يصونها الطهر والفضيلة والعفاف، وكان يحرس السيدة روح، فعمل هذا على أن يهدي إخوتها إلى مكانها، فيسرع إليها الإخوة ويطلقون سراحها، وينتزعون من الساحر جرعة السم التي هم أن يصبها في أسيرته، وعندئذ يلوذ الساحر وأتباعه بالفرار.

اقرأ ما تقوله «السيدة» إذ ألفت نفسها في الغاب وحيدة: ... إن ألوف الأوهام

لتزدحم الآن في مخيلتي،

فأطياف تنادي، وظلال بشعة بأصابعها تشير،

وألسنة من هواء تنطق بأسماء الرجال،

على الرمال والشطئان وفي قفر البوادي،

ولشد ما تفزع هذه الخواطر، لكنها لن تطير شعاعا

بعقل نشأ على الفضيلة، يسير دوما وفي حراسته

بطل قوي مخلص هو «الضمير».

مرحبا أيها «الإيمان» الذي لم يزغ له بصر،

مرحبا أيها «الأمل» الذي لم تلطخ له يد،

أيها الملك المحوم بأجنحة من نضار،

مرحبا أيها «العفاف» الذي لم تشبه الشوائب!

إني لأراك رأي العين، وها أنا ذا قد آمنت

أن الله - وهو «الخير الأسمى» - الذي ليست الشرور كلها

سوى رسل انتقام تخدمه كالعبيد،

آمنت أن الله باعث بحارس لألاء إن دعا الداعي،

ليذود عن حياتي وشرفي عدوان المعتدي.

وإنما أراد ملتن في «كومس» أن يهاجم الإباحية وتحلل الأخلاق الذي شاع بين حاشية الملك شارل الأول، وأحب أن يرسم لهؤلاء المستهترين مثلا خلقيا أعلى مما يحتذون.

ونختم الحديث عن شعر المرحلة الأولى بكلمة عن قصيدة «لسداس» وهي المرثية الرائعة التي بكى بها الشاعر زميله في الدراسة «إدورد كنج» الذي ابتلعه اليم وهو يعبر البحر إلى أيرلنده.

و«لسداس» قصيدة من الشعر الريفي،

8

الذي يحاول فيه الشاعر أن يلبس أشخاصه أثواب الرعاة، وأن ينطقهم بحديثهم، وأن يجعل الجو كله فواحا بأريج الريف الساذج، فهو يطلق على صديقه «كنج» اسما ريفيا هو «لسداس»، وهو يشير إلى زمالتهما أيام الطلب في الجامعة بقوله: ... أرضعا رحيق تل واحد

وأطعما سويا من قطيع واحد، إلى جانب الينبوع والظل والجدول.

وهو يستهل القصيدة بهذه الأبيات:

إني لأعود إليك من جديد يا غصون الغار، ومن جديد

أعود إليك يا أشجار الآس الداكنة التي أبدا لا يجف لبلابها،

وإنما جئت لأقطف منك الثمار فجا نيئا

وبهذه الأصابع العنيفة الغليظة

سوف أهشم منك الأوراق قبل أوان النضج

9

لكنها الضرورة المرة والحادث الحزين العزيز

ويدفعاني إلى القطف قبل أوان الثمر،

لأن «لسداس» قد مات، مات قبل ريعانه،

مات لسداس في شبابه ولم يخلف ضريبا،

فمن ذا الذي لا ينشد الشعر من أجل لسداس؟

وهو الذي عرف كيف ينشد الشعر وينشئ سامي القريض،

إنه لا يجوز أن يطفو على كفن من الموج

10

بغير رثاء، ولا أن تلفحه الرياح الحرور

دون أن نجزيه بدمعة حارة.

كتب ملتن قصيدة لسداس سنة 1637م، وهو ما يزال في بيت أبيه الذي أوى إليه بعد أن غادر الجامعة، ولم يكن بعد قد اشتغل بالحياة العملية، بل كان يواصل الدراسة بالقراءة، وفي العام نفسه ماتت أمه، فلم يلبث أن ارتحل إلى أوروبا يجوب أقطارها، وزار إيطاليا بصفة خاصة، والتقى بأعلام الأدب فيها، وهنالك كتب بعض القصائد اللاتينية والإيطالية، ثم أسرع بالعودة إلى بلاده حين جاءته الأنباء أن حبل الأمور قد اضطرب فيها، وهنا تبدأ مرحلته الأدبية الثانية. (2) المرحلة الثانية 1640-1660م

في هذه المرحلة أنتج مؤلفاته السياسية وأدبه النثري، وكان من أول ما كتبه بعد عودته إلى لندن رسالة صغيرة «في التربية» نشرت سنة 1644م، وفيها يقترح أن تشمل تربية الناشئ ثقافة عريضة تقوم على أساسين هما: الآداب القديمة والمواد التي تنفع في الحياة العملية؛ فيدرس الطالب الأدب والفلسفة والسياسة والقانون والطب وفن الحروب، إذ لا بد أن يعنى في التربية بأجسام الناشئين وعقولهم ونفوسهم على السواء، ثم هو يوصي إلى جانب ذلك بالموسيقى التي تبعث البهجة في النفوس.

وكان قبل نشره لرسالة التربية قد كتب بضع رسائل دينية يدافع فيها عن عقيدة «المتزمتين»، وعقب عليها بمجموعة أخرى من الرسائل الصغيرة تدور حول الطلاق ووجوب تنظيمه، وذلك على أثر فشله في زواجه، فقد كان تزوج من «ماري باول»

11

التي لم يطل بها العهد معه، حتى ذهبت في زيارة إلى أبويها وأبت أن تعود إليه.

لكن حماسة ملتن في هذه الرسائل الخاصة بالطلاق سرعان ما فترت حين استسلمت له زوجته بعد نفور وعصيان، وأنجبت له ثلاث بنات، وعاشرته في هدوء، حتى جاءتها المنية، وهي ما تزال شابة في عامها السادس والعشرين.

وننتقل الآن إلى أشهر ما جرت به يراعة ملتن نثرا، وأعني رسالة عنوانها «أريو باجتكا»

12

فقد حدث في سنة 1643م أن فرض على النشر رقابة، بحيث لا ينشر كتاب جديد إلا إذا أجازته لجنة أقيمت لذلك، فقابل ملتن هذا النظام بالمقاومة والتحدي، ونشر أولى رسائله الخاصة بالطلاق دون أن يستأذن في نشرها الرقيب، وزاد في تهكمه بأن أهدى الرسالة إلى البرلمان الذي فرض تلك الرقابة الأدبية، ثم عقب على ذلك التحدي بنقد صريح وجهه للرقابة في هذه الرسالة التي نحدثك عنها، والتي عنوانها «أريو باجتكا خطبة موجهة إلى برلمان إنجلترا دفاعا عن حرية الطباعة بغير رقابة»، وهاك نموذجا من هذه الرسالة:

إننا نعلم أن الخير والشر في هذا العالم ينموان معا لا يكادان ينفصلان ... إنه من جوف تفاحة واحدة أكلها آدم قفزت إلى هذا العالم معرفة الخير ومعرفة الشر اختلطت إحداهما بالأخرى، بل ربما كان ذلك هو ما قدر لآدم أن يسقط فيه، وهو معرفة الخير والشر، أعني معرفة الخير عن طريق الشر، وإن كانت هذه هي طبيعة الإنسان فأية حكمة نستطيع أن نختار وأي جهد يجب أن يبذل إذا اجتنبنا معرفة الشر؟ إن الذي في وسعه أن يرى الرذيلة وأن يفهمها بكل ما تحوي من مغريات ومتع ظاهرة، ثم يمتنع عنها ليختار لنفسه ما هو في حقيقته خير منها وأفضل لهو المسيحي الصحيح الذي يسير على الهدى. إني لا أستطيع أن أثني على فضيلة لاذت بالفرار وغلقت دونها الأبواب، فضيلة ينقصها المران والجهد، فضيلة لا تقتحم الحياة باحثة عن عدوها لتهاجمه، بل تنكص على عقبيها وتخلف ميدان السباق، حيث الإكليل الخالد جدير أن يجرى في سبيله ليظفر به، ولكن بعد عناء الحر والغبار ... إذن فتلك الفضيلة التي تحجم عن التأمل في الرذيلة، والتي لا تدري كل ما تعده الرذيلة أتباعها من جزاء، ثم تنبذها بعد هذا، إنما هي فضيلة خاوية وليست مقطوعاته بالفضيلة النقية، إن بياضها بياض الروث ...

ولنمض الآن مسرعين، فلا نقف عند سائر نثره السياسي - الذي أخذ يخرجه رسالة بعد رسالة، والذي أفقده البصر وهو في عامه الرابع والأربعين - لنقول كلمة قصيرة في الشعرية ننتقل بعدها إلى آيته الكبرى «الفردوس المفقود».

فقد صمت ملتن عن قول الشعر عشرين عاما امتدت منذ عودته من إيطاليا، حتى عادت الملكية إلى إنجلترا بعد أن أبعدت عن البلاد حينا، كان يتولى الحكم فيه «كرمول» الذي كان شاعرنا من أنصاره، نقول قد صمت ملتن عن قول الشعر خلال تلك الأعوام العشرين التي تفرغ خلالها إلى النثر؛ لأنه أداة أنسب للعراك السياسي الذي اشتمل البلاد، صمت شاعرنا عن قرض الشعر إلا «مقطوعات شعرية» قالها بهذه المناسبة أو تلك، وبعض هذه المقطوعات ذاتي يعبر عن حالته الشخصية كالمقطوعة المشهورة التي قالها حين فقد البصر، وبعض المقطوعات متصل بالأحداث السياسية التي شغلت أكبر جهده وانصرف إليها أكثر نبوغه.

ولما كان عام 1658م - وهو العام الذي فقد فيه زوجته الثانية التي أحبها حبا شديدا

13 - مات كرمول رئيس الجمهورية، فذهبت بموته آمال أنصار الجمهورية ومن بينهم ملتن، وما هو إلا أن عاد إلى البلاد شارل الثاني سنة 1660م، حتى أوى الشاعر إلى مكان يختبئ فيه لعله ينجو من الخطر الذي كان لا بد أن يحيق بأعداء الملكية، وظل في مخبئه حينا، وأحرقت بعض كتبه علنا، وبهذا انتهى جهاده السياسي وانصرف بكل مجهوده إلى آياته الخالدات. وللمقطوعة الشعرية عند ملتن قافية خاصة به، يجاري «بترارك» في بعضها، وينفرد هو ببعضها، حتى أصبحت في مجموعها مطبوعة بطابعه، تختلف عن المقطوعة عند سبنسر وعند شيكسبير؛ إذ كان لكل من هذين قافيته الخاصة وتقسيمه الخاص.

فالمقطوعة الشعرية - كما تعلم - قوامها دائما أربعة عشر بيتا، إلا أن تقسيم هذه الأبيات ومجرى القوافي فيها يختلف عند الشعراء الذين عالجوها، فملتن يقسمها إلى رباعيتين وثلاثيتين أحيانا، أو إلى رباعيتين وثلاثة أزواج أحيانا أخرى، وفي الحالة الأولى تجري القافية هكذا : «أ - ب - ب - أ» «أ - ب - ب - أ» «ج - د - ه» «ج - د - ه».

وفي الحالة الثانية تكون القافية على هذا النحو: «أ - ب - ب - أ» «أ - ب - ب - أ» «ج - د» «ج - د» «ج - د».

وهو في الرباعيتين يحذو حذو بترارك، ثم يجدد في الستة الأبيات الأخرى.

ومن أمثلة هذه المقطوعات:

في عماه

إني إذ أرى كيف غاب عن عيني الضياء،

وبت أقضي نصف دهري في عالم معتم رحيب،

وكيف أصبحت نفحة الشعر التي إخفاؤها عندي كالموت الرهيب

معطلة بغير جدوى رغم أن نفسي أشد انحناء،

لعلي بالشعر أخدم خالقي،

فأقدم بين يديه - خوف اللوم - الحساب.

وهل يقتضينا الله واجب اليوم كاملا، ودون الضوء حجاب؟

هكذا أسائل في عناء، وسرعان ما أرد على الخوف المقلق:

ليس الله محتاجا

من الإنسان إلى عمله ومواهبه؛

فخير من يخدمون الله هم خير من يصبرون على قضائه.

لله ملك الأرض والسماء، يأمر فتسرع الألوف

في البر والبحر لا تعرف قرارا،

وكذلك يخدم الله من يصبر وينتظر. (3) المرحلة الثالثة 1660-1674م

ها قد زالت من الشاعر شواغله السياسية بعودة الملكية إلى إنجلترا، فانصرف إلى تحقيق أمنية طالما تمناها، وهي أن ينشئ في الشعر آية خالدة لا تعرف لها بين ما أنتج الشعراء ضريبا، ففيم يكتب؟ أيختار «أرثر» بطلا لآيته الكبرى التي اعتزم أن ينهض بإنشائها؟ لقد جال بنفسه هذا الخاطر، ثم لم يطل، ولم يلبث أن اتجه بفكره نحو موضوع قصيدتيه الكبراوين «الفردوس المفقود» و«الفردوس المردود». أما الأولى فتقص ثورة الملائكة على الله، ثم كيف تم خلق الإنسان وإغراؤه وسقوطه طريدا من الفردوس، وأما الثانية فتصف كيف حاول الشيطان أن يغري المسيح وهو في البيداء المقفرة بشتى المغريات، لكنه لم يوفق في إغرائه وخرج المسيح ظافرا.

ونريد الآن أن نقف وقفة طويلة عند «الفردوس المفقود»؛ لأنها في آداب العالم درة فريدة.

تقع «الفردوس» في اثني عشر جزءا، يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات، فثورة الملائكة وكفاحهم ضد الإله يشغل الجزء الأول والثاني والثالث، كما يشغل الشطر الأعظم من الجزأين الخامس والسادس، وخلق الإنسان وشفاعة المسيح له يرد ذكرها في الجزأين الأول والرابع، ثم يشغل جانبا من الخامس والسابع والثامن، وإيقاع الشيطان بالإنسان، ثم عصيان آدم وحواء وطردهما من الجنة هو موضوع الأجزاء الباقية من التاسع إلى الثاني عشر.

وهاك خلاصة لهذه الملحمة العظيمة.

يستهل الشاعر قصيدته بدعاء يوجهه إلى ربة الشعر يستلهمها الوحي:

يا ربة الشعر أنشدينا:

كيف كان من الإنسان أول العصيان؟

ما تلكم الشجرة الحرام وما جناها؟ •••

فإياك أستعين على نشيدي العصيب،

الذي أعتزم ألا يلوى في تحوامه

حتى يحلق صاعدا فوق سامق «أونيا»،

ينشد غاية لم يحاولها قبل نثر ولا قصيد.

ثم يتجه الشاعر إلى المسيح:

وأنت يا ذا الروح إليك أنحو،

يا من يؤثر على جلاميد المعابد طهر القلب والتقوى،

فأتني العلم إنك أنت العليم،

قد شهدت الوجود منذ فاتحة الوجود. •••

اجل يا ذا الروح قاتمي، وارفع وطيء دعائمي،

علي بهذا المقال الجليل أبلغ شأوا،

فأكون للحكمة السرمدية ترجمانا،

ولرحمة الله بالإنسان برهانا

ألا حدثينا ...

عن أبوينا الأولين: ماذا دعاهما ...

أن يخرجا على «الباري» فيهويا، وأن يعصيا مشيئة الله

لمحظور واحد؟

إنه «الأرقم» الرجيم ثارت غيلته

حقدا وغلا، فمكر بأم البشر. •••

فقد دعاه الأمل الطامع في العرش والملكوت

أن يثير في الجنة حربا وقودها الغرور والفجور،

فخاب الرجاء، إذ طوح به الله ذو الجبروت،

فهوى من السماء يتقد لهيبا ...

وتردى في هاوية ما لها من قرار، بها يأوي

مغلولا بصم السلاسل يصطلي النار جزاء ...

وفي قرار مهواه تسع فضاوات

مما يذرع به الأناسي خطو الليل والنهار؛

تردى الأثيم هزيلا بصحبة شيعته

يتقلب في حمأة الجحيم ... •••

ورأى ما حوله موحشا قفرا يبابا،

ورآه في جب مخيف التهبت جوانبه التهابا،

كأنه أتون سحيق مستعر، ناره لا تبعث النور. •••

فهو ما ينفك يصلى عذابا مقيما وطوفانا من حميم،

تغذو لظاه شواظ تذكو أبدا ولا تخبو،

فذلك مستقر العصاة كما أراده عدل الإله. •••

وهنالك سرعان ما شهد الأثيم رفاق هويه ... ورأى إلى جواره ... «إبليس»،

فاتجه إليه كبير أعداء الله،

وهو من سمي في السماء منذ ذلك الحين «شيطانا».

وألقى عبارة جريئة دوت في ذلك السكون الرهيب، فقال: «أفأنت هو؟»

لئن كنت من وشجني به يوما

تبادل العهد واجتماع الرأي والكلمة، واتحاد الأمل، •••

فها هي ذي أواصر الشقاء توشج اليوم بيننا، فتوحد هلكنا،

أرأيت إلى أي هاوية أوينا، ومن أي الذرى هوينا؟

ألا إن الله في غضبته، ساق الدليل على رجحان قوته ...

ولكني على ذاك لست بنادم، وإن صب علينا «الظافر» القادر

ما استطاع في صورته من صنوف العذاب،

فعزمي المصمم لن يحول، وإن حال مني رونق الإهاب. •••

وماذا إن فاتنا النصر في حومة الوغى؟

فنحن بذاك لا نفقد كل شيء

وهل يكون هزيما من له هذا العزم الحديد،

والثأر السديد والمقت الذي لا يزول؟

ومن له هذا الجنان الذي لا يلين ولا يحول؟

فما كان أخسها ضعة

لو أني جثوت له مسترحما وركعت ضارعا! •••

فلنثرها على عدونا الألد - بالقتل أو بالختل - حربا عوانا. •••

فلم يلبث رفيقه الجريء أن أجاب:

مولاي! وأنت زعيم العديد من العتاة متوجين

قدت إلى الوغى تحت لوائك «السيروفيم» مدججين. •••

يا ويح نفسي أن ترى جليا هذا الخطب الرهيب،

الذي طوحنا فأشجانا وهزمنا فأردانا،

وأضاع منا الجنة، وهوينا به إلى هذا الحضيض! •••

لم لا يكون الله قد أبقى على نفوسنا وقوانا،

فلم ينتقصها ليشتد أذانا ونضطلع بمر العذاب،

لكي يرضي فينا غيظه الناقم،

أو ليأمرنا بما شاء من فادح الأعمال، فنستطيع الأداء؟

فقد أمسينا له - بحق النصر - عبيدا أرقاء،

إن شاء أصلانا النار في قلب الجحيم،

وإن شاء سخرنا في اللج البهيم،

فإن أحسسنا بالقوة موفورة، فأين في ذلك الغناء؟

وهل أجدى علينا خلود البقاء إلا دوام الشقاء؟

وأخيرا احتشد الملائكة الثائرون وتوسطهم الشيطان وخطب فيهم بعزمه على مقاتلة الله تعالى، فاجتمعوا يتداولون الرأي، فمنهم من يؤيد فكرة القتال ومنهم من يفندها، وأخيرا نهض إبليس - وهو الذي يتلو الشيطان في رفعة المقام - واقترح رأيا كان قد سبقه إليه الشيطان، وهو أن يحاربوا الله في مخلوقه الجديد وهو الإنسان، وصادف الاقتراح قبولا، لكن نشأت مشكلة وهي: من ذا الذي ينهض بعبء البحث عن العالم الجديد الذي فيه الإنسان، وعندئذ تطوع الشيطان نفسه أن يأخذ على نفسه هذه المهمة، وانفض اجتماع الملائكة الثائرين، وانصرف كل إلى سبيله، فهذا إلى رياضة، وذاك إلى قتال، وثالث إلى جدال، وأما الشيطان فقد شق بجناحيه الطريق إلى أبواب الجحيم التسعة، تحرسه «الخطيئة» وابنها الشائه وهو «الموت»، وفتحت «الخطيئة» أبواب الجحيم للشيطان فخرج منها طائرا. •••

هنا يتوجه الشاعر بالقول إلى «الضياء» ويرثي لعماه، ليتخذ من ذلك مقدمة ينتقل منها إلى صورة يصور فيها السماء ويصور حديثا يدور بين «الأب» (الله) و«ابنه» (المسيح):

عليك سلام الله أيها الضياء الأقدس، يا أول ما أنجبت السماء!

أنت الذي تفجر من ذات ساطعة فيضا ساطعا،

ومن يدري أي نبع سقاك؟ فقد كنت - يا ضوء -

قبل أن تكون الشمس وقبل أن ترفع السماء، ثم جاء أمر الله،

فكسوت يا ضوء - كأنك الثوب -

عالما نهض من الماء العميق،

عالما نشأ من العدم وخرج من عماء اللانهاية!

لكنك لم تعد إلى عيني اللتين تدوران عبثا في المحاجر،

تبغيان منك شعاعا نافذا، لكن ليلهما بغير فجر!

كلما حال الحول عادت الفصول، والنهار

ليس إلي يعود، كلا ولا حلو البوادر التي تنبئ باقتراب المساء والصباح،

ولا يعود إلي رونق الربيع المزدهر ولا ورد الصيف،

ولا قطعان الأغنام والماشية ولا طلعة الإنسان الإلهية،

ففي مكان ذلك كله أرى قتاما، والظلام السرمدي

يحيط بي فيباعد بيني وبين حياة الناس البهيجة.

ويرى الله الشيطان يدنو من العالم فيتنبأ «لابنه» بسقوط الإنسان، ثم يسأله: أين الحب الذي يرضي العدالة الإلهية ويخلص الإنسان من زلته، فيجيب الابن:

احشرني في زمرة الإنسان، ففي سبيل الإنسان

أنزع نفسي عن صدرك، وسأرجئ - مختارا -

هذا المجد الذي يتلو مجدك، وفي سبيل الإنسان سأموت

راضيا، فدع «الموت» ينقض علي بغضبته،

فلن أظل في هزيمتي أمدا طويلا.

وبينما الملائكة يرتلون ويسبحون اقترب الشيطان من العالم، وأبصر بالشمس والأرض والقمر، فدنا من الشمس، حيث التقى بأوريل وخاطبه قائلا: ... يا أسطع ملائكة السيرافيم،

نبئني: أين من هذه الأفلاك المشرقة

قد اتخذ الإنسان لنفسه مقاما دائما؟

فأجابه أوريل:

تلك الأرض مقر الإنسان ومقامه، وذلك الضوء

نهاره، ولولاه لطمسه حالك الليل ...

وهذا المكان الذي أشير إليه هو الفردوس،

هو موطن آدم، وتلك الظلال السامقة مسكنه.

سمع الشيطان جواب أوريل، فانحنى له إجلالا، وانصرف.

ويمم شطر الأرض يملؤه النجاح المأمول، فلما دنا الشيطان من الفردوس استيقظ ضميره، وارتاع لهول الفعلة الشنعاء التي يقبل على اقترافها فصاح:

يا لشقوتي! أين أنفث من نفسي،

نقمة ليست تحد ويأسا لا ينتهي!

فأينما حللت كان جحيما؛ لأني في نفسي جحيم.

ولما اقترب من الفردوس أثرت فيه روعة المكان وجماله، كما يحدث لمن يجتازون بسفنهم رأس الرجاء، ويتوغلون في المحيط، فتهب عليهم رياح من الشمال الشرقي تفوح بعطر التوابل الذي تحمله إذ تمر على جزيرة العرب المباركة، فيتلكئون ويتراخون في السير إذ تأخذهم نشوة الأريج الطائر مع الريح، فهكذا أنعش أريج الفردوس في الشيطان الذي أخذ يقلب النظر في صنوف الخلائق التي لم يكن له بها عهد، وأخيرا وقعت عينه على الإنسان:

اثنان هما أنبل الخلائق صورة، مستقيمان ممشوقان، ... كأنهما على الجميع سيدان،

وعليهما جلال؛ إذ في طلعتيهما الإلهيتين،

أشرقت صورة الخالق المجيد ...

أما الرجل ففيه التأمل وشدة البأس،

وأما هي ففيها الطراوة والرشاقة الحلوة الجذابة، ... هكذا مضى الزوجان يدا في يد،

أجمل ما يكون الزوجان مذ عرف الحب لقاء الزوجين،

فآدم خير الرجال منذ نسل الأبناء،

وحواء بين بناتها أجمل النساء.

فلما رأى الشيطان آدم وحواء في مثل ذاك الجلال والجمال يسيران، أخذته الدهشة للمرة الثانية، وأخذ يتلون في صور مختلفة من صنوف الحيوان، ودنا منهما لينصت إلى حديثهما، فعرف من آدم أن شيئا واحدا حرم عليهما في الجنة، وهو أن يأكلا من شجرة المعرفة، وسمع حواء وهي تقول لزوجها إنها شهدت صورتها معكوسة في الماء، فظنت أنها أجمل مخلوقات الله، بل أجمل من آدم. ... حتى أمسكت يدي بيدك الرقيقة،

فأذعنت، وعرفت منذ ذلك الحين،

كيف تعلو الرجولة برشاقتها وحكمتها على جمال النساء .

وأخذ الشيطان يجوس خلال الفردوس، وبينا هو كذلك إذا بأوريل يهبط على شعاع من أشعة الشمس الغاربة لينذر جبريل - وهو على رأس الملائكة الحارسين - بأن ملكا يثير الريبة بنظراته قد تسلل إلى الأرض، فوعده جبريل أن يكشف أمره قبل طلوع الفجر.

وأقبل المساء الساكن، وانتشر الشفق في لون الرماد،

فلف كل الكائنات بثوبه الهادئ،

وساد الصمت، وأوى الحيوان والطير،

إلى معشوشب المخادع، فاستكن الطير في أعشاشه،

وراح في نعاس، إلا البلبل اليقظان،

طفق يغرد طوال الليل أناشيد الغزل،

وأخذ آدم وحواء يتحدثان قبل أن يأويا إلى مخدعهما، فقالت حواء:

حلوة أنفاس الصباح، هذا الإصباح ما أحلاه،

مع البواكير من فاتن الطير، وما أجمل الشمس،

أول ما نشرت - فوق هذه الأرض الحبيبة -

أشعتها الشرقية على العشب والشجر، والثمر والزهر،

وهي تتلألأ بقطرات الندى، ما أمتع عطر الأرض الخصيبة

بعد الرذاذ الرخي! وما أحلى قدوم

المساء الجميل! ثم ما أجمل الليل الساكن،

بطيره هذا الوقور، وهذا القمر الجميل،

وتلك اللآلئ السواطع في السماء، هذه الأنجم المحتشدة!

لكن لا أنفاس الصبح حين يصبح،

مفتونا بسحر بواكير الطير، ولا الشمس حين تشرق،

على هذه الأرض الحبيبة، ولا العشب ولا الثمر ولا الزهر

وهي تتلألأ بالندى، ولا الشذى بعد الرذاذ،

ولا المساء الجميل ولا الليل الساكن

بطيره هذا الوقور، ولا السير في ضياء القمر

أو في ضوء النجوم المتلألئ؛ حلو بغيرك،

ولكن أين تضيء هذه الأفلاك طيلة الليل؟ ولمن

هذا المنظر الفاتن حين يأخذ الكرى بمعاقد الأجفان؟

فيجيبها آدم قائلا:

لا بد لها أن تقطع أفلاكها حول الأرض،

وهي إذا لم تشهدها الأبصار في جوف الليل

فلا تضيء عبثا، لا تظني أنه بغير الأناسي

يعوز السماء راءوها، وينقص الله حامدوه،

فألوف الملائكة تقطع الأرض سيرا

في خفاء، حين نستيقظ وحين يأخذنا النعاس،

وكل هؤلاء يرون آيات الله ويحمدونه حمدا لا ينقطع

إن أصبح صباح أو أمسى مساء ...

ومضى آدم وحواء إلى حيث يقضيان الليل، فأرسل جبريل أعوانه ليتولوا الحراسة، وأمر «إثوريل» و«زيفون» أن يبحثا في أرجاء الفردوس عن الشيطان الهارب، فوجداه جالسا على مقربة من حواء يلون لها أحلامها بما يريد، فمد «إثوريل» رمحه ومسه به مسا رفيقا؛ ففزع الشيطان وارتد إلى صورته، وسيق إلى جبريل الذي أخذ يجادله وكاد يقاتله، لولا أن تذكر الشيطان أنه لا يستطيع النصر في قتال مكشوف، فلاذ بالفرار، وتفرقت معه ظلال الليل.

ولما استيقظ آدم في الصباح، رأى حواء قد احمرت خجلا وحيرة، وقصت عليه أحلامها المخيفة، فسرى عنها كربها، ومضيا إلى مكان من الأرض الفضاء، وأخذا يرتلان ترنيمة الحمد لله.

عندئذ أرسل الله روفائيل من السماء؛ لينذر آدم وحواء بالخطر الداهم، فأنبأهما نبأ عصيان الشيطان وسقوطه من السماء، وكيف أعد الشيطان عدته للثورة والقتال، وأمر جبريل وميكائيل أن يقودا جند السماء في وجه هذا الثائر، ونشب بين الفريقين قتال دام سجالا، وفي اليوم الثالث أرسل الله المسيح في عربة ليقف القتال:

وحل بينهم يحمل في يمناه

عشرة آلاف من قواصف الرعد، يرمي بها

إلى أمام، فنزلت في نفوسهم منزل الطاعون،

وأخذتهم الدهشة فوقفوا لا يقاومون،

وطارت عنهم بسالتهم، وتهاوى كليل سلاحهم،

وفزعوا جازعين لهذا المنظر المخيف

فقذفوا بأنفسهم رءوسا على أعقاب

من حافة السماء هويا، وغضبة الله

تشتعل في إثرهم، وهم يهوون في هاوية ما لها من قرار.

وأنذر روفائيل آدم بمثل هذا القضاء يصيب الإنسان لو اقترف جريرة العصيان.

ولما كان روفائيل في الفردوس لجأ الشيطان إلى التخفي، فاختفى سبع ليال، كان خلالها يتشكل في هيئة الضباب فلا تراه الأبصار، ودخل في جوف الحية؛ لأنها أنسب أداة للخداع.

وأقبل الصباح، وهم آدم وحواء أن يعملا، فاقترحت حواء أن يبعد كل منهما عن الآخر أثناء قيامهما بالعمل؛ لأنهما إذ يقتربان يتبادلان النظرات والبسمات والأحاديث، فيدافع آدم عن وجوب «هذا اللقاء الحلو بين النظرات والبسمات»؛ لأنهما ما خلقا للعمل المضني، إنما أريد لهما أن يعملا عملا هينا لذيذا.

فإن تكوني قد مللت الإفراط في الحديث،

ففي وسعي أن أغيب عنك برهة قصيرة،

فقد تكون العزلة خير رفيق،

والاعتزال القصير يدعو إلى حلو اللقاء،

لكن شكا يساورني، فإني لأخشى

أن يلحق بك الضر ...

لكن حواء طمأنته بأنها لن تقع فريسة لخداع العدو المتربص إن كان ثمة عدو متربص. وأجابها آدم بأنه يخشى عليها الإغراء، وأنهما لو سارا معا كانا أكثر حذرا وحيطة، فأبت حواء أن تذعن ومضت وحدها، وما هي إلا أن صادفها الشيطان وحيدة، فوقف أمامها وقد تقمص الحية، وأبدى لها من الإعجاب ما يبديه العابد نحو معبوده، وأخذ يخاطبها بلسان البشر: «يا أميرة هذا العالم الجميل! يا حواء الباهرة!» فسألت حواء: كيف أمكن للوحش أن ينطق بلسان الإنسان؟ فأجاب بأنها قدرة استمدها حين أكل ثمرة شجرة معينة، فقد بثت فيه تلك الثمرة عقلا مفكرا، وحملته على عبادة حواء؛ لأنها «مليكة على الخلق»، فطلبت إليه حواء أن يدلها على مكان تلك الشجرة ذات الثمر العجيب، فأسرع بها إلى «الشجرة المحرمة»، ولما ساورتها الوساوس والمخاوف قال:

يا مليكة هذا الكون! لا تلقي بالا

إلى ذاك الوعيد بالموت، لن تموتي.

وكيف تموتين؟ أبالثمرة تموتين؟ إنها تهبك الطريق

إلى العرفان؟ أيقتلك صاحب الوعيد؟ انظري إلي،

أنا الذي أمسك بالثمرة وذاقها، ها أنا ذا أحيا،

بل علوت بحياتي عما أراد لي «القدر»؛

لأني لم أرض بما قسم لي فغامرت طامحا،

أيغلق دون الإنسان ما انفتح للحيوان؟

أم هل يغضب الله حقدا

على هذا العدوان الجميل؟

يستحيل على الله أن يصيبك بالأذى إن كان عادلا،

فيأيتها الإلهة البشرية أقدمي، كلي الثمرة ولا تحجمي!

ووقعت كلمات الشيطان من حواء موقع القبول، فأخذت تقول: ... يوم نأكل

هذه الثمرة الجميلة كتب علينا أن نموت!

أين الموت من هذه الحية؟ إنها أكلتها ولا تزال حية،

وباتت ذات علم تتحدث وتفكر وتدرك،

وكانت بغير عقل حتى أكلت، ألنا وحدنا

خلق الموت! أم حرام علينا

هذا الغذاء العقلي، حلال للحيوان؟

ها هنا شفاء الجميع، هذه الفاكهة المقدسة

جميلة في مرأى العين، وتستثير الذوق ...

فماذا يمنعني أن أدنو منها لأطعم جسمي وعقلي معا؟ ... قالت هذا وامتدت إلى الثمرة يدها الرعناء ،

واقتطفتها ثم أكلت ...

وتاهت حواء عجبا بنفسها أول الأمر، ثم أخذت تتساءل ماذا عسى أن يكون وقع ذلك النبأ على آدم؟ وقالت لنفسها لتخفف من ألمها:

ربما كنت الآن في مكان خفي، إن السماء عالية

عالية! إنها قصية لا ترى على هذا البعد في وضوح

كل شيء على الأرض، وربما كانت الشواغل

قد صرفت عن رقابتنا «حارمنا» العظيم ...

ولكن أي صورة أبدو لآدم؟ أأنبئه

بما اعتراني من تغير؟

ماذا لو كان الله قد رآني،

فجاءني الموت تباعا؟ إذن فمصيري إلى فناء،

ويزوج آدم من حواء غيري،

ويحيا معها في نعيم، أنا أموت!

ويحي! لقد حزمت أمري إذن، لقد اعتزمت

أن يقاسمني نعيمي وشقوتي،

إني أحبه حبا يجعلني أحتمل الموت في صحبته،

وبغيره لا أطيق الحياة ... وآدم عندئذ

ينتظر عودتها في شوق، وضفر لها

إكليلا من أحاسن الزهر ليزين جدائلها.

لكن جاءت حواء، وعلم منها بعصيانها، فوقف واجما، وسقط من يده الإكليل الذي ضفره لحواء، ثم التفت إلى حواء، وأخذ يسري عنها:

قد لا تموتين ...

فما أحسب أن الله، وهو الخالق الحكيم، - رغم وعيده - سيعمل جادا على فنائنا،

ونحن زهرة خلقه ...

وعلى أية حال فقد وصلت مصيرك بمصيري،

واعتزمت أن أقاسي ما تقاسين من قضاء،

فلو دهمك الموت، كان الموت لي كالحياة.

وناولته حواء الفاكهة المغرية الجميلة، فلم يحجم عن أكلها، مع أنه يعلم وخيم العواقب، ولم يكن مخدوعا كما كانت حواء، لكن كيف له أن يقاوم سحر المرأة؟ وسرعان ما أحس كلاهما الندم على فعلته، واختفيا في الغابة، وتدثرا بأوراق الشجر، وأخذا يبكيان ويوجه أحدهما اللوم للآخر، فصاح آدم:

هلا أصغيت لكلماتي ولبثت

معي - كما رجوتك - حين تمكنت

منك تلك الرغبة العجيبة في التجوال هذا الصباح المنكود!

فقالت حواء:

ولو بقيت أنت على رأيك ثابتا

لما زللت ولا زللت معي.

وعاد ملائكة الحراسة إلى السماء ثقال الخطا ليبلغوا فشلهم، فعلموا من الله أن القضاء محتوم، وأرسل «ابنه» إلى الأرض ليحاكم الزوجين، ولينزل بهما العقاب لعنتين، هما العمل والموت، ومن ناحية أخرى اتخذ الشيطان «الخطيئة» و«الموت» معينين له على الأرض.

وتاب آدم وحواء فاستجاب لهما الله، وأرسل إليهما ميكائيل ليعلن أن الموت لن يقع عليهما حتى يكملا التوبة، أما الفردوس فلن يعود لهما مقرا، فأخذت حواء تنظر إلى الفردوس بعين باكية، واستسلم آدم لعبراته.

وآن أوان الخروج، فهبط آدم وحواء إلى الأرض، وأخذا يضربان في أرجائها يدا في يد يسيران بخطو وئيد ...

تلك خلاصة «الفردوس المفقود»، مما أخذ عليها أن الشاعر - أراد أو لم يرد - أن يكون بطله الشيطان لا آدم، وقد يكون ذلك صحيحا في الجزأين الأولين من الملحمة، اللذين اضطر فيهما الشاعر أن يجعل الشيطان شديد البأس، قوي العزيمة، ليهيئ الطريق للصراع العنيف المقبل، وليثير الإشفاق والخوف في نفس القارئ، حتى يزداد عطفه على أبويه الأولين، ويزداد شكره لمن مهد له الخلاص، لكن لم يفت الشاعر بعد ذلك أن ينقص من جبروت الشيطان شيئا فشيئا، حتى تضاءل وهزل في «الفردوس المردود». ألا تذكر حين كان الشيطان متنكرا يسر في أذن حواء وهي نائمة، كيف فزع حين لمسه «إثوريل» برمحه؟ «الإنسان» لا «الشيطان» هو بطل الملحمة، فهو يستدر عطف القارئ على الرغم من هزيمته، ثم تجيء بعد ذلك قصيدة «الفردوس المردود»، فينتصر فيها الإنسان الإلهي على مغريات الشيطان نصرا حاسما.

وللشاعر عدا هذا كله قصيدة رائعة عنوانها «شمشون الجبار»،

14

هي أقرب إلى المأساة المسرحية منها إلى القصيدة، وهو يصور نفسه في شمشون، فقد عانى من النساء مثل ما عاناه شمشون، وكف بصره كما حدث لشمشون، ووقع أسير أعدائه كما وقع شمشون.

الفصل التاسع

من ملتن إلى العصر الأوغسطي أو الأدب الإنجليزي في النصف الثاني

من القرن السابع عشر

(1) الشعر (1-1) أندرو مارفل

Andrew Marvell (1621-1678م)

هو - إلى جانب ملتن - شاعر من طائفة المتزمتين الدينيين، ولو أنه كثيرا ما أحس العطف على الملك شارل الأول الذي كان عدوا لهؤلاء المتزمتين.

كان مارفل متعدد النواحي في شعره، فهو أعظم شعراء الطبيعة في القرن السابع عشر بقصيدته العصماء «أفكار في حديقة»، وهو شاعر الفكر الذي يغذي عقل قارئه بنبيل الأفكار، وهو في ذلك شبيه بملتن، وهو في بعض قصائده يغرق في التشبيه الغريب، وهي النزعة «الميتافيزيقية» التي عرفناها في «دن»، تراه يقول أجود الشعر في زعيم المتزمتين الدينيين «أولفر كرمول» كما يقوله في عدو المتزمتين «شارل الأول».

اقرأ له قصيدة «أفكار في حديقة» تجدها جياشة بحبه للطبيعة حبا لا تكاد تلمس نظيرا له في شاعر إنجليزي سواه، مليئة بالأفكار الطريفة واللفتات الفنية الرائعة، ففيها يقول إن الناس يحاولون أن يتوجوا عملهم المجهد بأكاليل النبات، والنبات يسخر منهم؛ لأن صنوف النبات كلها قد تعاونت في هذه الحديقة على صنع إكليل للراحة والدعة، فإن شئت هدوءا وطهرا، فسبيلهما هذه الحديقة لا مجتمع الإنسان الصاخب، وهو يلاحظ أن حمقى العاشقين قد نقشوا أسماءهم على جذوع الشجر في الحديقة، مع أن هذا الشجر أفتن جمالا من معشوقاتهم. إن العاشقين من أرباب الأساطير قد انتهى بهم السعي وراء حبيباتهم إلى اللقاء تحت الشجر، «فأبولو» أخذ يطارد معشوقته «دافني» حتى التقى بها تحت شجرة من أشجار الغار، و«بان» تعقب حبيبته «سرنكس»، حتى وجدها عند شجرة من أشجار الغاب، وبعد ذلك يتلفت الشاعر في الحديقة ويعدد ما يراه في جنباتها من ألوان الفاكهة، ويعبر عما يحسه العقل من سعادة في هذه الحديقة حين يطلق لنفسه عنان الخيال، ثم يقول إنك إن جلت في هذا الفردوس وحيدا، فأنت تنعم بفردوسين: فردوس العزلة، وفردوس هذا البستان. وأخيرا يرى الشاعر في أزهار الحديقة وأعشابها «مزولة» تبين له أوقات العام كأنها الساعة تسجل مر الزمان. (1-2) جون دريدن

Gohn Dryden (1631-1700م)

ننتقل بك الآن إلى شاعر عظيم يعد في طليعة الأدباء الإنجليز، هو «جون دريدن» الذي هبط من أسرة عريقة، وتلقى علومه في مدرسة وستمنستر، حيث أنشأ وهو في الثامنة عشرة من عمره قصيدة رثاء عنوانها «في موت اللورد هيستنجز» فجاءت متأثرة بالطريقة الميتافيزيقية في كتابة الشعر - وقد كانت سائدة - وهي التي ابتدأها «دن» وحدثناك عنها في أكثر من موضع. وحسبنا أن نذكرك بخصيصة تميزها وهي أنها تغرب في التشبيه والاستعارة، بحيث تربط بين أشياء هي أبعد ما تكون صلة بعضها ببعض، بهذه الطريقة في قرض الشعر بدأ «دريدن» في رثاء هيستنجز الذي نقتبس منه هذه الأبيات الآتية على سبيل المثال:

كان جسمه فلكا، وروحه السامية

تتحرك حول قطب من العلم والفضيلة،

وإنما بلغت في حركاتها - فيما تبدو لنا - من دقة النظام

ما لم تبلغه أفلاك السماء كما بدت لأرشميدس،

فحلو الشمائل والفضائل واللغات والفنون

والجمال والعلم، هذا ما يملأ فيه سائر الأجزاء.

إن مواهب الله التي - كأنها الأنجم الهاوية -

تبدو في الناس منتثرة، قد تركزت فيه

كأنها النجوم في سمائها مثبتة، واتخذت مكانها في نفسه،

وأخذت تشع خلال جسمه أثرها الجميل،

وهي في إشعاعها تترك على أعضائه جلالا من جلالها،

بحيث بات منه الجسد كله جسما سماويا.

ذلك مثال من المقارنات العجيبة والتشبيهات الغريبة التي عرفت بها المدرسة الميتافيزيقية في الشعر، والتي بدأ «دريدن» متأثرا بها. ولا بد لنا إثباتا للحق أن نقول إنه مثال سيئ، إن دل على اتجاه الشعر الميتافيزيقي فإنما يدل على أردأ ما فيه، ولعله من الخير أن نسوق مثالا آخر لدريدن نفسه في موت هيستنجز، ينسج فيه على غرار المدرسة الميتافيزيقية أيضا، ولكن بصورة أجود، قال (لاحظ أن هيستنجز مات بالجدري):

انتفخت فيه البثور من كبرياء، إذ نبتت في إهابه

كما تنبت براعم الورد فتلتصق على إهاب السوسنة،

في كل بثرة منها دمعة

لتبكي بها ما اقترفته من جريرة في ثورتها.

إن هذه البثرات شبيهة بالخوارج، اشتغل مولاهم بالجهاد،

فنهضوا بثورة يتآمرون على حياته.

ولنترك هذه الفاتحة الضعيفة التي استهل بها دريدن حياته الأدبية، وهو ما يزال طالبا ناشئا، لننتقل إلى شعر أخرجه في عامه الثامن والعشرين يرثي «أولفر كرمول»، فالظاهر أن شاعرنا اعتنق مذهب التزمت الديني بعد تخرجه في جامعة كيمبردج، مقتفيا أثر قريب له عظيم، كان شديد الصلة بزعماء حزب المتزمتين. ومهما يكن من أمر فهذه القصيدة التي عنوانها «مقطوعات حماسية في موت أولفر كرمول»،

1

تعد أول شعره الجيد؛ إذ أجاد فيها النظم والأسلوب، ولو أن بقية من التشبيهات المتكلفة والعبارات المصطنعة أفسدت عليه القصيدة بعض الشيء، وفيها يقول:

تلك كانت فعال أميرنا، لكن بين جنبيه نفسا تسمو

على أعلى ما أخرجت وأبدت من فعال،

وهكذا السلوك الآلي الهزيل أمام الناس يبدو،

والأسرار الدفينة أعز من الظهور في أعمال. •••

إنه لم يمت حين أخذت شهرته الطافحة في زوال،

بل مات وأكاليل مجد جديد تغريه أن يحيا،

مات وكأنما ينظر إلى فوز جديد قريب المنال؛

فوز هو أسمى من كل نصر تهبه هذه الدنيا. •••

سيبقى رفاته في مستقره راضيا،

ويظل اسمه مثالا يسطع،

يدل كيف يبارك الله جهدا ساميا

إذا تضافرت فيه البسالة والورع.

لكن الظروف لم تمهله حتى يستفيد من اتصاله بحزب المتزمتين الذي كانت له السلطة حين كان كرمول قابضا على زمام الأمور في البلاد؛ إذ عادت الملكية الطريدة وسدت الطريق في وجه المتزمتين وأنصارهم، فاعتمد شاعرنا في حياته على ميراث ضئيل ثم على قلمه الذي سرعان ما استخدمه في مدح الملك القادم، فكتب قصيدة يحيي بها عودة الملك، وعقب عليها بأخرى يمدحه في يوم تتويجه، وكلتا القصيدتين مكتوبتان «بالقافية المزدوجة الحماسية»،

2

التي برع فيها هذا الشاعر براعة تلفت النظر، وسار فيها على منهاجه «بوب» في العصر الأوغسطي في أول القرن الثامن عشر كما سنحدثك في حينه.

لكن عودة الملكية لم تعد على «دريدن» بالكسب من أمثال هذه المدائح، وإنما أكسبته عودة الملكية عن طريق المسرح، ذلك أن المسارح التي أغلقت في عهد المتزمتين عادت الآن ففتحت أبوابها، فوجدت في «دريدن» كاتبا خصبا ممتازا يمدها بمسرحياته، ويستمد منها المال، ثم ما هي إلا أن أغلقت المسارح أبوابها من جديد قرابة عامين (1665-1666م)، وذلك حين فشا الطاعون، ونشبت النار في لندن؛ مما دعا الناس إلى الهجرة إلى الريف، وفي عام 1666م الذي شهد هذه الكوارث العظمى كتب «دريدن» قصيدته المشهورة «سنة العجائب»،

3

وهي قصيدة طويلة مؤلفة من رباعيات وموضوعها الحرب الهولندية وحريق لندن، ثم أضاف إلى ذلك مدحا توجه به إلى الملك وآل بيته .

وانجابت عن البلاد نكبتها، فعاد المسرح وعاد «دريدن» إلى الكتابة المسرحية التي ظل مشتغلا بها بعد ذلك أعواما طوالا، أكسبه مالا وفيرا، ورفع قدره في قصر الملك فنصب أميرا للشعراء. ولا شك أن هذا التوفيق أغار صدور أعدائه، لكنه استطاع بما أوتي من قدرة نادرة على السخرية أن يخرسهم جميعا.

وهنا ننتقل إلى الجانب الساخر من أدبه، فنحدثك عن ثلاث قصائد تعد من الطراز الأول في أدب الهجاء في العالم أجمع، أما أولاها فهي قصيدة «أبشالوم وأكيتوفل»،

4

ولكي نقدمها إليك، لا بد لنا من شرح الموقف التاريخي الذي دعا إلى كتابتها، فقد كتبها الشاعر عام 1681م حين بلغت حماسة الشعب أشدها حول ما يسمى «قانون الإقصاء عن العرش» الذي أريد به أن يقصي جيمس الثاني عن وراثة العرش بعد شارل الثاني؛ لأن جيمس كان يدين بالعقيدة الرومانية الكاثوليكية، وهي تنافي ميل الشعب بصفة عامة، وكان المؤيدون لهذا القانون هم حزب الأحرار ومعهم شافتسبري، لكن الملك لجأ إلى حل البرلمان، وأخذ يصب اضطهاده ونقمته على أصحاب هذا المشروع، فكان أن زج شافتسبري في «البرج» بتهمة الخيانة العظمى، فنتج عن ذلك سيل من الرسائل والمقالات هاجم فيها كاتبوها استبداد الملك وتعسفه، فرأى الملك ووزراؤه أن يردوا على هذه الحملة أولا، وأن يهيئوا الرأي العام قبل حلول الموعد الذي حدد لمحاكمة شافتسبري ثانيا، فمن ذا يؤدي لهم هذه المهمة الخطيرة سوى أمير الشعراء «جون دريدن»؟ وأجاب الشاعر دعوة القصر، وأخرج هذه القصيدة «أبشالوم وأكيتوفل» قبيل يوم المحاكمة بأيام قلائل، فنجحت القصيدة نجاحا منقطع النظير، فطبعت عدة طبعات في أيام قليلة، وأخذ الناس في كل مكان يرددون منها أبياتا وعبارات، والقصيدة رمزية إلا أن رمزها شفاف لم يتعذر على القراء أن يكشفوا عما تحته، فأبشالوم يرمز به لمونمث،

5

وأكيتوفل يرمز به لشافتسبري،

6

والملك شارل رمز له بداود، ورمز لدوق بكنجهام

7

باسم «زمري»،

8

وفيما يلي الصورة المشهورة التي صور بها الشاعر شافتسبري:

وفي طليعة هؤلاء كان أكيتوفل الزائف،

وهو اسم حقت عليه لعنة العصور اللاحقة جميعا ،

بارع في حبك الدسائس والنصح الملتوي،

وإنه لحكيم باسل، مشاغب بفطنته،

قلق لا يستقر على مبدأ ولا يدوم في منصب،

يكون بيده الأمر فلا يقنع، ويزول عنه السلطان فلا يرضى،

له نفس مشتغلة لا تنفك تشق الطريق لنفسها،

فتبرى بذلك جسما نحيلا وتذويه،

وقد أبهظت جسده بعبئها، وإنه لمن طين،

إذا اشتد الخطر ألفيته ربانا جريئا،

يغتبط للمخاطر حين يعلو الموج

ويبحث عن العواصف لا يتقيها، بل إنه ليعجز إن ساد الهدوء،

تراه يدنو بسفينته من الرمال ليزهي بفطنته.

إن المواهب العظمى - بغير شك - قريبة الشبه بالجنون،

فلا يفصل النبوغ عن الجنون إلا فاصل رقيق،

وإلا فلماذا - وقد وهب رفعة الشأن والمال -

يأبى على شيخوخته راحة تريدها؟

لماذا يضني جسدا وفي وسعه أن يمتعه؟

قد أفلس من حياته ومع ذلك يسرف في راحته.

لكن شافتسبري برئ على الرغم من هذه القصيدة الساخرة، وأصبح في أعين الشعب بطل الساعة، وضربت أوسمة تحمل اسمه وصورته ونقشت عليها الشمس تبدد غياهب السحب، تخليدا لذلك الحادث العظيم.

فكان ذلك داعيا لإخراج القصيدة الهجائية الثانية وعنوانها «الوسام»،

9

وقد صدرت سنة 1682م، وهي شبيهة بسالفتها «أبشالوم وأكيتوفل» في الوزن والأسلوب، وحدث أن عارض هذه القصيدة شاعر يدعى «تومس شادول»

10

بقصيدة يهاجم فيها «دريدن» مهاجمة شخصية عنيفة، فهب شاعرنا لينتقم لنفسه بالقصيدة الهجائية الثالثة، وهي «ماك فلكنو»،

11

فجاءت السخرية فيها لاذعة مرة، يتخيل فيها دريدن شويعرا ركيك النظم يسمى «فلكنو».

بويع بالحكم يافعا - كأوغسطس - فحكم زمانا طويلا،

ولبث في عالم النثر والشعر حاكما بغير منافس

يبسط على دولة «الكلام الفارغ» سلطانا مطلقا. •••

وفكر أي أبنائه جميعا لوراثة الملك يختار،

بحيث يثير على الذكاء حربا لا يخبو لها أوار،

ثم صاح: قضي الأمر، فالطبيعة تنادي

ألا يحكم بعدي إلا من يشابهني بين أولادي،

وليس سوى شادول يحمل صورتي كاملة؛

فقد نضج في الغباء منذ نعومة أظفاره،

ليس بين أبنائي جميعا سوى شادول

رسخت قدماه في البلادة الوافية،

فقد يدعي سائر الأبناء معنى ضئيلا فيما ينطقون،

أما شادول فيستحيل أن ينحرف به القول إلى معنى معقول.

وكأنما لم يكف الشاعر هذه القصيدة في الثأر لنفسه من «شادول»، فانتهز فرصة أخرج فيها شاعر من أنصاره قصيدة تكمل «أبشالوم وأكيتوفل»، فأضاف إليها «دريدن» مائتي بيت يهجو فيها شادول مرة أخرى. •••

ولعل شاعرنا بذلك قد أفرغ جعبته في الهجاء، ثم عمر قلبه بالإيمان الديني فوجه شعره ناحية الدين، فأخرج سنة 1682م قصيدة «رلجيوليسي»

12

يعرب فيها عن إيمانه بعقيدة الكنيسة الإنجليزية، ثم عقب عليها بعد أربعة أعوام بقصيدة دينية أخرى عنوانها: «الغزال والنمر الأرقط»،

13

وهي دفاع عن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية ساقه في حكاية رمزية، يشير فيها إلى الكنيسة الكاثوليكية بالغزال الناصع البياض، وإلى كنيسة إنجلترا بالنمر الأرقط، كما يشير إلى كثير من العقائد السائدة في عصره بصنوف من الحيوان ساقها في حكايته، ولسنا نريد أن نتعرض للأسباب التي حملت الشاعر على تغيير عقيدته بين هاتين القصيدتين، فهو في الأولى - كما ترى - مشايع لكنيسة إنجلترا، وهو في الثانية مهاجم لها؛ لأننا معنيون بالرجل أديبا، يقول الشاعر في هذه وتلك.

وننتقل بك بعد هذا إلى لون آخر من الشعر؛ شعر الأناشيد، ضرب فيه الشاعر بسهم وافر في قصيدتين عما من أجمل وأروع ما يصادفك في دولة الشعر، وأعني بهما قصيدة عنوانها «أغنية لعيد القديس سيسليا»،

14

وأخرى عنوانها «وليمة الإسكندر»

15

التي بلغت في تصوير العواطف الإنسانية المختلفة مبلغا عظيما، والتي بلغ من شهرتها في عالم الأدب أنها تقرن باسم «دريدن» أكثر مما يقرن به سائر نتاجه الأدبي، وكلتا القصيدتين تمجد الموسيقى، وتبين ما لها من أثر عظيم جليل.

ففي أغنية القديس سيسليا يقول الشاعر إن الموسيقى قد أشاعت الاتساق والتناغم والانسجام في الذرات المتنافرة التي يتألف منها الكون، بحيث أصبح على النحو الذي نرى، وفي وسع الموسيقى أن تثير في الإنسان كل صنوف العواطف على اختلافها، فهي التي تستثير الجند للقتال، وهي التي يبث فيها المحبون أناتهم، ثم يعرج الشاعر على «أورفيوس» الذي جاء في الأساطير أنه كان يحرك الجماد بأنغام موسيقاه.

وفي «وليمة الإسكندر» يصور لك «تيموذيوس » العازف جالسا على عرش رفيع، وعلى مقربة منه جلس الإسكندر إلى جانب تاييس، وتبدأ الموسيقى ويبدأ الغناء بقصة زواج الإله «جوف» من «أولميبيا»، ثم ينتقل العازف إلى التغني برب الخمر «باكس»، فتفعل الأنغام في نفس الإسكندر فعلها، وتأخذه الحماسة ويملؤه الغرور، ويقص على الحضور قصة حروبه موقعة بعد موقعة، وهنا يرى العازف أن يكبح هذا الغرور في نفس الإسكندر، فيحول موسيقاه وأنغامه وغناءه، بحيث يروي بها هزائم «دارا»، فتتحرك الشفقة في نفس الإسكندر، ويرق لذلك البطل الكسير ويرثي. ولما كان بين الشفقة والحب وشيجة قوية وصلة قريبة، انتهز العازف تحرك الشفقة في قلب الملك وعرج من فوره على أنغام الحب فلان لها فؤاد الإسكندر، ثم ختم الموسيقار أنغامه بنغمة الثأر والانتقام. وهكذا أخذ يلعب بعواطف الإسكندر، يعلو بها آنا ويهبط آنا.

وبعد فللشاعر غير هذا كله «متفرقات» و«مترجمات»، وكان أهم من ترجم لهم «دريدن» من الأدباء القدماء «فيرجيل» إذ وفق في ترجمته إلى شعر إنجليزي توفيقا قل أن تجد له نظيرا في كل ما ترجم من عيون الأدب في العالم. •••

ولم يكن دريدن شاعرا وكفى، إنما كان إلى جانب ذلك ناثرا وكاتبا مسرحيا. ومن الخير أن نتحدث عنه ناثرا حين نتناول الناثرين في الكلمة التالية لحديثنا عن الشعراء، ثم نتحدث عنه مسرحيا عند الكلام على المسرحية في هذا النصف الثاني من القرن السابع عشر. (1-3) صموئيل بتلر

Samuel Butler (1612-1680م)

لو كان لشعراء الفترة التي نؤرخ لها - النصف الثاني من القرن السابع عشر - طابع يميزهم، فذلك هو الهجاء وكتابة المقالة منظومة في شعر، ولعل من يتلو «دريدن» في هذه الفترة من هؤلاء الشعراء هو «بتلر» مؤلف «هيودبراس»،

16

التي صدرت على أجزاء، فنشر أول أجزائها سنة 1663م، وبعد إخراج بضعة أجزاء منها تركها المؤلف ولم تبلغ ختامها بعد. والقصيدة - رغم نقصها عن التمام - طويلة، يسخر فيها الشاعر من طائفة المتزمتين ، فبطلها «هيودبراس» يخرج مصحوبا بتابعه «رالفو» - على نحو ما خرج دون كيشوت مصحوبا بتابعه سانكوبانزا

17 - ليثير حربا شعواء على ما امتلأ به العصر من شر وانحلال، وفي سياق الحديث يعرض الشاعر بأعلام المتزمتين تعريضا يثير الضحك في القارئ؛ إذ لا يسعه إلا أن يهزأ بهم كما يهزأ بهم الشاعر. ولئن رأينا هذا الأثر الأدبي قد زالت عنه اليوم قيمته، فما ذاك إلا لأن كاتبه قد عني بأخلاق عصره، وشئون العصر الواحد لا يطول بها الأمد، ولا يفسح لها في صفحة الخلود.

وله حكاية رمزية لطيفة عنوانها «الهر والهرة» نسوق منها هذا المثال.

الهرة :

رويدك أيها الغاصب اللعين، لا تغازل على هذا النحو الجريء.

وهل في استطاعتك - في آن واحد - أن تغازل وتسيء؟

الهر :

إنك - بفنون سحرك القوي - فتنت روحي،

فأردت - بامتصاص دمائك - أن أشفي جروحي.

الهرة :

إن من واجب المحب أن يجعل قلبه هدفا للشقاء،

قبل أن يريق من الحبيبة قطرة من دماء.

الهر :

أرى جراحك فوق السطح، وجرحي دفينا عميقا.

جرحتني في الفؤاد، وخدشت جلدك خدشا رفيقا.

فبينما غاصت عيناك أعمق مما غرست المخلب،

أراك لائمة على أثر كنت له السبب.

الهرة :

كيف استطاعت عيناي البريئتان أن تفتكا بفؤادك؟

ألم تفش عيناك أنت قبل ذاك سر غرامك؟

فالجريرة العظمى التي اقترفتها يدي

أني رؤيت (بعينيك أنت لا بعيني).

الهر :

إني أجرح كي أحب، ولست أحب لأجرح.

الهرة :

ذلك شر ممن يقسو ليمرح. (2) النثر (2-1) جون دريدن

لقد حدثناك منذ قريب عن «دريدن» شاعرا، وإن نثره لجدير أن تقال فيه كلمة ما دام يحلو لبعض الناقدين أن يعدوه عظيما بنثره لا بشعره! ومعظم النثر الذي كتبه «دريدن» مقدمات لمسرحياته وخطابات إهداء لقصائده، وذلك فضلا عن «مقالة في الشعر المسرحي»

18

نشرها سنة 1667م، فسجلت اسمه بين الطبقة الأولى من رجال النقد، و«مقدمة الحكايات»

19

التي صدر بها ترجمته لحكايات شوسر وبوكاتشو.

أما مقالته في الشعر المسرحي، فقد أنشأها وهو في الريف حين كانت لندن مصابة بالطاعون، وهي في صورة حوار يدور بين أشخاص ترمز أسماؤهم لفريق من أدباء العصر، فاسم منها يشير إلى «دريدن» نفسه وآخر إلى «هاورد»

20

وهكذا، ويدور الحوار حول مشكلات النقد الكبرى، فتبسط مشكلة القديم والحديث، ويدافع عن الأخذ بقواعد الأدب القديم متحدث ويعارضه متحدث آخر، ثم يقارن المتحاورون بين أدب المسرح في فرنسا وإنجلترا، فيقول قائل: إن المسرحية الإنجليزية كانت منذ أربعين عاما تفوق زميلتها الفرنسية، ثم انقلب الوضع وأصبح الأدب المسرحي في فرنسا أصح وأجود؛ لأنهم هناك لا يثقلون مسرحياتهم بكثرة «الحبكات» الفرعية التي تفسد مجرى «الحبكة» الأصلية، ويتجنبون ما يزل فيه المسرحيون الإنجليز من مزج المأساة بالملهاة في رواية واحدة، ولا يملئون المسرح بمناظر القتل والفتك وغير ذلك من الفظائع التي تنبو عن الذوق المهذب السليم، وهنا يرد عليه من يتكلم بلسان «دريدن» فيقول إنه إذا كانت المسرحية الفرنسية أدنى إلى الوقار والهدوء والحشمة من المسرحية الإنجليزية، فذلك كما تزداد هذه الصفات في التمثال المنحوت عنها في الإنسان الحي، ثم يضيف إلى ذلك أن كاتب المسرحية الفرنسية لا ينطق أشخاصه بما يعبر عن العواطف تعبيرا صحيحا، وتقل الحركة في المسرحية الفرنسية قلة ملحوظة معيبة، ويتلو ذلك عرض نقدي بديع لشيكسبير وبومنت وفلتشر وجونسن. وختام المقالة حوار حول القافية والشعر المرسل، أيهما أفضل؟ وفي هذا الحوار يدافع «دريدن» عن وجوب استخدام القافية في المآسي. ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن «دريدن» عاد فعدل عن هذا الرأي حين كتب رواية «أنطون وكليوبطره».

وأما مقالته النقدية الثانية «مقدمة الحكايات» ففيها نقد مقارن قوي، إذ يوازن الكاتب بين شوسر وبوكاتشو موازنة يرجع فيها لتأييد رأيه إلى أعلام الأدب القديم: هومر وفريجل وأوفد، فجاءت مقالة تفيد وتمتع في آن معا. (2-2) جون بنين

Gohn Bunyan (1628-1688م)

ولد «جون بنين» في قرية قريبة من بدفورد من «أب شريف فقير عامل»، ولما شب أرسل إلى المدرسة الثانوية في بدفورد، حيث تعلم «القراءة والكتابة بالقدر الذي يسمح به لسائر أبناء الفقراء»، ولما غادر المدرسة دربه أبوه على حرفته، وهي الصفاحة (السمكرة) فاتخذها «جون» مهنة يرتزق منها في قريته، وقد كان ثائر العاطفة قوي الخيال، إذا ما اجتمعت جماعة الصبيان في بلده على سوء كان هو على رأسها، وبهذا يعترف حين جاوز حد الشباب وعمر قلبه بالتقوى، فقد جرى لسانه بألفاظ السباب، وافترى كذبا وتسور الحدائق ليسرق ثمارها، لكنه إن كان قد اقترف هذه الهفوات الهينة في شبابه، فقد دفع لها ثمنا غاليا في رجولته من ندم وفزع من العقاب الذي لا بد واقع به على ما فرط، وأخذت تلاحقه الرؤى المخيفة منذرة إياه بأليم العذاب.

شبت في إنجلترا الحرب الأهلية بين الملك شارل الأول وأنصاره من جهة وبين البرلمان والمتزمتين الدينيين من جهة أخرى، فانخرط فيها «بنين» جنديا محاربا، ولبث يقاتل عاما، عاد بعده إلى بلده حيث تزوج. يقول: «صادفت زوجة عرف أبوها بتقواه، فتزوجنا ونحن كلانا على أشد ما نكون فقرا وعدما، لا نملك من أدوات الدار طبقا أو ملعقة، لكن زوجتي كان معها كتابان «طريق الإنسان إلى الجنة» و«الشعائر العملية للورع» وهما ما خلفه لها أبوها عند موته، وكنت أقرأ معها هذين الكتابين حينا بعد حين، فوجدت فيهما بعض ما سرني، لكني لم أصادف فيهما ما حملني على العقيدة المخلصة، وكثيرا ما كانت تنبئني زوجتي عن تقوى أبيها، وكيف كان يؤنب على الرذيلة ويصلحها، سواء وقعت تلك الرذيلة في داره أو بين جيرته، وتقول إنه عاش حياة دينية صارمة في قوله وعمله. إن هذين الكتابين لم يبلغا مني القلب، لكنهما حركا في نفسي شيئا من الرغبة في الدين.»

كان «بنين» في تلك الفترة من حياته يختلف إلى الكنيسة في نظام واطراد لا يتخلف، ولكنه إلى جانب ذلك لم يستطع أن يتخلص من نزوعه في حياته إلى بعض الشر، كان يطالع الإنجيل ويأسف على خطاياه، فكان هذا الصراع في نفسه بين عمل الرذيلة والندم عليها مصدر شقاء حرمه لذة العيش، ثم أشرق عليه شيء كأنه الإلهام: «كنت ذات يوم أسافر في الريف، فأغرقت في التفكير في خبث نفسي، والتأمل فيما ينطوي عليه قلبي من عداوة الله، فطافت بذهني آية الإنجيل: «لقد أخرج الله السلام من الدماء التي أريقت على الصليب»، فرأيت عندئذ أن عدالة الله ونفسي الآثمة تستطيعان أن تلتقيا وأن تقبل إحداهما الأخرى، لقد أوشكت أن يصيبني الإغماء، لا عن غم وشقاء، بل عن غبطة عظيمة وطمأنينة نفس.»

والتحق «بنين» بجماعة دينية في بدفورد، وأخذ يعظ الناس وسرعان ما ذاع صيته واعظا قديرا، لكن عادت الملكية الطريدة إلى إنجلترا، وصدر قانون يوحد العقائد الدينية المتباينة في أنحاء البلاد، فحرم بذلك على طوائف البروتستنت أن يجتمعوا، كما عد التخلف عن الكنيسة جريمة يعاقب عليها القانون، فاتفق «الخوارج» على أن يجتمعوا في الغابات وفي الدور النائية عن العمران، لكن رجال الحكومة كثيرا ما ألقوا عليهم القبض، وقد قبض على «بنين» نفسه في نوفمبر سنة 1660م، فقدم إلى القضاء في بدفورد، وكان القضاة يكرهون أن يزجوا برجل كهذا في السجن، فحاولوا ما وسعتهم الحيلة أن يحملوه على الوعد بألا يعظ على ملأ من الناس علنا، فأبى «بنين» أن يعد بهذا، ولم يجد القضاة بدا من الحكم بسجنه، فأرسل إلى سجن بدفورد حيث قضى في غياهبه اثني عشر عاما، ولما عرض الحكم على المحكمة العليا في لندن، حاول أعضاؤها ما حاولته محكمة بدفورد من قبل، وهو أن يحملوا الرجل على وعد يتعهد به ألا يعظ علنا، لينجو بهذا الوعد من السجن، ولكنه عاد فأبى؛ لأن الوعد المطلوب مناف لما يمليه الضمير، وكم تثبت حوادث الأيام أن الناس يكرهون ما هو خير لهم! إن «بنين» لو أطلق سراحه من السجن لما زاد على واعظ مشهور! لكن السجن أتاح له أن يقرأ وأن يفكر، ثم يكتب. أكب بنين على قراءة الإنجيل، وهو في سجن بدفورد، يتلوه مرة بعد مرة بعد مرة، ويظهر أنه قرأ فيما قرأ بعض القصائد الدينية، كما قرأ «ملكة الجن» لسبنسر، و«الفردوس المفقود» لملتن، ثم كتب وهو في سجنه «الرحمة تشمل كبير الآثمين»

21

والجزء الأول من «رحلة الحاج»،

22

وهو الكتاب الذي خلده بين أعلام الأدب، وأطلق سراح الأديب السجين في الثامن من شهر مايو سنة 1672م، وله من العمر أربعة وأربعون عاما.

وكتب في الأعوام التي تلت خروجه من السجن «مستر بادمان (أي الرجل الشرير): حياته وموته»،

23

والجزء الثاني من «رحلة الحاج» و«الحرب المقدسة».

24

أما كتاب «الرحمة تشمل كبير الآثمين» - وهو أحد الكتابين اللذين ألفهما في السجن - ففيه تاريخ لحياته وما شهدته تلك الحياة من صراع نفسي أتينا على طرف منه. وكتاب «مستر بادمان: حياته وموته» يقص علينا في أسلوب المحاورة قصة رجل لا يتمسك بالفضيلة، ولا يرتدع بصوت الضمير، لكنه ناجح في حياته، وفي كتاب «الحرب المقدسة» وصف لقتال يدور بين قوى الشر وقوى الخير في سبيل الحصول على مدينة «مانسول» (أي نفس الإنسان)، أو بعبارة أخرى هو وصف لمعركة يقتتل فيها المسيح والشيطان للظفر بالنفس الإنسانية. وأما «رحلة الحاج» - وهو أعظم كتبه جميعا - فهو من أشهر الكتب عند القراء الإنجليز بعد الكتاب المقدس، وقد ترجم إلى معظم اللغات الأوروبية، إذ وجد فيه العالم المسيحي كله أدبا جميلا ووعظا خلقيا مستساغا.

ويبدأ الكتاب بهذه العبارة: «بينما كنت سائرا في بيداء هذا العالم أبصرت بمكان فيه كهف، فأويت إليه لأنام، فلما أخذني النعاس رأيت حلما ...» ثم يقص الحلم، وهو رحلة قام بها «كرستيان» (أي المسيحي) صادفته فيها مواقف وأهوال يحلل لك الكاتب فيها مشاعر المسيحي الخالص المخلص لدينه.

جسد «بنين» في «رحلة الحاج» بعض المعاني المجردة لتقوم مقام الرمز، وكان في فنه من البراعة بحيث خلع على هذه المعاني المجردة لحما ودما، فتقرأ ما يجري على ألسنتها، فتحسبك مستمعا إلى حديث يدور بين أشخاص، وفي ذلك يقول «مانولي» إن بنين «يكاد يكون الكاتب الوحيد الذي استطاع أن يجعل من المعاني المجردة أشخاصا مجسدة.» فقد كان له من دقة الخيال ما استطاع معه أن يصور من تلك المعاني رجالا من لحم ودم، فإذا ما أجرى حديثا بين معنيين كان الحديث أقرب إلى الواقع من كثير من الحوار الذي تراه في معظم الروايات التمثيلية، وأعجب العجب أن يخرج هذا الكتاب صفاح بن صفاح (سمكري بن سمكري).

كان بنين كاتبا عظيما قوي العبارة بسليقته، وهو ثاني اثنين في الأدب الإنجليزي - الآخر هو دكنز في القرن التاسع عشر - جاءا لسانا معبرا عن سواد الشعب وعما يدور في رءوسهم ونفوسهم من آمال وأحلام ومخاوف، وكلاهما من طبقات الشعب الدنيا ولم يتلق من التعلم إلا قسطا ضئيلا. (2-3) صموئيل بيبس

Samuel Pepys (1633-1703م)

تلقى بيبس تعليمه الثانوي في لندن، ثم أكمله في جامعة كيمبردج، فلما بلغ الثانية والعشرين من عمره تزوج، ولم يلبث بعد زواجه أن عينه «سير إدورد مونتاجو»

25 - وتربطه القرابة بأسرة بيبس - كاتما لسره، وأسكنه هو وزوجته في دار بلندن، وبعدئذ عين بيبس في منصب في البحرية، ولبث فيه حتى شبت الثورة سنة 1688م، فكان فيها ختام ذلك المنصب، وزج في السجن سنة 1690م بتهمة سياسية، ثم أخرج بعد حين قصير.

وقد عرف بيبس في الأدب بيومياته التي بدأها في يناير سنة 1660م، وكان آخر عهده بها آخر يوم من شهر مايو سنة 1669م، حيث منعته العلة التي أصابت عينيه أن يستأنف تدوينها، كتب بيبس هذه اليوميات بكتابة مختزلة، وكان يملؤها بالكلمات الأجنبية، ولعله لجأ إلى كل هذا ليخفي معانيه عن كثرة القراء، خصوصا وقد كان ما يكتبه ماسا بأخص شئونه، ولما دنا بيبس من ختام حياته، أهدى يومياته تلك إلى الكلية التي تخرج فيها - وكانت تملأ ست كراسات في كل كراسة خمسمائة صفحة - ولبثت تلك الأوراق حيث وضعت من الجامعة حتى سنة 1818م، ثم قيض الله لها من يحل رموزها بين عامي 1819 و1822م. ونشرت يوميات بيبس للمرة الأولى سنة 1825م، أي بعد موته بما يقرب من قرن وربع قرن.

وإن مؤرخ الآداب ليحتفل بهذه اليوميات لما تفردت به من خصائص بين سائر اليوميات؛ ففيها فقرات رائعة في أسلوبها قوية في تعبيرها عن العواطف الإنسانية كما يحسها رجل من عامة الناس، نعم شهدت الآداب رجالا عبروا عن كوامن نفوسهم أصدق التعبير، فهذا هو القديس أوغسطين في القرون الوسطى، وهذا هو روسو في فرنسا، بل هذا هو «بنين» الذي حدثناك عنه منذ قليل. كل هؤلاء أفرغوا أنفسهم فيما يكتبون، لكنهم كانوا رجالا أعلى من متوسط الرجال، فلم تكن حياتهم هي حياة الرجل العادي كما يألفها كل إنسان، وإن شئت فقل كان هؤلاء وأمثالهم يمثلون النوابغ، ولا يمثلون عامة الناس، وبالطبع قد يعبر النابغ فيما يكتب عن عواطف الناس، لكنه مع ذلك ليس منهم في طريقة تفكيره وإحساسه، أما بيبس في يومياته فرجل عادي يخرج ما يدور في نفسه من الخواطر والمشاعر إخراجا أمينا صادقا، ويحدثنا عن دقائق حياته، حتى ليصور لنا حياة عصره - منعكسة فيه - تصويرا دقيقا، فلم يخف شيئا من دلائل ضعته وخيانته، ولم يهمل شيئا مما كان ينشب بينه وبين زوجته من خلاف وشجار، فكأنما كان «بيبس» يستمد من حياته - بكل ألوانها - متعة ولذة، فأراد أن يزداد بها استمتاعا بتسجيل حوادثها ما دق منها وما جل؛ إذ لا فرق عنده بين الحادثة الهامة والحادثة التافهة ما دام قد وجد في كل منهما لذة ومتاعا. ولنتصفح هذه اليوميات لنطالع فيها نتفا هنا وهناك، لنرى كيف يبسط الرجل حياته أمامك كما وقعت:

أنا شديد الفرح بطعام الغداء، أفرح وقت الأكل وقبله وبعده، وإنما يزيد من فرحي أن غدائي شهي، أجادت طهيه وتقديمه خادمتنا التي لم يكن لنا سواها، أكلنا دجاجا وأرانب قطع لحمها في مرق الطماطم (الصلصة) وفخذا من الضأن، وكان في أحد الأطباق ثلاث أسماك، وطبق عظيم آخر فيه ضلع الضأن، وطبق فيه حمام مشوي، وآخر فيه أربعة من «الجنبري» وثلاث فطائر، ثم نوع من فطير السمك (وهو نادر جدا) وطبق من السمك الصغير، وشربنا ألوانا من الخمر، وكان كل شيء على خير ما يرجى، حتى لقد وقع كل شيء من نفسي موقع الرضى العظيم.

ألا يلقي لك مثل هذا القول ضوءا على اهتمام الناس بطعامهم في القرن السابع عشر؟ ولكنك يجب أن تذكر أن القوم في ذلك العهد كانوا يأكلون وجبة كبيرة واحدة في الغداء، ثم لا يأكلون في الليل إلا عشاء خفيفا، ومن هنا كان ازدحام مائدة بيبس بألوان الطعام!

ذهبت بصحبة زوجتي إلى مسرح «كنجز هاوس»

26 (معناها بيت الملك) لأشهد «الشهيدة العذراء»

27

تمثل لأول مرة، وهي رواية ممتعة حقا، لا لأن الرواية في ذاتها كبيرة القيمة، ولكن لأن «بك مارشال»

28

أجاد تمثيلها، على أن ما سرني سرورا لم يبعثه في نفسي شيء في العالم، هو «موسيقى القرب» حين يهبط «الملك» من السماء، فقد كانت الموسيقى من الحلاوة، بحيث ملكت علي فؤادي، وبعبارة موجزة، لفت نفسي لفا أوقع بي العلة، وهو إحساس أحسست مثله في عهد سلف حين كنت أحب زوجتي، فلم أستطع والموسيقى تعزف، بل لم أستطع وأنا في طريقي إلى داري ذاك المساء، ولا حين كنت في الدار، أن أركز ذهني في شيء، بل ظللت طوال الليل مسحورا، ولم أكن أصدق أن الموسيقى استطاعت في يوم من الأيام أن تتمكن من نفس إنسان بمثل ما تمكنت من نفسي ذاك المساء، وقد صممت عندئذ أن أمارس بنفسي عزف «موسيقى القرب» وأن أحمل زوجتي على ممارستها.

ومن ذلك ترى مقدار حبه للموسيقى، وهي صفة عرف بها على الرغم من قلة ثقافته؛ فقد كان لا يعنى بالقراءة إلا قليلا، وكان ماديا في نزعاته وميوله، يهمه جمع المال وادخاره أكثر مما تهمه جوانب الجمال في العالم من حوله، لكنه إلى جانب هذه المادية كان مخلصا في عقيدته الدينية، محبا للموسيقى - كما رأيت - ولعل هاتين الصفتين أن تكونا كل ما اتصف به الرجل من الخلال الروحية، وأما سائر جوانب حياته فمادية صميمة.

وما دمنا قد ذكرنا في اليومية السابقة ذهابه إلى المسرح، فيحسن أن نشير في هذا الموضع إلى ولعه بالمسرح، وقد شارك أهل عصره - عصر عودة الملكية - في التقليل من شأن شيكسبير، فرواية «روميو وجوليت» في رأيه أسوأ مسرحية شهدها في حياته، ورواية «عطيل» مسرحية حقيرة، و«حلم ليلة في منتصف الصيف» مسرحية باردة لا طعم لها.

وهاك بعض أمثلة أخرى تتناول شئون حياته اليومية: «لما صحوت من نومي بغتة هذا الصباح، صدمت زوجتي بمرفقي صدمة قوية على وجهها وعنقها، فأيقظتها الصدمة وهي تتألم، وأبديت أسفي وأخذني النعاس من جديد.

عدت إلى الدار ووجدت كل شيء على وجهه الصحيح، إلا أنني كنت منقبض النفس قليلا لما أبدته زوجتي من إهمال؛ إذ تركت غلالتها وصدارها وملابس نومها في العربة التي أقلتنا من وستمنستر اليوم، ولو أنني أعترف أنها كانت قد أعطتها لي لأرقبها، إن خسارتنا بهذا تبلغ خمسة وعشرين شلنا.»

يوم آخر: «ذهبت مع زوجتي إلى غرفتها لأفحص حساب المطبخ كما أثبتته، وهنالك اشتجرنا لشرائها منديلا مطرزا وقلنسوة بغير إذني، ومن ثم غضبنا وواصلنا الغضب حتى ساعة النوم.»

وهكذا تقرأ في يوميات بيبس عن دقائق حياته، كما تطالع فيها آراءه في المسرح وفي الكتب القليلة التي قرأها وفي المواعظ التي سمعها في الكنيسة أيام الآحاد، وفي الحوادث السياسية الهامة، ولو أنه كان شديد الحرص فيما يمس السياسة؛ لأنه عاش في عصر مضطرب مليء بالقلاقل، هو عصر عودة الملكية، وتقرأ له أيضا مذكراته الشائقة عن الطاعون الذي تفشى في لندن وعن حريق لندن المعروف، تقرأ كل هذا فتحسبك شاهد عيان يرى ويسمع.

إن لهذه اليوميات قيمة عظيمة في الأدب الإنجليزي؛ لأنها - كما قلنا - تصور لنا عصر بيبس - النصف الثاني من القرن السابع عشر - تصويرا فيه كل الدقائق، ولأنها تدلنا على الذوق الأدبي الذي كان سائدا إذ ذاك، وذلك استنتاجا من الإشارات الكثيرة التي أثبتها الكاتب عن المسرحيات التي شهدها؛ ولأنها تزيد من علمنا باللغة الإنجليزية الدارجة في ذلك العهد؛ ولأنها فوق ذلك كله خير ما شهد الأدب الإنجليزي من يوميات واعترافات يصب فيها الكاتب نفسه في غير حياء أو حرج، فيوميات بيبس في الأدب الإنجليزي تحتل مكانة شبيهة بمكانة «اعترافات» روسو في الأدب الفرنسي وذكريات «بنفنوتو تشليني» الذي تحدثنا عنه في أدب النهضة في إيطاليا. (2-4) جون إفلن

Gohn Evelyn (1620-1706م)

وهذا كاتب آخر نعرفه بيومياته، لكن مسافة الخلف بعيدة جدا بينه وبين «بيبس» في هذا الفن من فنون الأدب. سافر «إفلن» في أرجاء أوروبا في وقت كانت فيه إنجلترا تضطرب فيها الأحداث السياسية اضطرابا شديدا، وأنفق في رحلته ثلاث سنوات سجل حوادثها في الجزء الأول من يومياته.

ولما عاد إلى بلاده أنفق معظم وقته يطالع ويفلح حديقته، وعلى الرغم من أنه عاش في القرن السابع عشر، إلا أن ذوقه وأسلوبه أقرب إلى الذوق والأسلوب اللذين سنشهدهما في أدب القرن الثامن عشر، فهو كلف بالصناعة في الكتابة وفي ألوان الفن جميعا، يكره غابة فونتنبلو - في فرنسا - لأنها على غير نظام وتنتثر فيها الصخور، ولا تعجبه جبال الألب؛ لأنها خشنة لا تستقيم فيها الجوانب والسفوح، ولكنه يحب الحديقة المنسقة التي تناولتها يد البستاني بالتشذيب. وهكذا يكره الأسلوب إذا لم تكن فيه العناية بالصقل بادية ظاهرة، شأنه في ذلك شأن المدرسة الاتباعية (الكلاسيكية) التي استهل بها الأدب الإنجليزي القرن الثامن عشر، كأنما كان «إفلن» - وكما كان دريدن أيضا - طليعة تبشر بقدوم عهد أدبي جديد.

وإن كانت يوميات بيبس تدلنا على صورة الحياة التي كان يحياها رجل ضحل الثقافة متوسط الثراء في القرن السابع عشر، فإن يوميات «إفلن» ترسم لنا حياة السيد من سادة الريف، كيف كان يفكر وعلى أي نحو كان يعيش. (3) المسرح

أغلق المتزمتون الدينيون أبواب المسارح سنة 1642م؛ لأنهم رأوا فيها مباءات إفساد لا تتفق مع الدين القويم، لكن هذا التحريم القانوني لصناعة التمثيل لم يمنع جماعات الممثلين أن يجوبوا في البلاد، فيمثلوا مسرحياتهم في أفنية الفنادق وساحات الأسواق. ثم حدث أن سافرت جماعة من الممثلين إلى ألمانيا لتمثل هناك روايات إنجليزية، وبهذا احتفظ الممثلون بصناعتهم حتى زالت عنهم غاشية التزمت بعودة الملكية، أضف إلى ذلك أن بعض الكتاب المسرحيين لم يمتنعوا عن كتابة مسرحياتهم، وإن لم تجد سبيلها إلى المسرح، فعمل ذلك كله على بقاء التقاليد والأوضاع المسرحية على الرغم من تحريم التمثيل في عهد المتزمتين.

فلما عاد شارل الثاني إلى عرش البلاد، بعد زوال جمهورية المتزمتين، سمح للمسارح أن تفتح أبوابها من جديد، فوجدت المسرحية نفسها موصولة العلاقة بما كان سائدا قبل إغلاق المسارح، وأخذ القوم يكتبون روايات جديدة، ويمثلون إلى جانبها روايات قديمة من إنتاج شيكسبير وبن جونسن وبومنت وفلتشر وغيرهم؛ فكان ذلك داعيا لكتاب العهد الجديد أن يترسموا خطى رجال العهد السابق، ولكنهم تأثروا إلى جانب ذلك بالأدب الفرنسي إلى حد بعيد عميق، فقد طردت الملكية من إنجلترا وأقام رجالها في فرنسا، حيث عرفت مآسي «كورني» وملاهي «موليير»، واستمد شارل الثاني ذوقه الأدبي من هذا الجو الجديد، فلما عاد إلى بلاده لم يكن بد من فرض ذوقه المكتسب على الكتاب الإنجليز، فأخذت الملهاة تقتفى في بعض أوضاعها آثار موليير، ودخلت القافية المزدوجة في كتابة المأساة نقلا عن الفرنسيين، وترجمت عن الفرنسية مسرحيات لتمثل على المسارح في لندن.

ولسنا نستطيع أن نصف حالة الكتابة المسرحية في النصف الثاني من القرن السابع عشر، أي في عهد عودة الملكية، دون أن نشير إلى التحلل الخلقي العجيب الذي ساد الأدب المسرحي عندئذ، فلئن اشتد المتزمتون في قيودهم الأخلاقية التي فرضوها على الناس وبالغوا في فرضها، فقد تطرف رجال القصر عند عودتهم من فرنسا في مجونهم واستهتارهم، ولما كان المسرح مكان متعتهم، فلم يكن مناص من أن يمتعهم أدباء المسرح بما يحبون، من خلاعة واستهتار ومجون، بحيث أصبحت المسارح ضربا من اللهو يجفل منه المحافظون ويتحرجون من مشاهدته.

أما المسرح نفسه من حيث إعداده وإخراج الرواية ممثلة عليه، فقد دخلته تغيرات هامة جديرة بالذكر في هذا الموضع.

كان المسرح في عهد اليصابات غنيا بملابس الممثلين فقيرا بالمناظر التي ترسم على جدران المسرح نفسه، فالممثلون يرفلون في ملابس مزخرفة مزركشة على مسرح يكاد يكون خاليا من كل رسم مما نعهده على مسارحنا اليوم، ويصور لنا البيئة التي تجرى فيها حوادث الرواية، نعم كانت «المقنعات» تعنى برسم المناظر، لكن المقنعات - كما عرفت - كانت تمثل في قصور الملوك والأمراء ولا تمثل على المسرح، فلما عادت الملكية إلى إنجلترا وافتتح المسرح عهدا جديدا أخذ أصحاب المسارح يدخلون المناظر على مسارحهم، فكان لذلك نتائج هامة وخطيرة في تأليف المسرحية، منها أن يقتصد الكاتب جهد طاقته في الأماكن التي تقع فيها حوادث روايته، حتى لا يضطر المخرج إلى إعداد المناظر الكثيرة التي تلائم تلك الأماكن، فشيكسبير في رواية «أنطون وكليوبطره» - مثلا - لم يجد مانعا من الانتقال بحوادث روايته من الإسكندرية إلى مسينا إلى روما إلى سوريا وأثينا وغيرها، إذ لم يكن على الممثلين إلا أن يعلقوا لوحة على المسرح يكتب عليها اسم المكان الذي تقع فيه الحوادث الممثلة، أما «دريدن» الذي تناول نفس الموضوع في إحدى رواياته التمثيلية في عهد عودة الملكية، فقد حصر حوادث روايته كلها في الإسكندرية ليسهل على المخرج أن يصور منظرا يمثل مكان الحوادث. ونتيجة أخرى ترتبت على إدخال المناظر المصورة في الفن المسرحي، وهي أن تغيير تلك المناظر من فصل إلى فصل يستدعي أن يقف التمثيل برهة قصيرة، ومن هنا لم تعد الرواية تمثل في اتصال لا ينقطع - كما كانت الحال في عصر شيكسبير - بل أخذت فترات الراحة تتخلل الفصول كما نرى اليوم، وعن هذه النتيجة تفرعت نتيجة أخرى، وهي أن يقصر الكاتب روايته حتى يعوض بقصرها فترات الراحة فلا يطول مكث النظارة عما كان.

وكان المسرح في عهد اليصابات مصطبة بارزة في فناء مكشوف، ويجلس النظارة على جوانبه الثلاثة، بل ويجلس بعضهم فوق المسرح نفسه نظير أجر إضافي يدفعونه. أما في العهد الجديد فقد تغير وضع المسرح، بحيث أصبح النظارة يواجهونه من ناحية واحدة، على هيئة قريبة جدا مما نشاهد اليوم، وأصبح المسرح الجديد مسقوفا، ومن هنا أخذوا يضيئونه بمصابيح، ولم يعد ما يمنع أن يقع التمثيل ليلا. أما في عصر شيكسبير فكان التمثيل في فناء مكشوف، فلا مصابيح تضاء ولا تمثيل بعد الغروب.

ولعل أهم ما دخل على المسرح من تغير، هو استخدام النساء في أدوار النساء، بعد أن كان الغلمان يلعبون هذه الأدوار، ولعلك تذكر كيف كان يلجأ شيكسبير في كثير جدا من رواياته إلى خدعة مسرحية؛ هي أن يجعل الفتاة تدعي أنها فتى، وتلبس ملابسه، وتتحدث بلسانه؛ وذلك لأنه يعلم أن دور الفتاة سيمثله فتى، فالأفضل أن يجرى على لسانه ما يتفق مع طبيعته، أضف إلى ذلك أن كتاب المسرحية في عصر اليصابات كانوا يقتصدون في أدوار النساء لعلمهم بصعوبة تمثيلها، أما بعد عودة الملكية فقد ظهر النساء على المسرح، وكثرت - تبعا لذلك - أدوار النساء في المسرحيات المؤلفة في ذلك العهد.

وحسبنا هذه الكلمة العامة لنقدم إليك بعض كتاب المسرح في ذلك العهد: (3-1) جون دريدن

ذكرناه شاعرا وناثرا، وها نحن نقدمه مسرحيا نابغا.

أول مسرحية له مثلت ملهاة نثرية عنوانها الشهم «الغليظ»،

29

ولكنها لم تصادف نجاحا، فأعقبها «النساء المتنافسات»،

30

وهي ملهاة أيضا كتبها شعرا، قفى بعضه وأرسل بعضه الآخر، فكانت أنجح من سالفتها.

وكان «دريدن» في بدء حياته الأدبية مؤمنا بأن المأساة لا يجوز أن تكتب إلا في شعر مقفى؛ لأن الشعر المرسل لا يلائمها، وعلى هذا الأساس أخرج روايتيه «الملكة الهندية»

31

و«الإمبراطور الهندي»،

32

وقد شاركه في كتابة الأولى صهره «هاورد»، لكن هذا الشريك عاد فانقلب على استخدام الشعر المقفى في المسرحية، ومن هنا نشأت معركة أدبية لطيفة بين «دريدن» مدافعا عن القافية و«هاورد» مدافعا عن الشعر المرسل، وقد ذكرنا طرفا من هذه المعركة عند الكلام على «مقالة في الشعر المسرحي» التي كتبها «دريدن» في النقد الأدبي.

ومن المآسي المشهورة التي كتبها شعرا مقفى، رواية «الحب الطاغي»

33

و«فتح غرناطة»،

34

وفي هذه الرواية الأخيرة ترى «المنصور» يقوم بأعمال البطولة التي بالغ فيها الشاعر مبالغة أخرجتها عن الطبيعي المعقول، وهو يصور لنا بطله قلبا لا يستقر على حال، فهو يأسر مخطوبة الملك ويشغف بها حبا، ويعلن للمحبوبة هذا الحب الشديد، وتصد عنه الفتاة، فينقلب المنصور على أصدقاء الأمس ليقف إلى جانب أعدائه لعل ذلك يؤدي به إلى الظفر بحبيبته، ويعيد الملك المخلوع إلى عرشه، ثم يطلب يد الفتاة بعد هذا كله فيرفض طلبه، فينقلب من جديد على هذا الملك ليعين عليه أعداءه. ورواية «فتح غرناطة» مكتوبة بأسلوب فخم جاوز بفخامته كل حد معقول، فظهرت فيها الصناعة ظهورا قبيحا، ومع ذلك فقد صادفت إعجابا شديدا عند الملك شارل الثاني ومنحه بعدها لقب أمير الشعراء.

هنا حاول أعداؤه أن يهدموا مجده الأدبي، فتعاونت طائفة منهم على إخراج رواية أطلقوا عليها «التسميع»

35

جعلوا بين أشخاصها شخصا يسمى «مستر بايز»

36

يرمزون به إلى دريدن، وأخذوا يصبون عليه السخرية والنقد اللاذع، ويضحكون من نوع المسرحية التي أغرم بها دريدن، وهي التي تسمى «بالمسرحية الحماسية»،

37

وقد كانت المسرحية الحماسية هي الشائعة السائدة في عصر عودة الملكية، وأهم خصائصها أنها مقفاة بالقافية المزدوجة، وأنها تبالغ في كل شيء. وخلاصة رواية «التسميع» هي أن مدنيا يدعى «جونسن»، وريفيا يسمى «سمث» جاء إلى المدينة لتوه، التقيا برجل يكتب المسرحيات اسمه «بايز» (وهو اسم يشير إلى دريدن) فدعاهما «بايز» أن يصحباه إلى المسرح ليطلعهما على رواية له، وهي في مرحلة التسميع، أي حين يتدرب الممثلون على أدائها. ويذهب الرجلان مع «بايز»، ويأخذ الممثلون في أداء التجربة، فيسأل المدني والريفي أسئلة تبعث النظارة على الضحك، وتبين مواضع الضعف جلية واضحة، وهو ما أراده مؤلفو الرواية، وأخيرا ينتهز الرجلان الزائران فرصة اشتغال «بايز» مع أحد الممثلين فيخرجان خلسة، فيسرع «بايز» وراءهما ليعيدهما حتى يشهدا الرواية إلى آخرها، حتى إذا ما رجع بهما وجد الممثلين قد غادروا المسرح ليأكلوا طعام الغداء.

ظهرت رواية «التسميع» فتلقاها «دريدن» بصدر رحب، ويقال إنه لبث بعدها أمدا لا يكتب المأساة ويكتفي بكتابة الملاهي؛ لأن «الرواية الحماسية» التي ضحك منها مؤلفو «التسميع» لا تكون إلا مأساة، فأراد «دريدن» فيما يظهر أن يبعد عن موطن السخرية حينا، وفي هذه الفترة أخرج ملهاتين هما «الزواج البدع»

38

و«الحب في دير الراهبات»

39

وفي السنة التي مات فيها «ملتن» - 1674م - حول «الفردوس المفقود» إلى قالب تمثيلي مقفى، وأطلق عليها «حالة الطهر»

40

ولم يرد بها أن تمثل على المسرح، بل لعله أراد أن يحيي بها الشاعر العظيم.

ومضى بعد ذلك عام واحد، ثم أخرج «دريدن» مسرحية هي على الأرجح خير مسرحياته جميعا، عنوانها «أورنج زيب»،

41

وهي آخر مآسيه التي تجري فيها القافية، وقد كتب في مقدمتها أنه لم يعد يعتنق الرأي الذي دافع عنه بحرارة اثني عشر عاما ضد صهره الشاعر «سير هاورد»، ونعني به رأيه في وجوب أن تكون المأساة شعرا مقفى.

ولهذا كانت روايته التالية شعرا مرسلا، وموضوعها أنطون وكليوبطره، وعنوانها «كل شيء في سبيل الحب»،

42

وهي أحب رواياته إليه، والحق أنها مسرحية غاية في الجودة، ولولا أن شيكسبير له رواية في نفس الموضوع خفتت إلى جانبها رواية دريدن، لما أصبحت هذه مغمورة مجهولة من جمهرة المتأدبين على نحو ما نرى اليوم، فقد تكون رواية «دريدن» أجود من رواية سلفه العظيم في البناء والحبك؛ لأنه حصر الحوادث في الإسكندرية ولم يوزعها على مدن كثيرة كما فعل شيكسبير، وأشخاصه أقل عددا من الأشخاص في رواية شيكسبير، فساعده هذا وذاك على أن تخرج روايته موحدة موصولة الأجزاء، وقد برع «دريدن» وأجاد في تصوير «أنطون»، لكنه قصر في رسم كليوبطره عما بلغه شيكسبير في تصويرها وإجراء الشعر على لسانها، فكان هذا وحده خافضا لروايته رافعا لرواية سلفه.

وللشاعر غير ما ذكرنا روايات أخر، إذ بلغ ما أنتجه نحو ثلاثين رواية، بينها كثير لا قيمة له في ميزان النقد، ولكن اثنتين أو ثلاثا منها ارتفعت إلى صف المسرحية العظيمة، فلم يدن منها شيء مما كتب في عصر الشاعر. بل لم يدن منها شيء مما كتب في الإنجليزية منذ عهد اليصابات العظيم. (3-2) وليم كنجريف

William Congreve (1670-1729م)

هو أنبغ من شهد الأدب الإنجليزي إطلاقا في ضرب من الملهاة يسمى «ملهاة السلوك»،

43

والملهاة من هذا النوع إنما تصور سلوك الناس كما هو في حياتهم المنزلية، ولا تحاول أن تسخر من الرذيلة ومن غفلة الناس وحمقهم في طريقة سلوكهم، فتصوير الواقع في «ملهاة السلوك» هو كل شيء، ولا عبرة بما توحيه الرواية في أنفس النظارة من رذيلة أو فضيلة، وبطل مثل هذه الملهاة هو الشاب المستهتر الماجن، الذي لا يعبأ بالأخلاق قيد أنملة، ولا يشغله إلا غرامه ومتعته، وقد كثر الشباب من هذا الطراز عند عودة الملكية؛ إذ التف بالملك وحاشيته أبناء الأسر الرفيعة من أمثال هؤلاء، وبطلة الرواية تتصف بشدة حيويتها ورشاقتها، فالمرأة الخفيفة الرشيقة أفضل عند رواد المسرح عندئذ - حاشية الملك وأتباعهم - من المرأة الفاضلة، وموضوع الرواية عادة هو أن «تستغفل» الزوجة الماجنة زوجها أو أباها أو ولي أمرها كائنا من كان.

تلك هي «ملهاة السلوك» التي عنيت في عصر عودة الملكية بتصوير الواقع، والتي برع فيها «كونجريف» وأجاد.

ولد كونجريف في بلد قريب من ليدز عام 1670م، وكان أبوه ضابطا في الجيش، لكن لم يكد ولده وليم يشهد النور، حتى عين في منصب جديد في أيرلنده، فانتقل إليها مصحوبا بأسرته، وهنالك تلقى وليم علومه زميلا للكاتب المشهور «سوفت» (صاحب رحلات جلفر).

ولما دنا الشاب من عامه العشرين، عاد إلى إنجلترا، وكان قد أحس في نفسه ميلا قويا نحو الأدب، فسرعان ما توشجت الأواصر بينه وبين دريدن، فتعاونا معا على ترجمة بعض الآثار الأدبية القديمة، ولما بلغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما أخرج أولى ملاهيه «العزب العجوز»،

44

وقد نجحت على المسرح نجاحا عظيما، ولبثت قائمة أربعة عشر يوما، وهي مدة طويلة جدا في ذلك العهد، وكوفئ الكاتب بما لم يكافأ به كاتب سواه على رواية؛ إذ أسند إليه وزير المالية عندئذ (لورد هالفاكس) منصبا يدر عليه راتبا كبيرا، وأخذت المناصب تتكاثر عليه، حتى بلغ دخله الحكومي مائتين وألفا من الجنيهات في العام، وسمع كونجريف من عبارات الثناء والمدح يوجهها إليه أئمة الأدب في عصره - دريدن وبوب - كما يوجهها إليه سيدات القصر والحاشية، ما ملأه بالغرور، وقد جاءه فولتير في زيارة فقال له كونجريف في كبرياء إنه يود أن ينظر إليه فولتير سيدا من السادة لا كاتبا يؤلف المسرحيات، فأجابه زعيم الساخرين بقوله: «لو كنت سيدا من السادة وكفى لما جئت لزيارتك» وتركه في ازدراء.

وأخرج الكاتب ملهاته الثانية «المخادع»

45

فلقيت من نقاد الأدب أعظم الثناء، لكنها لم تصادف قبولا حسنا في أول الأمر عند عامة الناس، ثم عقب عليها بملهاة ثالثة عنوانها «حب بحب»،

46

وهي أفضل من سابقتيها؛ إذ لا تقل عنهما في حلاوة الحوار، ثم تفوقهما في تصوير الشخصيات تصويرا جاء أقرب إلى الحياة النابضة.

ثم أخرج كاتب الملاهي بعد ذلك مأساة «العروس الحزينة»،

47

التي لبثت أمدا طويلا أشهر نتاجه بين القراء، وقد وردت في هذه الرواية قطعة يصف بها الشاعر كنيسة، قال عنها الدكتور جونس - وهو نقادة مشهور في أدب القرن الثامن عشر - إنه لو طلب إليه «أن يختار من الشعر الإنجليزي كله أجود ما فيه لما وجد قطعة يؤثرها على هذه الأبيات التي صاح بها رجل في فناء الكنيسة الخاوية»:

كلا، لقد أخرس كل شيء، إنه سكون كسكون الموت، ألا ما أبشعه!

إن هذه البنية السامقة لها وجه وقور،

عمدها القديمة شامخة برءوسها المرمرية؛

لترفع سقفها الثقيل بقبابه العالية،

وإن السقف لمكين بثقله راسخ،

كأنما هو الهدوء يرنو بناظريه! إنه يبعث رهبة

وفزعا في عيني الكليلتين، والقبور

وكهوف الموتى العتيقة تبدو باردة،

وتبعث القشعريرة في قلبي الراجف،

هات لي يدك وأسمعني صوتك،

أسرع فتحدث إلي، لأسمع

صوت حديثك، فصوتي يفزعني بأصدائه.

لكن العصر الحديث بنقاده وقرائه يرفض أن يجعل لهذه القطعة الشعرية كل القيمة التي قومها بها الدكتور جونسن.

وختم «وليم كونجريف» نتاجه المسرحي بملهاة «طريقة الدنيا»

48

التي اختلف في تقديرها رجال النقد اختلافا عظيما، فمنهم من جعلها آية إنتاجه، ومنهم من وصفها بالفشل. ومهما يكن من أمر فلم تصادف على المسرح عند إخراجها نجاحا.

وزخر الأدب في «عصر العودة» بكثير غير هذين من رجال المسرحية، منهم «وليم وتشرلي»

49

و«فانبره»

50

و«ناثانيل لي»،

51

وغيرهم ممن لا يتسع هذا العرض السريع لذكرهم.

ها قد بلغنا بالأدب الإنجليزي ختام القرن السابع عشر، وأشرفنا به على حركة اتباعية (كلاسيكية) جديدة استهل بها القرن الثامن عشر، فلنقف حينا لننتقل إلى أدب زاخر زاهر خصيب ظهر في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

الفصل العاشر

الأدب الفرنسي في «القرن العظيم» وهو القرن السابع عشر؛ عهد لويس الرابع عشر

جرى العرف بين مؤرخي الأدب الفرنسي أن يصفوا القرن السابع عشر ب «القرن العظيم»،

1

وختام هذا القرن في تاريخ الأدب هو العام الذي شهد موت عاهل فرنسا العظيم لويس الرابع عشر، عام 1715م.

شهد هذا «القرن العظيم» ما بذله «ريشليو» من جهود موفقة انتهت بتركيز السلطان في صاحب التاج، بعد أن كان موزعا بين أشراف الإقطاع، حتى بلغ الحكم المطلق أبعد مداه في عهد لويس الرابع عشر، وصحب هذه المركزية السياسية مركزية في الأدب، بل مركزية في الثقافة بأوسع معانيها، انتهت بسيادة النزعة الاتباعية (الكلاسيكية) سيادة مطلقة، فقد كان أدب القرن السادس عشر فرديا في جوهره، يستمع فيه الأديب إلى وحي نفسه وهواه، ولم يكن ثمة مقياس عام ظاهر يقاس به نتاج الأدباء الذي تنوعت صنوفه وتعددت، كما تنوعت أذواق الأدباء أنفسهم وتعددت نزعاتهم، ثم جاء القرن السابع عشر، فطبع الأدب بالطابع الذي وسمت به السياسة، وهو الجمع والتوحيد تحت سيطرة السلطان ونفوذه، فطمست شخصيات الأدباء وضاعت حريتهم في الأدب، كما طمست وضاعت في السياسة سواء بسواء.

هذه الحركة التي سارت بالأدب والثقافة نحو التوحيد والتنظيم، والتي تمثلت في «الصالونات» الأدبية التي شاعت عندئذ، وفي «المجمع العلمي الفرنسي» الذي أنشئ ليكون صاحب الكلمة العليا في الثقافة الفرنسية، لم تبلغ أوجها إلا حين قبض الملك الشاب لويس الرابع عشر على زمام الأمر بيده بعد موت وزيره «مازاران» سنة 1661م، وعندئذ فنيت «الصالونات» ليحل محلها «القصر»، فمنه كانت تصدر القوانين التي تتحكم في أذواق الأدباء كما كانت تصدر سائر القوانين، فالذوق الفني الذي تجلى في بناء «فرساي» هو نفسه الذي فرض نفسه على الأدب، الرشاقة والفخامة وسلامة القواعد.

في هذا الجو «الأرستقراطي» نشأ الأدب الاتباعي في فرنسا، وهو أدب «أرستقراطي» صورة وجوهرا، ولو أن منشئيه كادوا جميعا أن يكونوا من أهل الطبقة الوسطى، ارتفعوا إلى أوج الشهرة بفضل من الملك، فالمسرحيون العظماء والشعراء النوابغ والناثرون الفحول، كانوا بمثابة المأجورين ليمتعوا طبقة رفيعة لا ينتسبون هم إليها وإن عاشوا بينها، ومن هنا كان أدبهم يمثل أرفع المثل التي سادت في عصرهم، دون أن يزلوا في الأخطاء والعيوب التي تنزل عادة بأدب رجال الطبقة الرفيعة، وهي الضحولة والتكلف، فجاء أدبهم - على نقيض ذلك - عميقا جيد الصناعة.

لكنا إن رأينا هذه الوحدة المصطنعة، التي ضمت أذواق الأدباء في مسلك واحد خلال القرن السابع عشر، فلا ينبغي أن نغمض الأعين عن عوامل كانت تعمل في الخفاء رويدا رويدا حتى انتهى بها الأمر إلى تحطيم هذا السلطان الأدبي الذي صدر عن «الصالونات» أولا وعن قصر «فرساي» ثانيا، ونعني بتلك العوامل جهود الطبقة الوسطى التي أثرت - البورجوا - فقد ظل هؤلاء يرتفعون في المجتمع ويزداد خطرهم، حتى إذا ما تحطمت قوة الملك بعد لويس الرابع عشر، انتقل مركز الثقافة والأدب من القصر وحاشيته إلى الأغنياء من رجال البورجوا، وسنلمس آثار هذا الانتقال حين نعرض لأدب القرن الثامن عشر.

وسبيلنا الآن أن نقدم بين يديك أعلام الأدب في «القرن العظيم» فنعرض الشعراء، فرجال المسرحية، فالناثرين وأصحاب القصة. (1) الشعر الفرنسي في القرن السابع عشر (1-1) ماليرب

Màlherbe (1555-1628م)

أول من نتناول من شعراء هذا القرن هو «فرانسوا دي ماليرب» الذي ولد في «كان»

2

من أب يتولى القضاء، وقد أراد «ماليرب» أول الأمر أن يسير على نهج أبيه، فيتجه إلى دراسة القانون واحترافه، ولكنه ما لبث أن خلع رداء القانون ليمتشق الحسام محاربا في الحروب الدينية التي كانت ناشبة إذ ذاك، ثم انتهى به الأمر إلى القرار في باريس حيث اتصل بالقصر وانصرف للشعر.

أغدق عليه القصر وأصحاب السلطان في باريس إغداقا كريما، لكنه دفع الثمن غاليا؛ إذ رد الجميل شعرا ذليلا خاضعا يتقرب به من أولي الأمر، ولو أن ذلك لم يمنعه عن الإنشاء في المناسبات الشعبية العامة.

لم يكن «ماليرب» شاعرا من الطراز الأول، وإنما يذكره تاريخ الأدب لموقفه أكثر مما يخلده لشعره، فقد كان اللسان المعبر عن المثل الأعلى للحكومة الذي أخذ يسعى ريشيليو نحو تحقيقه، ولولا ذلك لما تناول ديوانه قارئ حديث إلا ليقرأ له قصيدة أو اثنتين، مثل قصيدة «العزاء» التي وجهها إلى والد فقد ابنته. أما سائر شعره فلا يمتاز بقوة الخيال ولا عمق الشعور ولا طلاوة الأسلوب على الرغم من عنايته بالصقل والتجويد؛ ولهذا جاء شعره أقرب إلى النثر في بروده.

نقول إن تاريخ الأدب يذكر «ماليرب» لموقفه أكثر مما يذكره لشعره، فقد ظهر في عصر كان الذوق الأدبي يتجه اتجاها يطابق مزاجه ونزعته ، فكان من حسن حظه أن اقترنت باسمه الحركة الجديدة كلها، وكان هو بغير شك عاملا من عوامل رسوخها؛ إذ وضع الأساس الذي قام عليه الشعر قرنين كاملين من الزمان، ولم يكن ذلك الأساس قواعد إيجابية رسمها لينهج على غرارها الشعراء، بل كانت جهوده سلبية تحذف ولا تضيف، فقد أخذ ينقي الشعر من الألفاظ القديمة والعبارات الإقليمية التي أدخلها رجال «السابوع»، وعارض رأي «رنسار» في أن تكون للشعر لغة خاصة به، فلغة الشعر - في رأيه - هي الفرنسية النقية الخالصة، وإذن فهي لغة النثر الجيد. وكان «ماليرب» يبذل مجهودا ضخما في العناية بقواعد النحو في أدق تفصيلاتها، حتى لا تفلت منه في إحدى قصائده غلطة نحوية واحدة، لهذا كان يكتب المقطوعة أو القصيدة، ثم يعيد كتابتها، ويعيدها مرة بعد مرة، وهو في كل مرة يصلح أخطاءها ويصقل ألفاظها ويجود أسلوبها، حتى لقد أثر عنه أنه كان يستنفد «رزمة» كاملة من الورق ليفرغ من مقطوعة واحدة فيها بضعة أبيات من الشعر. ومن بين القواعد التي اشترطها في النظم ألا يتدفق المعنى من زوج الأبيات إلى الزوج الذي يليه، فيجب عنده أن يتم المعنى في كل زوج على حدة.

هكذا يجب أن تكون العناية بكتابة الشعر، فلا خطأ في النحو ولا إدخال للفظ الغريب، ولا طلاقة في تدفق المعنى، وشعاره في الشعر هو الوضوح والصحة وجودة المعنى، فلا غرابة إن عده تاريخ الأدب واضع الأساس للمدرسة الاتباعية التي سادت في القرن السابع عشر، وهي مدرسة تعمل على كبت الحرية الفردية، وتجتنب كل ما يؤدي إلى الإسراف في الفكر والأسلوب. ولنضرب مثالا لشعره أبياتا من خير قصائده «عزاء إلى مسيو دي برييه»:

أحزنك هذا - إذن - «برييه» حزن سرمدي؟

أيظل هذا الحديث الحزين - الذي يوحي إليك به عطفك الأبوي -

يزيد في أحزانك أبد الآبدين؟

أتكون فادحة ابنتك التي نزلت بها في قبرها

بموت هو للجميع مآب؛

متاهة ضل رشدك في أنحائها،

فلن يعود إليك صواب؟ •••

إني لأعلم ما كان لها من سحر في طفولتها

فلم أكن لك بالصديق الآثم،

وأحجمت، لم أخفف من مصيبتها،

ولم أستهن برزئها القاصم. •••

لكنها تنتمي إلى عالم أجمل ما به عابر،

يرقبه أسوأ المصير في الأرض،

وقد عاشت - زهرة - كما تعيش الأزاهر

صباحا واحدا ثم تقضى.

وهب أن الله استجاب لك الدعاء،

فامتد بها الأجل،

وعاشت حتى أمست كهلة شمطاء؛

فأين أين الأمل؟ •••

أم تظنها لو عمرت، فإنها في دار المقر

تزداد من ترحابها؟

أم كانت تقل إحساسا بتربة القبر،

وبالدود في لحدها؟ (1-2) رينييه

Regnier (1573-1613م)

وضع «ماليرب» قواعده واستن للشعراء الشرائع، فتبعه التابعون، وظن «بوالو» - الناقد المشهور الذي سنحدثك عنه في الكلمة التالية - أن جميع الشعراء قد اعترفوا بالقوانين التي فرضها «ماليرب»، لكنه أخطأ الظن، فكان هنالك من عارض وقاوم، وعلى رأس هؤلاء المعارضين للحركة الجديدة «رينييه».

كان «ماتوران رينييه»

3

شاعرا عبقريا يبتكر ولا يقلد، وله فضلا عن قصائده الرائعة ست عشرة سخرية تضارع أروع ما عرفه الأدب الفرنسي من الشعر الساخر، وأهمها «الشعراء»،

4

التي يعرض فيها وصفا دقيقا لحالة الأدب في عصره، و«إلى نقولا رابان»،

5

وفيها يهاجم ماليرب، و«ماست»

6

وهي دراسة قوية لامرأة عجوز منافقة. ولعل هذه السخرية أن تكون آيته، رغم ما فيها من فحش في القول ينبو عنه الذوق المهذب، و«الشاعر رغم أنفه»،

7

وفيها يعرض طريقته في الكتابة وخصائص مزاجه ونزعته.

وأهم ما يمتاز به رينييه تصويره للشخصيات تصويرا فيه قوة وشمول، ومع ذلك فتاريخ الأدب يذكره لخروجه على قواعد ماليرب أكثر مما يذكره لسائر صفاته ومميزاته، وهو في السخرية التي يهاجم فيها ماليرب، تراه يهزأ بأولئك الذين يبذلون أقصى جهدهم في دقائق القواعد اللغوية وقواعد العروض، فكأنما هم بذلك ينثرون النظم وينظمون النثر، ويحسبون ألا يكون الأدب أدبا إلا إذا نسج الأديب على منوالهم، أما رينييه فيرفض الإذعان لهذه القيود، ويدافع عن حرية الأديب، وعما يجب أن يتمتع به العبقري النابغ من حقوق في الابتكار هي فوق كل قاعدة وكل قانون. وأسلوب رينييه فيه قوة وطلاقة، لكنه كثيرا ما يكون مهلهل الديباجة وفيه أخطاء لغوية ، نعم إنه يقدم لذلك بقوله إن ما يبدو في أدب النوابغ من إهمال هو نفسه الدليل على مواضع نبوغهم، لكننا حتى إن سلمنا معه بصدق هذا الرأي، فلا يسعنا إلا أن نلاحظ أن مواضع إهماله وخطئه أكثر من أن تغتفر.

وإمعانا في الخروج على ماليرب، كان رينييه كثيرا ما يجري المعنى في القصيدة من وحدة زوجية إلى الوحدة التي تليها، ولا يحرص على أن يتم المعنى في كل وحدة كما أوصى ماليرب، وهذا مثال من شعره:

مقطوعات

إن كانت عيناك تلمعان نورا وغراما،

فقد كانتا لقلبي الذي استعبدته ضراما،

وإن كنت أجثو لعينيك كما أجثو لنجم أقدس،

فلماذا لا تحبينني؟ •••

وإن كان قد خلع عليك الجمال جلالا

فينبغي - كالزهرة فوق العشب تذوي ذبولا -

من بطش الفصول وعنفها أن تعاني،

فلماذا لا تحببني؟ •••

أتريدين أن يكون فيض الغرام من عينيك

هبة من الطبيعة بغير جدوى علي ولا عليك!

فإن كان الغرام - مثل الله - على الجميع يفيض،

فلماذا لا تحبينني؟ •••

أم تنتظرين يوما يتولاك فيه الندم،

إن في ذلك حرمانا لنا من كثير من النعم،

وما دمنا نعيش من عمرنا في أحلاه،

فلماذا لا تحبينني؟ (1-3) بوالو

Boileau (1636-1711م)

ولكن ماذا تجدي ثورة «رينييه» على «ماليرب» والعصر كله يتجه الوجهة التي وجدت في «ماليرب» لسانا معبرا؟ لقد أخذت تعاليم «ماليرب» تزداد رسوخا واتساعا، حتى إذا ما انقضى بعد موته نصف قرن جاء أديب آخر فأكمل رسالته، أديب يحتل في الأدب الفرنسي مكانة عالية، دان له الشعر في فرنسا، بل في أوروبا كلها حينا من الدهر؛ إذ أصبحت قواعده في النقد مقياسا يؤمن بصدقه الشعراء، فتستطيع أن تعده بحق ممثل المذهب الاتباعي (الكلاسيكي) في الأدب والمعبر عن أصوله وقواعده .

ولد «بوالو» في باريس، وكان في شبابه يعد لوظائف الكنيسة، لكنه لم يلبث أن انحرف بمجرى الدراسة إلى القانون، ثم عاد فترك دراسة القانون لينصرف إلى الأدب، وذلك حين مات أبوه وخلف له إرثا يكفيه مئونة العمل لاكتساب القوت، واشتغل «بوالو» بالنقد الأدبي خاصة، فأثار بنقده عداوة كثير من الأدباء المعاصرين، لكنه في الوقت نفسه اكتسب صداقة «موليير» و«راسين» و«لافونتين» كما ظفر برعاية الملك، ولبث بوالو أمدا طويلا يسير المجمع العلمي ويرسم له الطريق.

ويتألف نتاجه الأدبي من اثنتي عشرة رسالة، واثنتي عشرة سخرية، وطائفة من الأناشيد والحكم والقصائد القصيرة، وله كذلك آثار نثرية، غير أن ما يعنينا من إنتاجه كله قصيدتان: «منصة الخطابة»

8

و«فن الشعر».

9

أما «منصة الخطابة» فأساسها معركة نشبت بين رجلين في إحدى الكنائس على موضع منصة الخطابة، فاتخذ «بوالو» من هذه الحادثة موضوعا لقصيدة من «الشعر الحماسي الساخر»، وهو نوع جديد مبتكر من شعر السخرية في فرنسا سرعان ما انتقل إلى إنجلترا إذ اتخذ «بوب» - في أوائل القرن الثامن عشر - من قصيدة «منصة الخطابة» نموذجا احتذاه في قصيدته المشهورة «اغتصاب الخصلة»،

10

فقد كانت طريقة السخرية قبل ذاك أن يتناول الكاتب الساخر موضوعا حماسيا جادا رصينا، فيعالجه بطريقة تبعث على الضحك؛ إذ يسوقه في عبارات مبتذلة لا تتناسب مع جلال الموضوع، فجاء «بوالو» وقلب الطريقة بأن تناول موضوعا تافها، ثم عالجه بأسلوب جليل وقور يناسب الملحمة العظيمة، وإذن فأساس «الشعر الحماسي الساخر» أن يكون بين مادة القصيدة وأسلوبها فارق وتباين، فيمتنع التناسق والتناسب، فبدل أن كانت طريقة السخرية القديمة - كما قال بوالو - تجرى على لساني «ديدو» و«إينياس»

11

كلاما شبيها بما يجري على ألسنة السماكين والحمالين، أصبحت الطريقة الجديدة تجرى على ألسنة الحلاقين وزوجاتهم كلاما شبيها بما تبادله «ديدو» و«إينياس»، بل لا تكتفي طريقة «الشعر الحماسي الساخر» التي أدخلها بوالو في الأدب الفرنسي، على مجرد استخدام الحديث الذي يلائم الملحمة الكبرى في موضوع تافه، بل تستخدم أيضا تقاليد الملحمة وقواعدها كما جرى بها العرف في الآداب القديمة، فأحلام وحروب تجري على نمط الحروب الهومرية وهكذا.

وأما قصيدته الأخرى «فن الشعر» فموضوعها قواعد النقد الأدبي وأصول الشعر كما يجب أن تكون، وقد لبثت هذه القصيدة حينا طويلا من الزمان مرجعا هاما يرجع إليه الأدباء كلما مست بهم الحاجة إلى هداية في أصول الأدب الاتباعي (الكلاسيكي)، والقصيدة منظومة في أربعة أجزاء، فصلت في الجزء الأول منها القواعد العامة، كما روي فيها تاريخ قصير للشعر الفرنسي من «فيون» إلى «ماليرب» وخصص الجزآن الثاني والثالث لبيان أنواع الشعر، وما يضبط كل نوع منها من قوانين وقواعد، وأما الجزء الرابع فيقدم به بوالو وصفا لحياة الشاعر الخلقية والخلال التي ينبغي للشاعر أن يتحلى بها.

والمحور الرئيسي الذي يدور حوله مذهب بوالو هو أن الشاعر يجب أن يحذو حذو الطبيعة، أو بعبارة أخرى يهتدي بهدي العقل، وإنما أراد برأيه هذا أن الشاعر عليه أن يجتنب المبالغة والإسراف والشذوذ، وألا يحيد عما هو طبيعي ومعقول، والطبيعي المعقول هو ما يطابق سير الحياة المألوف، فمن المبادئ التي أخذ بوالو يكررها ويشرحها: «لا جميل إلا الحق، فالحق وحده محبب إلى النفوس.» إذ يعتقد أن سائر أصول الفن الشعري مستمدة من هذه القاعدة.

أراد «بوالو» للشاعر أن يستمع إلى ما يمليه العقل ليجيء قوله حقا يتفق مع ما يجري في الطبيعة، وأخذ يناقش هذا المبدأ ويشرحه حتى انتهى به الأمر إلى نتيجة غريبة، وهي أن لا مناص للشاعر عن محاكاة الآداب القديمة، إذ ما سبيل الشاعر إلى معرفة ما هو طبيعي معقول، كيف يميز بين الحق وغيره؟ لا سبيل إلى ذلك إلا أن يدمن الشاعر مطالعة الأقدمين حتى يكتسب الذوق الأدبي السليم، وتكون له ملكة الحكم الصحيح.

قد تقول: ولكن هذه القواعد الضيقة خانقة لحرية الأديب قاتلة لابتكاره، ولكنك إذ تقول هذا قد نسيت أننا نمهد لعصر طابعه الحكم المطلق الموحد في السياسة والأدب. (1-4) لافونتين

La Fontaine (1621-1695م)

ولد «جان دي لافونتين» في إقليم شمبانيا بفرنسا، من أب كانت له حراسة الغابات في إقليمه، وهو منصب لا بأس به، وورثه الابن عن أبيه، وشاءت الأيام لأديبنا ألا يتلقى من العلم إلا مبادئ لا تغني ولا تفيد، لكن سرعان ما اجتذبه الأدب إلى حظيرته، فأخذ يطالع الروائع الأدبية في مكتبة جده الغنية بالنفائس، فدرس آثار «مارو» و«رابليه» وغيرهما من أعلام الأدب في القرن السادس عشر، والعجيب أن لافونتين الذي خلقه الله كاتبا، لم يفكر في حمل قلمه إلا بعد زمن طويل أنفقه في القراءة، فكانت أول آثاره ترجمة عن «ترنس» المسرحي المعروف في أدب الرومان الأقدمين، ثم انتقل لافونتين من الريف إلى باريس، حيث لم يلبث أن سطع نجمه وذاع اسمه في عالم الأدب، وقد عاش في باريس عيش المستهتر الذي لا يأبه لشيء، ينشد متعة نفسه ولا يردعه في سبيلها أخلاق أو ضمير، وقد كان ذا صفات لطيفة، ظريفا خفيف الظل؛ فأحبه الأصدقاء وتعاموا عن جوانب ضعفه، وسرعان ما وجد من رعاة الأدب الأغنياء من يجعله في كنفه ويغدق عليه المال، فاكتفى بذلك، وأخذ يتنقل بين مشاهد الحياة كأنما هو الطفل سذاجة وصراحة واستخفافا بأعباء العيش، لكنه في حقيقة الأمر إنما كان ينظر إلى الأشياء بذلك البصر النافذ الذي يكشف عن كوامن النفوس، وقد تملكه إحساس قوي يعبث بالأشياء ويشعر بتفاهتها.

كان لافونتين أثناء إقامته في باريس يخالط أئمة الأدب في عصره: بوالو وموليير وراسين، فكان الأربعة يجتمعون على فترات منظمة في حانة أو في منزل، لكنه إلى جانب ذلك كان يعاشر صحبة السوء حتى تلوث اسمه، فكان ذلك سببا في أن يشير على الملك مشيروه ألا يأذن بقبوله عضوا في المجمع الفرنسي، فلما مات أحد الأعضاء، رشح لملء مكانه اثنان، هما لافونتين وبوالو، وهما - كما رأيت - صديقان حميمان، وكان القصر يؤيد بوالو والمجمع يفضل لافونتين، فاختاره المجمع دون زميله، فأرجأ الملك موافقته، وأوشك أن يرفض ما قرره المجمع، لولا أن خلا مكان جديد، فانتخب له بوالو وحل بذلك الأشكال، ومع ذلك فقد أشار الملك عند إعلان الموافقة على لافونتين إشارة لها مغزاها: «لكم أن تضموا إليكم لافونتين، فقد وعد أن يكون حكيما.» ولما اقترب لافونتين من ختام حياته تاب وندم على مجونه ومات سنة 1695م ورعا تقيا.

كتب لافونتين ملهاتين وعددا من القصائد، ولكنه خالد بمجموعة «قصصه»

12

و«حكاياته الخرافية».

13

أما «القصص» فقد استمدها من «بوكاتشو» و«أريوستو» و«مكيافلي» و«رابليه » وغيرهم من أدباء النهضة، كما استمد بعضها من الأدب اليوناني واللاتيني، وأخرجها لافونتين آيات روائع تتألق بعلائم النبوغ وتفيض بدلائل الفن، لولا ما يشيع فيها من إباحية كانت سبب شهرتها وذيوعها في عصر إباحي مستهتر، لكنه جاوز بإباحيته في «القصص» حد العصر، فلم يسمح أولو الأمر عندئذ بنشر آخر جزء من أجزائها.

وأما «الحكايات الخرافية» فهي آيته الخالدة التي اتصفت بكل ما اتصفت به «القصص» من مزايا، ثم سلمت بعد ذلك من نقائصها، ففيها ما في «القصص» من براعة الرواية وحسن الفطنة والسخرية والخيال والرشاقة والتنوع ومرونة النظم، ولا تشوبها شائبة من إفراط ومجون، فقد أثبت لافونتين أنه أمير «الحكاية الخرافية» في آداب العالم أجمع غير منازع، فلا يزال الناس ولن يزالوا يطالعونها في شوق ورغبة «فالطفل يغتبط بها لما في القصة من نضارة ونصوع، وطالب الأدب المتحمس يشوقه فيها الفن الرفيع الذي ينتظم رواية الحوادث، والرجل الذي حنكته تجارب الدنيا يستمتع بها لما فيها من لمحات دقيقة عن الحياة وأخلاق الناس».

14

لم تكن موضوعات «الحكايات الخرافية» من خلق لافونتين وابتكاره، فقد يتناول حكاية شائعة يتناقلها الناس في أحاديثهم، وقد ينقل حكاية قرأها لكاتب هنا أو كاتب هناك، وإنك لتعلم سعة اطلاعه من تنوع المصادر التي استمد منها تلك الحكايات، فبعضها شرقي، وبعضها من الأدب القديم، وطائفة من الأدب الوسيط، وأخرى من الأدب الحديث، ولكنك تقرأ القصة في قالبها الجديد، فكأنما هي جديدة مبتكرة؛ وذلك لأنه يستعير مادتها، ثم يخرج المادة المستعارة مطبوعة بطابعه موسومة بروحه وعبقريته، فنبوغ لافونتين - كما يقول «سانت بيف»

15 - في طريقة الأداء لا في مادة الموضوع.

والحكاية الخرافية في رأي لافونتين قوامها عنصران: الجسد والروح، فأما الجسد فهو القصة ذاتها، وأما الروح فما تدل عليه القصة من مغزى، وهو ينظر إلى القصة ذاتها نظرته إلى ملهاة تجري مجرى الرواية القصصية، وهو يصف «الحكايات الخرافية» في مجموعها بأنها ملهاة طويلة تشتمل على مائة فصل يختلف بعضها عن بعض، وما الأشخاص في هذه الملهاة الكبرى إلا صنوف الحيوان في معظم الأحيان، جريا على تقليد عرف في أدب الحكاية الخرافية منذ أقدم العصور، وجدير بنا في هذا الصدد أن نذكر حقيقة عن لافونتين، وهي حبه للحيوان ودقة ملاحظته لطرائق عيشه؛ لهذا كان بارعا في فنه صادقا في نظرته كلما عرض حيوانا في موقف من المواقف، ولم يكن أقل براعة وصدقا حين ساق في حكاياته أشخاصا من البشر. وليس ثمة فرق في حقيقة الأمر بين أن يعرض أفرادا من الحيوان أو أفرادا من الإنسان، فهو في كلتا الحالتين إنما يصور النماذج البشرية البارزة في عصره؛ يصور الملك ورجال حاشيته، ويصور رجال الدين ورجال القانون ورجال المال من «البورجوا» كما يصور الزارعين السذج وغيرهم من الطبقات، فالحكايات الخرافية التي خلفها لنا لافونتين من أصدق الصور الأدبية التي تعكس دقائق عصرها، ولا يفوقها في تصوير العصر من آثار ذلك العهد إلا ملاهي موليير.

وأما «روح» الحكاية الخرافية فهي - كما أسلفنا - مغزاها، لكنا نخطئ إن ظننا أن لافونتين كان يستخرج المغزى ليتخذه القارئ درسا خلقيا يهتدي به، فهكذا ظن بعض الناقدين وأخذوا عليه - مثلا - أن يعلم الناس الخضوع للظروف بدل الوقوف في وجهها، كما جاء في حكاية «السنديانة وقصبة الغاب»، إنه بمثل هذا يسجل ما هو واقع كما تشهد به التجربة، ولا يقرر قواعد الأخلاق كما يجب أن تكون، ومن الإجحاف أن نعيب على الكاتب تصويره للحياة الواقعة كما شاهدها ومارسها، فليس لافونتين بالأديب الذي يحصر نفسه وحياته في حدود العرف والتقليد، ولعل أكبر ما يميز «حكاياته الخرافية» عن حكايات السالفين - مثل أيسوب

16 - هو أن عنصر التعليم والإرشاد في أدبه ضئيل جدا إذا قيس بحكايات أولئك، فلافونتين متفرج يراقب الحياة بنظر ثاقب ناقد، فيرى منها وجه الرذيلة والحمق والنفاق، ثم يسخر مما يرى سخرية لاذعة، لكنها حلوة الفكاهة مستساغة.

ولئن عد أدب لافونتين اتباعيا بسبب إعجابه بالقدماء وعنايته الشديدة بالتجويد والصناعة، فهو في حقيقة الأمر لا يجري مع الاتباعيين إلى نهاية الشوط، لهذا الذي تراه في أدبه من حرية الابتكار والتنوع؛ فهو مثال فريد في أدب القرن السابع عشر.

وبعد، فكتاب «القصص» وكتاب «الحكايات الخرافية» وحدة يتمم أحدهما الآخر، بحيث يكونان معا «لافونتين» فلا تستطيع أن تحكم عليه بهذا الكتاب دون ذاك، وأهم ما يمتاز به الكاتب؛ أولا: أسلوبه من حيث المرونة والتنوع، وثانيا: سلاسة القصة في رواية منظومة، فليس يعوق النظم عنده مجرى الحوادث في سهولة وتدفق، وثالثا: براعته في الرمز والإيماء، ولهذه الحسنات في أدبه يكاد يستحيل على قارئ أن يقرأه ولا يفتن به. والعجيب أن «لافونتين» في غير قلمه غر ساذج، أما إذا حمل القلم ليكتب كان اللوذعي الحاذق المتعمق البصير بطبائع البشر، وهو في هذا شبيه بأديب إنجليزي سنحدثك عنه في القرن الثامن عشر، ونعني به «أوليفر جولد سمث».

17

ونسوق لك فيما يلي مثلا من «حكاياته الخرافية»:

بلاط الأسد

صاحب الجلالة الأسد يوما أراد

أن يعلن، على أي الشعوب حكمته السماء سيدا؛

فأرسل الرسل ينادي

تابعيه من كل جنس،

باعثا في أرجاء ملكه بكتاب،

وعليه خاتمه، ومضمون الخطاب

أن الملك سيعقد خلال شهر

مجلس البلاط كاملا وستكون الفاتحة

وليمة عظيمة باذخة،

يتبعها من القرد ألعاب!

فبمثل هذا الحفل العظيم

سيعرض الأمير ماله على الرعية من نفوذ،

وقد دعاهم إلى قصره

ويا له من قصر! مخزن فيه الأشلاء مكدسة،

تنبعث منها الرائحة إلى الأنوف، فزم الدب خيشومه،

ألا ما كان أغناه عن مثل هذا الزم،

فقد عاد عليه بالويلات؛ إذ استشاط الملك غيظا،

فأرسل الدب إلى «رب الجحيم» يتقزز بين يديه،

واهتز القرد من طرب لهذه القسوة الصارمة،

وامتدح غضبة الأمير عن رياء مفرط،

كما أعجبه من الأمير مخلب وعرين ورائحة،

ولم تكن الرائحة عنبرا ولا وردا،

لكن رياءه الأحمق لم يصب نجاحا، بل لقي شر الجزاء،

وكان السيد الأسد بهذا

شبيها «بكالجولا».

وكان الثعلب على مقربة، فقال له مولاه: «وأنت، ماذا تشم؟ خبر، تكلم ولا تخف شيئا!»

فاعتذر الثعلب من فوره،

متمارضا بالزكام الشديد، وليس في وسعه الحكم

بغير عضو الشم، وجملة القول أن تخلص الثعلب.

فليكن لك ذلك عبرة:

إن أردت في بلاط الملك أن تصادف القبول،

فلا تخلص الحديث ولا تمعن في نفاق مرذول،

وحاول ما استطعت أن تجيب بما فيه النجاة.

وقد نظمها محمد عثمان بك جلال فقال:

أرسل السبع إلى أهل الجبل

فأتى كل إليه ودخل،

ومغار السبع هذا جامع

رمة الجدي على لحم الجمل،

ورءوسا من عظام نشرت،

وجسوما من بقايا ما أكل.

دخل الدب ودارى أنفه

من أذى رائحة فيها ثقل

فرآه السبع في أحواله

معجبا فاغتاظ مما قد حصل!

عضه بالناب عضا مفرطا،

وله في محضر القوم قتل!

فرآه القرد مفري الحشا؛

فاعتراه الخوف من هذا العمل،

أخذ التمليق في أقواله

كلها خوفا على فقد الأجل!

قال: «ذي رائحة ممدوحة،

وكذاك الورد مؤذ بالجعل،

لم أجد للروض نفحا مثلها،

لا ولا للند نشرا في الجبل.

منزل السلطان مسك عرفه،

ولقد طاب الذي فيه دخل.»

وعلى كل فلم ينجح بما

زاد في إطنابه فوق الأمل،

ظنه السبع به مستهزيا؛

فتوضا من دماه واغتسل؛

ثم قام السبع يمشي بينهم،

فرأى الثعلب يزهو بالحيل،

قال يا ثعلب! قل لي ما ترى،

كيف ريح الغار؟ قال: لا تسل؛

فإلى السلطان أنفي اشتكى

لزكام فيه من أمس نزل،

فعفا عنه وولى خارجا

يوسع الأصحاب ضربا بالمثل؛

جانب السلطان واحذر بطشه

لا تعاند من إذا قال فعل (2) الأدب المسرحي

لا يسعنا ونحن نروي قصة الأدب في العالم أن نهمل طائفة من رجال الأدب المسرحي في فرنسا في القرن السابع عشر، كان لهم الفضل في شق الطريق ووضع الأصول. فنبدأ الحديث «بكورني» الذي يعد أبا المأساة الاتباعية في الأدب الفرنسي، ولكننا لا نبدأ القول في «كورني» حتى نوضح للقارئ أسس المأساة الاتباعية (الكلاسيكية) التي تنسب الأبوة فيها لهذا الكاتب العظيم.

المأساة الاتباعية تنسج على منوال المسرحية اليونانية وتقوم على مبادئ أرسطو التي فصلها في كتابه عن الشعر، هذا من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فقد سارت المأساة الاتباعية على نهج المآسي اللاتينية التي خلفها «سنكا»، والتي تمثل المبادئ اليونانية في صورة جافة متطرفة، مع التجاوز عن نقطتين لم يذهب فيهما شعراء القرن السابع عشر مذهب القدماء؛ الأولى: عناية هؤلاء المحدثين بإدخال عنصر الحب في مسرحياتهم، وهو عنصر كادت تخلو منه المسرحية في الآداب القديمة، والثانية: إهمالهم للجوقة التي كانت جزءا هاما في المسرحية القديمة، والتي كانت وسيلة الكاتب للتعليق على الحوادث، وإنما أهمل المحدثون الجوقة وأسقطوها من مسرحياتهم لما رأوا عبئا يعطل سهولة السياق وسلاسته.

استثن - إذن - هاتين النقطتين اللتين اختلف فيهما المحدثون عن نماذج القدماء، ثم قل بعد ذاك إن المسرحية الفرنسية في القرن السابع عشر اقتفت أثر «سنكا» في كل شيء، فكانت «أرستقراطية» مادة وقالبا، موضوعا وأسلوبا، فتستمد موضوعها من أمجد ما خلد التاريخ وما روت الأساطير، وبخاصة تاريخ اليونان والرومان وأساطيرهم، وتختار أشخاصها رجالا عمالقة يسمون برءوسهم فوق مستوى العامة، وما دام الموضوع والأشخاص على هذا النحو من العظمة والجلال، فلا بد أن يكون الأسلوب فخما رنانا ينم عن البطولة السامقة، ولا بد أن تكون الألفاظ من أول الرواية حتى ختامها مختارة منتقاة بعيدة عن ألفاظ الحديث الدارج المألوف المبتذل، وفي هذه المسرحية الاتباعية ترى الخطب الطويلة القوية تأخذ مكان الحوار الطبيعي والعمل والحركة، فالمذهب الاتباعي يرفض أن يقع على المسرح فعل عنيف كالقتال والقتل. نعم قد يكون في صلب الرواية حادثات مثيرة مروعة، لكنها لا تمثل على المسرح، إنما تروى للنظارة نبأ من الأنباء، وهذا في حد ذاته عامل جديد يزيد من ضرورة العبارة الفخمة القوية. فإذا لم ترد لنظارتك - مثلا - أن يشهدوا مصرع بطل أو معركة عنيفة أو مبارزة تشتد فيها الحماسة وتشتعل، فلا أقل من أن تروي لهم هذه الحوادث بأسلوب رنان يعوض ما فقدوه، ومن هنا اشتدت عناية المأساة الاتباعية ببلاغة الأسلوب على حساب العنصر المسرحي الحقيقي، وهو الحركة والعمل. كذلك كان من خصائص المسرحية الاتباعية التوحيد، فإن كانت مأساة فيجب ألا يدخلها غير الأسى من الفاتحة إلى الختام، ولا يجوز أن تخفف الفواجع بالهزل والنكات. وأخيرا عنيت المسرحية الاتباعية بالوحدات الثلاث عناية كبرى، وقد وضحنا معنى هذه الوحدات الثلاث في موضع سابق من هذا الكتاب، لكنا نعود فنوجز شرحه ليتضح معنى ما نريد، فالوحدات الثلاث المشهورة في الأدب المسرحي، هي وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة العمل، أما وحدة المكان فتشترط أن تقع حوادث الرواية كلها في مكان واحد، وكلما ضاقت حدود هذا المكان الواحد كانت الرواية ألصق بأصول المذهب الاتباعي، كأن تقع الحوادث في حجرة واحدة مثلا، على أن ذلك متعذر بل مستحيل في كثير من الأحيان؛ ولهذا يتجاوز الاتباعيون فيه قليلا فيجيزون أن تقع الحوادث في منزل ذي غرف عدة، أو في مدينة بأسرها. وأما وحدة الزمان فتشترط أن تقع حوادث الرواية في أربع وعشرين ساعة، وقد يتجاوز الاتباعيون في هذا أيضا، فيجعلون زمان الرواية نهارين بينهما ليل واحد أو نحو ذلك. وأما وحدة العمل فيراد بها أن يكون في الرواية حبكة واحدة، أو سلك واحد للحوادث، ولا يجوز أن تتداخل حبكتان في رواية واحدة.

واتباع مذهب الوحدات الثلاث يؤدي إلى بعض النتائج في تأليف الرواية المسرحية، منها ضرورة البساطة في الموضوع المختار، حتى لا تتطلب حوادثه أكثر من مكان واحد، وأكثر من يوم واحد. وبساطة الموضوع تقتضي بدورها قلة عدد الأشخاص في الرواية. ومن هنا كان من أبرز خصائص المسرحية الاتباعية قلة أشخاصها، وتمتع كل شخص بقسط أوفر من عناية الكاتب. ومنها أنه لما كان متعذرا أن تجد حادثة هامة تبدأ أسبابها وتنتهي نتائجها في يوم واحد، كان لزاما على الكاتب أن يأخذ من الحادثة المختارة نتائجها مهملا أسبابها، فيعرض على نظارته الختام دون البداية. ولعلك تدرك أن هذه الخصائص: قلة الأشخاص وتصويرهم في موقف واحد من مواقف الحادثة ، واستبعاد الحركة والعمل من المسرح، والاكتفاء بالأخبار عما يفرض وقوعه من الحوادث؛ لعلك تدرك أن هذه الخصائص تفقد الرواية قوة الحياة، ومن هنا كانت المسرحية الاتباعية جامدة ساكنة تخلو من النمو والتطور، تنظر إليها ممثلة فتكون أقرب إلى لوحات مرسومة من حياة نامية متطورة في حركة دائمة.

تلك قيود يرفضها الذوق الأدبي الحديث، ولكن في مثل هذه القيود كتب كاتبان من أعظم رجال المأساة في آداب العالم، هما «كورني» و«راسين». (2-1) كورني

Corneille (1606-1684م)

ولد «بيير كورني» في «روان»

18

من أسرة اشتغل كثير من أبنائها في القضاء، فدرس القانون في كلية يسوعية في بلده، وتخرج فيها محاميا، لكنه لم يلبث أن ترك المحاماة لينصرف إلى أدب المسرح، بعد أن طبعه الاشتغال بالقانون بطابع لازمه في مسرحياته، تراه واضحا في المناقشات والمرافعات التي تصادفك هنا وهناك.

بدأ حياته المسرحية بملهاة «مليت»،

19

التي أخرجها وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وصادفت نجاحا كان أكبر حافز له على المضي في طريق الأدب المسرحي، ولفتت إليه أنظار وزير فرنسا الأكبر «ريشيلو»، فجعله واحدا من خمسة شعراء استخدمهم لتنفيذ سياسته، لكن «كورني» لم يتحرج يوما من نقد الوزير، فكان في ذلك ختام ما بينهما من صلة، وكان ذلك سنة 1634م إذ بلغ شاعرنا الثامنة والعشرين من عمره، ثم لم يمض على ذلك الحادث عام واحد، حتى أخرج أولى مآسيه «ميديه»،

20

ثم عام آخر حتى ارتجت باريس لمأساته العظيمة «السيد»،

21

التي تعد باكورة ما أثمرت المدرسة الاتباعية من آيات.

استمد «كورني» موضوع «السيد» من مسرحية إسبانية كتبها عن ذاك البطل كاتب يدعى «دي كاسترو»، لكن الرواية في أصلها الإسباني أبعد ما تكون عن الأصول الاتباعية التي بسطناها منذ قليل، فهي كثيرة الشخصيات دائمة الحركة، ولا تقيد نفسها بقيود الوحدات الثلاث؛ فلكي يجعلها «كورني» صالحة متمشية مع قواعد المذهب الاتباعي الذي كان يتحكم في الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، أخذ يشذب أطرافها، فيقلل من حوادثها ومن أشخاصها، بحيث لا يبقي من الأشخاص والحوادث إلا ما يمس الموضوع الرئيسي مسا مباشرا، وحذف ما يضطره إلى إحداث العمل أمام نظارته، فاستبدل بالمعركة التي تنشب بين البطل وبين الجيش العربي خطبة طويلة يصف فيها «السيد» - البطل - ما دار في تلك المعركة. وقيد كورني روايته بحدود المكان والزمان، فمكانها واحد وزمانها يوم، ومع ذلك الجهد كله في التغيير والتحوير لم يوفق كورني في جعل مسرحيته اتباعية خالصة، وظلت فيها عناصر لا تتمشى مع قواعد هذا المذهب، فلم يسع المجمع الفرنسي الذي كان له الإشراف على الحركة الثقافية والأدبية كلها إلا أن ينقدها ويبين مواضع الخطأ والضعف فيها، فقد سمح «كورني» لنفسه أن يجعل والد البطلة «شيمين»

22

يصفع والد البطل «السيد» على مرأى من النظارة، وفي هذا خروج على قواعد الاتباع، وفضلا عن ذلك فقد جعل «كورني» زمان روايته يوما واحدا، لكنه سرد من الحوادث ما يستحيل أن يقع في يوم واحد، فخرج بذلك على وحدة الزمان بمعناها الصحيح. هكذا وجهت الهيئة الأدبية الرسمية نقدا «رسميا» إلى رواية «السيد»، لكن ذلك لم يحل دون نجاحها الباهر، غير أنه في الوقت نفسه علم «كورني» درسا أن يكون فيما يلي من مآسيه أكثر عناية وأشد حذرا، حتى لا يخرج على المذهب الأدبي المقرر مثل هذا الخروج!

نعم تعلم «كورني» مما لقي من نقد المجمع الفرنسي لرواية السيد أن يكون أشد «اتباعا» مما كان، وذلك ما وفق إليه في مآسيه الأربع «هوراس»

23

و«سنا»

24

و«بوليكت»

25

و«موت بومبي»،

26

وحسبك أن تطالع هذه الروايات الأربع مع روايتين أخريين هما «نيكوديم»،

27

و«الكذاب»

28

لترى «كورني» في أعلى ذراه، وهذه المسرحية الأخيرة «الكذاب» ملهاة، وهي خير ملهاة شهدها المسرح الفرنسي قبل موليير. بهذه المسرحيات الجيدة الرائعة بلغ «كورني» مجده الأدبي، فلم تمض سنوات قلائل حتى عين عضوا في المجمع الفرنسي، وكان له من العمر إذ ذاك إحدى وأربعون سنة، فتم له بذلك كل ما يرجوه أديب أو عالم من عظمة ومجد. وبينا هو يتمتع بكل هذه المكانة الرفيعة، إذا به يخرج مسرحية جديدة «برثاريت»

29

لم تصادف حسن القبول، فكان لفشله صدمة عنيفة في نفسه لم يحتملها؛ فأوى إلى بلده «روان» ليختفي عن الأنظار! وهناك ملأ فراغه بشيئين؛ الأول: إخراج مؤلفاته كلها في طبعة عليها نقد وشرح. والثاني: نظم أثر أدبي جليل ظهر في بواكير النهضة الأدبية في فرنسا، وهو كتاب «محاكاة المسيح» لتومس أكمبس،

30

وقضى أديبنا في عزلته ما يدنو من عشر سنوات عاد بعدها إلى الكتابة للمسرح، لكنه لم يستطع قط أن يبلغ القمة التي كان قد بلغها من قبل.

على الرغم من أن «كورني» يعد أبا المأساة الاتباعية في فرنسا، وعلى الرغم من أنه استطاع في «هوراس» و«سنا» و«بوليكت» أن يضرب المثل الأعلى للمسرحية الاتباعية في أدق أوضاعها وأصولها، فقد كان بطبعه يميل بعض الميل إلى الخروج على هذه الأوضاع والأصول التي تقيد الكاتب بأغلالها، فهو بطبعه «ابتداعي» (رومانتيكي) إلى حد ما، ترى ذلك في مأساته «السيد» التي هاجمها المجمع الفرنسي لخروجها على قواعد المذهب الاتباعي، كما تراه في المقدمات القيمة التي قدم بها مجموعة مسرحياته، وهو في عزلته في «روان»، وتراه في مقالات ثلاث كتبها على فن المسرحية، ففي هذه المقدمات والمقالات كانت وجهة نظره أن يتخفف الاتباعيون من قيودهم بعض الشيء، وألا يسرفوا في تطبيق وحدتي الزمان والمكان، فليس حتما أن يكون الزمان يوما واحدا، وليس حتما أن يكون المكان منظرا بعينه لا يتغير.

ومهما يكن من أمر هذه النزعة الفطرية عند «كورني» نحو المسرحية الابتداعية والتحلل من قيود الاتباع، فقد أخرج للناس أمثلة بارعة لما تستطيع المسرحية أن تبلغه، وهي في قيود المذهب الاتباعي، وكان محور فنه فيها أن ينصرف بعنايته إلى ما تضطرب به صدور شخصياته من عواطف متضاربة، وبهذا أمكنه أن يستغني عن مجرى الحوادث الخارجية إلى حد كبير - ومع ذلك فقد استخدم في رواياته من الحوادث الخارجة عن نفوس الأشخاص أكثر مما فعل راسين - نقول إن كورني ركز معظم اهتمامه في تحليل ما يدور في نفوس أشخاصه من العواطف المضطرمة والنوازع والدوافع المتعارضة المختلفة، وخصوصا بين ما تمليه العاطفة وما يمليه الواجب، وكان دائما يجعل النصر في مثل هذا الصراع للواجب على العاطفة، ففي «السيد» صراع بين ما يقتضيه الشرف وما يمليه الحب، ينتصر فيه الشرف آخر الأمر، وفي «هوراس» صراع بين ما توجبه الوطنية وما توحي به روابط الأسرة، تنتصر فيه الوطنية آخر الأمر، وفي «سنا» و «نيكوديم» صراع بين المرء ونفسه، ينتصر فيه صوت العقل والواجب على إغراء الرغبة والعاطفة، فكورني يدعو في مسرحياته كلها إلى الشجاعة الأدبية التي تعلو بإرادة الفرد على كل ما عداها من دوافع، والطابع الذي يميز أشخاص مسرحياته - سواء أكانوا ينزعون إلى الخير أو ينزعون إلى الشر - هو أنهم جميعا ذوو نفوس كبيرة تسمو على الطراز البشري المألوف، هم نماذج من الإنسان أعلى من متوسط الإنسان، فهم - لذلك - شواذ بعلوهم، يضعهم الكاتب في ظروف شاذة ليست كالظروف التي تجري بها الحياة كل يوم، فينتج من ذلك أن يكون صراعهم النفسي شاذا فريدا، فالمبالغة - التي هي من خصائص الفن الابتداعي - صفة بارزة في فن كورني. ولما كان ينزع بفطرته إلى القوة والبطولة في أشخاصه، كان بالطبع أجود وأبرع في عرض الرجال وتحليلهم منه في عرض النساء؛ لأن القوة والبطولة تتمثلان في الرجال دون النساء، ولهذا لم يحسن كورني معالجة الحب في رواياته، بل إن من عرضن من النساء عند كورني أقرب إلى الذكورة منهن إلى الأنوثة في أخلاقهن، فهن متكبرات طامحات شامخات بأنوفهن إلى السماء راغبات في السيطرة والنفوذ.

لم يكن كورني مطرد الجودة فيما أنتج، فله الجيد وله الرديء، وهو في جيده يعلو حتى لا يلحق في ارتفاعه، وفي رديئه يسفل حتى يزدرى، بل إنا في رواياته الجيدة نفسها نراه يزل أحيانا في مواضع لا ترى فيها إلا لفظا رنانا لا هو بالشعر الجيد، ولا هو بالحوار الحي الصالح للمسرحيات، ومن نواحي ضعفه أنه كثيرا ما يستطرد في مناقشات دقيقة عميقة يجريها على ألسنة قوم لا تحتمل شخصياتهم مثل تلك الأمور الذهنية المجردة، لكنك - رغم هذا كله - تقرأ مسرحياته الجيدة فتراه إذا ما سطعت فيه شعلة النبوغ أبدع وأجاد، وفي هذه اللمعات الخاطفة يقول صديقه موليير: «إن لصديقي كورني شيطانا يهبط عليه آنا بعد آن فيهمس له بأروع ما يعرفه العالم من شعر، لكن شيطانه هذا قد يهجره أحيانا، وعندئذ تراه فيما يكتب لا يفضل أحدا من الناس.» (2-2) راسين

Racine (1639-1699م)

ولد «جان راسين» الذي كان يصغر منافسه العظيم كورني بنيف وثلاثين عاما في بلد قريب من «سواسون».

31

وماتت أمه ثم مات أبوه وهو لم يزل في طفولته، فكفله جداه وربياه تربية كاملة، حتى أتم دراسته. ولبث بضع سنوات وهو في حيرة أي طريق يختار في حياته. أما ذووه فقد أرادوا له وظيفة دينية تدر عليه كسبا منظما. وأما هو فكان بطبعه نفورا من مثل هذا، وأخيرا شاء له الحظ الباسم أن يبل الملك من مرض ألم به، فكتب شاعرنا قصيدة في ذلك صادفت إعجابا، فأجرى عليه راتبا يكفيه، وكان له إذ ذاك خمسة وعشرون عاما من عمره. وفي السنة نفسها أخرج رواية «تبائيد»،

32

ثم لبث بعدها ثلاثة عشر عاما يخرج الرواية تلو الرواية. وكان «راسين» يحظى عند الملك وتابعيه بمكانة ممتازة، أما عند الخبيرين بالنقد الأدبي، فكان هو وكورني يتنافسان في الزعامة؛ ففريق يؤثر هذا وفريق يفضل ذاك. ومن بين مآسيه «الإسكندر الأكبر» و«أندروماك» التي ارتجت لها باريس كما ارتجت منذ إحدى وثلاثين سنة لرواية كورني «السيد»، فقد ظهرت في هذه الرواية خصائص راسين ودلائل نبوغه، وأعقب هذه المأساة ملهاة «المترافعون»،

33

التي سخر فيها بالقانون سخرية لاذعة، ثم أخرج بعد هذه الملهاة ست مآس «برتانكيس»

34

و«برينيس»

35

و«بايازيد»

36

و«متريدت»

37

و«إفجينيا»

38

و«فيدر».

39

وفشلت هذه الأخيرة حينا، فاضطربت لهذا الفشل نفسه الحساسة التي لم تكن تحتمل النقد، فنفض يديه من الأدب المسرحي، وتزوج وعاش عيشا هادئا دام عشرين عاما، ولم يكتب بعد ذاك إلا روايتين تصطبغان بصبغة دينية، كتبهما بدعوة من «مدام دي مانتنون»

40

لتمثلهما الطالبات في معهدها، وهما «إستير»

41

و«آتالي».

42

كان «راسين» من أولئك الشعراء الذين لم يهبهم الله قدرة الابتكار في الموضوعات، لكنه وهبهم قدرة أخرى في سعة وإفراط، ونعني بها قدرة النسج على منوال موجود والكتابة على غرار مثل ونماذج سبقتهم إلى الوجود، ويحضرنا من هذا الفريق من الشعراء «فيرجيل» في الأدب الروماني القديم، و«بوب» في الأدب الإنجليزي في مستهل القرن الثامن عشر. لهذه الطائفة من الشعراء قدرة عجيبة على تناول النماذج الأدبية بالتعديل والتبديل، بحيث تلائم ملكاتهم، وكثيرا ما يسمون بما ينتجونه عن النموذج المحتذى، فأمثال هؤلاء الشعراء يستحيل وجودهم بغير سلف يضرب لهم المثال، ثم يكاد وجودهم يستحيل كذلك بغير ناقد معاصر يأخذ بأيديهم ويهديهم سواء السبيل، وكان راسين مجدودا في السلف الذي يحتذيه، كما كان مجدودا في الناقد الذي يهديه، أما سلفه الذي شق له الطريق وظل يعبده له ويمهده ثلاثين عاما فهو «كورني»، وأما ناقده المرشد الهادي فهو «بوالو» الذي وهب القدرة على الهداية والإرشاد.

لهذا جاء «راسين» في فن المأساة الاتباعية ماهرا بارعا صناعا، وكانت دقة الصناعة أروع ما فيه، فالقواعد الصارمة التي ضجر بها كورني وأبهظته بعبئها، لاءمت «راسين» وطابقت فنه وميوله، فقد التزمها وراعى أصولها لا كما يلتزم الإنسان قانونا مفروضا عليه من قوة خارجة عنه، بل كما يطيع الفنان رغبة فطرية وميلا طبيعيا يصدر عن النفس في غير حرج ولا ضيق، فلست ترى في مسرحياته تفصيلات معقدة وتشعبات مركبة لمجرى الحوادث؛ لأن المثل الأعلى الذي كان يرمي إليه، ووضعه نصب عينيه هو تركيز الانتباه والمجهود في موضوع بسيط لا تتشعب منه الفروع. وعنده أن كثرة الحوادث في مسرحية ما - تلك الكثرة التي يبتكرها الكاتب المسرحي ليظفر بانتباه النظارة - ليست دليلا على خصب الخيال بمقدار ما هي برهان على نضوب العبقرية وإفلاسها، فالشاعر الحق مستطيع - في رأي راسين - أن يمسك من النظارة انتباههم ويسترعي التفاتهم، بحيث لا يفتر ولا يزول خلال فصول الرواية الخمسة «بحوادث بسيطة تؤيدها العواطف الحادة والمشاعر الجميلة والتعبير الرشيق». وبناء على رأيه هذا في المسرحية، تراه يختار لروايته أزمة نفسية واحدة تكون عواطف الأشخاص عنده على أحدها وأرهفها، وتكفي لديها الحادثة اليسيرة لتستتبع الكارثة. ولئن كانت مسرحيات «كورني» تعالج الصراع النفسي الذي تنشب دوافعه في طوية الشخص ودخيلته، دون صراع الشخص مع الحوادث الخارجية المحيطة به، فقد كان «راسين» في هذا الاتجاه أبعد مدى، فالحوادث الخارجية - عند راسين - لا قيمة لها في ذاتها ، وكل قيمتها أنها سبب أو نتيجة لما تضطرب به نفوس أشخاصه من العواطف المصطرعة. ثم يختلف راسين عن سلفه كورني في أنه جعل الحب دافعا رئيسيا في سلوك أشخاصه، ولم ينظر إليه نظرته إلى الحافز الثانوي التافه كما فعل كورني، ولكنه بالطبع لم يقصر الحوافز على الحب، بل أفسح المجال هنا وهنالك لغيره من الدوافع كالولاء والطموح على أنها هي العوامل الثانوية إلى جانب الحب؛ ففي كل مسرحية من مسرحياته مشكلة غرامية، وتكاد مشكلاته الغرامية تتخذ صورة واحدة؛ فشخص يحب شخصا لا يبادله الحب؛ لأنه يحب ثالثا، وما يتبع ذلك الموقف العاطفي المعقد هو موضوع الرواية، لكن هذه المشكلة الواحدة التي لا تتغير في جوهرها تتخذ في الروايات المختلفة صورا متباينة بتفصيلاتها، وقد كان طبيعيا مع هذا الاختلاف بين راسين وكورني في نظرتهما إلى الحب، أن يكون راسين أنجح من سلفه في تصوير النساء، بل لم ينجح راسين في تصويره للرجال بقدر ما وفق وأجاد في تصوير النساء.

وظاهرة أخرى نلاحظها في أدب راسين، وهي أنه يميل إلى تصوير الواقع، وهنا قد يختلط الأمر على القارئ، إذ يراه في رواياته يرسم عالما أبعد ما يكون عن هذا العالم الذي نعيش فيه، لكن النظرة الفاحصة سرعان ما ترد الأمر إلى الصواب، فلقد رأينا أن «كورني» ينزع بطبعه إلى اختيار الشواذ، ثم يحيطهم بالمواقف الشاذة، فتكون العواطف الناشئة في نفوسهم عن تلك المواقف شاذة أيضا. أما راسين فيختار من الأشخاص والمواقف والعواطف ما يطابق الطبيعة البشرية، ولا عبرة بعد ذلك بأي الأشخاص والمواقف يختار، إنه لا يميل إلى المبالغة والتهويل اللذين لمسناهما في كورني؛ لأن المبالغة من خصائص الأدب الابتداعي ، وراسين اتباعي صميم لحما ودما، فلا مبالغة ولا إسراف في تصوير الناس ووصف ما تجيش به صدورهم، قد يختار راسين موقفا من عهد غابر وأشخاصا انقضى زمانهم، لكن ليتخذ منهم وسيلة يبرز بها الطبيعة البشرية كما نعهدها بقوتها وضعفها، فتحت ستار من الأوضاع التقليدية للمأساة تتبين الحوافز التي تدفع الناس إلى العمل في الحياة الواقعة التي تحيط بنا.

ولعل أكبر عيب في الأدب الفرنسي إطلاقا هو أنه أقرب إلى تصوير النماذج البشرية منه إلى تصوير الأفراد. ولقد قيل - وحقا ما قيل - إن واجب الفن هو أن يصور الجنس في الفرد، أي أن يبلور الكلي في الجزئي، فالفن الصحيح إذ يقدم لك شخصية إنما يقدم لك نوعا بأسره من الجنس البشري ممثلا في تلك الشخصية، ولكن هذه المهمة شاقة عسيرة؛ لأنه ينبغي للفنان أن يعلم أين يقف بين التعميم والتخصيص، فخطأ الأدب الفرنسي عند بعض رجاله هو أنه يسرف في التعميم، ويهمل التخصيص والتشخيص إلى حد كبير. كما أن عيب الأدب الإنجليزي والأدب الألماني هو أنهما - على عكس ذلك - ينصرفان إلى تصوير الفرد الجزئي، فيهملان النوع المتجسد في ذلك الفرد. ولنعد الآن إلى شاعرنا «راسين»، فلو أنك محوت الأسماء من إحدى مسرحياته ووضعت مكانها الألفاظ الدالة على الأنواع، فقلت بدل زيد وعمر وهند «محب» و«أم» و«طاغية» وما إلى ذلك لما تبدل في الرواية شيء؛ لأن زيدا وعمرا وهندا لم يكونوا عند الشاعر أفرادا لهم خصائصهم الجزئية المميزة لهم دون سائر الأفراد، بل كانوا رموزا لنماذج وأنواع. قد تقول: ولكني مع ذلك أقرأ راسين فأجدني بإزاء أشخاص لهم فرديتهم مثل «أندروماك» و«هيرميون» و«فيدر» و«أخيل» و«برينيس» و«أتالي»، فكل من هؤلاء «فرد» يتميز من سائر أفراد طائفته، فليست كل «أم» مثل أندروماك، وليست كل «حبيبة» مثل برينيس، وهذا صحيح على اعتبار واحد، هو أن طائفة الأمهات التي منها أندروماك، والتي تميز أندروماك عن سائر أفرادها، إنما تمثل مجموعة من النماذج المختلفة للأمهات، ولا تمثل مجموعة من أفراد مشخصين. وصفوة القول أن «راسين» - كغيره من الأدباء الفرنسيين - يصور بأشخاصه أنواعا فيفقدهم كثيرا من الحياة؛ لأنك تراهم فلا تحس أنهم كصحبتك وجيرتك، لكنك ترى في شيكسبير أشخاصا «كهاملت» و«عطيل» و«فولستاف» فترتبط بينك وبينهم الأواصر كأنهم ناس من الناس؛ وذلك لأن طريق راسين ينعكس عند شيكسبير، فها هنا يستخرج الشاعر من أنماط البشر أفرادا، هو يرى الفرد خلال النوع، ولا يرى النوع خلال الفرد كما فعل راسين.

ولعلنا في هذا الموضع نحسن صنعا لو أجرينا موازنة سريعة بين شيخ المأساة الاتباعية «راسين» وشيخ المأساة الابتداعية «شيكسبير»، ففيها توضيح لمذهبين أدبيين، وفيها تمييز بين الفن الذي ساد في إنجلترا، والفن الذي ساد في فرنسا، فإذا أردنا أن نركز الفرق بين المسرحية عند شيكسبير وبينها عند راسين في كلمتين اثنتين، قلنا إن الأولى طابعها «الشمول» والثانية طابعها «التركيز»؛ الأولى تضم ما استطاعت أن تضمه من أوجه النشاط الإنساني، والثانية تحدد لنفسها غرضا تسير إليه في خط مستقيم لا عوج فيه، الأولى لا تتقيد بوحدات الزمان والمكان والموضوع، والثانية تلتزم هذه الوحدات ولا تحيد عنها.

خذ مثالا لشيكسبير «أنطون وكليوبطره» ومثالا لراسين «برينيس»، والمقارنة بين هاتين الروايتين عادلة؛ لأنهما - على اختلافهما في الطريقة - متحدتان في الموضوع، فكلاهما يعالج محبين لهما مكانة ممتازة، وكلاهما يجعل المأساة في تعارض ما يقتضيه الحب وما تقتضيه ظروف الحياة، وكلاهما تقع حوادثه أيام عظمة الرومان، ويرتب على أقدار الأفراد أخطر النتائج بالنسبة للدولة. أما رواية شيكسبير فطافحة بأوجه النشاط الإنساني ومترعة بألوان الحياة على اختلاف ضروبها، تطالعها فتحسب أن الشاعر لم يدع من الدنيا شيئا لم يصوره، فالأشخاص في الرواية مختلفة أنواعهم وطبقاتهم: منهم قادة الجيش، والوصيفات، والأميرات، والقراصنة، والساسة، والمزارعون، والخصيان والأباطرة، ترى في الرواية كل هؤلاء ومئات غير هؤلاء، بل حسبنا أن يكون بعض الأشخاص «كليوبطره» بتعدد جوانبها وتشعب نواحيها، ويستحيل - طبعا - أن يعرض الكاتب لهذا الحشد العظيم من الشخصيات، دون أن يكون إلى جانبها مئات الحوادث، فمأساة «أنطون وكليوبطره» زاخرة بحوادثها، ففيها المعارك والدسائس والزواج والطلاق والخيانة واختلاف الأصدقاء وائتلاف المتخاصمين والموت، وهذا العالم الزاخر بحوادثه يمتد في الرواية على أمد طويل من الزمن، ويشمل رقعة واسعة من الأرض، فترى مشهد الحوادث في الإسكندرية آنا وفي روما آنا آخر، وينتقل إلى أثينا، ثم إلى مسينا. ولقد وقف بعض الناقدين إزاء هذا التغير السريع والانتقال المفاجئ في حوادث الرواية موقف المشفق على «وحدة المكان» أن يصيبها هذا التفكك الشديد، لا سيما أن الشاعر لا يتحرج من أن يعرض عليك منظرا لا يدوم أكثر من بضع دقائق، تشهد فيه جيشا رومانيا يخوض أرض سوريا، فيعد هؤلاء الناقدون ذلك تحديا للوحدات التقليدية لم تبرره الظروف، ناسين أن بمثل هذه النفحات الفنية واللمسات العبقرية استطاع شيكسبير أن يعرض على نظارته صورة قوية للقلقلة التي شملت أرجاء البلاد جميعا، فيحسون انهيار الإمبراطوريات واندثار العروش.

ننتقل الآن إلى رواية راسين «برينيس»، فنرى الأمر كالنقيض مع نقيضه، فالمأساة كلها تقع في غرفة واحدة صغيرة، وحوادث الرواية تتطلب لحدوثها في عالم الواقع زمنا لا يكاد يزيد على زمن تمثيلها ساعتين ونصف ساعة! وأشخاص الرواية عددهم ثلاثة، وموضوع الرواية نقطة بسيطة لا تعقيد فيها ولا تشعب، فعجيب أن يؤلف راسين من هذه المواد القليلة مأساة، وأعجب من ذلك أن يبلغ فيها غاية التوفيق، فاهتمام النظارة بالرواية لا يفتر، والموقف البسيط يبدأ عرضه وتطوره، ثم يبلغ ختامه في سرعة شديدة ودقة فنية بارعة، فالكاتب لا يحذف من الموقف عنصرا واحدا من عناصره الرئيسية ولا يضيف إليه عنصرا واحدا ثانويا، وقد حرص راسين كل الحرص ألا يقع في روايته فعل عنيف أو مفارقة أو تعقيد في مجرى الحوادث، وكل اعتماده في التأثير على النظارة إنما ينحصر في طريقة علاجه لعدد قليل من المشاعر الإنسانية يتفاعل بعضها مع بعض، ولا تكاد تحس في الرواية أثرا للعالم الخارجي الواقع؛ ذلك العالم الذي كان لب رواية شيكسبير وصميمها. وكل ما يقدمه إليك راسين من حوادث العالم الخارجي أن يشعرك - بفنه الرائع العجيب - أن وراء الأزمة النفسية الهادئة التي وقعت في تلك الغرفة الصغيرة، مؤثرات في العالم الخارجي تلعب دورها وتفعل فعلها، فالقوة التي فصلت بين الحبيبين أمر من أولي الأمر، وواجب للدولة يجب أداؤه، فإذا ما جاءت الساعة الفاصلة رأيت المحب «تيتس» يتردد قليلا، ثم يختار لنفسه أداء واجبه مؤثرا ذلك على بقائه إلى جانب حبيبته، وما الحافز له في اختياره إلا كلمة واحدة ينطق بها هي «روما»، فبهذه الكلمة الواحدة يستغنى عن الخروج بك من الغرفة الضيقة إلى العالم الفسيح الذي يجول بك شيكسبير في رحابه.

وليس من شك في أن رواية راسين دون رواية زميله جلالا، لكن ذلك لا ينفي أن تفضل الرواية الفرنسية زميلتها الإنجليزية في بعض النواحي، فهي أفضل منها في قابليتها للتمثيل على المسرح، فلا تزال «برينيس» تعرض على رواد المسرح في نجاح عظيم. أما «أنطون وكليوبطره» فمحال أن تعرض على المسرح بكل جمالها وجلالها، فلا بد لتمثيلها من حذف هنا وتبديل هناك، بل لا بد من إعادة تنظيم عناصرها لكي تصلح للتمثيل، ثم هي بعد كل هذا الحذف والتبديل وإعادة التنظيم لا تترك في النظارة إلا أثرا لخليط مهوش من فخامة وجلال، وما المشكلة هنا إلا محاولة وضع رطلين في زجاجة لا تسع إلا رطلا واحدا! فمحال أن تضع عالما فسيحا على مسرح ضيق محدود، أما «برينيس» فرطل واحد يوضع في زجاجة تسع رطلا واحدا! فقد قيست عند تأليفها بمقياس المسرح وما يقتضيه، وإنها لمتعة عظيمة أن تشهدها ممثلة؛ لأنك إنما تشهد فيها جمالا رائعا لا تشوبه شائبة من نقص أو تشويه.

ولا نحب أن نطوي الحديث عن راسين قبل أن نعرض موجزا لعناصر «أندروماك» التي لم يكد يخرجها في الثامنة والعشرين من عمره، حتى ارتفع إلى أوج الشهرة الأدبية، ففي الرواية أربعة أشخاص: رجلان وامرأتان، يسيطر على كل منهم شعور قوي محدود المعالم، فأندروماك - زوجة هكتور - لا تزال في شبابها الغض اليانع، ولا تعنى في هذا العالم كله إلا بشيئين، خرصها على ابنها «أستياناكس»،

43

واحتفاظها بذكرى زوجها، والزوج والابن كلاهما أسير في قبضة «بيروس»،

44

الذي حارب طروادة وغزاها، وهو أمير قاس غليظ، أحب أندروماك على الرغم من تعاقده مع «هيرميون» على الزواج، وهيرميون هذه امرأة جبارة تكاد تذوب غراما بخطيبها «بيروس» الذي صرفه عنها حبه لأندروماك. وكان «أورست» في الوقت نفسه يحب هيرميون، لكنها لا تبادله الحب، تلك هي عناصر المأساة كأنها المواد المتفجرة تنتظر شرارة ليشتغل أوارها، وقد كانت هذه الشرارة حين أعلن «بيروس» معشوقته أندروماك أنها إذا لم تقبل الزواج منه فتك بابنها الأسير، فلا يسع أندروماك إلا أن تذعن، معتزمة بينها وبين نفسها أن تزهق روحها عقب الزواج، وبهذا تصون ابنها وشرف زوجها في آن معا، هنا تلعب الغيرة بهيرميون؛ لأن خطيبها أوشك أن يتزوج من سواها، فأسرت إلى «أورست» الذي يهيم بها أنها لن تترد في قبوله زوجا إذا هو قتل خطيبها الغادر «بيروس»، فما هو إلا أن ينفذ «أورست» ما طلبت إليه حبيبة فؤاده أن يعمله ويقتل بيروس ضاربا بالصداقة والشرف عرض الحائط، وهنا تشهد منظرا رائعا مروعا، لعله أبدع ما جرت به يراعة الشاعر، ترى فيه هيرميون التي أوحت بقتل حبيبها «بيروس» قد أخذها الذعر ونال منها الهلع؛ إذ رأت ذاك الحبيب قد مات فعلا، فانقضت على القاتل «أورست» - متجاهلة أنها هي دافعته إلى فعلته الشنعاء - وصاحت في وجهه صارخة في صوت يدوي: «من قال لك اقتله؟» ثم تندفع خارجة لتقتل نفسها بيدها، وتنتهي الرواية بأورست واقفا على المسرح، وقد طار صوابه ومسه الجنون. (2-3) موليير

Molière (1622-1673م)

حدثناك عن المأساة الفرنسية في القرن السابع عشر وكاتبيها العظيمين «كورني» و«راسين». وبقي أن نحدثك عن الملهاة ممثلة في أعظم رجالها في فرنسا، بل في التاريخ الحديث بأسره.

ولد «جان بابتست بوكلان»

45

في باريس من أب يشتغل بالتجارة في سعة ويسر، هيأ لابنه نشأة صالحة وتعليما متينا في كلية الجزويت في «كليرمون» حيث درس الطالب عيون الآداب القديمة، كما درس الفلسفة على فيلسوف معاصر هو جاسندي،

46

وقد عرف هذا الفيلسوف بجرأة نادرة في التفكير، فلعله هو الذي أوحى إلى أديبنا بما عهدناه فيه من تفكير حر، ثم إلى تعاليمه يرجع الفضل في ميل الأديب نحو مناقشة المسائل الفلسفية في سخرية ممن يقيمون المعارك حول اختلافات سخيفة تافهة.

وقد أريد لجان أول الأمر أن يخلف أباه في مهنته أو أن يشتغل بالقانون، ولكن تأثير المسرح في نفسه كان أقوى مما أريد له، فلم يكد يشب ويجاوز سن الوصاية، حتى كان له من إرث أمه ما أغناه عن التفكير في احتراف التجارة أو الاشتغال بالقانون. والتحق بالمسرح ممثلا، وأطلق على نفسه إذ ذاك اسما مستعارا هو «موليير» الذي يعرف به حتى اليوم، وقد شارك أسرة يشتغل أفرادها بتمثيل الملاهي في استئجار ملعب أقاموا على أرضه مسرحا، لكن المسرح انتهى إلى فشل؛ فاضطر «موليير» وشركاؤه أن يغادروا باريس ليجولوا في أرجاء البلاد. ولبثوا في تجوالهم هذا اثنى عشر عاما، شهد موليير خلالها ألوانا من الحياة، وصنوفا من التجارب، وتعلم أثناءها أصول الفن المسرحي من ناحيته العملية الخالصة، فهو لم يكن يكتب إذ ذاك ليرضي نقدة الأدب، بل كان يكتب ليمتع النظارة وكفى. ومن بواكير إنتاجه في هذه المرحلة مسرحيتان أقرب إلى التهريج، تنقصهما دقة الفن وبراعته، ولكنهما يبشران بالقدرة والنبوغ، ثم أخرج اثنتين أخريين في هذه المرحلة التدريبية أيضا دنا بهما من فنه الصحيح وهما «المشدوه»

47

و«إحنة الغرام».

48

فلما بلغ عامه السادس والثلاثين عاد من تجواله إلى باريس، حيث اشترك في تمثيل رواية «نيكوديم» لكورني في حضرة الملك فظفر بإعجابه، وأصبح على رأس فرقة تمثيلية لها مكانة عالية في القصر وفي سائر باريس. ولما أقبل العام الجديد استهل حياته في الأدب المسرحي الكامل برواية «المتحذلقات المضحكات»

49

سخر فيها من أرباب التكلف وأصحاب «الصالونات» الأدبية التي كانت عندئذ في طريقها إلى الزوال ليحل محلها القصر، ومن ثم بدأ «موليير» حياة خصبة منتجة، فرغم اشتغاله بإدارة المسرح ورغم اشتراكه في التمثيل، استطاع أن يخرج في خمسة عشر عاما بقيت له من حياته ثماني وعشرين رواية، أي بنسبة روايتين في كل عام ، فلم تحتمل بنيته الضعيفة هذا المجهود المتواصل المضني، فجاءته المنية فجأة ذات مساء من فبراير سنة 1673م، إذ نزلت به النازلة وهو يمثل دوره في آخر رواياته «المريض الموهوم».

50

ونحن إذ نستعرض سيرة «موليير» لا بد لنا من الوقوف في حياته عند نقطتين كان لهما في إنتاجه أثر عميق، الأولى زواجه من «أرماند بيجار »

51

الجميلة اللعوب، فقد كان لسلوكها ولغيرته أثر ملحوظ في طريقة تصويره للنساء في أدبه، فقد نظر إليهن بعين الناقم الساخط، خصوصا حين أخذ يصور «سليمين»

52

في رواية «كاره البشر»

53

التي يقال إنه يصور جانبا من نفسه في «ألسست» بطل هذه الرواية، ويمثل زوجته في «سليمين». والثانية علاقته الوثيقة بالملك، فقد أثرت في أدبه أثرا طيبا وأثرا غير طيب، أما الأثر الطيب فهو أن الملك أظله بحمايته من أعدائه الكثيرين الذين ثارت عليه نفوسهم من سخريته اللاذعة بهم، فمكنه بتلك الحماية أن يمضي في رسالته الأدبية وهي نقد المجتمع في عصره، وأما الأثر غير الطيب فهو أن الملك كان يضطره حينا بعد حين أن يهمل ما هو مشتغل به ليكتب للقصر رواية في هذه المناسبة أو تلك، فكان هذا العمل التافه عائقا له عن الإنتاج الفني الرفيع.

وتستطيع أن تقسم نتاج موليير إلى قسمين: مسرحيات خفيفة يسود فيها الصخب والتهريج، ويراد بها الإضحاك، وملاه عظيمة عنيت بتصوير أشخاص. وليس هذا التقسيم بالجامع المانع الدقيق، فقد تجد من الروايات ما يقف من هذين القسمين بين بين، فهو من هذا ومن ذاك على السواء، مثل رواية «جورج داندان»

54

و«السيد البورجوازي»،

55

وقد تجد كذلك روايات لا تدخل في هذا القسم ولا ذاك مثل رواية «نقد مدرسة النساء»

56

ورواية «مسرحية فرساي المرتجلة»،

57

فليست هاتان الروايتان تهريجا صاخبا لإضحاك النظارة، ولا هما تصويرا لأشخاص، ولكنهما بمثابة دفاع جدلي يوجهه إلى ناقديه ليفند به آراءهم، ويؤيد وجهة نظره، فلهما من أجل هذا شأن خطير؛ لأنهما يبصراننا بنظراته في الفن المسرحي.

فأما ملاهيه المضحكة فطافحة باللهو والمسرح تستخرج الضحكات من أعماق القلوب وإن تكن تفحش بنكاتها أحيانا، ولكنك تتبين في غير عناء - وسط الضحكات المرحة والنكات الفكهة - الساخر الذي يريد بسخريته إصلاح المجتمع وتقويم مفاسده، ومن أمثال هذا الضرب من ملاهيه رواية «الزواج بالإكراه»

58

و«الطبيب رغم أنفه»

59

و«مسيو دي بورسونياك».

60

لكن عظمة موليير لا تتجلى على أتمها وأكملها إلا في الطائفة الثانية من ملاهيه، الملاهي النفسية التي يصور بها أشخاصه، فبهذه المجموعة من ملاهيه استحق أن يحشر في زمرة الخالدين. وتختلف «الملاهي النفسية» عن «الملاهي المضحكة» في أنها تقيم الفكاهة على أساس من الجد، وتحمل في طي نكاتها فكرا عميقا رصينا، وتعمق فيها العاطفة، بحيث تبلغ حدا قد تتحول عنده الملهاة إلى مأساة على غير وعي من المشاهدين، وهي فضلا عن ذلك تقصد إلى غرض تهذيبي، فقد شاهد موليير من حوله التوافه والسفاسف يهتم لها الناس، فحلا له أن يهزأ بها في مرح ولهو، لكنه شاهد إلى جانب تلك التوافه شرورا خطيرة تنال من المجتمع في صميمه، فهم بردها وتقويمها بهذه الملاهي النفسية التي أشرنا إليها، ومن أمثلة هذا النوع «مدرسة النساء»

61

و«تارتيف»

62

و«دون جوان»

63

و«كاره الإنسان»

64

و«البخيل»

65

و«النساء العالمات».

66

يشغل موليير في الأدب الفرنسي المكانة التي يشغلها «سيرفانتيس» في إسبانيا، و«دانتي» في إيطاليا، و«شيكسبير» في إنجلترا، فليس مجده بمقتصر على حدود أمته وقومه، ولكنه أديب عالمي يخاطب العالمين، فشأنه شأن هؤلاء الأعلام يلخص في شخصه مقومات جنسه، ثم يخرج على حدود المكان واللغة ليبسط سلطانه على قلوب الناس أجمعين، فهو عند غير الفرنسيين أديب فرنسا الفذ، وإمامها المعبر عن روحها غير منازع في إمامته، وهنا قد تأخذ المستعرض حيرة أي الأديبين جدير بهذه المكانة؟ زعيم المأساة راسين أم زعيم الملهاة موليير؟ فالحق أننا لو وضعنا خصائص الرجلين في كفتي الميزان لتعذرت الموازنة؛ فليس يسيرا أن تحكم لأيهما الرجحان، أهو لموليير في اتساع أفقه وتنوع إنتاجه والحياة النابضة في ملاهيه، أم هو لراسين لجودة شعره وبراعة فنه التي بلغت أوج الكمال دقة وإحكاما في مآسيه؟ إنه من رأي «ليتون ستراتشي»

67 - الأديب الإنجليزي المعاصر - أن راسين هو الخاسر في هذه الموازنة، وهو خاسر بسبب كمال فنه ودقة إحكامه! فقد انتهى به ذلك الكمال الفني وهذا الإحكام الدقيق إلى أن يكون نتاجه فرنسيا خالصا، بحيث يكاد يستحيل على غير الفرنسي أن يتذوقه إلى حده الأقصى، وأما موليير فهو الراجح الرابح في هذه الموازنة بسبب تهاونه في فنه بعض التهاون، بل بسبب ما في فنه من نقائص وعيوب! فهو أقل تزمتا من زميله في الأخذ بقواعد المذهب الاتباعي؛ لأن طبيعته الفياضة الدافقة أوسع وأشمل من أن تنحصر في هذا القالب الضيق الحدود، فهو يغمر بفنه كل ما يستثير الفكاهة من العواطف البشرية، لا تفلت منه دقيقة ولا جليلة، وينغمس في خضم الحياة وينظر إليها عن كثب، فجاء فنه حيا، لكن أعوزته الصناعة المحكمة المحبوكة التي تميز بها راسين، فلغته لا تخلو من الخطأ ونظمه يقرب من النثر، ونثره يحاول أحيانا أن يحاكي الشعر في إيقاعه، فلا غرابة أن قال عنه الاتباعيون المتزمتون في القرن الثامن عشر إن بناءه الضخم قائم على أساس من الطين، ولكن هذا «الطين» في بنائه الفني هو الذي ربط الصلة بينه وبين الأرض المألوفة، فتوثقت العلائق بينه وبين أهل هذه الأرض أجمعين.

وحسبه فخرا أنه خالق «الملهاة الفرنسية» في أكمل صورها، فقد كانت الملهاة قبله صخبا للإضحاك، فصنع لها موليير ما صنعه راسين للمأساة، وذلك أنه سما بها إلى مرتبة الفن الرفيع، فهو أول من تبين في جلاء كيف يمكن أن تستخرج آيات فنية جميلة من نسيج الحياة اليومية المألوفة؛ فموضوع الملهاة عنده مستمد من صميم الحياة من الدعاوى الفارغة التي يتشدق بها الأغنياء، من غرور الشعراء والفلاسفة ورجال القانون، من طوائف الشبان، من الأطباء في جهلهم وادعائهم العلم بما يجهلون، من رجال الدين ونفاقهم، من طموح جماعة الأثرياء من الطبقة الوسطى الذين يحاولون أن يقلدوا الطبقة الرفيعة، فيلقون منها الزراية والاحتقار، من حماقات الحمقى وجرأة المخادعين وسخافات الحياة المنزلية التي نصادفها كل يوم، وهكذا مكن للملهاة أن تزدهر، ووضع لها الأساس الذي ظلت تقوم عليه وتتطور وفق أوضاعه قرنين كاملين من الزمان.

ولئن فات موليير أن يحقق بملاهيه كل ما يتطلبه المذهب الاتباعي بالقدر الذي استطاعه راسين في مآسيه، فليس معنى ذلك أنه لم يحدد فنه بأوضاع الاتباع التي وفينا شرحها في الصفحات السالفة، فها هو ذا يختار لملهاته عددا قليلا جدا من الحوادث، لكنه يحسن اختيارها، ويرتبها في تعاقب دقيق بحيث يؤثر بها في نظارته أبلغ الأثر، وهو إذ يختار حوادث الملهاة، فإنما يهتدي في هذا الاختيار بشيء واحد، وهو الضوء الذي تلقيه الحادثة المختارة على الشخصية التي هو بصدد تصويرها، وهو حريص حين يعرض شخصا من أشخاصه أن يبديه من جانب واحد، أو من جوانب قليلة، ويأبى أن يحلل الشخصية ويشرحها ليخرج للناس كل ما تحويه من عناصر، وهنا يجمل بنا أن نقارن بينه وبين شيكسبير في سرعة وإيجاز، لنوضح أين يختلفان في وجهة النظر إلى الملهاة، كما بسطنا ذلك عند الكلام على راسين كيف يختلف هذا عن شيكسبير في وجهة النظر إلى المأساة.

ها أنت ذا قد رأيت موليير يختار لملهاته حوادث قليلة على أساس أنها تلقي ضوءا على الشخص الذي يصوره، وهو يحصر نفسه في تصوير الشخص، بحيث ينصرف إلى ناحية واحدة منه أو إلى قليل جدا من نواحيه، أما الملهاة الابتداعية (الرومانتيكية) عند شيكسبير فزاخرة بالحوادث مليئة بالدقائق، وشيكسبير يصور لنا أشخاصه من نواحيهم جميعا لا يبقي من عناصرهم شيئا ولا يذر، تتبع الملهاة لشيكسبير فتطالعك أوجه الشخص المصور وجها بعد وجه، وفي أثرها تشرق عليك صفاته واحدة تلو أخرى، يسجل لك الشاعر أدق ما يجول في نفس من يصوره فلا تفلت منه الخطوط الخافتة والخواطر القصية التي من شأنها أن تكمل الصورة، حتى إذا ما جئت في الرواية إلى ختامها استوى أمامك الشخص كائنا حيا يدب ويسعى، ويفكر ويمكر، ويخادع، ويضحك ويبتئس، ويسخر من غيره ويسخر منه غيره، فالحياة كما نراها في الواقع الملموس معقدة متشعبة كثيرة الأطراف، بحيث يتعذر أن تتقن فهمها، وهكذا الشخص في ملهاة شيكسبير أو مأساته، يقدمه إليك الشاعر في تعقده وتشعبه وتعدد نواحيه. أما أمير الملهاة الفرنسية فيختلف عن ذلك في منهاجه اختلافا بينا، فبدل أن يوسع الصورة لتشمل أطراف النفس جميعا، يضيق حدودها لتتقن طرفا واحدا أو طرفين من تلك النفس التي يريد تصويرها ، وهو إذا ما استقر اختياره على الخصائص القليلة التي يريدها، راح يستخدم فنه كله في إبرازها وترسيخها في ذهن القارئ أو المشاهد، بحيث يصعب نسيانها، صور «موليير» البخيل في «أرباجون»

68

وصوره شيكسبير في «شايلك»

69

فجاء «أرباجون» بخيلا هرما وكفى، وجاء شايلك كزا حقودا متكبرا جشعا مرهف الحس. تعرف الشخصية من أول الرواية عند موليير، ثم تمعن في القراءة فلا تتوقع أن تفاجئك تلك الشخصية بشيء لم تكن تتوقعه، وكل ما تلاقيه حوادث وأمثلة تؤكد الصفة الأساسية التي عرفتها فيها منذ البداية، ولكنك كلما أمعنت في قراءة الرواية لشيكسبير طالعتك من الشخصية جوانب لم تكن تحسب لها حسابا، وتكاد تهمس لنفسك قائلا: لم أكن أظن أن هذا الغر - مثلا - سيقف هنا مثل هذا الموقف الحكيم، ما كنت أحسب أن هذا الفظ سيبدي في هذا الموضع كل هذه الرحمة. خذ شخصية «تارتيف» - مثلا - عند موليير، وربما كانت خير صورة أخرجتها يراعة موليير، ترها متصفة بثلاث صفات: النفاق الديني وحدة الشهوة وحب السيطرة، وليس ينطق الرجل في الرواية كلها لفظة واحدة لا تضيف قوة إلى صفة أو أكثر من هذه الصفات الثلاث.

فموليير يختار من شخصيته مساحة ضيقة يصب عليها ضوء فنه، لكنه يعمق بك في هذه المساحة الضيقة، ثم يعمق ويعمق، حتى يصل بك إلى أبعد الأغوار، هو يختار ممن يريد تصويره عناصره الجوهرية، ثم ما يزال بها، حتى يخرجها في ضوء النهار الساطع.

وما قلناه - في الكلمة التي خصصناها لراسين - عن الفن الفرنسي كله بصفة إجمالية، نعيده الآن عن موليير، وهو أنه يصور نماذج إنسانية لا أفرادا من البشر، يصور في «تارتيف» المنافق، لا منافقا من المنافقين ، ويصور في «أرباجون» البخيل لا بخيلا من البخلاء. (3) النثر الفرنسي

قام النثر في القرن السابع عشر بمثل الحركة التي قام بها الشعر، فكلاهما خرج على ما كان سائدا بين الكتاب والشعراء من قبل، من تعقيد في المعنى أساسه الحذلقة العلمية، وتعقيد في العبارة مصدره اختلاط اللغة بالألفاظ الغريبة والتواء العبارة، غير أن الشعر في ثورته تلك قضى على القديم وأصاب نفسه بالأذى في آن واحد، فقد كبل حريته بأغلال عاقت فيه المرونة وسهولة انبثاق المعاني، أما النثر فقد انتفع بالثورة على القديم، ولم يكد يصيبه في سبيل ذلك أذى، نعم استتبعت تصفية اللغة وتنقيتها خسارة في تنوع الصور ونصوعها؛ لأن حرمان اللغة من ثروة لفظية أيا ما كان مصدرها ونوعها معناه حرمانها من صور كانت تؤديها تلك الألفاظ، لكن الأدب النثري في فرنسا إلى جانب ذلك قفز إلى الأمام قفزة بعيدة، حين وضع الكتاب نصب أعينهم قواعد الذوق الأدبي الجديد، وفي طليعتها العناية بحسن استعمال الألفاظ، والتخلص من العبارة الطويلة الملتوية المعقدة التي يكثر فيها الوصل والاستطراد، فانحلت الجملة الواحدة المركبة إلى جمل كثيرة بسيطة في النثر الحديث، تتتابع على النحو الذي يقتضيه أداء المعنى جليا واضحا، ومن ثم بلغ النثر الفرنسي مكانته التي نعرفها له من حيث الدقة والوضوح.

وإن شئت أن ترد هذه الحركة إلى أصولها تعذر عليك أن تربطها بكاتب بعينه كما ينسب إصلاح الشعر إلى «ماليرب»، غير أنه ظهر في أوائل القرن السابع عشر كاتب هو: «جان لوي بلزاك»

70 (1594-1655م) كان له على النثر الفرنسي فضل عظيم، إذ نحا به نحو سلامة التركيب والصقل ودقة الجرس وتنظيم الفكر، وقد أصبح لأسلوب «بلزاك» سيطرة على من جاء بعده من الناثرين؛ فاقتفى أثره معظم أعلام البيان في «القرن العظيم» سواء شعر بذلك أولئك الأعلام أو لم يشعروا.

ويعرف «بلزاك» في الأدب بخطاباته التي خاطب بها - اسما - بعض عظماء الرجال في عصره، لكنه أراد بها - فعلا - أن تكون موضوعا للقراءة العامة.

ثم أنشئ المجمع الفرنسي فكان فيصلا يحكم بين الأساليب الجديدة، فيؤثر أسلوبا على أسلوب، فكان لذلك المجمع أقوى الأثر في تقدم النثر في شوطه الجديد. وقد يقال إن تلك المقاييس الجديدة - وأهمها حسن اختيار الألفاظ والعناية التامة بتركيب العبارة - قد ضيقت الخناق على حرية الكاتب وسدت دونه المسالك، فلم تجز له إلا أسلوبا يتصف بالجزالة الخطابية والكمال الفني على غرار «شيشرون»، لكن ذلك القول بعيد عن الصواب؛ لأن ذلك العصر كان غنيا بنوابغه، ومن شأن النابغة أن يصغي إلى من يهديه فيهتدي به دون أن يجد في ذلك ما يقيد وثباته. (3-1) باسكال

(1623-1662م)

لقد قيل حقا إن كل كاتب عظيم في القرن السابع عشر كان كاتبا خلقيا، فالعناية بتقويم الأخلاق ظاهرة بارزة تلمسها في أدباء العصر جميعا، تلمسها في مآسي «كورني» و«راسين» وفي ملاهي «موليير»، وتلمسها في «الحكايات الخرافية» للافونتين، لكن هذا القصد الخلقي الذي ساد ذلك العصر، لم يكن غرضا مباشرا عند أمثال هؤلاء الأدباء الذين ذكرنا أسماءهم، فكل أديب منهم منصرف إلى الصورة الأدبية التي يريد إخراجها، ثم بعد ذلك تجيء الغاية الخلقية عرضا كأنما هي شيء يقتضيه السياق. لكن إلى جانب هؤلاء قامت طائفة أخرى مهمتها الكتابة في الأخلاق، وإنما يهتم تاريخ الأدب بثلاثة من هؤلاء: «باسكال» و«لاروشفوكو» و«لابريير».

ولد «باسكال» لأب عرف برقة أخلاقه وقوة ذكائه، وبدت بوادر النبوغ فيه، وهو لم يزل يافعا صغيرا، فأبدى مقدرة نادرة في الرياضة وهو في سن مبكرة. وحسبك أن تعلم أنه وهو في السابعة عشرة من عمره كتب رسالة رياضية في «القطاعات المخروطية»، وفي سن الثامنة عشرة اخترع آلة للعد، وإنك لتجد في شخصية هذا الرجل من المتناقضات ما تقف أمامه حائرا، فهو عالم وصوفي في آن معا، وهو منطقي وحالم في وقت واحد، له عقل مطبوع على إقامة الدليل والبرهان، حتى قال عن نفسه: «إن لي عقلا هندسيا.» أي يقيم الدليل على نحو ما تقيمه الهندسة، لكنه إلى جانب ذلك مؤمن حار الإيمان يجرفه الخيال، فيخرجه عن حدود المنطق الصارم. وتلاقي هذين الجانبين في نفسه: قوة العقل وقوة الروح - وهما قليلا ما يتلاقيان في رجل - هو طابع أدبه. وأهم ما يعنينا من أدبه كتابان: «ريفيات»

71

و«آراء».

72

أما «ريفيات» فمؤلفة من ثماني عشرة قطعة كتبت في صورة الخطابات، ونشرت على فترات بين عامي 1656 و1657م، وموضوعها ديني يتصل بخصومة مذهبية نشأت في البلاد إذ ذاك، وقد يكون الموضوع جافا عند كثرة القراء، لكن أسلوب باسكال من السلاسة، بحيث جعل من الجدل اللاهوتي والتأمل الديني موضوعا يقرأ في لذة وإقبال. وأما «آراء» فنتف ومذكرات نشرت سنة 1670م في خليط مهوش لا ينتظمها ترتيب ولا تجري على خطة، ومع ذلك فلها مكانة عالية في الأدب الديني لعمق أفكارها ونفاذ البصيرة فيها، وتركيز المعاني في ألفاظ قليلة، فقد برع باسكال في صياغة الجملة القصيرة القوية التي سرعان ما تجري في الناس مجرى الأمثال، والتي يصح أن تتخذ موضوعا لفصل كامل يوضحها ويشرح معانيها، وقد أعجب به فولتير فقال عن كتابه «خطابات ريفية»: «إن كل ضروب الفصاحة يحتويها هذا الكتاب.» (3-2) لاروشفوكو

La Rochefoucauld (1613-1680م)

ولد في باريس سليلا لأسرة نبيلة قبل أن يولد باسكال بسنوات عشر، ولما كان في ميعة شبابه تآمر مع آخرين على وزير فرنسا «ريشيليو»، وجرح جرحا بليغا في موقعة دارت بين قوة الحكومة وأعدائها، فأوى إلى الريف بعيدا عن عالم السياسة الصاخب، حتى استرد العافية، ثم عاد إلى باريس، وسرعان ما سطع نجمه في «الصالونات» الأدبية الكبرى، وبخاصة صالون «مدام دي سابليه».

73

كان «لاروشفوكو» يميل بطبعه إلى التشاؤم، وينظر إلى العالم نظرة سوداء، وقد ازدادت نفسه مرارة بالدنيا وأهلها لما تعلمه من التجارب التي اجتازها، وهو يدبر المكائد السياسية من جهة، ولخيبة رجائه في كل آماله من جهة أخرى، ومن ثم تقرأ كتابه الصغير الرائع «حكم وتأملات خلقية»،

74

فتلمس فيه الرجل الذي عركته الأيام وعلمه الفشل في الحياة ألا ينخدع بالأوهام. والفكرة الرئيسية عنده، أو قل كان من بين أفكاره العديدة، أن الإنسان مدفوع في حياته بالأنانية. ولقد لبثت أمثاله تدور على الألسن لما فيها من قوة التعبير الذي يركز أضخم المعاني في أقل عدد من الألفاظ. وهاك مختارات منها: «إن كان للعيي عاطفة كان أقوى إقناعا من أفصح الناس بغير عاطفة.» «ما أسهل أن نتغلب بالفلسفة على سيئات الماضي والمستقبل. أما سيئات الحاضر فلا يتعذر عليها أن تتغلب على الفلسفة.» «الشيوخ مغرمون بإسداء النصح الجميل، عزاء لأنفسهم؛ إذ لم تعد لهم القدرة على أن يكونوا قدوة في السوء.» «عرفان الجميل شبيه بتبادل الثقة بين التجار، لا تطرد التجارة بغيره، فكثيرا ما نوفي الدين لا حرصا على الأمانة، بل لنجد بين الناس من يثق فينا بغير مشقة.» «لشد ما كنا نخجل من خير أعمالنا، لو عرف الناس الدوافع إلى إنتاجها.» «كثيرا ما نكون أقرب إلى قلوب الناس بأخطائنا منا بخير صفاتنا.» «لست تجد بين الناس من بلغ به الشقاء، أو بلغت به السعادة إلى الحد الذي يتوهمه.» «رأس الإنسان دائما مخدوع بقلبه.» (3-3) لابريير

La Bruyèue (1645م)

ولد «جان دي لابريير» في باريس من أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى، وتلقى علومه في جامعة أورليان حيث هيأ نفسه بدراسة القانون أن يكون محاميا، لكنه سرعان ما آثر عزلته في مكتبته ينفق شطرا كبيرا من زمنه في مطالعة أفلاطون، ولم يحمل قلمه ليكتب إلا بعد أعوام طوال درس فيها وشاهد، فسجل كل مشاهداته وآرائه في كتاب واحد يخلده على صفحات التاريخ الأدبي هو «النماذج الخلقية» يصور فيه أشخاصا عاشوا في عصره، وكان في نقده ينفذ بقلمه فيصمي كأنما يضرب بسيف بتار. وقد نشر هذا الكتاب أول ما نشر على هيئة ملحق بترجمة أخرجها لكتاب «نماذج خلقية» الذي نقله عن الفيلسوف اليوناني «ثيوفراسطس».

75

وليس كتاب «لابريير» بالكتاب المبوب المنظم على الصورة التي نفهمها اليوم، بل هو خليط امتزجت فيه العناصر المختلفة المتباينة، وإن يكن أبرز ما فيه هو الدراسات التي يحلل بها أشخاص عصره. يقول الكاتب: «إن روح المؤلف تنحصر في حسن التحديد وجودة التصوير.» وهو بهذا القول يصف لك منهجه؛ لأنه قبل كل شيء يحدد المعاني ويصور الأشخاص، في أسلوب يعد نموذجا للفرنسية في أصفى ما تكون وأنقى. وفيما يلي مقتطفات من كتاب «النماذج الخلقية»: «لو تجنب موليير الرطانة والسوقية في أسلوبه وكتب بأسلوب أصفى لبلغ حد الكمال.» «إن كورني - في أجود آثاره - أصيل ممتنع على التقليد، لكنه لا يطرد في الجودة، عقله جبار وبعض شعره من أجود ما كتبه الشعراء.» «راسين أقرب إلى الإنسانية من كورني، قلد الأدب الإغريقي القديم ، فترى في مآسيه بساطة ووضوحا وشجنا يحرك العواطف.» «إن كورني يصور الناس كما ينبغي أن يكونوا، أما راسين فيصورهم كما هم، كورني أميل إلى النزعة الخلقية المثالية، وأما راسين فأميل إلى الواقع، والبعد عن التكلف. ويظهر أن كورني مدين بالكثير لسوفوكليس، وأن راسين مدين ليوريبيد.» «إذا سما الكتاب بعقلك وأوحى إليك شريف المعاني، فلست بعد بحاجة إلى شيء لتحكم للكتاب؛ فهو آية في الجودة والسمو.» «ما علة أن يضحك الناس في المسرح. ويسترسلون في الضحك، ثم يخجلهم أن يسترسلوا في البكاء؟ أهو أن طبيعة نفوسنا بعيدة عن أن تتحرك لما يستثير العطف من أن ننفجر ضاحكين مما يثير الضحك؟ أم ذلك لأننا نعد البكاء ضعفا؟ ...»

وقال عن النساء: «لماذا نحمل الرجال تبعة جهل النساء؟ هل سنت القوانين وصدرت المراسيم تنهاهن أن يفتحن عيونهن، وأن يقرأن وأن يذكرن ما قرأن، وأن يبين في أحاديثهن وكتبهن أنهن فاهمات لما قرأن؟ ألم يكن النساء هن اللائي اعتزمن أن يعرفن قليلا، أو ألا يعرفن شيئا؛ لضعف في أجسادهن، أو لبلادة في عقولهن، أو لما يقتضيه جمالهن من وقت، أو لأنهن غير موهوبات ولا نابغات إلا في أشغال الإبرة وسياسة الدار، أو ربما كان ذلك لأنهن بالغريزة يمقتن الجد الذي يتطلب الجهد؟ ...» (3-4) بوسويه

Bossuet (1627-1704م)

على أن أكثر الناثرين خصبا وإنتاجا في العصر الاتباعي في فرنسا هو «بوسويه» الذي عرف بنشاطه الذي لا ينفد، حتى لقد استطاع في حياته المليئة بالعمل مدرسا فقسيسا، أن يضع نفسه في طليعة الأدباء الفرنسيين إذ ذاك، وإنما احتل هذه المكانة في الأدب الفرنسي بخطبه الكنسية ومواعظه الدينية، وما كان ينشره الحين بعد الحين من رسائل يجادل فيها خصومه ويحاجهم؛ في هذا الاتجاه الخطابي اتجه «بوسويه» بفنه، وإن خطبه لتعد من آيات الفصاحة والبيان، وكانت وحدها كفيلة أن تسلكه في زمرة القادة من رجال الفن الأدبي. على الرغم من أن الخطابة لا تحتل في عالم الأدب مكانة ممتازة، كان «بوسويه» خطيبا في كل ما قال وكل ما كتب، خطيبا في نهجه وفي تأثيره على السامعين أو القارئين، فهو خطيب إن وعظ في الكنيسة، وهو خطيب إن هاجم المسرح وقواعده، وهو خطيب إن هاجم المذهب البروتستانتي أو أيد الكاثوليكية، ولم يكن في وعظه مملولا مرذولا، بل كان جذابا في شخصيته، ساحرا بعبارته، وهو عالم بغير حذلقة العلماء، ومتدين بغير تصعب رجال الدين، إن نقد كان لاذعا قاسيا، لكنه لم ينقد بغير حق. (3-5) فينيلون

Fénelon (1661-1715م)

ونبغ في فن الخطابة من رجال الدين غير «بوسويه» قسيس آخر هو «فينيلون»، وإن يكن أقل من بوسويه قدرة ونبوغا، وقد كتب «فينيلون» ما كتبه إتماما لواجبات مهنته، ولم يقصد به إلى الأدب ولم يكتبه لوجه الفن. وينبغي أن نذكر أن أكثر نوابغ الفكر كانوا في ذلك العصر يتجهون إلى خدمة الكنيسة والدين؛ لأن الكنيسة كانت في أوج عظمتها، فكان طبيعيا أن تجد رؤساء الحكومات من الكرادلة، وأن تجد من رجال الدين على اختلاف طبقاتهم من ساهم بقسط موفور في الإضافة إلى ذخيرة النثر والشعر، حدث ذلك في فرنسا كما حدث شبيه له في إيطاليا من قبلها، فرأينا المصورين يرتدون ثياب الرهبان، وما أشبه الذي حدث في أوروبا إذ ذاك بالذي رأيناه في مصر في تاريخها الحديث؛ إذ خرج من رجال الأزهر بعض زعماء السياسة وقادة الفكر.

حفزت «فينيلون» إلى ما كتب حوافز الدين، ولكن سرعان ما ينسى العالم للأديب والفنان حوافزه الدينية ولا يذكره إلا بما خلد من آيات باقيات، فقد دون «فينيلون» في كتابه «حكم القديسين» عقيدته بوجوب أن يفنى الإنسان في الله، وأن ينظر إلى المسيح مخلصا للإنسانية جملة واحدة، لا مخلصا لهذا الفرد الآثم أو ذاك، فهاجم عقيدته هذه «بوسويه» كما أنكرتها عليه كنيسة روما، ولكن ذهبت على مر الزمان حرارة الخلاف الديني بين هذين القسيسين، وبقيت لنا آثارهما حية في عالم الأدب.

لقد أحب «فينيلون» إخوانه من بني الإنسان قاطبة، فتراه في قصة رمزية اسمها «تلماك»

76

يصور بخياله دولة فضلى يعيش فيها الناس على أسس من الحرية والإخاء، فسبق بخياله أحلام الكتاب في القرن الثامن عشر. (3-6) مدام دي سفنييه

Mme de Svigny (1626-1696م)

ولعب النساء دورا عظيما في السياسة والأدب إبان «القرن العظيم» في تاريخ الأدب الفرنسي، وأشرفت عظميات السيدات على كثير من «صالونات» الأدب فأثرن بذلك في الحركة الأدبية أعمق الأثر، فضلا عما أنتجه بعضهن من آثار.

ومن أكثر هؤلاء فتنة وأشدهن سحرا بما كتبت «مدام دي سفنييه» وهي بين كاتبات الرسائل في الطليعة الأولى، وقد كان غشي بواكر سنيها الغم وخيبة الرجاء، ولكنها امتازت بقلب قوي ورأس رزين، فاحتملت أحزانها في جلد محمود ونفس راضية، وما رسائلها تلك سوى ثرثرة امرأة علت ثقافتها فتركت لقلمها العنان يجول في شئون الحياة اليومية، ويمس أحيانا شئون الدولة وفنون الأدب، لكنها لم ترسل القلم وعيناها مغمضتان، بل كانت حذرة فيما تكتب، تمحص موضوعها وتتأنق في أسلوبها، على نحو ما تعنى سيدة باختيار ثوبها مادة وزخرفا. وتشف رسائلها عن كثير من حياة عصرها وما كان يدور بين الطبقات العالية، وهي على ثرثرتها تدل على عقل راجح، وفكر واضح، وخلق متين. (3-7) مدام دي مانتنون

Mme de Maintenon (1635-1719م)

وظهرت سيدة أخرى وهبها الله قدرة بالغة في التعبير عما يجول بنفسها، وهي «مدام دي مانتنون» التي ارتفعت من غمار الناس، فأصبحت زوجة للملك لويس الرابع عشر، ولم يعلن زواج الملك منها في صورة رسمية، لكن أحدا لم يجهله من أهل البلاد جميعا، ولبثت «مدام دي مانتنون» ثلاثين عاما تتمتع بحياة الملكة وتشقى بسيئاتها، كانت خلالها تصرف بعض شئون زوجها تصريفا يشهد لها بالإدراك السليم، ورسائلها من أهم ما يكشف عن أسرار عصرها من الوثائق السياسية والاجتماعية، وقد كتبت عن تعليم البنات كتابة فيها حسن الفهم وصدق الحكم. (3-8) مدام دي لافييت

Mme de La Fayette (1634-1693م)

لم تقصد «مدام دي سفنييه» و«مدام دي مانتنون» أن تكونا صاحبتي فن أدبي، لكن انتهى بهما النبوغ الفطري - على غير تدبير منهما - إلى مزاملة قادة الأدباء، ثم ظهرت كاتبة ثالثة، أقل منهما قدرا، لكنها تمتاز بأنها قصدت إلى فنها عامدة، وهي «مدام دي لافييت» التي قد تكون قصتها «أميرة كليف»

77

أول قصة صادقة كتبتها امرأة، بل إنها لتعد بين من أحدثوا ثورة وانقلابا في فن القصة، إذ استبدلت بالمغامرات الصبيانية الشاطحة بخيالها، مواقف بسيطة طبيعية، كما استبدلت بالأسلوب الضخم المتكلف لغة الحياة اليومية، فالقصة الفرنسية التي تطورت فيما بعد مدينة لها برزانة الحكم وصدق التصوير.

اختارت الكاتبة لقصتها «أميرة كليف» القصيرة البسيطة الأخاذة، بلاط الملك هنري الثاني، ولو أنها تأثرت في تصوير الجو التاريخي للقصة بما شاهدته في قصر لويس الرابع عشر. وبطلة القصة امرأة لبثت أعواما طويلة زوجة لأمير تجله ولا تحبه، حتى هامت حبا برجل آخر بغتة هو دوق نامور، شاءت لها المصادفة أن تلاقيه في ليلة راقصة، وغلب الواجب الزوجي المرأة الوفية، لكنها خشيت أن يقهرها هذا الحب الجديد، فقررت أن تدلي بالنبأ لزوجها ليكون لها ذلك بمثابة الوقاية من نزوات نفسها، وكان أن قصت على الأمير قصة حبها الجديد، فأكبر فيها الأمير الزوج هذه الصراحة وهذا الوفاء، لكن الغيرة أخذت تأكل قلبه، حتى أرهقته العلة ومات، فاعتقدت الزوجة أنها السبب في وفاة زوجها، ولذلك رفضت الزواج من حبيبها الدوق وانتبذت مكانا معزولا قصيا في أحد الأديرة.

تلك هي خلاصة القصة، وهي كما ترى «أرستقراطية» الجو، لكنها تمس المشاعر الإنسانية الصادقة. وقد دلت الكاتبة على بصيرة نافذة ولمسة فنية بارعة في تصويرها لأشخاص القصة. ولأول مرة في تاريخ القصة نرى التحليل النفسي ينصب على الحياة اليومية المألوفة، ولا يتبدد سدى في موضوعات بعيدة عن الواقع، ولهذا كله عدت قصة «أميرة كليف» بداية لطور في القصة جديد. •••

وما دمنا قد مسسنا موضوع القصة فحقيق بنا أن نختم لك فصل النثر بكلمة موجزة عن القصة في الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، فالقصة في الشطر الأعظم من ذلك القرن كانت صنيعة أهل الطبقة الرفيعة، ولما كانت تصور أخلاقهم وتعبر عن عواطفهم، فقد جرى العرف أن تسمى تلك القصة «بالقصة الأرستقراطية»، وقد كانت هذه «القصة الأرستقراطية» في أولى مراحلها «قصة ريفية» بالمعنى الذي فهمناه من الأدب الريفي في مواضع متعددة مما سلف.

78

كان المراد بالأدب الريفي في أول نشأته أن يصف الحياة الريفية الساذجة كما هي، لكنه تطور، فأصبحت القصيدة أو الرواية التمثيلية أو القصة التي نصفها بأنها «ريفية» لا تعني وصف الحياة الساذجة في الريف وصفا حقيقيا، ولكنها قد تصف أفرادا من الطبقة الراقية في مشاعرهم وأحاديثهم، وتخلع عليهم جوا ريفيا مصطنعا.

وأول قصة «ريفية» ظهرت في الأدب الفرنسي - وهي في الوقت نفسه خير ما يمثل هذا اللون من ضروب القصة في الأدب الفرنسي - هي قصة «أستري»

79

لكاتبها «درفيه»

80 (1568-1625م)، ولست تجد فيها رعاة وراعيات يتعهدون قطعان الغنم كما كان المفروض في الأدب الريفي الرعوي في أول نشأته، بل ترى سيدات وسادة جعلهم الكاتب في قصته راعيات ورعاة ليعيشوا في جو بعيد عن حضارة الدور والقصور. والقصة تروي حب رجل وامرأة من هذا الطراز المدني المتحضر، خلع عليهما الكاتب ثياب الرعاة ووضعهما في وسط ريفي، هما «سيلادون»

81

و«أستري» اللذان فرقت بينهما الغيرة وسوء التفاهم، لكنهما تلاقيا بعد كثير من المغامرات والمشاق.

لبثت «القصة الريفية» شائعة في الأدب الفرنسي، يقبل عليها القراء في شغف ويحبذها جهابذة النقد مثل بوالو، ثم حلت محلها «قصة المغامرة» وأهم فارق بين النوعين هو كما وصفه «بوالو» أن يختار كاتب القصة الريفية «رعاة لا يشغلهم إلا اكتساب قلوب حبيباتهم»، أما كاتب قصة المغامرة فيختار لهذا العمل «أمراء وملوكا، بل مشاهير القادة القدماء». وأول من كتب قصة مغامرة هو «جومبرفيل»

82 (1600-1674م) الذي كان بين أول من انتخبوا للمجمع الفرنسي، وهو يروي في قصته «بولكساندر»

83

مغامرات ملك جزائر كناري في سبيل «الملكة ألسديان» التي أخذ يجوب في إثرها أقطار الأرض، وجاء بعده «جوتييه دي كوست»

84 (1610-1663م) الذي يطلق عليه لغزارة إنتاجه وخصب قريحته «ديماس الأب للقرن السابع عشر»، والذي خلف للأدب ثلاث قصص جميلة صبغها بصبغة تاريخية، هي «كليوبطره» و«كاسندرا» و«فاراموند»،

85

وجاءت بعدئذ كاتبة للقصة مبدعة هي «مادلين دي سكيدري»

86 (1607-1701م) التي أخرجت بمعاونة أخيها «جورج» قصة «إبراهيم أو الباشا العظيم»

87

و«كورش العظيم»

88

و«سليلي».

89

هذان الضربان من القصة: «القصة الريفية» و«قصة المغامرة» يعدان فرعين لما يسمى بالقصة الأرستقراطية؛ لأنهما يعنيان بأشخاص من الطبقة العالية، وهما يتميزان بطابعين أساسيين؛ الأول: ضخامة حجم القصة إلى حد يعجب له القارئ الحديث، فقصة «أستري» - مثلا - تقع في خمسة آلاف وخمسمائة صفحة، و«بولكساندر» في ستة آلاف، وتقع «كليوبطره» في اثني عشر جزءا، و«كاسندرا» في عشرة أجزاء، وكذلك «كورش العظيم»، وعلة هذا الطول المستفيض الإطناب في الوصف، والإطالة في تحليل العواطف، ثم الاستطراد من القصة الأصلية إلى حكايات فرعية، وكلما دخل القصة شخص جديد أخذ يقص قصته وسيرته في تفصيل وإطناب. والطابع الثاني الذي يميز هذه القصص: خيالها الجامح في غير ما هو واقع في الحياة المألوفة، ثم عدم مراعاة الصدق في الوصف، فرعاة لا يشعرون ولا يتحدثون كما يشعر ويتحدث الرعاة، ويونان ورمان ومصريون وفرس يعيشون كما يعيش الطبقة الأرستقراطية في فرنسا في القرن السابع عشر، فأنت في رواية «إبراهيم» في تركيا، وفي «سليلي» في روما، وفي «كاسندرا» في فارس حين كان يحكمها دارا، وفي «كليوبطره» في مصر، لكنك مع ذلك لا ترى في كل هذه القصص إلا جو القصر الملكي في فرنسا، ولا تسمع إلا أحاديث كالتي تجري على شفاه رواد «الصالونات» الأدبية في ذلك العصر.

فكان من الطبيعي أن تنشأ في القصة حركة جديدة ترمي إلى مراعاة الصدق في التصوير، فهذا «شارل سورل»

90 (1599-1674م) يخرج قصة ريفية تهكمية يسميها «الراعي المسرف»

91

يقص فيها سيرة طالب يدعى «ليسيس»

92

أخذ يدمن مطالعة «أستري» حتى ملكت عليه لبه، فصمم أن يعيش عيش الرعاة في سبيل الحب . وأخذ يقلد «سيلادون» - بطل قصة «أستري» - في دقائق سلوكه وطريقة حديثه، وهنا مصدر التهكم بالقصة الريفية كما عرفت وكما تمثلها قصة «أستري». ولعلك تدرك الشبه بين هذا الأسلوب وما رأيته في قصة «دون كيشوت» الذي ظل يقرأ أدب الفروسية، حتى أصبح هو نفسه فارسا يقلد فرسان العصور الوسطى في مغامراتهم، فلا شك في أن «سورل» متأثر في طريقته بسيرفانتيس.

ثم ظهرت قصة أخرى تعمل على توطيد الحركة الجديدة التي ترمي إلى صدق الوصف في القصة، وهي «القصة المضحكة»

93

لصاحبها «بول سكارون»

94 (1610-1660م) الذي كان كسيحا مشوها عليلا، ومع ذلك كان ذا مزاج مرح ضحوك، وهو في قصته هذه يسخر من حب الأمراء والملوك الذي اتخذته «قصة المغامرة» موضوعا لها، ويتلو هذه قصة أخرى في الاتجاه نفسه، هي «القصة البورجوازية»

95

وكاتبها «أنطون فيرتيير»،

96

وهو في هذه القصة يسخر من رجال الطبقة الوسطى الذين يحاكون الطبقة الراقية في أخلاقهم وسلوكهم، فتراه يجعل أحد أشخاص الرواية - واسمه نيكوديم - يشتغل بالمحاماة أثناء النهار، ومحبا مغرما منازلا أثناء الليل. ويحب «نيكوديم» هذا فتاة تسمى «جافوت» وهي ساذجة تنظر إلى الأمور نظرة الفطرة السليمة العملية، فيخاطبها حبيبها بعبارة مزخرفة منمقة ليناجيها الغرام كما يفعل أرباب الصالونات، فلا تجيبه إلا بقولها «لا أفهم ما تقول!» ويستصحب نيكوديم حبيبته «جافوت» إلى «صالون» فتكون هناك موضع سخرية وضحك لما تبديه من جهل فاضح بالأدب.

وأخيرا جاءت مدام دي لافييت بقصة «أميرة كليف» فحددت بها المذهب الواقعي الجديد في القصة تحديدا واضحا.

القسم الثاني

في الأدب الغربي في القرن الثامن عشر والأدب الشرقي من سقوط بغداد إلى مبدأ القرن التاسع

عشر

مقدمة

وهذا هو القسم الثاني من الجزء الثاني، عرضنا فيه للأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني في القرن الثامن عشر.

وألقينا نظرة خاطفة على الأدب العربي من سقوط بغداد إلى أوائل القرن التاسع عشر، ولم نتوسع فيه توسعنا في غيره؛ لأنه موضوع قريب المنال لقراء العربية، ألفت فيه الكتب الكثيرة مجملة ومفصلة، وآثرنا أن نتوسع في الأدب الأجنبي المجهول عند أكثر قراء العربية.

وقد تكفل صديقنا الدكتور عبد الوهاب عزام بكتابة الفصل الخاص بالأدب الفارسي من غزوة التتار إلى آخر الدولة الصفوية، أي إلى منتصف القرن الثاني عشر الهجري.

وبقي من فصول قصة الأدب في العالم الفصل الذي يمثل الأدب من ابتداء القرن التاسع عشر إلى اليوم، وهذا هو موضوع الجزء الثالث من هذا الكتاب.

والله المسئول أن ينفع به ويعين على إتمامه.

أحمد أمين

10 ذو القعدة سنة 1364ه

16 أكتوبر سنة 1945م

الفصل الحادي عشر

الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر وهو الأدب الذي مهد

للثورة الفرنسية

الفترة التي نطلق عليها اسم القرن الثامن عشر في تاريخ الأدب الفرنسي لا تبدأ ببداية هذا القرن ولا تنتهي بنهايته، وإنما هي فترة تمتد من العام الذي شهد موت العاهل الفرنسي العظيم لويس الرابع عشر (1715م) إلى العام الذي انفجر فيه بركان الثورة الفرنسية الكبرى (1789م)، وعصور الأدب لا تفصلها الفواصل الحاسمة، بل يتداخل سابقها في لاحقها، حتى يفنى في تدرج بطيء رويدا رويدا. وهكذا كانت الحال حين بدأ القرن الثامن عشر: بقيت آثار العصر الاتباعي السالف واضحة ظاهرة، وبدأت بشائر المستقبل وبوادر التحول والانقلاب جلية لا يخطئها النظر، حتى شاء الله للأولى أن تزول، وللثانية أن تسود، فكنت ترى رجال الأدب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر يؤيدون قواعد المذهب الاتباعي من الوجهة النظرية، حتى إذا ما أخذوا يكتبون وينشئون كانوا هم أنفسهم أقوى عوامل الهدم لذلك المذهب بما يكتبونه وينشئونه؛ لأن موجة الزمن عنيفة جبارة، ولا بد أن تسير، فتستطيع أن تقول إن القرن الثامن عشر في فرنسا كان مرحلة انتقال بين الحكم المطلق والحكم الذاتي في السياسة، بين التقيد بأوضاع الكنيسة الكاثوليكية في روما وروح التسامح في الدين، بين المذهب الاتباعي والمذهب الابتداعي في الأدب.

وكانت التغيرات السياسية والاجتماعية في مقدمة العوامل التي انتهت بالبلاد إلى هذا التحول والانقلاب، فقد كان «القرن العظيم» عهدا سادت فيه الحكومة المركزية المطلقة، حيث الأمر كله في يد وحدة تصرفه، فسار كل شيء في ذلك العصر على وتيرة مطردة متسقة كأنها النظام، وظهر القوم في طاعة كأنها استقرار النفس ورضاها، وجاء القرن الثامن عشر، فكان عهد قلقلة واضطراب في أمور الدولة وفي نفوس الناس على السواء، فلئن أنتج النظام السياسي في القرن السابع عشر وحدة في الأدب بأن ساد المذهب الاتباعي كما رأينا، فقد أنتج اضطراب القرن الثامن عشر تفككا لتلك الوحدة، وانحلالا لذلك المذهب. وقد بدأ التدهور السياسي منذ أواخر عهد لويس الرابع عشر، ثم تولى البلاد بعده وصي كان داعية للفساد الخلقي بفساده، ثم جاء لويس الخامس عشر، فكان فاجرا عربيدا في غير حياء ولا خجل، وبذلك وصم الملكية بوصمة العار، وأعقبه حفيده الضعيف المسكين المنكود؛ وهكذا ساءت الحكومة في البلاد، وأصابها الوهن أعواما طوالا، فماذا ينشأ عن هذا في أنفس الناس غير التذمر والتبرم؟ ثم إلى أي شيء ينتهي الشعب الساخط المتذمر إن لم ينته إلى ثورة كبرى تكتسح أمامها كل شيء؟

وتريد الأيام أن تتآمر العوامل وتتحد؛ لتنتهي إلى نتيجة بعينها، فلئن كان الحكم السيئ قد أدى إلى قلق في النفوس، فقد زادت من ذلك القلق النفسي روح التشكك التي نشأت عن ازدهار العلوم ورقيها، كما زاد منه موقف الكنيسة التي كانت فيما سبق حصنا قويا يعمل على الحكم المطلق في شئون الدين، كما كانت الملكية تعمل عليه في أمور الدولة، لكن شاء التعصب الأعمى لرجال الكنيسة أن يقفوا في وجه الرقي والتقدم مع ما أصابهم من تحلل خلقي بغيض، فكان أن نفر الناس منهم، ونظروا إليهم بعين الشك والريبة، ومن هنا رأيت التشكك في أواخر القرن الثامن عشر سمة بارزة في رجال الفكر إذ ذاك، فجاء هذا التشكك العقلي في سلامة الأوضاع العتيقة عاملا آخر أدى إلى الثورة عليها وتحطيمها، فلم يعد لشيء قداسة في أعين الناس، وأخذوا يسألون عن كل شيء، ويتحدون كل سلطة، ورفضوا أن يكون للعهد الماضي سلطان على حياتهم الحاضرة.

قلنا إن انحلال السلطة السياسية في فرنسا بدأت بوادره في أواخر عهد لويس الرابع عشر نفسه، ولم يعد للقصر تلك الكلمة العليا التي كان يفرضها على الثقافة في البلاد، وانتقل الحكم في ذلك من فرساي إلى الشعب في باريس، فمن علائم هذا التحول عودة «الصالونات» الأدبية إلى الظهور بعد أن طمسها قصر فرساي حينا من الدهر؟ لكن تلك «الصالونات» لم تعد - على نحو ما كانت في العهد السابق - تنصرف بجهدها إلى تحديد الأوضاع الملائمة في دنيا الحب والغزل والبدع، بل أصبحت مراكز فلسفية يؤمها قادة الفكر ليكون أهم ما يتحدثون فيه شئون العلم والسياسة والاجتماع، ونشأ إلى جانب «الصالونات» رأي عام ما لبث أن أصبح أقوى عوامل التوجيه في مجرى الحياة الفرنسية، وبات تطور الأدب في فرنسا في القرن الثامن عشر مرهونا بالحالة الاجتماعية للطبقة الوسطى، لما أصابته التجارة والصناعة من رقي بعيد؛ ذلك لأن هذا التحول الاقتصادي كان من شأنه أن تثري طبقات الشعب العاملة، وأن تزداد قوتها في السياسة ازديادا مطردا، وأن تكون الجمهور القارئ الذي يتجه إليه الأدباء حين يكتبون.

وأضيف إلى هذه العوامل السياسية والاجتماعية عامل جديد كان له في الأدب الخالص أكبر الأثر، ونعني به تيارا أدبيا أخذ يتدفق من إنجلترا إلى فرنسا فيفعل فعله في أدبائها، وهذه حقيقة تستوقف النظر؛ لأن أنصار الاتباع في فرنسا إبان القرن السابع عشر أغمضوا عيونهم عن الأدب الإنجليزي، بل جهلوه جهلا كاد أن يكون تاما، فشيخ النقد الأدبي في فرنسا في ذلك العهد - بوالو - مثلا - لم يكن يدري شيئا عن «الفردوس المفقود» لملتن، فكتب عن فن الملحمة، ولكنه لم يذكر شيئا عن أعظم ملاحم العصر الحديث، وعني بأدب السخرية والهجاء، ولكنه لم يعلم شيئا عن شيخ الهجاء في الأدب الإنجليزي «جون دريدن»! أما في القرن الثامن عشر فقد انعكس الوضع، وأخذ الفكر الإنجليزي والأدب الإنجليزي يشقان طريقهما إلى فرنسا. فكان من أثرهما أن تحطمت قواعد الاتباع في الأدب، وأن ذاعت في رجال الفكر من الفرنسيين مبادئ الحرية والتسامح الديني، وحقوق الأفراد، واحترام الصناعة والتجارة.

وظاهرة أخرى في الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر جديرة بالذكر، وهي أنه اتخذ وسيلة لتحقيق أغراض عملية، فلم يعد الأدب أدبا خالصا مقصودا لذاته، بل أصبح أداة لنقل الأفكار إلى جمهور القراء، أو بعبارة أخرى أصبح أدب القرن الثامن عشر في فرنسا «أدبا تطبيقيا» لا «أدبا بحتا» - إن صح لنا أن نستخدم ما يقال في الرياضة والعلوم عند قسمتها إلى ما هو «بحت» وما هو «تطبيقي»؛ فالقطعة الأدبية باتت تقوم بمحصولها الفكري لا بجمالها الفني، وانظر في آيات ذلك العصر، تجدها لا تدل على الخيال المبتكر المبتدع، بل هي عبارة عن رسائل سياسية، مثل «روح القوانين» لمونتسكيو، و«العقد الاجتماعي» لروسو، أو رسائل في التربية مثل «إميل» لروسو، أو أبحاث في العلوم والتاريخ وما إلى ذلك. بل إن الشعر والمسرحية اتخذت كذلك وسائل لغايات، فأصبح الأدب كله أدوات للدعاية السياسية على أيدي «الفلاسفة» - كما كان يسمى رجال الفكر في الحركة الثقافية الجديدة - يحاربون بها النظم القائمة في الكنيسة والدولة معا، وينشرون بها آراءهم الجديدة في الدين والسياسة، فلا غرابة إن قلنا - بعد ذلك كله - إن أدب القرن الثامن عشر هو الذي مهد للثورة الفرنسية. (1) النثر (1-1) مونتسكيو

Montesquieu (1689-1755م)

ولد قريبا من بوردو، من أسرة اشتهر أبناؤها في القضاء والقانون، ولهذا اشتغل بالقانون جريا على سنة أهله، وأصبح مستشارا في محكمة بوردو وهو في عامه الخامس والعشرين، ثم أعقب عمه في رئاسته بعد ذلك بعامين، ولكنه كان قد درس «نيوتن»، وانهمك في المطالعة العلمية، وانتخب عضوا في المجمع الفرنسي، ولم يكد يتم انتخابه هذا حتى أنفق ثلاثة أعوام يرتحل في أنحاء أوروبا باحثا في الأحوال الاجتماعية والنظم السياسية لكل دولة حل في أرضها، وقضى نصف هذه المدة في إنجلترا وحدها، حيث انصرف بكل مجهوده إلى دراسة «لوك» ودرس مبادئ الدستور الإنجليزي، ثم عاد إلى بلاده ينشئ ويكتب.

كان مونتسكيو في كتابته مصلحا ينشد الحرية لقومه، لكنه لم يكن في إصلاحه المنشود حالما كما كان «روسو»، بل لم يكن ثائرا يريد هدم النظام القائم وكفى، إنما كان أرستقراطيا محافظا لا تدفعه النزعة إلى الإصلاح إلى أن ينكر على طبقة حقوقها وامتيازاتها، وكان مما كتبه مونتسكيو كتابه في التاريخ «تأملات في أسباب مجد الرومان وانحلالهم».

1

ولا شك أنه قد طالع قبل أن يكتب مؤلفه كتاب «جبن»

2 - المؤرخ الإنجليزي المشهور - المعروف عن «تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»، وكان «جبن» متأثرا بالثقافة الفرنسية، كما تأثر مونتسكيو بالثقافة الإنجليزية، لكن مونتسكيو في كتابته للتاريخ قد زل في خطأ فاحش، وذاك أنه لم يتريث عند تعميمه الأحكام. بل تراه يقفز من أمثلة جزئية قليلة إلى القانون العام في غير روية العالم الحذر، فأنت تطالعه وتأخذ عليه هذا المأخذ، لكنك - مع هذا - يستحيل أن تفر من فتنة حديثه، فهو يمتاز بما يحدثه في نفس قارئه من لذة ومتاع، وأسلوبه متدفع متحدر يتعرج به هنا وهناك، فيبسط لك شتى الآراء والأفكار.

وله كذلك كتاب «روح القوانين»

3

الذي وضع به أساس البحث المقارن في الحكومات والتشريع، وفيه يبحث الأخلاق والعادات في الأمم القديمة والحديثة على السواء.

على أن أهم ما يعنينا من إنتاجه الأدبي كتابه «خطابات فارسية»،

4

الذي يسخر فيه من أباطيل الكنيسة والدولة والمجتمع والأدب السائد، وفكرة هذا الكتاب أنه يتخيل رجلين من بلاد الفرس لهما قسط موفور من الثقافة والمال، هما: «ريكا» و«أزبك»،

5

أخذ هذان السيدان الفارسيان يضربان في أرجاء أوروبا، حتى انتهى بهما المطاف إلى باريس وشاهدا الحياة فيها. فاستوقفت أنظارهما بغرابتها، وطفقا يتبادلان الرأي فيما يشاهدان، ثم يسجلان ما يلاحظان لينقلاه إلى أصدقائهما في فارس، وكانت تأتي الرسائل في ذلك الحين إلى «أزبك» تنبئه أن مؤامرة تجري في «حريمه»، وإنما أدخل الكاتب هذا العنصر في «خطاباته» ليشبع في قرائه رغبة شديدة في مطالعة مثل هذه الأنباء عن النساء، حتى يكفل لنفسه متابعتهم لقراءة «خطاباته» بما فيها من نقد للحياة الفرنسية نفسها، وليس الناقد هنا رجلا تعود ما ألف من أوضاع سياسية واجتماعية فأفقدته العادة رهافة حسه، بل النقد صادر عن سيدين مثقفين غريبين عن البلاد، لا يعميهما الغرض والهوى، وبهذا استطاع مونتسكيو أن يلقي ضوءا ساطعا على مفاسد عهد الوصاية، الذي أعقب عصر لويس الرابع عشر، فبين مفاسد السياسة، وانحلال المجتمع والنفاق في الدين. (1-2) فولتير

Voltaire (1694-1778م)

لقد قيل إنه لو كان القرن السابع عشر عصر لويس الرابع عشر، فإن القرن الثامن عشر هو عصر فولتير، وهذا حق لا ريب فيه، فلن تجد رجلا يصور ذلك العهد خيرا من فولتير؛ ففي القرن الثامن عشر نشأت الطبقة الوسطى، وزاد ثراؤها، وكان فولتير «بورجوازيا» ثريا، وفي القرن الثامن عشر ازدهرت العلوم الطبيعية التي تسلك أسلوب البحث الجديد، وكان فولتير من هواة العلم يلتمسه أينما وجد إليه السبيل، وفي القرن الثامن عشر استهدف بناء المجتمع بكل ما فيه من نظم دينية وملكية وأرستقراطية للتغيير والتحوير، وكان فولتير في هذا الإصلاح رائدا وإماما، فكأنما كان فولتير لعصره بوقا يعبر عما يضطرب فيه من مذاهب وآراء، فبات على وجه الدهر وثيقة نطالع فيها نوازع ذاك الزمان.

في عام 1694م ولد لأسرة في باريس طفل نحيل ضئيل، أسماه أبواه، إذ عمداه «فرانسوا ماري أرويه»،

6

ولكنه أطلق على نفسه فيما بعد اسم فولتير، وقد كان له من هزال جسمه ما أكسبه مزاجا حادا عنيفا، وعلة لا تنقطع أسبابها، حتى نيف عمره على الثمانين وهو يشكو شكاية متصلة من ضعفه الذي يشرف به على الهلاك، ولكن هذه العلة الملازمة لم تحل بينه وبين العمل الذي لا ينقطع، والعراك الذي لا يهدأ، والكتابة المتصلة، والسخرية بعباد الله.

أراد له أبوه أن يكون محاميا، ولكن فولتير الشاب طمع في المناصب السياسية، فاتصل ببعض العلية، ووفق إلى السفر إلى هولندا تابعا للسفير الفرنسي، ولكنه ما لبث أن أثار السخط بسلوكه، من ذلك محاولته الفرار بفتاة أحبها، فأعيد إلى فرنسا حيث الحكومة ضعيفة مستبدة، فحمل فولتير القلم وملأ الدنيا بالرسائل والأناشيد، مع أنه يعيش في زمن تكفي فيه الإشارة من نبيل ليزج في السجن بمن يشاء، فما هي إلا أن ألفى فولتير نفسه محكوما عليه بسنة يقضيها بين جدران الباستيل، فكان ذلك درسا قاسيا حفزه إلى التفكير الجاد العميق في أخطاء الحكومة المستبدة، مع أنه عومل في سجنه برفق ولين، وتركت له الحرية يعمل ما يشاء، فانصرف إلى كتابة القصائد والمآسي فأنجز كثيرا من ملحمة أخرجها فيما بعد، وهي ملحمة «هنرياد»،

7

حتى إذا ما خرج إلى الحياة الطليقة مثلت له رواية «أوديب»،

8

فلقيت نجاحا عظيما، وشاع اسمه بين الناس.

والشهرة في سن الثلاثين متعة، استمتع بها فولتير، وعاش بفضلها بين العظماء، حتى لكأنه يعيش في حلم أذهله عن الدنيا الواقعة من حوله، ولكن حادثا وقع إذا ذاك أيقظه من ذلك الحلم البديع، وألقى به في مسالك وعرة شائكة، وذلك أن نبيلا استشاط منه غضبا، فأوحى إلى خدمه أن يوسعوه ضربا وتعذيبا، ففزع فولتير إلى العدالة أن تقتص له من الأثيم المعتدي، ولكن هيهات! أيشكو نبيلا جليلا فرد من الشعب؟ وسارعت أسرة النبيل فقذفت بهذا الذي اجترأ عليها بالشكاية في ظلمات الباستيل، فلما قضى عهد السجن وأطلق سراحه، أقسم ليؤججنها حربا شعواء على المجتمع الذي احتمل مثل هذا الظلم الشنيع.

ها هنا ولد فولتير مولدا جديدا، فقد سافر إذ ذاك إلى إنجلترا، ولم يكد يستقر به المقام هنالك حتى صادفه ما ازداد به فكره ثورة وانقلابا. فقد شاهد أن أبناء الطبقة الوسطى من الإنجليز لهم أن يطمحوا إلى أرفع المناصب، ورأى بعيني رأسه في تلك البلاد كيف يمكن للحرية والنظام أن يستقيما جنبا إلى جنب، وأن الإيمان الديني السليم والفلسفة الحرة الطليقة يمكن أن يقوما في غير تشاحن ولا عداء، شهد المذاهب الدينية الكثيرة تختلف وتصطرع، فتعلم الشك، وطالع «جون لوك» فتعلم الفلسفة وقرأ «سوفت» فاتخذ طريقته الساخرة نموذجا يحتذيه، ودرس «نيوتن» فعرف مذهبا علميا جديدا، وقابل في إنجلترا فريقا من أعلام أدبائها: «بوب» و«سوفت» و«تومسن»، وتعلم الإنجليزية قراءة وكتابة وحديثا، فأتقن مطالعة جزء كبير من الأدب الإنجليزي، إذ قرأ «شيكسبير» و«ملتن» و«دريدن». حقا لقد علمته مرارة السجن في الباستيل أن يتمنى للناس مجتمعا جديدا، ثم بينت له زيارته لإنجلترا كيف يمكن لهذا المجتمع الجديد أن يكون.

عاد إلى فرنسا، وسرعان ما أعاد لنفسه الشهرة والثراء، فقد جاء هذه المرة إلى أرض الوطن، وقد تغير وجه الدنيا في رأيه، فأخذ يكتب بقلم من نار كتابه «رسائل فلسفية» أو «رسائل عن الإنجليز»،

9

وقد أراد حين يبسط لقومه النظم الإنجليزية أن يحفزهم إلى إعادة النظر في أفكارهم السياسية والدينية، وبهذا وضع الأساس لمذهبه الجديد، على نحو غير مباشر، وهذا المذهب الجديد يتلخص في كلمة واحدة: «الحرية»، فضلا عن أنه أبان في هذا الكتاب أهمية التجارة وقيمة العلم، فكان هذا الكتاب وحده كفيلا أن يضعه موضع الزعامة في الطبقة الوسطى فيما نشب بينها وبين الطبقة العليا من عراك، وأدركت الشرطة ذلك فصادرت الكتاب وأحرقته في ساحة العدل بقرار من المحكمة، وكان لا بد لكاتبه - إن أراد لنفسه النجاة - أن يلوذ بالفرار، فاحتمى بصديقته المعجبة به «المركيزة دي شاتليه»،

10

وأقام في كنفها ستة عشر عاما، درست معه خلالها علوم الفلك والميكانيكا والكيمياء، كما درست عليه التاريخ بصفة خاصة، ومن أجلها كتب فولتير في التاريخ كتاب «حياة شارل الثاني عشر»

11

وغيره من كتب التاريخ، وقد أرادت «مدام دي شاتليه» - كبعض النساء اللائي أحببن عظماء الرجال - أن يعترف العالم ببطلها، فحاولت أن توفق بينه وبين البلاط، وأصابت التوفيق فيما حاولت، كما وفقت في ضمه إلى المجمع الفرنسي، ثم أراد الله لفولتير أن يحرم هذا الوكر الهادئ، إذ هامت «مدام دي شاتليه» حبا بشاب جميل أذكى فيها العاطفة، وما هي إلا أن جاءتها المنية وهي تضع ثمرة ذلك الحب، فحزن فولتير على فقدها حزنا شديدا عميقا.

عندئذ أوى فولتير إلى فردريك الثاني ملك بروسيا، وقد كان بينهما تبادل الرسائل الودية، وكان فولتير يتمنى للإنسان «حكيما حاكما»، أو مستبدا مستنيرا، وظن أن هذه الأمنية الجميلة تتمثل في فردريك، ولكنه لم يلبث مع ذلك المستبد المستنير في مقر حكمه طويلا، حتى تبين له أن الملوك الفلاسفة يصطنعون من وسائل الحكم ما يصطنعه الملوك الطغاة في فرنسا، فأين المفر؟ إلى سويسرا. فلعله واجد في تلك الجمهورية من الدعة والأمن ما لم يجده في أحضان الملوك، ولكنه سرعان ما صادف لونا جديدا من ألوان العسف البغيض، وهو ما يضطرم في نفوس الناس من تعصب ممقوت، فلم يطمئن رجال الدين في سويسرا إلى مقامه بينهم، وأخذوا يتحرشون به ويثيرون الناس عليه، وإذن فلن يجد الرجل حياة آمنة في سويسرا أو فرنسا، فاتخذ لنفسه منزلين على جانبي الحدود الفرنسية السويسرية، ليفر إلى هنا إذا عصفت به العاصفة هناك، ثم يقفز راجعا إلى هنالك إذا دارت به الدوائر ههنا.

على هذا النحو أقام أمدا طويلا أتاح الفرصة لاسمه أن يسير بين الناس شهرة وذيوعا، فمن عرينه ذاك الذي كمن فيه واختفى من وجه الشرطة، أخذ ينثر رسائله ومقالاته نثرا متلاحقا، فلا تكاد تظهر حتى تشيع في أرجاء أوروبا، وهو في هذه الرسائل يجد حينا ويسخر حينا، وكثيرا ما أخذ على نفسه أن يدفع عن بريء تهمة باطلة، فاقترن اسمه بين الناس بالشجاعة الأدبية والإنسانية الرحيمة، فسمع عنه من الناس ألوف لم يطالعوا ما كتب، حتى بات فولتير في أفواه الشعب أسطورة تروى.

وكان بين ما أنتجه فولتير في حياته الأدبية الخصيبة في صحبة «مدام دي شاتليه» «الدنيا كما تسير»

12

و«صادق»

13

و«ميكرومجا»،

14

فلما ذهب إلى بروسيا وأقام مع فريدريك كتب «قرن لويس الرابع عشر»،

15

وانتقل من بروسيا إلى سويسرا حيث أقام قريبا من جنيف، فكتب قصائده المشهورة «كارثة لشبونة»،

16

و«القانون الطبيعي»،

17

كما أخرج «مقالة في السلوك»،

18

وأخيرا وهو في مستقره عند الحدود الفرنسية السويسرية، أخرج عددا من المآسي منها «تانكريد»،

19

وقصصا قصيرة منها «كانديد»،

20

ونقدا أدبيا من بينه «تعليق على كورني»،

21

وتاريخا مثل كتابه «تاريخ الروسيا في عهد بطرس الأكبر»،

22

وكتابه «تاريخ محكمة باريس»،

23

وفلسفة منها «رسالة في التسامح»،

24

و«قاموس فلسفي».

25

إن مؤلفات فولتير تؤلف مكتبة كاملة، فهي تبلغ عددا يربي على مائتين وستين مؤلفا - منها الطويل ومنها القصير - فيها ملحمة، وفيها قصائد تهذيبية، وفيها ضروب مختلفة من الشعر، وفيها مآس وملاه وتاريخ وسير، وفيها أبحاث علمية ورسائل دينية ومقالات فلسفية، وفيها قصص ونقد، أضف إلى ذلك كله أنه كان دائم المراسلة مع أصدقائه العديدين، حتى بلغ ما كتبه من رسائل أكثر من عشرة آلاف! فانظر إلى هذه الخصوبة النادرة التي لم تمض بغير أثر سيئ، فقد اقتضته أن يبعثر قواه بعثرة لم تمكنه أن يكون أديبا من الصف الأول في إنتاجه! فلم ينتج شيئا نستطيع أن نضعه في الطراز الممتاز من نوعه.

وسنرجئ فولتير الكاتب المسرحي، وفولتير الشاعر، إلى أجزاء أخرى تالية. أما في هذا الجزء الذي خصصناه للنثر الفرنسي، فلا يسعنا أن نقول عن أسلوبه، إلا أنه المثل الأعلى الذي يطمح إليه كل من حمل القلم؛ فهو أسلوب زاخر بالصور، ولكنه واضح، قوي نفاذ إلى القلوب، لكنه سهل سلس، تراه دائما كأنما لم تمسسه يد الفنان إلا مسا رفيقا، لكنه مع ذلك مترع بلفتات الذكاء الوقاد، فبهذا الأسلوب الموسيقي الرخيم أنشأ فولتير ما أنشأه على اختلافه وتنوعه. ولئن حقق له أسلوبه سائر أغراضه، فقد كان قبل كل شيء أداة طيعة مكنته من السخرية التي بلغت في كتابته حدا لم تكد تبلغه عند كاتب آخر، فاستحق من أجلها في تاريخ الأدب أن يلقب «بالساخر العظيم». وممن كان يسخر فولتير؟ من كل ما نفر منه قلبه من القساوسة والملوك والطغاة والظالمين؛ فهؤلاء جميعا أعداء لما أحب واشتهى وجاهد حياته من أجله، هم أعداء الله والحب والعطف، هم أعداء الحرية في الفكر والعمل. وجدير بنا في هذا الصدد أن ننفي عن فولتير تهمة الإلحاد التي لصقت به مع أنه أنفق حياته يحارب مذاهب الملحدين من معاصريه، وبنى كنيسة نقش على جدرانها «مهداة إلى الله من فولتير.» وفي ذلك قال: «لن تجد كنيسة غير هذه أهديت إلى الله، إنما تبنى الكنائس للقديسين، أما أنا فأوثر أن أكون خادما للسيد على أن أكون خادما لأتباعه.»

وفولتير - فضلا عن مكانته الأدبية - مؤرخ بدأ طريقة جديدة في كتابة التاريخ، فمؤلفة «مقالة في السلوك» تحدد بداية طور جديد في دراسة الإنسان لماضيه ، وأخذ المؤرخون ينهجون منهجه، فتطور علم التاريخ بهذا تطورا ملحوظا، نعم تستطيع أن تأخذ على هذا المؤلف بعض المآخذ، فهو أحيانا يذكر تفصيلات خاطئة، وهو كثيرا ما يصل إلى تعميمات لا عمق فيها، وتراه في بعض المواضع يتأثر بالهوى، ومع ذلك كله فهو - كما قلنا - يحدد طورا جديدا في كتابة التاريخ؛ لأنه ينتزع من الحوادث التاريخية فلسفة قائمة على التطور الطبيعي، لا على تدخل قوة فوق الطبيعة، فقد كان المؤرخون قبله يعللون مجرى الحوادث بإرادة عليا تشرف عليها فتوجهها كيف شاءت. أما فولتير فلا يرى في حوادث التاريخ - بل في حوادث الكون كلها - إلا أسبابا تعقبها مسببات، وهو أيضا لا يجعل التاريخ سجلا للحروب والملوك، بل يجعله قبل كل شيء تاريخا للمدنية الإنسانية والتقدم العقلي.

وهو في فلسفته يتابع المدرسة الإنجليزية وعلى رأسها «بيكن» و«لوك»، التي تعتد بإدراك الحواس وبالتجربة في علمها بالأشياء، وفي الدين لا يعادي المسيحية في ذاتها، بل يعادي النظام الكنسي السائد في عصره؛ إذ كان هذا النظام في رأيه مقرونا بالتعصب والقسوة والهوس، هو يعادي المذهب الكاثوليكي الروماني الذي يراه عاملا من عوامل الجمود التي تعوق حركة التنوير والتقدم، فهو مؤمن بالله، لكنه لا يحترم الشعائر التي تدل على نفاق، وهو كذلك لا يؤمن بالوحي، وذلك عنده لا يتنافى مع إيمانه بالله، وأما مذهبه في الأخلاق فهو المذهب النفعي الذي يجعل الفضيلة فضيلة؛ لأنها تنفع الإنسان، لا لأنها واجب مجرد يجب أداؤه بغض النظر عن نتائجه، فمصلحة المجتمع هي المقياس الوحيد الذي يقاس به العمل إن خيرا وإن شرا.

وفيما يلي موجز لقصته «كانديد» لعلها تدلك على شيء من خصائصه:

كان شاب يعيش في قصر بارون بوستفاليا، وكان بطبعه قويم الخلق، طيب القلب صريحا؛ ولهذه الصفات أطلق عليه اسم «كانديد». وقد كان خدام القصر يظنون كانديد ابن أخت البارون نجلته من جار فاضل لم تقبل الزواج منه؛ لأنه لا يحفظ من أسماء أجداده إلا واحدا وسبعين اسما، ومحا الزمان بقية أسلافه، وليس هذا دليلا على النسب الشريف.

وكان للبارون ابنة اسمها «كونجوند» في السابعة عشرة من عمرها، فتانة جذابة، وكان «بانجلوس» شيخا في قصر البارون يلقي فيه المواعظ الدينية التي اعتاد كانديد أن يصغي إليها في سذاجة سنه وبساطة أخلاقه، وكانت أولى تعاليم الشيخ وأهمها «أن لا معلول في هذا العالم بغير علة، وأن هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه من الدنى.» يقول بانجلوس: إن الأشياء لا يمكن أن تكون على غير ما هي عليه، فكل شيء أعد لغاية مقصودة، وهي بالضرورة خير غاية يمكن أن يقصد الخالق إليها، فالأنف قد أعد ليحمل المنظار، ومن ثم كانت لنا مناظير، والساق قد أعدت للجورب، ومن ثم كانت لنا جوارب، والصخور أعدت لتنحت في حصون وقصور، ومن ثم كان لسيدي البارون هذا القصر الجميل، والخنزير خلق ليؤكل، ومن ثم كان لحم الخنزير لنا طعاما، فلا يكفي إزاء هذا كله أن نقول إن العالم خير، بل ينبغي أن نضيف أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.

أصغى كانديد في انتباه إلى تعاليم الشيخ، وآمن بما سمع، وكان طوال إقامته بالقصر مفتونا بابنة البارون «كونجوند»، ولكنه لم يجرؤ أن يعلن لها إعجابه بها، فقد تقابلا ذات صباح، وعلتها حمرة الخجل وعلته، وحيته بصوت متقطع وحياها، وفي اليوم التالي تقابلا مصادفة وراء ستار. فأسقطت كونجوند منديلها والتقطه كانديد، فأمسكت الفتاة بيد الفتى، فقبل كانديد يدها في لهفة وعاطفة مشتعلة، وتقابلت منهما الشفاه وتلاقت النواظر وارتعشت الأطراف، ثم شاءت المصادفة كذلك أن يجيء البارون على مقربة من الستار، فوقعت عينه على سبب ومسبب من أسباب الدنيا الكثيرة ومسبباتها، لكنه قذف بكانديد خارج القصر وركله ركلا عنيفا، وسقطت كونجوند في إغماءة لم تكد تفيق منها حتى صفعتها أمها البارونة على أذنها صفعة قوية؛ وبهذا اضطرب الأمر كله في قصر كان أبدع ما يمكن لقصر أن يكون.

خرج كانديد من فردوسه الأرضي طريدا، فطوف أمدا طويلا، لا يدري إلى أين يسير، يبكي ويصعد البصر إلى السماء، ثم يصوبه الحين بعد الحين إلى أجمل القصور التي تحوي أروع النساء، وكان يبيت على الطوى، ويفترش الحصباء في الحقول العارية والثلج يتساقط فوقه أكداسا فوق أكداس، فلما أوشك أن يجمد جمود الموت أخذ يزحف في الصباح، حتى بلغ القرية المجاورة، وليس معه من المال شيء، ثم هده النصب، فوقف منهوكا أمام فندق، فمر به سيدان في ثياب زرقاء، فقال أحدهما للآخر حين أبصراه: «هذا يا أخي رجل جميل البنية ملائم الطول.» وتحدث السيدان إلى كانديد واصطحباه في رفق إلى حيث تناول معهما طعام الغداء .

قال كانديد: ليس معي يا سادة ثمن الطعام.

فقال أحدهما: لا عليك، فإن من في أسمالك لا يدفعون شيئا، ألست تبلغ في الطول خمس أقدام وخمس بوصات؟

فقال كانديد: نعم، سيدي، فهذا مقياس طولي.

فقال أحدهما: تعال يا سيدي واجلس إلى هذه المائدة، فأنت ضيفنا، بل لن ندع رجلا مثلك بغير مال، فقد خلق الناس ليعين بعضهم بعضا.

قال كانديد: إنك لعلى حق فيما تقول، وهذا ما أنبأنيه بانجلوس، وها أنا ذا أرى كل ما في العالم يسير نحو الخير.

قال أحدهما: ألا تحب ...

فقال كانديد: نعم، أحب كونجوند.

قال أحدهما: بل أسألك هل تحب ملك البلغاريين؟

فأجاب كانديد: كلا، فلم أره.

قال أحدهما: وكيف ذاك! إنه أفضل الملوك، وينبغي أن تشرب نخبه.

فقال كانديد: ها أنا ذا أشرب نخبه بكل قلبي.

فقال السيد: كفاك هذا، فقد غدوت الآن من حماة البلغاريين وبنيت مجدك.

ثم قيداه في أغلال الحديد وساقاه إلى فرقة بالجيش وعلماه كيف يسل السيف وكيف يطلق النار، وكانا يجلدانه كلما أخطأ حتى بات كانديد بين الجند بارعا.

ولكن عن له ذات يوم أن يسير على عقيدة عنده بأن للإنسان ما للحيوان من حق في استخدام أعضاء جسمه كيف شاء، ولكنه لم يكد يبعد في مسيره حتى أقبل عليه أربعة رجال وشدوا وثاقه، وألقوا به في غياهب السجن، ثم جيء به أمام القضاء، فسألوه أيهما يفضل؟ أن يضرب بالسياط ستا وثلاثين مرة، في كل مرة يضربه جنود الفرقة جميعا، أم أن يطلق عليه اثنا عشر رصاصة؟ وعبثا حاول أن يقيم الدليل على أن إرادة الإنسان حرة، وأنه يرفض العرضين جميعا، ولكنه أرغم على الاختيار فآثر العقاب الأول، وكان اختياره هذا دليلا على ما وهبه الله للإنسان من حرية في الإرادة! فأخذت السياط تنوشه، حتى بلغت الضربات ألفين في مرتين اثنتين، وكان ذلك كافيا أن يمزق جسده تمزيقا، فلما هم الجند أن يبدءوا في المرة الثالثة صاح بهم كانديد أن يرحموه فيقتلوه، وقبل منه الرجاء وشد فيه الوثاق، لولا أن ملك البلغاريين مر بهم، وسأل المذنب ما ذنبه؟ فأجاب الفتى قائلا: إنه شاب حدث اشتغل بالفلسفة فجهل أمور الدنيا وتلك جريرته، فعفا عنه الملك وتولى علاجه طبيب فبرئت جروحه بعد ثلاثة أسابيع، وما كاد يستقيم على قدميه حتى نشبت الحرب بين البلغاريين وأعدائهم، ها هي ذي المدافع تحصد الجند حصدا في هذا العالم الذي هو خير ما يمكن خلقه، وليس في الإمكان أبدع منه! وكان كانديد فيلسوفا فلم يطق أن يرى تلك المجزرة البشرية فاختبأ، ثم انتهز فرصة كان الجند فيها يرتلون أناشيد الصلاة، وأسرع هاربا يخطو فوق جثث وأشلاء، حتى بلغ قرية في أرض أعداء البلغاريين، فألفاها رمادا إذ أحرقها البلغاريون وفقا للقانون الدولي، وشهد هنالك كهولا أثخنتهم الجراح يرمقون بعيون كليلة جثث زوجاتهم ملقاة على الأرض طرحى، وشهد في موضع آخر ناسا تأكلهم ألسنة النار في بطء، فأخذوا يضرعون إلى الله أن يمن عليهم بموت سريع، فسارع كانديد إلى قرية أخرى من قرى البلغاريين أنفسهم، فلقي الكوارث بعينها، فها هو ذا يطأ أعضاء مبتورة لتوها لا تزال ترتعش بالحياة، فمضى مسرعا حتى خلص من ميدان القتال، وليس في وفاضه إلا قليل من زاد، لكنه لم ينس قط فاتنته كونجوند!

وبلغ كانديد أرض هولنده، وطفق يسأل الناس إحسانا، فيتهدده الناس بالسجن إذا هو لم يكف عن السؤال، وأخيرا صادف رجلا كان قد أنفق ساعة كاملة يحاضر جمعا حاشدا في وجوب الإحسان، فمد إليه كانديد يد المحتاج، فنظر إليه الخطيب سائلا : «ماذا أنت صانع هنا يا فتى؟» فأجاب كانديد: إن ضرورة الحوادث قد دفعته إلى طلب الإحسان دفعا، ولم يكن له قدرة على تحوير مجرى الأسباب والمسببات في هذه الدنيا، فنهره الخطيب قائلا: عني أيها الوغد!

وهكذا مضى عنه من كان يدين بالعقيدة المسيحية في الحب والإحسان، وشاءت المصادفة أن يمر به رجل لا يدين بالمسيحية، وأشفق الرجل على هذا الإنسان البائس، وإنه لإنسان كسائر الناس يمشي على قدمين، وليس هو من ذوات الظلف أو الجناح! فاستصحبه إلى داره وأطعمه وعلمه صناعة يؤديها في مصانعه.

وخرج كانديد في صبيحة اليوم التالي يجول في الطريق، فقابل سائلا كادت حروق النار تمزق جسمه، وقد عشيت عيناه وتآكل أنفه، واعوج فمه واسودت أسنانه، فتحركت الشفقة في قلب كانديد وناول ذلك المسكين قطعتي النقود اللتين كان رجل الأمس قد أعطاهما إياه، فنظر إليه الشيخ، وكاد يسقط على الأرض ودمعت عيناه، فذعر كانديد وخطا إلى الوراء فزعا.

قال الشيخ: وا أسفاه! ألست تعرف صديقك بانجلوس؟

فأجاب كانديد: ماذا تقول؟ أهو أنت أستاذي العزيز؟ كيف حالت حالك وماذا أصابك من السوء؟ ما الذي أخرجك من أجمل القصور، وماذا حدث لكونجوند؟

قال الشيخ (وقد نقله كانديد إلى إسطبل سيده وأطعمه): ماتت كونجوند.

فطار صواب كانديد، ثم أفاق، فقال: هل ماتت كونجوند؟ أيتها الدنيا وأنت خير ما يمكن خلقه من الدنى! وكيف ماتت؟

فأجاب الشيخ: بقرها الجند البلغاريون، ولما أراد البارون أن يحميها ضربوه، ثم قطعوا البارونة إربا إربا، وهدموا القصر، حتى لم يبق فيه حجر على حجر، لكننا انتقمنا، إذ أحدث جندنا مثل هذا في قصر لأمير بلغاري.

واستعطف كانديد سيده أن ينفق على علاج أستاذه، وشفي بانجلوس لولا أنه فقد عينا وأذنا، واستخدمه السيد حاسبا؛ لبراعته في الحساب، وبعد حين شاءت الضرورة لذلك الرجل أن يرحل إلى لشبونة، فاستصحب الفيلسوفين بانجلوس وكانديد، وأخذ بانجلوس يشرح لسيده وهما في الطريق كيف لم يكن في الإمكان أبدع مما كان، فلم يوافقه الرجل على رأيه ذاك، فأضاف بانجلوس: إن طبيعة الإنسان قد فسدت، فالله لم يخلق الناس ذئابا، لكنهم قد باتوا من الذئاب، إن الله لم يعط الناس مدافع أو بنادق، لكنهم صنعوها ليفتك بعضهم ببعض ... ولكن الشرور الفردية تكون في النهاية الخير العام، وبينما هو ماض في حديثه ذاك، اكفهرت السماء وهبت الريح، وعصفت العواصف بالسفينة وهي على مرأى من ميناء لشبونة.

ولم تلبث السفينة أن باتت حطاما، وغرق كل من عليها إلا بانجلوس وكانديد ومعهما بحار فظ غليظ القلب، ولكن لم يكد الفيلسوفان يطآن أرض لشبونة ، حتى زلزلت الأرض زلزالها، واندلعت نار بركانها. وامتلأت الشوارع باللهب والرماد وترنحت الدور فوق أساسها، واندكت قوائمها، وقضى ثلاثون ألفا من سكان المدينة نحبهم صرعى، وأصابت كانديد قطع من الصخر هوت عليه فجرحته وسقط يتمرغ من الألم.

وبينما الناس في فزعهم والهون، أخذ بانجلوس يهدئ من روعهم، وينزل السكينة على قلوبهم بقوله: إن كل ما يحدث في الدنيا معقول مقبول؛ لأن العالم خير، ولا بد أن يقع فيه ما وقع؛ لأن لكل شيء سببا، فجذبه شاب يتشح بالسواد - وكان عضوا في محكمة التفتيش - وقال له: يظهر أنك يا سيدي لا تؤمن بالخطيئة الأولى، فلو كان كل شيء خيرا لما هوى الإنسان من الجنة، ولا كان هناك عقاب، وكأني أسمعك تقول: إن كل شيء مقدور، وإذن فأنت لا تؤمن بحرية الإرادة. فبدأ بانجلوس يجيب بأن حرية الإرادة لا تعارض الجبر؛ لأنه من جبر الإرادة أن تكون حرا.

لكن الشاب القسيس لم يمهله حتى يفرغ من جوابه، وأمر به فقبض عليه وزج في السجن، كما سجن تلميذه كانديد؛ لأنه كان يستمع إليه في إعجاب.

هدأت الأرض بعد زلزالها، وقد تهدم من لشبونة ثلاثة أرباعها، فأجمع حكماء المدينة أن لا وسيلة للإنقاذ خير من أن يلقى ببعض المذنبين في النار ليحترقوا احتراقا بطيئا في حفل من الناس يرتلون لله الصلاة والدعاء، وإن هي إلا أيام قلائل تمضي حتى جيء برجل رفض أن يأكل الطعام مطهيا بالشحم، مع أنه تقليد لا بد من احترامه، وألقي بالمسكين في النار، كذلك جيء بكانديد وأمر أن يجلد بالسياط، كما سيق بانجلوس إلى حبل المشنقة؛ لأنه إباحي التفكير، حدث كل هذا والناس من حولهم يرتلون الدعوات وينشدون الصلوات أن ينقذ الله لشبونة من زلزالها المخيف.

فلم يسع كانديد - وقد هاله ذلك كله - أن يصيح: «إن كانت هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه، فما عسى أن تكون أسوأ الدنى؟»

هذا مثال لفولتير، ولن تخطيء فيه روحه الهازلة الساخرة، فهو يهزأ بمن ينظر إلى الدنيا نظرة التفاؤل، لما يراه في العالم من ألوان الشرور، وقد أمسى أسلوب فولتير - الذي يمتاز بالتدفق والصقل والبساطة والوضوح - مثلا أعلى يطمح إليه الكاتبون، وأوحت قصة «كانديد» بما أوحت إلى «رينان» و«أناتول فرانس» من كتاب فرنسا، ثم تعدى تأثيره أرض الوطن إلى سائر الأقطار المجاورة، فاحتذاه «بيرون» في تهكمه، وتمنى «برناردشو» أن يقوم في إنجلترا بالدور الذي قام به فولتير في فرنسا من نقد وتهذيب يقومان على السخرية اللاذعة. (1-3) ديدرو

Diderot (1713-1784م)

وهذا رجل آخر وقف بإنتاجه العظيم الضخم إلى جانب فولتير، هذا يذيع في الناس آراء «جماعة الفلاسفة» الذين أرادوا قلب المجتمع عن طريق التنوير العقلي بفطنته وسخريته وسحر أسلوبه، وذاك ينشرها نشرا علميا هادئا، وقد أراد له أبوه بادئ الأمر أن يلتمس سبيله إلى وظائف الكنيسة، أو أن يدرس القانون أو الطب، فأبى الفتى على أبيه ما أراد له، وفقد بذلك معونته، فأصابه الإملاق، ولم يستطع العيش إلا بمجهوده الشاق، معلما وكاتبا مأجورا لأصحاب المكاتب، فيكتب لهم ما يؤجرونه على كتابته، فهذا كتاب يطلب إليه ترجمته، وتلك قصة وضيعة يكتبها إجابة لدعوة من الناشر الذي يتلمس موارد الكسب بكل السبل، بل هذه مواعظ يعدها لتلقى في الكنائس، وكان قد جمع نتاجه الفكري الخاص في «آراء فلسفية»،

26

لكنها أحرقت بأمر من برلمان باريس، ثم ازداد عليه سخط القابضين على زمام الحكم حين نشر «خطاب عن العمي موجه إلى المبصرين»، فألقوه في السجن، وبعدئذ هم بعمله الجسيم الذي لبث مشتغلا به عشرين عاما أو يزيد، وهو إعداد موسوعة شاملة للمعارف الإنسانية جميعا، ولو أن ذلك لم يمنعه أن يتابع إخراج ما يجيش به صدره من خواطر، ومع ذلك كله ألمت به ضائقة مالية في أخريات سنيه، فأعانته عليها «كاترين» إمبراطورة الروسيا التي شاءت أن تكون راعية له تحميه، وزارها الكاتب في قصرها زيارة لم تطل، ثم عاد إلى باريس حيث عاش عيشة هادئة إلى أن وافته منيته.

هكذا أخذ «ديدرو» ينثر كفايته ومواهبه نثرا ذات الشمال وذات اليمين، لا يحرص لنفسه على وقت أو عافية أو مال، قد حباه الله عقلا يموج بالأفكار المبتكرة، كأنه الحقل الخصيب ينبت في كل يوم من صنوف النبات ألوانا، لكنه مع ذلك أعوزته القدرة على التفكير المتسلسل المتساوق، كما امتنعت عليه القدرة على التركيز، ومن هنا كان غزير الإنتاج، قوي الفكر، لامع القريحة، ومع ذلك لم يخلف لنا شيئا نستطيع في وضوح وجلاء أن نرى فيه فلسفته الخاصة، ولا هو ترك فيما ترك أثرا فنيا واحدا يدل على الصقل والتجويد، على أن لنا أن نقول عن فلسفته إنها مادية صميمة، وهو في وجهة نظره إلى الأدب يبشر بمذهب الابتداع، إذ دعا إلى ضرورة اعتماد الفكر العبقري الموهوب على نفسه، فلا حاجة به إلى قواعد القدماء ونماذجهم يحتذيها، فها هي الطبيعة أمامنا، ففيم العودة إلى ما قاله آباؤنا؟ نعم إن للآثار الأدبية القديمة قدرها العظيم، ولكن هل يعني ذلك أن نحد قرائحنا بحدودها؟ لهذا كنت تراه شديد الإعجاب بالخارجين على قواعد الاتباع من أدباء الإنجليز، أمثال «رتشردسن»

27

و«ليلو»

28

و«مور»

29

و«ستيرن».

30

ولنا إلى هذا الحديث عودة حين نتناول أديبنا في جزء تال كاتبا مسرحيا، ولديدرو فوق ما ذكرنا «آراء غريبة عن ممثل الملهاة»،

31

ولعله أمتع كتبه جميعا، وفيه بحث في قواعد الفن التمثيلي، وله كذلك «ابن أخي رامو»،

32

وهي قصة جميلة يسخر فيها من أخلاق العصر، وقد ترجمها «جيته» إلى الألمانية. وقصة أخرى عنوانها «الراهبة»،

33

فيها وصف لحياة الأديرة، وله كذلك «جاك المؤمن بالقدر وسيده»،

34

وهي ليست قصة بالمعنى الصحيح للقصة، بل هي سلسلة محاورات ومناقشات تتخللها حكايات ومغامرات. وأخيرا نذكر مقالاته التي كتبها عن معارض التصوير التي أقيمت في باريس من سنة 1759م إلى سنة 1795م، وقد نشرها باسم «الصالون»، وهو في هذه المقالات يميل إلى مذهب الابتداع، معترضا على رجال الفن الذين يشترطون التقيد بأوضاع الفن القديم بقوله: «وماذا لو لم يكن في الوجود قديم؟»

وأجل إنتاجه قدرا هو «الموسوعة» - أو دائرة المعارف - التي أدارها وساهم في تحريرها، فقد أحس الناس أن المعارف المتفرقة لا بد من جمعها ليكون للإنسانية من مجموعها سبيل مؤدية إلى الحق، وكان هذا الإحساس هو الحافز الذي دفع «ديدرو» إلى إنشاء الموسوعة، فجاءت كنزا زاخرا بكل صنوف العلم والمعرفة التي وصل إليها العقل البشري حتى ذلك الحين، بل أضافت إلى ذلك أنها وضعت أساس المذهب الديمقراطي. وقد عاون «ديدرو» في هذا المشروع الضخم طائفة ممتازة من الأعلام والفحول - كان بينهم فولتير وروسو - ولعل هذا الخطاب الذي أرسله فولتير إلى ديدرو، يقرب لك أساس هذه الموسوعة، قال: «ما أشبه موسوعتك ببرج بابل؛ فيها الطيب والخبيث، وفيها الحق والباطل، وفيها الجد والمرح، كلها مجتمعة في كتاب واحد، ويخيل إلي أن بعض فصولها قد كتبه متأنق متحذلق وهو جالس في «صالونه»، وأن بعضها قد كتبه خادم قذر وهو في مطبخه. إن قارئ الموسوعة لينتقل فها من أعلى سماء يحلق فيها الفكر إلى أسخف السفاسف التي تبعث في نفسه الملل.»

ورأى أولو الأمر أن ظهور هذه الموسوعة يفتق الأذهان فيؤدي إلى خطر، فاضطهدوها وقاوموها، واضطر ناشرها إلى إخراج مجلداتها الأخيرة في طي الكتمان خشية أن يصيبه من الشرطة أذى، وقد حدث أن أصابت ديدرو خسارة فادحة حين داهمت الشرطة يوما دار المطبعة فأتلف عامل جبان كل «التجارب» بغير إذن من سيده. وهكذا أخرجت موسوعة العلوم للناس، فكانت عملا جليلا يخلد اسم «ديدرو» على وجه الزمان، ولو أنه لم يدر على صاحبه من الربح أكثر من جنيهات عشرة في كل شهر مدى عشرين عاما كاملة أنفقها في إخراجها ، وبهذه الموسوعة كان «ديدرو» رسول المعرفة في عصره، فقد كان ينكر الوحي مثل فولتير وروسو، ويؤمن بأن إنقاذ العالم مرهون بنشر المعرفة والفضيلة.

هذا هو «ديدرو» بإنتاجه المتنوع الغزير، فهو - في عصره - الصحفي الموهوب الذي ينتج إنتاجا سريعا متلاحقا فيه سمات الإهمال إلى جانب ما فيه من طابع النبوغ والتجديد واستقلال الرأي. ويقول عنه سانتسبري: «إنه يوشك أن يكون أكثر الأدباء خصوبة في تنوع آرائه؛ فيستحيل أن تجد موضوعا لم يعالجه ديدرو، ويكاد يستحيل أن تذكر موضوعا لم يقل فيه بعض الآراء الخالدة التي تدعو إلى الإعجاب.» (1-4) روسو

Rousseau (1712-1778م)

كانت «جماعة الفلاسفة»، التي يمثلها فولتير وديدرو، تعتد بالعقل وحده، ولا تؤمن إلا به، فجاء «جان جاك روسو» مزدريا العقل ومنطقه، مؤمنا بالعاطفة والشعور، فكان بذلك بمثابة رد الفعل الذي يعقب التطرف ليرده إلى الصواب.

ولد لأب يصلح الساعات في جنيف، ولما بلغ الثالثة عشرة أمر أن يعاون رجلا يسجل العقود كي يحترف هذه المهنة بعد تدريبه، لكن سرعان ما رأى فيه «المسجل» غبيا بليدا ففصله، فوضع الفتى حيث يتعلم فن النحت، وقضى ثلاثة أعوام يعمل مع رجل فظ غليظ أخذ يقسو عليه ويستذله، فما وسع صاحبنا إلا أن يعمد إلى الفرار، وهام على وجهه لا يعلم لنفسه غاية يقصد إليها، حتى انتهى به السير إلى قرية تسمى «كونفينيون»،

35

وهنالك استطاع القسيس أن يرده عن عقيدة أبويه البروتستنتية إلى الكاثوليكية، لقاء غداء طيب قدمه إليه، ثم أرسله إلى سيدة في «آنسي»

36

هي «مدام دي وارنز»

37

رجاء أن تعظه وترشده، ولم يكد الفتى يتصل بالسيدة حتى أحبها، وما هي إلا أن أرسلته «مدام وارنز» إلى «تورين» ليعمد على العقيدة الجديدة ويؤخذ بشعائرها، وقضى هنالك فترة أطلق بعدها ومعه قليل من الفرنكات أعطيها، فراح ينفق هذا المال القليل بغير حساب، حتى نفد، واشتغل خادما بضعة أشهر، ثم لم يطق على ذلك صبرا، فهم بالرحيل إلى «مدام وارنز»، وهنالك في دارها أقام ما يقرب من عشر سنوات إقامة كادت تتصل؛ إذ تخللتها فترات صغيرة غاب فيها عن دارها؛ ليشتغل معلما للموسيقى في لوزان مرة، وليكون خادما لأحد الضباط مرة أخرى، وهكذا. ثم حدث أن طاف بدار «مدام وارنز» حلاق جوال، فاغتصب حب السيدة لنفسه، وبادلته السيدة الحب، فما عتم «جان جاك» أن غادر الدار مغيظا محنقا، وقصد إلى باريس وليس معه إلا قليل مال، وملهاة كتبها عنوانها «نارسيس»،

38

وطريقة جديدة في الترقيم الموسيقي من ابتكاره، تلك كانت عدته حين قدم إلى المدينة الكبرى، فسرعان ما تبدد ماله القليل وبات في باريس خالي الوفاض لا يدري ماذا يصنع، لولا أن شاء له القدر أن تعينه سيدتان عرفتاه، على أن يعين كاتما لسر السفير الفرنسي في البندقية، فما مضت عشرة أشهر، حتى اشتجر مع السفير، وقفل راجعا إلى باريس حيث نزل بفندق حقير قريب من السوربون، وبدأ يرتزق من نسخ «النوتات» الموسيقية، وهنا اتصل بخادمة أمية ساذجة، ولبث يعيش في مسغبة، لكنه على الرغم من سوء حالته استطاع أن يلتمس السبيل إلى بعض السيدات البارزات، وطائفة من رجال الأدب الظاهرين، منهم «ديدرو» الذي دعاه أن يكتب فصولا عن الموسيقى في موسوعته.

ولما بلغ السابعة والثلاثين من عمره، حدثت نقطة التحول في حياته؛ إذ أعلن المجمع العلمي في «ديجون» موضوعا للتسابق بين الكتاب، وهو: هل عمل تقدم العلوم والفنون على رقي الأخلاق؟ فما وقعت عيناه على موضوع المسابقة في الصحف حتى أحس بهزة الوحي في نفسه، واعتزم أن يسابق، وكتب مقالة يهاجم فيها الثقافة كلها مهاجمة عنيفة حارة، كان لها السبق عند المحكمين، وأحدث نشرها حركة قوية، فما هو إلا أن أصبح رجلا مذكورا مشهورا، إذ عده الناس رسولا لمذهب جديد ينادي بالعودة إلى الطبيعة، ثم أخرج بعد أربع سنوات «بحث في نشأة وأساس التفاوت بين الناس»،

39

ورأيه في هذا الكتاب هو أن المدنية كلها فساد في صميمها.

شاع اسم «روسو» في «صالونات» باريس، وكان يستطيع أن يحتل في المجتمع مكانة عالية، لكن كبرياءه وغروره أبيا عليه، إلا أن ينفر من الناس وأن يجافي المجتمع، واعتزل في بيت صغير تملكه إحدى صديقاته، وهناك كتب «جولي أو هلويز الجديدة»

40

و«العقد الاجتماعي»

41

و«إميل»،

42

وكان «إميل» يحتوي على نظرات دينية وسياسية تزعج أولي الأمر، فصدر الأمر بإحراقه والقبض على كاتبه، ففر روسو من باريس إلى «موتييه» بسويسرا، لكنه سرعان ما غادرها طريدا، إذ نشبت بينه وبين أهلها الشحناء على اختلاف ديني بينه وبينهم. وهام الرجل على وجهه يضرب في فجاج الأرض لا يعرف لنفسه مستقرا، حتى دعاه الفيلسوف الإنجليزي «دافيد هيوم» أن يهبط على إنجلترا فيتخذ فيها مأوى له، واستجاب للدعوة رجاء أن يجد في تلك البلاد راحة نفسه، لكنه عندئذ كان قد اعترته حالة من الجنون التي تخيل للمصاب بها أنه مضطهد، فظن الظنون بكل شيء، وارتاب في كل شخص، وتوهم أن العالم كله يتربص به، فلا يرى في الأصدقاء إلا ألد الأعداء، وقضى في إنجلترا أشهرا وهو في مثل تلك الحالة النفسية، ثم تسلل إلى فرنسا وظل ثلاثة أعوام شريدا طريدا، وعلم أولو الأمر بوجوده، فأمنوه على نفسه، وعاد إلى باريس واستأنف بها حرفته الأولى وهي نسخ «النوتات» الموسيقية، لكن وساوسه وأوهامه أخذت تتسع وتزداد، فكان يحسبه إذا ما سار في الطرقات متبوعا بالجواسيس، بل إنه كان إذا ما صادف في طريقه صبية يلهون جرى مسرعا لما يراه فيهم من خطر، وظل في هذا العذاب النفسي ثمانية أعوام، كان فيها موضع الإشفاق عند عارفيه. وأخيرا عرض عليه صديق غني أن يرحل إلى بيت ريفي صغير له على مقربة من باريس، وفي ذلك البيت الهادئ قضى نحبه فجأة في يوليو سنة 1778م، ولم يكن مضى إلا شهر واحد على موت فولتير.

ولروسو إنتاج أدبي غزير، لكنه معروف بكتبه الأربعة العظيمة «الاعترافات» و«جولي» و«العقد الاجتماعي» و«إميل»، أما «الاعترافات» فلا نجد لها نظيرا في كتب السير، وليست قيمة هذا الكتاب في صدق ما ورد فيه من حقائق؛ لأنه كتبه في أخريات سنيه حين انتابته العلة العصبية، واعترته الوساوس والأوهام، فنظر إلى ماضيه وحاضره بمنظار العاطفة المضطربة السقيمة، ولكن قيمته في تصوير نفسه تصويرا تكاد لا تجد له مثيلا في آداب العالم كلها، وكانت غاية الكاتب فيه أن يصف نفسه في أمانة تعلن كل شيء ولا تخفي شيئا، وهو يستهل الكتاب بقوله:

إني بهذا الكتاب أؤدي عملا لا أجد له مثيلا، ولن يجد بين الناس مقلدا، وغاية الكتاب أن يعرض رجلا على حقيقته لا ينقص من الحق شيئا، والرجل الذي أعرضه هو نفسي، نفسي دون سواها؛ لأني أعتقد حقا أن ليس لي بين الأحياء شبيه. إنني في هذا الكتاب لا أخفي سيئة ولا أضيف حسنة، وأتحدى رجلا في وسعه أن يقول، بعد أن يكشف عن سريرة نفسه بمثل إخلاصي: إنني خير منه!

كان مولدي في جنيف عام 1712م، وأبى إسحق روسو رجل يصلح الساعات، وأمي سوزان، ومولدي - الذي كان أول حلقة من سوء طالعي - قد كلف أمي حياتها، وجئت إلى العالم في ضعف لم ينتظر لي معه أن أعيش، وكفلتني عمتي حتى غمرتني بحنانها، وأما أبي فقد كان في يأسه يحبني أبلغ الحب.

ولقد شعرت قبل أن أفكر، شأني في ذلك شأن سائر الأطفال، بل لعلي ذهبت في ذلك أبعد من سواي، وكان أول ما أيقظ شعوري قصص قرأتها مع أبي، وحدث أحيانا أن ظللنا نقرأ معا حتى مطلع النهار، فما بلغت السابعة حتى فرغنا من قراءة كل ما احتوت عليه خزانة أمي من قصص قديمة، وارتددنا إلى «بوسويه» و«موليير» و«بلوتارك» و«أوفد» وأضرابهم، وأبعدتني قراءة «بلوتارك» عن القصص، فتراجمه هي التي نفثت في هذه الروح الحرة الديمقراطية التي لا تصبر على الاستعباد الذي أرق جنبي، وأنا مدين لعمتي التي كانت تحفظ ما لا حصر له من الأغاني، وتغنيها بصوت حلو رخيم، أنا مدين لها بعاطفتي نحو الموسيقى، فهذه كانت أول ما تعلق به حبي، تلك هي العوامل التي كونت لي هذا القلب الذي أسرف في كبريائه، ولكنه مع ذلك قلب شديد الإحساس، هذه العوامل صاغت لي هذه الشخصية المخنثة التي هي رغم ذلك جموح لا تسلس القياد، وقد ظللت بهذه الشخصية أندفع إلى مواقف الضعف مرة وإلى مواضع الفضيلة مرة أخرى، فقد كنت من التناقض مع نفسي، بحيث أفلتت مني اللذة والحكمة في آن معا، فلا أنا بالذي عف عن المتعة ولا بالذي نعم باللذة ...

وأما كتاب «جولي أو هلويز الجديدة»، فهو سلسلة من خطابات تبدأ بقصة عن حب آثم، وتنتهي برسالة في التهذيب. وروسو في هذا الكتاب مدين للقصصي الإنجليزي «رتشردسن» في قصته «كلارسا» من حيث الطريقة والنغمة الخلقية التي تسود الكتاب، لكن الكاتب الفرنسي يكتب بعاطفة لا تدنو منها عاطفة زميله الإنجليزي.

و«العقد الاجتماعي» كتاب يختلف عن السابقين، فهو رسالة في مبادئ الحكومة والمجتمع، كتبت بالأسلوب العلمي المحكم الدقيق، ولكن اتباع الكاتب للأسلوب المنطقي في كتابه هذا لم يمنع أن يجيء الكتاب بعيدا عن الحقائق التاريخية، سابحا في الخيال، ومع ذلك فقد كان «للعقد الاجتماعي» أثر قوي في عصر اضطربت فيه الأمور السياسية، بحيث اتخذه رجال الثورة بعدئذ انجيلا يهتدون به ويستمدون منه المبادئ، وروسو في هذا الكتاب مؤمن بأن الإنسان خير بطبعه، وإنما أفسده نظام المجتمع، ومن رأيه أن يضحي الفرد بمصلحته في سبيل الصالح العام؛ لأن الغاية المنشودة عنده هي «أعظم خير لأكبر مجموعة من الناس»، وهو يريد بالإنسان الرجوع إلى الحالة الفطرية الأولى التي كانت قائمة قبل أن يفسد الإنسان بالحضارة الدخيلة الطارئة، وهو من جهة أخرى يتمنى العودة إلى الماضي المجيد الذي يتمثل في اليونان والرومان، فقد بهر روسو ذلك الماضي العظيم، وصوره لنفسه أعظم مما تجيز له حقائق التاريخ، ولكن ماله وللحقيقة التاريخية! إنه كاتب يستلهم العاطفة ليثير النفوس ويحفزها على النهوض.

هذه العقيدة التي آمن بها إيمانا قويا - وهي أن الإنسان ولد نقيا لا يشوبه شر - أدت به إلى رأي في التربية بسطه في كتاب قريب في سياقه من القصة. وهو «إميل» ومحور الرأي فيه هو أن الطفل ينبغي أن يترك حرا من كل قيد إبان نشأته، فلا يغله معلموه بما يملأ رءوس الكبار من ترهات وأباطيل، وحسب هذا الكتاب قيمة أنه ما يزال عمدة بين المراجع عند علماء التربية. ولهذا الكتاب قيمة أخرى، وهي أن روسو يعرض فيه مذهبه الديني، فهو معتقد بوجود الله، لكنه يرى أن طريقة البرهنة على وجوده لا تكون بالحجج العلمية العقلية، بل بالحدس واللقانة، بإحساس من القلب لا يفهم العقل كنهه.

يستهل روسو كتاب إميل بقوله: «إن كل شيء يكون خيرا حين تخرجه يدا خالق الأشياء، ثم يفسد كل شيء بين يدي الإنسان، وفي هذه العبارة تتلخص فلسفة روسو التي قوامها التفرقة بين ما هو طبيعي وما هو صناعي، بين الإنسان الطبيعي كما أرادت له الطبيعة أن يكون، وبين الإنسان المتحضر الذي أفسده المجتمع، إن كل ما هو طبيعي خير، وكل انحراف عن الطبيعة شر، ولهذا فالحضارة الإنسانية غلطة كبرى، لا نتخلص منها بغير العودة إلى أحضان الطبيعة.» وليس يخفى ما في هذا القول من دعوة صريحة للديمقراطية؛ لأنه يمزق لفائف الحضارة عن وجه الإنسان ليخرج العنصر الإنساني من تلك الأكفان فيبدو تحت ضوء الشمس واحدا متشابها في الناس جميعا؛ لا فرق بين متعلم وجاهل، ولا بين شريف وعامل. وهو بهذه الدعوة أيضا يمهد للمذهب الابتداعي في الأدب، يمهد له بحبه للطبيعة وباعتداده بالفرد وشخصيته، ويمهد له بحدة عاطفته وبأدبه الذاتي الذي يخرج فيه مكنون نفسه. (2) الشعر

كاد الشعر يختنق في فرنسا في القرن الثامن عشر، للقيود الثقيلة التي فرضها «بوالو»، والتي ما كان لينجو من أثرها غير النوابغ، وللنزعة العقلية التي سادت في فرنسا إبان ذلك القرن، وإن سيطر منطق العقل نضب معين الشعر، نعم قد تستطيع أن تسمي في ذلك العصر طائفة كبيرة من الشعراء الذين غزر نتاجهم وتنوع، ولكنهم كانوا ينشدون الشعر عن غير طبع وفي صورة آلية، فهو كلام منظوم لا روح فيه، اللهم إلا قليلا جدا مما قيل.

ونبدأ قائمة هؤلاء الشعراء بفولتير الذي عرفناه ناثرا عظيما، وشعره - كنثره - متنوع مختلف الألوان، فله ملحمة «هنرياد» التي كان يطمح أن يجاري بها الملاحم العظيمة وهي مقسمة عشرة أقسام، وموضوعها الحروب الدينية وبطلها هنري الرابع. وهذه القصيدة الكبيرة في مجموعها لا تخرج عن هجوم عنيف يتجه به الشاعر نحو التعصب والهوس الديني والخرافة، وتمجيد للتسامح وحرية الفكر. أما من حيث طريقة الأداء فهو يحذو حذو الملاحم القديمة، ولا سيما ملحمة الإنياذة، فكما أن «إنياس» أخذ يقص قصته للملكة «ديدو» ملكة القرطاجنيين فهكذا أخذ هنري يروي أخباره للملكة اليصابات، وكما أن إنياس أوحى إليه الله بما سيئول إليه أمر شعبه في المستقبل، فكذلك هنري، لكن أين ملحمة «هنرياد» في ضعف خيالها وبرودة أسلوبها من الملاحم القديمة الكبرى؟ ومما زادها ضعفا أنه لم يرد أن يختار العوامل الروحية في الملحمة وجوها الشعري من اللاهوت المسيحي؛ لأن هذه من القواعد التي حرمها «بوالو»، ولم يستطع من جهة أخرى أن يجعل ذلك الجو الشعري يونانيا أو رومانيا، ولا أن يستمد عناصرها الروحانية كالآلهة وغيرهم من الأساطير اليونانية والرومانية؛ لأن ذلك لا يناسب موضوعا مختارا من التاريخ الحديث، ولكن لا بد للملحمة - جريا على العرف الأدبي - أن يكون لها جو روحاني أسطوري خيالي تجري فيه الحوادث، فعمد فولتير إلى تجسيد المعاني لتكون له بمثابة الأشخاص الأسطورية: «فالسياسة» و«التعصب» و«الرحمة»، وما إلى ذلك تكتب بأحرف كبيرة وتعامل معاملة الأشخاص، لكن أمثال هذه المعاني المجسدة تعوزها الحياة التي تكسب القصيدة حرارة، غير أن ملحمة «هنرياد» إلى جانب عيوبها تمتاز بحسن السياق التاريخي ووضوحه، والوصف في بعض مواضعها قوي ناصع، مثل وصفه لمذبحة سنت بارثلوميو في الجزء الثاني، وحصار باريس في الجزء الرابع.

ومهما يكن من أمر، فشاعرنا تتم له البراعة إذا ما كان موضوع القصيدة فلسفيا، مثل قصيدة «حديث عن الإنسان»

43

و«كارثة لشبونة» و«القانون الطبيعي»، وهو كذلك مجيد في بعض رسائله المنظومة مثل «رسالة إلى بوالو» و«رسالة إلى هوراس» وفي قصائده الهجائية الساخرة مثل «المسكين»،

44

وله فوق ذلك قصائد قصيرة كثير قيلت في مناسبات مختلفة، لا يخلو كثير منها من روعة الخيال وجمال الأسلوب.

ولم يشهد القرن الثامن عشر في الشعر الغنائي إلا شاعرا واحدا هو جان بابتست روسو

45 (1670-1741م)، الذي ليس بينه وبين سميه العظيم «جان جاك روسو» علاقة سوى أن كليهما عانى في حياته البؤس والشقاء، فقد كان شاعرنا هذا ابن حذاء في باريس، وشايع في شبابه بوالو في مذهبه، ولم يكد يبدأ في بناء مجده الأدبي، حتى اتهم بالاعتداء على غيره في بعض قصائده وحكم عليه بالنفي من فرنسا، حيث قضى بقية عمره بعيدا عن بلاده، ولم يكن «روسو» هذا من شعراء الطراز الأول المجيدين، وحسبك أن تعلم أن الناس في عصره أوشكوا أن يبايعوه أميرا للشعر الغنائي؛ لتعلم إلى أي حد رضي الناس من موهبة الشعر بالنزر القليل، ومع ذلك فالأدب مدين له بالمحافظة على شعلة الشعر الغنائي حية، حتى أسعفتها الحركة الابتداعية الجديدة في مستهل القرن التاسع عشر.

ولعل الشعر التهذيبي أن يكون أكثر ملاءمة لروح العصر الذي ساده التفكير العقلي. وظهر من شعراء التهذيب الخلقي فريق أجادوا الحكمة وفاتهم الشعر فيما نظموا، منهم «لويس راسين»

46 - أصغر أبناء الكاتب المسرحي المعروف - وأهم قصائده «العقيدة الدينية»،

47

وهي تذكر لما فيها من ورع وتقوى لا لجودة شعرها؛ وشعر الهجاء قريب الشبه بشعر التهذيب؛ لأنه تهذيب سلبي يبين عيوب المهجو، فظهر من شعراء الهجاء «جلبير»

48 (1751-1780م) الذي ربما انتهى إلى تجويد الشعر لولا أن باغتته المنية شابا، وهو عدو لدود لجماعة الفلاسفة، وهاجمهم بقصيدتين ساخرتين إحداهما «القرن الثامن عشر» والثانية «دفاعي».

49 •••

وكان الأدب الإنجليزي قد أثر في بعض الشعراء الفرنسيين، فمال بهم إلى الشعر الوصفي فأنشأ «سانت لامبير»

50

قصيدة «الفصول» تقليدا ل «فصول» الشاعر الإنجليزي «تومسن»، لكن الشاعر الفرنسي قلد زميله في أسوأ نواحيه - في تضخيمه اللفظي وخروجه عن مجرى القصيدة ليقول درسا تهذيبيا - ولم يستطع أن يجاريه في خبرته بالطبيعة وحسه المرهف إزاءها، ومع ذلك فقد لقيت قصيدة «الفصول» إعجابا عند طائفة الفلاسفة، حتى قال عنها فولتير إنها القصيدة الوحيدة من إنتاج العصر، التي ستبقي على الأيام للأجيال المقبلة.

ونذكر كذلك من الشعر الوصفي قصيدة «الشهور» للشاعر «روشيه»

51 (1745-1794م)، ثم «الحدائق» و«رجل الحقول» و«ممالك الطبيعة الثلاث» للشاعر «جاك دليل»

52 (1738-1813م)، وهو مترجم «أشعار الحقول» عن فيرجيل و«الفردوس المفقود» من «ملتن»، ولكن كل هذه القصائد خالية من الروح والعاطفة.

وربما كان أجدر بالذكر من شعراء التهذيب وشعراء الوصف الذين أسلفنا ذكرهم، شاعران كانا ينظمان شعرا فكها خفيفا، هما «جرسيه»

53

و«فلوريان».

54

وللثاني منهما «حكايات خرافية» على غرار حكايات لافونتين الخرافية، لكنها بالطبع لا تدنو منها جودة وأصالة طبع، ولا يشبه «فلوريان» سلفه العظيم في دقة علمه بالحيوان، ونفاذ بصره إلى صميم نفس الإنسان، وعلى كل حال فحكايات «فلوريان» لا تخلو من جمال، فالشاعر بارع في سوق القصة، ماهر في النظم السلس المستساغ. •••

ونختم حديثنا عن الشعراء بشاعر جاء في ختام القرن، فكأنما جاء ليبشر بعصر جديد قادم ينهض فيه الشعر من العقم والجمود اللذين أصيب بهما طوال القرن الثامن عشر كما رأيت، وذلك الشاعر هو «أندريه شينييه»

55 (1762-1794م)، الذي ولد في القسطنطينية، حيث كان أبوه قنصل فرنسا العام، وهنالك تزوج الوالد من امرأة يونانية بارعة الجمال كاملة التهذيب، هي أم الشاعر، وقد انتقل «أندريه» إلى باريس، وهو لم يزل طفلا، فدخل كلية نافار في باريس، ولما تخرج فيها التحق بالجيش، لكنه سرعان ما ترك الحياة العسكرية كارها لها، وأخذ يجول في أوروبا الجنوبية بضع سنين، عاد بعدها إلى باريس، حيث كان لأمه «صالون» أدبي، فكان هذا الصالون حلقة اتصال بين «شينييه» وبين كثير من رجال الفن والشعراء والفلاسفة، وعين كاتما للسر مدى ثلاثة أعوام للسفارة الفرنسية في لندن، لكنه كره إنجلترا والشعب الإنجليزي، ولم يكن لإقامته بتلك البلاد أثر فيه كالذي أحدثته في عظماء أسلافه: فولتير وروسو وغيرهما. ولما عاد إلى بلاده انغمس في تيار السياسة، واشتغل بالصحافة، فأيد الثورة في أولى مراحلها، لكنه لم يلبث أن ازور عنها لسياسية اليعقوبيين المتطرفة؛ فأدى ذلك إلى موته تحت المقصلة.

ويظهر من آثار «شينييه» التي لم تنشر إلا بعد موته، أنه كان يجاهد في سبيل الخلاص من ربقة القيود الصارمة التي فرضها أشباه الاتباعيين على أنفسهم فقضوا بها على فنهم، فهو في «مراثيه»

56

يحاكي شعراء الرومان الأقدمين «تيبلس» و«بروبرتيوس» و«أوفد»، و«ريفياته»

57

زاخرة بما استقاه من الأدب اليوناني، خذ مثالا لذلك قصيدة «الأعمى»،

58

التي يجعل هومر فيها يغني لطائفة من الرعاة، وقصيدة «السائل»

59

التي يقص فيها سائل جوال مغامراته لرجل أضافه، فتبين له أن مضيفه هو ابنه، ففي أمثال هذه القصائد تراه يستعير المادة من الأدب اليوناني ويمسها بخياله الشعري فيخرجها شعرا صادقا، تلك كانت أولى مراحله في الشعر التي اعتمد فيها على الآداب القديمة اليونانية والرومانية على السواء، ثم أخذ يطمح إلى نوع جديد من الشعر، جديد في موضوعه وغايته، وإن اتبع الأصول الفنية عند الأقدمين: «هيا نبدل» - في استخراج رحيقنا - زهرات لهم (أي للأقدمين) طالت عهودها، وحسبنا أن نستعير منهم الأصباغ في تصوير فكرنا، «هيا نضيء مشاعلنا من شعلة أشعارهم، فنصوغ شعرا قديما للتعبير عن فكرنا الجديد.» في هذه العبارة رسم خطته الجديدة التي تمنى أن يسير على منهاجها، وكان لا بد له أن يفعل لو امتد به الأجل، وقد بدأ فعلا يحاول تحقيق أمله بأن يعبر عن فلسفة عصره، وما ساد في أيامه من مختلف العلوم في شعر يلتزم قواعد الشعر القديم.

هكذا جاء «شينييه» حلقة تصل القديم والجديد، فشعره مزيج من هذا وذاك، ولكن ما زالت الصبغة الاتباعية أبرز طابع يميزه، فهو يوناني العاطفة والمزاج، ولعله استمد ذلك من أمه اليونانية، ثم أضاف إلى الطبع والسليقة تحصيلا من الأدب اليوناني إذ أخذ يغذي فطرته بمدد من هومر وغيره من تراث اليونان، فتعاون الدم اليوناني الذي يجري في عروقه مع الاستعداد الفطري الذي مال به نحو الأدب اليوناني، ثم أضيف إلى هذين العاملين دراسة متصلة لما خلف اليونان، فأنتج هذا كله شاعرا فيه العنصر اليوناني مليء بالحياة، ولم يكن كسائر معاصريه من أشباه الاتباعين يسلكون في أشعارهم الأصول القديمة جامدة ميتة. ولا غرابة أن يعد «شينييه» بداية للعصر الابتداعي في الأدب لما تراه في شعره من صور حية ناصعة، وأسلوب واضح مبين يبزر لك المعاني إبرازا، حتى لتكاد تلمسها وتراها.

وهذا مثال من شعره:

إلى فتاة تارنتو

لقد ماتت «ميرتو» فتاة تارنتو!

أخذتها السفينة إلى شواطئ «كامارين» ...

وقد غلق مفتاح الحرص - من أجل يوم العرس -

خشب الأرز على ثوب الزفاف،

وعلى ذهب كان ليزين ذراعيها،

وعطور أعدت لشعرها الأشقر،

لكن، وهي وحدها عند حيزوم السفينة تبتهل إلى النجوم،

لفتها الرياح الهوج التي انتفخ بها الشراع،

فصاحت جازعة، وهي على مبعدة من البحارة،

ثم هوت بين أحضان الموج،

لقد أمست بين أحضان الموج فتاة تارنتو!

وطوت موجة البحر جسدها الجميل،

فاغرورقت من «ربة البحر» عيناها - وهي في جوف صخرتها -

فجاهدت أن تخفي الجسد الجميل عن سباع البحر الضارية،

فأمرت فرفعتها عرائس البحر الفاتنة من فورها فوق هام الماء،

وحملنه إلى الشاطئ ... ثم نادين رفيقاتهن من بعد بصرخات داوية،

وطفقت عرائس الغاب وعيون الماء والجبال

تضرب صدورها، وقد جللها الحداد،

مرددة - وا حسرتاه - حول قبرها:

وا أسفا! إلى حبيبك لم ترجعي،

وثوب عرسك لم ترتديه،

وحول ذراعيك أساور الذهب لم تعقد

وفي شعرك لم يفح ذكي العطور. (3) الأدب المسرحي (3-1) المأساة

تدهور الشعر في القرن الثامن عشر - كما رأيت - فتدهورت معه المأساة، وكان انحطاطها - في رأي ديدرو - نتيجة للقيود الثقيلة والتقاليد الباهظة التي فرضت عليها، فأعجزتها عن النهوض والسير، فأصبحت المأساة شيئا آليا تراعى فيه مجموعة معينة من القواعد والقوانين، وتعالج فيها الموضوعات القديمة بعينها، بأشخاصها ودوافعها ومواقفها، دون أن تعبأ بحقيقة نفسية تصورها، أو طبيعة تعكسها في مرآتها، فعلى كثرة من كتب المآسي في القرن الثامن عشر، لا تكاد تجد بينهم كاتبا يستوقفك بابتكاره، ويسترعيك بجودته، بل لولا كاتبان فيه أجادا في كتابة المأساة بعض الجودة، لما ترددنا في الحكم على ذلك القرن بالنضوب التام في ذلك الفن من فنون الأدب، ونريد بهذين الكاتبين: «كربيون» و«فولتير».

أما «كربيون»

60 (1674-1762م) فقد ذاع صوته بين الناس في سن باكرة، ثم خفت ذلك الصوت فغمره النسيان، حتى فارق الحياة، وله عبارة مشهورة تلقي ضوءا على فنه في المأساة، قال: «أخذ كورني الأرض وراسين السماء فبقيت لي الجحيم.» وقد تكون عبارة منحولة عليه، ولكنها على كل حال تصف مآسيه التي أراد بها أن يثير في نظارته الرعب أكثر مما يثير فيهم الإعجاب والإشفاق، ومن هنا تراه يعالج في رواياته أحد العواطف وأفظع الجرائم، منها: «أتري وثيست»

61

و«إلكترا»

62

و«رادامست وزنوبي».

63

وهو يعلو في أسلوبه آنا ويهبط آنا، وكثيرا ما يكون ثقيلا على النفس، وقد تغمض معانيه في بعض المواضع، والجو السائد في رواياته مكفهر كئيب، ومع ذلك كله فهو جيد بارع في فنه التمثيلي في بعض ما كتب.

ومهما يكن من أمر فقد أفل نجمه أمام كاتب سيطر على فن المأساة كما سيطر على سائر ميادين الأدب، واستطاع وحده أن يحتفظ بتقاليد القرن السابع عشر وأوضاعه، حتى دنا القرن الثامن عشر من ختامه، ذلك هو فولتير الذي أخرج عددا من المآسي يقرب من خمس عشرة، بدأها برواية «أوديب» وختمها «بأيرين»،

64

ومنها «بروتس» و«زائير»

65

و«محمد» و«تانكريد» و«ميروب»،

66

وقد وضعه معاصروه في صف كورني وراسين، بل زعموا أنه جمع في فنه محاسن الرجلين، لكن رجال النقد الحديث لا يضعونه في هذه المكانة العالية، وينكرون عليه قوة كورني، ونفاذ بصيرة راسين، فلئن برع فولتير وأجاد في بناء الرواية التمثيلية وسياقها فقد فاتته الروعة في تصوير الأشخاص، والقدرة على تحليل نفوسهم تحليلا عميقا يغوص إلى أغوارها.

وعلى كل حال فلمأساته مكانة هامة في تطور المأساة، فعلى الرغم من تمسك فولتير بقواعد المأساة الاتباعية كما وضعها أسلافه في القرن السابع عشر تمسكا نظريا، فهو من الوجهة العملية قد خرج على تلك القواعد بعض الخروج متأثرا بشيكسبير، لا سيما في توسيعه لنطاق المأساة، بحيث يشمل موضوعات لم تكن تقرها قواعد الاتباع من قبل، فقد كان يشترط أن تستمد المأساة موضوعها من أصول يونانية ورومانية، وأن يكون للأشخاص أسماء يونانية ولاتينية، فاتبع فولتير هذا العرف في بعض رواياته مثل «بروتس» و«موت قيصر» و«ميروب»، لكنه خرج عليه في روايات أخرى، فهو ينقلك في «تانكريد» إلى عالم الفروسية في العصور الوسطى، وفي «محمد» و«زائير» ينقلك إلى بلاد الشرق، وهكذا. بل إنه حتى في رواياته الاتباعية الخالصة تراه خارجا بعض الخروج على أسلافه ممهدا السبيل للحركة الابتداعية القادمة، فقد كان أسلافه في المأساة لا يلتفتون إلى تصوير الجو المحيط بهم في عصرهم، ويحاولون أن تظهر رواياتهم في جو يوناني أو روماني حسب الموضوع المختار. أما فولتير فقد عني بما أهمله هؤلاء الأسلاف، مثال ذلك أنه أصر على أن يظهر «بروتس» في ثياب فرنسية تمثل الثياب السائدة في القرن الثامن عشر. (3-2) الملهاة

سارت ملهاة النصف الأول من القرن الثامن عشر على قواعد زعيم الملهاة «موليير»، وأهم وأجود ما ظهر إذ ذاك من الملاهي، رواية «تيركاريه»

67

لكاتبها «لي ساج»

68

الذي سنحدثك عنه بعد قليل قصصيا بارعا، فلو لم يكتب قصته المشهورة «جيل بلاس»

69

لخلدته ملهاته تلك التي يسخر فيها سخرية جميلة من طبقة محدثة من رجال المال والأعمال، ويعرض لأساليبهم وأخلاقهم فيبين مواضع الضعف فيها بتهكمه الظريف.

وكتب الملهاة كاتب آخر سنصادفه مع «لي ساج» بين رجال القصة، وهو «ماريفو»

70 (1688-1763م)، وبدأت الملهاة بفضله طريقا جديدا، بأن أخذت توجه مجهودها نحو دقة التحليل النفسي، وتختار «الحب» موضوعا لها، وموضع التجديد هنا هو أنه اتخذ عاطفة الحب موضوعا للتحليل، بدل أن يجعلها - كما فعل السابقون - عنصرا بين سائر العناصر التي تتكون منها حوادث الرواية، وهو يعالج الحب في ألوانه المختلفة؛ الحب حين لا يشعر بوجوده العاشقان، والحب حين يشعران به ويخفيانه، والحب الذي لا يجرؤ على إعلان نفسه، والحب حين يكون موضع شك وريبة، فهو باتخاذه تحليل الحب موضوعا لملهاته، كان شبيها براسين الذي اتخذ تحليل الحب موضوعا لمأساته. ومن ملاهيه: «لهو الحب والمصادفة»

71

و«الاعترافات الزائفة»

72

و«المخلصون»

73

و«المحبة».

74

كان «ماريفو» عاملا على تطور الملهاة نحو ما يسمى «الملهاة الباكية»

75 - وهي شبيهة بضرب من الملهاة شاع في إنجلترا في القرن الثامن عشر أيضا، ويسمى هناك بالملهاة العاطفية - والملهاة الباكية تستدر عبرات النظارة بأن تعرض عليهم حياة الناس الخاصة بما فيها من فضائل وما تعانيه من آلام، أكثر مما تستثير ضحكاتهم بأن تعرض عليهم تلك الحياة الخاصة بما فيها من حماقة وسخف، أو هي بعبارة أخرى تضع مأساة في إطار ملهاة، ولما كانت «الملهاة الباكية» تخالف طبائع الأشياء، فقد ظهرت حركة تقاومها، وعلى رأسها «بومارشيه»

76 (1732-1799م)، الذي حاول أن يعيد للملهاة ضحكاتها الخالصة التي تنبعث من قلوب خلية مرحة كما كانت عند موليير، وذلك بملهاتيه الساخرتين الرائعتين «حلاق إشبيلية»

77

و«زواج فيجارو».

78

وذكر «الملهاة الباكية» التي تمزج بين عنصري المأساة والملهاة معا يؤدي بنا إلى الحديث عن «المأساة البورجوازية» أو «الدراما» كما أطلق عليها، وهي ضرب من المسرحية ظهر في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، فلعلك تذكر أن أصحاب المذهب الاتباعي لم يجيزوا قط أن تختلط ألوان الأدب بعضها ببعض، فلا يجوز لمأساة أن تقبل عنصرا من عناصر الملهاة. والمأساة عندهم شرطها أن تكون أرستقراطية في موضوعها، فتعالج مصرعا لعظيم، وتعرض أشخاصا فوق المستوى المألوف من عباد الله، وأما الملهاة فشرطها عندهم أن تعالج مضحكات مأخوذة من حياة الطبقة الوسطى أو الطبقة الدنيا، وكان طبيعيا في عصر أخذت روح الديمقراطية تظهر فيه وتزداد أن يثور الأدباء على هذه الأوضاع الأدبية التي تفرق بين الطبقات، وقد رأينا بداية هذه الثورة في «الملهاة الباكية»، حين حاولت أن تطمس الفوارق بين المأساة والملهاة، ثم أخذ رجال الأدب يتساءلون: فيم هذه التفرقة؟ لماذا لا تتخذ حياة الطبقة المتوسطة إلا موضوعا للهو والفكاهة؟ لماذا لا تكون كوارث هذه الطبقة من الناس مصدرا للأسى لا يقل في فجيعته عما تحدثه كوارث عظماء التاريخ القديم وأشخاص الأساطير؟ لا بد إذن من أن يفسح في مجال المأساة ليتسع «للمأساة الشعبية» إلى جانب «المأساة الحماسية» المألوفة، ولئن أعوز هذه المأساة الشعبية ما في زميلتها «الحماسية» من أبهة وجلال، فسيعوض عن هذا النقص قربها من الحق الواقع وعمق أثرها في تقويم الأخلاق.

كان هذا - كما ذكرنا - نتيجة لازمة للتطور السياسي في القرن الثامن عشر الذي كان يسير نحو الديمقراطية، ونحو ثورة الشعب على التفاوت القائم، بخطوات سراع، لكنه كان كذلك نتيجة مباشرة لروايات انتقلت من الأدب الإنجليزي إلى فرنسا، فقد ترجمت رواية «للو» «تاجر لندن، أو تاريخ جورج بارنول»،

79

ورواية «المقامر»

80

لإدوردمور، ولم تكد هاتان الروايتان تنقلان إلى الفرنسية حتى امتدحهما النقاد وقلدهما الكتاب، وتحمس لهما الشعب، وأصبحتا نموذجا يحتذيه كل من أراد السير على المنهاج الجديد، وما هذا المنهاج الجديد سوى «المأساة البورجوازية» (وقد تسمى «الدراما» فقط) التي تستمد عناصر المأساة من الحياة المنزلية المألوفة عند أوساط الناس، والتي تتوخى الصدق في الوصف والتصوير.

وأعظم رجال «المأساة البورجوازية» - إذا قيست العظمة بعمق الأثر - هو «ديدرو» في مأساتيه النثريتين «الابن الطبيعي»

81

و«رب الأسرة»،

82

ولو أنه لم يوفق في تأليفهما، وكان «سيدن»

83 (1719-1797م) أقرب منه إلى التوفيق في رواية «فيلسوف وهو لا يدري»،

84

ويعد «سيدن» طليعة القرن التاسع عشر في هذا اللون من الأدب المسرحي. (4) القصة

كثيرا ما يتشابه مجرى الأمور في الأمم المختلفة، ففي إنجلترا في القرن الثامن عشر، أخرج الكاتب المسرحي «للو» - الذي سلف ذكره في الكلمة الماضية - روايته «التاجر اللندني» محاولا بها أن يضع أساسا لنوع جديد من المأساة يعالج شئون الطبقة الوسطى في حياتهم الخاصة، وأخرج الكاتب القصصي «رتشردسن» قصة «باملا» يقصد بها إلى الغاية نفسها، فجاء المجهودان في وقت واحد، يشد أحدهما أزر أخيه، وكذلك حدث في فرنسا أن اتجهت جهود الأدباء نحو تحويل المسرحية والقصة في هذا الاتجاه الجديد في آن معا، فالمسرحية الجديدة والقصة الجديدة كلتاهما أريد بها أن تصور الحياة الجارية لسواد الناس، وكانت كلتاهما نتيجة لتطور الحركة الديمقراطية واتساعها. (4-1) لي ساج

Le Sage (1668-1747م)

هو أول من يصادفك بين رجال القصة من الفرنسيين، درس القانون، والتحق بسلك القضاء، لكنه هجر القضاء لينصرف إلى الأدب، ولبث حتى نهاية حياته معتمدا في عيشه على قلمه، وقصته التي خلدته هي «جيل بلاس»،

85

وبطلها طالب فرنسي شاب يدعى «أوفيدو»،

86

قصد إلى جامعة «سالامانكا» ليتمم دراسته، وبينما هو في طريقه أطبق عليه اللصوص، لكنه استطاع أن يلوذ بالفرار وتقلبت به الحياة؛ فهو آنا يخدم الكنيسة، وآنا يعاون طبيبا، وطورا يتصل بالمسرح، وبعد أن دارت به عجلة الحظ صعودا وهبوطا، عرفه رئيس الوزراء فوثق به وجعله كاتما لسره؛ وجمع ثروة عريضة وسلطانا قويا. لكن عجلة الحظ عادت فهبطت به من جديد وطوحته أسفل سافلين، ثم صعدت به مرة أخرى، واستعاد سابق مجده إذ عينه أحد الأشراف كاتما لسره، وانتهى به الأمر أن تزوج للمرة الثانية، وأوى إلى قصره، حيث قضى بقية عمره في هدوء وسعادة ... وحوادث الرواية - كما ترى - مفككة لا حبكة فيها ولا وحدة ولا منطق يضبط تتابعها، فالمغامرات يعقب بعضا بعضا كما اتفق، بغير خطة مرسومة مدبرة، وكثيرا ما يستطرد الكاتب في قصص فرعية لا تربطها بمجرى الحوادث الرئيسي رابطة قوية، وإن شئت فقل إن «جيل بلاس» مجموعة من القصص سيقت واحدة تتبع واحدة، دون أن تتصل هذه الخرزات بخيط واحد لتصبح عقدا موصولا، لكن انتقال البطل في أوساط مختلفة، بحيث يخالط أدناها ويعاشر أرقاها، هيأ للكاتب فرصة نادرة ليصور أخلاق عصره على اختلاف ألوانها، وساعد الكاتب على حسن التصوير دقة ملاحظته التي لم تفلت منها دقيقة ولا جليلة من شئون الحياة في كافة ضروبها، وكذلك براعته في تحليل الأشخاص، حتى ليضرب ببعض أشخاص قصته المثل في جودة التحليل والعرض - مثل شخصية الدكتور سانجرادو

87 - والتحليل عند «لي ساج» لا يتميز بالعمق، ولكنه يتصف بالصدق ومطابقة الواقع، وهو في قصته ساخر يهزأ بالتحليل الخلقي الذي أصاب عصره الذي يصوره، لكنها سخرية عفيفة لم تزل مرة في هجر القول وفحشه، حتى لقد نقده تلميذه «سمولت» - القصصي الإنجليزي الذي سنروي لك نبأه في الفصل القادم - بقوله إنه كان أرفق مما ينبغي بحماقات الإنسان وسيئاته. •••

ونذكر من أصحاب القصة في ذلك العصر أيضا «ماريفو» الذي أسلفناه كاتبا مسرحيا مجددا في فن الملهاة، وقصته المشهورتان - وكلتاهما ناقصتان - هما «حياة ماريان »

88

و«الفلاح المحدث»،

89

أما الأولى فمذكرات على لسان نبيلة تسجل فيها تاريخ حياتها من طفولتها حتى يومها الراهن، وأما الثانية فقصة فلاح شاب يدعى «يعقوب» يهجر قريته في سن الثامنة عشرة ليلتمس الثراء في باريس. وهاتان القصتان شبيهتان بقصة «جيل بلاس» في تفكك الأجزاء وتتابع المغامرات وتلاحق صور الحياة المختلفة الألوان والوجوه، لكن «ماريفو» أقرب إلى تصوير الواقع من «لي ساج»، فبدل أن يقص الحوادث في جو إسباني، ويخلع على أشخاصه ثيابا إسبانية وأسماء إسبانية ليخفي وراءها رجاله ونساءه من الفرنسيين، كما فعل «لي ساج»، ترى «ماريفو» يحدثك عن رجال فرنسيين ونساء فرنسيات في غير تنكر ولا إخفاء، ويعرض لك أشخاصه في جو فرنسي خالص، وكذلك كان «ماريفو» أحرص من زميله «لي ساج» على تسجيل دقائق الحياة كما تقع، ثم إنه عنى بالتحليل النفسي لأشخاصه، فكانت هذه الأداة عند وسيلة اجتذاب القارئ، وهي تقابل عنصر السخرية والفكاهة عند «لي ساج».

وأخيرا نذكر من كتاب القصة «بريفو»

90 (1697-1763م) الذي بدأ حياته جنديا، ثم ترك الجيش لينخرط في جماعة دينية وأصبح قسيسا، ولكن نفسه القلقة لم تطمئن إلى حياة الدير، ففر إلى هولنده، ثم ألقى عصا تسياره في إنجلترا، حيث أقام حينا عاد بعده إلى بلاده.

كتب «بريفو» أكثر من مائة كتاب، بينها قصص ثلاث: «مذكرات ومغامرات رجل ذي شأن»،

91

وتقع في ثمانية أجزاء، و«الفيلسوف الإنجليزي أو تاريخ مسيو كليفلاند»،

92

وتقع كذلك في ثمانية أجزاء، و«أسقف كيلرين»،

93

وتقع في ستة أجزاء، وكان مما عمله «بريفو» أن ترجم «رتشردسن» - القصصي الإنجليزي - وهنا كثيرا ما يخطئ المؤرخون، فيزعمون أن القصاص الفرنسي تأثر خطو زمليه الإنجليزي بما ترجمه له، فينبغي أن نذكر أن «بريفو» سبق بكتابة قصصه ترجمته لرتشردسن، فهو إذن لا يدين له فيها بشيء، ولم يبق لنا من هذا الإنتاج الضخم إلا شذرات قليلة تكفي وحدها أن تضع الكاتب في مكانة ممتازة بين رجال القصة في الأدب الفرنسي، ولنذكر من هذه الشذرات بصفة خاصة «تاريخ مانون ليسكو»

94 - وهو في الأصل شطر من الجزء السابع من قصة «مذكرات رجل ذي شأن» - فهذا الجزء يكون قصة قصيرة هي بحق أول قصة - في موضوعها وصبغتها - تلمح فيها شبها بما نسميه اليوم بالقصة، فحكاية الحب فيها تثير عطف القارئ ومشاعره، والحوافز التي تدفع أشخاصها إلى النشاط والعمل طبيعية، تصور الواقع أتم تصوير، وأسلوبها سلس مستقيم، لا يشوبه الإسراف في الصنعة والتكلف. وها قد انقضى على الإنسان قرنان من الزمان يمارس فيهما كتابة القصة منذ «بريفو» ولا تزال «مانون ليسكو» تهز قلب القارئ وتحرك مشاعره.

الفصل الثاني عشر

الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر

(1) النثر (1-1) جوناثان سوفت

Jonathan Swift (1667-1745م)

ولد في «دبلن»، وكان أبوه قد مات قبل ولادته، فكفله عمه، حتى أتم دراسته في الجامعة، ولم يكن في دراسته الجامعية تلميذا نابها، حتى لقد منح الدرجة عن غير جدارة علمية، ولم يلبث أن عينه قريب له عظيم كاتما لسره، وكان ذلك القريب العظيم هو «السير وليم تمبل»

1

رجل السياسة المشهور في تاريخ بلاده، وكان إذ ذاك يقيم في «مور بارك»

2

بمقاطعة «سري» في إنجلترا.

لبث «سوفت» في منصبه ذاك نحو عشرة أعوام، ملأها بالقراءة والدرس، فأكمل بهذا المجهود الشخصي نقص دراسته الجامعية، وكان إذ ذاك يكتب ويكتب، ثم يقذف في النار بما يكتبه، وحاول قرض الشعر ولم يوفق، وقد عرض إحدى منظوماته الشعرية على «دريدن» - وبينه وبينه صلة من الرحم - فقال له الناقد الكبير قولا كان له في نفس الكاتب أعظم الأثر: «سوفت يا ابن العم، إنك لن تكون شاعرا.»

وكان في «مور بارك» - حيث أقام السير تمبل ومعه سوفت - طفلة تنتمي بصلة بعيدة إلى أسرة الكاتب، هي «إستر جونسن»، تعهد سوفت بتعليمها وتثقيفها، فنشأت صلة من الود بين التلميذة وأستاذها، ثم تطور الود فأصبح حبا وغراما، كان أقوى في جانب الفتاة منه في جانب الأستاذ، وهذه هي الفتاة التي أطلق عليها الكاتب في أدبه اسم «ستلا»، ومات «السير تمبل» بعد حين، فعني «سوفت» بنشر مؤلفاته - وكان تمبل سياسيا أديبا له مكانته في عالم الأدب - وبعدئذ عاد «سوفت» إلى وطنه أيرلنده قسيسا لحاكمها «لورد باركلي»، فسافرت في إثره «ستلا»، ومعها صديقة لها، واتصلت صلة الصداقة بين الكاتب وفتاته، فكانت له مصدر سعادة لولاها لأصبحت حياته معتمة كئيبة.

وأول ما أخرجه «سوفت» من أدبه الخالد «قصة الدلو»،

3

كتبها وهو في التاسعة والعشرين من عمره، وهي عند بعض الناقدين أعظم ما جرى به قلم الكاتب، وفيها يسخر من العقائد الدينية الثلاث: الكنيسة الإنجليكانية، والكنيسة الرومانية، والكنيسة الكهنوتية، وهو يرمز إلى الكنائس الثلاث بأسماء إخوة ثلاثة: «جاك» و«بطرس» و«مارتن». وقد ذكر سوفت كتابه هذا بعد كتابته بأعوام طوال، فقال: «يا إلهي! يا لها من عبقرية وهبتها حين أنشأت هذا الكتاب!» والحق أن هذه القصة دليل ناهض على أصالة فكره وقوة ابتكاره، تجلت فيها مواهبه إلى حدها الأقصى، والهجاء في هذا الكتاب منصب على رجال الدين الذين يثيرون اختلافات في المذاهب بتعالمهم وسخفهم.

ثم تلا هذه القصة «معركة الكتب»

4

التي تدور حول المفاضلة بين أدب القدماء وأدب المحدثين. فقد نشبت معركة أدبية حامية بين الأدباء حول هذه المفاضلة - وبدأت المعركة في فرنسا - وكان «السير وليم تمبل» في ذلك العراك مدافعا عن الأدب القديم، فأيده «سوفت» في وجهة نظره، و«معركة الكتب» ملحمة تهكمية يتخيل فيها الكاتب حربا تنشب بين الكتب القديمة والكتب الحديثة التي في مكتبة قصر سنت جيمس، نسوق لك منها هذا المثال:

كان جيش القدماء أقل عددا من جيش المحدثين قلة ظاهرة، وكان لهومر قيادة المدفعية الراكبة، ولبندار قيادة كتيبة الفرسان الخفيفة، وكان إقليدس رئيس المهندسين، وعهد بقيادة رماة القوس إلى أفلاطون وأرسطو، وبقيادة المشاة إلى هيرودت ولفي، وكان هبوقراط على رأس فرقة من الفرسان، واصطف في المؤخرة جنود الحلفاء يقودهم «فوسيس» و«تمبل».

ودلت الدلائل كلها على أن معركة فاصلة وشيكة الوقوع، فطارت «الشهرة» - وقد كانت كثيرا ما تطوف بالمكتبة الملكية، وكان لها فيها مكان فسيح تأوي إليه - طارت في عجل إلى جوبتير، فقصت عليه كل ما حدث بين الحزبين في العالم الأرضي، وكانت أمينة فيما قصت؛ لأنها لا تقول إلا الصدق وهي بين الآلهة، فأبدى جوف اهتماما عظيما بالأمر، وجمع من فوره مجلسا في مجرة السماء، ولما اجتمع شيوخ السماء أنبأهم كبير الآلهة النبأ، قائلا إن معركة دامية وشيكة الوقوع بين جيشين قويين من القدماء والمحدثين، وما تلك الكائنات القديمة والمحدثة إلا كتب يهتم بأمرها آلهة السماء اهتماما شديدا، وربما أسرفت الآلهة في اهتمامها ذاك ...

ولما رأى «أرسططاليس» (بيكن) يتقدم نحوه مقطب الجبين من غضب، رفع قوسه إلى رأسه وأرسل رمحه يشق الهواء، لكن الرمح أخطأ «المحدث» المقدام، ومضى فوق رأسه يئز أزيزا، حتى صادف ديكارت فأصماه ...

وأخرج «سوفت» بعد ذلك «يوميات إلى ستلا»،

5

وهي خطابات قصد بها إلى حبيبته، ولم يرد نشرها، أخذ يتحدث فيها حديثا طليا عن دقائق حياته ويصب فيها عواطفه كما تجيش في صدره، تراه آنا يثرثر ثرثرة الخلي المرح، ثم ينتقل فجأة إلى أهم الحوادث السياسية في عصره، وهو بعبارة واحدة من قلمه ينفث الحياة والقوة في شخص، وبعبارة أخرى يضرب شخصا آخر الضربة القاضية التي لا قيامة لذكره بعدها، وبالطبع يتخلل الأحاديث كلها حبه لستلا وحاجته إلى حبها وعطفها. ولقد كانت علاقته بها موضع اختلاف كبير، والأرجح عند بعض الناقدين أنه تزوج منها.

كان «سوفت» أول الأمر مؤيدا لحزب الأحرار، ثم ساءته سياستهم، فانضم إلى حزب المحافظين، وسرعان ما أصبحت له مكانة سياسية ممتازة، بل لسنا نسرف إن زعمنا أنه أصبح في عالم السياسة - كما كان في عالم الأدب - قطب الرحى، وكان من الأدباء الأصدقاء الذين تجمعوا حوله «بوب» و«أدسن» و«ستيل» ونوشك أن نقول في غير تحفظ إن الأدب الإنجليزي لم يشهد رجلا بلغ من السلطان وقوة المركز ما بلغه «سوفت» إذ ذاك، وأخذ يخرج رسالة في إثر رسالة يهاجم بها «الأحرار» أصدقاء الأمس، والعجيب أنه رغم جبروته لم يستفد شيئا مما يأمله، فقد كان يطمح أن يكون أسقفا لكنيسة في إنجلترا، ولكن أولي الأمر أبوا أن يعهدوا بمثل هذا المنصب الديني إلى رجل طعن الكنيسة طعنات دامية في قصة «الدلو»، وأخيرا نصب نائبا لأسقف في كنيسة «سنت باترك» في دبلن، ولم يكن «سوفت» مقتنعا بهذا المنصب، ولم يرضه أن يستقر به المقام في دبلن بعيدا عن النشاط السياسي في إنجلترا، وما هي إلا فترة قصيرة مضت، حتى سقط المحافظون وفقد سوفت بسقوطهم كل رجاء. وظل مقيما في دبلن وكأنه منها في مطارح النفي.

وفي سنة 1726م نشر «سوفت» أشهر كتبه وأقربها إلى نفوس القراء على اختلافها وهو «رحلات جلفر»

6

الذي ما فتئ منذ نشر مصدر متعة لا تنقطع للصغار والكبار على السواء، مع أن كاتبه يقول: «إن الغاية الأساسية التي أرمي إليها هي أن أحرج صدور الناس لا أن أسليهم.» ويقول أيضا في خطاب أرسله إلى «بوب» أنا أكره وأمقت بقلبي ذلك الحيوان الذي يسمى بالإنسان، ولو أنني أحب بقلبي زيدا وعمرا وخالدا ... فالكاتب ناقم على الإنسانية باعتبارها جنسا عاما، لكنه يحب الأفراد إن بدا منهم ما يدعو إلى الحب، وهذا الكتاب نقد مقذع لاذع للإنسانية البغيضة.

وموضوع الرحلات - كما يعلم القراء جميعا - وصف لأسفار جلفر في أرض الأقزام، ثم في أرض العمالقة، فهو بين أولئك مارد جبار وبين هؤلاء قزم ضئيل، وقد برهن الكاتب على قدرة توشك أن تكون إعجازا في حفظ النسب بين حجوم الأشياء، فالعالم كله في بلاد «ليليبت»

7

أرض الأقزام ضئيل بنسبة مطردة، والعالم كله في بلاد «بروبدنجناج»

8 - أرض العمالقة - ضخم بنسبة مطردة أيضا، فلو قلنا - مثلا - إن البوصة عندنا تمثل قدما في أرض الأقزام والقدم عندنا تمثل بوصة في أرض العمالقة سار كل شيء على هذه النسبة في دقة عجيبة لا تخطئ، فالبقرة عند الأقزام في حجم الفرخ الصغير، والمنزل في حجم الصندوق، والرجل من الناس يمكن حمله في الجيب، وهكذا. وقل عكس ذلك عند العمالقة.

ولم يرق للدكتور جونسن أن يجعل في هذا قدرة ونبوغا، قائلا: «يكفيك أن تفكر في ناس ضخام وناس ضئال، ثم يسهل عليك بعد ذلك بقية القصة.» ولكن يظهر أن سهولة الأمر قد أوحى بها الاطراد العجيب الذي استطاع سوفت أن يحافظ عليه من بدء القصة إلى ختامها، فظن الناقد أن تصغير الأشياء والأحياء أمر طبيعي في مقدور كل إنسان، وقد يقول قائل: إن القصة أكذوبة واحدة، ومن اليسير أن يكذب الإنسان، ولكن فكر قليلا تجد الأكذوبة المتسقة المطردة التي لا تتناقض أجزاؤها ليست من السهولة، بحيث ظننت للوهلة الأولى.

ولكن ماذا يريد «سوفت» بهذه الرحلات العجيبة؟ يريد أن يهاجم الإنسانية عامة في غرائزها وحماقاتها، وأن يسخر من رجال عصره خاصة في خصوماتهم وسفاسفهم، فإذا قال لك مثلا إن قومين من الأقزام اقتتلا، واستعان فريق منهما بجلفر؛ لأنه كان يخشى سطوة أسطول الأعداء ، فيذهب جلفر إلى ذلك الأسطول المخيف، فيحطمه بإحدى يديه. ضحكت من زهو هؤلاء الذين اعتدوا بسطوة أسطولهم. والخطوة التالية أن تضحك من زهو الإنسان بقدرته وإنه لضعيف، بل إذا قال لك إن جيشين من هؤلاء الأقزام تلاقيا في حومة الوغي، وأنت تعلم أن الجندي منهم لا يزيد على طول إصبعك، ضحكت ملء شدقيك عجبا من خصومة تشتد بين تلك المخلوقات الضئيلة، حتى تؤدي بهم إلى القتال، والخطوة التالية لذلك أن تضحك ملء شدقيك أيضا عجبا من بني الإنسان يختصمون ويقتتلون، وإنهم كذلك لتوافه ضئال، وإن روى لك الكاتب عن أرض الأقزام أن حزبين هنالك أحدهما يلبس أعضاؤه أحذية عالية الأعقاب، والآخر يلبس أعضاؤه نعالا وطيئة الأعقاب، وأن هذين الحزبين يختلفان في تلك البلاد على ولاية الحكم، وأن الإمبراطور قرر ألا يعهد بأزمة بلاده إلا لذوي النعال الوطيئة، وأن ابن الإمبراطور كان مترددا بين الحزبين أيهما أقوم سبيلا فلبس نعلا عاليا ونعلا وطيئا، فاعلم أن الكاتب يرمز بذلك إلى حزب «الكنيسة العالية» وحزب «الكنيسة الواطئة» - فهكذا كانا يسميان في إنجلترا في القرن الثامن عشر - أي إلى المحافظين والأحرار، وهو يرمز بإمبراطور الأقزام إلى الملك جورج الأول، وقد كان يميل بهواه مع الأحرار، وابن الإمبراطور يمثل أمير ويلز الذي أبدى بعض الميل نحو المحافظين، وإن رأيت الكاتب يروي لك عن الأقزام أنهم اختلفوا من أين تكسر البيضة؟ أتكسر من طرفها العريض أم من طرفها الدقيق؟ وأن هذا الاختلاف أدى بينهم إلى خصومة وشحناء، فاعلم أنه يشير بذلك إلى الاختلافات الدينية التافهة التي يثيرها رجال الدين بتعصبهم، ولو نظر إلى تلك الخلافات من أعلى لوجد أنها لا تزيد في جدها عن مشكلة البيضة من أين تكسر، وهكذا، وهكذا ... فلو قرأت «رحلات جلفر» تحت هذا الضوء لرأيت أنه أعظم كتاب في الهجاء الساخر بالإنسان عامة وبرجال عصره خاصة.

والآن نعرض عليك فكرة موجزة عن أجزاء الكتاب:

أبحر «مستر لميول جلفر»

9 - وهو جراح على سفينة - من مدينة برستل في الرابع من شهر مايو سنة 1699م ميمما شطر جزائر الهند الشرقية، وتحطمت السفينة عند خط عرض 30 تقريبا، فقذف الموج بجلفر إلى جزيرة مجهولة، فإذا بتلك البلاد مملكة «ليليبت» التي يسكنها أقزام صغار، وأخذ هؤلاء الأقزام رحالتنا أسيرا. وهنا يصف «سوفت» حياة هؤلاء الناس، وما ينشب من قتال بينهم وبين جيرانهم أهل «بليفسكو»،

10

وحياة رجال القصر، والأحزاب المختلفة، وما إلى ذلك، ونشب بين أهل «ليليبت» - يقصد بهم الإنجليز - وأهل «بليفسكو» - ويقصد بهم الفرنسيين - قتال فظيع نسوق لك العبارة الآتية في وصف أسبابه؛ لأنها تدلك على طريقة الكاتب في التهكم:

بدأ القتال على الوجه الآتي: يسلم الناس جميعا بأن الطريقة البدائية لكسر البيض قبل أكله هي أن يكسر من طرفه العريض، لكن جد جلالة الملك الحاضر حدث له مرة حينما شرع يأكل بيضة وهو صبي أن جرح إصبعه لما أراد كسر البيضة وفق التقليد القديم، فلم يلبث أبوه الإمبراطور أن أصدر مرسوما يأمر فيه أبناء الشعب جميعا أن يكسروا البيض من طرفه الدقيق، وإلا تعرضوا للعقاب الصارم، ولكن الشعب اتخذ موقف المقاومة، بحيث ينبئنا التاريخ أن ست ثورات نشبت لهذا السبب، ومات أحد الأباطرة في تلك الثورات، وضاع التاج من آخر. وقد كان ملوك «بليفسكو» لا ينفكون يزيدون هذه الثورات الأهلية اشتعالا، وكانت إذا ما هدأت ثورة فر الطريدون إلى تلك الإمبراطورية يحتمون فيها، ويقال إن أحد عشر ألفا من الناس كانوا بين آونة وأخرى يؤثرون الموت على أن يذعنوا لما أمروا به من كسر البيض من طرفه الدقيق. وكتبت مئات عديدة من الكتب في موضوع هذا الخلاف، لكن مؤلفات «أصحاب الطرف العريض» حرمت منذ أمد بعيد، كما حرم القانون على ذلك الحزب كله أن يشغل رجاله مناصب الدولة. وكثيرا ما احتج أباطرة بليفسكو خلال ذلك الشغب بوساطة سفرائهم، وهم في احتجاجهم يتهموننا بإحداث فتنة دينية؛ إذ زعموا أننا بذلك إنما نسيء إلى مذهب أساسي في الدين كما بشر به نبينا العظيم «لسترج» في الجزء الرابع والخمسين من الكتاب المقدس «بلندكرال» (وهذا الكتاب هو «قرآنهم»)،

11

لكنا نحسب أن قولهم هذا مبالغة في تأويل النص؛ لأن العبارة كما وردت هي: «وأمر المؤمنون جميعا أن يكسروا بيضهم من الطرف الملائم.» وأي الطرفين هو الملائم؟ يجب - في رأيي المتواضع - أن يترك لضمائر الأفراد، أو أن يخول كبير القضاة - على الأقل - حق الفصل.

وفي الجزء الثاني من الكتاب يفر جلفر من أرض «ليليبت» إلى بلاد «بروبدنجناج»، وأهل هذه البلاد عمالقة يكبرونه حجما بمثل ما يصغره أقزام ليليبت. وأخذ جلفر في حضرة الملك العملاق، وأمر أن يروي عن أمته، فأخذ جلفر يعظم في الوصف ويفخم، لكن الملك ورجاله أحرجوه بكثرة الأسئلة، حتى اضطر أن يقول الصدق في أمته، وهنا يبين سوفت نقائص البلاد المتمدينة في رأيه، ويستمع الملك إلى ما يقوله جلفر، ثم يقول:

لست أرى مما تقول ... أن رجالكم يكرمون بما لهم من فضيلة، أو أن القساوسة يرتقون بما لهم من علم وتقوى، أو أن الجنود يرقون بما لهم من خلق وإقدام، والقضاة بما لهم من سلوك قويم، والنواب بما يبدونه من حب لبلادهم، والمشيرين بما يتحلون به من حكمة ... فلا يسعني إلا أن أحكم بأن الشطر الأعظم من مواطنيك أسوأ فصيلة من الدود الصغير الكريه مما يزحف على سطح الأرض من ديدان.

ثم يزور «جلفر» بعد ذلك أرض «لابوتا»،

12

وهنا يصب سخريته على العلماء، فالطعام في القصر الملكي يقطع على أشكال هندسية، ورجال الفكر مغرقون في تفكيرهم، حتى لا يفيقون إلا إن ضربوا بأطراف السياط، وكان من بينهم عالم يحاول أن يستخرج أشعة الشمس من القثاء، وفي هذه الأرض أيضا يلتقي الرحالة بفئة بغيضة حكم عليهم أن يقضوا حياة أبدية لا يستخدمون فيها ملكاتهم ومواهبهم.

وفي الجزء الرابع والأخير من «رحلات جلفر»، يطوف الرحالة ببلاد يسكنها «الوينيم»،

13

وهم ضرب من الكائنات لها هيئة الخيل، ولهذه الخيل هناك مكانة الإنسان في سائر البلدان، وأما الناس في تلك البلاد فيبدون في شكل بشع مخيف، ويلقون من «الخيول» كل مقت وازدراء، ويمثل «سوفت» بهذه الفصيلة البشرية الوضيعة التي يسميها «ياهو»

14

الجنس البشري كما يراه، وفي هذا الجزء أقذع وألذع هجاء يوجهه الكاتب للإنسانية التي يمقتها أشد المقت، حتى ليقال إن الجنون الذي مس الكاتب في أخريات سنيه كان قد أخذ يلعب بقواه العقلية، وهو يكتب هذا الجزء المظلم المعتم الكئيب من كتابه، وحسبه ظلما للإنسان أن يضعه في مرتبة أدنى من الحيوان. «أدسن» و«ستيل».

لا بد أن نقرن هذين الكاتبين أحدهما بالآخر، وأن نضعهما جنبا إلى جنب في كلمة واحدة، فقد اتصلت حياتهما الأدبية وتعاونا على نحو ما تعاون «بومنت» و«فلتشر» في القرن السابع عشر، فأصبح عسيرا أن تذكر زميلا بغير زميله. (1-2) جوزيف أدسن

Joseph Addison (1672-1719م)

هو من أئمة النثر في الأدب الإنجليزي، تخرج في جامعة أكسفورد وأتقن دراسة اللاتينية إتقانا مكنه أن يقرض فيها الشعر، وأن يصادف هذا الشعر إعجابا عند «بوالو» - الناقد الفرنسي الذي عرفته في الفصول السابقة - حين عرضه عليه «أدسن» أثناء إقامته في فرنسا، وكان «أدسن» حييا خجولا يتعثر في القول إن كان بين جماعة، ومن هنا أحجم عن النقاش وهو عضو في البرلمان، ويميل بطبعه إلى التفكير الهادئ المتأمل، وقد كان يهيئ الكاتب نفسه لينخرط في سلك الكنيسة، لكن مواهبه الأدبية استوقفت أنظار «لورد هاليفاكس» الذي كان زعيما لحزب الأحرار، وراعيا للأدب والأدباء، فمنحه راتبا يمكنه من الرحلة في أوروبا، وإنما قصد الزعيم بذلك أن ينشئ شابا أديبا تنشئة قد تعود على حزبه بالنفع إذا ما عاد الأديب، واكتمل نضجه، وأخذ يدافع عن الحزب بقلمه، وانتهز «أدسن» هذه الفرصة السانحة، وطاف بفرنسا وسويسرا وإيطاليا وألمانيا يجمع التجارب، ويزيد من معارفه، حتى أثقلت حديقة فكره بالثمار، فراح يقطفها وينثرها في أدبه بعد عودته إلى بلاده.

تغيرت الظروف السياسية في إنجلترا، وانقطع عن الكاتب راتبه، فعاد إلى إنجلترا ليضع أول حجر في مجده الأدبي سنة 1704م، وذلك حين أرادت الوزارة القائمة أن تشيد بالنصر الذي ظفر به «مولبرا»

15

في موقعه «بلنهايم»

16

في قصيدة قوية تسري بين الناس، فتكون للحزب السياسي الحاكم دعاية ودعامة، واقترح «هاليفاكس» أن يعهد بذلك إلى «أدسن»، فظهرت قصيدة «الحملة »،

17

التي لقيت نجاحا عظيما عند أولي الأمر، وعند الشعب القارئ على السواء، وكان الذي أعجب الناس من هذه القصيدة بصفة خاصة هذه الأبيات التالية:

عندئذ ظهر في «مولبرا» العظيم روحه الجبار،

فما اهتز حين اهتزت الأرض بالجحفل الجرار،

فبين الهرج والمرج واليأس والجزع

خبر مشاهد الحرب المخيفة كلها بلا فزع،

فإن ملك هبط بأمر الله من السماء،

وزلزل الأرض الأثيمة بالعواصف الهوجاء،

كالتي عصفت منذ قريب بأرض «بريتاني» الشاحبة؛

رأيته في رزانة وسكون يصد الرياح الغاضبة،

فهو يؤدي ما أمر الله العلي بنفس راضية،

وتراه في غمرة الإعصار موجها للرياح العاتية.

ففي هذه الأبيات - كما ترى - وصف جميل لرباطة الجأش وضبط الأعصاب وسط زعازع الحرب ورياحها الهوج، وهي الصفة التي كسب بها «مولبرا» موقعة «بلنهايم». وعلى كل حال أعجب الوزراء الأحرار بالقصيدة، وكوفئ شاعرها «أدسن» بمنصب يدر مائتي جنيه كل عام، ثم أخذ طالعه في سعود ما دام الأحرار في مناصب الحكم، حتى تربع في دست الوزارة وزيرا. (1-3) رتشرد ستيل

Richard Steele (1672-1729م)

ولد في دبلن، لكنه لم يقم في أيرلنده طويلا؛ إذ مات أبوه وهو في سن الخامسة، فانتقل إلى إنجلترا، ودخل مدرسة زامل فيها «أدسن» زمالة دامت طول الحياة، وتمم «ستيل» دراسته الجامعية في إكسفورد، وكانت إنجلترا عندئذ تخوض في الحرب إلى ركبتيها، فانخرط الأديب في سلك المحاربين، وظل في الجيش عشرين عاما.

وأول ما لفت إليه الأنظار قطعة أدبية أخرجها وهو في التاسعة والعشرين، هي «البطل المسيحي»،

18

وأراد بها أن تكون له بمثابة الشكيمة التي تضبط نوازعه ودوافعه القوية نحو الحياة المستهترة؛ فقد كان في «ستيل» اتجاهان متعارضان: فهو عربيد يندفع وراء شهواته، ولكنه نادم دائما يتمنى أن يهديه الله الصراط المستقيم، وكان مبذرا مسرفا بغير حساب، فوقع تحت عبء من الديون أقض مضجعه وأشقى حياته، ثم أخرج بعد ذلك ثلاث ملاه لم تصب نجاحا على المسرح، هي «الجنازة»،

19

و«المحب الكاذب»،

20

و«الزوج الرقيق الحس»،

21

وعلة فشل هذه الملاهي اعوجاج في ذوق الشعب لازمه منذ عودة الملكية، فما كان لنظارة ألفت المسرحيات الماجنة في عهد عودة الملكية لترتد في أعوام قلائل إلى الذوق المهذب السليم، فواجب الأديب - إذن - هو قبل كل شيء تهذيب الذوق الشعبي وتطهيره من فساده، وذلك عن طريق الصحافة. وهكذا صمم «ستيل» أن يخرج مجلة «تاتلر»،

22

ثم عقب عليها بمجلة «سبكتيتر».

23 •••

صدرت مجلة «تاتلر» وقد وضح محررها «ستيل» في عددها الأول غايته من إصدارها: «الغاية من هذه الصحيفة أن تعرض بفنون الحياة الزائفة، وأن تمزق أقنعة الدهاء، والغرور، والتكلف، وأن تشيد بالبساطة العامة في ثيابنا ونقاشنا وسلوكنا.» وكانت «تاتلر» تصدر ثلاث مرات كل أسبوع، ولم تكد تظهر، حتى صادفت نجاحا عظيما، وظهورها يحدد بداية واضحة للصحافة الحديثة.

وكان «ستيل» يخاطب قراءه في صحيفة «تاتلر» باسم مستعار هو «إسحق بكرستاف»،

24

ولهذا الاسم قصة لطيفة يجمل ذكرها، فقد كان ثمة منجم مشهور اسمه «بارتردج»

25

يخرج التقاويم، وفيها نبوءات تخدع العامة الساذجة، فصمم «سوفت» وزملاء له من الأدباء أن يسخروا بهذا المخادع، فأصدروا تقاويم يتنبئون فيها بموت «بارتردج»، وصدرت تلك التقاويم باسم منجم وهمي هو «إسحق بكرستاف»، واستطاع سوفت وصحبه أن يوهموا الشعب أن «بارتردج» قد مات فعلا، وعبثا حاول «بارتردج» أن يثبت للناس أنه حي، فكسدت تقاويمه وبطل خداعه، ومن هنا علق باسم «إسحق بكرستاف» شيء من الفكاهة اللطيفة. فاختاره «ستيل» اسما مستعارا.

ولما صدرت مجلة «تاتلر » كان «أدسن» في أيرلنده، ولكنه ما عتم أن واصلها بمدده، ولبثت المجلة قائمة مدة عام وتسعة أشهر أقفلت بعدها لظروف سياسية، غير أن «ستيل» سرعان ما أعلن عزمه على إصدار صحيفة يومية.

وفي غرة مارس من سنة 1711م صدرت «سبكتيتر» معتزمة أن لا تمس شئون السياسة، وأن تقتصر على الأدب وتهذيب الذوق، وإصلاح الحياة الاجتماعية، ولقيت تجاحا هائلا، وشاعت في طول البلاد وعرضها، وما يزال قراء الأدب حتى يومنا هذا يقرءون الصور الأدبية التي كانت تنشرها تلك الصحيفة، وما تزال شخصية «سير روجر دي كفر لي»

26

تحتل مكانة عالية بين أروع الشخصيات التي صورتها أقلام الأدباء، ثم ختمت الصحيفة حياتها في ديسمبر 1712م بعد أن أصدرت خمسة وخمسين وخمسمائة من أعدادها، جمعت في سبعة مجلدات أضاف إليها بعدئذ «أدسن» مجلدا ثامنا يحتوي طائفة من أجمل ما دبجته براعته من المقالات الأدبية.

27 •••

وفي سنة 1713م بعد أن طويت «سبكتيتر» بعام واحد، أخرج «أدسن» مأساة «كاتو»،

28

فنجحت عقب نشرها، لكنها لم تلبث أن كسدت سوقها في عالم المسرح، فلم يكن «أدسن» بالذي يجيد إنشاء المسرحية على الرغم من نبوغه في تصوير الشخصية، وذلك لعجزه عن تحليل الدوافع التي تتحكم في أعمال الناس وتسيرهم في هذا الطريق أو ذاك. •••

أما «ستيل» فقد أخرج مجلة جديدة تسمى «جارديان»،

29

وبعد عامين - أي في سنة 1715م - أشرف «أدسن» على مجلة أخرى، هي «فريهولدر».

30

وهنا تزوج «أدسن» من نبيلة ثرية وعين وزيرا، وسارت حياته سيرا هادئا مطردا لولا أن نشبت معركة أدبية بينه وبين صديقه القديم «بوب» مصدرها ما تأجج به صدر «بوب» من حسد وغيرة، وسنذكر طرفا من هذه الخصومة الأدبية الطريفة حين نتناول «بوب» بالعرض في الجزء الثاني من هذا الفصل.

وكذلك خاض «ستيل» ميدان السياسة، وانتخب عضوا في البرلمان، ثم فصل منه لنشره مقالة عنيفة عنوانها «الأزمة»،

31

وعلى كل حال فقد فرقت السياسة بين «ستيل» و«أدسن» اللذين لبثت بينهما الصداقة طوال هذه السنين. (1-4) دانيال دفو

Daniel Defoe (1661-1731م)

هو البادئ الحقيقي للقصة في الأدب الإنجليزي ، ولد في لندن لأب قصاب، وقد أراد له أبوه أن يكون واعظا دينيا، لكن الفتى لم يطع أباه فيما أراد، وبدأ حياته صانعا يصنع الجوارب، ثم عاش بعد ذلك حياة شهدت من صنوف العيش ألوانا، فهو تارة في رغد، وطورا في ضنك وضيق، ثم مات مفلسا لا يملك من حطام الدنيا شيئا.

ويخلده تاريخ الأدب لكتابه «روبنسن كروزو»،

32

ويكاد لا يعرف له الناس غير هذا الكتاب، مع أنه ألف مائتين وخمسين كتابا، كتب قصصا أقربها إلى نفوس القراء المحدثين: «كابتن جاك»

33

و«مول فلاندرز»

34

و«ركسانا»

35

وكلها فياضة برائع الوصف للحياة في لندن إذ ذاك، وكتب تاريخا وسيرا، وكتب رحلات وأنشد القصائد، ونشر الرسائل يصف فيها السيد الكامل والتاجر الكامل، وكتب دروسا نموذجية يرشد بها الآباء والعاشقين، ودبج المقالات السياسية، والرسائل الهجائية، وأنشأ صحيفة تصدر ثلاث مرات كل أسبوع كان يكتبها كلها بنفسه!

ومع ذلك فكتابه الذي نعرفه به هو «روبنسن كروزو» الذي نشر وله من العمر ستون عاما، ولا نحسب أن قارئا واحدا يجهل مادة هذا الكتاب، فلا تكاد تصادف بين الناس من لم يقرأ هذه القصة في صباه. وفكرة القصة مستمدة من حادثة حقيقية وقعت سنة 1704م لرجل يدعى «اسكندر سلكيرك»

36

انقطع به الطريق في جزيرة موحشة أربعة أشهر، فأوحت الحادثة بالقصة إلى «دفو»، وأما شخصية و«روبنسن كروزو» فهي شخصية الكاتب نفسه، فروبنسن رجل يفيض نشاطا، ويأبى أن يذعن لعقبات الحياة التي تعترض طريقه، وهو مقدام لا يهاب شيئا ويؤمن بالله إيمانا صادقا، فلو كان للقصة مغزى يريده الكاتب، فهو الصبر الجميل على أفدح الكوارث وأشق الصعاب، فأنت تعلم كيف حاول «روبنسن كروزو» وهو وحيد في الجزيرة الموحشة أن يصنع لنفسه كل شيء، فلم تحل دون غايته الحوائل، ولم ينهض في وجهه صعب إلا ذلله. وروعة القصة تنحصر في تصويرها لهذا الرجل الذي يعتمد على نفسه في كل شيء، يبني بيتا يسكنه، ويخبز خبزه، ويطهي طعامه، ويشعل ناره، ثم لا ييئس ولا يبتئس مع كل هذه الصعاب ؛ لأنه يحمل بين جنبيه قلبا يعمره الإيمان! إنها قصة فريدة في بابها؛ لأن سائر القصص تروي لنا حياة توشجت فيها روابط الجماعة وصلاتها، وأما هي فتروي لنا حياة شخص تقطعت بينه وبين الجماعة الصلات، إنها قصة للأطفال والرجال في آن معا تقرؤها فلا تجد فيها ما يضحك ولا تجد فيها ما يبكي، فلا عجب أن ترجمت هذه الآية الفريدة إلى لغات الأرض جميعا.

37

وأهمية هذه القصة في تاريخ الأدب أنها بدأت ضربا من القصص الواقعي، يتعمد فيه الكاتب أن يوهم قراءه بأن ما يطالعونه حقيقة لا خيال. يقول «تشارلز لام» في «روبنسن كروزو»: «إنه يستحيل عليك أن تشك وأنت تقرؤها في أن شخصا حقيقيا يقص عليك ما حدث له في حياته الواقعة.»

وأبدى «دفو» قدرته هذه على الخيال الواقعي في كتاب له آخر، هو «يوميات في سنة الطاعون»،

38

الذي كانت وقائعه كلها من خلق خياله ومع ذلك انخدع معاصروه وظنوه تاريخا صحيحا لما حدث في لندن حين فتك بها الطاعون.

ولئن بدأ «دفو» بقصة «روبنسن كروزو» القصص الواقعي فقد أنشأ كذلك ضربا آخر من القصص، هو القصص التاريخي الذي يمزج حقائق التاريخ بخلق الخيال، وذلك بكتابه «مذكرات فارس»،

39

وهي طريقة سار على نهجه فيها «وولتر سكت» و«اسكندر ديماس» في القرن التاسع عشر. (1-5) صموئيل رتشردسن

Somuel Richardson (1689-1761م)

على الرغم مما لقيه رجال القصة الفرنسية من نجاح في أوائل القرن الثامن عشر، ونخص منهم «لي ساج» في قصته «جيل بلا» و«بريفو» في قصته «مانون ليسكو»، وعلى الرغم من ظهور مبادئ القصة في إنجلترا عند «دفو» فلنا أن نقول إن أدب القصة لم تتكامل نشأته إلا بين يدي «رتشردسن» في قصة «باملا أو الفضيلة تلقى جزاءها»،

40

التي نشرت عام 1740م. ومما هو جدير بالذكر أن رجال الأخلاق كانوا قبل «باملا» يحرمون قراءة القصة؛ لأنها في رأيهم مباءة إفساد، ثم جاءت هذه القصة على غير ما يظن بالقصص؛ إذ جاءت درسا في الأخلاق، تقي قراءتها ضعاف النفوس موارد الزلل، فقد قصد «رتشردسن» إلى تقويم الأخلاق قبل كل شيء، وقال عنه جونسن الناقد الإنجليزي المعروف في القرن الثامن عشر إنه علم العواطف الإنسانية كيف تضع زمامها في يد الفضيلة.

لسنا نعرف من طفولة الكاتب إلا قليلا، فهو يحدثنا عن نفسه أنه في سن الحادية عشرة أخذ على نفسه أن يكتب خطابا يستشهد فيه بكثير من آيات الكتاب المقدس إلى سيدة في الخمسين من عمرها عرفت بالنميمة ليعظها ويهديها سواء السبيل، وأنه في سن الثالثة عشرة كان يكتب خطابات غرامية لكثير من الفتيات اللائي عرفن فيه القدرة على الإنشاء، وأنه في سن السابعة عشرة التحق «صبيا» بمطبعة يمارس فيها فن الطباعة، وفي سن الثلاثين أدار بنفسه عملا يرتزق منه، وبعد عامين تزوج من ابنه «معلمه» الذي دربه على الطباعة، ولم يبدأ كتابة قصته «باملا» إلا وهو في الخمسين من عمره. وباملا فتاة ريفية عفيفة ساذجة، حاول سيدها المستهتر العربيد أن يغريها بالفجور، لكنها قاومت إغراءه بكل ماله من شباب ومال، وأخيرا «لقيت الفضيلة جزاءها» - كما يشير عنوان القصة - بأن اضطر السيد المتعقب إلى الزواج من الفتاة التي يشتهيها. ويعلق المتزمتون في الأخلاق على هذه الخاتمة بقولهم إن زواج الفتاة الطاهرة ممن أراد بها الغواية ليس فضيلة من الطراز الممتاز، إنما هي فضيلة «تجارية» تقاوم الرذيلة حتى تستفيد منها، ثم تذعن لها وتستسلم، فحقيق بنا أن نقول إن «رتشردسن» في محاولته تقويم الأخلاق كان رجلا عمليا لا يحلق في سماء الخيال والتجريد، ومهما يكن من شيء، فقد كانت قصة «باملا» بداية قوية للكاتب، بل بداية قوية للقصة في الأدب الإنجليزي، وهي تجري في سلسلة من الرسائل التي يستشف القارئ من ثناياها طبيعة المرأة على حقيقتها، وهذه الناحية هي أظهر ما امتاز به الكاتب في فنه القصص.

ثم أخرج وهو في التاسعة والخمسين قصة «كلارسا أو مغامرات فتاة»

41

يتقدم شاب بغيض ممقوت لخطبة «كلارسا هارلو» فترفض الفتاة، وتضطهدها الأسرة لهذا الرفض، فيحبك لها الخطيب الدنيء «لفليس»

42

أحبولة من الأكاذيب والدسائس وألوان الخداع، حتى يتمكن بمعونة طائفة من بنات جنسها أن يخدرها فيفقدها الوعي، ثم يسلبها الشرف، فتنكرها أسرتها، وتلاقي الفتاة من المحن ما تلاقي، ويستيقظ الضمير في الفاجر المعتدي فيعرض عليها الزواج، لكن كبرياء الفتاة تأبى عليها هذا الإذعان الذليل، والفتاة مطمئنة في أعماق نفسها إلى طهارة ذيلها وقوة إرادتها، لكنها تعلم بغير شك أنها قد أوذيت وأثلم شرفها فتسلم نفسها إلى كروب النفس تذويها وتضنيها حتى تلفظ الروح، فتتنبه الأسرة إلى الجريرة التي اقترفتها في ظلم الفتاة فيعذبها تأنيب الضمير، ويلقى «لفليس» جزاءه الطبيعي بأن يقتل في مبارزة مع ابن عم الفتاة.

هذه هي القصة التي لم تقتصر شهرتها على إنجلترا، بل ذاعت في أرجاء أوروبا كلها، وترجمها «ديدرو» لينشر فنها القصصي في فرنسا، وكذلك ترجم «بريفو» القصصي الفرنسي آثار «رتشردسن» في حينها كما أسلفنا لك القول عند الكلام على الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر، وقد كان لقصة «كلارسا» أثر قوي في تنمية الروح الديمقراطية؛ إذ لم يكن مألوفا بين الكتاب والقراء على السواء أن تختار فتاة من غمار الشعب بطلة لقصة تثير اهتمام الناس جميعا، ولعل ذلك ما حدا بالفرنسيين في القرن الثامن عشر إلى الإسراع في نقلها إلى أدبهم لتكون عاملا من العوامل التي أخذت تتجمع حتى انفجر بقوة ضغطها بركان الثورة الفرنسية. وقد لقيت هذه القصة إعجابا وتقديرا بين أعلام الفرنسيين إذ ذاك، حتى وضع «ديدرو» كاتبها في صف «هومر» و«يوريبيد» و«سوفوكليز» واتخذه «جان جاك روسو» نموذجا احتذاه في قصة «جولي أو هلويز الجديدة»، ثم جاء بعد ذلك «ألفرد دي ميسيه»

43

الشاعر الفرنسي فزعم أن «كلارسا» أعظم قصة في أدب العالمين إطلاقا.

والقصة الثالثة والأخيرة لرتشردسن هي «السير تشارلز جراندسن»،

44

والبطل في هذه القصة - وهو الذي سميت القصة باسمه - رجل قويم الخلق لا يعرف الخطيئة، وقد قصد به الكاتب أن يمثل الرجولة في أكمل صورها. (1-6) هنري فيلدنج

Henry Fielding (1707-1754م)

نشأ في كلية «إيتن» التي تنشئ أبناء الخاصة، وجاء إلى لندن يعتمد في عيشه على رزق مضطرب تدره عليه مسرحياته، إذ ماتت أمه وتزوج أبوه من غيرها، فكان لا يأتيه المدد إلا لماما متقطعا، ولما بلغ الثالثة والثلاثين التحق بسلك القضاء، وإنما يخلده الأدب بقصصه الروائع.

وأول ما نشر من قصصه «جوزيف أندروز»،

45

وقد أراد بها أن يتهكم بزميله «رتشردسن» في قصته «باملا»، وطريقته في التهكم أن يجعل «جوزيف» أخا لباملا، وكما أخذ سيد باملا يغريها بالغواية عن نفسها، فقد أخذت سيدة «جوزيف» تغريه بالغواية عن نفسه، فيقاوم الفتى إغراء سيدته، كما كانت تقاوم الفتاة في قصة رتشردسن إغراء سيدها. هكذا بدأ «فيلدنج» قصته بنية السخرية والتهكم من الفضيلة كما تصورها زميله، لكنه سرعان ما توثقت العلائق النفسية بينه وبين شخصياته التي خلقها بقلمه، فاطرح روح التهكم وجعل يصور لنا في سائر القصة حياة عصره أصدق تصوير وأروعه. ويقول «بيرن» عن «فيلدنج» بمناسبة هذه القصة: «إنه هومر النثر في وصف الطبيعة البشرية.» ذلك لأن قصة «جوزيف أندروز» صورة مزدحمة بالأشخاص الذين يمثلون صنوف الناس جميعا، ففيها الحوذية والرحالة ورجال الدين وسادة الريف والخادمات والزوجات والبائعون الجوالون وأصحاب الدكاكين، كل هؤلاء وغيرهم يسوقهم لك في قصة جميلة السبك ممتعة السياق، على أن أبدع ما في القصة قوة تصوير الأشخاص تصويرا صادقا ناصعا، وروح الفكاهة اللطيفة التي تميل أحيانا نحو السخرية والهجاء.

وبين أشخاص هذه القصة شخصية كتب لها الخلود بين الشخصيات الأدبية الخالدة، ونعني بها شخصية «القس آدمز»،

46

الذي اتخذه بطل القصة «جوزيف» زميلا وصديقا. و«القس آدمز» يمثل المسيحي الصالح الذي يجتذب قلوب عارفيه، لكن في سلوكه شذوذا وبعدا عما تقتضيه الحياة الدنيا بحيث لا يسعنا إلا أن نضحك منه، لكنه ضحك العطف الذي لا تشوبه شائبة من زراية واحتقار، فهو رجل عالم بكل شيء إلا بما تنطوي عليه نفوس الناس من ضعة وخسة، وجهله بهذه الناحية من النفس البشرية يؤدي به إلى كثير من المواقف المضحكة، لكن ذلك كله لا يخمد من حرارة قلبه وإيمانه، وحسبك أن تلم بصورة هذه الشخصية وحدها لتحدد موضع فيلدنج في القصة، فهو يحب أن يبعث الضحك في قارئه، لكنه الضحك الذي يزيده حبا في الفضيلة وطيبة القلب، وقد تأثر بهذه الشخصية قصصي إنجليزي آخر في القرن الثامن عشر، هو «جولد سمث» حين أنشأ قصته المشهورة «راعي ويكفيلد».

47

وفي سنة 1749م، نشرت قصته الثانية «توم جونز»،

48

وصفوة القصة أن «السيد أولورذي»

49

يقوم على تربية ابن أخته ولقيط يسمى «توم جونز» كأنهما ولداه، وكان الولدان مختلفين اختلاف النقيض عن نقيضه، فابن الأخت «بلايفل»

50

منافق لئيم حذر، و«توم» طيب القلب ساذج سريع الغضب، ويزل «توم» في أخطاء كثيرة هي أخطاء الشباب المتحمس المحتدم العواطف، وهو سرعان ما يندم على خطئه؛ لأنه يحمل نفسا قوية ليس فيها عوج، وما زال «بلايفل» بدهائه ولؤم طبعه يوقع «بتوم» ويدس له الدسائس ، وما زال «توم» على حمقه وطيش شبابه حتى ضاق «أولورذي» به ذرعا وأخرجه من كنفه، فخاض الفتى مغامرات كلها صعاب، ثم انتهى الأمر بأن كشف عما ينطوي عليه «بلايفل» من خبث، وما يضمره «توم» من نفس خيرة، فكان «توم» هو الظافر، وتزوج من الفتاة الحسناء «صوفيا وسترن»

51 - وهي بطلة القصة - وذهبت جهود «بلايفل» في الإيقاع بينهما أدراج الرياح.

وكل ما أراد الكاتب أن يؤكده هو أن طيبة القلب خير شفيع لما يزل فيه الإنسان من أخطاء، وأن من يحب إخوانه من بني الإنسان جدير أن تغفر له رذيلته، فها هو ذا «توم جونز» يحمل قلبا طيبا، لكن فضيلته ليست من القوة، بحيث تستعصي على الإغراء فيزل في الرذيلة آنا بعد آن، فنحبه ونعطف عليه ونغفر له ذنوبه.

وأخيرا نشر قصته الثالثة «أمليا»،

52

ثم أصابته علة اضطر معها أن يقصد إلى لشبونة وقد قص أنباء رحلته الشاقة في يوميات نشرت بعد موته، وجاءته المنية وهو في لشبونة حيث رقد جثمانه.

كان «رتشردسن» يكتب للنساء و«فيلدنج» يكتب للرجال، وكان «رتشردسن» يميل بخياله مع العاطفة و«فيلدنج» واقعي يشاهد ويكتب، وعلى كل حال فأدب «فيلدنج» عند النقاد يرجح أدب زميله، يقول عنه «هازلت»:

53 «إنه في ملاحظته للطبيعة البشرية يقل قليلا عن شيكسبير، فلو عددت في الأدب الإنجليزي كله ست قصص وجدت «توم جونز» واحدة منها.»

والقصة عند «فيلدنج» لها طابع خاص يميزها، بحيث قال عنها «ثاكري»

54

إنها «ملحمة تهكمية عظمى»، وقد رأينا «بيرن» يسمي فيلدنج «هومر النثر في وصف الطبيعة البشرية» فما الذي يقرب القصة عند هذا الكاتب من الملحمة؟ يقول فيلدنج نفسه في مقدمة قصته «جوزيف أندروز»: «إن الملحمة يمكن تأليفها نثرا كما يمكن إنشادها شعرا، إذ القصة التي تحمل كل خصائص الملحمة ما خلا الوزن؛ جديرة أن تعد ملحمة تمييزا لها من القصة التي لا تصور الواقع.» فقصة مثل «جوزيف أندروز» ملحمة هزلية نثرية، تختلف عن الملهاة المسرحية بمقدار ما تختلف الملحمة الجادة عن المأساة المسرحية، والفرق هو أن دائرة الفعل والحركة تمتد في نطاق أوسع مما تمتد فيه المسرحية، وفيها عدد أكبر من الحوادث ومجموعة من الشخصيات أكثر تنوعا، ومن أخص خصائص قصة فيلدنج التي - على حد قوله - لم تعرف لها اللغة الإنجليزية مثيلا قبلها، أنها تعالج أشخاصا من طبقات المجتمع الدنيا، وتصور ألوانا من السلوك الدنيء المرذول.

ويقول فيلدنج في مقدمة «توم جونز»: إنه يتأثر خطو أصحاب الملاحم الكبرى هومر وفرجيل، كما يقتص أثر القصصي الإسباني سيرفانتيز في قصته، «دون كيشوت» ويصرح بأن غايته من القصة أن يعكس الدنيا الحقيقية كما تجري في عالم الواقع، وأن يحصر نفسه في حدود الممكن المحتمل، قائلا إن القصصي لا ينبغي أن يكتب إلا فيما يعلمه حق العلم من صور الحياة. (1-7) توبياس سمولت

Tobias Smollett (1721-1771م)

هو اسكتلندي تخرج في جامعة جلاسجو طبيبا، ولما بلغ سن الثامنة عشرة ارتحل في أنحاء إنجلترا، وأثبت ملاحظاته عن تلك الرحلة في الفصول الأولى من قصته «رودريك راندم»،

55

وزار مدينة لندن وهو لا يحمل في جعبته إلا مأساة «قتل الملك»،

56

ولكنه لم يستطع أن يلتمس لها سبيلا إلى المسرح، ولم يجد في قلمه معينا له على كسب قوته، فاشتغل جراحا في سفينة، ولبث في البحر ستة أعوام أو سبعة، شهد خلالها حصار قرطاجنة سنة 1741م، ووصفه فيما بعد في قصته «رودريك راندم»، كما خبر البحارة وصورهم في بعض قصصه.

وترك البحار وعاد إلى إنجلترا، وكانت سنه إذ ذاك خمسة وعشرين عاما، وعندئذ أنشد قصيدة «عبرات اسكتلنده»،

57

إذ تحركت نفسه لما كان يعانيه الاسكتلنديون بعد وقعة كالدون، والقصيدة تتألف من سبع مقطوعات هذه أولها:

حدادا، كالدوينا التعيسة، حدادا

على إكليلك الممزق وأمنك الذي بادا،

فبنوك الذين عرفتهم الأيام بسلا ميامين

أراهم على أرض أوطانهم صرعى راقدين،

وديارك الكريمة بعدئذ لن تعودا

تدعو الغريب إلى أبوابها كرما وجودا

إذ اندكت أساسها في خرائب واهنة

ستظل أنصابا عن العسف معلنة.

وأخذ بعدئذ يحاول ألوانا من فنون الأدب، ثم تزوج سنة 1747م فاضطره الفقر والإسراف أن يحترف الكتابة، وأصدر في العام الذي تلا زواجه قصة «رودريك راندم» فجاءته بالشهرة والمال معا، وعقب عليها بقصة «برجرين بكل»

58

وهي شبيهة بقصة «رودريك راندم»، وفيها كثير من سيرة حياته، وبعدئذ كف عن الكتابة قليلا إذ عاد إلى مهنة الطب، ثم ما لبث أن أخرج قصة «مغامرات فردناند»،

59

وبعدها نشر خير قصصه جميعا «همفري كلنكر»،

60

ومات غريبا عن بلاده في «مجهورن» في العام الذي صدرت فيه هذه القصة الأخيرة. ومن آثاره الأدبية غير قصصه ترجمته لدون كيشوت، وكتابة بعض الرسائل التاريخية عن إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها.

في قصة «رودريك راندم» يقص الكاتب سيرة حياته إلى حد كبير، فهو لا يبتكر أحداثها إنما يستذكر ويستعيد، ثم يسجل، ويشيع في القصة روح الفكاهة التي يخرج بها أحيانا عن حد التهذيب، فيجعل كثيرا من نكاته فاحشا غليظا، وقد كان «سمولت»، في هذه القصة تلميذا للقصصي الفرنسي «لي ساج»، فقصته - كقصة «جيل بلا» - سلسلة من المغامرات يتلو بعضها بعضا في غير اتصال وثيق بين السابقة واللاحقة.

وأما «همفري كلنكر» فالقصة فيه تروى في سلسلة من الرسائل كتبت عن رحلة في أرجاء اسكتلنده وإنجلترا، بأقلام أشخاص عديدين، أهمهم جميعا «ماثيو برامبل»،

61

وهو رجل كهل طيب القلب يقوم برحلته مستردا لصحته، و«همفري كلنكر» وهو سائق في خدمة «برامبل» تقي ورع ، ثم يتبين آخر الأمر أنه ابن «برامبل»، وغير هذين أشخاص كثيرون يبعثونك على الإعجاب الشديد بفن الكاتب في تصوير الأشخاص.

ومما يجدر ذكره عن «سمولت» أنه كان ذا أثر قوي في قصصي إنجليزي عظيم في القرن التاسع عشر، هو «دكنز» الذي قرأ «سمولت» طفلا، فتعلم منه فن القصة، وكلا الكاتبين يتشابهان في الفكاهة الصارخة، وفي التصوير «الكاريكاتوري» لأشخاصهم، فتراهما يبرزان فيمن يصورانه جانبا، ثم يبالغان في تصويره، وكلاهما يحدد نفسه بالواقع فيما يصف فلا يشطح بخياله في أوهام، على أن «سمولت» امتاز عن كتاب عصره بقدرته العظيمة على وصف دخائل بعض الطبقات، كوصفه لحياة البحارة في أدق تفصيلاتها. (1-8) لورنس ستيرن

Laurance Sterne (1713-1768م)

كان أبوه من رجال الجيش، وكان بحكم عمله يتنقل من بلد إلى بلد وأسرته في صحبته. فلم يستقر «ستيرن» في مكان واحد إبان طفولته، فكان لذلك أعظم الأثر فيه؛ لأنه أتاح له الفرصة أن يجمع في سنيه الباكرة تجارب الحياة ويختزنها حتى يحين حين الكتابة، وهو في هذا شبيه «بسمولت»؛ فكلاهما يتخذ من أسفاره وحوادث حياته مادة لقصصه، فلما بلغ الفتى عامه العاشر عهد به إلى مدرسة استقر فيها نحو ثمانية أعوام، ثم أرسل إلى كمبردج حيث أتم علومه، وبعد تخرجه انخرط في الوظائف الكنسية حينا، حتى إذا ما بلغ السابعة والأربعين من عمره طلع على الناس بأثر أدبي عظيم هو قصة «حياة ترسترام شاندي وأفكاره»،

62

فكانت له ضجة هائلة بين جمهور القارئين على الرغم من أنه كتاب لكاتب مغمور لم يسمع به أحد من قبل، حتى لقد زار الكاتب لندن عقب صدور الكتاب، فألفى نفسه - على غير توقع منه - مشهورا مذكورا بين الناس، وقد تلقى من الدعوات ما كان يكفي أن يطعمه الأيام القليلة التي بقيت له من حياته، ونفقت سوق الكتاب بحيث لم تكد تخرج طبعته الأولى حتى بدئ في الطبعة الثانية.

يقع «ترسترام شاندي» في تسعة أجزاء، ومع ذلك لم يتركه الكاتب عند خاتمة تنهيه، ويستحيل علينا أن نوجز لك حبكة الحوادث في هذه القصة؛ لأن أبرز ما يميز الكتاب أنه بغير حبكة ولا خطة ولا نظام، فالمفروض أن تدور القصة حول حياة «ترسترام شاندي» وأفكاره، لكنك تقرؤها فتصادف فيها كل ما وسع كاتبها من مشاعر وخواطر. ومما يلفت النظر في الكتاب غرابة استعمال علامات الوقف وما إليها، مما تعمده الكاتب وكان مصدرا للضحك عند القراء، فتراه مثلا يترك مسافة خالية بغير مبرر، أو يقطع مجرى الكلام بعلامة غريبة لا معنى لها، أو يضع نجمة صغيرة على كلمة دون حاجة إليها، وهكذا. وفي الكتاب كذلك استطراد كثير، وعن هذا الاستطراد يقول الكاتب: «إنه حياة القراءة وروحها.» وقد برع «ستيرن» براعة تستحق الإعجاب في جودة تصوير الأشخاص مثل «العم توبي»

63

الضابط المتقاعد، و«الجاويش ترم»

64

و«الأرملة وادمن»

65

وغيرهم، ومن بين ما لجأ إليه الكاتب في تصويره للأشخاص ليزيدهم وضوحا وتمايزا وصف حركاتهم التي تلازمهم.

و«لستيرن» كتاب آخر هو «رحلة عاطفية في فرنسا وإيطاليا»،

66

والقصة تجري على لسان «يورك»

67

الذي هو «ستيرن بعينه»، وفي الكتاب كثير من تجارب الكاتب الشخصية أثناء ارتحاله في تلك البلاد، وهو يحتوي على كثير من الصور النابضة بالحياة للفنادق القديمة والرهبان والغلمان والخدم والحوذية والسائلين، وأصحاب الفنادق والجنود والسيدات وما إلى ذلك.

وليس في هذا الكتاب قصة، بل هو وصف لرحلة يسجل فيها الكاتب ما يعن له من خواطر، وهاك مثالا ذكره حين رأى زرزورا في قفص وهو في فندق في باريس:

أزعجني وأنا مستغرق في تأملي صوت ظننته لطفل، يقول شاكيا، إنه لا يستطيع الخروج، فصعدت بصري وصوبته على طول الممشى، ولما لم أجد رجلا ولا امرأة ولا طفلا خرجت أنظر الأمر.

ولما عدت مارا بالممشى سمعت الألفاظ بعينها تتردد مرتين، فنظرت إلى أعلى، ورأيت أنه زرزور معلق في قفص صغير، فقال الزرزور: «لا أستطيع الخروج! لا أستطيع الخروج!»

وقفت أنظر إلى الطائر، وكلما جاء إلى الممشى قادم، طار يرف إلى الناحية التي يدنو منها القادم الجديد، وفي كل مرة يرثي لأسره بالعبارة نفسها «لا أستطيع الخروج!» فقلت: «كان الله في عونك، لكني سأطلق سراحك، وليكن بعد ذلك ما يكون!» فأخذت أدور حول القفص ألتمس بابه، لكني وجدته ملفوفا بالسلك في طيات مزدوجة، بحيث يستحيل فتحه بغير تحطيم القفص، فهممت أن أفعل بكلتا يدي.

وطار الطائر إلى حيث كنت أحاول خلاصه، ودفع رأسه خلال القضبان وضغط بصدره عليها كأنما أخذه القلق، فقلت: «لكم أخشى أيها الطائر المسكين ألا أستطيع لك فكاكا!» فأجاب الزرزور: «كلا، لا أستطيع الخروج، لا أستطيع الخروج!»

وأقسم أن مشاعري تحركت عندئذ بعطف ما أحسست له مثيلا قبل ذلك، ولست أذكر في حياتي كلها حادثة أثارت في نفسي فجأة ثورة جامحة - وقفت قواي العقلية إلى جانبها فقاعة واهية - بمثل ما أثارت تلك الحادثة، نعم كانت نبرات الطائر في شكاته آلية، لكنها جاءت مطابقة في أنغامها لأنغام الطبيعة؛ حتى لقد ارتدت قواي العقلية المنطقية في لحظة إلى الباستيل، وصعدت السلم بخطوات ثقيلة، منكرا على نفسي كل لفظة نطقت بها إذ كنت أهبطه قلت: «تنكر بما شئت من قناع أيها الرق، فما زلت جرعة مريرة، ورغم ما شهدته العصور كلها من ألوف أرغمت على اجتراعك، فلم تقل بذلك عما كنت مرارة.» ثم توجهت بالخطاب إلى (الحرية) قائلا: «إن الناس لا يعبدون إلاك في السر والعلن، أيتها الإلهة الرحيمة المحببة إلى النفوس، إن مذاقك حلو، وسيظل كذلك إلى أبد الآبدين، حتى تتبدل الطبيعة غير الطبيعة، إن ثوبك الأبيض الناصع لن تلوثه شوائب الألفاظ، كلا ولن تستطيع قوة أن ترد صولجانك إلى قضيب من حديد، إنك إذا افتر ثغرك بابتسامة على القروي الساذج وهو يأكل خبزه القديد جعلته أسعد من ملك أنت عن قصره مبعدة ...»

وبعد، فقد استطاع «ستيرن» بكتابيه - و«ترسترام شندي» على وجه أخص - أن يحرك أجيالا متعاقبة إلى الضحك والبكاء في آن معا، وقلما تجد في الأدب الإنجليزي أديبا آخر كان في مقدوره أن ينال بمثل إنتاجه القليل ما ناله من أثر عميق، فمهما قلت مادته رأيت في مستطاعه أن ينسج من خيوطها نسيجا فاتنا جذابا حلو الفكاهة ، وإن كان لنا أن نقسم الأدباء صنفين، صنف كدودة القز تغزل غزلها؛ لأنها مليئة، وصنف كالعنكبوت يغزل غزله لأنه خاو، كان أديبنا «ستيرن» بغير شك من دود القز الذي يفرغ في غزله مادة أترع بها جوفه، ومهما جاءت خيوطه دقيقة رفيعة، رأيتها قوية محبوكة، وهو - في رأي كارليل - ضريب لسيرفانتيز في طلاوة الفكاهة التي استحق بها أن يحتل مكانه في طليعة الأدباء. (1-9) أولفر جولدسمث

Oliver Goldsmith (1728-1774م)

ستقرأ عن هذا الأديب العظيم في ثلاثة مواضع من هذا الكتاب، ستقرأ عنه هنا ناثرا، وفي مكانين آخرين مسرحيا وشاعرا.

ولد لقسيس فقير، ولما كان في سنته الثامنة أصابه جدري ترك وصماته الشائهة على وجهه طول الحياة، وأرسل حين بدأ عهد الطلب إلى مدرسة تديرها سيدة، فقالت عنه: «لم أصادف قط طفلا في غباء هذا الطفل!» ثم عهد به بعدئذ إلى معلم كان قبل جنديا في جيش «مولبرا»، وكان هذا المعلم الجندي زاخر الذاكرة بالقصص عن البر والبحر وعن مغامراته ومغامرات سواه، كما كان يحفظ كثيرا من الأغاني الشعبية الإيرلندية القديمة والقصص الخرافية، ولعل هذا المعلم أن يكون أول من وجه أديبنا في سن الصبا إلى كتابة القصة. وأخذ ينتقل الفتى في المدارس الريفية، حتى أكمل ثلاثة عشر عاما من سنه، فالتحق بكلية في دبلن يتعلم فيها بالمجان لقاء خدمات يؤديها، وكان «جولد سمث» في الكلية متراخيا لا يحافظ على موعد أو نظام، تؤرقه حاجته إلى المال، فكان يكتب الأغاني ويبيعها، وحدث أن أشرف عليه في الكلية مرب غليظ القلب طاغية، فلقي منه صاحبنا عنتا، من ذلك أن زاره بعض أصدقائه يوما، فدخل عليهم المربي محتدم العواطف ثائر النفس، وصفع جولد سمث وركله فأوقعه أمام رفاقه، فما طلع الصباح حتى باع الطالب كتبه وغادر الكلية ليضرب في فجاج الأرض هائما على وجهه، فصادفه أخوه وكساه بكساء جديد، وأعاده إلى كليته، حيث أقام حتى ظفر بدرجته العلمية وهو في عامه الحادي والعشرين.

وما فرغ من الكلية حتى أرسل له عمه مبلغا من المال يمكنه من دراسة القانون في «دبلن»، لكن أديبنا أضاع المال على مائدة القمار، وسافر إلى أدنبره حيث شرع يدرس الطب، ولبث عاما ونصف عام، ثم حفزه حافز أن يرحل عن أرض الوطن، فيمم شطر بوردو في سفينة تحمل طائفة من الجنود الخوارج على القانون، فسيق راكبوها جميعا إلى السجن، وظل جولد سمث في ظلماته أربعة عشر يوما، ثم عاد فصمم على الإبحار مرة أخرى، وكانت غايته هذه المرة مدينة «روتردام»، ومنها واصل الرحلة إلى «ليدن» حيث التحق بجامعتها عاما يواظب مرة وينقطع أخرى.

وعندئذ بدأ جولد سمث «الرحلة الكبرى» سائرا على قدميه، لا يملك من حطام الدنيا إلا جنيها واحدا ومزمارا، فكان وهو يجول في فرنسا يزمر للزارعين في رقصهم لقاء نومه وطعامه، وطوف بعد فرنسا في ألمانيا وسويسرا وإيطاليا. ويقال إنه وهو في بادوا ظفر بإجازة الطب، ولكن كيف السبيل إلى الرزق في إيطاليا، فلئن استطاع مزماره في فرنسا أن يكسب له قوتا ومخدعا، فماذا هو صانع بمزماره في بلاد كل زارع في حقولها يفضله في العزف والموسيقى؟

أسرع إلى العودة إلى إنجلترا مفلسا مهلهل الثياب بشع المنظر، فتعذر عليه أن يجد عملا يقتات منه، ثم بدأ ينتقل من عمل إلى عمل كيفما اتفق له، فهو اليوم معين لصيدلي، وهو غدا طبيب يعالج المرضى، وهو تارة يصلح التجارب في مطبعة (هو الذي أصلح تجارب قصص رتشردسن)، وهو طورا حاجب في مدرسة، وأخيرا عين محررا لمجلة شهرية.

هنا بدأ جولد سمث حياة أدبية يعتمد فيها على قلمه، وأخرج سلسلة خطاباته المشهورة منجمة في إحدى المجلات، وهي التي تعرف باسم «المواطن العالمي»،

68

وتجري هذه الخطابات على لسان فيلسوف صيني يرسلها إلى صديق له في الصين، وفيها يصف الحياة كما شهدها في إنجلترا، وآيته في النثر قصة «راعي ويكفيلد»، وسنترك الحديث عن قصائده ومسرحياته إلى موضع آخر.

أما مجموعة مقالاته - أو خطاباته - التي نشرت باسم «الموطن العالمي» فهي ترمي إلى تصوير الحياة الإنجليزية كما يراها الأجنبي، وبين هذه المجموعة مقالات هي من أجود ما جرى به في الإنجليزية قلم، نذكر منها بصفة خاصة «صاحب الرداء الأسود»

69

و«بوتبز»،

70

فهاتان شخصيتان جديرتان أن توضعا إلى جانب «سير روجر دي كفرلي» الذي صوره أدسن، وقد سلف الحديث عنه، فاقرأ هذه المقالات تجد متاعا لا يعد له متاع، فأسلوب رشيق رائق، وفكاهة جيدة لطيفة، وسخرية مستساغة رقيقة.

طارت هذه المقالات بشهرة جولد سمث، فتسابق عليه الناشرون، وأجزلوا له العطاء، فتدفق المال غزيرا في جيوبه، لكنه ظل على فقره. وماذا يصنع المال الغزير أمام هذا الإسراف الشديد؟ فلباس فاخر، وميسر، وإحسان في تبذير! واتصل جولد سمث بأعلام الأدب، فهو صديق حميم لإمام العصر «الدكتور جونسن» وهو مجالس لمعشر الأدباء في «الندوة الأدبية» المشهورة في تاريخ الأدب، والتي سيرد ذكرها عند الكلام على «جونسن».

أما قصة «راعي ويكفيلد» فهي - كما يقول ناقد - شبيهة بسفر أيوب، تتناول رجلا طيب القلب، وتمتحنه بالكوارث المتلاحقة، فتظل شعلة نفسه صافية النور وسط ما يحيط به من ظلام، وفي آخر الأمر تجزيه عما صبر، فترده إلى السعادة التي سلبها، وليست تمدح القصة لفنها القصصي، فهي هنا ناقصة معيبة، وهي كثيرا ما تجاوز حدود المعقول الممكن في عالم الواقع، وتجعل في مجرى الحوادث دخلا للمصادفة أكبر مما نشاهده في الحياة. ويظهر أن «جولد سمث» حين بدأ كتابة هذه القصة لم يكن في ذهنه حبكة الحوادث في إطارها، ولكنا لا نقرأ هذا الكتاب لحبكته، وإنما نقرؤه ويقرؤه العالم كله لهذه الشخصيات الإنسانية التي أجاد الكاتب تصويرها. إن هذا الكتاب وحده لدليل على تشابه النفوس الإنسانية أينما كان الإنسان، وإلا فكيف تهتز قلوب القراء من كل أرض وفي كل زمن لهذه القصة التي تصف أسرة إنجليزية تعيش حياة هادئة في بيت ريفي متواضع؟ (1-10) صموئيل جونسن

Somuel Johnson (1709-1784م)

هو من الأدباء القلائل الذين سيطروا على الحركة الأدبية في عصرهم، ولم يسلمه الأدباء قيادهم لكثرة ما أنتج من أدب أو لامتيازه فيما أنتجه؛ إنما سلس له قيادهم لقوة خلقه ورجحان عقله، فبمثل تلك الخلال الخلقية العالية والخصائص العقلية الممتازة تكون العظمة في الرجال، ولقد كان «جونسن» طوال حياته يعاني العلل، ويقاسي ما ينتج عن ذلك من نفس ضيقة ومزاج مكتئب، لولا أنه سرعان ما وجد في قوة الإيمان الديني ما كان يرجوه لنفسه من طمأنينة وهدوء. ولا عجب؛ فهو المسيحي الورع صاحب الخلق القوي القويم والإحسان المتصل الذي لا ينقطع، وكان لا يدنو منه أحد من معاصريه في حدة فهمه وقدرته العجيبة على الإعراب عما في نفسه من خواطر ومشاعر؛ مما جعله محدثا من الطراز الأول، يجلس بين رفاقه في «الندوة الأدبية»، فيصب ذخيرة عقله في عبارات تأخذ بجمالها الألباب، ولقد قيض الله للأدب «بوزويل»

71 - صديقه الحميم - فكتب سيرته وسجل حديثه في كتاب هو في ذاته آية أدبية فريدة نادرة.

ولد في لتشفيلد، وأبوه «ميخائيل جونسن» كان يبيع الكتب في ذلك البلد، وقد عرف بسعة علمه وسلامة رأيه، بعث بابنه إلى مدارس لتشفيلد، ولبث بها الفتى حتى بلغ السادسة عشرة، وعندئذ أقام في الدار عامين وضع فيهما أساس علمه وثقافته؛ إذ انصرف إلى الكتب التي في مكتبة أبيه، وهي كثيرة منوعة، ووجه عنايته بصفة خاصة إلى المؤلفات اللاتينية، وبذلك اكتسب علما واسعا بالأدب اللاتيني. وبعد ذلك التحق بجامعة أكسفورد، التي لقي بها ما جرح عزته وكبرياءه، فقد كان فقيرا يلبس الثياب البالية أحيانا، وكثيرا ما يلمح على وجوه أصحابه نظرات الإشفاق تارة والازدراء طورا، وأخذت الرحمة قلب صديق فوضع أمام غرفة صديقه «جونسن» - في الخفاء - حذاء ليستبدله الطالب المسكين بحذائه الممزق العتيق، فما أبصر به «جونسن» حتى طوح به من النافذة، وترك أكسفورد بغير درجة علمية.

وظل الأديب ينتقل من عمل إلى عمل، وكلها لا يتناسب مع ما كتب الله له من مكانة عظيمة في أيامه المقبلة. وصادف في تنقله أرملة تكبره بعشرين عاما فأحبها، مع أنها امرأة لا تفتن بجمالها ولا تجذب بحسن حديثها، تلبس الثياب المزخرفة التي تتنافر ألوانها، ولا تدل على ذوق سليم، وتصبغ وجهها على هيئة زرية، لكن «جونسن» - بعينيه الضعيفتين - لم ير فيها كل هذه النقائص ، فهام بها حبا لا يرجو منه مالا؛ لأنها فقيرة، لكنها كانت له في الحق زوجة صالحة، وبعد ذلك بقليل فتح مدرسة لم يشأ لها الله نجاحا، فاعتزم الأديب أن يأخذ سمته نحو لندن ليحترف الأدب ويكسب منه القوت، فما انغمس في العاصمة الصخابة حتى أحس مرارة الفقر على أشدها، وكاد يهلك جوعا، ثم هداه الله إلى عمل ينتفع فيه بموهبته الأدبية، وذلك أن يعرض في إحدى الصحف مناقشات النواب، وكان مثل هذا العرض لما يدور في مجلس النواب محرما في ذلك الزمان، فلجأ «جونسن» إلى الرمز والإيماء، فالمناقشات يزعم أنها تجري في مجلس الشيوخ ببلاد ليليبت،

72

و«بليفسكو» وهي فرنسا،

73

وهكذا وهكذا، فلكل مكان اسم ولكل شخص رمز، لكي يفهم القراء ولا ينال منه القانون. على أن الرجل لم يعترف له بالقدرة الأدبية، حتى نشر قصيدة «لندن»، وطبعت طبعتين في أسبوع واحد، ولفت بها أنظار «بوب» فعرفه وكان «بوب» إذ ذاك في أوج عظمته.

ذاع صوته وعرفه الناشرون، فعرض عليه بعضهم أن يكتب «قاموسا» للغة الإنجليزية في مجلدين، وكان الأجر المعروض ألفا وخمسمائة جنيه، لكن معظم هذا الأجر تسرب إلى من عاونوه، ولم يكسب من هذا العمل المضني إلا قليلا، وظهر «القاموس» فجاء دليلا على دقة لغوية ممتازة وسعة اطلاع على الآداب بدت فيما كان يسوقه من الشواهد.

وظهرت له بعد ذلك قصيدة ثانية عنوانها «شهوات الإنسان وعبثها»،

74

وفيها يعرض لبعض من صعد، ثم سقط من العظماء، ويسخر أمر السخرية بما نسميه العظمة والمجد وما إلى ذلك من عبث وغرور.

وأخرج مأساة «أيرين»،

75

ولم يكن فيها موفقا، ثم اتجهت نيته نحو إخراج صحيفة ينسج فيها على منوال صحيفة «سبكتيتر» - التي كان يحررها «أدسن» و«ستيل» - وأطلق على صحيفته «رامبلر»

76 (الطواف) ودامت عامين، وقد حكم لها «رتشردسن» - القصصي الذي عرفته فيما مضى - بأنها تضارع صحيفة «أدسن» إن لم تفقها، لكن أسلوبها كان ثقيلا مسرفا في غزارة العلم الذي يسوقه والوعظ الخلقي الذي يرمي إليه، فأعوزه ما كان يتحلى به أسلوب «أدسن » من خفة ورشاقة، وطلاوة ساحرة نفذت به إلى قلوب القراء، ومضت بعد ذلك ستة أعوام من 1752 إلى 1758م. ثم أخرج جونسن مجلة أخرى أطلق عليها اسم «أيدلر»،

77

ودامت هي الأخرى عامين كزميلتها.

وماتت أمه وهو لم يزل فقيرا لا يملك المال الذي ينفقه على جنازة جديرة بها، فنشط نشاطا يخالف تراخيه المعهود، وصمم على أن يؤلف كتابا يدر عليه ما يسد به نفقات الجنازة، ولم يمض أسبوع واحد، حتى فرغ من الكتاب، وأرسل مسوداته إلى المطبعة بغير مراجعة. ودفعت له فيه مائة جنيه، ذلك الكتاب هو «راسلاس أمير الحبشة»،

78

وتروي القصة كيف ضاق «راسلاس أمير الحبشة» ذرعا بعزلته في قصره الذي يقع في واد بعيد عن خضم الحياة، فصمم على أن يلوذ بالفرار من ذلك القصر إلى حيث الحياة الزاخرة فيراها. وهكذا يبدأ «راسلاس» رحلة طويلة يطوف بها أرجاء العالم ويمر خلالها بأقوام مختلفة. وأهمية القصة تنحصر في الخواطر التي تستثيرها مشاهد الرحلة، والمناقشات التي تدور بين الأمير وبين من يلاقيهم في طريقه. وإذن فالقصة في حقيقة أمرها ذريعة يستخدمها جونسن لعرض فلسفته وآرائه، فلا حوادث القصة ذاتها تثير انتباه القارئ ولا تصوير الأشخاص يستحق أي ثناء، ذلك على قلة ما فيها من حوادث وأشخاص. وأما موضوعات البحث والحديث والتعليق فكثيرة، يرد ذكر العلم فيقول: «إن حياة خصصت للعلم تمضي هادئة ولا تفزعها الحوادث إلا قليلا.» ويذكر الشعر فيقول: «إن الشاعر لا يعد خطوط السوسنة، ولا يصف الظلال المتباينة التي تغشى خضرة الغابة، إنما عليه أن يبرز في تصويره للطبيعة المعالم الواضحة الرئيسية التي تستعيد صورة الأصل في ذهن كل قارئ.» ويذكر الزواج فيقول: «في الزواج آلام كثيرة، لكن العزوبة ليس فيها من المباهج شيء.» وعلى الجملة فالفلسفة العامة التي تشيع في الكتاب كله هي فلسفة المتشائم التي ترى الدنيا غرورا وعبثا ليس وراءه من طائل. «الحياة البشرية - أينما كانت - فيها كثير من الألم وقليل من المتعة.» ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن «فولتير» نشر كتابه «كانديد» في نفس السنة التي نشر فيها «جونسن» كتابه «راسلاس» والكتابان - كما ترى - يشتركان في النظرة المتشائمة إلى الحياة، ولا شك أن «كانديد» أروع فنا من «راسلاس».

كان «صموئيل جونسن» قد بلغ في عالم الأدب عندئذ مكانة الإمام الذي يقول الكلمة، فإذا هي القول الفصل، وهي نفس المكانة التي احتلها سميه «بن جونسن» في القرن السابع عشر. وتكونت في لندن ندوة أدبية يجتمع فيها قادة الأدب، وكان «جونسن» في تلك الندوة رئيسا، وسائر الأدباء إلى جانبه أتباع ومريدون، وبين أعضاء تلك الندوة «أولفر جولد سمث» الأديب المطبوع صاحب «راعي ويكفيلد»، و«إدمند بيرك» أعظم السادسة في عصره و«جبن» المؤرخ العظيم وغيرهم كثيرون. في تلك الندوة نتج الشطر الأعظم من الحديث الأدبي الذي ورثناه عن «جونسن»، فقد كان جونسن - كما ذكرنا - محدثا بارعا يتحدر الأدب من بين شفتيه إذا ما تحدث، فسجل صديقه «بوزويل» أحاديثه تلك في السيرة التي كتبها عنه، ولعلها أعظم ما شهدت الآداب من أدب السير.

وحدث أن زار «جونسن» اسكتلنده في صحبة «بوزويل» وجاسا خلال نجادها المهجورة، وعرجا على جزائر «هبريديز» التي كاد الناس لا يعلمون عنها شيئا، وأنتجت هذه الرحلة كتابا هو «رحلة إلى جزائر اسكتلنده الغربية»، وكان ذلك سنة 1775م، وهي السنة التي منحته فيها جامعة أكسفورد درجة الدكتوراه، وبعد ذلك بعامين طلب إليه كبار الناشرين في لندن أن يكتب مقدمات لمجموعة كاملة أرادوا نشرها عن الشعراء الإنجليز، فرحب «جونسن» بهذه المهمة، وأقبل على أدائها في شغف ولذة، فقد كان إناؤه طافحا بالمحصول الأدبي والآراء النقدية، وظل يكتب ويكتب، حتى بلغ ما كتبه أربعة مجلدات كاملة، وكان المطلوب فقرات قصيرة يمهد بها لكل شاعر، فجاء «تراجم الشعراء»

79

خير إنتاجه، واستحق به أن يوضع في الطليعة بين رجال النقد في الأدب الإنجليزي، وكانت خطته أن يبدأ بترجمة لحياة الشاعر، ثم يعقب بنقد لشعره موضحا ذلك بالأمثلة التي يظهر فيها حسن الاختيار. ولسنا ندري أي الجزأين كان أروع، وصف السيرة أو النقد، فهو في عرض السيرة فنان بارع يصور الشخصية تصويرا قويا في أسلوب قصصي جذاب، وهو في النقد قدير حاد الذهن نافذ البصيرة. على أننا لا نحب أن نذهب في مدحه إلى حد الإسراف الذي يجاوز الإنصاف، فقد كانت للرجل عيوبه ونقائصه، فهو في جانب السير متأثر بوجهة نظره السياسية؛ إذ كان محافظا جامدا متعصبا، فإن كان الشاعر الذي يترجم له على غير مذهبه رأيته يجحف به ولا يزنه بميزان عادل، وهو في جانب النقد متأثر أيضا بتشيعه للآداب القديمة، ولذلك تراه ناقما على كل أدب فيه نزوع نحو «الابتداع»، أضف إلى ذلك عجزه أحيانا عن تقويم الشعر بقيمته الصحيحة؛ إذ لم تكن له الأذن الموسيقية التي تميز الأنغام تمييز الخبير، ومن أخطائه النقدية المشهورة أنه قلل من قيمة «المقطوعات الشعرية» لملتن؛ لأنه كان يكره هذا اللون من الأدب، وأنه لم يتذوق قصيدة «لسداس» التي رثى بها ملتن صديقه كنج، مع أنها من أجود الشعر، وأنه قسا في الحكم على سوفت لا لشيء سوى أنه ارتاب في إخلاصه الديني ... أما إن خلا جونسن من دواعي التعصب، رأيت أحكامه صادقة، فنقده لدريدن وبوب بلغ حد الإعجاز، خذ هذا المثال من «حياة بوب»:

في المعرفة المكتسبة لا بد لنا أن نعترف بالتفوق لدريدن، الذي جاء تعلمه أكثر انطباقا على النظم المدرسية، والذي أتيح له - قبل أن يأخذ في التأليف - زمن أطول للدرس، وموارد أفضل لنيل المعرفة، وعقله أوسع أفقا، وهو يجمع صوره الذهنية من نطاق علمي أوسع محيطا. وكان «دريدن» أكثر معرفة بالإنسان في سلوكه الخاص، والأفكار عند «دريدن» تتكون بعد تأمل شامل، وهي تتكون عند «بوب» من توجيه الانتباه إلى الأجزاء، والمعرفة عند «دريدن» أكثر اتزانا وهي عند بوب أكثر دقة.

لم يكن الشعر هو الحسنة الوحيدة فيهما، فكلاهما ضرب في النثر كذلك بسهم موفور، غير أن «بوب» لم يستمد نثره من سلفه، فالأسلوب عند «دريدن» متقلب متنوع، والأسلوب عند بوب متأنق مطرد، فدريدن يستمع إلى خلجات عقله، أما بوب فيقسر عقله على التزام قواعده في الإنشاء، ودريدن في بعض الأحيان قوي متدفع، أما بوب فلا ينفك سلسا مطردا رقيقا، والصفحة عند دريدن كالحقل الطبيعي، فيها تفاوت، وتتنوع باختلاف الخصوبة حيث يكثر النبات، أما الصفحة عند «بوب» فرقعة من المخمل شذ بها المنجل وسواها المقراض. •••

عرف جونسن بالتفخيم في أسلوبه، فهو يؤثر الألفاظ القوية الطويلة، حتى ليوصف باسمه كل أسلوب يجري على هذا النسق. والحقيقة أن أسلوبه يختلف باختلاف الموضوع الذي يكتب فيه، فهو أحيانا يستخدم الألفاظ القصيرة إن اقتضتها طبيعة الموضوع، وهو أجود ما يكون أسلوبا حين يكتب كما يتحدث، غير أنه في حديثه كان يتوخى العبارة القوية، وفي ذلك يقول لأحد أصدقائه من رواد الندوة الأدبية: «لقد اتخذتها قاعدة منذ بعيد أن أبذل قصاراي في كل مناسبة وبين أية صحبة من المجالسين في أن أعبر عما أعلمه كائنا ما كان في أقوى عبارة أستطيع أن أعبر بها عن المعنى الذي أريد، حتى أصبح ذلك عادة بالمران المتصل، وبالحرص الشديد على ألا تلفت مني عبارة واحدة أهمل تركيبها، وألا أخرج أفكاري قبل ترتيبها ترتيبا يؤدي إلى توضيح المعنى إلى أقصى حد مستطاع.» وكتابه «راسلاس» مثال للأسلوب المتكلف الفخم. أما «تراجم الشعراء» ففيه القوة مع السلاسة، وفيه التنوع الخصيب في الأسلوب، وفيه مرونة الجرس وبراعة الفطنة وروعة الخيال، غير أن «جونس» يميل إلى موازنة العبارة صدرها مع العجز، وإلى المقابلة التي كثيرا ما تكون آلية لا تصدر عن طبع، كما يميل إلى الجملة الثقيلة في لفظها المثقلة بمعناها، فهو مثلا يجرى على لسان فتاة في سن السادسة عشرة، تتحدث عن عمتها، هذه العبارة: «لم تكن عواطفها سامقة التسامي ولا نظراتها رحيبة الأفق، لكنها خيرة المبادئ خالصة النوايا، فلئن جاز أن يكون بعض الناس أكثر منها فضيلة، فقل أن تجد من يقل عنها إثما.» وهو كذلك يميل أحيانا إلى استخدام الألفاظ التي تدل على العلم والثقافة، ولو لم يقتض الموقف مثل هذه الألفاظ، وفي ذلك يقول ماكولي: «إن كل كتبه مكتوبة بلغة علمية (المقصود باللغة العلمية هنا اللغة التي تنم عن ثقافة عالية) لغة لا يسمعها أحد من أمه أو مرضعته، لغة لا يشتجر بها الناس ولا يعقدون بها الصفقات ولا يغازلون بها، لغة لا يفكر بها أحد.» (1-11) إدرود جبن

Edward Gibbon (1737-1794م)

هو صاحب الآية التاريخية العظيمة «تاريخ تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»،

80

وقد ظهر منه الجزء الأول سنة 1776م، ثم بلغ ختامه بعد ذلك باثنى عشر عاما.

أرسل «جبن» إلى جامعة أكسفورد، وهو في سن الخامسة عشرة، حيث أقام عاما وبعض عام هي «أشد أيامي خمولا وأقلها نفعا!» ثم حدث له أن قرأ «بوسويه»

81

فتأثر به وارتد عن عقيدته الدينية البروتستنتية ليعتنق الكاثوليكية الرومانية؛ فاقتضى ذلك أن يفصل عن الجامعة، فأرسله أبوه إلى قسيس في لوزان ما زال به حتى رده إلى عقيدته الأولى من جديد. وأقام جبن في لوزان خمسة أعوام أدام فيها اطلاعه على الأدب اللاتيني والأدب الفرنسي، فكان لطول غيابه عن بلاده أثر في انعدام اللون الإقليمي في أدبه، فهو في مزاجه وأحكامه وأسلوبه ليس بالإنجليزي الصميم، وبهذا الطابع امتاز من سائر أدباء الإنجليز. وعاد الكاتب إلى أرض الوطن حيث التحق بالجيش المرابط أعواما عدة، أفادته - كما يقول - حين أخذ فيما بعد يكتب عن الحملات الحربية والمعارك في مؤلفه التاريخي العظيم، ولكنه ما لبث أن عاد إلى القارة الأوروبية من جديد، يطوف بفرنسا وسويسرا وإيطاليا. فلما كان في مدينة روما نضجت في ذهنه الفكرة عن إخراج شيء في التاريخ. يقول جبن: «كنت في روما في الخامس عشر من شهر أكتوبر سنة 1764م، جالسا أفكر بين آثار «الكابتل»، بينما كان القساوسة الحفاة يرتلون صلاة المساء في معبد جوبتر، وعندئذ بزغت في ذهني لأول مرة فكرة الكتابة في تدهور روما وسقوطها.» ثم عاد إلى إنجلترا مرة ثانية، وأخذ يعد لمؤلفه التاريخي الذي اعتزم إخراجه، وهنالك انخرط في جماعة «الندوة الأدبية» التي التف أعضاؤها حول «جونسن».

صدر الجزء الأول من كتابه فتقبله الجمهور قبولا حسنا، بل صادف المدح والإعجاب عند العلماء والناقدين، حتى من عرف منهم بالتزمت والعنت. والحق أنه كتاب ما كان ليصدر لولا ما بذله فيه مؤلفه من جهود مضنية متصلة وصبر جميل لا ينفد، فهو في الواقع يؤرخ للعالم المتمدين كله «فليس سقوط روما سقوطا لإمبراطورية وكفى، بل هو زوال للون من الفكر وطور من أطوار العقائد الدينية والأخلاق والسياسة وأوضاع الحضارة بوجه عام، فسقوط روما فيه فناء الوثنية القديمة ومولد العالم المسيحي الجديد، وهو أكبر تطور شهده التاريخ.»

82

وقد عالج جبن هذا الموضوع المتشعب بقدرة لا تزال تثير إعجابا عند العلماء، فعلى الرغم من تفرع الموضوع وتعقد الحوادث والأشخاص، لم تفته الدقة في موضوع من المواضيع، وأخذت تصدر أجزاء الكتاب تباعا، وقد كتب الأجزاء الأخيرة وهو في لوزان.

والكتاب يبدأ بعرض جميل للتاريخ الروماني منذ عهد أوغسطس، ثم يبدأ التفصيل من تربع كومودس على عرش البلاد (180م)، ويتتبع في وصف جميل وعبارة واضحة تاريخ الرومان، وانحلال الإمبراطورية الغربية نتيجة لغارات القبائل الهمجية القادمة من أواسط أوروبا، وتطور الكنيسة المسيحية ونموها، وتوطيد الدولة البيزنطية، حتى يصل إلى سقوط القسطنطينية سنة 1453م.

وهاك مثالا من هذا الكتاب: ... وعلى رأس هؤلاء الأمجاد وحد ابنه نور الدين قوى المسلمين رويدا رويدا، فأضاف مملكة دمشق إلى مملكة حلب، وشن حربا طويلة موفقة على المسيحيين في سوريا، فبسط سلطانه القوى من دجلة إلى النيل، وكافأ العباسيون عاملهم الأمين بكل ما يتمتع به السلاطين من ألقاب وحقوق، وقد اضطر اللاتينيون أنفسهم أن يعترفوا بما لهذا العدو العنيد من حكمة وشجاعة، بل بما له من عدل وتقوى، وكان هذا المجاهد الورع في حياته وحكومته قد أعاد ما عرفت به عهود الخلفاء الأولين من حماسة وبساطة، فأزال من قصره الذهب والحرير، ومنع في أرجاء ملكه احتساء الخمر، وأنفق دخل الدولة في خدمة الشعب، لا يتهاون في ذلك قيد أنملة. وأما نفقات بيته - وكان فيها كزا - فقد اعتمد فيها على نصيبه المشروع من الغنائم، الذي استثمره في ضيعة خاصة اشتراها، وحدث أن تحرقت زوجته العزيزة «سلطانة» شوقا إلى حلية ثمينة مما يتحلى به النساء، فأجاب الملك : «وا أسفاه! إني لأخشى الله، فما أنا إلا خازن لمال المسلمين، وليس في وسعي أن أتصرف في ملكهم، لكن لي ثلاثة حوانيت لا أزال أملكها في مدينة حمص، فلك أن تأخذيها، وليس لي أن أهب شيئا سواها.» وكانت ساحة عدله ملجأ للعظيم ومأوى للفقير. فلما مضت بضعة أعوام بعد موت السلطان، صاح في شوارع دمشق رجل أصابه غبن: «نور الدين! نور الدين! أين أنت اليوم؟ انهض، انهض لترحمنا وتحمينا!» (1-12) إدمند بيرك

Edmund Burke (1729-1797م)

هو من أعظم من أنجبتهم إنجلترا من الخطباء والمفكرين السياسيين، ولد في دبلن، وكان زميلا لجولد سمث في الجامعة، وقد أطال القراءة في الأدب الإنجليزي والشعراء الإنجليز وهو طالب، وأسس في الجامعة «جمعية تاريخية»، فكانت أول حلبة تجلت فيها مواهبه الخطابية والأدبية.

وكان أول نتاجه الأدبي «دفاع عن المجتمع الطبيعي»،

83

ثم نشر له بعد ذلك «بحث فلسفي في نشأة آرائنا عن الجليل والجميل».

84

وهو كتاب في علم الجمال استوقف الأنظار وأثار الاهتمام عند صدوره لجدة الموضوع وطرافته؛ إذ لم يكن قبل ذاك موضوع الجمال مطروقا مألوفا، غير أن الكاتب في هذا البحث ينقصه كثير من العلم الضروري بشئون الفن لكي يستطيع الإجادة، ثم اتفق مع ناشر على إصدار مجلة تاريخية، هي «السجل السنوي»،

85

وظل أمدا طويلا من حياته يواصل المجلة ببحوثه.

ولما بلغ السابعة والثلاثين من عمره دخل البرلمان حيث لبث عضوا مدى ثلاثين عاما. وكان «بيرك» رغم فصاحته الخطابية عضوا برلمانيا فاشلا، فقد كان يلقي الخطاب الجيد البليغ فلا يصغي إليه أحد، ثم ينشره في صحيفة فإذا هو مثير لاهتمام القراء جميعا، وهنا يجدر بنا أن نعيد ما قلناه في الخطابة في الجزء الأول من هذا الكتاب. «والخطابة إنما تكون أدبا حين تحتفظ الألفاظ المنطوقة بقوة فصاحتها إذا ما خطت على الورق لتقرأ، فما أكثر ما تفنى خطب الخطباء مع الهواء كما تفنى ألحان المنشدين وأصوات الممثلين! والخطب ثلاثة أنواع: خطب تسمع ولا تقرأ، وخطب تقرأ ولا تسمع، وثالثة تشمل بتأثيرها العيون والآذان. فها هو ذا «غلادستون » مثلا حرك النفوس بخطبه، ولكنها حين صبت في أحرف المطابع بردت نارها، وذلك هو «إدمند بيرك»، لم يكن له من القدرة الخطابية ما يقنع البرلمان الإنجليزي، ومع ذلك فخطبه - مكتوبة - ساحرة فاتنة، وهي تحتل مكانة رفيعة في الأدب الخالد، وأما خطباء اليونان فقد بلغوا بهذا الفن حدا بعيدا من الكمال ...»

كان «بيرك» يلقي الخطبة فيبهت لها الأعضاء الحاضرون، لكنهم لا يتحمسون لها ولا يقتنعون بها إلا إن قرءوها مكتوبة في صحيفة، بل أطلق عليها في أخريات سنيه كنية تصف وقع خطبه، هي «جرس الغداء»؛ لأن نهوضه للخطابة كان إيذانا بانصراف الأعضاء، والعجيب أن خطبه في جموع الشعب كانت على النقيض من ذلك؛ إذ حركت نفوس سامعيها وهزت قلوبهم هزا حارا عنيفا، فقد وجه اتهام إلى «هيستنجز»،

86

وقام «بيرك» يخطب في اتهامه، فاسمع ما تقوله أديبة كانت تناصر المتهم: «أثار اهتمامي، ثم ملأ علي شعاب قلبي، ثم حطم قواي في نهاية الأمر تحطيما، أحسست أن القضية التي أناصرها قد ضاعت، فكدت لا أستطيع القرار في مجلسي، ولم تقو عيناي على أن توجها لمحة واحدة إلى رجل بلغ اتهامه ما بلغه مستر هيستنجز، وودت لو ابتلعتني الأرض حتى لا أكلف عيني مثل هذا المنظر الأليم!» والحق أن خطبته في اتهام هيستنجز بلغت من جودة الصناعة وروعة الفن ما يتعسر معه أن تجد لها شبيها.

ومن آياته الباقية «آراء في حالة التبرم القائمة»

87

و«خطاب في الضرائب الأمريكية»

88

و«خطاب إلى رؤساء الأقاليم في برستل»

89

وغيرها، مما يعد نموذجا للقول في الشئون السياسية، فهي مترعة بالحكمة العميقة، والحكم الصائب، والتأمل الفلسفي. ولم تشهد الكتابة السياسية قبل «بيرك» هذه الذخيرة الزاخرة الخصيبة من الشواهد تساق في لغة تتألق بلمعات الخيال، وتكتسب حرارة من الرأي الأصيل والشعور الدافق الفياض. ولا عجب؛ فقد كان الرجل يشتعل حماسة للذود عن المظلوم ورفع السياسة الإنجليزية - في الداخل والخارج - إلى مستوى رفيع. ومما يميز كتابته السياسية كلها نفوره من النظريات المجردة وانتزاع القواعد العامة، فقد كان من المحافظين عمليا لا يتعلق بالآراء النظرية، ولئن أراد الإصلاح فقد كره التجديد.

وإن كان ذلك كذلك، فلا بد أن تكون الثورة الفرنسية قد ساءته بعنفها، فتصدى لها يوجه إليها أمر النقد ويقاوم عوامل الهدم التي خلفتها الثورة، وعندئذ ألف كتابه الخالد «تأملات في الثورة الفرنسية»

90

سنة 1790م، وحسبك أن تعلم أنه قد طبع إحدى عشرة طبعة في عام واحد، لتدرك منزلته من القراء، وكان كتاب «تأملات في الثورة الفرنسية» من أقوى الحوافز التي استحثت ملوك أوروبا على مقاومة الحركة الثورية، لكن الثورة الفرنسية مضت في طريقها تقوض كل بناء للنظام والقانون، فيتميز صاحبنا من الغيظ ويغلي صدره بالعواطف المشتعلة، ويخرج غضبته الحامية في «آراء في الشئون الفرنسية».

91

واعتزل «بيرك» معترك السياسة؛ إذ مات وحيده الذي حل من قلبه في السويداء، فتحطمت قواه وازور عن الدنيا وعبثها، فلم يعد لها فيها مأرب ولا رجاء.

ومن خصائص أسلوبه تلاحق الإشارات وكثرة الاستعارات، وهو يمتاز بالقوة والطلاقة، وكثيرا ما يستعير الشواهد من الكتاب المقدس، فقد أدمن قراءته حتى كانت آياته على سنان قلمه وتوقيع أنغامه حاضرة في ذهنه وهو يكتب، وكان يحب التعبير عن المعنى الواحد في عبارات مختلفة، ويميل إلى التكرار أحيانا، شأن الخطيب المصقع الذي يقصد بكلامه إلى صميم القلوب، وهو يؤثر الأمثلة العملية المحسوسة على الأقوال النظرية المجردة، وتراه يجمع بين الجمل القصيرة الحادة والجمل الطويلة المديدة.

وهذا مثال من «تأملات في الثورة الفرنسية»:

مضت ستة عشر أو سبعة عشر عاما مذ رأيت ملكة فرنسا في فرساي، وكانت إذ ذاك ولية للعهد، وإني لعلى يقين أن هذا الفلك السماوي - الذي لم تكن قد مسته إلا مسا رفيقا - ما شهد قط أبهج منها منظرا، رأيتها وقد أشرقت في الأفق منذ قليل، تزين ذلك العالم الرفيع الذي بدأت لتوها تتحرك في أرجائه فملأته مرحا وبهجة، وهي تتلألأ كأنها نجمة الصبح، تملؤها الحياة والجلال والغبطة. أواه! يا لها من ثورة! ويا له من قلب لا بد أن أحمله بين أضلعي لأتخيل ذلك الارتفاع وذاك السقوط دون أن يهزني انفعال! ... لم يدر بخلدي أني سأحيا حتى أرى هذه الكوارث تنصب عليها في أمة عرف بالشهامة رجالها، في أمة يتصف بالشرف أبناؤها، في أمة في أهلها نخوة الفرسان، لقد حسبت أن ألوف السيوف ستنسل من أغمادها لتثأر لها لو توجهت إليها نظرة واحدة تتهددها بالهوان، لكن عهد الفروسية انقضى، وأعقبه عهد فيه رجال الجدل الزائف والاقتصاد والحساب، فذهب عن أوروبا مجدها إلى الأبد، ولن نرى بعد، لن نرى ذلك الولاء السمح لأبناء الطبقة النبيلة وبنات الجنس اللطيف، لن نرى بعد ذلك الإذعان في عزة، وتلك الطاعة في كرامة، وذلك الخضوع يصدر عن القلب ويبقي روح الحرية الشامخة حية حتى في العبودية نفسها. (2) الشعر

كانت بوادر المذهب الاتباعي قد ظهرت في الشعر الإنجليزي في أواخر القرن السابع عشر، ثم بلغ هذا المذهب نهاية شوطه في النصف الأول من القرن الثامن عشر على يدي «بوب» أو فيما يسمى بالعصر الأوغسطي، وهنا نرى لزاما علينا أن نوضح العناصر الأساسية في المذهب الاتباعي في الأدب، ونحاول التفرقة بينه وبين المذهب الابتداعي.

لسنا نريد بلفظ الاتباع أن الأديب يستقي وحيه من الآداب اليونانية والرومانية القديمة فحسب؛ فذلك وحده لا يكون اتباعا؛ لأن الأدب في عصر اليصابات كان يستوحي تلك الآداب القديمة، ومع ذلك فهو أدب ابتداعي خالص، وإنما نعني مجموعة من الخصائص مجتمعة، فالاتباعيون يعنون كل العناية باللفظ قبل المعنى، بالصورة قبل المادة، هم يكثرون من القيود التي يراعون فيها أن تكون مستمدة من الآداب القديمة، ثم تكون البراعة عند الأديب أن يحافظ على تلك القيود، والشاعر الابتداعي يهتم بالمعنى وبالمادة التي يريد أن يعبر عنها، ثم لا يتقيد بشيء حين يختار لنفسه أداة التعبير؛ لأنه حر يختار أنسب أداة تخرج المعنى الذي يريد إخراجه قويا سليما، أما الشاعر الاتباعي فيبدأ بالتسليم بضرورة صور معينة للتعبير، ثم يحاول أن يعرب عما في نفسه في حدود تلك الصور.

وقد يتشابه الاتباعي والابتداعي في المعاني، لكن هنالك سمات تميز أحدهما من الآخر، فالكاتب الاتباعي يميل إلى السخرية والهجاء، وإلى أن يكون أدبه تعليميا تهذيبيا، ويحب أن يصف حياة المدينة لا حياة الريف، ووصفه موضوعي يتعلق بالشيء الموصوف أكثر منه ذاتيا يعبر عما يجيش في نفس الأديب الواصف، على نقيض الكاتب الابتداعي، فهو يميل نحو الطبيعة كما تبدو في كافة صورها، ومن بينها الحقول والأزهار والحياة الريفية، ويميل كذلك إلى وصف الغريب دون المألوف، والمغامرة دون الاستقرار، ثم هو في وصفه ذاتي يدون خلجات نفسه إزاء ما يصف. ولئن كان الأديب الاتباعي يريد أن يعلم قارئه درسا بما يكتبه، فإن الأديب الابتداعي يكفيه أن يغني بما في قلبه ولا يعنيه بعد ذلك أفاد القارئ شيئا أو لم يفد، والاتباعي يحتكم إلى العقل، ويلجم العواطف الحادة، أما الابتداعي فيرخي العنان لخياله ولا يكبت شيئا من عواطفه، بل - على نقيض ذلك - لا يرى الأدب إلا أداة للتعبير عن تلك العواطف. (2-1) إسكندر بوب

Alexander Pope (1688-1744م)

ولد في لندن لأب كان يشتغل بالتجارة، وقد نشأ على عقيدة أبيه كاثوليكيا رومانيا، ولبث يعتنق تلك العقيدة طوال حياته، وأهم ما يلفت النظر في سيرة الشاعر حقيقتان؛ الأولى: نضجه المبكر، والثانية: علة جسده، فقد ورث الدوار من أمه والجسم الشائه عن أبيه، وحيل بينه وبين الجامعات بسبب عقيدته الدينية. لكن الله وهبه نبوغا يستغني به عن الجامعات؛ ففي سن الخامسة بدأت تظهر عليه بوادر الذكاء الوقاد، فأوصت له عمته بكل كتبها وصورها، وفي الثامنة ترجم بعض أشعار لاتينية، وفي الثانية عشرة ترك المدرسة، وبدأ في داره دراسة ينظمها لنفسه بنفسه، انصرف بها نحو الأدب، وكان أكثر قراءته منصبا على «سبنسر» و«دريدن»، وفي سن الخامسة عشرة نظم ملحمة طويلة ألقى بها في النار بعد نظمها، وفي الثامنة عشرة كتب مجموعة «الأشعار الريفية»،

92

وقبل أن يتم عامه الخامس بعد العشرين بدأ مجهوده الشاق الطويل في ترجمة هومر، وحسبك ذلك دليلا على نضجه الباكر. أما علة جسده فقد قال هو عن حياته في إحدى قصائده إنها «علة واحدة طويلة.» كان أصلع الرأس قزما لا يزيد طوله على أربع أقدام، محدودب الظهر قميئا يبدو عليه المرض، فهو لم يستطع حتى بعد اكتمال نموه أن يلبس ثيابه أو ينضوها بنفسه، ففي الصباح كانوا يلفون له جسده بأربطة من القماش السميك لتقيمه، وكان يلبس تحت القميص صدارا من فراء، ويلبس ثلاثة أزواج من الجوارب تزيد قليلا من سمك ساقيه، فقد كان من ضآلة الجسم، بحيث يتطلب مقعدا عاليا كلما جلس إلى مائدة كما هي الحال مع صغار الأطفال، لكن إلى جانب هذا كله كانت له عينان جميلتان وصوت رخيم، حتى ليسمونه بالبلبل الصغير.

أول ما نشر من شعر «بوب» «الأشعار الريفية» وهي أربع قصائد: واحدة عن الربيع، وثانية عن الصيف، وثالثة عن الخريف، ورابعة عن الشتاء، وهو يحاكي بها «أشعار الحقول» لفيرجيل، ونستطيع أن نعد هذه الأشعار بمثابة مرحلة التدريب، على الرغم مما فيها من حلاوة أنغام ومرونة سياق وصقل.

ثم نشر له بعد عامين (1711م) «مقالة في النقد»

93

أنشأها وهو في التاسعة عشرة من عمره، وقد قرظها «أدسن»، وكانت صلة التعارف بين الأديبين الكبيرين. ويلخص الشاعر في هذه القصيدة مبادئ النقد الأدبي التي وردت في قصائد نقدية سلفت، مثل قصيدة «الفن الشعري» لهوراس الشاعر الروماني، و«الفن الشعري» أيضا لبوالو الناقد الفرنسي في القرن السابع عشر، ويقسم الشاعر قصيدته هذه ثلاثة أقسام يبين في أولها ضرورة أن يدرس الأديب أصول الذوق السليم وقواعده، وأن يكون عماده على الطبيعة وعلى دراسة الأقدمين. ويبين في ثانيها الأسباب التي تعطل فينا ملكة النقد السليم والحكم الصائب، ويحصرها في عشرة أسباب: الغرور، والعلم الناقص، والحكم على القصيدة جزءا جزءا دون أن ينظر إليها كلا واحدا، والتطرف إما إلى ناحية التعنت الذي لا يعجبه العجب، وإما إلى ناحية التسرع في المدح فيقرظ كل شيء، والتحزب لقديم أو جديد، والهوى، والشذوذ، والتذبذب، والتعصب الحزبي، والحسد. وفي القسم الثالث من القصيدة يبين وظيفة الناقد وطريقة أدائها، فالناقد لا بد أن يجمع إلى سلامة ذوقه وصدق حكمه وسعة علمه؛ صراحة وتواضعا وأدبا ولباقة، وهو يبين في هذا القسم أيضا خصائص الشاعر الرديء، والناقد المعيب، ويقابل بينها وبين صفات الناقد الكامل، ويستعرض تاريخ النقد الأدبي بادئا من أرسطو حتى عصره، والقصيدة مكتوبة بالقافية المزدوجة، نقتبس منها ما يلي:

قلة العلم خطب بالغ الخطر حتما؛

فاشرب من القاع أو لا تذق للشعر طعما. ...

من يكس الطبيعة بالثوب القشيب فذاك الشاعر الفطن الأريب

قل ما قيل تكرارا، في صيغة لم يسبقها في الجمال ضريب ...

فمعظمهم حكمه على القريض بما للشعر من أوزان

إن سلست، كان الصواب، أو خشنت - في رأيهم - شالت كفة الميزان،

إن ربة الشعر الساطعة فيها ألوف من ضروب السحر تجتمع،

لكن حمقى الأنغام هؤلاء لا يعجبهم من مفاتنها إلا الصوت يستمع

إن من يرتد دولة الشعر - لا إلى تهذيب العقل يقصد -

بل لمتعة الآذان، كمن إلى الكنيسة يذهب

لا من أجل العقيدة، لكن العزف إليه محبب.

وأنشأ الشاعر بعد ذلك قصيدة «اغتصاب الخصلة»،

94

وهي قصيدة تهكمية تعالج موضوعا تافها بالأسلوب الذي عالج به شعراء الملاحم العظمى موضوعاتهم الجادة الهامة، فقد حدث أن غافل أحد اللوردات سيدة جميلة فجز من شعرها خصلة، فاختصمت من أجل ذلك الأسرتان، فاتخذ الشاعر هذا الحادث موضوعا لقصيدته، أو لملحمته التهكمية. ولما كان لا بد لكل ملحمة من عدة خارقة للطبيعة تسير حوادثها - كالأرباب والآلهة في الملاحم القديمة - فقد اتخذ بوب من عرائس الجن والشياطين عدة لملحمته، وهو يبدأ القصيدة - كما تبدأ الملاحم الكبرى - بتوجيه الخطاب إلى ربة الشعر أن تنشده:

أي عدوان مخيف من أسباب الغرام ينشأ،

وأي عراك عتي عن التوافه يطرأ.

وما «العدوان المخيف» هنا إلا اغتصاب خصلة من شعر من أطلق عليها في قصيدته «بلندا»

95 (وهي في حقيقتها مس فيرمر)،

96

ثم أخذ الشاعر يقص في أبدع تهكم وأروع سخرية كيف تم ذلك الاغتصاب، وماذا كانت نتائجه، وهو يجري القول في نغمة الجد على نحو يستثير فيك العجب والإعجاب. انظر كيف يصف أدوات الزينة التي وقفت عندها «بلندا» تزين نفسها قبيل خروجها إلى ذلك الحادث المشئوم:

فهذا وعاء عن لآلئ الهند الوضاءة يفتح، «وبلاد العرب» تنفست من ذلك الصندوق طيبا ينفح،

السلحفاة هنا والفيل متحدان،

تحولا أمشاطا: منها البيض ومنها أرقط الألوان،

ها هنا خطوط من المشابك امتدت صفوفا صفوفا تتألق،

أريج ومسحوق وزينة، وإنجيل وخطاب مغرم يتحرق.

وبعدئذ هم الشاعر بعمل جليل استغرق من سنيه ستا ملأها بالمجهود المتصل، فقد أخذ ينقل الإلياذة والأوذيسية شعرا إنجليزيا، وكان «سوفت» عندئذ يروج له في القصر وفي طبقات المجتمع الراقية، فيذيع بينهم أن «أنبغ شاعر في إنجلترا» يترجم هومر، ويستحثهم بقوله: «أريدكم جميعا أن تساهموا في ترجمته لهومر؛ لأنه لن يبدأ الطبع إلا إن جمعت له ألف جنيه.» وما أتم «بوب» إخراج الملحمتين حتى كان له منهما تسعة آلاف ضمنت له العيش الرغيد بقية حياته.

لم يترجم «بوب» عن اليونانية رأسا، إنما نقل عن ترجمة فرنسية «لمدام داسييه »،

97

وكان يرجع أحيانا إلى ترجمة «تشابمان». وقد انشق النقاد في الحكم على ترجمة «بوب»، فمنهم من رفعها حتى جعلها أروع ما يستطيعه مترجم - مثل بيرن - ومنهم من اتهمها بالعجز والقصور، فقد قال عنها «بنتلي»

98

الناقد العالم: «إنها - يا مستر بوب - قصيدة جميلة، ولكن لا يجوز لك أن تسميها هومر.» وقال عنها «جبن»: إن فيها كل ما يستحق المدح، إلا أنها ترجمة أمينة، ولعل أجمل ما قيل فيها إنها تشبه تمثالا خزفيا مزخرفا نقل عن تمثال يوناني من المرمر القوي في بساطة.

وبينما كان «بوب» مشتغلا بترجمته للإلياذة، أخرج بضع قصائد صغيرة بلغ فيها غاية ما يستطيعه جودة وإتقانا، منها قصيدة «رسالة إلويزا إلى أبلارد»،

99

وهي تدور حول قصة مشهورة لحبيبين حلت بهما الكوارث، فلجأ كل منهما إلى دير يقضي فيه ما بقي له من حياته. وكتب «أبلارد» خطابا إلى صديق، فوقع في يدي «إلويزا» وأيقظ في قلبها سالف حبها، فأنشدت هذه الرسالة، وفي ختامها تخيلت الراهبة نفسها متكئة على قبر، وأنها تسمع أصوات الموتى في القبور:

في كل نسيم يرف حسبت روحا يناديني،

وجوار الجدار ظننت صوتا - لم يكن بالصدى - يناجيني،

وها هنا - وكنت في المصابيح الخابية من حولي أحدج -

من ذلك الضريح هناك سمعت صوتا يتهدج: «تعالي - أختاه - تعالي» (هكذا قال أو خيل لي) «مكانك ههنا - أختاه الحزينة - تعالي لا تمهلي،

فيوما رجفت كما ترجفين، وكان مني بكاء ودعاء،

كنت آنئذ ضحية الحب وبت اليوم قديسة عذراء،

فسكون شامل ههنا في هذا النوم الدائم

نسي الأسى أناته ولا بكاء من المحب الهائم ...»

فرغ «بوب» من ترجمة هومر، وتدفعت عليه الأرباح، فاتخذ مسكنا هادئا على ضفاف «التيمز»، حيث كان يستضيف أعلام الأدباء في عصره، وعلى رأسهم «سوفت»، وها هنا أنشأ «بوب» ملحمة تهكمية أطلق عليها «دنسياد»

100 - أو قصة الأغبياء - وفيها هجاء مر للأدباء الذين ناصبوه العداء.

ثم أخرج «مقالة في الإنسان»،

101

وهي تتألف من أربع رسائل موجهة إلى «اللورد بولنجبروك»،

102

الذي أوحى إليه بفكرة القصيدة، وهي محاولة - كالتي حاولها ملتن - فهو يسلط عقله الخالص على ما تحتويه الحياة البشرية من ألوان الشقاء وضروب التناقض، ويبين أن الشر إن هو إلا نتيجة عجز الإنسان أن يرى الكون في مجموعه، فينظر إلى أجزائه جزءا جزءا، فيخيل إليه أن هذا الجزء شر في ذاته، مع أنه مع غيره من الأجزاء يكون خيرا.

يزعم الشاعر في الرسالة الأولى من الرسائل الأربع أن الإنسان مخلوق كامل، غير أن سعادته في الحاضر تعتمد على جهله بالمستقبل، وعلى أمله في أن يتاح له عالم أكمل وظروف أصلح من العالم القائم والظروف الراهنة، والغرور هو أس شقاء الإنسان؛ لأنه يعميه عن حدوده، التي يجب أن يقف عندها لا يجاوزها، ويشير الشاعر إلى حماقة الإنسان في اعتبار نفسه علة الخلق، وفي شكاته من أن الله لم يخلقه كاملا، ويبين تسلسل الكائنات من الأنواع الدنيا إلى الإنسان، فالملائكة فالله، قائلا إنه إذا تحطمت حلقة واحدة في هذه السلسلة المتدرجة انهار بناء الكون كله. ومن هنا كان من دلائل الفوضى والخروج على النظام أن يطمح نوع من الكائنات أن يكون أعلى مما خلق له، وأن يتألم مما فرضه عليه الله من واجبات، وهو يختم الرسالة الأولى بهذه الأبيات:

رويدك لا تقل عن نظام الكون إنه نقص ذميم،

فنعيم الحياة الصحيح معتمد على هذا الذي تلوم،

اعرف من الكون موضعك: هذا الضرب وهذا النصيب

من العمى والضعف، إرادة الله إياك تصيب. ...

ما «الطبيعة» إلا «فن» جهلت مداه،

ما «الصدفة العمياء» إلا «قضاء» ولست تراه،

ما «النشاز» إلا «تناغم» لم يفهم،

ما «الشر في الجزء» إلا «الخير للكون» ولم يعلم!

فرغم الغرور ورغم العقل المخطئ،

حق واضح «أن كل ما في الكون صواب» لم يخطئ.

وفي الرسالة الثانية من «مقالة في الإنسان» يوضح «بوب» فلسفته، ويبحث في الإنسان باعتباره فردا، وهنا ينصح الإنسان أن يعرف نفسه - كما أوصى بذلك سقراط منذ قرون - وألا يحاول توجيه بحثه نحو الله؛ لأن الدراسة التي يجدر بالبشرية أن تنهض بها هي دراسة الإنسان نفسه، وبعدئذ ينتقل في الرسالة الثالثة إلى بحث الإنسان باعتباره عضوا في المجتمع، ثم يبين في الرسالة الختامية عناصر السعادة ومقدماتها.

والقصيدة - كسائر شعره - قوية الديباجة رصينة الأسلوب مزدوجة القافية، أما من حيث المعاني، فقد قال عنها ناقد حديث إنها مضطربة متناقضة صبيانية في كثير من مواضعها، ومهما يكن من أمر فهي القصيدة التي طارت بشهرته في أوروبا، إذ ترجمت إلى الألمانية والفرنسية بعيد صدورها.

وكان ما أخرجه «بوب» بعد قصيدته «مقالة في الإنسان» مجموعتين من الشعر هما: «هجائيات»

103

و«رسائل»

104

و«مقدمة الهجائيات» قصيدة مشهورة عنوانها «رسالة إلى الدكتور أربثنت»،

105

وترجع أهمية هذه القصيدة التي تتألف من أربعمائة بيت، إلى أنها نموذج صادق لكل ما يتصف به الشاعر من خصائص، فضلا عن أنها تنبئ عن كثير من سيرته كأنما هي ترجمة لحياته، وتعد الهجائيات - من حيث الألفاظ وجودة النظم - آية الشاعر.

كان في شخصية «بوب» كثير من المتناقضات - ولعل تناقض الشخصية من سمات الإنسان - فهو نحيل هزيل عليل، لكنه وهب عقلا دائم الحركة دائب النشاط، لا يهن ولا يفتر، وهو مبتدع مبتكر، لكنه في الوقت نفسه يحب أن يهتدي في أدبه بمن هو أعلى منه موهبة ونبوغا، وهو عدو قاس عنيف، ومع ذلك فقد كان له أصدقاء حميمون يحبونه حبا نادرا بين الأصدقاء.

وإن أردت أن تعرف لبوب فضله على الأدب الإنجليزي، فذاك هو ارتفاعه «بالقافية المزدوجة الحماسية»

106

إلى ذروة الكمال، وقد أضحى هذا الوزن الشعري منذ «بوب» و«دريدن» خير أداة يستخدمها الشاعر في الشعر التهذيبي والشعر الهجائي، فلئن كان «بوب» تلميذا لسلفه «دريدن» فقد تفوق التلميذ على أستاذه في إتقان هذه «القافية المزدوجة» تفوقا جعله أستاذا لها غير مدافع، ومما عرف به بوب عنايته الشديدة بصقل شعره، فكان لا يني يهذب البيت ويشذب أطرافه هنا وهناك، حتى يجعل منه بيتا سليما واضحا محكما، تراه جالسا في بيته أو في حديقته يمحو لفظا ويثبت لفظا ليبلغ بقصيدته ما أراد لشعره كله من جودة الصقل، ومتانة التركيب، وإحكام المعنى، ولم يستهن في سبيل ذلك شيئا مهما كان تافها؛ لأنه يوقن «أن التوافه تصنع الكمال.» ولم يكن يأخذه الملل من تغيير ما كتب وتحويره وإصلاحه وتهذيبه، حتى ليقال إن كل بيت من نتاجه الفخم كتب مرتين على الأقل، فلئن كانت شاعريته موضع ريبة من بعض الناقدين، فحسبه هذه الصناعة التي بلغ بها أوج الكمال. (2-2) جيمس تومسن

James Thomson (1700-1748م)

لم تمض روح الاتباع التي سادت في العصر الأوغسطي، والتي تزعمها «بوب» بغير مقاومة ومعارضة ورد فعل، بل بدأ هذا الرد وتلك المقاومة و«بوب» لم يزل حيا يقرض الشعر، إذ اتجه بعض الشعراء إلى الطبيعة يستوحونها، ثم أخذت الحركة الجديدة تتسع وتزداد، حتى بلغت أوجها في نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، وقلة ضئيلة من الشعراء هي التي تابعت «بوب» في اتباعيته وصناعته، ولعل ذلك راجع إلى اليأس من مجاراته في صنعة القريض على مذهبه، إذ لم يدع بوب في ذلك الفن زيادة لمستزيد، وكان «جيمس تومسن» بطل الشعر الطبيعي في عهد الصنعة والاتباع إبان العصر الأوغسطي.

بدت أول بوادر الشعر في «تومسن» حين نظم النشيد التاسع عشر من المزامير، فكان توفيقه في نظمه أقوى ما أوحى إليه أن ينصرف إلى الأدب، فقصد إلى لندن حيث التحق بإحدى الأسر النبيلة مربيا لأبنائها، وهنالك وجد الفراغ الذي مكنه أن ينشئ قصيدة «الشتاء» التي نشرها وعمره ستة وعشرون عاما، والتي عقب عليها «بالصيف» «فالربيع» «فالخريف»، وكان من مجموعة هذه القصائد الأربع ديوانه «الفصول».

من هذا الاتجاه نحو الطبيعة يتبين لك الوجهة الجديدة التي خرج بها تومسن على بوب ومدرسته، فقد عصى زعيم الشعر في القاعدة التي استنها للناس وهي «أن ما يجب على الإنسان درسه هو الإنسان.» وأجال «تومسن» بصره في أرجاء الطبيعة التي أحبها وهام بها، فكان الشتاء أول ما ظفر منه بالشعر؛ يصف لك عاصفة مطيرة عاتية، فالسماء متجهمة اختلط في أديمها الضباب والمطر، والسهل مغمور بسيل أدكن طام، وقمم الجبال وأشجار الغابات اضطربت أمام العين، فلا تراها في وضوح وجلاء، والماشية تدلت أعناقها وهي تغوص في السهل كساه الوحل، والدجاج اجتمع زرافات في أركان الحظائر فوقف ساكنا لا حراك به تتساقط من ريشه قطرات الماء، لكن ذلك لم يكن كل شيء في الشتاء، فهنالك الحراث يمرح، وهو يصطلي مدفأته الوهاجة في بيته الصغير، يتحدث ويضحك غير عابئ بهذه العاصفة التي تقعقع فوق سطح البيت، ثم يخرج بك الشاعر مرة أخرى إلى الطبيعة ليطلعك على الأنهار، وقد فاضت بمائها وعلى سيول الماء الدافقة، وقد جرفت أمامها كل شيء، فجسور محطمة وطواحين مهشمة، وهيهات أن يقف سيل الماء شيء، فهو يصدع السدود، ويجتاز جلاميد الصخر في الطريق، ثم يغير الشاعر المنظر كأنما تبدل بفعل السحر، فإذا أنت في سكون رائق صاف أعقب العاصفة، وها هو ذا العصفور الصغير ينقر الزجاج في نافذة غرفتك، ويضرب بصدره الأحمر كسف الثلج التي جمدت على الزجاج، فيسمعك حفيفا لطيفا، ويراه الأطفال داخل الغرفة، فيجتمعون له وراء الزجاج، وينظر إليهم الطائر بعينيه الدقيقتين يلوي عنقه ذات اليمين وذات اليسار، لكن هذا السكون لا يطول، فينقلك الشاعر من جديد إلى مراعي الأغنام في السهل الطليق، فإذا الشتاء يستجمع قواه في الهواء الذي أخذ يزداد بردا وظلاما، والثلج يساقط ويكثف، فيوجس الراعي خيفة؛ لأن الثلج الكثيف قمين أن يخفي عنه معالم الطريق، فتبدو الأماكن المألوفة غريبة أمام عينيه، فالويدان الجوفاء تظهر له مليئة، والمكان الجبلي الوعر يتخذ صورة السهل البسيط، وذلك ما حدث للراعي، فقد غشيت الغاشية ووقف المسكين حائرا ضالا، وبدا السهل كله كأنما يدور من حوله إذ أخذت هبات الريح تعلو بطبقات من الثلج، وتدور بها في الهواء كأنها تدير ملاءة بيضاء، وتمت المأساة ومات الراعي، ويأخذك الشاعر إلى بيته، فترى الأطفال تجمعوا عند النافذة أو الباب يرقبون أباهم، ولكن أباهم لن يئوب.

وليست كل أيام الشتاء بهذا السواد الحالك، ففي الشتاء أيام بهيجة صافية لا ينساها الشاعر. انظر إلى هذا القروي الساذج، وهو يمشي فرحا فوق الثلج الجامد كأنه يخطو على أرض من البلور الشفاف!

هكذا تجري الصور في قصيدة «الشتاء » وتتعاقب، وحسبك هذا لتعلم كيف انحرف «تومسن» بالشعر إلى الطبيعة بعد أن كان يحصره «بوب» في المدينة وأهليها.

وللشاعر غير «الفصول» قصيدة «حصن التراخي»،

107

وهي قصيدة رمزية نظمها في البحر السبنسري - ذات المقطوعات التساعية التي تجري قوافيها أ - ب - أ - ب - ب - ج - ب - ج - ج على أن يكون البيت في الثمانية الأولى مركبا من عشرة مقاطع، والبيت التاسع من البحر الإسكندري، أي مركبا من اثني عشر مقطعا، وقصيدة «حصن التراخي» قسمان، في أولهما يصف الشاعر مباهج الحصن، وفي ثانيهما يسوق ما أبدعه رجال الفن والصناعة. (2-3) تومسن جراي

Thomas Gray (1716-1771م)

بلغ الشعر في منتصف القرن الثامن عشر قصاراه على يدي «جراي» الذي كانت له جودة الصقل التي ألفناها في «بوب»، ثم أضاف إليها الاتجاه نحو الطبيعة الذي رأيناه عند «تومسن» والذي سيمهد السبيل إلى الحركة الابتداعية العظمى ممثلة في «وردزورث» ولد في لندن ونشئ في «إيتن»، وهي التي أهدى إليها قصيدته «نشيد الذكرى البعيدة لكلية إيتن»،

108

وبعدئذ ألقى عصاه في كيمبردج، حيث استقر طيلة حياته إلا فترات قصيرة، وكان منذ الصبا الباكر قد أبدى قدرة على الشعر اللاتيني، فترجم إلى الشعر الإنجليزي طائفة من شعراء اللاتين الصغار، ولما بلغ الثالثة والعشرين قام برحلة في أنحاء فرنسا وإيطاليا، وقد تركت فيه جبال الألباين الإيطالية أعمق الأثر، ومات أبوه فعاد حيث استقر في كيمبردج سنة 1742م، وهي من أخصب سنيه إنتاجا، ففيها أخرج «نشيد إلى الربيع»،

109

وهي مقطوعة شعرية (أربع عشرية) قالها رثاء لصديق له، وأخرج نشيدا وجهه إلى كلية أيتن أسلفنا لك ذكره، كما أنتج «ترنيمة المحنة»،

110

ثم بدأ في ذلك العام نفسه ينشئ قصيدته المشهورة التي خلدته في صفحات الأدب، وهي «مرثية كتبت في فناء كنيسة»،

111

وبعدئذ لم ينتج الشاعر إلا عددا قليلا من الأناشيد والقصائد، أهمها «تقدم الشعر».

هذا مثال نادر في تاريخ الأدب، فإنتاجه - كما ترى - ضئيل جدا، فلم يكد «جراي» يزيد على ثلاثين بيتا من الشعر في كل عام، ومع ذلك له مكانة عالية لا يدانيه فيها إلا أعظم الأدباء ، وأبرز ما يطبعه عنايته بالصقل عناية لا تجد لها مثيلا عند أديب آخر، فهو يكتب القصيدة القصيرة في عامين كاملين! ولا يفتأ طوال العامين يراجع ما كتب ويعدل ويبدل، ومن هنا كانت قصيدته الكبرى «مرثية كتبت في فناء كنيسة ريفية» درة لامعة برئت من كل النقائص والعيوب، ولعل هذا الكمال في «الكيف» هو الذي عوض الشاعر عن النقص في «الكم»، فسلكه التاريخ بين الخالدين. وسنقتبس من هذه القصيدة الرائعة المقطوعات التالية خجلين إذ ننقل هذا البناء المحكم والأسلوب الرصين:

ربما يرقد في هذا المكان المغمور

قلب كان يوما يعمره قبس سماوي،

ويدان كانتا تحملان صولجان الملك،

أو توقظان إلى نشوة قيثارة شجية. •••

لكن العرفان لم ينشر أمام أبصارهم صحائفه المترعة

المليئة بما خلفته الدهور من آثار،

وألجم الفقر المدقع فيهم غضبة شريفة،

وجمد في أنفسهم تيار النبوغ. •••

كم من لؤلؤة وضاءة أنقى ما تكون شعاعا،

تحملها كهوف البحر المدلهمة البعيدة الأغوار!

وكم من زهرة نبتت ليحمر وجهها خفية؛

فيذهب عنها الشذا في ريح البوادي مبددا! •••

ربما يرقد «هامدن»

112

ريفي ذو قلب جريء،

قاوم الطاغية الصغير في مزارعه،

أو ربما يرقد «ملتن» صامت في غير مجد،

أو «كرمول» لم تدنس يديه دماء مواطنيه. (2-4) وليم كوبر

William Cowper (1731-1800م)

هو سليل أسرة كريمة خلقه الله مرهف الحس حييا، وقد عانى من حيائه وحسه المرهف ما عانى أيام كان يطلب العلم في مدرسة داخلية، فيحرجه صغار الشياطين من زملاء الدراسة، ويوغرون صدره، حتى يضيق بحياته ذرعا، وبدت له قدرة بارعة، وهو طالب، في نظم الشعر اللاتيني، وخرج من معاهد العلم ولم يكد يخوض خضم الحياة حتى مات أبوه، وتعاورته بعد ذلك حالات نفسية غريبة، ما زالت تزداد خطرا، حتى أصبحت مرضا نفسيا عضالا دفعه مرة أن يزهق روحه بيده. ويظهر أن قد نشأت علته من العزلة والبطالة واليأس، وعهد به إلى مصحة خاصة ردت إليه العافية بعد قليل، لكنه فقد عملا كان يرتزق منه وبدد ما كان معه من مال مدخر، فامتدت إليه أيادي الإحسان من أصدقائه وذوي قرباه، وانتظم له دخل ضئيل ركن إليه وأوى إلى مكان هادئ في الريف.

وكانت الحركة الإصلاحية في الدين، التي قام بها «وزلي»،

113

قد أثرت في كوبر تأثيرا أوشك أن يكون ثورة وانقلابا؛ فحمله على شيء من التصوف الهادئ الذي يبعث الطمأنينة في النفس القلقة الحيرى. وسرعان ما وحدت وجهة النظر المشتركة بينه وبين رجل من رجال الدين في عيشة واحدة ومسكن واحد، هو «وليم أنون»،

114

لكن «أنون» فاجأته المنية، فارتحلت أسرته واستصحبت كوبر، وهنا عاود شاعرنا هوسه المرضي، وتجهمت نفسه من جديد، وحاول الانتحار للمرة الثانية، ثم تعهده الأطباء واسترد العافية، وأشفقت عليه زوجة أنون من الفراغ فاستحثته أن ينشئ سلسلة من القصائد هي التي تعرف الآن باسم «حديث المائدة»،

115

وعندئذ توثقت صلة الود بينه وبين صديقة أخرى هي «ليدي أوستن»

116

أرملة نبيل، فكانت هذه السيدة مصدر وحي قوي لشعره، من ذلك أنها قصت عليه ذات ليلة قصة «جون جلبن»،

117

فحولها كوبر في الصباح التالي «حكاية منظومة».

وأوحت إليه الصديقة الجديدة بموضوع لقصيدة جديدة هي أطول قصائده، أطلق عليها أول الأمر «الأريكة»، ثم بدل عنوانها فجعله «الواجب»؛

118

ليشير بذلك إلى أنه واجب أداه تبعا لأمر صديقته. وفي هذه القصيدة الجديدة عثر الشاعر على ميدانه الذي خلق له، فإن كان الله قد وهب «بوب» قدرة بارعة في تصوير الحياة في الحضر المتأنق، فقد كتب لكوبر أن يصور الحياة في الريف الساذج، ولم تكد قصيدة «الواجب» تجد سبيلها إلى النشر، حتى جاء في إثره الصوت البعيد والشهرة الواسعة، وبعد ذلك نشر «ترجمة لهومر» في شعر مرسل، لكن الترجمة لم تصادف قبولا حسنا على الرغم من أنها لا تخلو من الإجادة في بعض المواضع، ولم تمض أيام حتى نشأت خصومة بينه وبين صديقته «ليدي أوستن» فتركته، وشهد نفس العام موت صديقته الأولى زوجة «أنون» وهي التي توجه إليها الشاعر أثناء مرضها بقصيدته المشهورة «إلى ماري»، ولم ينتج الشاعر بعد ذاك قصائد طوالا. وكل ما أنشأه في أخريات أعوامه مجموعة من القصائد القصار مثل «فقد رويال جورج»،

119

و«إسكندر سلكيرك»،

120

وعلى هذه القصائد القصيرة الأخيرة ترتكز شهرته اليوم.

وقصيدة «الواجب» هي أروع آثار الشاعر، وهي شعر مرسل ومقسمة ستة أجزاء: «الأريكة» و«الساعة» و«الحديقة» و«المساء في الشتاء» و«مشية الصبح في الشتاء» و«مشية الظهر في الشتاء»، وسنعرض عليك موجزا لأحد هذه الأقسام نموذجا لبقيتها، وليكن ذلك «مشية الصبح في الشتاء».

يستهله الشاعر بهذه الأبيات:

إنه الصبح، والشمس في فلكها الوردي

صاعدة، فأشعلت الأفق بنارها، والسحاب - الذي يفر في جموع أمام الرياح الطاردة -

يزداد إسراعا كلما ازداد قرص الشمس صعودا،

فما أشد ما يشبه مدينة اندلع لهيبها!

ننظر إليها خلال غابة تعرت أوراقها، وشعاع الشمس

ينحدر في غير أثر إلى جوف الوادي كسته الثلوج،

ملونا بصبغته الوردية كل شيء

من العشبة إلى النبتة اللولبية.

ثم يمضي الشاعر فيصف ما يصادفه في «مشية الصبح» يصف الماشية كاسفة في أركان الحقول والحظائر، والحطاب يسرع الخطى، والدجاج يختال إلى طعامه، وآثار الثلج والجليد على المياه الساقطة، وما ينتج عن ذلك من أشكال جميلة ورشاش يستوقف النظر، فيدعوه هذا إلى حكاية قصر من الثلج شيدته أميرة، ثم يستدعي ذلك إلى ذهنه الحروب ونشأتها ونمو الملكية وما يترتب عليها من شر، ثم يقارن بين ولاء الشعب لمليكه في فرنسا وفي إنجلترا، ويعرج على الكلام في الحرية فيوجه إليها خطابا غاية في البلاغة، ويذكر استبداد الحكم المطلق في فرنسا فيستنكره، ويتجه بخطابه إلى سجن الباستيل فيتمنى الأماني التي لم تلبث أن حققتها الأيام، ويمتدح الحرية السياسية والاجتماعية التي تتمتع بها إنجلترا، وتكون فخارها ومجدها، ثم يذكر الحرية الروحية في الدين فيثني عليها ويعدها الخير الأسمى.

لم يكن «كوبر» من أعظم الشعراء الإنجليز، لكنه يمثل بشعره خير تمثيل تطور العناصر الجديدة التي دخلت على الشعر، وهي العناصر التي انتهت في فرنسا بالثورة الفرنسية، وفي إنجلترا بثورة أدبية نهض بها «وردزورث»، ونعني بها عناصر الحرية وتحطيم القيود. (2-5) أولفر جولد سمث

قدمناه إليك ناثرا، وها نحن أولاء نعرضه أمامك شاعرا، وإنما حشر جولد سمث بين الشعراء لقصيدتين مشهورتين هما «الرحالة»

121

و«القرية المهجورة».

122

أما «الرحالة» فقصيدة تهذيبية يقصد بها الشاعر إلى تلقين مبادئه، تلمس فيها الروح الجديدة التي دخلت الشعر منذ منتصف القرن الثامن عشر؛ إذ تراه يصف المناظر الطبيعية وصفا صادقا، وهو في هذه القصيدة وفي «القرية المهجورة» أيضا ينفر من عناصر المدنية الدخيلة على الإنسان، ويتمنى أن تعود الحياة إلى أحضان الريف ورحاب الطبيعة.

إن الطبيعة لا تني - وهي للناس جميعا أم رءوم -

تعطي خيراتها إن دعا داع بجد العمل

تطعم بالقوت الزارع ... أينما كان،

ولئن تجهمت قمم الجبال التي تتوجها الصخور

فتلك الصخور - بحكم العادة - انقلبت فراشا وثيرا،

وللصناعة أنعم - بالقياس إلى الطبيعة - كثيرة مختلفات،

فثروة، وتجارة، وكرامة، وحرية، ورضى،

لكن هذه يقاتل بعضها بعضا أحر قتال،

فكأنما كل لكل فاتك هدام،

فحيثما سادت الحرية والثراء، ضاع الرضى،

وغاضت الكرامة إذا امتد بازدهار التجارة الأمد.

فهو لهذا يؤثر خيرات الطبيعة على أنعم الحضارة الصناعية، وفي «القرية المهجورة» كذلك يستدر إشفاق القارئ على قرية هجرها أهلوها، وقصدوا إلى المدينة ليعملوا في صناعتها، وعجيب أن يؤثر الإنسان المدينة على الريف، والريف من صنع الله والمدينة من صناعة الإنسان! هو في هذه القصيدة يصور لك القرية، وهي عامرة بأهلها، ثم يصورها وقد خلفها أبناؤها، وفي القصيدة كذلك شخصيات أبدعت ريشة الشاعر تصويرها، منها واعظ القرية، ومنها معلم القرية:

هنالك إلى جوار السياج المتعرج الذي يحد الطريق

بأشجار من الرتم الزاهر البهيج بلا ثمر،

هنالك - في بيته اللجب - على بسط النفوذ قد مهر،

كان معلم القرية في مدرسته الصغيرة يعلم صغاره،

إنه رجل عنيف، عبوس في مرأى النظر،

عركته فعرفته، كما كل طفل شرود قد عرف،

والراجفون من الصغار قد مرنوا أن يتنبئوا

من وجهه عند الصبح أي خطر خلال اليوم ينتظر،

وفي مرح زائف يتصنعون لقوله الضحكات

إن قال نكات، وما أكثر ما كان له من نكات!

وسرعان ما ترى كل جار لجاره قد همس،

لينشروا أنباء المصيبة بينهم إن عبس،

لكنه كان - رغم هذا - ذا قلب رحيم، فإن قسا

كان حبه للعلم إلى قسوته حافزا،

لم يخف عن كل أهل القرية علمه الغزير،

فهو على الكتابة - لا شك - قادر، وعلى الحساب كذاك قدير،

يقيس الأراضي، وينبئ بالفصول ومد البحار وجزرها،

بل أشاع عنه الناس علما بالمكاييل ومعيارها،

وكان كذلك يبدي في النقاش مهارته؛

تراه في الجدال هزيما، لكنه ماض يواصل حجته،

ينطق باللفظ الطويل العميق الأجزل الرنان؛

فيدهش الحضور السذج الرامقيه بنظرة الحيران،

وما ينفكون في دهش، تزداد حيرتهم وتعظم

أن يحمل رأس واحد صغير كل هذا الذي يعلم. (2-6) روبرت بيرنز

Robert Burns (1759-1796م)

لن نجد خيرا من هذا الشاعر مثالا نسوقه لما طرأ على الشعر الإنجليزي من تغير بين أول القرن - في بوب - وآخره في الحركة الابتداعية التي تتجه إلى الطبيعة بأنظارها، وهو - بعد - شاعر اسكتلندي أعظم من أنجبتهم اسكتلنده في تاريخها من الشعراء، ولد في مكان قريب من «أير»،

123

حيث كان أبوه يعمل عند صاحب ضيعة صغيرة بستانيا ومشرفا على ضيعته، ولما بلغ الوليد سابعته، استأجر أبوه مزرعة وانتقل إليها بصحبة أسرته، فكانت حياتهم عندئذ - كما وصفها بيرنز فيما بعد - «حياة راهب مكتئب، لا يعرف المرح، يملؤها عمل شاق متصل، كأنهم العبيد الأرقاء.» وتعلم الصبي كما يتعلم سائر الصبيان في القرى، لكن والديه كانا مشغوفين بالقراءة فجرى الابن على غرار الأبوين، وواصل القراءة في غير انقطاع، لا يدخر لحظة واحدة من فراغه إلا أنفقها يطالع في الكتب - ولم تكن لحظات الفراغ طويلة مواتية - فالتقى في مطالعته بخيرة الأدباء الإنجليز من شعراء وناثرين، ثم لم يكفه هذا مع ما كان يبذله في المزرعة من جهود مضنية تبدأ عند الشروق، ولا تنتهي إلا مع المساء، بل استطاع كذلك أن يتعلم الفرنسية وقليلا من اللاتينية وبعض الرياضة، ومات أبوه فانتقل شاعرنا مع أخيه إلى مزرعة أخرى، وكان إذ ذاك في عامه السادس والعشرين، فأنفق أربعة أعوام أخرى في عمل متصل بمزرعته الجديدة، لكن المزرعة لم تغل شيئا يقيم الأود، وفي هذه السنوات التي أضنته بمجهودها أخذت تنضج شاعريته وتتفتح، فقد كان أنشد قبل ذاك أغاني غرامية وأناشيد. أما اليوم فقد استنبطت ظروف حياته نبوغه الدفين، وأخرجت كل ما تنطوي عليه نفسه من قوة في الهجاء لا يجاريه في مضمارها قرين، وازدهر أمام عينيه الأمل في أن يكون شاعر العصر في أمته جميعا.

كانت روح الثورة تملأ الآفاق في أرجاء أوروبا جميعا، فتشرب الشاعر تلك الروح الثائرة، وجاء شعره متأججا بالثورة على الأوضاع العتيقة القائمة، واشتد به العنف أحيانا، حتى جاوز به حدود الرصانة العقلية وأدب السلوك؛ مما دعا الكنيسة أن تضعه موضع اللوم والتأنيب، وكانت اسكتلنده تضطرب إذ ذاك بانشقاق ديني قامت فيه الخصومة بين حزبين، أطلق على أحدهما حزب «الأضواء الجديدة»، وأطلق على الآخر حزب «الأضواء القديمة»؛ فأما الحزب الأول فيأخذ بالأفكار الجديدة الحرة، وبضرورة التخفيف من قواعد الكنيسة الكلفنية السائدة في اسكتلنده، ومع هذا الفريق المجدد وقف «بيرنز» وكتب سلسلة من القصائد الهجائية اللاذعة يهاجم بها مساوئ الكنيسة ونفاق القائمين عليها مهاجمة لم يعرف فيها هوادة ولا رحمة، فكانت قصائده تلك بمثابة السياط أثقلت أطرافها بالرصاص، وأخذ يهوي بها على جلودهم يمزقها شر ممزق، وأشهر هجائياته «السوق المقدسة»

124

و«دعوات (ويلي) المتدين»

125

و«خطاب لذي الخلق القويم الصارم»،

126

وقد أراد بتلك القصائد الهجائية أن يطهر الكنيسة من أدرانها، وأن ينزع عن رجال الدين مسوح النفاق التي لم يرتدوها إلا ليخفوا نفاقهم تحت سترها، ولكنه في الحق قد جاوز في هجائه حدود اللياقة وحسن الخطاب، وأنشد في الوقت نفسه قصيدة عنوانها «مساء السبت عند ساكن البيت الصغير»،

127

عرض فيها صورة جميلة للعقيدة الدينية السليمة في بيت زارع متواضع فقير، وكان الشاعر أخصب ما يكون إنتاجا بين عاميه الخامس والعشرين والسابع والعشرين، ففي هذه الفترة أنتج هذه القصائد وغيرها.

ونشر الشاعر قصائده، لكن صعاب الحياة أحاطت به فلم يصبر على المقام في أرض الوطن، واعتزم الرحيل إلى «جامايكا» واحتجز مكانه في السفينة، لولا أن السفينة لم تقلع في الموعد المضروب، فاستطاع بعض رفاقه أن يحملوه على البقاء، وشجعه على ذلك ما لقي ديوانه من نجاح، فظل يطوف باسكتلنده ويقضي الشهور في أدنبرة، ثم عاد فاستأجر مزرعة وتزوج من فتاة أحبها، ثم عين في منصب متواضع فترك المزرعة، وعندئذ أنشد بعض الأغاني، ونظم إحدى قصائده الجياد وهي «تام أوشانتر»،

128

وأخذت قصائده الغنائية تترى، حتى كون منها مجموعة هي أشجى ما يعرفه الأدب الإنجليزي من قصائد الغناء.

عندئذ هم أديب اسكتلندي بنشر مجموعة من الأغاني الاسكتلندية أطلق عليها «المتحف الموسيقي»، فساهم «بيرنز» في هذه المجموعة بأربع وثمانين ومائة قصيدة معظمها جديد مبتكر، واضطلع آخر بعد ذلك بقليل بنشر مختارات من الشعر الاسكتلندي كذلك، فساهم شاعرنا في تلك المختارات بستين أغنية، وكانت مساهمته في كلتا الحالتين بغير أجر، وفي ذلك قال حين أرسل قصائده: «أما عن الأجر فلك أن تعد قصائدي فوق أن تؤجر أو دون أو تؤجر؛ لأنها ستكون بغير شك إما هذه وإما تلك.» فلا عجب أن عاش «بيرنز» في فقر شديد، فقد كانت قصائده غالية القدر، عظيمة الثمن، ولو أراد بها الربح لكفا نفسه مئونة العناء المادي الذي لاحقه طيلة حياته.

كان هذا الأديب القوي النابغ ثائر النفس - كما أسلفنا - فلم يتوان في إعلان عطفه على الثورة الفرنسية، حتى لقد أرسل إلى «حكومة الإدارة» في فرنسا بأربعة مدافع بحرية، ومعها خطاب يفيض بالعطف والتأييد، لكن المدافع لم يؤذن لها بالخروج من دوفر وورطه هذا الحماس الأحمق في مشكلات مع أولي الأمر، ومع ذلك فقد كان «بيرنز» وطنيا يلتهب بالشعور القومي، حرك الأمة كلها بقصائده الوطنية ومس بسحره صميم فؤادها، ولما هدد نابليون البلاد بالغزو، نظم نشيدا يتغنى به المتطوعون - وكان واحدا منهم - فجرت به ألسنة القوم من أقصى البلاد إلى أقصاها.

لم يكن «بيرنز» مكثارا في شعره، ولكن قليله كثير غزير إذا قسته بهذه الظروف التي نشأ فيها، وهذا الصراع العنيف المضني الذي لم ينقطع طول حياته يوما في سبيل القوت، بحيث لم تمكنه الحياة من الانصراف إلى القريض في أمن ودعة ، ومن هنا استحال عليه أن يكتب القصائد الطوال؛ لأنه إذا ما أمسك القلم أسرعت ضرورات الحياة فاضطرته للعمل، فجاء شعره نفحات خاطفة ولمعات سريعة بارقة، تستثيرها أعراض الحياة العابرة في نفسه الشاعرة. ولما كان زارعا يفلح الأرض بيديه كان أصدق من يعبر عن خواطر الزارعين من أهل بلاده، يخفف من عنائهم بحلو فكاهته، ويفيض عليهم عطفا؛ لأنه واحد منهم، وما نظن أن حياة الفقير وجدت من يصورها في وضوح وقوة كما صورها «بيرنز» في قصيدة «مساء السبت عند ساكن البيت الصغير»، وهو فيها إنما يصور حياة أبيه وأسرته:

فما إن فرغوا من عشاء بهيج، حتى نهضوا بوجه واجم،

والتفوا في حلقة كبيرة حول دفء النار،

وتناول رب الأسرة في وقار الوالد الحازم

إنجيلا ضخما كان عند أبيه موضع اعتزاز وافتخار،

ونحى عن رأسه القبعة في إجلال وإكبار،

وبدا عارضاه الأشيبان في نحول الذابل،

ومن أسطر سرت يوما على «صهيون» في حلاوة الأوتار

انتقى جزءا في عناية البصير الأمثل،

ثم صاح «هيا نعبد الله» في لهجة الوقور الأكمل.

وفي قصيدة «الكلبين»

129 - قيصر ولواث، فهكذا يسميهما - يقارن بين الغني والفقير أيهما أسعد، وهو موضوع طالما تناوله الأدباء، لكن جدته لا تبلى؛ لأنه يمس النفس الإنسانية من قريب، وهو يدير الحوار فيها بين الكلبين في قوة وبراعة واتزان، وإن لم يكن إلى جانب الفقير أميل، يقول «لواث»:

هلا أنبأتني، سيدي قيصر،

إن كانت حياة الأغنياء سعادة خالصة؟

فلا ينال منهم برد ولا جوع؟

فيجيب كلب الغني:

لو أقمت، سيدي، ساعة حيث أقيم

ما غبطت السادة الأغنياء على نعيم!

نعم هم لا يتضورون من جوع ولا يجهدون

إن قر الشتاء ببرده أو اشتد قيظ الصيف،

وليس يبري عظامهم عمل منهك شاق،

ولا هم يعرفون في الشيخوخة العلل والآلام،

لكن بني الإنسان أفدام وحمقى ...

فإذا لم يكن ثمة ما يضيقون به من المتاعب والصعاب

عمدوا إلى خلق ما يعكر صفوهم من حمق ومن غباء.

وأعظم ما ورثه «بيرنز» للأدب الإنجليزي من ثراء هو أغانيه، فهو منشد القصائد الغنائية الذي لا يدنو منه شاعر آخر في ذلك الأدب، فكأنما كانت روحه معينا تنبثق منه الأنغام انبثاقا متداركا متلاحقا، وهو عجيب في سرعة تفجر ينبوع الشعر في نفسه كلما عرض لقول الشعر عارض، تراه في مثل لمح البصر يلقف المعاني الشاردة، ويسوقها في عبارة يحسن اختيار ألفاظها، بحيث يستحيل أن تبدل بلفظه لفظا آخر خيرا منه، فهو يختار الألفاظ التي تفتن الآذان بسحر أنغامها وهو وإن يكن قوميا في أغانيه، إلا أنه يمس بها العواطف الإنسانية العامة بين البشر، فهو - مثلا - في أغنيته «قبلة حارة» يعبر - كما قيل - «عن أبجدية الشعور، وهو يضمنها جوهر هذا الوجود الذي تتجاوز فيه اللذة والألم، فيخرج ذلك الجوهر في قطرة واحدة محترقة.» وهذه الأسطر الأربعة ختام الأغنية:

لو لم نحب بكل قلبينا

لو لم يعم الحب عينينا

لو كنا أبدا لم نلتق، أو كنا أبدا لم نفترق

لما أحسسنا قط بهذا القلب المحترق. (3) المسرح

ذهب القرن السابع عشر، فذهبت معه المأساة بموت «دريدن»، والملهاة الفطنة الفكهة بعد «كونجريف»، ولبثتا في ركود حينا طويلا من الدهر؛ إذ لم تجدا في القرن الثامن عشر إلا قليلا من النوابغ يسعفونهما.

فالنظارة الذين أيدوا المسرحية في عصر عودة الملكية (النصف الثاني من القرن السابع عشر) كانوا من رجال القصر وطبقة النبلاء وعلى رأس هؤلاء وأولئك الملك نفسه، ولما جاء القرن الثامن عشر ذهب عن المسرح تأييد القصر؛ فلم يكن وليم الثالث ولا الملكة آن من رواده. ثم اتسعت الهوة بين القصر والمسرح، حين تولى ملك البلاد جورج الأول الذي لم يكن يفهم الإنجليزية، وتلاه جورج الثاني الذي كانت إنجليزيته مصبوغة بصبغة ألمانية، فلم يعد للمسرح أمل في تلك الطبقات الرفيعة، وإن لم يوفق إلى اجتذاب الطبقيتين الوسطى والدنيا إليه فلا رجاء له في حياة أو بقاء، لكن الطبقة الوسطى أخذت تعود إلى المسرح رويدا رويدا، وذلك بفضل ما طرأ على المسرحية نفسها من تطور وتغير في وجهة النظر، ففي عصر عودة الملكية، كان تفكه الملهاة كله يدور حول أخلاق تلك الطبقة الوسطى ليضحك النبلاء والسادة، وكان من الطبيعي أن ينفر أبناء تلك الطبقة من المسرح فلا يختلفون إليه، فلما تبدل أساس الملهاة في القرن الثامن عشر، وقام على أساس خلقي يرضى عنه الناس من تلك الطبقة، أقبلوا على التمثيل يشاهدونه ويستمتعون به، وتسمى هذه الملهاة الجديدة «بالملهاة العاطفية»،

130

والأساس فيها عرض مشكلات الأسرة التي تنشأ كل يوم، فليست ترمي إلى مجرد الهزل والإضحاك، إنما تريد التقويم الخلقي وإصلاح السلوك المعوج، حتى لينفر النظارة من كل منظر أو حديث فيه خروج عن حدود العفة اللفظية والاحتشام في السلوك، والملهاة من هذا النوع قد تستدر الدمع أكثر مما تستدر الضحك.

131

وأشهر من نذكره من كتاب الملهاة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر «رتشرد كمبرلاند»

132 (1732-1811م) الذي كتب ما يربي على ثلاثين مسرحية، بعضها مآس. وأشهر ملاهيه «رجل من أهل الهند الغربية»، وتتمثل فيها النزعة العاطفية التي أسلفنا عنها الحديث، كما تظهر فيها الغاية الخلقية. وملخصها أن رجلا من جزائر الهند الغربية يدعى «بلكور» يشتغل بالتجارة وأثرى عن طريقها، تبنى طفلا أطلق عليه اسم «بلكور» أيضا، وجعله وارثا له بعد موته، وورث الفتى ثروة متبنيه ورحل إلى إنجلترا، فسرعان ما أحب فتاة للنظرة الأولى هي «لويزا ددلي» رآها بين حشد من الناس في متجر، وتعقبها في الطريق، لكنه فقدها في الزحام، وخيل إليه أنها دخلت منزلا معينا، فطرقه وصادف فيه زوجين يميلان إلى الشر، وتصادف أن والد فتاته لويزا يساكنهما في نفس الدار، ولمح هؤلاء في الأجنبي الغريب سذاجة وكرما، فعرفوا أنهم وقعوا فيه على مورد للكسب، ووعدوه أن يقدموا إليه فتاته المنشودة، بعد أن أفهموه أنها تخدم شابا يدعى «ددلي» تدعي أنه أخوها (والحقيقة أنه أخوها) وفي ضوء هذا التضليل حاول «بلكور» أن يغازل الفتاة، وأدى ذلك إلى مبارزة بين الأخ والحبيب، وعلم «بلكور» أن «ددلي» هو أخ لفتاته فاعتذر عن خطئه وغفر له، وسارت الأمور كلها في طريق الخير، فورث «ددلي» ضيعة كان أوصي له بها وأخفت خالته الوصية لتحول دون إتمام الإرث، لكنها فشلت وانتهت الضيعة إليه، وقبلت لويزا أن تتزوج من بلكور، وأخيرا ظهر رجل كان يتابع بلكور عن كثب منذ وصوله إلى إنجلترا، وكشف عن نفسه وإذا به والد بلكور وتنتهي الرواية والأشياء كلها في وضعها المستقيم.

ثم جاء «جولد سمث» - وقد أسلفنا عنه الحديث ناثرا وشاعرا - فرأى تكلفا في الملهاة العاطفية وخرج عليها، وكان أول خروجه في ملهاة «الرجل الطيب بفطرته»،

133

لكنها فشلت؛ لأنها تعارض الذوق العام، فهي مهزلة، ورواد المسرح لا يحبون المهازل، إنما يريدون ملهاة رصينة لا تنحرف عن تحليل العواطف الجادة المحزنة أحيانا، ثم ظهرت له ملهاته الثانية «تمسكنت فتمكنت»،

134

وهي كذلك مهزلة من نوع سالفتها، لكنه كان فيها رائعا بارعا فاجتذب إليه النظارة رغم أنفها.

وتابعه في هذا اللون الجديد «شريدان»

135 (1751-1816م)، وكانت أولى مهازله «المتنافسون»،

136

وفيها يبعد عن روح الجد التي سادت الملهاة العاطفية، ويقصد إلى التسلية لا إلى التحليل، وأعظم مهازله «مدرسة الفضائح»،

137

و«الناقد»

138

ولا يجدي في مثل هذه المسرحيات تلخيص؛ لأنها تعتمد على المواقف المضحكة والنكات البارعة، فلا بد لمن شاء أن يستمتع بها من قراءتها أو مشاهدتها، وهي مما يعود إليه رجال المسارح آنا بعد آن.

وأما المأساة في القرن الثامن عشر فضعيفة لا تكاد تجد لها مكانا في هذا الكتاب، وحسبنا أن نشير من رجالها إلى «للو» (1693-1739م) بمأساته «التجار اللندني أو تاريخ جورج بارنول» و«مور» بمأساته «المقامر»، وقد ذكرنا لك كلتا المأساتين، ونحن نحدثك عن المسرحية في فرنسا في القرن الثامن عشر لما كان لهما من أثر في توجيه المسرحية إلى مشكلات الطبقة الوسطى التي تنشأ في الحياة اليومية.

الفصل الثالث عشر

الأدب الألماني في القرن الثامن عشر

لقد قيل إن في الأدب الأوروبي فترتين خفقت فيهما أوروبا بقلب واحد كأنها أمة واحدة، إحداهما عصر الحروب الصليبية والأخرى هي القرن الثامن عشر، ففي الأولى اتجهت جهود الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين أوطانهم نحو غاية واحدة، وشخصت أبصارهم جميعا إلى أمل واحد، هو استرجاع بيت المقدس من أيدي المسلمين، فكان إذن عصر جهاد ونضال، وكان المثل الأعلى هو الفحولة في البطولة والمهارة في القتال، فجاء الأدب الأوروبي كله ناطقا بالفروسية في شتى أوضاعها، وأما القرن الثامن عشر فهو عصر التنوير والتحرير، فأوروبا كلها ساعية نحو حرية الفرد والجماعة. فأما نصيب إنجلترا في هذا السعي فهو الصناعة والاستعمار، إذ من شأن الاستعمار والصناعة أن يخلقا طبقة عاملة كاسبة مستثمرة، هي الطبقة الوسطى، فإن أثرت هذه الطبقة كان لا بد لها أن تتوسع في حقوقها السياسية، ومن ثم تقل الفوارق بين الطبقات أو تزول، وكانت النغمة السائدة في الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر هي هذه الطبقة الوسطى تكتب القصة من أجلها. وتمثل المسرحية لتشبع حاجتها، وينشد الشعراء ما ينشدون عن رجالها، ومن هنا جاء الأدب الإنجليزي في ذلك العهد عمليا واقعيا لا يشطح مع الخيال الشارد. وأما نصيب الأدب الفرنسي في هذا التحرير، فهو وضع الأصول والقواعد، فهو لا يزال في المرحلة النظرية الخالصة، ولم يكن يسعه غير هذا قبل انفجار الثورة الفرنسية الكبرى، فبينما كان الإنجليزي قد ألف الحرية في حياته، كان الفرنسي يتأمل نظرياتها ويفكر في قواعدها، ففولتير وروسو وديدرو ومنتسكيو وغيرهم من رجال الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر لم يريدوا بما كتبوا إلا محو القديم، وإنشاء الجديد على أساس الحرية العقلية والسياسية. وهنا نتفلت إلى ألمانيا لنرى نصيبها في بناء هذا الصرح الذي ساهمت في بنائه أوروبا كلها، فنراها أمة لا كالأمم، بل مجموعة من دويلات قام على كل منها أمير يطمح أن يضارع بملكه الصغير أبهة فرساي! لم يكن الألمان في القرن الثامن عشر شعبا سياسيا واحدا، فبديهي ألا يكون الأدب سياسي الصبغة كالأدب الفرنسي في ذلك العهد مثلا، ولم يكن الأدباء الألمان قد ذاقوا طعم القومية، فبديهي كذلك ألا يجيء أديبهم الكبير أو شاعرهم العظيم ناطقا بالعزة القومية والفخار الوطني، فانطوى الأدباء على أنفسهم يحررونها!

الأدب الألماني في القرن الثامن عشر يهتم بالفرد لا بالجماعة، والغاية التي ينشدها هي تحرير النفس الإنسانية من قيودها، حتى تحلق صاعدة في أجواز السماء، فهو لم يرد للفرد حرية سياسية واجتماعية كزميليه في إنجلترا وفرنسا، بل أراد له حرية روحية، وليس يحط من قدره أنه لم يعالج الأغلال المادية ليطلق سراح الناس من أصفادها؛ لأنه وهو يحاول تحرير الروح وفك إسارها، علم الناس كيف يحررون أنفسهم من طغيان العوامل الخارجية التي تعطل النمو وتحول دون التقدم، علمهم أن يروضوا الإرادة على أن تساير المثل العليا في تناغم واتساق، وألا تستعبدها الشهوات والرغبات، وإنما يكون ذلك التحرير الروحي بتربية النفس على تقدير الجمال، وتلك هي مهمة الأدب، بل مهمة الفنون على اختلاف ضروبها.

لقد كان نصيب الأدباء الفرنسيين الذين جاهدوا في سبيل الحرية في عصر التحرير - القرن الثامن عشر - أن زجوا في ظلمات الباستيل، بينما كان زملاؤهم الألمان على صلة من الود والتفاهم مع أولي الأمر في بلادهم، لماذا؟ لأن الأديب الفرنسي يحارب أوضاعا سياسية قائمة، أما الأديب الألماني فيعمل على تحرير نفسه ورياضتها، بحيث تعلو على العوائق المادية القائمة في وجهها، فلئن كسبت فرنسا حريتها بدماء الثورة الفرنسية، ولئن كسبت إنجلترا حريتها في سكون وهدوء عن طريق التشريع لها في مجلس النواب، فقد كسبت ألمانيا حريتها في معركة باطنية نشبت في نفوس الأفراد، وها هنا قامت رسالة الأدب الألماني في القرن الثامن عشر، فلن تجد روح الفرد مصورة في غيره من الآداب - إبان ذلك القرن - بمثل الدقة والأمانة التي صورت بها في الأدب الألماني، ولم يواجه أدب غير الأدب الألماني مشكلات الفرد وحياته النفسية بمثل ما واجهها ذلك الأدب في جد وعزم وبصيرة نافذة، فمن ضلت نفسه في متاهة الحياة، وأراد لها سواء السبيل، ومن تحطمت سفينته على موج نفسه المضطربة، فلن يجد العون والعزاء في أدب غير هذا الأدب، ومن هنا كانت «فاوست» - آية جيته الخالدة - أعمق وأعظم ما شهدت الآداب الحديثة في حياة الفرد، فهي العزاء الذي لا تبلى جدته ولا تبرد حرارته «لكل من أكل خبزه تحيط به الهموم ، وأنفق طوال الليالي يسفح الدموع.» وقل في الأدب الألماني كله في القرن الثامن عشر ما تقوله في «فاوست».

وسنختار لك من ذلك الأدب فحوله الثلاثة: جيته، وشلر،

1

ولسنج.

2 (1) جوهان ولفجانج جيته

Johann Wolfhgang Goethé (1749-1832م)

ذلك رجل كان أخص ما يميزه صحة العقل وصحة البدن، فأما صحة بدنه فموهبة من الله الذي بسط له في قوة الجسم وسلامته، وأما صحة عقله فكذلك، ونتيجة لمجهود طويل ما فتئ خلاله يتخفف من الأثقال التي تقعد بالروح فلا تسمو، فطرد للمخاوف وتنزه عن الهوى، واطراح لتركة نفسية مثقلة بالأوضار خلفتها خرافة العصور الوسطى، والتمست سبيلها إلى نفسه أيام الصبا، أحاطت به الكروب فهم أن ينتحر، لكنه سارع إلى كتابة «فرتر» لينجو بنفسه من هذه الظلمة الغاشية، فجعل بطله يزهق روحه ليجد في انتحاره متنفسا لكروبه، وبذلك ألقى عن نفسه وسواسا كان يشوب صحة عقله التي امتاز بها، وشاءت الأقدار لقصة «آلام فرتر» أن تنشر، فكان من نتائجها العجيبة أن أخذ الشباب في أوروبا الذين كانوا يعانون مثل ما عاناه «فرتر» ينتحرون كما انتحر! وهكذا قد تبلغ قوة الإيحاء في الأثر الفني، أراد به الأديب لنفسه تطهيرا من أدرانها، فإذا بهذه الأدران تصيب القارئين!

وتستطيع أن تقول في كل ما أنتجه «جيته» من آثار أدبية ما قلناه في «فرتر»، فهي وسائل أريد بها تطهير الروح من شوائبها لتصفو، فإذا لم تستطع أن تقرأ جيته لتنفض بأدبه عن نفسك ما نفضه الكاتب به عن نفسه، فخير لك ألا تقرأه.

ولد «جيته» في فرانكفورت على نهر مان في الثامن والعشرين من أغسطس لأب يشتغل بالقانون كان سليل أسلاف مهنتهم الحدادة أو الحياكة، وأم هبطت من أسرة نبيلة، وكان أبوه متعصبا متعالما ضيق الأفق، وقد صمم أن يهيئ لابنه من التعليم ما يواجه به خضم الحياة العنيف، وأخذه أخذا شديدا - وهو ما يزال طفلا - بدراسة تستغرق ساعات طوالا في اللاتينية واليونانية والعبرية والفرنسية والإنجليزية وفي العلوم الطبيعية وفن العروض! بل استحث ولده أن يكتب عما يرى ويسمع، وألا يحاول قرض الشعر ، فكان لهذا التدريب الصارم أثره في عقل الناشئ من غير شك، لكنه نفر الابن من أبيه، ولم يعد يضمر له من الحب ما يضمر الأبناء للآباء، ولعلنا إذ نقرأ في «فاوست» كيف اعتزم فاوست هجر كتبه ليغامر في الحياة مغامرة تستثير فيه العاطفة الحية نلمس صدى لثورة تأججت في نفس جيته الطفل نفورا من الدراسة المسرفة البغيضة.

أرسل جيته إلى جامعة ليبزج ليدرس القانون، فكان فكاكه من أسر أبيه أول فرصة سنحت يمس فيها الحياة عن كثب مسا مباشرا، فلم ينصرف إلى كتب القانون كما أريد له، بل راح يشاطر الطلاب في نشاطهم، وأحب فتاة يشتغل أبوها بتجارة الخمر، وأنفق وقتا غير قصير في قرض الشعر والتصوير وقراءة الأدب، فكان أن قرأ كتاب «لسنج» «لاوكون»،

3

فكان له بمثابة الوحي الملهم، ولعله أسرف في حريته وأطلق العنان لشهواته أكثر مما ينبغي، فأصابته العلة في رئتيه، وعاد إلى فرانكفورت ولم يظفر بدرجة علمية.

وذهب جيته بعد عامين - وقد استرد العافية - إلى ستراسبورج يدرس القانون في جامعتها، فظفر فيه بالأستاذية، وأنشأ إلى جانب دراسته مجموعة من القصائد الغنائية، وكتب «جيتس ذو اليد الحديدية»

4

متأثرا فيها بشيكسبير، واختمرت في ذهنه فكرة «فاوست»، وكذلك حدث له وهو في ستراسبورج أن تأثر بالناقد الشاعر الفيلسوف «هيردر»،

5

الذي كان إمام الفكر في ألمانيا في القرن الثامن عشر، كما حدث أن أحب فتاة هي «فردريكا برايون»،

6

فأوحى له حبه إياها عددا من أجمل قصائده الغنائية.

عاد جيته بعد ذلك إلى فرانكفورت ليشتغل بالصحافة، وليبدأ سيرته الأدبية، وذاعت شهرته في الشعر، بحيث لم يكمل عامه السادس والعشرين، حتى أصبح في طليعة الشعراء، ثم ازدادت شهرته اتساعا حين أخرج «فرتر» ونشر «جيتس» التي صادفت عند أعلام النقد الأدبي كل إعجاب، وهنا في فرانكفورت كانت له مغامراتان جديرتان في الحب، منهما غرامه «بشارلوت بف»

7 (وهي شارلوت التي تراها مذكورة في فرتر)، وأما الأخرى فهي «ليلي»،

8

التي كان حبه إياها مضطرما يشتعل بالغيرة، وقد كانت «ليلي» هذه امرأة لعوبا قلبا وخطبها، لكن الخطبة لم تدم طويلا وافترق الخطيبان وجاءته بعد ذلك دعوة من «كارل أوجست»

9

دوق فيمار، وكان الدوق الشاب قد أنشأ مركزا أدبيا في قصره، وأراد أن يضيف إليه هذا الأديب النابغ، فأغراه بمرتب كبير ومنصب عظيم في دوقيته، فلبى الدعوة جيته، وابتاع له دارا في فيمار حيث أقام طيلة حياته إلا فترات قصارا.

جد الأديب في منصبه فارتقى وزاد راتبه وأنعم عليه بألقاب النبلاء، وما أكثر ما وجه النقاد إلى الأديب اللوم على الإذعان للألقاب والمناصب، لكن فلسفة جيته لم تكن إلا هذا: قبولا للحياة كما هي، واضطلاعا بما تفرضه واجبات العيش من أعباء، ولم يكن ذلك ليمنع سيل إنتاجه الدافق، حتى أسلم الروح في الثاني والعشرين من أكتوبر سنة 1832م.

ذهب جيته إلى فيمار شابا طويل القامة، جميل الطلعة، رشيقا تجري فيه حرارة العاطفة، حتى شبهوه بأدونيس الذي أغرمت به فينوس في أساطير اليونان، وعاش عيش المتعة من شراب وغرام، وكانت «فراوفون شتاين»

10

ممن ملكن عليه فؤاده، وهي متزوجة وتكبره بسبعة أعوام، وقد قيل ما قيل في علاقته بهذه المرأة، والأرجح أن الحب دام بينهما عذريا بضعة أعوام، وما إن دنسته الشهوة، حتى طار الخيال ودب الخلاف، وازدادت الهوة بين القلبين حين اتصلت الروابط بين الأديب وبين امرأة أخرى، فاستشاطت «فراو» غيرة وكادت له، حتى لم يسعه إلا السفر إلى إيطاليا، حيث أنفق عاما وبعض عام.

أما تلك الحبيبة الجديدة فهي «كرستيانة»،

11

وكانت فتاة ريفية ساذجة، لكنها بارعة الجمال، جاءت إلى فيمار، حيث عملت صانعة في معمل، وحدث أن تقدمت إلى جيته - وهي في الثالثة والعشرين وهو في الأربعين - بطلب تلتمس أن يعين أخاها في عمل، ففتن بها أديبنا. واتصل بها في طي الخفاء حينا، وذاعت بين الناس الأقاويل، وافتضح الأمر، ولم يكن ذلك بذي خطر عند عامة الشعب الذين لم تخف عليهم خافية من شئونه الغرامية، لكن الأمر خطير في دائرة القصر ورجال البلاط، فما كان لنبيل - فقد خلعت على جيته ألقاب النبلاء - أن يتصل بفتاة من غمار الناس ، فما هو إلا أن زاد الأديب الطين بلة، وأعلن زواجه من «كرستيانة»، وكان قد أسكنها منزله قبل ذلك زاعما روابط القربى بينه وبينها.

وأبت سيدات فيمار أن تكون هذه الريفية ندا لهن في المجتمع، فإذا ما انعقد حفل في بيت جيته عاملها الزوج والأضياف جميعا معاملة الخادمة، فلم تجلس إلى مائدة بين الحضور، ولبث الأمر قائما على هذا النحو، حتى بدلته «مدام جوهانا شوبنهور» - أم الفيلسوف المعروف، وهي أديبة لها في الأدب قسط موفور - وذلك أن وجهت إليها الدعوة كما توجه إلى سيدات الطبقة الراقية، لكن هيهات أن تنحطم الفوارق الاجتماعية بمثل هذا اليسر، فقد لبثت «كرستيانة» طريدة المجتمع الرفيع في فيمار حتى ماتت، مع أنها أنجبت ولدا شب وتزوج من نبيلة، ونجل لها ولجيته من تلك النبيلة ثلاثة أحفاد.

ونعود إلى آيته الأدبية الخالدة بشيء من التفصيل: أسطورة فاوست قديمة قدم العصور الوسطى، وقد أتينا لك على طرف من أخبارها إذ حدثناك عن الأدب الألماني في عصر النهضة، لكن جيته تناولها على أساس جديد، ولب الأسطورة أن الدكتور فاوست رجل عاش في وتنبرج بألمانيا في أوائل القرن السادس عشر، وكان يشتغل بالسحر والتنجيم، ويزعم لنفسه القدرة على استحضار الأرواح واستعادة ما بددته الأيام من صحائف القدماء، وكان ماكرا مخادعا يستخدم ذكاءه في ابتزاز أموال السذج الغافلين، وشاع عنه أنه باع روحه للشيطان. وتفصيل الأمر أنه ورث من عمه ثروة عريضة بددها في عربدته ومجونه، فلما أفلس عز عليه أن يكسب القوت بالعمل الشريف، فاتفق مع الشيطان أن يمد له في حياة المتعة أربعة وعشرين عاما، للشيطان الحق بعدها أن يتصرف في جسده وروحه كيفما شاء.

تلك هي الأسطورة التي بنى عليها جيته قصيدته الكبرى، وهي من جزأين؛ الأول: مأساة غنائية، والثاني: حوار فلسفي شاق ينثني بك ها هنا، وينعرج هناك ليدلك على كل ما يدور في نفس الأديب من خواطر وآراء، فأما الجزء الأول ففيه المتعة الخالصة لكل من يطالعه، وأما الثاني فلا يستمرئه إلا من له جلد وصبر على متابعة الرأي العميق الجاف الملتوي، وإنما أراد جيته أن يبين في فاوست اصطراع العواطف في قلب الإنسان: أنقدم على الحياة فننغمس فيها أم نحجم عنها فلا نأخذ منها بنصيب؟ وليس المقصود بالإحجام عن الحياة ونبذها أن نلجأ إلى دير نعيش فيه عيشة الرهبان، ولكن للإحجام عن الحياة صورا وألوانا، فمن يحدد نفسه بقيود الأخلاق وتقاليد المجتمع، فقد نبذ جانبا من حياته، ومن يغلق من دونه الأبواب ليشطح في تأملاته الفلسفية، فقد نبذ الحياة، ومن يعش في أوهامه وأحلامه ولا يأبه بالواقع من حوله، فقد نبذ الحياة كما هي في حقيقتها. ورسالة «فاوست» أن يهيب الأديب بالناس أن واجهوا الحياة وغامروا في معمعانها، والتقوا بصعابها، وأن أبرزوا من أنفسكم وجوهها وجوانبها، ولا تقنعوا بجانب واحد ووجه بعينه. فهكذا أراد لنا جيته أن نعيش حياة مليئة لا حياة خاوية جوفاء، وليس من الخير أن نقتطف من الكتاب مثالا يوضحه، فقد نقل إلى العربية والخير كل الخير أن يقرأ.

12

وأعظم قصصه «ولهلم مييستر»،

13

وهي في أهميتها بالنسبة إلى أدبه كله تتلو «فاوست»، وفيها معظم فلسفته في الحياة، ولعلها أن تكون أول قصة في الآداب قصد بها كاتبها إلى غرض خلقي وتهذيب ثقافي، وموضوعها ضرورة أن يحسن كل شخص اختيار مهنته ليختار ما هيأته له مواهبه، وهي تصور الحياة الألمانية أدق تصوير.

أما إن أردت ما لجيته من حكمة خالصة لا تجري في مأساة كفاوست ولا في قصة كولهلم مييستر، فعليك بمجموعة له تسمى «حكم وتأملات» وهي أربعة أقسام: فقسم يدور حول الحياة والأخلاق، وقسم حول الآداب والفنون، وثالث حول العلم، ورابع حول الطبيعة، وليست حكمه مصقولة محبوكة قصيرة كعهدنا بهذا اللون من فنون القول، لكنها خواطر تتميز بعمق المعنى وصدق الرأي، خذ منها هذه الأمثلة القليلة: «كيف يستطيع الإنسان أن يعرف نفسه؟ إنه لن يعرفها بالتفكير، ولكن بالعمل، فحاول أن تؤدي واجبك وستعلم من فورك قدر نفسك.» «إن أقل الناس شأنا يمكنه أن يكمل إذا عمل في حدود قدرته وقواه الموهوبة والمكسوبة على السواء، وخير الملكات قد ترين عليها غشاوة ويصيبها الجمود والفساد إذا أعوزتها صفة لا مناص من وجودها، هي صفة التوازن، وذلك شر سيعاود الناس كثيرا في العصر الحديث؛ إذ من ذا يستطيع أن يسد حاجات عصر بلغ هذا المبلغ من الامتلاء والعمق، ثم هو فوق ذلك عصر مسرع في خطاه؟» «خطأ فاحش من المرء أن يعلو بنفسه عن قدرها، أو أن ينزل بها عما هي جديرة به.» «ليست التقوى غاية في ذاتها، لكنها وسيلة، هي وسيلة يبلغ بها المرء ذروة الثقافة إذ يهيئ لنفسه أخلص ما يستطيع لها من سكون.»

ولجيته عدا ما ذكرناه إنتاج غزير، فله مسرحيات منها: «إفجينيا»

14

و«إجمنت»

15

و«هرمن ودروتيه»

16

و«توركواتو تاسو»،

17

وله غير ذلك كثير من ضروب الأدب الأخرى.

ذلك هو جيته الذي يعادل في عظمته شيكسبير، أو قل إنه من ذلك القبيل السامق الجبار، فإذا قصر باعا عن زميله الإنجليزي فلنذكر له أنه أسس الأدب الألماني مما يشبه العدم، على حين كان شيكسبير لجهود السابقين زهرة وتاجا، فمن ورائه «شوسر» و«سبنسر» وإلى جانبه «مارلو» و«بن جونسن»، وسائر هذا الرعيل الذي عاصره في عهد اليصابات، أما جيته فمن ورائه خواء، وإلى جانبه ما يشبه الخلاء. •••

هنا جدير بنا أن نلقي بعض الضوء على موضوع قد يثير فيك الحيرة والتساؤل، فقد عرضنا لك الأدب الأوروبي في القرن السابع عشر، ولم نذكر الأدب الألماني إذ ذاك بكلمة واحدة، وذلك لسبب بسيط هو أن القرن السابع عشر لم يشهد للألمان أدبا، ثم ها نحن أولاء نعرض عليك أدبهم في القرن الثامن عشر، فنجتاز النصف الأول من هذا القرن لنلتقي بجيته في نصفه الثاني، ثم نزعم لك أنه يطاول شيكسبير! فكيف يمكن أن تخلو أمة من ثمار الأدب قرنا ونصف قرن، ثم تقفز بغتة إلى الأوج بقفزة واحدة، وفي رجل واحد لم يجد من يعبد له الطريق ويمهد أمامه السبيل؟

نشبت في النصف الأول من القرن السابع عشر حرب طويلة فتاكة تعرف باسم حرب الثلاثين سنة (1618-1648م) كانت ألمانية أول الأمر، ثم أخذت تتسع حتى أوشكت أن تشترك فيها الدول الأوروبية جميعا، فلما وضعت تلك الحرب الضروس أوزارها كانت ألمانيا قد بلغت من الضعف حدا بعيدا يعجزها عن التفكير والعمل. ثم حدث سنة 1685م أن ألغى لويس الرابع عشر في فرنسا مرسوم نانت، فصودرت بمقتضى هذا الإلغاء العقيدة البروتستنتية في فرنسا وفقد الهيجونوت حرية العبادة والمساواة أمام القانون، فهاجر سرا عدد كبير منهم، إذ بلغت الأسر الراحلة خمسين ألفا، ولجئوا إلى هولندا وإنجلترا وبروسيا وأمريكا، فكانت خسارة فرنسا عظيمة بفقد هذه الطائفة الفنية النشيطة التي كان لها أوفر قسط في الحركة الثقافية، فكان أن لجأ كثيرون من هؤلاء في مهاجرهم إلى أقلامهم، وأسسوا المطابع وأصدروا الصحف، وأخذوا في كل بلد هاجروا إليه يترجمون ويكتبون وينشرون، وكانوا يستخدمون في ذلك كله لغتهم الفرنسية التي كان لها في أوروبا إذ ذاك السيرورة والمقام الأول، وبذلك جعلوا الفكر الفرنسي والأدب الفرنسي سائدا شائعا، وأصبحت الموازين الأدبية الفرنسية هي المسيطرة في مراكز الثقافة الأوروبية جميعا، فكأنما كان إلغاء مرسوم نانت حادثا ساقته الطبيعة لتتعاون أوروبا على حركة التنوير التي تعد طابعا يميز الأدب الأوروبي في القرن الثامن عشر، كما أسفلنا لك القول في أول هذا الفصل.

فلما دنا القرن السابع عشر من ختامه لم يكن في ألمانيا من الأدب إلا صور منقولة عن الأدب الفرنسي، والصورة لا بد أن تكون ضعيفة هزيلة إذا قيست بأصلها ومثالها الذي استمدت منه الوحي واحتذته احتذاء التلميذ للمعلم، والأدب الفرنسي في القرن السابع عشر - كما تعلم - اتباعي صارم يلتزم قيود المذهب الاتباعي فلا يحيد عنه، فلم تكد تترجم من الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر بعض روائعه مثل مقالات «أدسن» و«روبنسن كروزو» لدانيال دفو، وأخيرا قصص «ردتشردسن» وقصائد «تومسن»، حتى هبت نسائم الحرية على الأدباء الألمان، وأزاحوا عن كواهلهم نير المذهب الاتباعي الفرنسي. ومهما يكن من أمر فقد أخذت ألمانيا تستقي الأدب الفرنسي حينا والأدب الإنجليزي حينا آخر، وهي جامدة لا تنتج شيئا ، ولكنها في فترة النقل كانت تهضم ما تنقله حتى اختمر في نفوس أدبائها، وخرج رحيقا مستساغا دفعة واحدة في «جيته» و«شلر» و«لسنج». (2) جوتهولد إفرايم لسنج

Gotthold Ephraim Lessing (1729-1781م)

ولد «لسنج» في الثاني والعشرين من يناير سنة 1729م في بلد قريب من «درزدن» بمقاطعة سكسونيا بألمانيا، فتهيأت له بهذا المولد فرصة كانت تتاح لأبناء سكسونيا دون سواهم من شباب ألمانيا، وهي فرصة التعلم في مدرسة تشبه المدارس الخاصة في إنجلترا، هي مدرسة «سنت أفرا» بمدينة «ميسن»،

18

ومن ثم انتقل إلى جامعة ليبزج ليعد نفسه لوظائف الدين كأبيه، لكنه وهو في الجامعة انعرج به الطريق، وذلك أن «جوتشد»،

19

الذي كان في دولة الأدب في ألمانيا حاكما يأمر وينهى، كان قد أغرى شباب الجامعة الذين بدرت فيهم بوادر النبوغ الأدبي بالآمال العريضة والمستقبل العظيم، إذا هم أعدوا عدتهم لاستخدام أقلامهم، فما لبث «لسنج» أن أطاع «جوتشد» إذ وجدت دعوته صدى في نفسه التي خلقها الله للأدب، فانصرف عن الدراسة الدينية التي أريدت له أول الأمر، وعن دراسة الطب التي كان قد تحول إليها بعدئذ، وأقبل على المسرح يكتب له، فذلك عنده خير من قاعة المحاضرة يستمع فيها إلى ما لا يميل إليه بفطرته، وطمع ساعة فاض عليه فيها الوحي أن يكون لألمانيا ما كان موليير لفرنسا، لكنه كان بطبعه إلى النقد الأدبي أميل منه إلى كتابة الملاهي، فسرعان ما نراه في برلين، حيث يتربع فردريك الأكبر على عرش الملك، يجاهد - لا في سبيل أن يكون «موليير» - بل أن يسمو إلى نجم أعلى وأسطع في ذلك الزمان، هو «فولتير»، ولم يكن الجهاد الأدبي هينا يسيرا في بلد يؤمن فيه الملك أن ينبوع الأدب لن يتفجر في أحد من أفراد شعبه بمثل ما تفجر في نابغة عصره «فولتير»، وها هو ذا فولتير في قصر فردريك له الحظوة الكبرى، فأين الرجاء أن يلتمس أديب ألماني طريقه إلى رعاية فردريك؟ لكن ذلك لم يفت في عضد الأديب الشاب، وأخذ «لسنج» يكتب كتابة المأجور، فيعرض الكتب عرضا نقديا في الصحف ، ويترجم ويكتب كل ما يجد السبيل إلى كتابته، لا يفرق بين شيء وشيء، ومع ذلك فلم يجر قلمه بسطر واحد يحتاج إلى محو أو تعديل.

في هذه الحياة الأدبية الشاقة التي عصفت به إبانها الأعاصير العواتي، صلب عوده، وأخذت موهبته في النقد تزداد وضوحا يوما بعد يوم، حتى بات ناقدا يؤتم برأيه ويخشى بأسه في الهجوم، وصادقه قوم وخاصمته أقوام، وأصدر صحيفة أدبية مع بعض أصدقائه، حمل فيها على القواعد الاتباعية الجامدة، وأخذ يبسط رأيه في كيف يكون الاتباع في الأدب، بحيث يحتفظ الأدب بنضارته ورونقه، فالمذهب الاتباعي كما أخذت به أوروبا في القرن الثامن عشر زائف يشبه الاتباع وليس منه، وهنا أتيح للأديب العظيم أن يرد حياض اليونان ويتملى من جمالها وسحرها، فارتسمت في ذهنه صورة جديدة للاتباع الأدبي، وأنشأ في النقد كتابه الجليل «لاوكون» فمهد هذا الكتاب بما فيه من توضيح جلي للفوارق بين ألوان الفنون، مهد الفريق لأدب جديد وفن جديد.

نشر «لاوكون» سنة 1766م، وكان أعظم كتاب في النقد الأدبي مما أنتجته قرائح الأدباء في القرن الثامن عشر، فهو بحث مبتكر مطبوع بأصالة الرأي حول مبادئ النقد، وليس من الإسراف في شيء أن نزعم أن هذا الكتاب الخالد هو الذي مكن لجيته وشلر من التكون والظهور، ومجمل ما في هذا الكتاب تفرقة واضحة بين مهمة الشعر ومهمة النحت والتصوير، وقد أطلق على كتابه هذا اسم «لاوكون»؛ لأنه وهو يعرض للتمييز بين النحت والشعر، اختار نموذجا للنحت تمثال «لاوكون» الذي يمثل لاوكون وابنتيه وقد التفت بهم الأفاعي التي أرسلها جوف عندما حذر لاوكون أهل طروادة من قبول الحصان الخشبي، والتمثال يمثل جزع الوالد وولديه وهم فريسة الأفاعي، واختار «فرجيل» نموذجا لتصوير الجزع في ألفاظ الشعر، ليبين الفرق بين اللونين من التعبير، وعلى أساس فكرته بأن النحت والتصوير لا يمكنهما أن يقوما بما يؤديه الشعر بحث لسنج كل ما يريد بحثه من مبادئ النقد.

كانت الحياة عندئذ لم تيسر لأديبنا بعد، فهو حينا في رغد من العيش، وأحيانا في شظف وعسر، حتى لقد بلغ عامه السابع والثلاثين، ولم يوفق بعد لكسب قوته بقلمه، ثم صادفه ما أزاح عن كاهله عبء العيش وهمومه حينا، وذلك أنه عين كاتما لسر الحاكم في مدينة «برسلاو»، فاستطاع أن يخرج خير ملهاة عرفها الأدب الألماني، وهي «منا فون بارنهلم».

20

لكن ملهاته هذه لم تفتح أمامه طريق المجد عن طريق الأدب «وقفت في ساحة السوق لا أدري ماذا أصنع، فما استأجرني أحد؛ لأن أحدا بغير شك لم يعرف كيف ينتفع بي.» وأخيرا مد إليه المسرح يده من جديد، فاستخدمه «المسرح القومي الألماني» في هامبرج، ليعلق له عن مسرحياته في صحيفة تنشر مرتين أو ثلاث مرات كل أسبوع، فيكون له بتعليقه ذاك أداة دعاية بين الناس، فلم يؤد لسنج واجبه كما طلب إليه؛ إذ أبى أن يمتدح ما كان يعرض من مسرحيات؛ لأن المعروض ضعيف لم يعجبه، وكانت هذه فرصة أخرج فيها كتابا عن المسرح في القرن الثامن عشر، له أعظم الشأن في موضوعه وهو «الفن المسرحي في هامبورج».

21

فلما انتهى مسرح هامبرج إلى الفشل والإفلاس، تعطل لسنج من جديد، حتى عين آخر الأمر أمينا لمكتبة في بلد صغير، وفي هذا المنصب المتواضع لبث حتى وافته منيته في الخامس عشر من فبراير سنة 1781م.

في ذلك البلد الصغير لم يجد الحياة الهادئة، فسرعان ما ثارت خصومة عنيفة بينه وبين قسيس جبار، وخرج أديبنا من الخصومة هزيما خاسرا، لكنه من هذه المحنة المظلمة أمدنا بقبس من الضوء، فمن حر القتال المستعر أخرج لنا «ناتان الحكيم»،

22

وهي صرخة داوية في سبيل التسامح وحرية الفكر أضافت نغمة إلى ما كنت تصر به الأقلام في مختلف الأمم إذ ذاك سعيا وراء الحرية.

واحلولكت أيام «لسنج» وعاش من شقائه في ليل داج، فهو في معركة متصلة تعود عليه بالآلام، ثم ازداد ليله البهيم سوادا حين تزوج من أرملة صديق له في هامبورج، فما لبثت الزوجة «إيفا كينج»

23

أن ماتت بعد عام من زواجها وهي تضع للأديب وليدا، ومات معها وليدها بعد أن لمح فيه «لسنج» دليلا ملموسا للخلود، وبهذا انسدل الستار إلى الأبد على كل أمل في أن يعيش الرجل سعيدا بأسرته كما يعيش سائر الناس.

من هذا الذي عرضناه عليك من حياة «لسنج» تستطيع أن تلمس في الرجل ثلاث نواح بارزة؛ الأولى: أنه أمد المسرح في بلاده بالدعائم التي جعلت بناءه منذ ذلك الحين ثابت الأركان، والثانية: أنه ناقد وضع القواعد والأصول في الشعر والفن، والثالثة: أنه مجاهد كافح رجال الدين ليظفر للناس بحرية الرأي والتسامح.

كان «لسنج» في مسرحياته يستمد الوحي من الآداب الإنجليزية والفرنسية والإيطالية، ولكنه كان يطبعها بطابعه، وهو في الحوار المسرحي بارع لا يدنو منه مسرحي آخر في القرن الثامن عشر، ومن أشهر مآسيه «مس سارا سامسن»

24

التي نقل بها عن الأدب الإنجليزي فن المأساة التي تعالج الحياة المألوفة في أوساط الناس، وهو ضرب من المأساة لم ينشأ إلا منتصف القرن الثامن عشر، وظلت ألمانيا منذ عرفت ذلك الفن بفضل «لسنج» لا تنفك مخلصة له في أدبها المسرحي، فإن كانت قد ساهمت في ذخيرة الأدب المسرحي في العالم، فإنما كان قسطها هو البلوغ بهذا الضرب من المأساة حد الكمال. كان «لسنج» في مأساة «مس سارا سامسن» ناقلا عن الأدب الإنجليزي متأثرا إلى أبعد الحدود بكتاب المسرحية من الإنجليز المعاصرين له، فالرواية مناظرها إنجليزية وأشخاصها إنجليز، استعارهم من القصة الإنجليزية ومن «رتشردسن» بصفة خاصة، ففي «سارا» تلمح شبها قويا بينها وبين «كلارسا»، بل إنه استعار أسماء أشخاصه من المسرحي الإنجليزي «كونجريف»، فلما تلفت «لسنج» إلى إنجلترا ليستمد من أدبها المسرحي لم ينظر إلا إلى إنجلترا المعاصرة، وما علم أن هنالك في إنجلترا التي سلفت كاتبا مسرحيا هو بالقياس إلى من أخذ عنهم عملاق جبار، لكن شيكسبير لم يكن عند لسنج إلا ما صوره به فولتير، شاعرا ضعيفا ليس بذي شأن يذكر.

وفي سنة 1767م - بعد «مس سارا سامسن» باثني عشر عاما - ظهرت مسرحيته الثانية وهي ملهاة «منافون بارنهلم» التي تدب الحياة الصحيحة في أشخاصها، وهي كذلك مدينة للأدب الإنجليزي بدين، فها هنا للمرة الأولى والأخيرة يتأثر الكاتب بشيكسبير، إذ لا يسعك وأنت تصور لنفسك «منا» إلا أن تذكر شخصية «بورشيا» عند شيكسبير في رواية تاجر البندقية، بل إن «لسنج» سار على نهج شيكسبير في حل العقدة كما جاءت في رواية تاجر البندقية، لكنه لم ينس أن يستعير بعض العناصر - أو قل معظم العناصر - من مسرحي إنجليزي معاصر هو «فاكر»،

25

فأنت إذا أردت أن تضيف ملهاة «منا» إلى أشباهها وضعتها إلى جانب الملاهي الإنجليزية التي شهدها القرن الثامن عشر «خطة الشاب الأنيق» لفاكر، «تمسكنت فتمكنت» لجولد سمث، و«مدرسة الفضائح» لشريدان، وأمثالها؛ فهي إلى هذه أقرب جدا منها إلى ملاهي ذلك العصر في فرنسا.

وله كذلك مسرحيتان عظيمتان غير ما ذكرنا هما: «إميليا جالوتي»

26

و«ناتان الحكيم»، أما الأولى فهي خطوة فسيحة نحو تثبيت فن المأساة الذي يعالج الحياة المألوفة، والذي أشرنا إليه في حديثنا عن رواية «مس سارا سامسن»، وهي تعد من أحجار الأساس في بناء المسرحية الألمانية الحديثة، وأما الثانية فقد أخرجها - كما أنبأناك - لتكون سهما يسدد إلى رجال الرجعية والجمود، ولينشد بها الحرية والتسامح، وهي من حيث فنها تبشر بعهد جديد في كتابة المسرحية؛ لأنها عنيت بالتحليل النفسي لأشخاصها أكثر من عنايتها بأي جانب آخر، ومع ذلك فهي نادرة الظهور على المسارح؛ لأنها تعالج موضوعا كان يسيغه أهل القرن الثامن عشر، ولكننا نمجه اليوم، ونعني به الحب ينشأ بين أخ وأخته، ومما يعيبها أيضا أنها ضحت بما يقتضيه البناء الفني للمسرحية في سبيل نشر الآراء التي يريد الكاتب أن يذيعها عن التسامح الديني. ومما هو جدير بالذكر في صدد هذه الرواية كذلك، أن الكاتب عاد فانحرف عن شيكسبير، وجثا على ركبتيه خضوعا أمام عدوه الأدبي اللدود فولتير؛ إذ جاءت هذه المسرحية شبيهة أشد الشبه بمسرحيات فولتير، الذي كانت حياته - كحياة لسنج - معركة طويلة متصلة في سبيل تحرير الإنسانية المستعبدة.

وأما لسنج الناقد فحسبك أن تعلم ما قاله عنه ماكولي من أنه «أعظم ناقد في أوروبا.» وقد ذكرنا لك كتابيه في النقد «لاوكون» و«الفن المسرحي في هامبرج»؛ أما أولهما فيحدد مرحلة من مراحل التطور الفكري في القرن الثامن عشر، فهو أول من فرق بين الفنون المختلفة على أساس اختلاف غاياتها، وقد فقد الكتاب شيئا من أهميته التي كانت له عند صدوره؛ لأنه جاء عندئذ احتجاجا قويا على الشعراء، الذين يطغون بفنهم على ما ينبغي أن يترك للنحت والتصوير. أما نحن اليوم فلا نشاطر الناقد وجهة نظره، ونحاول أن نوحد بين الفنون ونزيل ما بينها من فواصل وفوارق، لا أن نباعد بينها بالحدود الفاصلة كما أراد لسنج. وأما كتابه الثاني عن الفن المسرحي فهو - كما رأينا - نقد صحفي لروايات يومه وممثليها، ولم تكن الروايات والممثلون مما يستحق التقدير والتقريظ، فكان في هذا الركود المسرحي نفسه فرصة سانحة للسنج أن يملأ صحيفته النقدية بالقواعد العامة في المسرحية ما دام المسرح القائم وممثلوه لا يمدونه بالمادة الكافية. والمحور الرئيسي الذي يدور حوله الناقد في بحوثه هو فولتير - لا كتاب الشعر لأرسطو كما يذهب بعض الناقدين - إذ كتاب «الفن المسرحي» في صميمه نقد لفولتير وللأسس التي بنى عليها أشباه الاتباعيين في فرنسا فنهم، هو نقد شديد يهاجم به القيود الخانقة التي فرضتها «المأساة الاتباعية» على نفسها، فضيقت بها على نفسها الخناق. نعم إن لسنج يعرض لكتاب أرسطو، فيعلي من شأنه ويرفع من قدر مبادئه النقدية، لكنه إنما فعل ذلك ابتغاء غاية يرجوها، هي أن يحطم المأساة الاتباعية التي كانت تسود فرنسا، بأن يبين أنها تنحرف عن تلك المبادئ إذا فسرت بمعناها الصحيح، وحقيق بنا أن نذكر في هذا الصدد أنه يرى شيكسبير أقرب إلى القواعد الأرسطية في المأساة من هؤلاء الذين يفاخرون ويتشدقون بحرصهم على اتباع تلك القواعد في فنهم، ولم يقل لسنج ما قاله عن شيكسبير إكبارا له، فقد ذكرنا لك فيما سلف أنه لا يقف موقف الإجلال من شيكسبير، إنما قاله استثارة لغيظ عدوه الأكبر فولتير. وعلى كل حال فلست ترى شيكسبير مذكورا في هذا الكتاب إلا لماما؛ لأن المسرح في هامبرج لم يكن يمثل من رواياته شيئا يذكر، فلم يجد لسنج الفرصة للتعليق الكثير والقول المستفيض حول شيكسبير. ولئن امتدحنا في لسنج صدق النظر في إدراكه أن شيكسبير أكثر انطباقا على قواعد أرسطو من كورني - مثلا - مخالفا بذلك ما يبدو للوهلة الأولى، فإننا لا شك نعد هذا القول وضعا مقلوبا، فكان أولى بالناقد البارع أن يعلي من شأن أرسطو في نقده الأدبي؛ لأنه جاء من المرونة واتساع الأفق، بحيث اتسع لفن شيكسبير، لكننا لا نتوقع مثل هذا القول من رجل يؤمن بالاتباعية في الأدب، غير أنه لا يرضى عن الاتباعية كما أخذ بها الفرنسيون، ويريدها كما يراها في فن اليونان الأقدمين، فهو إن رأى في شيكسبير شيئا يستحق المدح فذلك أنه يطبق قواعد أرسطو وأنه أخ «لسوفوكليز»! كان لسنج ناقدا اتباعيا لا تجري في عروقه قطرة واحدة من النظرة الابتداعية التي وجدت طريقها أول ما وجدت في قلب شيكسبير، غير أنه - كما قلنا - يمتاز من سائر الاتباعيين إذ ذاك في أنه لا يأخذ المذهب كما فسره الإيطاليون والفرنسيون، بل يعود في الطريق بنفسه حتى يواجه فن اليونان عن كثب، فينقل منه رأسا بغير وسيط ... وسواء أخذنا بوجهة نظره في نقد المأساة أو لم نأخذ بها، فقد كان كتابه في «الفن المسرحي» أعظم كتاب أنتجه القرن الثامن عشر في ذلك الفن. (3) شلر

Schiller (1759-1805م)

ولد شلر في «مارباخ»

27

عام 1759م، فهو يصغر جيته بعشر سنوات، وقد عاش حياة يشقيها الفقر والمرض، لكنه احتمل صعابها بصدر رحب وجأش رابط يشتغل جراحا مرة، ومحررا في الصحف مرة، ومديرا لمسرح تارة وأستاذا للتاريخ في جامعة يينا طورا، وقد حدث أن طارده الدوق كارل يوجين ليقذف به في ظلمات السجن، لكنه اختفى وفر، وكان إذ ذاك في عامه الخامس والثلاثين، فكان فراره ذاك فرصة التقائه بجيته.

في ظل هذه الصداقة الأدبية أنجز شلر رواية يعدها «كارليل» أعظم آية في الأدب المسرحي حقيقة أن يفاخر بها القرن الثامن عشر على الرغم من علته الشديدة التي كانت تقتضيه ساعات من الألم كلما جلس إلى مكتبه ساعة واحدة، وتلك هي رواية «والنشتين»

28

وهي ثلاثية، أي أنها تتألف من ثلاث روايات يكمل بعضها بعضا.

بدأ شلر أدبه المسرحي بروايات نثرية مثل «اللصوص» و«أكلة البشر والحب» وهي كلها مسرحيات تعالج شئون الحياة المألوفة في حياة الطبقة الوسطى، وهو النوع الجديد الذي ظهر في أدب القرن الثامن عشر نتيجة لارتفاع تلك الطبقة الوسطى وشعورها بوجود نفسها، ويمتاز شلر في رواياته بقوة «الحبكة» وبراعة التصوير للشخصيات، ولك فوق ذلك أن تعده واضع الأساس لفن الحوار النثري في مآسي العصر الحديث، وإن كانت تلك المسرحيات الأولى معيبة في شيء، فذاك إسرافها في العنف والتهويل، وهو أمر طبيعي من شاب يضطرم صدره بالعواطف الجياشة، فلما أن نضج واكتمل وتعمق في التاريخ والفلسفة، أخذ يكتب المسرحية التاريخية الرصينة والمأساة القوية شعرا، فأنتج وهو في «يينا» و«فيمار» مجموعة من المسرحيات تعد بين الروائع، منها «دون كارلوس» و«عذراء أورليان» و«ماري ستيورت» و«وليم تل»

29

والمسرحية الثلاثية «والنشتين » والأخيرتان هما أجمل ما كتب.

كانت «وليم تل» آخر ما جادت به قريحته، فقد حدث أن هم جيته بكتابة ملحمة تدور حول هذا البطل السويسري الذي تتألف سيرته من التاريخ الصحيح وأوهام الأساطير في مزيج واحد، ومن أخباره أن «جسلر»

30

الطاغية أمره أن يضرب بسهمه تفاحة توضع على رأس ابنه، فإن أخطأ الهدف كان جزاؤه القتل، لكن جيته لم ينته في مشروع ملحمته إلى شيء، فصمم شلر أن يخرج الموضوع في مأساة مسرحية، إذ كان الأديبان الصديقان قد تحدثا في الأمر مليا فملأ الموضوع نفس شلر واعتزم أن يخرجه، وجاءت المأساة رائعة بارعة، تقبلها الناس أحسن القبول؛ لأنها رمز حي قوي لما ينشدونه من حرية لأنفسهم، وقد عمل جيته على تمثيلها في «فيمار». ومن مواقف الرواية التي تملك على النظارة الأفئدة والقلوب ساعة ينتصر «تل» في تصويب سهمه إلى التفاحة، فيخلص بهذا من المحنة القاسية التي تعرض لها بأمر من المستبد الطاغية، وهنا لحظ المستبد «جسلر» سهما آخر في منطقة «تل» فاستوضحه الأمر.

تل (مضطربا) :

إنها عادة اعتادها رماة السهام يا مولاي.

جسلر :

كلا يا «تل» لا أستطيع أن أغضي عن هذا الجواب.

إني لموقن أن قد دفعك إلى ذلك دافع آخر.

خبرني الحق في صراحة وصدق

وأعدك بالنجاة كائنا ما كان الأمر،

فيم هذا السهم الثاني؟

تل :

إذن فاسمع يا مولاي.

فما دمت قد وعدت ألا توردني موارد الهلاك

فسأعلن الحق في غير خفاء. (يجذب السهم من منطقته، وينظر إلى الحاكم نظرة مخيفة):

لو كنت أصبت ولدي العزيز بيدي

لوجهت هذا السهم الثاني إلى قلبك

وثق أني ما كنت عندئذ لأخطئ الهدف.

ومات شلر سنة 1805م فانتهت بموته الفترة الاتباعية في الأدب الألماني، فلئن بقي جيته بعد ذلك حيا حتى سنة 1832م فقد كان المذهب الابتداعي الجديد الذي استهل به القرن التاسع عشر قد ذاع وانتشر.

الفصل الرابع عشر

في الأدب العربي

من سقوط بغداد إلى نهاية القرن الثامن عشر

بلغ الأدب العربي ذروته قبل سقوط بغداد، أي في النصف الأول من القرن السابع الهجري، أو النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تغلب الفرس أولا والترك ثانيا، ولكنهم حافظوا على السيادة العربية، ولو ظاهرا بالبقاء على الخلافة، وانتقالهم إلى اللغة العربية يتأدبون بها، ويظهرون بها نتاج أفكارهم وعقولهم، وعلى كل حال فلم تكن سلطة الفرس والأتراك سلطة تدمير وتخريب، وظلت الحركة العلمية والأدبية في عهدهما نامية زاهرة، ولم يترك المتكلمون باللغة العربية ناحية من نواحي العلم والأدب إلا عالجوها وبحثوا عنها وألفوا فيها، فكانت ثروتهم إذا قيست بثروة الأمم الأخرى في عصرهم من أغنى الثروات، وعقليتهم وتفكيرهم وأدبهم من خير ما في العالم إن لم يكن خيره.

حتى جاء هجوم التتار فأفسد كل شيء، إذ كان اعتداء مخربا مدمرا، من قوم متبربرين لا ثقافة عندهم، ولا مبادئ، ولا عدل، ولا دعوة، ولا غرض إلا التسلط والإبادة والإخضاع.

فقد تحرك المغول من التتار الذي يسكنون جنوبي سيبيريا، وهم قوم شداد غلاظ كانوا يعيشون على الغارة والصيد، وكان بأسهم بينهم شديدا، حتى رأسهم جنكيز خان فوحد كلمتهم. وبعد أن أتم فتوحه في الشرق الأقصى اتجه نحو الغرب، فهجم على المملكة الإسلامية فيما وراء النهر، واستولى على مملكة شاه خوارزم، ثم اكتسح بجيوشه خراسان وفارس يذبح أهلها، ويخرب حضارتها.

ثم جاء هولاكو حفيد جنكيز خان، فصمم على الاستيلاء على الدولة العباسية سنة 654ه / 1256م وعرج على قلعة ألموت ففتحها، وأخذها من الإسماعيلية وقتل من فيها، واستولى على الري، ثم قصد بغداد سنة 655ه / 1257م وكان أهلها في خلاف بين سنيين وشيعيين، وقد خدع الخليفة المستعصم وفقهاء المدينة وأعيانها، حتى حضروا إلى هولاكو في معسكره فأمر بذبحهم، ثم هجم على دار الخلافة، فاستولى على ما بها وأباح بغداد أربعين يوما وقتل من أهلها - كما يقول بعض المؤرخين - أكثر من مليون وثمانمائة ألف، وخرب عمرانها ورمى كتبها في دجلة، وبذلك قضى على حضارة ونتاج عقول ظلت تعمل قرونا. وأصبحت بغداد - التي كانت ملجأ العلماء والأدباء ومضرب المثل في المدنية والحضارة - تنعى من بناها.

وقد أثرت هذه الغزوات في العالم العربي أسوأ الأثر، فهذه المنطقة التي اكتسحها التتار كانت أنضر وأنضج بقعة في الحياة العقلية والأدبية، يقلدها ويحذو حذوها سائر الممالك العربية، فلما فقدت فقد المتعلمون أساتذتهم. وقد استمر هذا الإفساد والتخريب مدة طويلة اجتثت فيها الأشجار من جذورها، فقد ظل هؤلاء المغول من 654-750ه أي نحو قرن، وهم يحكمون المسلمين بقسوتهم وجهالتهم ووثنيتهم إلى أن بدءوا يتحضرون ويقومون العلم ويسلمون.

قال الديار بكري في تاريخه «الخميس»:

وفي سنة أربع وخمسين وستمائة خرج الطاغية العنيد مبيد الأمم هولاكو، فأخذ قلعة ألموت من الإسماعيلية وقتلهم، وأخرب نواحي الري، وبذلت السيوف على عوائدهم، فتوجه الكامل محمد - صاحب ميافارقين - إلى خدمة هولاكو، فأعطاه الفرمان، ثم نزل هولاكو بأذربيجان وأخذها.

وفي سنة خمس وخمسين وستمائة ثارت فتنة مهولة ببغداد بين السنية والرافضة أدت إلى نهب عظيم وخراب، وقتل عدة من الرافضة، فغضب لها وتنمر ابن العلقمي الوزير، وجسر التتار على العراق ليشتفى من السنية.

وفي أول سنة ست وخمسين وستمائة وصل الطاغية هولاكو - ابن تولى بن جنكيز خان المغلى - بغداد بجيوشه وبالكرج وبعسكر الموصل، فخرج الدويدار بالعسكر، فالتقى بطلائع هولاكو وعليهم ياجنوس، فانكسر المسلمون لقلتهم. ثم أقبل ياجنوس فنزل على بغداد من غربيها ونزل هولاكو من شرقيها. فقال الوزير ابن العلقمي للخليفة المستعصم بالله: إني أخرج إلى القاءان الأعظم في تقرير الصلح. فخرج الكلب وتوثق لنفسه ورجع. فقال: إن القاءان قد رغب في أن يزوج بنته بابنك، وأن تكون الطاعة له كالملوك السلجوقية ويرحل عنك. فخرج المستعصم في أعيان دولته وأكابر الوقت ليحضروا العقد، فضربت رقاب الجميع، وقتلوا الخليفة رفسوه حتى مات. ودخلت التتار بغداد واقتسموها، وأخذ كل ناحية، وبقي السيف يعمل أربعة وثلاثين يوما، وقل من سلم، فبلغت القتلى ألف ألف وثمانمائة ألف وزيادة. فعند ذلك نادوا بالأمان، ثم أمر هولاكو بضرب عنق ياجنوس، لكونه كاتب الخليفة، وأرسل إلى صاحب الشام يهدده إن لم يخرب أسوار بلاده.

كذا في «دول الإسلام».

وفي تاريخ الجمالي يوسف: سبب قتل المستعصم بالله أنه لما ولي الخلافة لم يتوثق أمره؛ لأنه كان قليل المعرفة بتدبير الملك، نازل الهمة، مهملا للأمور المهمة، محبا لجمع المال. أهمل أمر هولاكو وانقاد إلى وزيره ابن العلقمي، حتى كان في ذلك هلاكه وهلاك الرعية، فإن وزيره ابن العلقمي الرافضي كان كتب كتابا إلى هولاكو ملك التتار في الدشت أنك تحضر إلى بغداد، وأنا أسلمها لك. وكان قد داخل قلب اللعين الكفر. فكتب هولاكو: إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقا فيما قلته وداخلا في طاعتنا فرق عساكر بغداد ونحن نحضر، فلما وصل كتابه إلى الوزير، دخل إلى المستعصم وقال: إن جندك كثيرة، وعليك كلفة كبيرة، والعدو قد رجع من بلاد العجم، والصواب أنك تعطي دستورا لخمسة عشر ألفا من عسكرك، وتوفر معلومهم. فأجابه المستعصم لذلك. فخرج الوزير لوقته، ومحا اسم من ذكر من الديوان، ثم نفاهم من بغداد، ومنعهم من الإقامة بها، ثم بعد شهر فعل مثل فعلته الأولى، ومحا اسم عشرين ألفا من الديوان، ثم كتب إلى هولاكو بما فعل. وكان قصد الوزير بمجيء التتار أشياء، منها: أنه كان رافضيا خبيثا، وأراد أن ينقل الخلافة من بني العباس إلى العلويين، فلم يتم له ذلك، من عظم شوكة بني العباس وعساكرهم، فأفكر أن هولاكو إذا قدم يقتل المستعصم وأتباعه، ثم يعود إلى حال سبيله، وقد زالت شوكة بني العباس، وقد بقي هو على ما كان عليه من العظمة والعساكر وتدبير المملكة، فيقوم عند ذلك بدعوة العلويين الرافضة من غير ممانع لضعف العساكر ولقوته، ثم يضع السيف في أهل السنة.

فهذا كان قصده، لعنه الله.

ولما بلغ هولاكو ما فعل الوزير ببغداد، ركب وقصدها إلى أن نزل عليها، وصار المستعصم يستدعي العساكر ويتجهز لحرب هولاكو، وقد اجتمع أهل بغداد وتحالفوا على قتال هولاكو، وخرجوا إلى ظاهر بغداد، ومشى عليهم هولاكو بعساكره، فقاتلوا قتالا شديدا، وصبر كل من الطائفتين صبرا عظيما، وكثرت الجرحى والقتلى في الفريقين، إلى أن نصر الله تعالى عساكر بغداد، وانكسر هولاكو أقبح كسرة ، وساق المسلمون خلفهم، وأسروا منهم جماعة، وعادوا بالأسرى ورءوس القتلى إلى ظاهر بغداد، ونزلوا بخيامهم مطمئنين بهروب العدو. فأرسل الوزير ابن العلقمي في تلك الليلة جماعة من أصحابه، فقطعوا شطر الدجلة، فخرج ماؤها على عساكر بغداد وهم نائمون، فغرقت مواشيهم وخيامهم وأموالهم، وصار السعيد منهم من لقي فرسا يركبها. وكان الوزير قد أرسل إلى هولاكو يعرفه بما فعل، ويأمره بالرجوع إلى بغداد، فرجعت عساكر هولاكو إلى ظاهر بغداد، فلم يجدوا هناك من يردهم، فلما أصبحوا استولوا على بغداد، وبذلوا فيها السيف، ووقعت منهم أمور يطول شرحها.

والمقصود أن هولاكو استولى على بغداد وأخذ المستعصم أسيرا، ثم بذل السيف في المسلمين، فلم يرحم شيخا كبيرا لكبره، ولا صغيرا لصغره.

ولما أخذ الخليفة أسيرا هو وولده أحضر بين يديه، وأمر به هولاكو، فأخرج من بغداد، وأنزله بمخيم صغير بظاهر بغداد هو وولده. ثم في عصر ذلك اليوم وضع الخليفة وولده في عدلين وأمر التتار برفسهما إلى أن ماتا في المحرم سنة ست وخمسين وستمائة، ثم نهبت دار الخلافة ومدينة بغداد، حتى لم يبق فيها لا ما قل ولا ما جل. ثم أحرقت بغداد بعد أن قتل أكثر أهلها، حتى قيل إن عدة من قتل في نوبة هولاكو يزيد على ألف ألف وثلاثين ألف إنسان. وانقرضت الخلافة من بغداد بقتل المستعصم هذا، وبقيت الدنيا بلا خلافة سنين، إلى أن أقام الملك الظاهر بيبرس البندقداري بعض بني العباس في الخلافة، حسبما يأتي ذكره على سبيل الاختصار.

وكانت خلافة المستعصم خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وأياما، وتقدير عمره سبع وأربعون سنة. وزالت الخلافة من بغداد.

قال الشاعر:

خلت المنابر والأسرة منهم

فعليهم حتى الممات سلام

أما الوزير ابن العلقمي فلم يتم له ما أراد من أن التتار يبذلون السيف في أهل السنة، فجاءوا بخلاف ما أراد، وبذلوا السيف في أهل السنة والرافضة كلهم، وهو في منصبه مع الذل والهوان، وهو يظهر قوة النفس والفرح، وأنه بلغ مراده، فلم يلبث أن أمسكه هولاكو بعد قتل المستعصم بأيام، ووبخه بألفاظ شنيعة معناها أنه لم يكن له خير في مخدومه ولا في دينه، فكيف يكون له خير في هولاكو؟

ثم إنه قتله شر قتلة، في أوائل سنة سبع وخمسين وستمائة.

إلى سقر، لا دنيا ولا آخرة! اه.

وما كادت الأمة تفيق من غشيتها، حتى جاء تيمورلنك فأعاد سيرة أجداده جنكيز خان وهولاكو، واجتاح آسيا الصغرى، وأكثر في الأرض الفساد والتخريب والقتل.

والشام التي استعصت على هولاكو لم تستعص على تيمورلنك، فخربها فيما خرب، وقتل علماءها فيمن قتل، ومات سنة 807 بعد أن عصف بالبلاد عصفة ثانية.

فلا عجب بعد هذا كله أن تذبل الحياة العلمية والأدبية في العالم العربي، وأن يكون طابع النتاج العقلي والفني طابع تقليد للسابقين، أو جمع لما قال الأولون، وألا ترى ابتكارا إلا في القليل النادر.

لقد أغلق الشرق على نفسه من القرن الثالث عشر الميلادي إلى نهاية القرن الثامن عشر تقريبا، فلم يتصل بالغرب إلا اتصالا عدائيا حربيا في الحروب الصليبية، أو اتصالا تجاريا ضعيفا، أما اتصالا ثقافيا علميا أدبيا فلا. ولهذا لما بدأ الغرب في القرن الخامس عشر والسادس عشر يضع أساس نهضته في العلوم والفنون والسياسة والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك مما غير وجه حياته تغييرا تاما لم يصل إلى الشرق شيء منها، ولم يشعر بها، واستمر في دائرته المغلقة يقلد حياة الشرق الأولى من غير روح، ولم يتنبه للحياة الجديدة في الغرب إلا عند غزو نابليون مصر.

العراق وما حوله أفسده وخربه التتار، وعرب الأندلس انسحبوا أمام غزوات الإسبان، وبلاد الغرب أصبحت فريسة للبربر، ومصر والشام خضعتا لاستبداد المماليك، ثم الأتراك العثمانيين. فكيف نرجي من هذا كله نهضة علمية أو أدبية، ولا حرية لأهل البلاد، ولا عدل حكام، ولا استقاء من منابع جديدة تحرك الركود؟ لذلك كان أكثر ما نعرضه من الحياة العلمية والأدبية حياة تقليدية لما كان قبل سقوط بغداد غالبا.

وفي هذه الحقبة من التاريخ كانت أصلح بقعة في العالم العربي للعلم والأدب هي مصر والشام؛ لأنهما أمنا من تخريب هولاكو - أولا - وأمنت مصر من تخريب تيمورلنك ثانيا، ولأنهما كانتا تحت حكم المماليك، وهم كانوا أرحم من التتار، وكانوا يجلبون من بلاد مختلفة ليس لهم فيها تاريخ ولا لغة ولا أدب يتعصبون له، ثم رأوا أن البلاد التي يحكمونها تتعصب للغتها ودينها وتاريخها، ورأوا أن الحاكم لا بد لسهولة حكمه أن يجاريهم في شعورهم الديني واللغوي، فتحببوا إلى الناس بمظاهر الدين، ومظاهر اللغة والأدب، وأكثروا من بناء المساجد والمدارس، وقربوا العلماء والشعراء، فحيى العلم والأدب في حمايتهم ما لم يحي مثله في سائر البلاد العربية، فازدحمت القاهرة والإسكندرية وأسيوط وقوص في مصر، ودمشق وحلب في الشام، بالعلماء والمدارس والمكاتب، ونشطت الحياة العلمية والأدبية، ولكن في الحدود التي رسمناها من قبل. (1) الشعر

كان الشعر العربي في العصر العباسي وقبله شعرا أرستقراطيا في الأعم الأغلب، يزهر في بلاط الخلفاء، وقصور الأمراء، ولهذا كان أكثره مديحا، وقل أن نجد شاعرا يشعر في نقد المجتمع أو تحليل مشاعره، كما فعل أبو العلاء المعري. وبجانب هؤلاء شعراء غنوا لأنفسهم في حبهم وغزلهم أو ولوعهم بالخمر كأبي نواس، ولكنهم بجانب شعرهم هذا هم شعراء مداحون أيضا، متصلون بالبلاط والأمراء، يعتمدون عليهم في معيشتهم، وقل أن نجد مثل العباس بن الأحنف الذي يشعر لحبه فقط.

ولهذا كان عماد الشعر هم الخلفاء والأمراء في مجالسهم وذوقهم، وكان هؤلاء الخلفاء والأمراء يتذوقون الشعر، ويعرفون جيده ورديئه، وكثير منهم يشارك في قوله، ويثيب عليه بمقدار جودته وخدمة أغراضه. فلما سقطت بغداد، وأصبح البلاط بلاط أعاجم، والأمراء ومن بيدهم مقاليد الأمور أعاجم، لا يحسنون العربية، ولا يتذوقون المديح وإن أثابوا الشعراء فعن تقليد لا عن ذوق؛ ضعف هذا النوع وهو أكثر الشعر، وصار تقليدا ضعيف الروح، فاتر الحرارة، مهلهل النسج.

ثم لم يكن الجو جو حرية تنمو فيه مشاعر الفنان فيغني لنفسه، ويشعر لعواطفه، بل كان الجو خانقا، وعيشة الشعب ضنكا، ومن لم يكن من طبقة الحكام وأتباعهم جاهد في الحياة جهادا مرا لتحصيل القوت، ومحال أن تنمو مشاعر الفنان الذي يريد أن يغذي مشاعره ومشاعر من حوله بفنه في هذا الجو الخانق البائس. ثم أصيب الفن بفكرة قاتلة، وهي ظن أهله أن قيمته في كثرة حليته، كالفلاحة الساذجة ترى أن جمالها في ملء يديها بالأساور الكثيرة، وصدرها بالعقود الضخمة، وأذنها بالقرط الثقيل الوزن، ورجلها بالخلخال الضخم، وثيابها بما يبرق ويلمع، فإن لم تفعل ذلك لم يكن جمالا. وهيهات أن تفهم أن هناك جمالا للبساطة يفوق جمال التركيب والتعقيد، وأن جمال السوار ليس في ضخامته، ولا القرط في ثقل وزنه، ولا الثوب ببريقه ولمعانه، فقد يكون سوار بسيط فيه من الجمال ما يفوق أضعافه وزنا، وأن من الألوان الباهتة ما يفوق الألوان الصارخة، ولكن هذا الجمال الذي أدركه أمثال البهاء زهير لم يدركه كثير من شعراء هذا العصر وكتابه، وأفسدهم أمثال الصاحب بن عباد، وابن العميد، والقاضي الفاضل، والعماد، وشعراء البديع، فظنوا أن الفن هو الحلية. وما زال كل جيل يأتي يتفنن في زيادة هذه الحلية، حتى ثقلت عليه وأعجزته عن الحركة، وأفقدته روحه.

وما أكثر من نجد في هذه العصور من أسماء الشعراء، ولكن ما أقل من نجدهم من الشعراء حقا!

لقد كان الشعر تقليدا، يقرأ الشاعر من المتأخرين ما تصل إليه يده من دواوين السابقين، ويستل معانيهم، ويصوغها صياغة من عنده هي في الأغلب أقل قيمة من صياغة من سبقه، وإن زاد في حليتها. كما قال مجير الدين بن تميم الأسعردي الذي توفي بحماة سنة 684ه:

أطالع كل ديوان أراه

ولم أزجر عن التضمين طيري

أضمن كل بيت فيه معنى

فشعري نصفه من شعر غيري

والشاعر يقلد ولو لم يذق، يكون رجل دين فيتغزل في الخمر، وعفيفا فيتغزل في المذكر، وفي وسط المدينة فيبكي الأطلال والدمن، وهكذا من أنواع التقليد السمج.

ولما فقدوا المعاني والعواطف عمدوا إلى الزينة يفرطون فيها؛ لتكون عوضا عما فقدوا، وهيهات أن تعوض الروح بمادة، فأسرفوا في التورية، كقول نصير الدين الحمامي، وكتب به إلى السراج الوراق، وكان يسكن «الروضة».

كم قد ترددت للباب الكريم لكي

أبل شوقي وأحيي ميت أشعاري

وأنثني خائبا مما أؤمله

وأنت في «روضة» والقلب في نار

والتضمين كقول أبي الحسين الجزار:

قفا نبك من ذكري قميص وسروال

ودراعة لي قد عفا رسمها البالي

وما أنا من يبكي لأسماء إن نأت

ولكنني أبكي على فقد أسمالي

والاقتباس كقول ابن العفيف التلمساني:

يا عاشقين حاذروا

مبتسما من ثغره

فطرفه الساحر مذ

شككتم في أمره

يريد أن يخرجكم

من أرضكم بسحره

وهكذا تفننوا في أنواع البديع، وتسابقوا في استكشافها وتسميتها والإكثار من القول فيها، حتى أوصلها ابن حجة الحموي إلى 142 نوعا، زادها من أتى بعده أيضا، وجاءوا في شعرهم بأمثلة كثيرة منها:

ومما كثر في هذه العصور وذاع وشاع؛ المدائح النبوية، فكأنهم لما حرموا عطاء الملوك والأمراء على مدائحهم، وغلب على الناس الالتجاء إلى الدين لفساد الدنيا، وشاع التصوف سواء ما كان منه صحيحا أو مزيفا، كثر اتجاه الشعراء إلى المدائح النبوية، وكان كل شاعر يتفوق في الشعر يرى واجبا عليه أن يقول في هذا الباب. وكان من أسبقهم في هذا البوصيري المصري (1211-1294م)، وقد قلد قصيدة «بانت سعاد» لكعب بن زهير. وكان البوصيري من تلاميذ أبي العباس المرسي في التصوف، وكان فقيرا كثير الشكوى من كثرة الأولاد، وكان كاتبا صغيرا من كتاب الحساب، وقد مدح الأمير التركي أيدمر واستجداه في قصيدة بلغت 310 من الأبيات.

وأهميته الكبرى في مدائحه النبوية، فقد أنشأ البردة التي مطلعها:

أمن تذكر جيران بذي سلم

مزجت دمعا جرى من مقلة بدم

وهي في 159 بيتا.

والهمزية التي مطلعها:

كيف ترقى رقيك الأنبياء

يا سماء ما طاولتها سماء

وهي طويلة ذكر فيها حياة الرسول ومعجزاته وغزواته.

وذخر المعاد على وزن «بانت سعاد»، وهي 206.

وقد راجت قصائده هذه رواجا كبيرا بين الشعب، وخاصة البردة والهمزية؛ لأن شعره فيهما من أحسن الشعر في نظر أهل العصر، ولأنهما تتفقان ومشاعر الجمهور وميله إلى الابتهال وتجاوبان مطالب نفسه.

ومن عظم شأن البردة أن كانت مثل كثير من الشعراء يقلدونها إلى زمن البارودي، فقال على وزنها وقافيتها قصيدته:

يا رائد البرق يمم دارة العلم

واحد الغمام إلى حي بذي سلم

وشوقي في قصيدته «نهج البردة» ومطلعها:

ريم على القاع بين البان والعلم

أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

وأكثر الناس من تشطيرها وتخميسها.

وتفنن المقلدون للبردة كل تفنن، فمن ذلك أنهم وضعوا قصائد في المديح النبوي ضمنوها كل أنواع البديع، فكل بيت فيه نوع من البديع وفيه تمثيل له، وسميت كل قصيدة «بديعية»، وبدأ ذلك صفي الدين الحلي (750ه) فعمل بديعيته التي أولها:

إن جئت سلعا فسل عن جيرة العلم

واقر السلام على عرب بذي سلم

وجاء بعده ابن نباتة (768ه) فعمل بديعيته:

صحا القلب لولا نسمة تتخطر

ولمعة برق بالفضا تتسعر

وجاء عز الدين الموصلي (789ه) فزاد على ذلك أن جعل البيت من القصيدة يحمل اسم النوع البديعي وأولها:

براعة تستهل الدمع في العلم

عبارة عن نداء المفرد العلم

وتبعه ابن حجة الحموي (837ه)، فعمل بديعيته المشهورة على هذا المنوال ومطلعها:

لي في ابتدا مدحكم يا عرب ذي سلم

براعة تستهل الدمع في العلم

إلخ إلخ ...

وهكذا سال سيل هذا النوع من الشعر في ذلك العصر، فما وجد الشعراء بابا يفتح للتقليد حتى ازدحموا عليه، وأوسعوه قولا، وما أسهل التقليد وأصعب الابتكار.

وقد ترجمت البردة إلى الفرنسية والإنجليزية والألمانية. •••

وأكثروا من المقطعات في وصف الأشياء المألوفة كوصف سجادة ووصف مسبحة، وفي الحوادث التي تعرض كوصف سقوط مئذنة وقتل زنديق، كما أكثروا من الأبيات في الألغاز وأمثال ذلك من موضوعات خفيفة.

وفي العصر العثماني أكثروا من مقطوعات التاريخ وعدوه نوعا من البديع، وهو أن يأتي الشاعر بكلمات إذا حسبت حروفها بحساب الجمل بلغت عدد السنة التي يريدها الشاعر، فأرخوا لقدوم وال، وعرس غني، وموت عالم.

وأفرطوا في أقوال الهجر بألفاظ عارية صريحة لا تورية فيها ولا إيماء، مع ضعف في الأسلوب، وضعة في المشاعر، وإغارة على معاني السابقين.

وعلى الجملة فقد سقط الشعر أسلوبا ومعنى وعاطفة وخيالا إلا في القليل النادر.

شهد هذا العصر في أوله «صفي الدين الحلي»، وقد عده بعضهم أكبر شعراء عصره (1278-1351م)، وقد ولد في الحلة (مدينة كبيرة في العراق على شاطئ الفرات)، وزار القاهرة في عهد الملك الناصر، ثم عاد إلى ماردين، واتصل ببلاط الأسرة الأرتقية في ماردين وكان شاعرها.

وهو يمثل أكبر تمثيل شعر عصره من التصنع واللعب بأنواع البديع. فمثلا أنشأ القصائد الأرتقيات وهي تشتمل على 29 قصيدة، كل قصيدة 29 بيتا، وكل قصيدة لحرف من حروف الهجاء، يبتدئ كل بيت به وينتهي به، فقصيدة أول كل بيت فيها همزة وآخره همزة وهكذا. ومحال أن تجتمع الروح الشعرية العالية مع هذا التصنع البالغ. وكلها في مدح الملك المنصور الأرتقي الذي حكم ماردين من سنة 1274 - سنة 1312م، وقد قال شعرا في مصر في مدح ملكها، وقد ترجم شعره المصري إلى اللاتينية والألمانية، وطبع ديوانه في دمشق وبيروت، ومن أحسن شعره قوله:

إن غبت عن عياني

يا غاية الأماني

فالفكر في ضميري

والذكر في لساني

ما حال عنك عهدي

ولا انثنى عناني

شوقي إليك باق

والصبر عنك فاني

وقوله:

قد نشر الزنبق أعلامه

وقال : كل الزهر في خدمتي

لو لم أكن في الحسن سلطانه

ما رفعت من دونه رايتي

فقهقه الورد به ساخرا

وقال: ما تحذر من سطوتي؟

وقال للسوسن: ماذا الذي

يقوله الأشيب في حضرتي؟

فامتعض الزنبق من قوله

وقال للأزهار: يا رفقتي

يكون هذا الجيش بي محدقا

ويضحك الورد على شيبتي

ومن ملحه الطريفة الدالة على نزعة تجديدية قوله:

إنما الحيزبون والدردبيس

والطخا والنقاخ والعلطبيس

لغة تنفر المسامع منها

حين تروى وتشمئز النفوس

وقبيح أن يذكر النافر الوح

شي منها ويترك المأنوس

أين قولي: هذا كثيب قديم

ومقالي: عقنقل قدموس

خل للأصمعي جوب الفيافي

في نشاف

1

تخف فيه الرءوس

إنما هذه القلوب حديد

ولذيذ الألفاظ مغناطيس •••

وتنوعت بسط الرياض، فزهرها

متباين الأشكال والألوان

من أبيض يقق، وأصفر فاقع

أو أزرق صاف، وأحمر قاني

والظل يسرق في الخمائل خطوه

والغصن يخطر خطرة النشوان

وكأنما الأغصان سوق رواقص

قد قيدت بسلاسل الريحان

والشمس تنظر من خلال فروعها

نحو الحدائق نظرة الغيران

والطلع في خلل الكمام كأنه

حلل تفتق عن نحور غواني

والأرض تعجب كيف تضحك والحيا

يبكي بدمع دائم الهملان

فاصرف همومك بالربيع وفصله

إن الربيع هو الشباب الثاني

كما اشتهر ابن نباتة (1287-1366م)، وقد ولد في ميافارقين ونشأ في مصر، ورحل إلى دمشق، واتصل بالملك المؤيد أمير حماة، وكان كاتبا له، ودعاه السلطان حسن ليكون كاتبه في مصر فلبى الدعوة، ولكن السلطان مات في السنة التالية، وقد خلف لنا ديوان شعر، وهو كثير الشكوى فيه من فقره وبؤسه وشيبه وزمانه وكثرة أولاده، ومن أمثلة شعره قوله:

منعتني الدنيا جنى فتزهد

ت ولكن تزهد المغلوب

ووهت قوتي فأعرضت كرها

عن لقاء المكروه والمحبوب •••

لا عار في أدبي إن لم ينل رتبا

وإنما العار في دهري وفي بلدي

هذا كلامي وذا حظي فيا عجبا

مني لثروة لفظ وافتقار يد •••

لقد أصبحت ذا عمر عجيب

أقضي فيه بالأنكاد وقتي

من الأولاد خمس حول أم

فوا حرباه من خمس وست! •••

تركت المال والجاه

لأهل القدر والقدرة

فحسبي من حمى كسر

وحسبي من غنى كسره •••

لقد أصبحت في حال

يرق لمثلها الحجر

مشيب وافتقار يد

فلا عين ولا أثر •••

وقالوا فلان رم بالشعر عيشه

فيا ليت أني ميت لست أشعر

تصرم أقصى العمر أدعوك للمنى

وأرقب آفاق الرجاء وأنظر

وأصبر والأيام تقتلني أسى

فها أنا في الدنيا قتيل مصبر

أرى دون حظي مسلكا متوعرا

إذا ما جرت فيه المنى تتعثر

ويحمر دمعي حين تصفر وجنتي

فألبس ثوب الهم وهو مشهر

ولا ذنب لي عند الزمان كما ترى

سوى كلم كالروض تبهى وتبهر

ومما شغف به ابن نباتة مراعاة النظير، كقوله:

وكنت أخا سعدى فأصبحت عمها

فهيهات لي جد بتقبيل خالها

وقد تنازع صفي الدين الحلي، وابن نباتة المصري زعامة الشعر في عصرهما، هذا في مصر وذاك في العراق، وقالا الشعر في كل الأغراض التي قال فيها الشعر من سبقهما، من غزل، وخمريات، ومديح، وشكوى. ويغلب على ابن نباتة الشكوى، ويغلب على صفي الدين الفخر والمديح. وقد كانت نفسية ابن نباتة أضعف، فقد عاش أكثر حياته في ظل الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقد كان مستبدا جبارا، وعهده مملوء بالفتن والقلاقل، وقد دعاه حذره إلى كثرة سفكه للدماء ومصادرته للأموال والإفراط في التجسس، فأمات بذلك النفوس، هذا إلى أن ابن نباتة كان مرزأ من فقر، وكثرة عيال، وموت أطفال، ومن أجل ذلك لا ترى في شعره هجاء قويا ولا نقدا لعمل من الأعمال، ولا التفاتا إلى الشعب، وظلم الراعي له، وإذا عاتب عاتب عتابا رقيقا كقوله:

لئن ضاع مثلي عند مثلك إنني

لعمر المعالي عند غيرك أضيع

متى تنجع الشكوى إذا أنا لم أجد

لديك اعتناء غير أنك تسمع

وإذا عادى أحدا فوض أمره إلى يوم الحساب:

لي خصوم ولست الآن شاكيهم

لكنهم في غد يدرون أين شكوا

ولكن صفي الدين الحلي كان أقوى وأكثر اعتدادا بنفسه، يقول الكثير في الفخر من مثل قوله:

وفتية إن نقل أصغوا مسامعهم

لقولنا أو دعوناهم أجابونا

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة

يوما وإن حكموا كانوا موازينا

وعلى الجملة فكان شعر صفي الدين أجزل وأقوى، وأقرب إلى الديباجة العربية العباسية، وأقل احتفالا بالبديع، وكان ابن نباتة أسهل وأرق وأملأ بالفكاهة، وأكثر زينة بأنواع البديع.

وكان بين الشاعرين صلة ود، تبادلا الشعر، وتقارضا المديح، وكان كل منهما مثالا يحتذى لشعراء عصره.

ثم البوصيري، وقد تقدم ذكره.

ثم الشاب الظريف، وهو محمد بن سليمان، ولد بمصر سنة 661ه ومات شابا، وقد كان أبوه عفيف الدين التلمساني شاعرا كذلك محسنا.

والشاب الظريف شاعر غزل خفيف الروح، أولع بالبديع كأهل زمانه، ولكنه استعمله في رقة وعذوبة، كقوله:

عفا الله عن قوم عفا الصبر منهم

فلو رمت ذكرى غيرهم خانني الفم

تجنوا كأن لا ود بيني وبينهم

قديما وحتى ما كأنهم هم

وبالجزع أحباب إذا ما ذكرتهم

شرقت بدمع في أواخره دم

ألم وما في الركب منا متيم

وعاد وما في الركب إلا متيم

وليس الهوى إلا التفاتة طامح

يروق لعينيه الجمال المنعم

خليلي ما للقلب هاجت شجونه

وعاوده داء من الشوق مؤلم

أظن ديار الحي منا قريبة

وإلا فمنها نفحة تتنسم

وقال فيما يجد العاشق وما يصنع:

لا تخف ما فعلت بك الأشواق

واشرح هواك فكلنا عشاق

فعسى يعينك من شكوت له الهوى

في حمله، فالعاشقون رفاق

لا تجزعن فلست أول مغرم

فتكت به الوجنات والأحداق

واصبر على هجر الحبيب فربما

عاد الوصال وللهوى أخلاق

كم ليلة أسهرت أحداقي بها

وجدا وللأفكار بي إحداق

يا رب قد بعد الذين أحبهم

عني وقد ألف الفراق فراق

واسود حظي عندهم لما سرى

فيه بنار صبابتي إحراق

عرب رأيت أصح ميثاق لهم

ألا يصح لديهم ميثاق

ثم سراج الدين الوراق (1218-1296م) وهو شاعر مكثر، ملأ شعره كثيرا من الكتب التي تعرض للنماذج الشعرية. عمل في الديوان المصري، وقد قالوا إن شعره يبلغ ثلاثين جزءا ولم يبق منه الآن إلا مقتطفات جمعها الصفدي.

ومن أمثلته:

قال في شكر الله على نعمائه:

إلهي لقد جاوزت سبعين حجة

فشكرا لنعماك التي ليس تكفر!

وعمرت في الإسلام فازددت بهجة

ونورا؛ لذا قالوا: السراج المعمر

وعمم نور الشيب رأسي فسرني

وما ساءني أن السراج منور

وقال في لوم النفس على المعصية:

يا خجلتي وصحائفي سود غدت

وصحائف الأبرار في إشراق

وموبخ لي في القيامة قال لي:

أكذا تكون صحائف الوراق؟

وقال في الترفع:

أصون أديم وجهي عن أناس

لقاء الموت عندهم الأديب

ورب الشعر عندهم بغيض

ولو وافى به لهم حبيب

وقال في الحنين إلى الأحباب:

وقفت بأطلال الأحبة سائلا

ودمعي يسقي ثم عهدا ومعهدا

ومن عجب أني أروي ديارهم

وحظي منها حين أسألها الصدى

ثم ابن الوردي المولود في معرة النعمان 1290م والمتوفى في حلب 1349م، وقد كتب في النحو والفقه والتصوف، وقد اشتهر في الشعر بقصيدته في الحكم والمواعظ منها قوله:

اعتزل ذكر الأغاني والغزل

وقل الفصل وجانب من هزل

ودع الذكر لأيام الصبا

فلأيام الصبا نجم أفل

إن أهنا عيشة قضيتها

ذهبت لذاتها والإثم حل

واهجر الخمرة إن كنت فتى

كيف يسعى في جنون من عقل

صدق الشرع ولا تركن إلى

رجل يرصد بالليل زحل

حارت الأفكار في قدرة من

قد هدانا سبلنا عز وجل

كتب الموت على الخلق فكم

فل من جمع وأفنى من دول!

ثم ابن حجة الحموي (1366-1434م) ولد في حماة، وزار الموصل ودمشق ومصر، ورأى دمشق وهي تحترق أثناء حصار السلطان برقوق لها، ووصف ذلك في رسالة بعث بها إلى «ابن مكانس». وقد اشتهر في شعره بالمدائح النبوية، وبما أنشأ في ذلك من بديعية، وقد جمع شعره الذي ألفه في الشام ومصر، وألف كتابا في مختارات من النثر والنظم سماه «ثمرات الأوراق». •••

ويصح أن نقف وقفة عند شاعر مشهور في ذلك العصر، وهو عبد الغني النابلسي (1641-1731م)، وهو شاعر صوفي على الطريقة النقشبندية والقادرية، وقد ولد في دمشق من أسرة من أصل نابلسي وقد تعلم علوم الدين، ثم غلبت عليه النزعة الصوفية، وقد سافر إلى القسطنطينية سنة 1664م، وعاد منها إلى البقاع ولبنان، وفي سنة 1693م رحل إلى مصر، ثم إلى الحجاز، ثم عاد إلى الصالحية بدمشق ، وقد شرح ديوان ابن الفارض، وله شعر صوفي كثير سار بين الناس، وقد أعاد لنا في شعره نغمة من نغمات ابن الفارض وابن العربي تشعر بوحدة الوجود.

وقد اشتهر في العصر العثماني من المصريين، عائشة الباعونية، اشتهرت بمدائح الرسول أيضا، وعبد الله الشبراوي، وهو من أكابر شيوخ الأزهر، أغرم بالشعر وقال قصائد في المدائح النبوية والغزل، ومن أمثلة شعره قوله في مدح آل البيت:

آل طه ومن يقل آل طه

مستجيرا بجاهكم لا يرد

حبكم مذهبي وعقد يقيني

ليس لي مذهب سواه وعقد

منكم أستمد بل كل من في ال

كون من فيض فضلكم يستمد

بيتكم مهبط الرسالة والوح

ي ومنكم نور النبوة يبدو

ولكم في العلا مقام رفيع

ما لكم فيه آل ياسين ند

يا ابن بنت الرسول من ذا يضاهي

ك افتخارا وأنت للفخر عقد

يا حسينا هل مثل أمك أم

لشريف أو مثل جدك جد

ويقول في بعض أسفاره متشوقا إلى مصر:

أعد ذكر مصر، إن قلبي مولع

بمصر، ومن لي أن ترى مقلتي مصرا؟

وكرر على سمعي أحاديث نيلها،

فقد ردت الأمواج سائله نهرا

بلاد بها مد السماح جناحه

وأظهر فيها المجد آيته الكبرى

رويدا إذا حدثتني عن ربوعها،

فتطويل أخبار الهوى لذة أخرى

إذا صاح شحرور على غصن بانة

تذكرت فيها اللحظ والصعدة السمرا

عسى نحوها يلوي الزمان مطيتي

وأشهد بعد الكسر من نيلها جبرا

لقد كان لي فيها معاهد لذة

تقضت وأبقت بعدها أنفسا حسرى

ومن الشاميين شمس الدين الهلالي، وحسين بن الجزري، ومنجك باشا، وأحمد بن إلياس الكردي إلخ.

وفي العراق ابن معتوق الموسوي (1614-1676م)، وله ديوان مشهور امتلأ بمديح حكام من الفرس في عهد الصفويين. •••

وهكذا تقرأ في دواوين الشعراء في ذلك العصر، فتراها كرقعة الشطرنج تتحد حجارتها، وتختلف أوضاعها، وللحجارة أسماء من ذوات الروح كالفرس والفيل والجندي والوزير والشاه، ولكن ينقصها الروح، وأقوال مرددة هي صدى لما قبلها، ولذلك كثر في هذا العصر التأليف في السرقات الشعرية، يقول البحتري:

فسقى الغضا والساكنيه وإن همو

شبوه بين جوانحي وضلوعي

فيردده آخر بقوله:

إن الغضا لست أنسى أهله فهمو

شبوه بين ضلوعي يوم بينهمو

وقد ذكروا أن صلاح الدين الصفدي بالشام أغار على معاني جمال الدين بن نباتة في مصر، فلم يترك له معنى إلا أخذه، حتى اضطر ابن نباتة أن يؤلف كتابا يجمع فيه هذه السرقات سماه «خبز الشعير»، واستهله بقوله:

رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا .

ومما ورد في هذا الكتاب من أمثلة السرقة قول ابن نباتة:

بروحي طيب الأنفاس ألمى

ملي الحسن حالي الوجنتين

له خالان في دينار خد

تباع له القلوب بحبتين

فقال الصلاح:

بروحي خده المحمر أضحت

عليه شامة، شرط المحبة

كأن الحسن يعشقه قديما

فنقطه بدينار وحبه

فقال ابن نباتة: «لا إله إلا الله سرق الصلاح - كما يقال - من الحبتين حبة.»

وتلتفت إلى الغرب وتستعرض قصة الشعر فيه، فترى الشعر كان قبل «النهضة» كشعرنا أو أقل، ثم عملت فيه عوامل الرقي كما عملت في كل مرافق الحياة، فبدأت الحياة تدب فيه وأخذ النزاع يثور بين الأدباء حول الكلاسيكية والرومانتية، وأخذ التحول من الأرستقراطية إلى الديمقراطية، ونبغ شيكسبير في إنجلترا، وأمثاله في إسبانيا وإيطاليا وفرنسا كما أسلفنا، وأخذ هؤلاء الشعراء يفتحون في الشعر أبوابا جديدة، وآفاقا جديدة في الموضوع وفي الأسلوب وفي الأوزان، وأخذ الشعر يرقى شيئا فشيئا، كما أخذ الشعر العربي في مثل ذلك العصر ينحط شيئا فشيئا. وذلك تبعا للبيئة الاجتماعية والسياسية. فالنهوض هناك شمل كل مرافق الحياة ومعها الفن ومنه الشعر. والحريات السياسية والاجتماعية أخذت تثمر ثمارها؛ إذ كانت في الشرق تختنق شيئا فشيئا من ظلم الحكام ورفاهيتهم وفقر الشعوب وبؤسها، ودعا الدعاة هناك إلى تقويم الدنيا كما تقوم الآخرة، وأن يستمتع بالحياة ما أمكن. وفي الشرق رأوا الاستمتاع بالحياة غير ممكن في ظل ظلم الحكام، فغرقوا في التفكير في الآخرة إلى حد التخريف، ونسوا قول الله:

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق . ومما زاد الطين بلة أن عدوى الشرق مما يحدث في الغرب لم تكن؛ لأن الأبواب موصدة والحواجز بين الإقليمين في الأمور الثقافية متينة، واستمر الحال على هذا المنوال إلى دخول الفرنسيين مصر. •••

وقد اعتاد مؤرخو الأدب العربي أن يترفعوا عن تأريخ الأدب الشعبي وعرضه في مختارهم، مع أنه يمثل خير تمثيل ذوق الشعب ومشاعره. وقد كان في هذا العصر نوع من الشعر الشعبي يقال ويتغنى به وتوصف به الأحداث، وتحكى به المشاعر من موشحات وأزجال ودوبيت ومواويل وكان وكان.

وقد كثرت هذه الأنواع من الشعر في هذه العصر، وتحرروا فيها من التقيد باللفظ الفصيح، والنحو الصحيح، واستراحوا فيه من قيود القوافي والأوزان، وكان في الواقع أكثر قبولا عند العامة، بل وبعض الخاصة، وأنبض بالحياة، وكان أقرب إلى نفس الملوك والأمراء أيضا؛ لأنهم أقرب إلى العامة في ذوقهم اللغوي.

وراج الزجل في أيام بني قلاوون وأيام برقوق وشغل به الناس.

واشتهر من الزجالين في هذا العصر «خلف الغباري» وبدر الدين الفرضي وأحمد الدرويش وغيرهم.

ومن أمثلة ما قاله الغباري في مدح الملك الأشرف شعبان:

حب قلبي «شعبان» موفق رشيد

وجمالو أسرف ومالو حدود

وأبوه الحسن وعمه الحسين

وارث الملك من جدود الجدود

سل لحظك صارم لقتل العدى

وأنت منصور طول المدى والسنين

زعق السعد بين يديك «جاويش»

فرح القلب بعد ما كان حزين

ونصب لك كرسي على المملكة

ظهر لك نصره بفتحه المبين

وترى للشعر العامي أمثلة كثيرة في قصة «الزير سالم» و«الزناتي خليفة» وفي بدائع الزهور لابن إياس.

وقد استعمله في الفكاهة المرة الشيخ الشربيني في كتابه «هز القحوف في شرح قصيدة أبي شادوف»، الذي ألفه في سنة 1687م، فكتبه باللغة العامية المصرية، وجعل بطل القصيدة «أبا شادوف» نموذجا للفلاح المصري يصف فيها شقاءه وبؤسه وجهله وقلة ذوقه، ويشير في لباقة إلى أن ذلك نتيجة ظلم الحكام وقسوتهم في استخراج الأموال، وسوء معاملتهم للفلاح. فكان موضوع الكتاب على هذا الوضع منحى جديدا في الأدب، واتجاها به إلى الديمقراطية، ووصفا للفلاح وكوخه الحقير، حيث كان الأدب إنما يتجه إلى قصور الأمراء والملوك. (2) النثر

كان النثر الفني ينقسم إلى قسمين: كتابة ديوانية أو «رسمية» تستعمل فيما يصدر عن الحكومات أو السلاطين، وقد أنشي له ديوان خاص اسمه «ديوان الإنشاء» يشرف عليه أشهر من عرف بالأدب، وكان رئيس هذا الديوان يجمع بين السياسة والقلم، فإليه تنتهي أسرار الدولة، ويتصرف فيها عن السلطان، ومنه تصدر المكاتبات الهامة، وإليه ترد، وهو يشارك السلطان الرأي والمشورة، ويتولى الكتابة في أدق الأمور كالعلاقات الخارجية، والأزمات السياسية، والثورات الداخلية، وتقليد المناصب، ومكاتبات العمال والأمراء، والإنباء بالوقائع الحربية، ونحو ذلك؛ ولذلك لا يكفي في اختياره القدرة الكتابية، بل القدرة السياسية أيضا، والثقافة الواسعة. وقد تولى هذا المنصب للمماليك في مصر فخر الدين بن لقمان، ثم محيي الدين بن عبد الظاهر، ثم ابنه فتح الدين، وعلاء الدين بن الأثير، وشهاب الدين الحلي، وابن فضل الله العمري إلخ. وقد صدر عن هذا الديوان كتب كثيرة كانت نماذج للأدب، كما ألفت كتب كبيرة ليتربى عليها من يعدون لهذا المنصب.

وقد قوي هذا الديوان في عصر المماليك، ثم ضعف في عصر الأتراك العثمانيين لما تحولت الكتابة الرسمية من العربية إلى التركية.

ويتميز هذا النوع من الكتابة بالمحافظة على الألقاب الرسمية، فلا يوضع لأحد لقب أعلى ولا أقل من لقبه الرسمي، وقد تواضعوا على مصطلحات في ذلك كما نتواضع نحن الآن على التفرقة بين صاحب السعادة وصاحب العزة، فقد اصطلحوا - مثلا - على أن يكون الأشرف أرفع من الشريف، والشريف أرفع من الكريم، والكريم أرفع من العالي، والعالي أرفع من السامي، وركن الإسلام والمسلمين أرفع من عز الإسلام والمسلمين، كما جعلوا اللقب الملحق به ياء النسبة أرفع من الخالي منها، فالقاضوي أرفع من القاضي وهكذا.

وقد وضعوا للكتابة في الموضوعات المختلفة مناهج مختلفة، ففي التهنئة بالنصر يتبسط الكاتب في شكر الله، وتعظيم النصر، وذكر ما يتصف به الممدوح من عزم وإقدام وصبر، ووصف جيش عدوه والتهويل فيه، وبذل الجهد في التغلب عليه، والتنكيل به إلخ، وهكذا في كل لون من ألوان الكتابة.

وقد عرض القلقشندي في كتابه صبح الأعشى نماذج كثيرة لهذا النوع من الكتابة في العصور المختلفة.

وهذا النوع يحتاج - أول ما يحتاج - إلى دقة تامة في التعبير، فرب كلمة في غير موضعها، أو عبارة غير دقيقة أضاعت على الدولة فوائد كثيرة أو أوقعتها في مضار كبيرة، كما يحتاج إلى الوضوح التام، حتى يفهم المعنى المقصود على حقيقته، فإن احتيج إلى نوع من المحسنات فإظهار القوة في موضع القوة، واللين في موضع اللين، ومعرفة موضع نوع الكلام المكتوب في نفسية المكتوب إليه، حتى يؤدي الغرض المطلوب منه.

ومع هذا فقد انصرف كثير من كتاب هذا النوع عن هذه الأوصاف، ومالوا إلى السجع، والبديع، والتورية، والتضمين، والاقتباس، وما إلى ذلك كما فعلوا في الشعر، ولو أضاعوا في ذلك جوهر الموضوع. وكان الذي يحمل كبر ذلك قديما ابن العميد ، والصاحب بن عباد في الري، ثم القاضي الفاضل، والعماد الأصفهاني في مصر، وهؤلاء وإن كان في كتابتهم شيء من الروح، فقد ضعفت أو فقدت على تقدم الزمان، ونحن إن قسنا هذا النتاج الرسمي بمقياس زمننا استخرج منا التبسم.

وقد وصف القلقشندي حالة الكتابة في عصره بقوله: وإنما تقاصرت الهمم عن التوغل في صناعة الكتابة، والأخذ منها بالحظ الأوفى لاستيلاء الأعاجم على الأمر، وتوسيده لمن لا يفرق بين البليغ والأنوك؛ لعدم إلمامه بالعربية، والمعرفة بمقاصدها، حتى صار الفصيح لديهم أعجم، والبليغ في مخاطبتهم أبكم، ولم يسع الآخذ من هذه الصناعة بحظ إلا أن ينشد:

وصناعتي عربية وكأنني

ألقى بأكثر ما أقول الروما

فلمن أقول وما أقول وأين لي

فأسير بل أين لي فأقيما؟

والنوع الثاني من النثر الفني ما يسمى بالرسائل الأدبية، أو الإخوانيات، وهي - عادة - تكون مكاتبة بين أصدقاء من الكتاب في عتاب، أو استهداء، أو إهداء، أو مناظرات أدبية، أو وصف مشاهدات، أو فكاهات، أو مقامات أو نحو ذلك، وقد يضاف إلى ذلك كتب في موضوعات تاريخية، أو أدبية، عني فيها بالصياغة الفنية «كفاكهة الخلفاء» لابن عربشاه في حكم على ألسنة الحيوانات ، و«عجائب المقدور في أخبار تيمور» و«ريحانة الألباء» لشهاب الدين الخفاجي.

وكل الكتاب من هذا النوع، ساروا على نفس المنهج، الذي سار عليه كتاب الدواوين، من التزام السجع، والإغراق في البديع، ورعايتهم للشكل اللفظي أكثر من المعنى والموضوع، وتفاخرهم بما يأتون به من حلية البديع، فإذا تم له تركيب حلاه بحلى شتى من التورية والتضمين والاقتباس والجناس؛ فخر كل الفخر، ولو كان المعنى سخيفا، بل قد يدير المعنى ليتفق والبديع، ولم يستطيعوا أن يدركوا أن المعنى الجميل أو الشعور الجميل في اللفظ السهل، الجاري مع الطبع، أجمل بكثير من معنى تافه، محلى بكل أنواع البديع أو مشاعر متصنعة جملت بكل أنواع الزينة، وقد أدرك هذا المعنى في دقة تدعو إلى الإعجاب كاتب انغمس في هذا الوسط، ولكنه تحرر منه، وهو ابن خلدون إذ قال: «وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية، وتقديم النسيب بين يدي الأغراض، وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة، واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل، وخصوصا أهل المشرق ... وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه من مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة، وانفساح خطوه، وولعوا بهذا السجع يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومطابقة الحال فيه، ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء القول كتاب المشرق، وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة لا يجتمعان معها، فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس، ويدعون الإعراب، ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف ذلك التجنيس.»

فعند ابن خلدون أن الكلام المرسل المطابق لمقتضى الحال خير من المسجوع، وأن السجع والبديع دليل فقر المعنى، وأن الإفراط في التحلي بهما دليل الانحطاط، ومصداق ذلك ابن خلدون نفسه، فلما غزرت معانيه تحرر قلمه، ولما رقي أسلوبه تحلى ببساطة الجمال. •••

فمن أشهر البارزين من أوائل الكتاب في هذا العصر القلقشندي المصري، عمل بديوان الإنشاء بمصر، وله إلى كتاباته الرسمية كتابات من النوع الثاني في التهاني، أو وصف انتصار أو مقامة أو نحو ذلك.

وكتابته من أمثل ما عرف لأهل زمانه في أداء الغرض، وقلة التكلف، وعدم الإلحاح في البديع.

وهو من أصل عربي، ينتسب إلى قوم من بني فزارة، نزلوا مصر في مديرية القليوبية، ومنها بلدة قلقشندة التي ينسب إليها، ولعل لأصله العربي هذا دخلا في صحة أسلوبه إلى حد ما.

ومن إنشائه المشهور رسالة سماها «حلية الفضل وزينة الكرم، في المفاخرة بين السيف والقلم» مثالها :

قال القلم للسيف: «فررت من الشريعة وعدلها، وعولت على الطبيعة وجهلها، فافتخرت بحيفك وعدوانك، واعتمدت في الفضل على تعديك وطغيانك، فملت إلى الظلم الذي هو إليك أقرب، وغلب عليك طبعك في الجور والطبع أغلب، فلا فتنة إلا وأنت أساسها، ولا غارة إلا وأنت رأسها، ولا شر إلا وأنت فاتح بابه، ولا حرب إلا وأنت واصل أسبابه، تؤكد مواقع الجفاء، وتكدر أوقات الصفاء، وتؤثر القساوة، وتوتر العداوة، أما أنا فالحق مذهبي والصدق مركبي، والعدل شيمتي، وحلية الفضل زينتي، إن حكمت أقسطت، وإن استحفظت حفظت وما فرطت، لا أفشي سرا يريد صاحبه كتمه، ولا أكتم علما يبتغي متعلمه علمه ... أدير في القرطاس كاسات خمري، فأزري بالمزامير وأهزأ بالمزاهر، وأنفث فيه سحر بياني، فألعب بالألباب وأستجلب الخواطر، وأنفذ جيوش سطوري على بعد فأهزم العساكر:

فلكم يفل الجيش، وهو عرمرم

والبيض ما سلت من الأغماد

فقال السيف: أطلت الغيبة، وجلت بالخيبة، وسكت ألفا، ونطقت خلفا.

السيف أصدق أنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

إن نجادي لحلية للعواتق، ومصاحبتي آمنة من البواتق، ما تقلدني عاتق إلا بات عزيزا، ولا توسدني ساعد إلا كنت له حرزا حريزا، أمري المطاع، وقولي المستمع، ورأيي المصوب، وحكمي المتبع، لم أزل للنصر مفتاحا، وللظلام مصباحا، وللعز قائدا، وللعداة ذائدا، فأنى لك بمساجلتي ومقاومتي في الفخر ومنافرتي، مع عري جسمك، ونحافة بدنك، وإسراع تلفك، وقصر زمنك، وبخس أثمانك على بعد وطنك، وما أنت عليه من جري دمعك، وضيق ذرعك، وتفرق جمعك، وقصر باعك، وقلة اتباعك.

ويستمر الجدل بينهما في نحو عشر صفحات، وأخيرا يميل القلم إلى الصلح، فيحتكمان إلى الأمير أبي يزيد الدوادار للسلطان برقوق فيعقد الصلح بينهما.»

2 •••

وفي الشام - مثلا - كان بدر الدين الحلبي، وقد ألف كتابه «نسيم الصبا»، الذي كان يعد في زمنه قطعة فنية رائعة، وهو فصول نحو الثلاثين، في وصف الطبيعة، والأخلاق والأدب ونحو ذلك، ملأ كل فصل منه بكل ما استطاع من أنواع الزينة. يقول - مثلا - في وصف الكتاب: «الكتاب عماد الملك وأركانه ، وعيونه المبصرة وأعوانه، وبهاء الدولة ونظامها، ورءوس الرياسة وقوامها، ملابسهم فاخرة، ومحاسنهم باهرة، وشمائلهم لطيفة، ونفوسهم شريفة، مدار الحل والعقد عليهم، ومرجع التصرف والتدبير إليهم، بهم تحلى العواطل، وتبتسم ثغور المعاقل، مجالسهم بالفضائل معمورة، وبندائهم أندية القصاد مغمورة، يهدون إلى الأسماع أنواع البديع، وينزهون الأحداق في حدائق التوشيح والتوشيع، هم أهل البراعة واللسن، وشيمتهم لف القبيح ونشر الحسن، يميلون إلى القول بموجب المدح، ولا يميلون من مراجعة الراغبين في المنح، دأبهم استخدام الناس بالمعروف، وعدم التورية عن العاني والملهوف، يجلون الكبير، ويبجلون الصغير، ولا يخلون بمراعاة النظير، لهم إلى الخير رجوع والتفات، وبالجملة فقد حازوا جميع جميل الصفات.

بأيديهم أقلام، تختلس بلطفها الأحلام، صافية الجواهر، زاهية الأزاهر، لينة الأعطاف، ناعمة الأطراف، تبكي وهي مبتسمة، وتسكت وهي بما يطرب السمع متكلمة، قد اعتدلت قدودها، وأشرقت في سماء البراعة سعودها، ... نشأت على شطوط الأنهار، وتعلمت اللحن من أعراب الأطيار، الشجاعة كامنة في مهجتها، والفصاحة جارية على لهجتها، تبهر بالنضارة نواظر البهار، وتطرز بالليل أردية النهار، إن قالت لم تترك مقالا لقائل، وإن صالت رجعت السيوف مستترة بأذيال الخمائل ...» إلى أن يقول: «فاجتهد أعزك الله في طلابها، واحرص على الدخول في زمرة أربابها، وتمسك بأذيال بنيها، تجد جوادا أو نبيلا أو نبيها، حسبهم شرفا أن الله تعالى نوه بذكرهم في العالمين، ووصف الكتبة بالحفظ والكرم فقال:

وإن عليكم لحافظين * كراما كاتبين ».

وفي هذا الفصل صورة دقيقة لوصف الكاتب في هذا العصر في مظاهره وأغراضه ونفسيته وفنه. •••

ويقول في وصف سفينة:

يا لها سفينة، على الأموال أمينة، ذات دسر وألواح، تجري مع الرياح، وتطير بغير جناح، وتعتاض عن الحادي بالملاح، تخوض وتلعب، وترد ولا تشرب. لها قلاع كالقلاع، وشراع يحجب الشعاع، وسكينة وسكان، ومكانة وإمكان، وجؤجؤ وفقار، وأضلاع محكمة بالقار، وجسم عار عن الفؤاد، وهو في عين الماء بمنزلة السواد. بعيد ما بين السحر والنحر، من أحسن الجواري المنشئات في البحر، معقود بنواصيها الخير كالخيل، لا تمل من سير النهار ولا من سرى الليل .

ما رأى الناس من قصور على الما

ء سواها تسير سير القداح

كأنها وعل ينحط من شاهق، أو عرباض سابق يحثه سائق، أو عقرب شائلة، أو عقاب صائلة، أو غراب أعصم، أو تمساح أو أرقم، أو ظليم نفر في الظلام، أو جواد فر مستنكفا من صحبة الأنام. حاكمها عادل في حكمه، عارف بنقض أمرها وبرمه، يهتدي بالنجوم، ويبتدئ باسم الحي القيوم، يبرز من نواتيها في جنود، ويشمل إحسانهم أهلها أيقاظا وهم رقد، يتأنقون فيما يعملون، ويفعلون ما يؤمرون.

يكثرون الصياح حتى كأن الس

فن تجري من خوف ذاك الصياح

وفي آخر أيام العرب بالأندلس ظهر خاتمة الكتاب «لسان الدين بن الخطيب»، الذي ترجم له المقري في كتابه «نفح الطيب» في نحو جزأين. وقد نشأ من بيت وزارة، وكان هو نفسه وزيرا لبني الأحمر في غرناطة، وانغمس في الأحداث السياسية، وسفر إلى الملوك، واكتوى بنار الفتن المشتعلة في أيامه، وقد وصف في بعض كتبه ما يعاني رجال السياسة والوزارة في عصره من عناء من «توقع المكروه صباحا ومساء، وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم البأساء، ولزوم المنافسة التي تعادي الأشراف والرؤساء، وترتب العتب، على التقصير في الكتب، وضغينة جار الجنب، وولوع الصديق بإحصاء الذنب، ونسبة وقائع الدولة إليك وأنت بري، وتطويقك الموبقات وأنت منها عري، وقطع الزمان بين سلطان يعبد، وسهام للغيوب تكبد، وعجاجة شر تلبد، وأقبوحة تخلد وتؤبد، ووزير يصانع ويدارى، وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويمارى ... وسوق للإنصاف والشفقة كاسد، وحال فاسد، ووفود تتزاحم بسدتك، مكلفة لك غير ما في طوقك، فإن لم يقع الإسعاف قلبت عليك السماء من فوقك، وجلساء ببابك، لا يقطعون زمان رجوعك وإيابك، إلا بقبيح اغتيابك.

وما الفائدة في فرش تحتها جمر الغضا، ومال من ورائه سوء القضا، وجاه يحلق عليه سيف منتضى ...»

إلى أن يقول في أعباء الوزير ومتاعبه: «أما ليله ففكر أو نوم، وعتب بجرائر الضرائر ولوم، وأما يومه فتدبير، وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لا يدخل فيه حكم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير.»

ثم تحقق ما وصف، فدست له الدسائس، فترك الوزارة وذهب إلى فاس سنة 1371م، فاستقبل فيها استقبالا حسنا.

ثم لما عاد السلطان الذي يولي ابن الخطيب عطفه أعاد ابن الخطيب إلى غرناطة، وما زالت تحاك حوله المؤامرات، حتى اتهموه أخيرا بالتهمة التي تثير العامة، ويتخلصون بها - دائما - ممن يضايقهم وهي الزندقة، فقد كان ابن الخطيب ألف كتابا اسمه «روضة التعريف بالحب الشريف»، وهو كتاب في التصوف، نحا فيه منحى القول بوحدة الوجود، فنسبوا إليه القول بالحلول، وأحضر إلى مجلس الشورى، ووبخ وسجن، وأفتى المفتون بقتله، ودسوا إليه من قتلوه خنقا سنة 1374م.

وقد كان واسع الثقافة، ملما بعلوم أهل زمانه، فقد أخذ الطب والمنطق والفلسفة عن ابن زهر، والعلوم اللسانية عن ابن مرزوق، كما كان واسع الاطلاع على التاريخ، وخاصة تاريخ الأندلس ورجالها، وألف فيه كتاب «الإحاطة في تاريخ غرناطة».

وأسلوبه الأدبي من أرقى ما وصل إليه أسلوب زمانه، يلتزم طريقتهم في السجع والبديع، ولكن يخفف ثقله غزارة معانيه التي تأتيه من سعة اطلاعه، إلى نبله وخفة روحه. وقد عرف في أسلوبه بالإطناب، وطول النفس، وإن لم يبلغ حد الإملال. وقد كان له آثار أدبية في نواحي الأدب المختلفة من مخاطبات الملوك، ومقامات وإخوانيات وغير ذلك، ومن أمثلة أسلوبه قوله لمعلم كتاب عاد إلى حرفة التعليم بعد أن هجرها: «تعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، حبذا والله عيش التأديب، فلا بالضنك ولا بالجديب، معاهدة الإحسان، ومشاهدة الصور الحسان، يمينا إن المعلمين، لسادة المسلمين، وإني لأنظر منهم - كلما خطرت على المكاتب - أمراء فوق المراتب، من كل مسيطر الدرة، متقطب الأسرة، متنمر للوارد تنمر الهرة، يغدو إلى مكتبه، كالأمير في موكبه، حتى إذا استقل في فرشه، واستوى على عرشه، أظهر للخلق احتقارا، وأزرى بالجبال وقارا، ورفعت إليه الخصوم، ووقف بين يديه الظالم والمظلوم، فتقول كسرى في إيوانه، والرشيد في أوانه، أو الحجاج بين أعوانه، فأي عيش كهذا العيش، وكيف حال أمير هذا الجيش، طاعة معروفة، ووجوه إليه مصروفة، فإن أشار بالإنصات، لتحقق القصات، فكأنما طمس على الأفواه، ولأم بين الشفاه، وإن أمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضجيج والعجيج، وحف به كما حف بالبيت الحجيج، وكم بين ذلك من رشوة تدس، وغمزة لا تحس، ووعد يستنجز، وحاجة تستعجل وتحفز؟ هنأ الله سيدي ما خوله، وأنساه بطيب أخراه أوله.»

هذا نموذج من خير من أخرجه هذا العصر من الكتاب.

وفي العصر العثماني ربما كان أمثل الكتاب شهاب الدين الخفاجي، وهو مصري ولد بسرياقوس من مديرية القليوبية، ودرس بالأزهر، وقد جمع بين الفقه والأدب واللغة وأفادته حياته فاطلع على كثير من شئون الدنيا وتجارب الحياة، فقد رحل إلى مكة مع أبيه، ثم سافر إلى القسطنطينية وشغف هناك بتعلم الرياضة، ثم عين وهو في الأستانة قاضيا للروملي ثم سالونيكا، ثم أرسل إلى مصر «قاضي عسكر»، ثم عاد إلى القسطنطينية، ثم عاد إلى مصر قاضيا، وهنا وجه همته إلى التأليف في الأدب واللغة.

ومن خير ما ألفه «شفاء الغليل بما في كلام العرب من الدخيل» أتى فيه بمقدمة حسنة عن التعريب، ثم أورد الكلمات المعربة مرتبة على حروف المعجم.

وفي موضوعنا الأدبي خلف لنا «خبايا الزوايا» في ترجمة أدباء عصره، وقسمه إلى خمسة أقسام: أدباء سوريا والحجاز ومصر والمغرب والروم (القسطنطينية)، وقد أعاد هذا الكتاب في كتابه ريحانة الألبا ونزهة الحياة الدنيا.

وأسلوبه مسجوع متكلف للبديع كقوله في ترجمة ابن منجك:

الأمير محمد بن منجك الجركسي أصلا ومحتدا، الشامي منشأ ومولدا، أديب أريب، ونجيب وابن نجيب، أورق عوده بالشام وأثمر، فإذا عدت السجايا عرضا فسجاياه جوهر، نشأ بها والدهر أبيض أقمر، ونادم العيش والعيش أخضر، وللبقاع تأثير في الطباع، والعرق - كما قيل - لمغرسه نزاع، ومن كان جار الرياض، لبس طبعه برد نسيمها الفضفاض، كما لبس النهر الجاري، درع النسيم الساري.

وقد نسجت كف النسيم مفاضة

عليه وما غير الحباب لها حلق

وقد صحبني بجلق ونسيمه سجسج، وخيوط شبيبته بيد الكهولة لم تنسج، ولازمني إذ رأى انعطافي عليه، وشبه الشيء منجذب إليه.

وله شرح درة الغواص للحريري ونقدها. قال في أوله: «دعاني الانتصار للسلف، إلى تمييز الدر من الصدف، فضممت إليها دررا تصيرها عقدا، ونشرت عليها من جلستان الآداب نورا ووردا، مما تتقرطق به الآذان، وتتوشح ببرده معاطف الزمان.» إلخ، وقد مات في مصر سنة 1659م. •••

ثم توالى الضعف في الكتابة، حتى أصبحت لا لفظا ولا معنى، وحتى أنواع البديع ثقلت وسمجت كقول عبد الوهاب الحلبي إلى الشهاب الخفاجي: «لقد طفحت أفئدة العلماء بشرا، وارتاحت أسرار الكاتبين سرا وجهرا، وأفعمت من المسرة صدور الصدور، وطارت الفضائل بأجنحة السرور، بين قدوم من اخضرت رياض التحقيق بإقدامه، وغرقت بحار التدقيق من سحائب أقلامه.» وسبب ضعف النثر ما قلناه في سبب ضعف الشعر.

وأكبر مصيبة أصيب بها أدباء العربية - شعراء وكتابا - أنهم شدوا أعينهم إلى قصور الخلفاء والأمراء، وربطوا مشاعرهم بها، ولم ينظروا إلى غيرها إلا تبعا، ولم يشعروا بأنفسهم، ولا لأنفسهم إلا قليلا، فكان لهذا نتائج سيئة من وجوه شتى: (1)

أن الأدب - أكثر ما كان - أصبح أرستقراطيا في أغراضه من مديح واستعطاف واستمناح واعتذار ونحو ذلك، وفي ألفاظه، إذ كان تحفة كالتحف التي تهدى أو تباع للملوك. أما أن تهيج مشاعر الشاعر أو الناثر فيفرج عن نفسه بالفن فقليل نادر. (2)

أن كثيرا من الشعراء والكتاب أصيبوا بهذه الرابطة إصابات قاتلة من غضب السلطان أو النزاع السياسي بين الأمراء، وتغلب أحدهم على الآخر، فينكل بأتباعه، وكانت تلك سنة قديمة من عهد خلفاء بني أمية إلى مثل ما رأينا في لسان الدين بن الخطيب، ولو شعروا أو كتبوا لمشاعرهم ومشاعر الناس لأجادوا وسعدوا وحفظوا أرواحهم. (3)

لما ربطوا أنفسهم بالقصور ربطوا فنهم بها، فالأمراء يعطون فيجود الفن، ويمنعون فيضعف الفن، والأمراء يجيدون العربية فيرقى الأدب، ويجهلون العربية فيضعف الأدب. والعثمانيون يحولون الدواوين إلى اللغة التركية فينهار الأدب، ولو كان الأدب مستقلا لاستقام سيره، ولو اختلت القصور. (4)

كان لهذه الظاهرة أثر سيئ في حياة الشعوب الشرقية نفسها، فلو اتجه الشعراء والكتاب إلى الشعوب لوضعوا بذور الثورة على الملوك والأمراء إذا ظلموا الرعية، ولأشعروا الشعب بآلامه، ورسموا له آماله، واستحثوه على بلوغ غايته - كما حدث من رجال الأدب في الغرب - فكان عملهم مبعث نهضتهم. أما في الشرق فلم يتجه الأدب شعرا ونثرا إلى الإصلاح الاجتماعي، ولم يغن الفنان لنفسه ولقومه، فكانت النتيجة ما نرى.

لقد كان الأدب الغربي في عصور الإقطاع على هذا المنوال، فكان الشعراء والأدباء يستمدون شعرهم وأدبهم من الأمراء؛ لأن الشعب لم يكن يطعم ولم يكن يغذى فنا، إنما يفعل ذلك سادة الإقطاعات، وكان لكل شاعر أو أديب راع من هؤلاء السادة، وكان الأديب يستمد وحيه وموضوعاته من حياة الأمراء في لغتهم وأسلوبهم وملابسهم وسلوكهم، وكانت الروايات التي تمثل إنما يقصد بها - أولا - إلى تسلية هؤلاء السادة باختيار الموضوعات التي تلذهم، والمناظر التي تغذي كبرياءهم، ولكن «النهضة» حولت هذا التيار، وجعلت الأدباء يتحولون إلى الطبقة الوسطى من الشعوب، وغيرت الموضوعات من قصور الأمراء إلى كوخ الفقراء، وصورت حياة الطبقات الفقيرة كما كانت من قبل تصور حياة الطبقات الرفيعة، وأمكن بانتشار المطابع أن يقوم ناشر الكتاب مقام الأمير في إمداد الأديب بالمال، وأن يقوم رضا القراء من الشعب مقام رضا القصور. وقراء الشعب إنما يرضيهم أن يجدوا فيما يقرءون ما يصور نفوسهم وآمالهم وآلامهم.

أما في الشرق فلم يحدث هذا التحول؛ لأن الحالة الاقتصادية لم تمكن الطبقات الوسطى والدنيا من اليسر المالي، ولم تكن المطابع وانتشار القراءة والكتابة حتى يغني الأدباء لهم، فبقي الأدب العربي في أوضاعه القديمة لم يسعفه ما طرأ على الغرب.

وظلت موضوعاته كما هي في القديم، فإن أنت نظرت إلى كتاب في المختارات من أدب هذا العصر رأيت ما يأتي: قال «صفي الدين الحلي» يمدح الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقال يهنئ المؤيد بالقدوم من الصعيد، وقال ابن نباتة يمدح السلطان الأفضل ويعزيه في والده، وقال في الناصر حسن. فإن خرجوا عن هذا رأيت ابن الوردي يقول في الحكم، والشاب الظريف في الغزل، وسراج الدين الوراق في شكر الله على نعمائه، وفي لوم النفس على المعصية، ومحيي الدين الحموي يصف روضا أو نهرا ... أما الدنيا وشئونها والناس وحياتهم ومطالبهم فلا نجد فيها شيئا.

وزاد الأمر سوءا أن العثمانيين لما فتحوا مصر والشام وغيرها أرادوا أن يجملوا القسطنطينية بخير ما في هذه البلاد، فأخذوا من خزائن المدارس بمصر والشام أكثر الكتب القيمة التي فيها، فحرموا البلاد أغلى كنوزها، ونقلوا كثيرا من الأدباء والعلماء والمهندسين والوراقين وأرباب الصناعات إلى بلادهم، وقد قدرهم ابن إياس بنحو ألف وثمانمائة، وغرقت بعض السفن التي تحملهم، وكان هؤلاء الذين أخذوا خير من في مصر علما وأدبا وفنا، فتركوا البلاد في ظلام. •••

وكما كان الشعراء والأدباء ينشئون كان بجانبهم من يجمع المختارات من أدبهم وأدب من قبلهم، فألف جمال الدين الوطواط (1235-1318م) كتابه «غرر الخصائص الواضحة» و«مباهج الفكر».

وألف شهاب الدين الأبشيهي المولود نحو سنة 1388-1446م كتابه «المستطرف في كل فن مستظرف» جمع فيه شعرا وقصصا وأمثالا.

وألف شمس الدين النواجي المتوفى سنة 1455م «حلبة الكميت» جمع فيه كثيرا مما قيل في الخمر.

وألف داود الأنطاكي الطبيب المشهور صاحب التذكرة كتابا في الحب، وما قيل فيه سماه «تزيين الأسواق»، وقد توفي سنة 1599م.

وألف عبد القادر البغدادي المتوفى سنة 1682م كتابه الكبير «خزانة الأدب» ترجم فيه لكثير من الأدباء والشعراء من الجاهليين ومن بعدهم، وجمع فيه معلومات قيمة، وهو في الأصل شرح لشواهد «الكافية» في النحو بنى عليه هذه التراجم. (3) القصص

أما الأدباء الكلاسيكيون فأغلب نتاجهم القصصي كان إنشاء مقامات يقلدون فيها مقامات الحريري، حتى كاد كل أديب يقيم البرهان على أدبه بإنشاء مقامة أو مقامات.

فعمل شمس الدين بن الصيقل الجزري المتوفى سنة 701ه خمسين مقامة نسبها إلى ابن نصر المصري، وروايتها إلى القاسم بن جريال الدمشقي.

وعمل محمد بن إبراهيم الدمشقي (727ه) خمسين مقامة فلسفية، وشهاب الدين الخفاجي بعض مقامات في كتابه «ريحانة الألبا» وهكذا إلى الشيخ ناصيف اليازجي.

وكلها إذا وزنت بميزان القصة كانت خفيفة الوزن لضيق خيالها وقصر نفسها، وضعف عاطفتها، وقلة حبكتها، ورخاوة عقدتها.

وأما القصص الشعبية فكانت أوفر حياة، وأوسع خيالا، وأدخل في باب القصص. وعلى رأس هذه القصص «ألف ليلة وليلة»، وهو كتاب لم يعره أدباء العربية التفاتا إلا بعد أن ذاع في أوروبا وترجموه إلى لغات كثيرة، وقدروه تقديرا كبيرا. والسبب في انصراف الأدباء العلماء من أهل العربية عنه هو أنه شعبي في أسلوبه وموضوعه.

وإنما ذكرناه هنا؛ لأنه لم يستكمل شكله الذي بين أيدينا إلا في عهد المماليك، فقد ذكر المسعودي أن أصله فارسي، واسمه «هزار أفسانا»، ومعناه ألف ليلة، وترجم من الفهلوية إلى العربية، ويدل على فارسيته أسماؤه الفارسية في هذا القسم من مثل «شيرازاد» ومعناه: النبيلة بالحسب، وقد غيرت إلى شهر زاد، ودنيا زاد، ومعناه: النبيلة بالنسب، وقد حرفت إلى دينار زاد. وقد زادت فيه الأمم العربية المختلفة على توالي العصور إلى آخر عصر المماليك. وقد اجتهد المستشرقون في تحليل قصصه ورد كل مجموعة منها إلى الأمة التي صدرت عنها وتحديد تاريخها، فهناك قصص بغدادية تمثل حياة بغداد في عصر الرشيد ووزيره جعفر البرمكي، وهناك قصص مصرية تمثل حياة مصر «كأحمد الدنف ودليلة».

وهناك قصص من أصل يهودي أدخلها فيها يهود تعربوا كقصة كريم الدين، وقصص من عصر قديم، حيث أزهرت التجارة في الخليج الفارسي والمحيط الهندي كقصة السندباد البحري، وبعضها تدل حوادثها على قرب عهدها كقصة معروف وزوجته فاطمة، فإن حوادثها تدل على أنها ألفت في القرن السادس عشر، وكقصة أبي قير وأبي صير، فإنها من أحدث ما كتب.

وأسلوبها قريب التناول يفهمه العامة والخاصة، سواء في ذلك شعرها ونثرها، وبعض القصص تظهر فيها خصائص اللغة العامية السورية، والبعض المصرية، وكلها تصور الحياة الشرقية في دينها ودنياها، ونظرتها إلى النساء، وأوهامها وخرافاتها، وإيمانها بالقدر، ومباهجها وأحزانها وحياة قصورها، وعلاقة حكامها بشعوبها إلخ. وقد انعكست فيها كل هذه الصور من غير شعور مؤلفيها.

وهي من الناحية الفنية تفوق المقامات بسعة خيالها، وتنوع ألوانها وتصوير الحياة في مختلف أشكالها، وحسن حبكتها، ومن أجل هذا لم ينل كتاب شرقي في الغرب ما لقيه كتاب «ألف ليلة».

وقصة عنترة بن شداد المعروفة بسيرة عنتر، والمنسوبة إلى الأصمعي العالم اللغوي المشهور في عصر الرشيد، ولا شك أنها نسبة مختلقة، وهي مؤلفة - كما يرى بعض المستشرقين - أيام الحروب الصليبية، وقد عدها بعضهم «إلياذة العرب»، وقيمتها في أنها تمثل حياة البدو، من كرم، وانتقام، ونجدة، وحب، وتذوق للشعر، مزجت فيها حياة البدو في الجاهلية بحياتهم بعد الإسلام، وحيك حولها كلها قصص لطيف بطلها عنترة بن شداد العبسي صاحب إحدى المعلقات.

وقد ترجمت أجزاء منها إلى الإنجليزية والفرنسية.

ومن أشهر القصص قصة بني هلال، وهي في الحقيقة سلسلة من القصص تصور أحداث بني هلال ممزوجة بالخيال الواسع، منها قصة جابر وجبير تمثل بني هلال في القرون الأربعة الأولى للإسلام، وقصة الخضراء - أم أبي زيد الهلالي - وقصة الشماء وزهر البان، وقصة أبي زيد إلخ، وكلها تستمد حوادثها مما كان من غزوات وحروب من قبيلة بني هلال بين الغرب وحدود مصر في القرن الحادي عشر الميلادي، وغير ذلك من القصص كثير كقصة سيف اليزن، وهي تدور حول شخصية عجيبة، تفتح العالم وتحارب الجن، وتخضع أهل الكفر للإسلام ، وكقصة ذات الهمة والظاهر بيبرس إلخ.

وكلها قصص من الأدب الشعبي كانت تسلي الشعب، وتغذي خياله وعواطفه، يقرؤها من يعرف القراءة، ويستمع لها الناس في المجتمعات من قارئين يحترفون قراءتها.

وهي - وإن فضلت المقامات من ناحية فنها - فلا تعد راقية أمام الذوق الفني المهذب.

وربما كان من أهم أسباب ضعف القصص في الشرق ورقيه في الغرب في هذا العصر حركة التمثيل في المسارح، فقد رقيت في الغرب تقليدا للمسرح اليوناني وترقية له مع الزمان. وقد أبى الشرق أن يستعير الأدب اليوناني منذ العصر العباسي، فاستعار العلوم، ولكن لم يستعر الآداب، ولو استعارها لاقتبس منها المسرح، ولكنه لم يفعل واقتبسه الغرب، وسار به مع الزمان، فكان مبعثا للقصص الراقي، وما كان يكون شيكسبير وأمثاله لولا المسرح.

وقد نشأ في الشرق مسرح هو «خيال الظل» اشتهر فيه وفي عمل الروايات له ابن دانيال، ولكنه لم يتم، ولم يرتق مع الزمان، وظل بدائيا طول حياته، حتى انقضى أجله.

وقد نلاحظ - أيضا - الانفصال الشديد بين أدب الخاصة وأدب العامة مع أن هذا الانفصال يقضى عليه في الأدب الغربي، فكان للخاصة في الشرق مقاماتها وشعرها وإعرابها، وكان للعامة زجلها وقصصها، وليس يمكن أن تعيش طائفة من غير أدب، فالشعب لا بد أن يغذي مشاعره بأغانيه وزجله وأمثاله وأحاديثه (حواديته)، فنبغ منهم أدباء يقومون بهذه الأغراض، عندهم ملكة الأدب وإن لم يثقفوا ثقافة واسعة عميقة، وكان من حسن الحظ أن لم يثقفوا؛ لأنهم لو فعلوا لقالوا في أدب الخاصة، والخاصة يترفعون عن أن يقولوا للشعب، وإنما يتجهون إلى الأمراء وأمثالهم. ولا تزال الحواجز بين الأدبين قوية إلى اليوم، فكل من يكتبون في الأدب إنما يكتبون لمن يقرءون العربية الفصحى، وهم المتعلمون، وهم الأقلون. والسواد الأعظم من الأميين يعيش على الأغاني البلدية والأمثلة الشعبية والحواديت العامية، ولم تحل مشكلة التقريب بين طبقتي الشعب في لغتها وأدبها إلى اليوم. (4) التصوف والفلسفة

وقد فشا في هذا العصر التصوف، سواء بين الخاصة والعامة؛ ذلك لأن الناس فقدوا الدنيا فانصرفوا إلى الأخرى، ويئسوا من العدالة الاجتماعية في الأرض فأملوها في السماء، ولم يجرءوا أن يثوروا في وجه الحكام يطالبونهم بتحقيق العدل فقنعوا بالسلامة في ظل الأمل، وضعفت عقولهم عن تمييز الحق من الباطل، فملئوا التصوف بالخرافات والأوهام، ولم تتجرد طبيعتهم من حب اللهو فأدخلوه في التصوف، فكان فيه الغناء والموسيقى والرقص وألعاب البهلوان، وهرع الناس إلى المتصوفة يستمنحونهم البركة، ويستقضون منهم حوائجهم، ويقرعون بهم أبواب السماء، وامتلأت البلاد بأرباب الطرق، ومشايخ الصوفية والأولياء ومدعي الولاية، وعلى الجملة فكان في الحياة الصوفية على سعتها وانتشارها حق قليل وباطل كثير.

وكان لهذا كله صدى في الأدب، فكان عبد الغني النابلسي شاعر المتصوفة، وأشعاره الكثيرة تعيد علينا نغمات ابن الفارض وابن العربي.

وكان عبد الوهاب الشعراني زعيم المتصوفة المؤلفين في هذا العصر، مصري قاهري ولد في أوائل القرن السادس عشر الميلادي، ومصر ولاية عثمانية، وقد شاهد في هذا العصر ظلم الحكام للفلاحين، وكثرة الضرائب عليهم، وسوء تحصيل المال منهم، كما شاهد سوء حال الصناع والتجار، فحبب ذلك إليه التصوف، وعاش في كنفه ينعم بمشاهدة الملائكة والأنبياء والتحدث إليهم، وتلقي أوامرهم ونواهيهم، وقص علينا في كتابه «لطائف المنن» كثيرا مما نعم به في مشاهداته الروحانية، وألف كتبا كثيرة في التصوف شاعت في الناس وتأثروا بها، وربما كان من خيرها «طبقات الصوفية»، يترجم فيها للمتصوفين، ويحكي لكل صوفي بعض حكمه وأقواله وأحداثه، وكتابه «الميزان» يبحث فيه في أسباب اختلاف الأئمة بحثا صوفيا طريفا.

أما الفلسفة فلم تلق رواجا في هذا العصر، ونظر إليها على أنها نمط من الزندقة، وربما نمت الفلسفة الإسلامية في الجو الشيعي أكثر مما نمت في الجو السني كما كان ذلك قديما، فقد أزهرت في العصر الفاطمي الشيعي في مصر، ثم ضعفت في العصر الأيوبي السني، وكذلك في عصرنا ربما عد بهاء الدين العاملي الشامي الشيعي أظهر رجال الشام ومصر في الفلسفة ممزوجة بالتصوف، ولم يقتصر على الفلسفة، بل تعدى ذلك إلى الرياضة والأدب، وتظهر سعة نواحيه وتعددها في كتابيه «المخلاة» و«الكشكول »، فهما دائرة معارف غير منظمة؛ فيها الأدب والتصوف والفلسفة والحساب والهندسة إلخ. وقد توفي سنة 1031ه/1621م. إنما نشطت حركة الفلسفة في هذا العصر في فارس في عهد الدولة الصفوية، وكانت فلسفة إشراقية ممزوجة بالتصوف تعد من أساتذتها فيثاغورس وأفلاطون أكثر من أرسطو. وقد كان نتاج هؤلاء الفلاسفة الفرس كثير منه باللغة العربية، ورأسهم في هذا الباب صدر الدين الشيرازي المتوفى سنة 1641م، وكتابه «الأسفار» من أعظم الكتب في الفلسفة، مزج فيها آراء الفلاسفة اليونانيين بآراء ابن سينا بتصوف ابن العربي، واستخرج من كل ذلك خلاصة قيمة، وكانت شخصيته وكتبه ذا أثر كبير في الحركة الفلسفية في فارس إلى عصرنا الحاضر. (5) التأليف

الحق أن حركة التأليف في هذه الفترة كانت كبيرة نشيطة - وخاصة في مصر والشام - فنظرة إلى ما ألف في هذا العصر في مختلف العلوم تدل دلالة واضحة على هذا النشاط.

وكان من حسن حظ العلم أنه لم يقصر نفسه على القصور كما فعل الأدب، نعم إن بعض العلماء ألف للأمراء واتصل بهم، واستفاد منهم، ولكن الكثير كان يشتغل بالعلم في عزلة عن القصور، وكان أهم باعث لهم الباعث الديني، فهم يؤلفون في التفسير والحديث للباعث الديني، ويؤلفون في اللغة والأدب؛ لأنهما وسيلتان من وسائل فهم القرآن والحديث، على أن سلاطين المماليك من جانبهم فهموا من مقتضيات الملك وتأييده وعظمته وتخليد ذكره بناء المساجد عادة توارثوها من أول أمرهم؛ ولذلك حليت مصر في عهدهم بكثير من المساجد. وكان الصالح منهم يبني المسجد تدينا، والفاسق يبنيها مكفرا عن فجوره وظلمه، إذ كانت عقيلتهم أن لا بأس من الجمع بين تذبيح وتسبيح، وسرقة وصدقة، وأن التسبيح يجب التذبيح، والصدقة تذهب بالسرقة.

وكان المسجد قطعة فنية جميلة حيى بها الفن، ولا يزال يعيش عليه دارسو الفن الإسلامي إلى الآن، وكان أيضا مدرسة، لكل مسجد شيخه، بل شيوخه، ولهم تلاميذ، وعليهم جميعا الأوقاف تعينهم على طلب العلم، وفي المسجد مكتبة للاطلاع والبحث، فكان في كل مسجد حركة علمية تقوى وتضعف بمقدار الأوقاف، وبكفاية شيخ المدرسة، وعناية الأمراء بالمسجد، وكان كثير من العلماء البارزين في هذا العصر شيوخ هذه المدارس أو المساجد، كمدرسة بيبرس، وقلاوون، وشيخون، وبرقوق، والمؤيد.

وقد تعاون على التأليف في الأدب هذه المدارس من جهة، وديوان الإنشاء وإعداد رجاله من جهة أخرى.

ونحن نعرض في إيجاز حركة التأليف في الأدب وما يتصل به.

فأول ما يلفت نظرنا في أول هذا العصر، التأليف في الموسوعات، أو دوائر المعارف، وكان القصد منها جمع المعارف التي وصلت إلى زمانهم، وإمداد رجال الديوان بالمعلومات التي تلزمهم، ولو جاءتهم فكرة ترتيبها على حسب حروف الهجاء، لكان لنا من ذلك دوائر معارف قيمة سهلة التناول.

وكان من أسبقهم في ذلك النويري أبو العباس شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب (1282-1332م)، وهو مصري من نويرة ، وقد اشتهر بالفقه والتاريخ، وألف موسوعته التي اسمها «نهاية الأرب»، وهي تطبع في دار الكتب الآن، وقد انتهى منها طبع ثلاثة عشر جزءا، وقد تبلغ الثلاثين. وقسم كتابه إلى أقسام: (1) السماء والآثار العلوية، والأرض والمعالم السفلية. (2) الإنسان وما يتعلق به. (3) الحيوان الصامت. (4) النبات. (5) التاريخ من بدء الخليقة إلى سنة 1331م أي قبل وفاته بعام.

وكان النويري من رجال الملك الناصر محمد بن قلاوون.

وقد استغله كثير من المستشرقين في بحوثهم، فترجم بعضهم إلى الفرنسية ما كتبه عن صقلية، وبعضهم ما كتبه عن فتح العرب للمغرب، واعتمد بعضهم عليه فيما كتبه عن الظاهر بيبرس إلخ.

وجاء ابن فضل الله العمري (1301-1348م)، وقد كان معاصرا للنويري، فألف كتابه «مسالك الأبصار»، وهو من نسل عمر بن الخطاب، وقد ولد في دمشق، ورحل إلى بلاد كثيرة، وانتقل إلى القاهرة، وتولى بها القضاء، وعمل أيضا في ديوان الملك الناصر.

وكتابه «مسالك الأبصار» في التراجم والتاريخ والجغرافيا مملوء بالفوائد القيمة والمعلومات الواسعة، إلى أناقة في التعبير، وجمال في الأداء يفوق النويري، وهو يقع في أكثر من عشرين جزءا طبع منه جزؤه الأول في دار الكتب.

ثم القلقشندي المصري، وقد تقدم ذكره، وهو من أصحاب الموسوعات، إذ ألف كتابه الضخم، «صبح الأعشى في صناعة الإنشا».

قدمه بمقدمة في فضل الكتابة، وصفات الكتاب، والتعريف بديوان الإنشاء وقوانينه.

ثم المقالة الأولى فيما يحتاج إليه الكاتب من الأمور العلمية والعملية، والثانية في المسالك والممالك.

والثالثة والرابعة في تاريخ الكتابة وتطوراتها، وما التزم في بدئها وختامها، واختلافها باختلاف المكتوب إليه وموضوع الكتاب. والخامسة في البيعة والعهد وأنواع المناصب من رجال السيف والقلم. ثم ما يحتاج إليه الكاتب من الإقطاعات وما يكتب في شأنها، وعقد الصلح وفسخه وما يكتب في ذلك، وتاريخ البريد، ومراكزه في مصر والشام، وحمام الرسائل، ومطاراته وأبراجه إلخ إلخ.

وقد أراد به أن يزود الكاتب بكل ما يحتاج إليه من معلومات، وقد طبع في دار الكتب في أربعة عشر مجلدا، وقد توفي القلقشندي سنة 1418م.

فكتاب النويري أوسع موضوعا، وكتاب العمري أوسع في الجغرافيا والتاريخ، وكتاب القلقشندي ألصق بالكتابة وأدواتها ولوازمها، ولكل فضل.

وقد كانت كلها مصدرا للأدباء والعلماء، كما أنها حفظت لنا ثروة كبيرة من مؤلفات الأقدمين، ومن معلومات هامة عن الأحداث المعاصرة، وكما كانت مادة قيمة للباحثين من المستشرقين والشرقيين. (5-1) المؤرخون

كثر مؤلفو التاريخ في هذا العصر من تراجم رجال إلى تاريخ مدن إلى تاريخ سياسي لدولة إلى تاريخ عام.

وكان من أوائل المؤلفين في هذه الفترة ابن خلكان، فقد ألف كتابه وفيات الأعيان، فكان مرجع كل باحث، ومؤلفه ابن خلكان هذا ينتمي إلى يحيى بن خالد البرمكي، وقد ولد في أربل (1211م)، ودرس في حلب ودمشق والقاهرة، وكان قاضي القضاة في الشام في عهد الظاهر بيبرس.

وكتابه من أهم الكتب في تراجم المشهورين من رجال العلم والأدب والصناعة والمال غير الصحابة والتابعين والخلفاء، واجتهد فيه في تحري الحقائق بعين ناقدة، في لغة سليمة بسيطة، متوقيا قدر الإمكان ألفاظ الفجور. وقد احتوى نحو 865 ترجمة، وعني أشد العناية بتحقيق سنة الوفاة، ومن ثم سماه «وفيات الأعيان»، وربما ترك مشهورا من العلماء والأدباء؛ لأنه لم يتحقق من تاريخ وفاته، وربما كان كتابه هذا أول كتاب من نوعه لشموله وعدم اقتصاره على نوع معين من المشهورين ولا على بلد معين .

وقد مات سنة 1282م.

وقد ذيل هذا الكتاب ابن شاكر الكتبي المتوفى نحو سنة 1303م مترجما لبعض من تركه ابن خلكان، ولابن خلكان نفسه ولبعض من جاءوا بعده، وسمى ذيله «فوات الوفيات». وهو دون الوفيات في استيفاء الترجمة، وتحري سنة الوفاة. •••

وألف محمد بن علي بن طباطبا نزيل الموصل في عهد فخر الدين عيسى بن إبراهيم كتابه الذي نسبه إليه وسماه الفخري. وعرض فيه لتاريخ الدولة الإسلامية من أول عهدها إلى آخر الدولة العباسية، وقد عنى فيه بالأسلوب، ودقة التعبير، وحسن السبك، كما أن له نظرات دقيقة في شئون السياسة العامة وقواعد كلية يستشهد عليها بالأحداث الإسلامية الجزئية، وقد ولد ابن طباطبا سنة 1262م.

كما ألف أبو الفداء أمير حماة، من قبل الملك الناصر ومن نسل الأيوبيين، والذي عاش من سنة 1273-1331م كتابه في التاريخ العام، وقد اعتمد فيه على الطبري وابن الأثير، وهو أكثر فائدة في تأريخه للفترة الأخيرة التي كانت بعد ابن الأثير، وانتهت سنة 1329.

واشتهر بالتاريخ شمس الدين الذهبي (1274-1348م)، وهو من أصل تركماني، ولد في دمشق ورحل إلى بلاد كثيرة يلقى علماءها، وقد اشتهر في التاريخ بكتابيه «طبقات الحفاظ» في تراجم المحدثين ونقدهم والحكم لهم أو عليهم، وكتاب «تاريخ الإسلام» وكان عمدة كثير من المؤرخين بعده، وهو لم يطبع إلى الآن.

وخليل بن أيبك الصفدي المتوفى سنة 1363م الفلسطيني، وقد اشتهر بكتابه الواسع في التراجم المسمى «الوافي بالوفيات» في ستة وعشرين جزءا، وقد طبع منه بعض أجزائه.

ثم ابن كثير (1302-1372م)، وقد خلف الذهبي في التدريس بدمشق وألف في التاريخ كتابه «البداية والنهاية» بدأه ببدء الخليقة، وانتهى إلى سنة 1337م، وقد طبع في مصر في أربعة عشر مجلدا.

وألف لسان الدين بن الخطيب الذي تقدم ذكره «الإحاطة في أخبار غرناطة» ترجم فيه لرجالها كما ألف في تاريخ الأندلس والمغرب.

وكان من المؤرخين في هذا العصر ابن الفرات المصري المولود سنة 1334م، وله كتاب كبير في جملة أجزاء طبع بعضها، وأهميته في أنه يعد مرجعا عظيم القيمة في الحروب الصليبية.

وقد تفوق في التاريخ - وكان نسيج وحده - «ابن خلدون» (سنة 1332-1406م) منحه الله عقلا نفاذا، وذكاء لامعا، وملاحظة دقيقة، ثم انغمس في الحياة السياسية المضطربة في الأندلس والمغرب ومصر فأفاد منها، اتصل بالملوك والأمراء والخاصة والعامة، فدرس أحوالهم عن قرب، وتولى المناصب الكبيرة، وسفر بين الملوك فاطلع على بواطن الأمور، وربط الأحداث بعضها ببعض، وعرف أسبابها ونتائجها، واستخرج من ذلك علما هو علم التاريخ. لقد كان المؤرخون قبله يسردون الحوادث، ويسمون ذلك تاريخا، فجاء هو يستخرج من الجزئيات كليات ونظريات، ويطبقها على الأحداث وأمثالها.

أصله عربي من كندة من حضرموت. رحل بعض أجداده «خالد» إلى الأندلس، وسميت الأسرة ببني خلدون، وسكنت أولا بالقرب من إشبيلية، ثم في إشبيلية، ثم في تونس. وبعد أن أتم دروسه التحق بخدمة السلطان أبي إسحاق إبراهيم من بني حفص، وتوالت عليه أيام البؤس والرخاء، وتدخل في نزاع السلاطين، ونصر بعضا على بعض، فإذا جاءت دولته كرم، وإذا زالت عذب وسجن، إلى أن أتى مصر، وتولى التدريس فيها، ثم على كره منه ولاه السلطان برقوق القضاء، فعرف بشدته، ورفضه الرجاء، فكان له من ذلك أعداء، فعزل، ثم ولي، ثم عزل، ثم ولي، وصحب الملك الناصر «فرجا» الذي خلف برقوق إلى الشام في حروبه مع تيمورلنك، ولقي ابن خلدون تيمورلنك فأكرمه وأعجب به، وعاد إلى مصر حيث مات بها سنة 1406م.

ألف ابن خلدون تاريخه الضخم «العبر»، وأعظم جزء فيه مقدمته، فهي الموضوع المبتكر، وضع فيها أسس التاريخ من حيث هو علم، فنقد المؤرخين السابقين في طريقتهم من عدم الدقة، والتحري، وإعمال العقل فيما يروون، ورأى أن العالم ينتقل في أدوار طبيعية، من بدو إلى حضارة، وشرح هذا الترقي في الاجتماع والدين والسياسة والاقتصاد والفن والعلم، فمزج بين ما سمي بعد بعلم الاجتماع وعلم الاقتصاد وعلم السياسة وعلم الحضارة مزجا تاما.

بين لنا كيف تتكون الدول، وكيف تنمو وكيف تنهار، وما لذلك من أعمار، ووسائل الرقي والانحطاط، وطبائع البدو وطبائع الحضر، إلخ. وأسلوبه فيها أسلوب رياضي أشبه ما يكون بشرح نظرية هندسية - الفرض ثم الدعوى أو المطلوب ثم البرهان - في تعبير لا يزيد عن المعنى ولا ينقص، ليس فيه من المحسنات اللفظية ما يصرف النظر عن الجوهر، قد تحرر لفظه من قيود السجع، كما تحرر فكره من قيود السياسة والتعصب لمذهب ديني معين، أو جنس من الناس معين حتى ولا جنسه العربي.

فإذا نحن علمنا أنه لم يحذ في ذلك حذو أحد قبله أدركنا سر عظمته، وقد أخذ عليه بعض المستشرقين أن كل أمثلته وتطبيقاته إنما هي على الدول الإسلامية. ولو كان قد توسع في التاريخ السياسي اليوناني والروماني لكان له أفق أوسع، ونظر أشمل، ولكن أي إنسان خلا من «لو»!

وبقية الأجزاء كسائر كتب التاريخ، ولكن تمتاز بمقدمة صغيرة بين يدي الموضوع وبذكر حوادث مما حدثت بعد الطبري وابن الأثير، وبمعلومات وافية عن تاريخ المغرب.

وقد كتب هذا التاريخ - أولا - سنة 1337م، ثم أعاد تنقيحه مرارا.

وعلى الجملة، فإن كان غيره من المؤرخين شريطا مسجلا، فإنه ترفع عن ذلك وأبى إلا أن يبحث في الآلة كيف تسجل، وكيف تصنع، ومتى تجود، وكيف يكون في الإمكان أن تكون خيرا مما كان.

ومن الأسف أن لم يكن بين المسلمين من نهج نهجه، ورقى نظرياته، وإنما كان ذلك في الغرب أخيرا إذ أسس علم الاجتماع وعلم السياسة وعلم الاقتصاد وعلم التاريخ.

ومن أمثلة أسلوبه وتفكيره قوله في التربية وطرق التعليم: «اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا إذا كان على التدريج شيئا فشيئا، وقليلا قليلا، يلقي عليه أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه، حتى ينتهي إلى آخر الفن. وعند ذلك تحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن، وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه ، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا، فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا مغلقا إلا وضحه، وفتح له مغلقه، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد، وهو - كما رأيت - إنما يحصل في ثلاث تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون المتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مرانة على التعليم وصوابا فيه، ويكلفونه وعي ذلك وتحصيله، ويخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مباديها، وقبل أن يستعد لفهمها، فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجا، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزا عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال، وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلا قليلا بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكررها عليه. والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد، ثم في التحصيل، ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات - وهو حينئذ عاجز عن الفهم والوعي، وبعيد عن الاستعداد له - كل ذهنه، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه، وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم.»

ثم المقريزي أبو العباس تقي الدين، أصله من بعلبك وتحول والده إلى القاهرة، فولد تقي الدين (1365-1442م)، ونسبته إلى حارة بعلبك تسمى المقارزة، وقد أكثر من التأليف في التاريخ، وخاصة في تاريخ مصر في عصورها المختلفة، من الخلفاء الفاطميين «اتعاظ الحنفا» إلى المماليك «السلوك»، وفي تخطيطها «المواعظ والاعتبار»، وهو واسع الاطلاع، كثير النقل من غير عزو، قليل النقد، ومع هذا ترك لنا ثروة من المعلومات قيمة ما كان يمكننا الوصول إليها لولاه. وجاء في أول خططه قوله: «وبعد، فإن علم التاريخ من أجل العلوم قدرا، وأشرفها عند العقلاء مكانة وخطرا؛ لما يحويه من المواعظ والإنذار ، بالرحيل إلى الآخرة عن هذه الدار، والاطلاع على مكارم الأخلاق ليقتدى بها، واستعلام مذام الفعال ليرغب عنها أولو النهى. لا جرم أن كانت الأنفس الفاضلة به وامقة، والهمم العالية إليه مائلة وله عاشقة. وقد صنف الأئمة كثيرا، وضمن الأجلة كتبهم منه شيئا كبيرا.

وكانت مصر هي مسقط رأسي، وملعب أترابي ومجمع ناسي، ومغنى عشيرتي وحامتي، وموطن خاصتي وعامتي، وجوي الذي ربى جناحي في وكره، وعش مآربي فلا تهوى الأنفس غير ذكره. لا زلت مذ شدوت العلم، وآتاني ربي الفطانة والفهم، أرغب في معرفة أخبارها، وأحب الإشراف على الكثير من آثارها، وأهوى مساءلة الركبان عن سكان ديارها ، فقيدت بخطي في الأعوام الكثيرة من ذلك فوائد قلما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها إهاب، إلا أنها ليست بمرتبة على منوال، ولا مهذبة بطريقة واحدة ومثال. فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية، عن الأمم الماضية والقرون الخالية، وما بقي بفسطاط مصر من معاهد غيرها - أو كاد - البلى والقدم، ولم يبق إلا أن يمحو رسمها الفناء والعدم، وأذكر ما بمدينة القاهرة، من آثار العصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكرى الذي شادها من سراة الأعاظم الأفاضل، وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة، وحكما بديعة شريفة، من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف يخل بالغرض ولا اختصار، بل وسط بين الطرفين، وطريق بين بين ...» إلخ.

وجاء ابن عربشاه (1389-1450م) وهو دمشقي الأصل أخذ أسيرا في غزوة تيمورلنك للشام، وأرسل إلى سمرقند، وقد استفاد من إقامته في هذه البلاد ومن رحلته إلى خوارزم وطراخان وغيرها معلومات قيمة عن الفرس والترك ومعرفة بلغتهما، وقد اتصل بالسلطان محمد الأول بن بايزيد وقربه إليه، ثم حج وأتى مصر.

وقد ألف كتابه «عجائب المقدور في أخبار تيمور» وهو مسجوع مملوء بالمحسنات البديعية، وفيه معلومات طريفة عن تيمورلنك ودولته، كما ألف «فاكهة الخلفاء» وهو كتاب في السياسة الرمزية ككليلة ودمنة، وقلد فيه كتابا فارسيا اسمه مرزبان نامه.

وألف أبو المحاسن بن تغري بردي (المتوفى سنة 1459م) كتابه النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة مرتبا حسب السنين من فتح العرب لمصر إلى سنة 1453م، مع ذكره في كل سنة من توفي فيها من المشهورين.

ثم شهاب الدين أبو العباس المقري (سنة 1591-1632م) ولد في تلمسان، ورحل إلى فاس ومراكش، ثم حج وجاء إلى مصر ورحل إلى بيت المقدس ودمشق.

وقد ألف كتابه «نفح الطيب» أثناء إقامته في القاهرة وهو قسمان؛ قسمه الأول: في تاريخ الأندلس ورجالها، والثاني: في ترجمة لسان الدين بن الخطيب ومشايخه، ومن يتصل به ، وفي الكتاب معلومات قيمة عن الأندلس لا نظفر بها في غيره.

وكتب طاشكبرى زاده التركي الأصل (1495-1560م) كتابه شقائق النعمان ترجم فيه لنحو 522 رجلا من علماء الترك ومتصوفتهم، كما ألف «نوادر الأخبار» ترجم فيه لأعلام الإسلامي ... إلخ إلخ. •••

وإذا انحرفنا قليلا عن خط التاريخ وجدنا شيئا كبير القيمة قريبا منه وهو الرحلات، وعلى رأسها رحلة ابن بطوطة (1304-1377م). ولد مؤلفها في طنجة، ونشأ طلعة. وبعد أن تثقف نوى أن يزور العالم الإسلامي ويتعرف أحواله، ويقيد ما يرى في البلاد وأحوال سكانها وعاداتهم ونحو ذلك، وقد رحل إلى شرق أفريقيا والقسطنطينية والهند وسيلان والصين. وعاد إلى بلده طنجة سنة 1349م، واستقر بها أشهرا، ثم زار غرناطة، ثم بلاد السودان.

وقد فاق في وصفه الرحالين في العصور القديمة والوسطى في دقة تصويره رغم ما وقع فيه من أخطاء ومبالغات وأوهام، ولا يزال مصدرا معولا عليه في وصف الحياة الاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي في عصره. •••

وألف في هذا العصر من معاجم اللغة كتاب لسان العرب لأبي الفضل محمد بن مكرم المتوفى في القاهرة سنة 1311م في عشرين مجلدا جمع فيه كتاب التهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصحاح للجوهري، والجمهرة لابن دريد، والنهاية لابن الأثير.

وهو يجمع مادة ضخمة في اللغة والأدب، إذا استشهد ببيت أو حديث أو آية فسره، وأتى في ذلك بفوائد قيمة، وقد قال في مقدمته: «وإني لم أقصد سوى حفظ هذه اللغة العربية وضبط فضلها؛ إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية ... وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان، من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنا مردودا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودا، وتنافس الناس في تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية، وتفاصحوا في غير العربية، فجمعت هذا الكتاب في زمن أهله بغير لغته يفخرون، وصنعته كما صنع نوح الفلك وقومه منه يسخرون.»

ثم «القاموس المحيط» لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي (1329-1414م) ولد بكازرين إحدى بلاد فارس، وتعلم في واسط وبغداد ودمشق، ورحل إلى مصر، ثم إلى آسيا الصغرى ولقي تيمورلنك في شيراز، فقابله مقابلة حسنة، ثم دخل زبيد فتلقاه الأشرف إسماعيل سلطان اليمن بالقبول، وعينه قاضي القضاة باليمن، حتى مات.

ولقي كتابه «القاموس» شهرة كبيرة، حتى سمي كل معجم قاموسا، وهو شديد الاختصار وأقل قيمة من لسان العرب، وإن كان يمتاز ببعض مزايا كتمييزه بين الواوي واليائي، وضبطه البلدان والأعلام، ونصه على صيغة المؤنث إلخ.

وقد جاء في العصر العثماني السيد المترضى الزبيدي، ولد في اليمن ونشأ بها، ثم جاء إلى مصر، وكان يعرف العربية والفارسية والتركية، فشرح قاموس الفيروزابادي في عشرة مجلدات ضخمة وسماه تاج العروس. •••

وكما كان هناك موسوعات في الكتب، كان هناك رجال موسوعيون يؤلفون المؤلفات المختلفة الكثيرة في الموضوعات المختلفة، ولعل من يمثل هذا خير تمثيل جلال الدين السيوطي (1445-1505م)، وقد سكنت أسرته أسيوط فنسب إليها، ولكنه ولد في القاهرة من أب كان قاضيا، وقد درس العلوم المختلفة في عصره، وحدث عن نفسه فقال: رزقت التبحر في سبعة علوم - التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب والبلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة - والذي أعتقده أن الذي وصلت إليه من هذه العلوم سوى الفقه والنقول التي اطلعت عليها فيها لم يصل إليه ولا وقف عليه أحد من أشياخي فضلا عمن دونهم.

وأما الفقه فلا أدعي ذلك فيه، بل شيخي فيه أوسع نظرا وأطول باعا (يريد شيخه علم الدين البلقيني )، ودون هذه السبعة في المعرفة أصول الفقه والجدل والتصريف، ودونها الإنشاء والترسل والفرائض ودونها القراءات، ولم آخذها عن شيخ، ودونها الطب، وأما علم الحساب فهو أعسر شيء علي وأبعده من ذهني، إذا نظرت فيه مسألة تتعلق به فكأنما أحاول جبلا أحمله.

وقد عد هو من تآليفه ثلاثمائة كتاب في فروع مختلفة، في اللغة «المزهر» - مثلا - وهو من خير كتبه، وفي النحو كالأشباه والنظائر، وطبقات النحويين واللغويين، وفي التاريخ كحسن المحاضرة، وفي علوم القرآن كالإتقان ... إلخ.

ويظهر أن إعجابه بنفسه - كما تدل عليه كلمته السابقة - وإغارته على بعض تأليف غيره جعلت له أعداء كثيرين من علماء عصره؛ مما دعا السلطان طومان باي أن ينحيه من مناصبه، وقد اتهم كثيرا بأنه يأخذ من تآليف غيره ويحورها وينسبها إلى نفسه، حتى تنازع هو والقسطلاني في كتاب «المواهب اللدنية» أيهما ألفه، والقسطلاني يدعي أن السيوطي أغار عليه، حتى تحاكما إلى شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، فحكم به للقسطلاني.

وأيا ما كان، فقد كان جماعا أكثر منه مبتكرا أو ناقدا. •••

وجاء حاجي خليفة المعروف بكاتب جلبي، وهو تركي من الأستانة تعلم والتحق بالجيش واشترك في حملة وجهت إلى بغداد وإلى همذان وإلى حلب، وانتدبه السلطان محمود الثاني في لجنة لإصلاح مالية الدولة، ومات سنة 1658م.

فألف موسوعة يذكر فيها كل ما اطلع عليه ووصل إلى علمه من الكتب، وسماه «كشف الظنون في أسامي الكتب والفنون» يشتمل على نحو خمسة عشر ألف اسم لكتاب مع ذكر مؤلفيها وتاريخ وفاتهم ما أمكن.

ويذكر فذلكة عن كل علم عند ذكر حرفه حسب حروف الهجاء، فتاريخ علم الأدب في الهمزة، والفقه في الفاء، والحساب في الحاء وهكذا.

وقد حظي هذا الكتاب لحاجة الباحثين إليه، وهو مرجع للباحث العربي والفارسي والتركي. •••

من هذا كله يتجلى أن حركة التأليف هذه كانت حركة قوية، ورجالها مخلصون في بذل الجهد والرغبة في التحصيل والمسابقة في التأليف، ولكنها حركة معادة كحركة الماء على سطح البحيرة الراكدة، فأكثر هذا التأليف جمع لأقوال من سبق، أو تجميع لمتفرق ، أو تفريق لمجتمع أو تسجيل لما حدث، وإذا استثنينا ابن خلدون وقليلا من المؤلفين لم نجد جديدا.

والأدب ليس إلا صورة ممسوخة لأدب ابن العميد، وابن عباد، والقاضي الفاضل، ومقامات الحريري، وشعر أبي تمام، والبحتري، وأمثالهما. وكان الأمر في العصر العثماني أسوأ منه في عهد المماليك، فقد أصبح الأدب والعلم تقليدا للتقليد، وأصاب البلاد ركود في الحركة العلمية والأدبية، وصار نفسا ينبعث من صدر شيخ فان، واستمر الحال على هذا المنوال إلى الحملة الفرنسية، ثم محمد علي. •••

هذه لمحة خاطفة في قصة الأدب العربي في ذلك العصر لم نطل فيها كما أطلنا في الآداب الأخرى؛ لأن كتبها المطولة في متناول القارئ العربي.

فإذا نحن نظرنا إلى الأدب العربي في هذه الفترة في ضوء ما حكيناه عن الأدب الغربي رأينا البون شاسعا، في هذه الفترة في أوروبا كانت النهضة، والثورة على القديم، ووضع أسس جديدة لحياة جديدة، وتحكيم العقل في المسائل العلمية، وتحرير العواطف من قيود التقاليد، واستمرت العواطف والعقل ترقى طوال القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. وشهدت هذه النهضة قصص شيكسبير، ومآسي راسين، وملاهي موليير، وأساطير لافونتين، وروائع جوته إلى كثير من أمثال ذلك، كما شهدت فلسفة بيكون وديكارت وهجل، ووضع كل قضية موضع البحث والتجربة، وكما شهدت الرقي الصناعي، واكتشاف البلدان والتقدم في كشف المخترعات.

لقد كان الشرق والغرب يسيران متحاذيين تقريبا قبل النهضة الأوروبية إن لم يفق الشرق، فلما جاء عصر النهضة كان الغرب يسير إلى الأمام، والشرق يسير إلى الخلف في العلم والأدب والفن والصناعة وسائر ضروب الحضارة، وكلما مضى الزمن كبر الفرق.

ويرجع ذلك إلى سوء الحالة الاجتماعية والسياسية في الشرق، فظلم الحكام من المماليك والعثمانيين خنق الشعب، وإسرافهم في ترفهم أفقر الشعب، ولكن كان الحال كذلك في الغرب، فثار الشعب، فلم لم يثر الشرق على حكامه وينتزع حقوقه من أيديهم؟

لقد أصيب الشرق بكوارث خطيرة من غزوات التتار وتيمورلنك والصليبيين، وكان الخراب والتدمير والفقر وتوالي النكبات، فضعفت من ذلك نفوس الشعوب.

وكان رجال الدين في يد الحكام يسخرونهم كما يشاءون إلا في القليل النادر، والشعوب تحترم رجال الدين، وتصغي إليهم، وتسمع لأوامرهم ونواهيهم، فكان الصمت، وكان الاستسلام، وكان الاعتقاد بأن الظلم من غضب الله، والفقر من قدر الله.

لقد كان من أهم ما اتجه إليه الأدب والعلم في النهضة الأوروبية الدنيا وشئونها، فلا حرج على الإنسان أن يستمتع بملذات الحياة، وأن يهتم بالدنيا وما فيها، بل أفرطوا في ذلك، وعلى أثر ذلك قوي العلم وقويت العواطف فقوي الأدب. أما في الشرق فلم يضموا الدنيا إلى الآخرة في الحساب ، ونسوا قوله تعالى:

قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ، وقوله

صلى الله عليه وسلم : «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا»، وكان نظرهم إلى الآخرة يصبرهم على بؤسهم في الدنيا، فنظروا إلى الآخرة وحدها؛ ولذلك كانت الحركة العلمية حركة دينية بحتة من تفسير وحديث وفقه، واللغة لخدمة الدين، والنحو والصرف لخدمة الدين، أما النظر إلى الطبيعة والصناعة والمادة والعمل على ترقيتها واستخدامها فليس في الحساب، ولذلك غلبهم الأوروبيون - في أول احتكاك - بمهارتهم في شئون الدنيا، ودهش الجبرتي وأمثاله مما رأوا من عمل الفرنسيين في الطبيعة والكيمياء. ولم يرزق الله الشرق بعظماء يغيرون هذا الاتجاه، ويدعون إلى النظر في الدنيا كما ينظرون إلى الآخرة، ومن بدأ في ذلك كابن خلدون لم يستطع أن يكون مدرسة. في الغرب كان من دعا مثل هذه الدعوة، ثم سجن أو عذب لتعاليمه الجديدة الجريئة، كان يجد من يحمل اللواء عنه حتى تستقر الدعوة، ولكنه في الشرق كان يسجن أو يعذب، فتنكمش النفوس، ولا يجرؤ أحد على نصرته فتموت الفكرة، وذلك لما ذكرنا مما أصاب نفسية الشعب.

ماتت الفلسفة التي تحيي الفكر ومات الاعتزال الحر، وبقي الأمر في يد الفقهاء والصوفية، والفقه تحول إلى شكل، والتصوف تحول إلى شعوذة إلا في القليل النادر، وكان هؤلاء جميعا قادة الشعوب روحيا، والملوك الظلمة والأمراء الطغاة قادتهم إداريا، وتصالح هؤلاء وهؤلاء على إماتة الشعوب، فمن فاه بكلمة تخالف المألوف فويل له ، فوقفت حرية الفكر، وليس ينهض الأدب إلا في جو الحرية.

ثم إن الأدب لا ينهض إلا بالتطعيم، لقد نهض الأدب العربي في آخر العصر الأموي وفي العصر العباسي بتطعيمه بالأدب الفارسي والهندي والعلم اليوناني، ونهض الأدب الأوروبي في عصر النهضة بتطعيمه بالأدب اليوناني والروماني، ونهض أدب كل أمة أوروبية من إنجليزية وفرنسية وألمانية وإيطالية باقتباسها من غيرها، وترجمة خير ما تخرجه الأمم الأخرى إلى لغتها، فبذلك كان الأدب في حركة مستمرة وحياة متدفقة غير راكدة.

والأدب العربي في هذه الفترة أغلق على نفسه، لم يطعم أي تطعيم ولم يتفتح أمامه أي أفق جديد، ولم يتأثر أي تأثر بما كان يجري في أوروبا من نهضة، فلما لم تهب عليه ريح جديدة، ولا جرى إليه جدول جديد أصيب بالركود. •••

لقد كان ذلك إلى حملة نابليون على مصر سنة 1798م، حيث اتصل الشرق بالغرب، وأخذ يطلع على علومه وآدابه، ويدخلها مع الأدب العربي القديم في منهاجه، ولكن مع الأسف شعر الشرق حين اطلاعه على علم الغرب وأدبه بشيء من «مركب النقص» كما امتزج إعجابه بتقدم العلم والأدب في أوروبا بشعوره بكراهية الاستعمار الذي جرته معها المدنية الغربية، فكان من ذلك كله نتائج هي موضوع بحثنا في الجزء الثالث إن شاء الله.

الفصل الخامس عشر

الأدب الفارسي

من غارات التتار إلى انقضاء الدولة الصفوية من منتصف القرن السابع الهجري إلى منتصف القرن الثاني عشر

أجملنا في الجزء الأول من قصة الأدب أحوال الأدب الفارسي الإسلامي منذ نشأته إلى غارات التتار؛ أي من أواخر القرن الثالث الهجري إلى منتصف القرن السابع. فصورنا بعض مظاهر هذا الأدب القيم الواسع على قدر ما يحتاج قراء العربية الذين يبغون أن يعرفوا من هذا الأدب ما لا يسع المتأدب جهله.

وفي هذا الفصل نسوق الكلام في تاريخ هذا الأدب أو التعريف ببعض أحواله بعد غارات التتار إلى انقضاء دولة الصفويين. وذلكم زهاء خمسة قرون، سيطر فيها على إيران كلها أو أكثرها التتار الإيلخانيون، ثم تيمورلنك وخلفاؤه، ثم الصفوية. وبين هذه الدول دول صغيرة نشأت في الاضطراب الذي يقارن سقوط دولة كبيرة وقيام أخرى، كما عاصرت الإيلخانيين والتيموريين دول أخرى في أرجاء إيران، ولكن تاريخ هذه الدول الثلاث الكبيرة يوضح عصور التاريخ الإيراني في هذه القرون الخمسة.

مقدمة

فجئ التتار الأقطار الإسلامية بغاراتهم المدمرة في العقد الثاني من القرن السابع الهجري. وسرعان ما اجتاحوا بلاد ما وراء النهر، لم يثبت أمامهم جيش، ولا ردت بأسهم مدينة. ولم يستطع ملوك خوارزم أن يصدوا هذا السيل الجارف بالبأس ولا بالحيلة. وعبرت الجيوش التتارية نهر جيحون إلى بلاد الفرس، ويممت فرق منهم الغرب فانساحت في أوروبا الشرقية.

وكان التتار حيثما ساروا ينشرون الخراب والدمار، ويشيعون الفزع والهلع كالنيران المضطرمة، والرياح العاصفة. وقد صدقت فيهم مقالة الفرس: جاءوا وقتلوا وأخربوا، وأحرقوا وحملوا وذهبوا.

ولا يسعني - كلما كتبت عن غارات التتار - أن أنسى الكلمات المبكيات التي خطها مؤرخ معاصر؛ ابن الأثير صاحب التاريخ الكامل، فليقرأها من شاء.

ظلت حوادث التتار تضطرب فيما وراء النهر وشمال إيران حقبة. فلما كانت سنة إحدى وخمسين وستمائة وجه منكوقا آن ملك التتار - حفيد جنكيز خان - أخاه هولاكو للقضاء على حصون الإسماعيلية وعلى الخلافة العباسية في بغداد، فأخضع أمراء إيران والقوقاز إلى آخر سنة ثلاث وخمسين. ثم فتح قلاع الإسماعيلية سنة أربع وخمسين. ثم عمد إلى بغداد ففتحها، وقتل الخليفة المستعصم بالله آخر الخلفاء العباسيين في المحرم سنة ست وخمسين.

ثم توجه صوب الغرب يبغي الشام ومصر واستولى على البلاد، حتى كانت موقعة عين جالوت في فلسطين سنة ثمان وخمسين، فردت الجيوش المصرية والشامية التتار، وعلمت المسلمين أن هذا العدو الهائل لا يستعصي على الشجاعة والصبر. فارتد خطر التتار عن مصر، ثم انحسر شرهم عن الشام سريعا، ولكن بقي سلطانهم في العراق، واتصل ملكهم من بادية الشام إلى التركستان الشرقية.

وكان لهولاكو من هذه الأقطار ما فتحه منذ وجهه أخوه للفتح، وهو ما بين جيحون إلى البحر الأبيض، وما بين جبال القوقاز إلى المحيط الهندي. وقامت له ولذريته من بعده دولة واسعة استمرت إلى سنة 744ه، وعرفت باسم الدولة الإيلخانية، أي دولة ملوك الأقاليم، تمييزا لهم عن دولة الخاقان الأعظم، وكانوا يعترفون بسلطان الملك الأعظم الخاقان وارث عرش جنكيز خان.

فصل قيام الدولة الإيلخانية - في العالم الإسلامي الشرقي عامة وفي إيران خاصة - بين عهدين من التاريخ مختلفين في السياسة وفي الآداب والعلوم والفنون. وفيما يلي إجمال الكلام في الدول التي سيطرت على إيران منذ زالت الخلافة العباسية سنة 656ه، إلى أن زالت الدولة الصفوية سنة 1148ه، وذلك خمسة قرون، وإجمال الكلام في الأدب في تلك العصور.

ويمكن أن نقسم هذه الحقبة قسمين؛ الأول: عصر التتار والتيموريين، والثاني: عصر الصفويين، الأول من سقوط بغداد إلى سنة 907ه، والثاني من هذه السنة إلى سنة 1148ه.

القسم الأول: التتار والتيموريون

الفصل الأول: التتار

توفي هولاكو بعد ثماني سنين من فتح بغداد، فخلفه ابنه أباقا سنة 663ه، ثم توالى على الملك تسعة بعد أباقا، لا ينفسح المجال لتعدادهم بله وصف أحوالهم وسيرهم، ولكن الذي يعنينا أن نبين كيف استجاب التتار سريعا للحضارة المحيطة بهم، ودخلوا في الجماعة الإسلامية. بعد أن تنازعتهم الأديان حينا، وطمع الصليبيون ودول أوروبا في محالفتهم ومحالفة الخاقان الأعظم على قتال المسلمين. أسلم تكودار بن هولاكو وتسمى أحمد، فلما مات أباقا تنازع الملك هو وأرغون بن أباقا، فانتصر أكثر المغول للأول، فملك متسميا السلطان أحمد، وسارع إلى إعلام علماء بغداد وسلطان مصر برغبته في نصرة الإسلام وموادة المسلمين، ولكن أرغون ائتمر مع بعض كبراء المغول، حتى خلع السلطان أحمد وقتله.

ولم يمض أكثر من أحد عشر عاما بعد قتل السلطان أحمد، حتى تولى الملك غازان حفيد أباقا، وكان توليه إيذانا بظفر الإسلام بالمغول كلهم في الدولة الإيلخانية.

وكان غازان قد وعد مربيه الأمير نوروز أن يسلم إذا أظفره الله بالملك على عمه بايدو، فلما ملك أنجز وعده. ففي الرابع من شعبان سنة 694ه أسلم هو وعشرة آلاف من المغول في حضرة الشيخ صدر الدين إبراهيم ابن الشيخ سعد الدين الحموي. واستمر الإسلام منذ ذلك اليوم دينا لملوك المغول في إيران، حتى انتهت دولتهم سنة 744ه.

كان سيل التتار طاميا جارفا مدمرا، ولكن لم يجرف كل الزروع والأشجار في إيران، ولم يذهب بالبذور كلها من هذه الأرض الخصبة، فنمت على الزمان جذور، ونبتت بذور، فلم تعدم إيران في عصر التتار أدبا. ثم كان إقليم من إيران بنجوة من هذا السيل، إقليم فارس؛ الإقليم الجنوبي الغربي من إيران، الذي نشأت فيه الدولة الفارسية الأولى، والذي حفظ تراث إيران بعد غارات الإسكندر المقدوني حقبا طوالا.

كان في هذا الإقليم إمارة أنشأها أحد أتابكة السلاجقة سنقر بن مودود، ودامت زهاء قرن ونصف (542-685ه)، وحفظت نفسها في هذه العصور المضطربة بمسالمة الفاتحين، والتودد إليهم. أدى أمراؤها الجزية للسلاجقة ولملوك خوارزم، ثم صانعوا ملوك التتار وأدوا إليهم الجزية كذلك فجنبوا بلادهم الكوارث التي حلت بغيرها. وانتهت دولتهم بتزوج الأميرة أبش خاتون - آخر من ملك من هذه الأسرة - بالأمير منكو أحد أبناء هولاكو، فدخل الإقليم في سلطان التتار، حتى توفيت الأميرة في 11 ذي القعدة سنة 865ه.

كانت هذه الإمارة إبان غارات التتار مثابة للناس وأمنا؛ فلجأ إليها كثير من العلماء والأدباء. وقد أشاد الشيخ سعدي الشيرازي - وهو ينتسب إلى الأمير سعد بن أبي بكر من أمراء هذه الدولة - بما فعل هؤلاء الأتابك لحماية البلاد، قال في مقدمة كتابه «البستان» أبياتا ترجمتها بالعربية:

فمن يبغ أمنا بهذي الفتن

فليس له غير هذا الوطن

فطوبى لبيت كبيت العتيق

حواليه من كل فج عميق

لقد صد إسكندر بالحديد

وبالقطر يأجوج يبني السدود

وقد فقت إسكندرا في النوب

أقمت ليأجوج سد الذهب

1

وفي شيراز من هذا الإقليم نشأ اثنان من أعظم شعراء إيران: الشيخ سعدي الشيرازي، وقد تقدم ذكره في الجزء الأول من قصة الأدب، وحافظ الشيرازي. وحسبنا أن نذكره من بين شعراء هذا العصر؛ عصر التتار: (1) حافظ الشيرازي

شمس الدين محمد الحافظ الشيرازي، ولد في شيراز في أسرة فقيرة، وتوفي أبوه وهو صبي، فاضطرته الفاقة إلى أن يكسب قوته بالعمل في مخبز، ولكن طموحه إلى المعرفة وميله إلى التعلم نزعا به إلى مناهل العلم في شيراز؛ فكان يغشاها كلما أمكنته الفرصة.

ولسنا ندري كيف طلب الحافظ العلم، ولكنا نظن أنه سار في طلبه على نهج معاصريه. وقد حفظ القرآن، وبهذا لقب «الحافظ»، وأخذ عن علماء شيراز في الدور والمساجد والمدارس.

وقد تولى التدريس من بعد في بعض مدارس شيراز، درس التفسير والكلام والنحو والأدب.

حافظ الشيرازي (بجانب الشجرة) وصديقه الشيخ أبو إسحاق.

وعرف حافظ في بلاده عالما، ثم ذاع صيته عارفا، وانتشر كلامه في الآفاق شاعرا . وعظمه العامة والخاصة، والملوك والرعية وحسن اعتقادهم فيه، فكانوا يتلقون أشعاره على أنها رموز للأسرار الإلهية، وإشارات للمعارف القدسية، وأبيات تشبه في ظاهرها كلام الشعراء، وفي باطنها كلام العارفين والأولياء. ومن أجل هذا سموه «لسان الغيب» ودعوه «ترجمان الأسرار».

واتصل ببعض أمراء زمانه وكبرائه، وذكرهم في شعره وسجل بعض الخطوب في منظوماته، ولكن ذكر هؤلاء الأمراء والكبراء، وتسجيل هذه الخطوب كان يأتي جملا موجزة، أو إشارات خفية في أثناء شعره. لم يصرح بالمدح إلا قليلا، ولم يذهب فيه مذاهب المداحين، بل كان البيت أو الأبيات القليلة تأتي في ثنايا غزل من غزلياته لا يكاد القارئ يدرك أن الشاعر قطع سياقه ليمدح.

ولحافظ في الشعر أسلوب دقيق جميل يشبه النغم الموسيقي المحكم، جانست كل لفظة صاحبتها، وأصابت كل كلمة دلالتها. ومعانيه بين التصريح والتلويح، والظهور والخفاء، تستغرق عناية القارئ، وتستولي عليه، فيتأملها حريصا عليها معجبا بها. وقل من يساير حافظا في إحكام السبك، ودقة النسج، وإجادة النظم. فلا تجد في أوزانه وقوافيه - على كثرة ما كنى وورى وجانس - تكلفا أو اضطرابا أو فضولا. وكثيرا ما أتى بالرديف في شعره فلم يهن ولم يتكلف.

2

وتبدو مهارته في أكمل وجوهها حين يضمن المعاني الصوفية المعاني الظاهرية المألوفة، فيقسم كلامه بين أهل الظاهر وأهل الباطن، فمن شاء تغنى به في مجلس شراب بين الندماء والأحباب، ومن شاء تواجد به بين الصوفية، وتجاوز ظاهره إلى معانيه الخفية.

هو كذلك في معظم ديوانه المسمى الغزليات،

3

ولكنه بين الحين والحين يبدو صوفيا صريحا ، أو يعرض معانيه في صور شعرية غير محتملة إلا التفسير الصوفي، ثم يسارع إلى التحجب بين أزهار الرياض، ومجالس الشراب، ويسمعك رنين الكئوس وأحاديث الندامى، وأغاريد البلابل، ويحدثك عن الخدود والعيون والحواجب والطرر والأفواه، سنة شعراء الغزل والخمر.

ولولا هذه الجلوات التي يمر بها قارئ شعره، وهذه اللمعات التي يدل بها على نفسه ما التمس الناس في شعره شيئا وراء المعاني الظاهرة.

وعابر ديوان حافظ كالسائر في حديقة ورد؛ تروعه الصور الكثيرة، والألوان المختلفة ، ولكنها كلها ورد. فهو يعرض صورا كثيرة لحقائق قليلة.

أو هو كالمطرب يسمعك كثيرا من الأوزان والألحان والأنغام، ولكنها لا تعدو حديث الحبيب في جماله ووصله وهجره وبعده وقربه ورضاه وغضبه. وكل ما سمعت من هذا معجب مطرب رائع، وكأن كل قطعة - بإحسان التعبير وإجادة التصوير - تتضمن معاني جديدة لم تتناولها قطعة قبلها.

وهذه قطع من شعر حافظ ترجمتها منثورة إلا واحدة نظمتها. وقد أردت أن تكون الترجمة عطلا من الزينة مبينة عن المعنى في غير تكلف:

1

لا ترجون طاعة وصدق عهد مني أنا السكران الذي طار ذكري باحتساء الكأس يوم «ألست».

4

حينما توضأت من ينبوع العشق، كبرت أربع تكبيرات على كل كائن.

ناولني الصهباء أعلمك - من أسرار القضاء - أي وجه تيمني وأي عرف أسكرني!

إن الطود هنا أخف من النملة، فلا تيأسن من الرحمة يا عابد الخمرة.

ليفد فمك الروح، فما أنبت بستاني العالم في حديقة النظر، أجمل من هذا الكم بين الزهر.

ما اطمأن تحت هذه القبة الزرقاء غير هذه النرجسة السكرى لا مستها الضراء!

لحافظ من عشقك ملك سليمان، ولم تنل يده من وصلك إلا الريح.

2

وهذه قطعة من أجمل ما عرف الشعر الصوفي وأبعده مرمى:

تحدث شعاع حسنك بالتجلي في الأزل، فبدا العشق وأضرم في العالم نارا لم تزل.

وتجلى عشقه فما رأى الملك ولهان، فقلبته الغيرة نارا تشتعل في الإنسان، وأراد المدعي أن يطالع السر فيعلم، فدفعت يد الغيب في صدر غير المحرم.

5

وهم العقل أن يضيء من هذه الشعلة سراجا ، فتلألأ برق الغيرة وزلزل العالم هياجا.

اقترع الآخرون على العيش وقلبي المغتم، عاودت قرعته الغم. نظر ليرى في العالم صورته، فضرب في مزرعة الإنسان خيمته. إنما خط حافظ سجل الطرب في عشقك، حينما خط على أسباب الفرح من أجلك.

6

وحافظ يبين في شعره عن انقباض واكتئاب وحزن، ويعرب عما يمتحن به في هذا العالم، ويغلب عليه التشاؤم، ولكنه يبين عن فرحه وسروره أحيانا، وعن تهلله وإشراقه، وتأميله وانبساطه، كأنه برئ من مرض، أو استراح من ألم، أو ظفر بما يريد بعد عناء، أو حم له بعد طول الفراق لقاء. فغزله الذي أوله:

تعال فإن قصر الأمل واهن القواعد، وهات الخمر فأساس العمر على الرياح.

يقول فيه:

لا تؤمل صدق العهد من الدنيا المتقلبة، فإن هذه العجوز عروس لألف زوج.

ويقول بعد هذا البيت كالذي أفاق من غفوة:

ماذا أقول لك؟ كم بشرني ملك الغيب البارحة، وأنا في الحانة سكران خائر!

قال: أيها البازي الطموح، أليف السدرة، ليس مقامك في زاوية المحن هذه. لا لا! استمع، ألا تسمع الصفير ينبعث من شرفات العرش. ما الذي أصابك في هذا الشرك.

وله غزل أوله:

ترك شيخنا البارحة مسجده إلى الحانة، فما ترون يا إخوان الطريقة.

يقول فيه:

جلا علينا وجهك الجميل آية من اللطف، فليس في تفسيرنا إلا اللطف والجمال.

وهذا البيت يبين عن الأصل الذي يصدر عنه حافظ، فقد أدرك من الجمال الإلهي في هذا العالم ما أنطقه بتفسير هذا الجمال كالطائر الغرد الذي يشرف على شجرة في روضة يقلب نظره بين المياه والأزهار والأشجار، وكأن تغريده ترجمة الجمال الذي يرى، وتفسير الحسن الذي يبصر، بالأصوات والأنغام.

ولا أنسى كلما تحدثت عن حافظ غزله الرائع الذي أوله:

رأيت البارحة الملائكة تدق باب الحانة، وتصوغ طينة آدم كأسا.

ويعلن عن اغتباطه بما أدرك فيقول:

إن سكان حرم الملكوت شاركوني الشراب وأنا حلس التراب. أحمد الله فقد وقع الصلح بيني وبينه. وهذه الحور راقصة تشرب كئوس الشكر فرحة.

ويقول بعد هذا البيت وكأن هذا الصلح هو إدراك الستر المحجب، والاطلاع على الحقيقة الخفية التي ضل عنها الناس:

التمس عذرا لحرب الاثنتين والسبعين ملة، فقد عميت عليهم الحقيقة، فضربوا في بيداء الخرافات.

3

وهذه قطعة أخرى من قطعه التي يبين فيها عن نفسه في ثورة وهياج:

تعالى الله أي سعادة لي الليلة فقد أوافي حبيبي بغتة الليلة!

سجدت حين رأيت وجهه الجميل بحمد الله ما أحسن عملي الليلة!

قد أثمر غصن عيشي بوصله، فأنا مجدود ظافر الليلة!

ينقش دمي على الأرض «أنا الحق» كالحلاج إن صلبتني الليلة!

في يدي براءة ليلة القدر أتى بها طالعي اليقظان الليلة!

صح عزمي على أن أرفع الغطاء عن الطبق ولو ذهب رأسي الليلة!

أنت صاحب نعمة وأنا مستحق فهات زكاة الحسن فلي الحق هذه الليلة!

إني لأخشى أن يمحي حافظ من الثورة التي في رأسي الليلة.

فهذه إحدى قطعه التي لا تفسر في جملتها إلا بالمعاني الصوفية. وهي من الأبيات التي يرمي بها الوجد أحيانا، فيغلب حافظ على تقنعه وتحجبه، فقد عزم على أن يبوح بالسر ولو كان في هذا قتله. وإن قتل فلن يحوله القتل عن هذا الإدراك الذي أحاط به، وتغلغل في سريرته، وسرى في دمه، فلو سال دمه على الأرض ما دل إلا على هذا المعنى، وما رسم على الأرض إلا الكلمة الناطقة بالفناء، والتي صلب بها الحلاج «أنا الحق»، بل يخشى حافظ مما ثار نفسه هذه الليلة أن يمحي.

الحافظية في مدينة شيراز، حيث ضريح حافظ الشيرازي.

وهذه قطعة يدعو حافظ فيها إلى الرجاء والتفاؤل ترجمتها نظما:

يوسف المفقود في أوطانه، لا تحزنن!

عائد يوما إلى كنعانه، لا تحزنن!

بيت الأحزان تراه عن قريب روضة،

يضحك الورد على بنيانه، لا تحزنن!

7

رأسك الأشعث يوما سوف يلقى زينة،

ويفيق القلب من أشجانه، لا تحزنن!

هذه الأفلاك إن دارت على غير المنى

لا يدوم الدهر في حدثانه، لا تحزنن!

أيها البلبل تغدو في ربيع ثانيا،

تستظل الورد في أغصانه، لا تحزنن!

لست تدري الغيب في أسراره، لا تيأسن ؛

كم وراء الستر من أفنانه، لا تحزنن!

إن إلى الكعبة في أشواقك اجتزت الفلا

فدهاك الشوك من سعدانه، لا تحزنن!

يعلم الله محيل الحال ما أحوالنا،

والعدى والحب في هجرانه، لا تحزنن!

يا فؤادي إن يسل بالكون طوفان الفنا

فلك نوح لك في طوفانه، لا تحزنن!

منزل جد مخوف ومراد شاحط،

لم يدم فج على ركبانه، لا تحزنن!

حافظ ما دمت بالفقر وليل مظلم

في دعاء الله أو قرآنه، لا تحزنن!

وفي هذه القطعة مثل من الأوزان والقوافي الفارسية. فالوزن من الرمل المثمن أي ذي التفعيلات الثماني. والرمل في العربية لا يزيد على ست.

والقافية مردوفة، تكررت فيها كلمة «لا تحزنن» والتزم الروي في الكلمات التي قبلها. وهذا شائع في الشعر الفارسي عامة، وشعر حافظ الشيرازي خاصة.

وقد كتب تاريخ حافظ وترجم ديوانه الدكتور إبراهيم أمين المدرس بكلية الآداب، فليرجع إليه من شاء المزيد. •••

ولا يتسع المجال لتتبع الآثار الأدبية في عهد التتار، وحسبنا أن نقول إنه كان عصر اضطراب في أوله، اضطرب فيه الأدب، فكانت فترة دهش فيها الناس لما أصابهم، ولم يجدوا من يشجعهم أو يستمع لهم، فانقطع النسق فكان عهد التتار فاصلا بين عهدين.

والذي يثير إعجاب المؤلف في هذه الحقبة التأليف التاريخي وحده. فقد عني التتار بتسجيل أخبارهم، وتدوين مآثرهم وتعريف الناس بسير آبائهم، فألفت كتب في التاريخ هي أحسن ما أنتجه عصر من عصور إيران.

ومن أجل هذا يحسن أن نفصل الكلام في هذا الجانب من الثقافة الإيرانية في ذلك العصر.

وأترجم لأكبر مؤرخي هذا العصر، الذي مهد السبيل لمن بعده، وهو رشيد الدين فضل الله صاحب الكتاب المعروف «جامع التواريخ». (2) رشيد الدين وكتابه جامع التواريخ

استجاب التتار سريعا للإسلام وحضارته، واستعانوا بالمسلمين في تدبير دولتهم، ثم أسلموا واندرجوا في الجماعة الإسلامية.

وقد نبه في عهدهم وزراء رعوا السياسة والعلم، وتركوا في التاريخ آثارا محمودة منهم أسرة الجويني؛ شمس الدين محمد صاحب الديوان، وأخوه علاء الدين عطا ملك، وابنه بهاء الدين. تولى شمس الدين الوزارة لهولاكو ولابنه أباقا. وولي علاء الدين أمر بغداد أربعا وعشرين سنة منذ عام 657ه. وكان بهاء الدين واليا على العراق العجمي وفارس.

وكان لهذه الأسرة فضل في تدبير الملك ورعاية العلم والأدب، وكان فيها الأدباء العلماء. وقد ألف عطا ملك كتابا ضخما في تاريخ التتار سماه «تاريخ جهانكشا» أي فاتح العالم، يعني جنكيز خان. أكمله سنة 658ه، بعد فتح بغداد بسنتين، وانتهى فيه إلى حوادث سنة 655ه.

ومن كبار الوزراء والعلماء والمصلحين في دولة الإيلخانيين رشيد الدين فضل الله بن عماد الدولة أبي الخير بن موفق الدولة علي. كان جده موفق الدولة هو ونصير الدين الطوسي في أسر الإسماعيلية في قلعة ألموت حينما استولى عليها هولاكو سنة 646ه، السنة التي ولد فيها رشيد الدين، فدخل موفق الدولة في خدمة هولاكو.

وصار رشيد الدين طبيبا لأباقا بن هولاكو، ونبه شأنه، وعلت مكانته. فلما ولي محمود غازان 694ه زادت مكانة رشيد، وعرف فضله، وتمكنه في علوم أخرى إلى الطب الذي عرفت خبرته فيه من قبل. فلما عزل الوزير صدر الدين الزنجاني المعروف بصدر جهان وقتل، ولي رشيد الدين الوزارة وأشرك معه سعد الدين سنة 697ه. وذلك بعد ثلاث سنين من ولاية غازان. وصحب غازان في غزواته في الشام، وكان كاتبه باللغة العربية. واستمر رشيد الدين وزيرا بعد موت غازان، فوزر لأولجايتو (خدا بنده) وأغدق عليه خدا بنده الهبات وقربه إليه، وركن إليه في تدبير الملك، فبلغ رشيد الدين أوج سلطانه، وتصرف كما يشاء خلقه وعلمه وحكمته.

بنى رشيد الدين بجوار السلطانية دار الملك الجديدة ضاحية سماها الرشيدية. وبنى فيها مسجدا كبيرا ومدرسة ومارستانا ومستشفى، ودورا أخرى للخيرات وزهاء ألف منزل.

وبعد قليل بنى ضاحية أخرى قرب الغازانية شرقي تبريز، وأنفق أموالا كثيرة، حتى ساق إليها الماء من نهر سراو (سراورود) في قنوات منحوتة في الصخر، مكنه من هذه الأعمال ما أفاض عليه السلطان من الأعطية.

وفي عهد أبي سعيد بن أولجايتو (716-736ه) أشرك معه في الوزارة علي شاه، ونالت الدسائس المتمادية من رشيد الدين فعزل. ورغب في أن يعيش في دعة بعيدا عن الدسائس، وكان من الأمراء من يود رجوعه إلى الوزارة، فاهتم منافسه علي شاه فاتهمه أنه هو وابنه الصبي إبراهيم وضعا السم لأولجايتو في دواء صنع له، وصدق أبو سعيد التهمة، وكان صبيا في الخامسة عشرة من عمره؛ فقتل الرجل العالم الخير الحكيم الحازم بعد أن لبث يدبر ملك المغول عشرين عاما. قتل سنة 718 وقد نيف على السبعين، وقتل معه ابنه إبراهيم وهو صبي في السادسة عشرة من عمره، وتلك كانت غاية وزراء المغول الإيلخانيين لم ينج منها إلا قليل.

وتبع قتله مصادرة أمواله وتعذيب أقاربه ونفيهم وإبطال أوقافه، وأبيحت المحلة التي بناها، وسميت الربع الرشيدي.

دفن رشيد الدين في القبر الذي أعده لنفسه، ولكن هذا الرجل الكبير لم يترك له حتى قبره، فقد أمر ميرانشاه ابن تيمورلنك بعد مائة عام أن ينبش القبر، وتنقل عظام المقبور إلى مقبرة اليهود. وكان حساد الرجل يزعمون أنه يهودي الأصل، ومنهم من زعم أنه لم يزل على اليهودية. (2-1) كتبه

كان رشيد الدين - على كثرة شواغله - معنيا بتأليف الكتب في موضوعات شتى، فألف: (1)

جامع التواريخ، وسنعود إلى الكلام فيه. (2)

وكتاب الأحياء والآثار، وهو 24 فصلا تتناول موضوعات مختلفة في الطبيعة والزراعة والغرس وتربية الحيوان وقتل الحشرات الضارة، وفي العمارة والتحصين وبناء السفن، واستخراج المعادن إلخ. وهذا الكتاب مفقود. (3)

والتوضيحات، وهو في العقائد والتصوف، كتبه بأمر أولجايتو ومنه نسخة في مكتبة باريس. (4)

ومفتاح التفاسير، في بلاغة القرآن وفي المفسرين وطرائقهم وموضوعات دينية أخرى. (5)

والرسالة السلطانية في العقائد، ألفها على أثر مجادلة وقعت في مجلس أولجايتو. (6)

ولطائف الحقائق في العقائد أيضا، وهي ثلاثون رسالة صدرها بمقدمة حدث فيها برؤيا رأى فيها الرسول صلوات الله عليه ليلة السادس والعشرين من رمضان سنة 705ه، وهذه الأربعة الأخيرة مكتوبة بالعربية، وقد جمعت وسميت المجمومة الرشيدية، ونسخها موجودة.

وكتب أخرى. (2-2) عناية رشيد الدين بكتبه

توسل رشيد الدين بوسائل عدة لتخليد كتبه، كان يأمر أن تنسخ من كل كتاب نسخ كثيرة ويعيرها للعلماء مرخصا لهم في نسخها.

وأمر بأن يترجم كل كتاب له عربي إلى الفارسية، وكل كتاب له فارسي إلى العربية، وأن ينسخ من هذه وهذه نسخ كثيرة لتحفظ في خزانة الجامع في المحلة المنسوبة إليه «الربع الرشيدي».

وأمر أن تجمع رسائله مع ما يتصل بها من صور وخرائط في مجموع واحد، سمي جامع التصانيف الرشيدي، وتوضع في خزانة هذا الجامع.

وأمر أن تكتب أربعة من كتبه في الطب وتدبير المغول للحكومات باللغات الثلاث العربية والفارسية والصينية.

وأباح نسخ كتبه كلها لمن يشاء، وخصص مالا من وقف الجامع لنساخين يكتبون في كل سنة نسختين من كل كتبه؛ إحداهما بالعربية والأخرى بالفارسية ترسلان إلى إحدى المدن الإسلامية الكبرى.

وأمر أن تنسخ هذه الكتب على أحسن الورق البغدادي بأحسن الخطوط وأوضحها، وأن تقابل بالأصول مقابلة دقيقة.

وأمر أن يختار النساخون من مهرة الكتاب الذين يجيدون الكتابة، ويسرعون فيها، وأن يعملوا في المساجد. وكلما كملت نسخة وضعت على كرسي بين المنبر والمحراب، وتلي عليها دعاء للمؤلف كتبه لنفسه، ويكتب هذا الدعاء آخر كل نسخة، ويتلوه تحميد أنشأه رشيد الدين، وخاتمة يكتبها قيم الوقف يبين فيها تاريخ النسخة، والمدينة التي كتبت لها، ويذكر اسمه ونسبه ليدعو له المسلمون.

ثم تحمل النسخة إلى قضاة تبريز ليشهدوا أن وصايا الواقف قد أنفذت في كتابتها. وترسل إلى المدينة التي كتبت لها، فتوضع في خزانة عامة، وييسر للناس الاطلاع عليها واستعارتها برهن يقدره قيم الخزانة.

وأمر أن تكتب نسح من المجموعة الرشيدية وبيان الحقائق وكتاب الأحياء والآثار، وتعطى لأحد المدرسين في الجامع يقرأ منها كل يوم ويفسرها للطلاب. وعلى كل مدرس أن ينسخ من أحد هذه الكتب نسخة عربية وأخرى فارسية في مدة محدودة، فإن لم يفعل عزل. والنسخة التي يكتبها تكون له يتصرف بها كما يشاء. وتيسر مطالعة هذه الكتب لمن يشاء، ولكن لا تنقل من خزانتها.

وعلى قوام الوقف أن ينفذوا شروط الواقف في غير تبديل ولا تحريف ولا ونى، ومن لم يفعل فعليه لعنة الله. (2-3) جامع التواريخ

هو بالعربية والفارسية.

أشار السلطان غازان أحد الملوك من بني هولاكو على وزيره رشيد الدين فضل الله بأن يكتب تاريخ المغول وقبائلهم وأنسابهم باللغة الفارسية. وجمع إليه كل خبير بتاريخ المغول، ويسر له الاستفادة من سجلات الدولة، فلم تمنعه شواغله الكثيرة أن يجمع هذا التاريخ الجامع، ويقول دولتشاه: إن المؤلف لم يجد وقتا للكتابة إلا ما بين صلاة الفجر وشروق الشمس من كل يوم. وقد توفي غازان قبل أن يتم الكتاب، فأمر أخوه وخليفته أوليجايتو بإتمامه وتصديره باسم غازان الذي أشار بتأليفه.

في كشف الظنون: «لما شرع في التبييض مات السلطان غازان في شوال سنة 704ه، وجلس مكانه أخوه خدابنده محمد، فأمره بإتمامه وإدخال اسمه في العنوان. وأمر أيضا بإلحاق أحوال الأقاليم وأهلها وطبقات الأصناف، وبأن يجعل جامعا لتفاصيل ما في كتب التاريخ.

وأمر من تحت حكمه من أصحاب تواريخ الأديان والفرق بالإمداد إليه من كتبهم. وأمر أيضا بأن يجعله مذيلا بكتاب صور الأقاليم ومسالك الممالك، فأجاب وكتب أحوال الدولة الجنكيزخانية، وأمة الترك مفصلا في مجلد، وذكر خلاصة الوفيات في مجلد آخر، وذكر صور الأقاليم في مجلد آخر على أن يكون ذيلا له، ونقل أخبار كل فرقة على ما وجد في كتبهم بغير تغيير ...» إلخ.

فقد أمر أولجايتو بكتابة جزء آخر، في تاريخ البشر وبخاصة المدن الإسلامية، وجزء ثالث في تقويم البلدان. والذي في أيدينا اليوم الجزء الأول الذي يتضمن تاريخ المغول، ويسمى أحيانا التاريخ الغازاني، والثاني المتضمن التاريخ العام.

وتم الكتاب كله سنة 910ه.

والجزء الأول فيه بابان؛ الأول: في قبائل المغول والترك وفروعها وأنسابها وأساطيرها. والثاني: تاريخ جنكيز خان وآبائه وخلفائه إلى غازان خان.

والجزء الثاني مقدمة؛ تاريخ آدم والأنبياء، وبابان؛ الأول: في ملوك الفرس قبل الإسلام، والثاني: في سيرة الرسول صلوات الله عليه والخلفاء إلى زوال الخلافة العباسية بأيدي المغول، وملوك الفرس بعد الإسلام الغزنويين والسلاجقة وملوك خوارزم وأتابكة فارس، وتاريخ الإسماعيلية.

ثم في الترك، وأهل الصين، واليهود والفرنج وملوكهم وبابواتهم والهند وبوذا ودينه.

وهذا كتاب له قيمته وخطره في التاريخ بما جمع تواريخ أمم كثيرة في عصور متطاولة، وبما استقصى المواقف في جمع الأخبار من مصادرها المكتوبة وغير المكتوبة، وهو نسيج وحده في طريقته وأسلوبه.

وقد يسر للمؤلف من المصادر وأتيح له من الرواة ما لم يجتمع مثله لمؤرخ.

يزاد على هذا التقاء تواريخ الأمم، وحوادث العصور فيه؛ فهذا مؤلف مسلم يكتب لسلاطين تجاذبتهم الأديان حينا، ثم سكنوا إلى الإسلام. وهو يكتب في حدود عصور مختلفة، ما قبل غارات التتار وما بعدها. وحسبنا أنه يؤرخ لبني جنكيز وهم في مركز الحضارة الإسلامية، ولكنهم متصلون بأمتهم وبسننهم إلى قلب الصين.

قال المؤلف في أول الكتاب:

أكتب تواريخ أصل المغول ونسبهم، ونسب سائر الأتراك الذين يشبهون المغول، فصلا بعد فصل، وأرتب تلك الروايات والحكايات التي تتعلق بهم مما كان موجودا في خزائنهم المعمورة، ومما وجد عند بعض الأمراء ومقربي الحضرة الشريفة مودعة. وإلى هذا الزمان لم يجمعها أحد، ولم يتيسر له سعادة هذا التصنيف، وشرف هذا التركيب والتأليف. وكل واحد من المؤرخين كتب سطرا من ذلك من غير معرفة بحقيقة الحال، بل سمعه من أفواه العوام وتصرف فيه على وجه اقتضاه رأيه، ولم يتيقن صحة ذلك لا هو ولا غيره.

وقد تلا رشيد الدين مؤرخون في العهد التتاري، فكتبوا كتبا في التاريخ قيمة منها تاريخ كزيده للمستوفي وتاريخ الوصاف، كما كتب قبل رشيد الدين تاريخ جهانكشا (فاتح العالم) لعطا الجويني.

واتصل التأليف في التاريخ بعد عهد التتار، فكتبت روضة الصفا وحبيب السير وغيرهما.

الفصل الثاني: عصر التيموريين

1

تيمورلنك وأولاده

سنة توفي أبو سعيد ثامن ملوك المغول الإيلخانيين وآخرهم، ولد رجل قدر له أن يسير على إيران وما يليها عاصفة من الخراب والدمار كالتي أثارها بنو جنكيز من قبل. ذلكم تيمور الذي عرف باسم تيمورلنك.

8

ولد في كش فيما وراء النهر سنة 736ه. وقد وصل نسبه بجنكيز خان، وليس يتسع مجال القول هنا لنبين كيف نشأ تيمور، وكيف تسلط، وكيف نشر فتوحه في إيران والهند وآسيا الصغرى والشام.

حسبنا أن نقول إن إيران في الحقبة التي بين وفاة أبي سعيد وغزو تيمور إياها، وهي خمسة وأربعون عاما، كانت مقسمة بين أربع دول صغيرة، أعظمهم وأجداهم على الأدب آل المظفر في ولاية فارس والعراق العجمي وكرمان. وكانت دار ملكهم شيراز، وهم الأسرة التي عاش في كنفها حافظ الشيرازي.

ثم شرع تيمور يفتح إيران سنة 782ه، فاستولى عليها سريعا فيما استولى عليه من الأقطار.

وتوفي سنة 807ه وقد امتدت دولته من دهلي إلى دمشق ، ومن بحيرة آرال إلى خليج البصرة، وكانت سمرقند دار ملكه.

وكان عسيرا أن يحتفظ بهذا الملك الفسيح، فاسترد بعض الدول المغلوبة ما سلبوه بعد موته، وتمكن أولاده من تثبيت سلطانهم في الولايات الشمالية من إيران.

وتنازع بنو تيمور على الملك زمنا إلى أن قضى عليهم الشيبانيون فيما وراء النهر والصفويون في إيران.

ودامت دولة تيمور وخلفائه إلى سنة 907ه، فقد استمرت زهاء مائة وأربعين عاما (771-907ه).

2

كان القرن التاسع الهجري عصر اضطراب سياسي في إيران والبلاد المتصلة بها، فقد أعقب موت تيمورلنك سنة 807ه اضطراب الدولة التي بناها بالسيف والرعب. واستطاع ابنه شاه رخ أن يثبت سلطانه على معظم أرجاء المملكة، وأن يثبت لثورات أقاربه بين الحين والحين. فلما مات شاه رخ سنة 850ه خلفه ابنه ألغ بك، فلم يغن غناء أبيه، وتوفي بعد قليل. فكان الأمر بعده كما قال السير جون ملكولم: «بعد موت ألغ بك نرى طائفة من ذرية تيمور يتنازعون أرجاء الإمبراطورية. وقد بلغ إجلال الناس للدم التيموري حدا يسر لكل من يفخر بجريان هذا الدم في عروقه أنصارا يمكنونه من الظفر بعرش أو قبر مجيد.»

ونشأت في هذا القرن دول جديدة، فنازعت بني تيمور المتنازعين: دولة الأزبك فيما وراء النهر، ودولتا التركمان المعروفتان: قره قيونلو (ذوو الشاة السوداء)، وآق قيونلو (ذوو الشاة البيضاء). وكانت خاتمة هذا الاضطراب المستمر انتصار الشاه إسماعيل مؤسس الدولة الصفوية في موقعة شرور سنة 907ه بعد مائة سنة من موت تيمور. وكان هذا الانتصار على جيوش آق قيونلو فاتحة انتصارات مدت سلطان إسماعيل ما بين نهر جيحون وخليج البصرة وأفغانستان والفرات؛ فجمع شمل هذه البلاد مرة أخرى.

3

وإنما يعنينا من ذرية تيمور الأمراء الذين كان لهم أثر حميد في السياسة والعلوم والفنون: (1)

شاه رخ بن تيمور، وكان أمير خراسان أيام أبيه، تولاها وعمره عشرون سنة عام 799ه، وضرب النقود باسمه. ثم امتد سلطانه بعد أبيه على معظم إيران وما وراء النهر. ولم يكن همه توسيع ملكه، بل إصلاح ما أفسده أبوه وتعمير ما أخربه. وقد أجمع مؤرخوه على مدحه والإشادة بحبه للسلم وعنايته بتعرف أحوال الرعية وإسعادها. وكان مكرما رجال العلم والأدب فقصدوه من كل جانب. (2)

ولم يدم ملك ابنه ألغ بك أكثر من ثلاث سنين، ولكنه شارك في نشر العلم. وقد بنى مرصد سمرقند حينما كان أمير تركستان في عهد أبيه، وإليه ينسب زيج ألغ بك أو الزيج الجديد السلطاني. (3)

وكان السلطان أبو سعيد حفيد ميران شاه بن تيمور ذا عناية بالعلم والأدب كذلك. وقد استقر ملكه في هراة اثني عشر عاما.

وأعظم بني تيمور أثرا في العلوم والآداب السلطان أبو الغازي حسين الذي ملك هراة بعد موت أبي سعيد سنة 873ه، واستمر ملكا إلى أن توفي سنة 911ه. وفي كنفه عاش الجامي زمنا طويلا، وإليه أهدى كثيرا من مؤلفاته. وكان السلطان أديبا شاعرا، ولكن الفضل الأكبر في تثبيت دولته واجتماع العلماء والأدباء حوله يرجع إلى وزير عالم شاعر خير معمر محب للعلماء صارت هراة في أيامه مجمع النابغين من رجال العلوم والفنون، حتى عدت إذ ذاك كمدينة غزنة في عهد السلطان محمود، فلا يستطيع من يتكلم في هذا العصر أن يغفله، ذلكم هو الوزير الكبير علي شيرنوائي.

ولد في هراة سنة 844ه، ومات ودفن بها سنة 906ه، وكانت وزارته في ذلك العصر المضطرب مصدر سلم وإصلاح. وقد وثق به السلطان حسين، وكان رفيقه في طلب العلم، فألقى إليه مقاليد الدولة، فيسر الله الأمور، وعم السلم، حتى استطاع هذا الوزير أن يفرغ بعض الفراغ للإشراف على المؤلفين، وأن يشاركهم في التأليف والنظم، ووجد سبيلا للرياضة الروحية، وأدخله صديقه الشيخ الجامي في الطريقة النقشبندية.

وقد أجمع مؤرخوه على أنه كان من الأفذاذ الذين تزين بهم تاريخ الإسلام، حتى بابر، وهو أدق نقدا وأكثر اقتصادا في المدح من أصحاب التراجم، يقول إنه لا يعرف مثله في السخاء ورعاية العلماء.

وقد شجع هذا الوزير كثيرا من العلماء والأدباء على التأليف وقرض الشعر. وكان صديقا للجامي ومحسنا إليه، وقد أهدى إليه الجامي كثيرا من كتبه . ورثى الوزير صديقه الجامي حين مات ونظم منظومة طويلة سماها «خمسة المتحيرين» تخليدا لذكرى صديقه وشيخه في التصوف.

وكان هذا الوزير مولعا بالموسيقى والغناء والتصوير والنقش، فعاش في رعايته كبار المصورين والموسيقيين، ومنهم المصور الكبير بهزاد، وشاه مظفر، والموسيقي قول محمد وشيخي النائي، وحسين العودي.

وكان شاعرا عظيما أغنى اللغة التركية الشرقية بمنظوماته المطولة، وهي ستة مثنويات كبيرة. وكان مؤلفا خصب القريحة كتب تسعة وعشرين كتابا في موضوعات مختلفة في عهد السلطان حسين، آخرها «محاكمة اللغتين». وهو كتاب أراد أن يبين فيه امتياز اللغة التركية على الفارسية، كتبه سنة 1905م قبل وفاته بسنة واحدة. وقد رأيت في إستانبول معجما له في اللغة العربية سماه سبعة الأبحر.

وقد أهدى إليه كثير من المؤلفين كتبهم، منهم الشيخ الجامي، وله ألف كتابه «نفحات الأنس» في تراجم الصوفية، ودولتشاه الذي أهدى إليه كتابه «تذكرة الشعراء».

وأما كلفه بالتعمير وبره بالفقراء وعنايته بدور العبادة والعلم، فحسبنا في ذلك أن نعرف أن بناءه وترميمه ووقفه تناول ثلاثمائة وسبعين بناء بين مسجد ومدرسة وخان ودار صدقة في خراسان، وأنه جلب الماء من عين بعيدة في طريق وعر إلى مدينة المشهد، فهي تسقى منها حتى اليوم.

4

نرى إذن أن عصر بني تيمور، على كثرة فتنه وحروبه، كان عصر ازدهار للآداب والفنون. كان هؤلاء الأمراء المتنازعون كالأمراء الذين استقلوا في العراق والشام وإيران في القرن الرابع الهجري، فتنافسوا في إحياء الآداب، بل كانوا كملوك الطوائف في الأندلس، تنافسا في تقريب العلماء والشعراء.

يقول الدكتور مارتن: «إن تكن جيوش تيمور قد محت آثارا جميلة، فإن خلفاءه أحدثوا كثيرا من بدائع الصناعات، وأبلغوا الفنون الفارسية أعلى درجاتها. كانوا في فترات السلم يعنون بالكتب، وينظمون الشعر، وكثير منهم أجاد في شعره، فالسلطان حسين مرزا لم يكن شاعرا قليل الخطر، وشعره التركي يفوق شعر كثير من شعراء وقته، وقد كتب أيضا باللغة العربية.

إنهم كانوا في أساليب حياتهم يشبهون أمراء أوروبا المعاصرين، أو أمراء فرنسا في القرن الثامن عشر، ولكنهم كانوا في الأدب أعظم أثرا. كان شاه رخ وألغ بك، وباي سنقر، والسلطان حسين، محبين للكتب يعنون بالإجادة في نسخها وتذهيبها وتحليتها، فهم لا يقلون عن معاصريهم دوقات برجندي

Bergundy ، ولا يقاس بهم عشاق الكتب في إيطاليا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

كان باي سنقر والسلطان حسين في إيران كما كان وليم موريس في إنجلترا بعد أربعة قرون، إنهم لم يكتفوا بجمع الكتب، بل خلقوا فنونا لها، ولا يمكن أن يقاس بالكتب الشرقية في ذلك العصر أجمل ما عرفته أوروبا من الكتب. وكان باي سنقر خاصة مولعا بالفنون الكتبية، فنشأ في رعايته أجمل الأساليب في صناعة الكتب، وكان من أعاظم المولعين بالكتب في العالم كله. كان يعمل بأمره وتشجيعه أربعون صنعا في النسخ، وبلغت العناية بالورق والتصوير والتجليد حدا لا يعرف نظيره حتى اليوم.

وقد أخرجت إيران أجمل بسطها في عهد التيموريين، لا في عهد الشاه عباس، وصنع في قصورهم من السلاح والدروع والأدوات والآنية المحلاة بالعاج ما لم تعرف مثله الأقطار الأخرى.»

5

العلماء والكتاب والشعراء

وقد نبغ في هذا العصر كثير من الكتاب والمؤلفين، عد المؤرخ خوندمير في كتابه «حبيب السير» زهاء مائتين من الكتاب والمؤلفين في ذلك العصر.

فمن المؤرخين حافظ أبرو صاحب «زبدة التواريخ» ألفه لشاه رخ، وفصيحي الخوافي صاحب «المجمل» في التاريخ والجغرافيا، ألفه لشاه رخ أيضا، وعبد الرازق السمرقندي صاحب «مطلع السعدين» أهداه إلى أبي سعيد، ومعين الدين الإسفيزاري صاحب «روضات الجنات» في تاريخ مدينة هراة، كتبه للسلطان حسين.

ومنهم المؤرخ الكبير ميرخوند صاحب «روضة الصفا» أمضى معظم حياته في هراة في كنف الوزير علي شير.

ومن أصحاب التراجم دولتشاه صاحب «تذكرة الشعراء»، وحسين الواعظ صاحب «روضة الشهداء » في مصارع آل البيت، وعلي بن حسين الواعظ صاحب «رشحات عين الحياة» في تراجم الصوفية. وقد ألف السلطان حسين كتابا في التراجم سماه «مجالس العشاق»، كما ألف وزيره علي شير «مجالس النفائس» في تراجم الصوفية والشعراء.

وكان للشعر رواج في ذلك العصر، وقد أثر شعراؤه في تركيا وما وراء النهر والهند، وكانت الصناعة والتكلف غالبين على الشعراء، إلا جماعة من كبرائهم.

ومن كبار الشعراء شاه نعمة الله الكرماني، وهو صاحب طريقة في التصوف، توفي 834ه، وسيد قاسم الأنوار ولد في ولاية تبريز سنة 757ه، ومات في خرجرد سنة 873ه وكاتبي النيسابوري، وإمامي الهروي.

وقد ذكر علي شير 46 شاعرا معاصرا.

وأما التصوف فكان غالبا على العلماء والشعراء. وقد ألفت في تراجم الصوفية «نفحات الأنس» للجامي و«الرشحات» للواعظ و«شرح المثنوي» لكمال الدين الخوارزمي.

وإذا أردنا أن نختار من أدباء هذا العصر من يتمثل فيه علم العصر وأدبه وتصوفه في أكمل صورها فذلكم: (3-1) الشيخ عبد الرحمن الجامي

أ

هو نور الدين عبد الرحمن الجامي بن نظام الدين أحمد الدشتي بن شمس الدين محمد، كان جده من دشت إحدى محلات أصفهان، ثم رحل إلى ولاية جام من خراسان، وهناك تقلد القضاء والإفتاء، وتزوج امرأة من ذرية الإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة، فولد له نظام الدين، وكان شمس الدين وابنه يعرفان هناك بلقب الدشتي، نسبة إلى دشت أصفهان.

وهنالكم في قرية اسمها خرجرد من قرى جام، ولد عبد الرحمن وقت العشاء، ليلة الثالث والعشرين من شعبان سنة 817ه.

وقد بين هو مولده في بيتين له بالفارسية.

ورحل في صغره مع أبيه إلى هراة، وهنالك غلب عليهما لقب الجامي نسبة إلى ولاية جام التي رحلا عنها، وللجامي بيتان يذكر فيهما أنه يسمى الجامي من جهتين:

لأنه من ولاية جام، ولأنه من المقتدين بشيخ الإسلام أحمد الجامي.

ب

بدأ عبد الرحمن تعلمه في المدرسة النظامية في هراة، فدرس علوم الدين وأخذ علوم البلاغة، فقرأ المفتاح والمطول وحواشيه. وكان من أساتذته علي السمرقندي من تلاميذ السيد الشريف الجرجاني. قال عنه الجامي إنه لم يكن له نظير، ولكنه استغنى عنه بعد أربعين يوما. وكذلك سمع دروس شهاب الدين الجاجرمي الذي تتصل تلمذته بسعد الدين التفتازاني. قال الجامي إنه لزمه مدة طويلة فلم يستفد منه إلا مسألتين اثنتين.

ثم توجه إلى سمرقند في طلب العلم ، وحضر درس قاضي زاده الرومي، ووقعت بينهما مباحثات طويلة انتهى فيها الشيخ إلى رأي تلميذه. وقد قال قاضي زاده وهو يتحدث عن الأذكياء: إنه لم يعبر نهر جيحون إلى هذا الجانب منذ حللت به مثل الشاب الجامي ذكاء وجودة طبع.

وكذلك درس في سمرقند الهيئة وظهرت براعته فيها، ونقد أقوال علمائها، وقد سئل مرة في هراة عن مسائل من الهيئة، فأجاب عنها ارتجالا.

تجلى نبوغ عبد الرحمن في كل ما قرأ أو سمع من العلوم، ولعل حدة ذكائه هونت عليه التلقي عن الأساتذة، فقد روي عنه أنه قال وقد ذكر أساتذته: «لم أقرأ على واحد منهم درسا، فكان فهمه خيرا من فهمي، بل كنت أفوقهم في البحث والإدراك، ولا أعرف لأحد منهم علي حق الأستاذية، وإنما أنا تلميذ والدي أخذت عنه اللغة.»

وكان عبد الرحمن ممتازا بعلو نفسه كما امتاز بذكائه، أراده جماعة من إخوانه طلاب العلم على أن يذهب معهم إلى أحد أمراء السلطان شاه رخ؛ ليحصلوا على وظيفة. فطال وقوفهم على الباب، ثم قابلوا الأمير، فلما خرجوا قال الجامي: «لا أعود إلى مثل هذا أبدا.» فلم ير بعدها على باب أحد من أرباب المناصب.

ج

تصوفه

ثم ذهب إلى خراسان، فلقي سعد الدين الكشغري، وسلك طريقته. وكان سعد الدين خليفة الطريقة النقشبندية، ويحكى أن هذا الشيخ كان يجلس على باب جامع هراة، وكلما بصر بالجامي مارا قال: «إن في هذا الشاب مخايل عظيمة، ولا أدري كيف نصطاده لطريقتنا.» فلما جاء الجامي إليه قال: «اليوم ظفرت شبكتنا بصقر!» وكان أسف العلماء على تصوفه بمقدار فرح الصوفية به، قال محمد الجاجرمي: «إن خراسان أخرجت بعد خمسمائة سنة رجلا كاملا، فقطع عليه سعد الدين الطريق وأضاعه.» يعني أن سعد الدين نقله من طريق العلماء إلى طريق التصوف.

ارتاض عبد الرحمن رياضة صوفية، وأخذ نفسه بالمجاهدات الشاقة، واعتزل الناس واستوحش منهم، وساح في البلاد، فلقي كثيرا من كبار الصوفية في خراسان وما وراء النهر.

د

حجه وسياحته

عزم على الحج سنة 877ه ، فتأهب للسفر في ربيع الأول، فاجتمع كبراء بلده ليمنعوه من الحج قائلين إن خيرا كثيرا يصيب الفقراء من السلاطين على يديك، وإن كل فائدة تفيدها الفقراء تعدل الحج مشيا، فأجابهم وكان يحب الفكاهة: «لقد تعبت من كثرة حجي ماشيا، وأود أن أحج مرة راكبا.»

أخذ طريقته إلى الحج، حتى بلغ همذان، فلقيه حاكمها فضيفه هو وكل القافلة، ثم أرسل معه خفراء حتى جاوز جبال كردستان وبلغ العراق. بلغ بغداد أول جمادى الآخرة، وزار مزارات أهل البيت في النجف وكربلاء. وقد اعترض بعض الشيعة في بغداد على أبيات في كتابه «سلسلة الذهب»، وتألبوا عليه. فجلس الشيخ في إحدى مدارس بغداد، واجتمع إليه الكبراء والعلماء، فقرأ الأبيات التي اعترض عليها، وفسرها تفسيرا أرضى الحاضرين، ثم قال: «لقد مدحت العلويين في «سلسلة الذهب» مدحا خفت معه من السنيين في خراسان، وما حسبت أني سأتعرض لثورة الروافض في بغداد.»

وقد نظم قصيدة يشكو جفاء أهل بغداد، ولعلها الواقعة الفذة التي تطاول فيها الناس على الشيخ، ثم ذهب إلى الحرمين، ونظم قصائد يترجم فيها عن شعوره هناك.

وبعد الحج توجه إلى الشام، وسمع الحديث في دمشق، ثم توجه إلى حلب.

ه

ولما سمع السلطان العثماني محمد الفاتح (855-886ه)، أن الشيخ ذاهب إلى الحجاز أرسل إليه بعض خواصه ومعه خمسة آلاف قطعة ذهبا، وبضعة آلاف فلوري ووعد بآلاف أخرى، وسأله أن يشرف بلاد الروم بزيارته. فلما جاء الرسول إلى دمشق كان الشيخ قد ذهب إلى حلب، وعلم وهو في حلب بمقدم رسول الفاتح، فخشي أن يدركه هناك، فعجل الخروج منها إلى تبريز. وكانت الحرب إذ ذاك ناشبة بين العثمانيين وأمير أذربيجان، فتطوع بعض الأمراء لحفاوة قافلة الجامي، حتى جاوز بها المواضع المخوفة . ودعاه بعض الناس إلى التوقف في طريقه، فاعتذر بأنه يريد أن يرى والدته العجوز، ورجع إلى هراة سنة 878ه، فبقي بها في رعاية السلطان حسين ووزيره علي شير، حتى توفي سنة 898ه.

وقد رثاه علي شير وكثير من الشعراء، وأرخوا موته بكلمات منها الآية :

ومن دخله كان آمنا

ومنها: «آه أز فراق جامي، آه أز فراق جامي.»

و

وكان الشيخ الجامي، على علمه وزهده وتقواه وتصوفه، حسن العشرة فكها يحب المزاح، وقد سارت له لطائف دقيقة وأجوبة مسكتة، فهو من هذه الناحية يشبه الشيخ سعدي الشيرازي.

كان من معاصريه شاعر يسمى ساغري، وكان يدعي أن الشعراء تسرق معانيه، فنظم الجامي بيتين في هذا المعنى:

يقول ساغري إن لصوص المعاني سرقوا من شعره كل معنى جيد. صدق، لقد سرقوا معانيه، فما رأيت في شعره بيتا له معنى.

ومما يذكر في كتابه بهارستان أن رجلا أحس بضيق صدره، فذهب إلى طبيب، فسأله: ما عملك؟ قال: شاعر، قال: أنظمت شعرا من قريب؟ قال: نعم، قال: هل أنشدته أحدا؟ قال: لا، قال: فأنشدني. فأنشده فاستعاده مرة بعد مرة، ثم سأله: كيف تجدك الآن؟ قال: قد استرحت، قال: نعم، كان هذا الشعر معقدا في صدرك.

ز

وقليل من العلماء والأدباء من بلغ في حياته المكانة التي بلغها الجامي بين العامة والخاصة؛ فقد أجمع الناس على تعظيمه والتبرك به، وراسله الملوك ورغبوا في زيارته فأبى. وممن راسله وتودد إليه السلطان يعقوب من أمراء آق قيونلو (844-896ه) وجهان شاه قره قيونلو (841-872ه)، والسلطان محمد الفاتح (855-886ه)، وقد ذكر هؤلاء في شعره، والسلطان بايزيد الثاني ابن الفاتح (886-918ه).

وفي منشآت السلاطين رسالتان من هذا السلطان وجواب الجامي عنهما. ومنهما يتبين تعظيم السلطان للشيخ، وإمداده إياه بالمال.

ح

كان الجامي عالما شاعرا صوفيا، وقد كتب في موضوعات كثيرة نظما ونثرا.

فأما مؤلفاته المنثورة، فمنها «نفحات الأنس» في تراجم الصوفية ألفه (سنة 883ه)، وشواهد النبوة (سنة 885ه)، وشرح اللمعات للعراقي (سنة 886ه)، واللوائح واللوامع شرح فصوص الحكم لابن عربي، وشرح النصوص لصدر الدين القنوي، وشرح التائية والخمرية لابن الفارض ، وناي نامه، وهو شرح مقدمة المثنوي، وشرحه على الكافية في النحو العربي، وقد سماه الفوائد الضيائية نسبة إلى ابنه ضياء الدين، وهو شرح ذائع جدا في البلاد الإسلامية الشرقية، ألفه لابنه بعد أن قرأ له كلستان سعدي، وكتاب بهارستان، وهو قصص أدبية أخلاقية.

وله مؤلفات أخرى في التفسير والحديث والتوحيد والتصوف إلخ تقارب الأربعين.

وأما منظوماته فضربان؛ الأول: الديوان، وهو ثلاثة أقسام: فاتحة الشباب، وواسطة العقد، وخاتمة الحياة.

والضرب الثاني: سبع منظومات قصصية مطولة تسمى هفت أورنك، وهي: (1)

سلسلة الذهب، وتتضمن مسائل فلسفية ودينية وأخلاقية، أتمها سنة 890 وقدمها للسلطان حسين بيقرا. (2)

وسلامان وأبسال، وهي قصة فيها ألف ومائة بيت تذكر القارئ بقصة حي بن يقظان، نظمها ليعقوب بن أوزون حسن (آق قيونلو). (3)

وتحفة الأحرار في التصوف، جعلها على مثال مخزن الأسرار لنظامي، وأتمها سنة 886ه، وهي ألف وسبعمائة بيت. (4)

وسبحة الأبرار في التصوف كذلك، وفيه قصص وأمثال كثيرة، وقدمه للسلطان حسين. (5)

يوسف وزليخا، وهو أسير منظومات الجامي أتمه سنة 888ه، وقدمه للسلطان حسين. (6)

ليلى والمجنون، ويشتمل على 3760 بيتا نظمها في أربعة أشهر سنة 889ه. (7)

خسرونامه سكندري، في الأخلاق والحكم، نظمها للسلطان حسين.

ويضيق المقام عن التحدث في بعض منظوماته أو إيراد شيء من شعره، فأكتفي بالحديث عن أقصر هذه المنظومات القصصية، قصة سلامان وأبسال، وهي قصة رمزية صوفية، وهذه خلاصتها:

كان في بلاد اليونان ملك ذو شوكة، وكان في عهده حكيم يعترف الحكماء بإمامته، وعرف الملك قدره فقربه واصطفاه واتبع مشورته في أموره كلها، فسخرت له ممالك الأرض كلها، واستقر له السلطان، وسعد الناس بعدله وسخائه.

وفكر الملك في أمر نفسه، فرأى أنه ظفر بكل ما تمنى إلا ولدا يخلفه، ويحيي ذكره، فأفضى للحكيم بأمنيته، وقال: لا نعمة أعظم من الولد. وبين عون الولد لأبيه، ودفعه عنه في الحادثات.

فلما سمع الحكيم كلام الملك قال إن الولد لا يكون إلا بالشهوة، ومن الشهوة يظلم العقل والفكر ويزين القبيح، وتذهب الحكمة من القلب، والنور من العين.

وتكلم الشاعر في مضار الشهوة، وانتقل إلى ذم النساء، ووصفهن بالغدر وكفر النعمة.

ودبر الحكيم تدبيره فأخذ نطفة من صلب الملك بغير شهوة، ووضعها في مكان ملائم، فنشأ منها بعد تسعة أشهر طفل سوي. وفرح الملك به أي فرح، وسماه سلامان واختار له مرضعة شابة، سنها دون العشرين اسمها أبسال، أوتيت من الجمال ما يعجز عنه البيان، وقد وصف الشاعر جمالها وصفا مفصلا، وأحبت المرضعة طفلها، بل جنت به. وافتنت في تنظيفه وتزيينه، وشغلت به ليلا ونهارا، حتى بلغ الرابعة عشرة من عمره كالبدر في الرابعة عشرة من الشهر. وشب سويا جميلا روعة للناظرين، وفتنة للمتأملين.

وكان من حدة الفهم والذكاء، وتصريف الكلام منثوره ومنظومه، وجودة الخط موضع الإعجاب والتعجب. وقد أوتي حظا من كل حكمة، وحذق حكمة اليونان.

وكان ذا ولع بتهيئة مجالس الطرب بالليل، وكان إذا لعب برأسه الشراب شارك المغنيين والموسيقيين، «تارة يمزج صوت الناي بالسكر فيملأ الآذان سكرا، وتارة يتناول الرباب، فيشعل النغمات التي تحرق الألباب. ويسلط البندق الرطب على الوتر، فيرمي الأخضر واليابس بالشرر. وحينا يحتضن العود كالطفل الصغير، ويعرك أذنه فيثير الأنات الحزينة، ويقطر الأهداب دما.»

وكان يسمر كل ليلة حتى السحر، وينام قليلا، ثم يخرج إلى الميدان صبحا بين السكر والنوم. فيلعب بالكرة مع أترابه من بني الملوك، فيبزهم في تلقف الكرة بالصولجان، لا تطيش له ضربة، ولا تخيب له عزمة.

ثم ينصرف إلى المناضلة فيوتر أقواسه ويرمي، فلولا السماء لجاوزت سهامه الأفق، لا يسلم من سهمه غزال عداء، ولا طائر يخفق في جو السماء.

وهو في الجود والبذل بالغاية التي لا تدرك، إذا قيس به حاتم ومعن فهما بخيلان.

تعود بسط الكف حتى لو انه

ثناها لقبض لم تطعه أنامله ... إلخ.

وبلغ سلامان مبلغ الرجال، وحدثت أبسال نفسها به، وعز عليها مرامه، فجعلت تتجمل له، لتعرض نفسها في فنون من الصور، وألوان من الجمال، لتأسر قلب سلامان.

واستطرد الشاعر إلى قصة يوسف فقال إن زليخا أمرت، فبني لها قصر أبيض ناصع، ثم أمرت نقاشا ماهرا أن يصورها في كل جانب منه. فلما راودت يوسف كان كلما أعرض عنها رأى صورتها، ففتنته لولا أن رأى برهان ربه.

وعمل في سلامان جمالها وتجملها، وتزينها وتحيلها، ولكنه خاف العاقبة، وآثر العافية، وخشي أن تذهب اللذة الزائلة بما يطمح إليه من جاه وجلال.

ثم غلبه هوى أبسال فأذعن له، وطابت بينهما الصحبة، فأفضى اليوم إلى الأسبوع، والأسبوع إلى الشهر، والشهر إلى السنة.

ولكن الدهر كان يناديهما بالغيب أن ليس من دأبي أن أترك الصفاء لأهله، كم صحبة وصلتها نهارا، ثم قطعتها ليلا! وكم دولة طلعت بها مع الليل، وفي الصباح سال بها السيل.

وانقطع سلامان عن لقاء الملك وحكيمه. فسألا حتى أخبرا الخبر، فدعواه وسألاه فعرفا كنه الأمر، فعمدا إلى النصيحة، وكان من قول أبيه: «لقد أدميت قلبي كالشقائق سنين، حتى نالت يدي وردة مثلك ... إنما يجدر بك اللعب بالصولجان، وركض الخيل في الميدان، لا الإمساك بالطرر كالصوالج، والقعود مع الغواني اللواعب. ويجدر بك أن ترمي الصيد فتصميه في البيداء، لا أن تكون كالصيد غرضا لهذه الظباء، وأن تضرب بالسيف في صفوف الرجال، وتقطع أعناق الأبطال، لا أن تفر من الشجعان، وتعرض رقبتك لسيوف النساء، بالله يا بني دع هذا واطمح للمقصد الأسمى، وإلا قتلت أباك غما.»

فأجاب سلامان إنه طوع أمر والده، ورهن إشارته. وشكا إليه ما يلقى من حب أبسال، وقال إنه مغلوب على أمره.

وقال الحكيم: «إيه يا باكورة البستان القديم وآخر ما أبدع قلم التكوين، يا قارئ كتاب السبع والأربع،

9

وعالم صفحات الليل والنهار! أنت خازن كنز آدم، وأنت نسخة هذا العالم. اعرف نفسك ولا تحسبنها هملا، فأنت أرفع من كل ما أقول.

إن الذي صورت جنتك يد قدرته كتب في قلبك حروف حكمته؛ فأنق صدرك من نقوش الصور، ووجه هذه المرآة إلى المعاني الكبر، حتى يكون صدرك للمعاني كنزا ومرآتك لنور المعرفة مظهرا ...

لقد كنت عالي المنزلة في مبدئك، وكان على الأفلاك موكبك، فرمتك شهوة النفس من علاك، وجعلت حضيض التراب مثواك.»

وأجاب سلامان: «يا من روح أفلاطون منه في حبور، وأرسطو لأمره أسير. كانت العقول عشرة أول الأمر، فجعلتها أنت أحد عشر.

أنا سالك طريقك، وأصغر تلاميذك، ولكن لا يعزب عن رأيك المنير، أنه ليس باختيار المسير. إن قدرة الفاعل على قدر القابل، وليست القابلية بجعل جاعل. فكيف أنقطع آخرا، عما كنت له في بدايتي قابلا!»

وضاق الأمر على سلامان بما لقي من اللوم، وهجر الملك والحكيم وهرب مع أبسال.

ويصف الشاعر ما يفعل اللوم بالعشاق، ويبين أن سلامان لم يجد بدا من فراق وطنه، وأنه هيأ محملا له ولأبسال، وسارا لا يفترقان ليل نهار، حتى أتيا بحرا واسعا عميقا مائجا، السمك فيه ظاهر جميل الألوان والأشكال، يشق الماء كما يشق الديباج الأزرق بمقراض من الفضة. وأراد سلامان أن يعبرا فوجد زورقا كالهلال، فركبا فيه مسرورين فصار الهلال منزلا للشمس والقمر. وسار الزورق تملأ شراعه الريح كالبط يسبح على الماء، ويشق صفحة البحر بصدره مسرعا إلى مقصده، له سرعة السهم وإن كان محنيا كالقوس.

ولاحت وسط اللج غابة يعجز الوهم عن وصفها، اجتمعت فيها أصناف الطير كله، أسرابا إثر أسراب، وأفواجا بعد أفواج، والأشجار ناضرة متشابكة، والثمر في أصول الشجر يابسا وجنيا. وفي ظل كل شجرة ينبوع كعين الشمس، والأغصان تهزها الريح فتنثر ما عليها من زهر وثمر. «فلما رأى سلامان جمال المكان، كف عن السفر العنان، وأقام مع أبسال فيه وادعين، ومن الخوف والرجاء فارغين، فرحين ممتزجين كالروح والبدن، نضرين كالورد والسوسن، صحبة لا يعلق بها فساد الدخلاء، وراحة لا يشوبها عناء. وورد لا يصحبه وخز الشوك، وكنز لا يقاربه نكز الثعبان. فهما نائمان في المرج كل آن، شاربان من الينابيع لا يفتران، تارة مع العنادل في غناء، وأخرى في حديث حلو مع الببغاء، يجولان حينا مع الطاووس، ويتبختران حينا مع الحجل.

وقصارى القول أنهما وصلا النهار بالليل في طرب وحبور وجذل. وماذا بعد أن يؤنسك الحبيب، ويبعد عنك الحاسد والرقيب!»

وعرف الملك بعد حين خبرهما؛ فاشتد حزنه لهما، وتتبع أخبارهما، فلم يقف لهما على أثر، فعمد إلى «مرآة العالم» التي يتجلى فيها كل شيء. وهي كقلب العارف لا يخفى عليه ما في العالم من خير أو شر، فرآهما الملك في هذا النعيم فرق لهما.

وازداد الملك على مر الزمان حسرة، ولم يرعو ابنه - معقد رجائه - عن غيه. فوجه همته وفكره إلى سلامان، حتى حال على البعد بينه وبين حبيبته. وكانت العاقبة أن عاود أباه معتذرا إليه مما جناه.

وذهب الفرح بالملك كل مذهب حين رأى وجه ابنه، وبالغ في الحفاوة به وإعظامه وإكرامه، وقال له:

الملك لك فخذه، ولا تخرجه من سلالتك. انفض يدك من هذه الغانية، وامح من يدك حناء هذه الجميلة. فما يجتمع تدبير الملك وعبادة الغانيات، فاختر أن تكون ما تشاء، إما ملكا وإما زير نساء.

وفعلت النصيحة بسلامان فعلها، فضاق بالدنيا وضاقت به. فانطلق هو وأبسال إلى البادية، وجمعا حطبا، وركما بعضه على بعض، حتى صار كالجبل، ثم أضرما فيه النار، ونظرا إليها فرحين، ثم تقدما إليها فدخلاها غير هائبين.

واطلع الملك على هذا بالغيب، فوجه همته إلى إهلاك أبسال وإنجاء سلامان، فظفر بما أراد. «كان هذا ذهبا، وكانت هذه غشا على الذهب، فبقي الذهب خالصا وذاب الغش، إذا ألقي الذهب المغشوش في النار لم يعمل حرها إلا في غشه. إن للرجال مددا من الله، فليس هذا من همة الرجال بعيدا. يعرف هذا كل ذي همة، وإنما ينكره من لا همة له. ورأى سلامان أنه بقي واحترقت حبيبته، بقي جسما بغير روح، فاضطرم في نفسه الحزن، وأرسل الآهات نارا، وأسال الدمع مدرارا.»

وكلما جنه الليل في داره، أطال الحديث مع خيال حبيبته: «يا من أحرقني فراقه، وحرمت عيني جماله، كنت أنيس روحي سنين، وكنت نور ناظري الحزين.

كان كل لصاحبه قرة عين، وكنا بالوصال سعيدين. عشنا فارغين من هم الناس، لا نعرف أحدا ولا يعرفنا أحد، وقد كف الفلك يد جوره، وسارت الأمور على هوى الفؤاد، يجمعنا الليل سرين، ويرانا النهار نجيين. ليت النار حين اضطرمت، أحرقتني وأبقت عليك! ويلي قد احترقت وبقيت، ويلاه إنه حظي العاثر. ليتني حم لي لقاء، وسلكت معك طريق الفناء، وخلصت من الوجود الشقي، ووصلت إلى النعيم الأبدي!»

ونمى خبر سلامان إلى الملك، فذهب به الغم المذاهب. قال: وا رحمتاه لسلامان! لقد كان مع أبسال في هم، وهو بدونها أسير الغم، كان في غم بها، وهو في غم من دونها. إن قبة السماء دار غم عجاب، الخلو من الغم فيها كذاب. حينما ضربت طيبة آدم، وخلعت عليها الصورة أمطر عليه سحاب البلاء مطر الغم أربعين صباحا. فلما مضت الأربعون أمطر عليه الطرب يوما واحدا. فلا يخلص من الغم إنسان، ولا يجد السرور إلا يوما واحدا من أربعين، ثم تنتهي الأمور إلى السرور، ولكن يعلم العارفون أن هذا في الدار الآخرة.

وبهظ الملك أمر سلامان، وعجز عن التدبير له فعرضه على الحكيم العالم، وسأله أن ينقذه بحكمته. قال الحكيم: إن لم ينقض سلامان عهدي، ولم يخرج عن أمري، رددت إليه أبسال عما قليل، وخلصته من هذا الحال الوبيل. أطب لأمره أياما، وأرده نجي أبسال دواما.

وسمع سلامان هذا من الحكيم، فأسلس له قياده، وأخلص له طاعته، وفتح قلبه لأمره.

فلما انقاد سلامان للحكيم أقبل عليه يعلمه ويفقهه، وأتى بالسحر في تلقينه وتقويمه. وكان سلامان كلما ذكر أبسال صاح وناح. فصنع الحكيم صورة أبسال، فكان يجلوها عليه كلما ثار به الوجد، فتسكن ثورته، فيزيل الحكيم الصورة. «إذا قويت همة العارف خلق ما يشاء غير عاجز، فإذا غفل عنه لحظة فارقته صورة الوجود.»

وكان الحكيم بين الحين والحين يعرض في أحاديثه للزهرة يصف جمالها، ومكانتها بين الأنجم، ويحدث عن غنائها وطربها، وإصاخة الأفلاك لأغانيها.

وكان سلامان يصغي إلى حديث الزهرة فيشرب قلبه الميل إليها. وازداد الميل على تكرار الأحاديث. فلما آنس منه الحكيم هذا توجه إلى الزهرة، فأثر فيها، حتى تجلت في جمالها كاملا، وفعلت فعلها في روح سلامان وقلبه؛ فامحت صورة أبسال من ضميره، وتمكن حب الزهرة في قلبه.

رأى الحسن الباقي فأعرض عن الفاني، وآثر العيش الخالد على المتاع البائد.

مبايعة الملك وأركان دولته سلامان بالملك

رأى الملك سلامان قد خلص من هذه المحنة، وسمت همته إلى المعالي، ففوض إليه الملك. وأعد حفلا دعا إليه الملوك والكبراء ورؤساء الجند. وبويع في هذا الحفل لسلامان، ووضع الملك التاج المرصع على رأسه، وأجلسه على عرش من الذهب، وفوض إليه الأقاليم السبعة، وعلمه كيف يسوس الملك، وكتب له وصية تليت على الحضور.

وهي وصية بليغة تتضمن سياسة الناس بالعدل، والعطف على المظلوم والقسوة على الظالم، واختيار الوزراء والعمال، وتعرف أخبار الرعية كل حين.

مغزى القصة

في كل صورة من القصص حصة من المعنى لأهل الدقائق. وقد تمت صورة هذه القصة، فعليك الظفر بمعناها. فليس الغرض منها القيل والقال بيننا وبينك، بل كشف حالنا وحالك، ما المراد بالملك والحكيم؟ وسلامان هذا الذي ولده الملك بغير صاحبة؟ ومن أبسال التي سعدت بسلامان؟ وما جبل النار والبحر؟ ومال الملك الذي ناله سلامان حين صحا من حب أبسال؟ وما الزهرة التي سلبت قلبه، وجلت عن المرآة صورة حبيبته؟

استمع لشرحها واحدة واحدة، وكن من الفرق إلى القدم أذنا مصغية: لما خلق الصانع الواحد هذا العالم، بدأ بالعقل الأول، وتمت العقول عشرة. وعاشرها مؤثر في العالم. وهو لهذا يسمى العقل الفعال، وهو في العالم مفيض الخير والشر، وكفيل بالنفع والضر، وهو مستغن عن الجسم والجسمانيات، وهو بذاته وفعله منفصل عنها، يؤثر فيها دون اتصال. وروح الإنسان وليدة تأثيره، ونفسه أسيرة تدبيره. هما طوع حكمه وغريق إحسانه، هو الملك الآمر المؤمر، وسواه مأمور مسخر.

وهو المقصود بالملك في هذه القصة. وأما الحكيم فهو الفيض الذي ينزل منه على العالم، وروحه الطاهرة تسمى النفس الناطقة، وهي وليدة هذا العقل دون صلة جسمانية. ومفارقة هذه الصلة الجسمانية هي التي كنى عنها بالولادة من غير أب.

وهذا الوليد الطاهر سمي سلامان، وأما أبسال فهو هذا الجسم أسير الشهوة، والخاضع لأحكام الطبيعة.

الجسم حي بالروح، والروح بالجسم تدرك المحسوسات. فكلاهما، من هذا، عاشق صاحبه.

وما البحر الذي كانا فيه، وسعدا بالوصال في نواحيه؟ بحر الشهوات الحيوانية، ولجة اللذات النفسانية.

عالم في موجه مستغرق، وهو في استغراقه بعيد عن الحق. وأما حرمان سلامان من أبسال على قربها منه، فقد عني به تأثير الشيخوخة، وطي بساط الشهوة.

وما ميل سلامان نحو الملك، وتوجهه إلى عرشه؟

هو الميل إلى اللذات العقلية، والتوجه إلى مملكة العقل.

وما هذه النار؟ هي الرياضة الشاقة، إلى أن تحترق الطبيعة.

احترقت بها آثار الطبع، وبقيت الروح، وقد عزفت عن الشهوات الحيوانية.

ولكن لإلفها هذا الطبع عمرا عاودها ألم فراقه بين الحين والحين.

ولهذا وصف الحكيم جمال الزهرة، وأوحى عشقها إلى نفسه، حتى سكن على مر الزمان إليها، وخلا من عشق أبسال وهمها. فما الزهرة؟ هي الكمالات العليا، التي تكمل الروح ببلوغها.

ومن هذا الجمال يصير العقل نورانيا، وملكا في الملك الإنساني.

قد أجملت لك هذه الأسرار، واختصرت هذا المقال. فإن لم يكن لك من التفصيل بد، فأعمل فكرك، حتى تتجلى لك الأسرار القديمة.

القسم الثاني: عصر الدولة الصفوية (907-1148ه)

1

الشاه عباس الأول أعظم الملوك الصفويين وعلى يده باز للصيد.

كان صفي الدين الأردبيلي من أسرة علوية تنتسب إلى موسى الكاظم بن جعفر الصادق، وبين صفي الدين وموسى تسعة عشر أبا.

وكان لصفي الدين هذا مكانة عظيمة في أردبيل وما حولها، يعظمه الناس ويقصدونه من البلاد القريبة والبعيدة.

وتوفي في جيلان سنة 735ه، وخلفه أبناؤه وازدادت على مر الأيام مكانتهم وشوكتهم، حتى حارب بعضهم لحماية طريقتهم ودعوتهم الشيعية، وقتل بعضهم في الحرب.

قتل الشيخ حيدر، وهو الحفيد الخامس لصفي الدين سنة 893ه، وترك أطفالا، أحدهم عمره سنة واحدة اسمه إسماعيل، وتقلبت الحوادث بإسماعيل، حتى بويع بالملك في تبريز سنة 905ه، وسنه ثلاث عشرة سنة.

وكان هذا إيذانا بقيام دولة هي أعظم الدول التي تسلطت في إيران بعد الإسلام، وهي الدولة التي سميت الصفوية نسبة إلى الشيخ صفي الدين أحد أجداد الأسرة التي أقامتها.

وكان في إيران اثنا عشر أميرا متفرقين في أرجائها حين بويع إسماعيل في تبريز، منهم أمراء من ذرية تيمورلنك.

وقد دانت البلاد سريعا لهذه الدولة الجديدة، فبلغت جيوش إسماعيل هراة بعد سنين قليلة. وشمل ملكه ما بين نهر جيحون وخليج البصرة وأفغانستان ونهر الفرات. ودام الملك لهذه الدولة زهاء قرنين ونصفا. وبلغت حدودها في عهد الشاه عباس الأول حدود الدولة الساسانية القديمة.

وهذه الدولة تخالف الدول التي نشرت سلطانها على إيران قبلها من وجوه:

الأول:

أنها بسطت سلطانها على إيران كلها، واتخذت دار ملكها في إيران نفسها. وكانت الدول قبلها تنشأ خارج إيران، ويمتد سلطانها على جانب منها، أو تنشأ في إقليم من إيران وتسيطر عليه.

والثاني:

أنها نشرت المذهب الشيعي بالترغيب والترهيب، وجعلت من العصبية المذهبية عصبية سياسية في نزاعها مع الأمم المجاورة، ولا سيما الترك العثمانيين.

والثالث:

أنها كانت في التاريخ الإيراني صلة بين العصور القديمة والعصور الحديثة، واتصلت بدول أوروبا وغيرها، وقبست من الحضارة الأوروبية.

ولهذه الدولة آثار جليلة تشهد بعمران البلاد في عهدها وازدهار الصناعات.

وأعظم آثارها في أصفهان، التي اتخذها الشاه عباس الأول ومن بعده دار الملك، فاتسع عمرانها، وبنيت فيها المساجد والقصور التي لا تزال قائمة يتجلى فيها الجمال والجلال. وقد زخرت أصفهان بالعمران، حتى شاع بين الفرس هذا القول:

إصفهان نصف جهان (إصفهان نصف الدنيا).

ونبغ في هذا العصر كبار المصورين مثل رضاي عباسي، ولا تزال آثارهم زينة في القصور القديمة والكتب. (3-1) المذهب الشيعي

جد الصفويون في نشر المذهب الشيعي بالترغيب والترهيب. وقسوا على الناس في هذا قسوة شديدة، واصطنعوا لتبليغ دعوتهم علماء كثيرين من أهل إيران ومن البلاد العربية. فانحاز إليهم علماء الشيعة من البلاد الإسلامية الأخرى، ولا سيما جبل عامل من بلاد الشام، والبحرين، فرحين بالدولة القائمة على مذهبهم، الداعية إليه، والناصرة له بالسيف. وتعاونت الدولة والعلماء على إدخال الناس في التشيع طوعا وكرها، وجد العلماء في تأليف الكتب المبسوطة والموجزة، ووضحوا أصول المذهب وفروعه.

وكان أكثر هذه المؤلفات بالعربية، وقليل منها بالفارسية؛ إذ كانت العربية لسان العلم إلى ذلك العصر.

وقد بالغ الملوك الصفويون في إكبار المجتهدين وتعظيمهم، واعتقدوا أنهم نواب الإمام المعصوم أو المهدي المنتظر صاحب الزمان (عجل الله فرجه).

روي أن ملا عبد الله التوني سار راكبا في ميدان الشاه بأصفهان وأمامه عباس الأول أعظم السلاطين الصفويين ماشيا، ليرى الناس منزلته وقوته.

وكذلك روي أن الأمير محمد علي ميرزا أعطى مجتهدين كلا منهما ألف تومان؛ ليكتبا له دعاء يضعان عليه توقيعهما ويختمانه، يضمن به مكانا في الجنة. فلما تردد أحد المجتهدين - السيد رضا - قال له الأمير: اكتب الوثيقة، وأشهد عليها علماء النجف وكربلاء أنل ذلك المكان من الله سبحانه وتعالى.

ويروى أن أحد ضباط الشاه عباس الكبير اقترف ذنبا، فاستشفع الملا أحمد الأردبيلي، فكتب الشيخ إلى الشاه عباس:

يعلم باني ملك العارية عباس أن هذا الرجل إن كان ظالما أول الأمر فهو الآن في صورة المظلوم، فإن غفرت ذنبه فلعل الحق سبحانه وتعالى يغفر ذنوبك.

كتبه عبد سلطان الولاية

10 (بنده شاه ولايت) أحمد الأردبيلي

فأجاب الشاه عباس:

يعرض عباس أنه عد الخدمة التي أمرتم بها منة فأنفذها، لا ينسي هذا المحب من دعاء الخير.

كتبه كلب أستانة (عتبة) علي، عباس

وسيطر المجتهدون على الناس، وعظم سلطانهم فأمروا ونهوا، وأحيوا وأماتوا. روي أن حجة الإسلام محمد باقر قتل سبعين، وعرف من بعد محمد علي - وكان معاصرا لكريم خان زند - باسم قاتل الصوفية (صوفي كش) لكثرة من قتل منهم.

والخلاصة أن المجتهدين بلغوا من السلطان والتمكن في نفوس العامة والخاصة ما جعلهم ذوي الكلمة العليا في المملكة. فكان أكبر أمل الناشئ من طلبة العلم أن يبلغ يوما رتبة الاجتهاد أو يقاربها، فتوجهت الهمم إلى العلوم الدينية، وانصرفت على الأدب. وأشبهت المملكة كلها مدرسة دينية يدبر أمرها المجتهدون. (3-2) الأدب في عهد الصفويين

1

اتفقت كلمة مؤرخي الآداب الفارسية على أن عصر الصفويين - على عظمة ملوكه، واتساع عمرانه، وازدهار صناعاته - كان عصر كساد في الأدب الإيراني.

ذلكم أن سلاطين الصفويين كانوا حماة المذهب الشيعي، فصرفوا همتهم إلى نشره وتأييده. ودعوا الأدباء إلى مدح الأئمة العلويين ورثائهم، والتحسر لما أصابهم. ولم يشجعوا الشعراء على النظم في فنون الشعر المألوفة التي سار عليها شعراء إيران من قبل.

كان الصفويون، ولا سيما طهماسب وعباس الأول، يحرضون الشعراء على مدح آل البيت ورثائهم.

روي أن محتشما الكاشاني نظم قصيدة بليغة يمدح بها الشاه طهماسب، وأرسلها إليه من كاشان. فقال: «لا يرضيني أن يشغل الشعراء بمدحي. فينبغي أن يمدحوا صاحب الولاية والأئمة المعصومين. ويلتمسوا الصلة من أرواحهم المقدسة قبل أن يلتمسوها منا.» فنظم محتشم موشحه المسمى هفت بند في رثاء آل البيت، ونال الصلة التي كان يرجوها، وتبعه شعراء زمانه، فنظم كثير منهم موشحا سباعيا (هفت بند).

ولإعراض الصفويين عن الشعر، كسد في إيران، فقصد الشعراء بمدائحهم سلاطين الدولة التيمورية في الهند (الدولة المغولية)، فلقوا من الكرامة والعطاء ما فاتهم في بلادهم. وقد عد البداءوني زهاء مائة وسبعين شاعرا من أصل إيراني مدحوا هؤلاء السلاطين، ونالوا جوائزهم. وذكر الشيخ شبلي النعماني في كتابه «شعر العجم» واحدا وخمسين شاعرا هاجروا من إيران إلى الهند في عصر جلال الدين أكبر (963-1014ه)، وحظوا بلقاء السلطان ومدحه.

وقد جمع شبلي أبياتا من الشعر الفارسي تبين عن حنين شعراء الفارسية في ذلك العصر إلى بلاد الهند، وتمنيهم أن يظفروا بالسفر إليها، منها قول صائب: «لا يخلو رأس من الفكر في حبك كما لا يخلو قلب من أمل السفر إلى الهند.»

ومن أعظم شعراء الفرس الذين هاجروا إلى الهند عرفي الشيرازي وصائب الأصفهاني، هاجر الأول في صباه، واتصل بجلال الدين أكبر، وتوفي في الهند سنة 999ه في سن السادسة والثلاثين. وسيأتي ذكر الثاني.

2

ومع هذا فلم تخل هذه العصور من شعراء مجيدين ساروا على نهج سلفهم، وحفظوا سنن الشعر الفارسي، ونظموا في القصص والتصوف كعهدنا بالعصور الماضية، إلى موضوعات الشعر الأخرى.

فالشاعر هلالي المتوفى 935ه نظم قصة الملك والسائل (شاه وكدا) ومنظومة أخرى سماها صفات العاشقين، ووحشي المتوفى سنة 991ه، وهو أحد شعراء الشاه طهماسب، نظم منظومتين سماهما الخلد الأعلى (خلد برين) والناظر والمنظور، كما نظم قصة فرهاد وشيرين التي أولع شعراء الفرس بنظمها، ولكنه خلف هذه القصة غير كاملة، حتى انتدب لها الشاعر وصال فأتمها سنة 1265ه بعد ما يقارب قرنين من نظمها.

ومن شعراء هذا العصر شوكت البخاري المتوفى 1107ه، وهو ذو مكانة عالية عند الشعراء العثمانيين. ومنهم فضولي البغدادي أحد شعراء القرن العاشر الهجري (توفي 970ه)، وهو شاعر بالألسن الثلاثة: العربية والفارسية والتركية، ولكنه غلبت شهرته بالشعر التركي، وشعره مثال بين لما بين الآداب الثلاثة من اتصال.

وله منظومة ليلى والمجنون باللغة التركية، وقد ترجم كتاب حسين واعظ الكاشفي المسمى «روضة الشهداء» إلى اللغة التركية، وسماه «حديقة السعداء»، وهو في ذكر الشهداء من آل البيت النبوي.

ومن أدباء هذا العصر وعلمائه الشيخ بهاء الدين العاملي صاحب المخلاة والكشكول في اللغة العربية، وله منظومات فارسية مختلفة يغلب عليها التصوف، وستأتي ترجمته. ومنهم ملا محسن فيض الكاشاني، وهو شاعر متصوف.

ولا بد للباحث، مهما أوجز، من الاهتمام بموضوع حديث في أدب هذا العصر هو: مراثي آل البيت، وموضوع قديم هو التصوف. (3-3) مراثي أهل البيت

لم تزد فنون الشعر الفارسي في هذا العصر، ولم تخرج عن النهج الذي سلكه السلف من شعراء الفرس، ولم يبلغ شعراء العصر شأو من تقدمهم، إلا فنا واحدا عني به شعراء الفرس منذ ذلك العصر، ووسعوه وافتنوا فيه على مر الزمان، وفاقوا فيه من سبقهم من الشعراء، وهو رثاء آل البيت، فهو أولى فنون الشعر بالكلام في هذا العصر:

أ

كانت واقعة كربلاء مثار غم وحزن في نفوس كثير من المسلمين، وتلتها وقائع زادت هذه النفوس غما وحزنا.

وقد وجدت هذه الوقائع أول ترجمان بليغ لها في الشاعر العربي الأسدي الكميت بن زيد.

وقفى شعراء العربية على أثره، وكان أبعدهم صيتا في هذا الأمر السيد الحميري من شعراء القرن الثاني الهجري، ودعبل الخزاعي من شعراء القرن الثالث، والشريف الرضي من شعراء القرن الرابع.

ب

وانتقل هذا الفن إلى الفارسية، فنظم فيه الشعراء بين مقل ومكثر، حتى كان هذا العصر الذي نؤرخه - عصر الصفويين - فوجه السلاطين الشعراء إلى رثاء آل البيت وحرضوهم عليه. فأكثروا فيه وتفننوا، وعالجوه بما عرف في الشعر الفارسي من الإطناب والغلو.

وكان من السابقين إليه المبرزين فيه محتشم الكاشاني، ومن شعره السائر في المراثي موشحه المعروف «هفت بند».

وفيه ستة وتسعون بيتا مقسمة على اثني عشر قسما، في كل قسم سبعة أبيات على روي واحد والثامن مطلق. وبهذه السبعات المتفقة في الروي سمي هذا الموشح هفت بند. وقد ترجمت منه الفاتحة والخاتمة وأربعة أقسام أخرى، وحاولت أن أجعل النثر في الترجمة مسايرا للشعر في الأصل على قدر الإمكان، فحافظت على الرديف، وهو الكلمة المكررة في أواخر الأبيات، وجعلت كل بيت في سطر.

1

ماذا الهياج في العالم، وماذا النواح والبكاء والمأتم؟

ما هذه القيامة الهائلة تصعد إلى العرش من الأرض، ولم ينفخ في الصور ليوم العرض؟

من أين تنفس هذا الصبح المظلم، فماج به الناس والعالم في غم؟

أترى الشمس قد طلعت من المغرب، فذرات العوالم كلها تهيج وتضطرب؟

إنها قيامة الدنيا لا جرم، هذه القارعة المسماة بالمحرم.

إن ملكوت القدس وليس مكان جزع، سمدت فيه الملائكة من الهلع،

والملك والجن في نواح دائم، يشاركون في مأتم أشرف بني آدم؛

شمس السماء والأرض نور المشرقين،

ربيب صدر رسول الله الحسين.

إلى أن يقول:

2

ليت سرادق السماء خوى، وليت هذا السقف الرفيع هوى!

ليت سيلا أسود عم الأقطار، وطلا وجه الأرض بالقار!

ليت شعلة من آهات أهل البيت المحرقة، رمت هذه السماء بصاعقة!

ليته، وقد تحرك الفلك بهذا المصاب، ظل وجه الأرض كالزئبق في اضطراب!

ليته حينما دخل جسمه في الرغام، خرجت أرواح الخلائق من الأجسام!

ليته حين فلك أهل البيت انحطم، غرق العالم في بحر من الدم!

إن لم يقع هذا الانتقام بالدهر، فكيف تكون مؤاخذة الدهر يوم الحشر؟!

إن بيت النبي حين يرفع أيديه يتظلم

يزلزل أركان العرش الأعظم.

ثم يقول بعد أربعة أقسام:

3

ولما بلغت هذه القافلة الميدان، ثارت ضوضاء الحشر في الكون والمكان،

ودوت بالنواح ست الجهات، وعم البكاء ملائك سبع السموات،

لم يبق في البادية غزال إلا شلت رجله، ولا طائر إلا هوى من عشه،

وكانت قيامة تنسي القيامة الأخرى، حين وقعت عيون آل البيت على القتلى.

فما تقلبت العين من أجسام الشهداء، إلا على ضربة أو طعنة نكراء!

ووقعت بغتة عين بنت الزهراء، على جسد إمام الزمان في العراء؛

فصاحت: «هذا الحسين»، بغير اختيار، فاشتعلت في العالم كله النار!

ثم رجعت شاكية بضعة البتول

إلى المدينة تقول: يأيها الرسول،

4

هذا القتيل الملقى في البيدا، حسينك، هذا الصيد المضرج بالدماء حسينك!

هذه الشجرة الناضرة التي بنار العطش، صعدت الدخان من الأرض إلى العرش، حسينك!

هذا القمر الساقط في بحر من الدم، وجروحه تربي على عدد الأنجم، حسينك!

هذا الغريق في محيط الشهادة، وقد تورد من موج دمائه وجه البادية، حسينك!

هذا الظمآن المحروم من الفرات الميمون، وقد صارت الأرض من دمه جيحون، حسينك!

هذا الملك القليل الجند الذي خرج من الدنيا الخدوع، بجيش الآهات والدموع، حسينك!

هذا القالب الملقى بغير كفن، الملك الشهيد الذي لم يدفن، حسينك!

ثم توجهت شطر البقيع تخاطب الزهراء؛

فأحرقت سمك البحر وطير الهواء.

5

يا أنس القلوب الكسيرة إلينا انظري، غرباء بغير صديق ولا عشيرة، إلينا انظري!

انظري أولادك شفعاء المحشر، في صولة قلوب قاسية كالحجر، انظري!

لا لا! تعالي كالسحاب الراعد إلى كربلاء، وإلى طغيان سيل الفتنة وموج البلاء، انظري!

انظري أجساد القتلى في الدم والتراب، ورءوس الرؤساء على الحراب، انظري!

ذلك الرأس الذي كان مكانه كتف المصطفى، فصلته من كتفه طعنات العدى، فانظري!

وذلك الجسد الذي كان صدرك مرباه، يتدحرج في تراب كربلاء، ويلاه، فانظري!

ويختم التركيب بهذا القسم:

6

صمتا محتشم! فقد ذاب قلب الحجر، وزلزل العزاء وعيل المصطبر.

صمتا محتشم! فمن هذا الكلام الذي يقطر الدماء، احترق طائر الهواء وحوت الدأماء.

صمتا محتشم! فمن هذا الكلام ذي الشرر، فاضت عيون السامعين بصافي الدرر.

صمتا محتشم! فمن هذا الشعر المثير البكاء، تخضب وجه الأرض بدموع مازجتها من القلوب دماء.

صمتا محتشم! فمن هياجك صار نور الشمس، كاسفا كالقمراء في الحندس.

صمتا محتشم! فقد بكى الفلك بالدم، حتى جاش البحر بحباب كالعندم.

صمتا محتشم! فمن غبار غم الحسين القتيل، احتجب من وجه الرسول جبريل.

لم يقترف الفلك الغادر كهذا الإثم منذ كان،

ولم يقس هذه القسوة على مر الزمان.

عنى محتشم بهذه المراثي المبكية المفظعة التي يملؤها النواح والبكاء، والدموع والدماء، ويسيطر فيها الغلو والإغراق. وسار شعراء على هذا النهج، وافتنوا في الرثاء، وعنوا بالحوار في المراثي ويسروها للتمثيل. فنشأت قصص منظومة تمثيلية كمل تطورها في العصر الذي يلي هذا العصر الذي نؤرخه، وهو عصر القاجاريين، وكان لها على العامة تأثير بالغ يبكون لسماعها وينوحون، ويلطمون الخدود ويلتدمون، ويبلغ بهم الهياج أحيانا حد الجنون. (3-4) التصوف

لم يخل الشعر الفارسي في هذا العصر من شعر صوفي صريح، واستمرت النزعة الصوفية واضحة في الشعر الفارسي كله، ولكن المؤرخ لا يظفر في هذا العصر بشاعر صوفي يلحق كبار الشعراء الذين نشأتهم العصور الماضية مثل سنائي والعطار والرومي والجامي.

وكان من أسباب هذا بغض الصفويين للصوفية، وقسوتهم عليهم، والعداء بين شيعة ذلك العهد عامة وبين الصوفية.

وحسبنا أن ننقل هنا كلام المجلسي أحد أكابر مجتهدي الشيعة في العصر الصفوي. فقد قال وهو يدفع عن أبيه تهمة التصوف: «لا يسيئن أحد الظن بأبي، فيتوهم أنه كان من الصوفية. كلا، ما كان منهم، فقد عرفت أحوال أبي سرا وعلانية، وأحطت بعقائده. كان أبي سيئ الظن بهم، ولكنه في أول أمره حينما كان الصوفية في عنفوان قوتهم، انتظم في صفوفهم ليستطيع أن يمحو ويستأصل جذور هذه الشجرة الخبيثة الزقومية، فلما أخمد نار عارهم صرح بما يكن في نفسه.»

وقد كتب كثير من علماء الشيعة في الطعن على الصوفية والتشنيع عليهم، وأثاروا عليهم العامة فقتل كثير منهم.

فقد نال الصوفية من الاضطهاد، وأصاب شعرهم من الكساد في دولة الصفويين ما نال كثيرا من فروع الفكر والأدب الأخرى.

وفي التصوف تجلى نبوغ شعراء الفرس، والشعر الصوفي أجمل أشعارهم وأعلاها، وأرقها وأعمقها؛ فكان من العدوان على الصوفية أن نال الشعر الصوفي خاصة والشعر الفارسي عامة ما ناله من فتور وخمود.

ولكن الصفويين - وإن بطشوا بالصوفية - لم يمحوا من الأدب الفارسي هذه النزعة الروحية التي شاعت فيه، ولم يطمسوا هذه الصور الجميلة التي أبدعها فيه شعراء التصوف العظام. فما خلا الشعر الفارسي في جملته من نفحات التصوف، حتى عصرنا هذا، وما خلا أدباء الفرس من متصوفين في العصور كلها.

وحسبي هنا مثلا من الشعر الصوفي في العصر الصفوي وما تلاه، موشح هاتف الأصفهاني المسمى «ترجيع بند»، والترجيع اصطلاح في الأدب الفارسي لموشح يكرر فيه بيت بعينه بعد كل قسم من أقسامه.

هاتف عاش أكثر عمره بعد زوال دولة الصفويين، ولكنه عاش في آثار هذه الدولة، وفي الأحوال الأدبية التي سيطرت في عهدها.

السيد أحمد هاتف الأصفهاني من أسرة آذرية الأصل، ولكنه ولد في أصفهان وعاش بها أكثر عمره، وأمضى سنين في قم وكاشان.

وطلب العلم في صباه وبرع في اللغة العربية، ويروى أن له فيها شعرا، وكان له منزلة في الأدب بين معاصريه.

وتوفي في مدينة قم سنة 1189ه.

وله ديوان فيه قصائد وغزليات ورباعيات، وهو في الغزل يسير على آثار سعدي وحافظ. وله مراث بليغة يرثي بها أصدقاءه وكبراء عصره.

وصيت هاتف في الأدب يرجع معظمه إلى ترجيعه الصوفي، فهو من الشعراء الذين أذاعت بصيتهم منظومة واحدة، وهم في تاريخ الأدب كثير.

ولعل هذا الفصل الذي أكتبه عن الأدب الفارسي في كتاب قصة الأدب، لا يتسع لترجيع طويل كهذا، ولكن لا بد منه للتمثيل، ولا يحسن الاكتفاء بجزء منه، فقد ترجم إلى العربية لأول مرة أثناء كتابة هذا الفصل، فينبغي أن يقدم تحفة لقراء الكتاب على طوله.

وليس هاتف مبتكرا في ترجيعه، فقد سبقه شعراء التصوف فلم يدعوا لقائل بعدهم مقالا، وفي ترجيعه هذا معان وألفاظ من شعر العطار، وجلال الدين الرومي، وأوحدي المراغي، وغيرهم من أئمة الشعر الصوفي، ولكن حسب هاتف أنه ارتفع إلى هذه الطبقة، فأحسن محاكاتها، وعارض أشعارها معارضة شاعر مطبوع، لا ناظم مقلد. (3-5) موشح هاتف

1

يا فداك الأرواح والأبدان

وهي نثر الطريق لا العقيان

مالك القلب! في فدائك قلبي

مالك الروح! مهجتي قربان

مخلص القلب من يديك عسير

ويسير للروح فيك امتهان

ملء طرقي إلى وصالك هول

داء عشقي يعيا به الحسبان

أعبد، روحنا فداك ورهن ال

أمر منك العيون والآذان

ذا فؤادي إن شئت صلحا، وروحي

إن تر الحرب، كلنا إذعان

طاف بي الشوق والصبابة وهنا

هائم القلب، والهوى حيران

وانتهى بي هوى الحبيب لدير

فيه جمع المجوس والرهبان

خلوة جئت - لا رأت عين سوء -

عندها الحق ضاء لا النيران

ورأيت النار التي راء موسى

ليلة الطور والدجى ضحيان

يوقد النار بالتبتل شيخ

حوله من مجوسه ولدان

كل فضي العذار والخد ورد

مبسم ضيق، وحلو لسان

ورباب والناي والعود والشم

ع ونقل والراح والريحان

ويدير الكئوس كالبدر ساق

فكه مطرب له ألحان

وشيوخ المجوس والولد والمو

بذ كل أمامه غلمان

ومن الدين قد عراني حياء

فتنحيت أن يراني العيان

سأل الشيخ: من ترون؟ فقالوا:

عاشق عيل صبره ولهان

قال: كأسا من الرحيق وإن لم

يدع في الشرب ذلك الندمان

صب نارا في الكأس ناري كف

11

عابد النار كأسه ملآن

ضل حين احتسيت عقلي وحسي

أحرق الكفر في والإيمان

سقط السكر بي، وفي ذلك السكر

بلفظ يعيا به التبيان

قال هذا الكلام لي كل عضو

في حتى الوريد والشريان:

واحد ليس في الوجود سواه

وحده لا إله إلا هو

2

لست يا خل صارما منك حبلي

لا وإن فيك قطعت أوصالي

فمئات الأرواح منا تفدي

بسمة حلوة بفيك الحالي

يا أبا في الغرام يكثر نصحي

لن ترى الابن أهل هذا المقال

ينصح الناس بالسلو فهلا

نصحوني بعشقك القتال

أنا نحو النجاة أعرف نهجي

ما احتيالي؟ علقت بالأحبال

راعني في الكنيس ظبي النصارى

قلت: يا آسر القلوب الخالي

في خيوط الزنار قد شد شعري

شعرة شعرة بهذا الجمال

عن طريق التوحيد حتام تجفو

وإلام التثليث يا ذا المحال؟

كيف يسمى الحق الوحيد بروح

وأب وابنه لدى الضلال

فتح الثغر ساحرا بكلام

في ابتسام ينسيك عذب الزلال

لو بسر التوحيد كنت خبيرا

تهمة الكفر لم تدر بالبال

في ثلاث من المرايا شعاع

من محيا الجميل في الآزال

أنت تدعو الحرير خزا وديبا

جا وإبريسما على أقوال

بينما نحن في الحديث إذ النا

قوس دوى لنا بلحن عال:

واحد ليس في الوجوه سواه

وحده لا إله إلا هو

3

جئت بالأمس حانة للمدام

وبقلبي للعشق وقد الضرام

مجلسا جئت ذا بهاء ونور

بائع الخمر رأس هذا النظام

وقف الخادمون صفا فصفا

ومن الشرب حلقة في انتظام

جلس الشرب حول شيخ مهيب

بين سكر ودهشة الأحلام

طاهرو القلب، والسريرة ود

صمتوا والقلوب فيض كلام

كل عين، من العناية، للحق

وأذن للسر والإلهام

قول هذا لذلك: اشرب هنيئا

وهناك الشراب رد الندام

أذن للرباب، والعين للكا

س وطوع اليدين كل مرام

فتقدمت قائلا في خشوع

يا نجي الملائك الأعلام

عاشق موجع يريد معينا

فانظرن ما دواء هذا السقام

ضحك الشيخ قائلا: إيه يا من

لك شيخ العقول في الخدام

أين منا أنت الذي من حياء

منك بنت الكروم رهن اللثام

قلت: في الروح شعلة هات ماء

يطفئ النار وهي ذات ضرام

هذه النار أحرقتني أمس

ليت كالأمس ليلتي في الغرام

ضاحكا قال: هاك كأسا فلما

نلتها قال: خف كثير المدام

فتجرعت جرعة خلصتني

من شعوري ومحنة الأفهام

ثم أبصرت واحدا ما سواه

ليس غير الخطوط والأرقام

بغتة من صوامع الكون أسمع

ت حديث المقربين الكرام:

واحد ليس في الوجود سواه

وحده لا إله إلا هو

4

افتح القلب تبصر الروح جهرا

والذي لا يرى تراه مقرا

إن توجه لساحة العشق وجها

تر كل الآفاق وردا وعطرا

وتر الأنجم العلى دائرات

بمنى أهل هذه الأرض طرا

والذي يبتغي الفؤاد تراه

وكذا كل ما ترى العين سرا

وترى السائل الذي لا تبالي

يزدري ملك ذلك الكون كبرا

وترى للحفاة أقدام صدق

في ذرى الفرقدين تخطر خطرا

وترى حاسري الرءوس وظل ال

عرش فوق الرءوس يبسط سترا

وترى كل واجد في سماع

نفضت كفه العوالم حرا

وترى الشمس حين يسفر عنها

كل قلب لذرة حين تفرى

وترى العشق كيمياء لروح

إن تذبها في وقدة العشق حرى

وترى ملك «لا مكان» فسيحا

إن تجد من ضيق الجهات مفرا

والذي لا ترى العيون تراه

سامعا ما اختفى عن الأذن سرا

وإلى أن ترى من الخلق والعا

لم فردا له الفؤاد أقرا

أخلص الروح والفؤاد لفرد

تر عين اليقين سرا وجهرا:

واحد ليس في الوجود سواه

وحده لا إله إلا هو

5

وجهه من مشارق الأنوار

في تجليه يا أولي الأبصار

في متوع النهار تطلب شمسا؟

أنت في الليل من ضياء النهار

خلص النفس من ظلامك تبصر

كل شيء يفيض بالأنوار

قائدا تبغي والعصا كالأعمى

في طريق أضاء للتسيار

ألف لون، والماء في غير لون،

لك تبدو في الورد والأزهار

في طريق الطلاب أقدم جريئا

وتزود بالعشق للأسفار

رب أمر في العشق يبدو يسيرا

وهو في العقل عقدة النظار

قل «حبيبي» بغدوة وأصيل

واطلبن بالعشي والإبكار

إن يقل ألف مرة: لن تراني

فاجعل الوجه قبلة الأنظار

لتنال المكان تعجز عنه

قدم الوهم أو رؤى الأفكار

وترى في حضرة ليس فيها

جبرئيل الأمين في الحضار

ذلك الزاد والطريق وذا المن

زل أقدم إن كنت أهل خطار

وإذا للطريق لم تك أهلا

قل حبيبي، ونم إلى الأعذار

هاتف! العارفون حين دعوهم

أهل صحو حينا وصرعى عقار

من مدام ومطرب وسقاة

ومجوس والدير والزنار

قصدوا رامزين أسرار غيب

هي بين الإيماء والإظهار

إن يلح سرهم لقلبك تعلم

إن هذا لسر ذي الأسرار:

واحد ليس في الوجوه سواه

وحده لا إله إلا هو

وأختم هذا الفصل بالكلام عن شاعر من أكبر شعراء الفرس في العصر الصفوي، وعالم أديب من أكبر علمائهم وأدبائهم: (3-6) صائب الأصفهاني

ولد في قرية عباس آباد على مقربة من أصفهان وحصل العلم في هذه المدينة. وسافر في شبابه إلى الهند، وكانت مطمح أدباء الفرس وشعرائهم، ولحق به أبوه فرده إلى أصفهان. ونبه شأنه هناك واتصل بالشاه عباس الثاني الصفوي (1052-1077ه)، وتوفي بأصفهان.

وله مختارات من الشعر الفارسي دلت على سعة اطلاعه وحسن ذوقه، ويشبهه الشيخ شبلي النعماني بأبي تمام في هذا الاختيار.

وكان صائب معجبا بحافظ يتخذه إماما، فظهرت في شعره مشابه من شعر حافظ، من بعد الغور ودقة التصوير وجمال التعبير.

وله ديوان كبير متداول مخطوط ومطبوع.

وفي شعر صائب تتجلى القوة الروحية، والعظمة النفسية، التي تهزأ بما تلقى من محن وشدائد، وتعلو على كل رغبة ورهبة في هذه الدنيا، وهو في هذا يشبه جلال الدين الرومي، ومحمد إقبال شاعر الهند في العصر الحاضر. وإقبال يكرر القول إنه من نفحات جلال الدين، وصائب يذكر في مواضع من كتبه «مرشد الروم» يعني جلال الدين، معظما له معجبا به.

وهذه أمثلة قليلة من شعر صائب ذهبت الترجمة المنثورة بكثير من جمالها وروعتها:

1

تلون براعيم القلوب أنفاسنا، وتأبى عار الرنين أجراسنا.

12

إن هيجان الربيع كامن في عالمنا الحائر، وإن بدا يابسا قفصنا

13

الظاهر.

عطلنا زينة المرج الناضر، وشوكنا نظام الروض العاطر.

نصعد كصدر الشمس أنفاسنا ناضجة، لا كأنفاس الصباح الباردة.

استيقظ الورد المصور من نوح البلابل، وكذلك إمدادنا للربيع النائم.

أشفق قلب العشق من فجاجتنا، ودمى قلب البستان من غض ثمارنا.

14

كل برعوم ضحك بنفسنا اللطيف، لا يبرد قلبه الحار برياح الخريف.

2

لست ممن يحلفون بالذهب والنثار، إنما تحفة المحترفين قبضة من شرار،

لا أتخذ البساتين والحصون في البلاد، إنما بستاني البيداء وحصوني الأطواد.

تدارك من أظلمت أيامهم بسراج يبعث النور، ليكون شمعا على قبرك المهجور.

إن شوكا من أجل الناس ترفعه، ينقلب ربيعا في ترابك منبعه.

إن تصب قلب نملة بغم يسير، أوقظت في قبرك للحساب العسير.

3

جرحنا يتحدى الخنجر، وزجاجنا يصادم الحجر.

إن شوق الساقطين في طريق العشق، يأخذ القدم ويمنح الجناح برفق.

اليأس أول أملنا، وإنما يثمر حين يذبل، نخلنا.

لا يحرم العنكبوت صيد الذباب، يعطي الرزق جناحا ذلك الرازق الوهاب ... إلخ.

4

الفلك من تجملنا بغير قرار، والسيف من تحملنا في نار.

بلغت أوج الشمس قطرة الندى، كذلك تنزلنا في رقي على المدى.

نبلغ المطالب بالانكسار، ولنا من الانكسار سلم كموج البحار.

حتام الشكوى من عناء الشباك، إن في هذا العناء روح الإدراك.

يا صائب! من الأفكار شعر ذو ألوان، ومن تغريد بلبلنا هذا الروض ذو أفنان.

ومن علماء هذا العصر وأدبائه الذين تتمثل فيهم الثقافة في نواحيها المتعددة: (3-7) بهاء الدين العاملي

بهاء الدين محمد بن حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الهمداني، ولد في بعلبك سنة 953ه.

كان أبوه حسين من علماء الشيعة في جبل عامل، وكان من تلاميذ الشيخ زين الدين الملقب بالشهيد الثاني. فلما قتل الترك زين الدين لتشيعه، هاجر الشيخ حسين إلى إيران. وكانت إذ ذاك موطنا لدعوة الشيعة، وملجأ لعلمائهم، في سلطان الدولة الصفوية، وسافر معه ابنه بهاء الدين صبيا.

وفي إيران جد بهاء الدين في تحصيل العلوم، ولا سيما العلوم الدينية والرياضة والطب، وأخذ عن والده وعلماء آخرين منهم ملا عبد الله اليزدي تلميذ جلال الدين الدواني تلميذ السيد الشريف الجرجاني.

وذاع صيت بهاء الدين، وعلت مكانته، حتى تولى مشيخة الإسلام في أصفهان دار الملك.

ثم سافر للحج وطوف في الحجاز ومصر والشام والعراق في زي الدراويش سنين كثيرة، يقال إنه ساح ثلاثين سنة.

وفي مصر جمع كتاب الكشكول، قال المنيني:

15

وكان يجتمع مدة إقامته بمصر بالأستاذ محمد بن أبي الحسن البكري، وكان الأستاذ يبالغ في تعظيمه، فقال له مرة: يا مولانا أنا درويش فقير، فكيف تعظمني هذا التعظيم؟ قال: شممت منك رائحة الفضل.

وامتدح الأستاذ بقصيدته المشهورة التي مطلعها:

يا مصر سقيا لك من جنة

قطوفها يانعة دانية

والظاهر أنه كان يكتم أمره في سياحته، ولا يرغب في التعريف بنفسه. وقد لقي كثيرا من العلماء والصوفية، ثم رجع إلى أصفهان. وبلغ عند السلاطين الصفوية أرفع المنازل، قال المنيني: «ثم عاد وقطن بأرض العجم، وهناك همى غيث فضله وانسجم، فألف وصنف، وقرط المسامع وشنف، وقصدته علماء تلك الأمصار، واتفقت على فضله أسماعهم والأبصار. وغالت تلك الدولة في قيمته، واستمطرت غيث الفضل من ديمته، فوضعته على مفرقها تاجا، وأطلعته في مشرقها سراجا وهاجا، وتبسمت به دولة سلطانها شاه عباس، واستنارت بشموس رأيه عند اعتكار حنادس الباس، فكان لا يفارقه سفرا ولا حضرا، ولا يعدل به سماعا ونظرا.

وكانت له دار مشيدة البناء، رحبة الفناء، يلجأ إليها الأيتام والأرامل، ويغدو عليها الراجي والآمل. فكم مهد به وضع! وكم طفل بها رضع! وهو يقوم بنفقتهم بكرة وعشيا، ويوسعهم من جاهه جنابا مغشيا.»

وكانت وفاته سنة 1031ه بأصفهان ونقل منها إلى طوس، فدفن بداره على مقربة من مسجد علي الرضا، وقد زرت قبره حينما ذهبت إلى مشهد طوس عام 1352ه.

وكان الشيخ العاملي من كبار علماء الشيعة ودولة الصفويين في أوجها، أيام الشاه عباس الكبير. وقد ألف في فقه الشيعة وأصول الفقه والتفسير والحديث والنحو البلاغة والهيئة والفلك والحساب والهندسة.

وله كتابا الكشكول والمخلاة في مسائل شتى غير مرتبة، يغلب عليها الأدب والتصوف والفلسفة والرياضة. وقد كتب في كل موضوع عرف في عصره، حتى الجفر والرمل والطلاسم، وله في هذه الفنون خمسة وتسعون كتابا ورسالة.

16

وللشيخ بهاء الدين من سعة العلم، وتعدد الفنون، وجودة التأليف والتلخيص، وصحة التعبير، ومن البراعة في النظم والنثر ما لم يتفق إلا لقليل من العلماء.

وكانت عيشته واسعة مختلفة الجوانب كسعة علمه وتعدد فنونه. كان شيخ الإسلام في دولة الصفويين، وكان ذا منزلة عالية عند سلاطينهم، وكان يخالط أصناف الناس كلها؛ يخالط العلماء والصوفية، ويشهد حلقات الحوائين والمشعوذين، ويرى حينا مع الشاه عباس الكبير، وحينا في بيت عجوز فقيرة.

وقد طالت سياحته، وامتدت إلى أقاليم مختلفة، فزادته معرفة بالناس، وتجربة بالجماعات والأفراد.

وكان مرجع العلماء والأدباء في حياته، وما تزال كتبه مرجعا لهم بعد مماته، ولا سيما كتاب الجامع العباسي في الفقه، وزبدة الأصول في أصول الفقه، والحبل المتين في الحديث والفقه، ومفتاح الفلاح في الأوراد والأذكار، إلى شعره العربي والفارسي الذي يتمثل به الناس في أحوال مختلفة، وموضوعات شتى.

وكان الشيخ على مشاركته في كل فن ومخالطته لكل صنف، نقي السيرة، مبرأ من المطاعن ، تقيا زاهدا، لم تشغله مشيخة الإسلام، وممارسة الفنون الكثيرة عن رياضة نفسه وتصفيتها، وسلوك طريق الصوفية ، بل رأى هذه الرياضة أعلى وأجدى من علوم الظاهر، ونعى على الواقفين عند حدود العلوم، الغافلين عما وراء هذه الرسوم:

أيها القوم الذي في المدرسة

كل ما حصلتموه وسوسة

ذكركم إن كان في غير الحبيب

ما لكم في النشأة الأخرى نصيب

علم رسمي سر بسر قيلست وقال

نه أزو كيفيتي حاصل نه حال

علم نبود غير علم عاشقي

ما بقي تلبيس إبليس الشقي

أدبه:

كان العاملي من أدباء اللغتين العربية والفارسية، وله شعر عربي جيد منه قصيدة في مدح الإمام المهدي، صاحب الزمان، أولها:

سرى البرق من نجد فجدد تذكاري

عهودا بحزوى والعذيب وذي قار

وهيج من أشواقنا كل كامن

وأجج في أحشائنا لاعج النار

ألا يا لييلات الغوير وحاجر

سقيت بهام من بني المزن مدرار

ويا جيرة بالمأزمين خيامهم

عليكم سلام الله من نازح الدار

خليلي مالي والزمان كأنما

يطالبني في كل وقت بأوتار

فأبعد أحبابي وأخلى مرابعي

وأبدلني من كل صفو بأكدار

وعادل بي من كان أقصى مرامه

من المجد أن يسمو إلى عشر معشار

وللشيخ تمكن في الأدب الفارسي له فيه مؤلفات منثورة ومنظومة، منها قصة القط والفأر، وهي قصة صوفية منثورة، وكتاب اللبن والسكر، وكتاب الخبز والحلوى. وهما منظومتان صوفيتان كذلك.

وفي خلال شعره الفارسي كثير من الأبيات العربية تصلح أن تكون مثالا من شعره، وتغني عن ترجمة بعض أبياته الفارسية.

في فاتحة منظومة الخبز والحلوى:

أيها اللاهي عن العهد القديم

أيها الساهي عن النهج القويم

استمع ماذا يقول العندليب

فهو يروي من أحاديث الحبيب

يا بريد الحي أخبرني بما

قاله في حقنا أهل الحمى

هل رضوا عنا ومالوا للوفا

أم على الهجر أقاموا والجفا

وفي الكتاب فصل عنوانه: «في التأسف والندامة على صرف العمر فيما لا ينفع يوم القيامة» وأوله:

قد صرفت العمر في قيل وقال

يا نديمي قم فقد ضاق المجال

واسقني تلك المدام السلسبيل

إنها تهدي إلى خير السبيل

هاتها صهباء من خمر الجنان

دع كئوسا واسقنيها بالدنان

ضاق وقت العمر عن آلاتها

هاتها من غير عصر هاتها

قم أزل عني بها رسم الهموم

إن عمري ضاع في علم الرسوم

وأول فصل آخر عنوانه «في تأويل قول النبي

صلى الله عليه وسلم : حب الوطن من الإيمان.»

أيها المأسور في قيد الذنوب

أيها المحروم من سر الغيوب

لا تقم في إثر لذات الجسد

إنها في الجيد حبل من مسد

قم توجه شطر إقليم النعيم

واذكر الأوطان والعهد القديم

وفي المنظومة فصل عنوانه: «في نغمات الجنان من جذبات الرحمة» منه:

اشف قلبي أيها الساقي الرحيم

بالتي يحيا بها العظم الرميم

خمرة من نار موسى نورها

دنها قلبي، وصدري طورها

دأبها إرجاع أيام الشباب

من يذق منها عن الكونين غاب

قم ولا تمهل فإن الصبح لاح

والثريا غربت والديك صاح

يا مغني قم فإن العمر ضاع

لا يطيب العيش إلا بالسماع

وارو عندي من أحاديث الحبيب

إن وقتي في سواها لا يطيب

واطو عني ذكر أيام الفراق

إن ذكر العهد مما لا يطاق

قم وزمزم لي بأشعار العرب

كي يتم الحظ فينا والطرب

وافتتح منها بنظم مستطاب

قلته في بعض أيام الشباب

قد صرفت العمر في قيل وقال

يا نديمي قم فقد ضاق المجال

ثم زمزم لي بأشعار العجم

كي تريح الروح من هم وغم

وابتدئ منها ببيت المثنوي

للحكيم المولوي المعنوي

بشنو أزني جون حكايت ميكند

از جدائيها شكايت ميكند

17 (وينقل هنا مقدمة المثنوي كلها، ثم يعود إلى النظم العربي، فيختم به المنظومة):

قم وخاطبني بكل الألسنة

عل قلبي ينتبه من ذي السنة

إنه في غفلة عن حاله

خابط في قيله مع قاله

كل آن زاده قيد جديد

قائلا من جهله: هل من مزيد؟

نائم في الغي قد ضل الطريق

هائم من سكره لا يستفيق

عاكف دهرا على أصنامه

يهزأ الكفار من إسلامه

كم أنادي وهو لا يصغي التناد

وا فؤادي وا فؤادي وا فؤاد

يا بهائي اتخذ قلبا سواه

فهو ما معبوده إلا هواه

القسم الأول: الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول : عصر الابتداع‏

الفصل الثاني: العصر الفكتوري‏

القسم الثاني: الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول: عصر الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر‏

الفصل الثاني: عصر الابتداع في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‏

القسم الثالث: الأدب الألماني في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول: أدب الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر‏

الفصل الثاني: النصف الثاني من القرن التاسع عشر‏

القسم الرابع: الأدب الروسي في القرن التاسع عشر‏

الأدب الروسي في القرن التاسع عشر‏

القسم الخامس: الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر‏

الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر‏

القسم السادس: الأدب العربي في القرن التاسع عشر‏

فنون الأدب‏

القسم السابع: الأدب الفارسي في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول: عصر النهضة‏

الفصل الثاني: الحياة الأدبية‏

خاتمة‏

القسم الأول: الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول: عصر الابتداع‏

الفصل الثاني: العصر الفكتوري‏

القسم الثاني: الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول: عصر الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر‏

الفصل الثاني: عصر الابتداع في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر‏

القسم الثالث: الأدب الألماني في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول: أدب الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر‏

الفصل الثاني: النصف الثاني من القرن التاسع عشر‏

القسم الرابع: الأدب الروسي في القرن التاسع عشر‏

الأدب الروسي في القرن التاسع عشر‏

القسم الخامس: الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر‏

الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر‏

القسم السادس: الأدب العربي في القرن التاسع عشر‏

فنون الأدب‏

القسم السابع: الأدب الفارسي في القرن التاسع عشر‏

الفصل الأول: عصر النهضة‏

الفصل الثاني: الحياة الأدبية‏

خاتمة‏

قصة الأدب في العالم (الجزء الثالث)

قصة الأدب في العالم (الجزء الثالث)

تأليف

زكي نجيب محمود وأحمد أمين

القسم الأول

الأدب الإنجليزي في القرن التاسع عشر

الفصل الأول: عصر الابتداع

(أ) الشعر

لقد تواضع مؤرخو الأدب الإنجليزي على أن يطلقوا على الثلث الأول من القرن التاسع عشر «عصر الابتداع»

1

ليميزوه من عهد الاتباع

2

الذي كان سائدا قبل؛ ولعله من الخير - لكي نفرق بين «الاتباع» و«الابتداع» - أن نعيد هنا ما ذكرناه في هذا الصدد في الجزء الثاني من هذا الكتاب. «لسنا نريد بلفظ الاتباع أن الأدب يستقي وحيه من الآداب اليونانية والرومانية القديمة فحسب، فذلك وحده لا يكون اتباعا، لأن الأدب في عصر «اليصابات» كان يستوحي تلك الآداب القديمة، ومع ذلك فهو أدب ابتداع خالص؛ وإنما نعني مجموعة من الخصائص مجتمعة؛ فالاتباعيون يعنون كل العناية باللفظ قبل المعنى، بالصورة قبل المادة؛ هم يكثرون من القيود التي يراعون فيها أن تكون مستمدة من الآداب القديمة، ثم تكون البراعة عند الأديب أن يحافظ على تلك القيود؛ والشاعر الابتداعي يهتم بالمعنى وبالمادة التي يريد أن يعبر عنها، ثم لا يتقيد بشيء حين يختار لنفسه أداة التعبير، لأنه حر يختار أنسب أداة تخرج المعنى الذي يريد إخراجه قويا سليما؛ أما الشاعر الاتباعي فيبدأ بالتسليم بضرورة صورة معينة للتعبير، ثم يحاول أن يعرب عما في نفسه في حدود تلك الصور.

وقد يتشابه الاتباعي والابتداعي في المعاني، لكن هنالك سمات تميز أحدهما من الآخر؛ فالكاتب الاتباعي يميل إلى السخرية والهجاء، وإلى أن يكون أدبه تعليميا تهذيبيا؛ ويحب أن يصف حياة المدنية لا حياة الريف، ووصفه موضوعي يتعلق بالشيء الموصوف أكثر منه ذاتيا يعبر عما يجيش في نفس الأديب الواصف؛ على نقيض الكاتب الابتداعي، فهو يميل نحو الطبيعة كما تبدو في كافة صورها، ومن بينها الحقول والأزهار والحياة الريفية، ويميل كذلك إلى وصف الغريب دون المألوف، والمغامرة دون الاستقرار، ثم هو في وصفه ذاتي يدون خلجات نفسه إزاء ما يصف؛ ولئن كان الأديب الاتباعي يريد أن يعلم قارئه درسا بما يكتبه فإن الأديب الابتداعي يكفيه أن يغني بما في قلبه ولا يعنيه بعد ذلك أفاد القارئ شيئا أو لم يفد؛ والاتباعي يحتكم إلى العقل ويلجم العواطف الحادة، أما الابتداعي فيرخي العنان لخياله ولا يكبت شيئا من عواطفه، بل - على نقيض ذلك - لا يرى الأدب إلا أداة للتعبير عن تلك العواطف.»

3

كانت هذه الفترة التي نتحدث عنها الآن ابتداعية خصيبة الإنتاج في شعرها ونثرها، لكن كانت للشعر السيادة على النثر، ولعلنا في هذا نجد فارقا آخر يميز لنا أدب الابتداع عن أدب الاتباع؛ فقد كانت للنثر السيطرة في الفترة الاتباعية التي امتدت طوال القرن الثامن عشر تقريبا، وذلك بمعنيين، الأول أن الإنتاج المنثور كان أغزر من الإنتاج المنظوم، والثاني أن الإنتاج المنظوم ذاته كان أقرب إلى المنثور صب في قوالب الشعر منه إلى الشعر الخالص، ذلك لأنه كان عصرا سادت فيه أحكام العقل على أحكام الخيال، وأحكام العقل بطبيعتها تصغي إلى قواعد المنطق، والمنطق ينصب في قوالب النثر على نحو أيسر جدا مما يجد وسيلة تعبيره في صور الشعر؛ أما الفترة التي نحن بصددها الآن فقد كان الأمر فيها على عكس ذلك؛ كان للخيال المنزلة الأولى، ولذلك ساد الشعر على النثر بمعنيين كذلك: الأول أن الإنتاج الشعري في ذاته كان أغزر من الإنتاج النثري، والثاني أن الأدب النثري لم يعد يعنى بتدوين الحقائق بمقدار ما عني بالتعبير عن الخيال؛ لم يكن ميدان النثر تاريخا أو اجتماعا أو فلسفة، وإنما كان أداة للتعبير عن مشاعر الكاتب وخواطره الذاتية على نحو ما تكون القصيدة أداة الشاعر في ذلك؛ فإن أردت طابعا مميزا لهذه الفترة الابتداعية التي نقدم لك تاريخها، فقل إنه تعاون الشعر والنثر معا على أن يجريا مع خيال الأديب؛ فلم ينشئ الناثرون نثرهم بغية أن يعلموا قراءهم أو أن يكونوا وسيلة لنشر مذهب بعينه في السياسة أو الاقتصاد، بل لم ينشئ الناثرون نثرهم إذ ذاك ليقوموا خلقا معوجا أو رأيا سقيما، إنما أنشئوا نثرهم ليعبروا عما يجيش في صدورهم وكفى؛ فإن قال قائل: ألم يكتب الأدباء في النقد الأدبي، والنقد الأدبي - مهما قيل فيه - فهو مبادئ نظرية يصطنعها الأديب الناقد ويطبقها على ما ينقد؟ هذا صحيح، لكن النقد إذ ذاك كان أيضا تعبيرا عن نفس الأديب، كان الأديب يقرأ إنتاج غيره ليرضى عنه أو يسخط، ثم يصب هذا الرضا أو هذا السخط في إنشاء أدبي ليشرك القارئ معه في شعوره، أو بعبارة أخرى كان الناقد يحاول أن يفتح عيني قارئه إلى مواضع الجمال، لا أن يسوق له الحجج التي تقنعه بوجود الجمال في إنتاج معين؛ لم يكن الناقد قاضيا يزن الأمور بعقله ليصدر في النهاية حكما عادلا، إنما كان الناقد أقرب جدا إلى رجل يقرأ لك ليبصرك بسر الجمال فيما يقرأ؛ ولسنا نريد بذلك أن الناقد الابتداعي قد حرم على نفسه أن يسجل حكمه، لكن العبرة هنا بطريقة الأداء، فكل الفرق بين الشاعر والناقد أن الأول يرى الجمال في الكون فيعبر عنه لينتشي قارئه بسحر ما فتنه هو، والثاني يرى الجمال في إنشاء الأدباء فيعبر عنه ليمتع قارئه بما استمتع به هو في قراءته.

كان أدباء العصر الابتداعي «أفرادا» بكل ما في الفردية من طيب وخبيث؛ هم «أفراد» بمعنى أن الواحد منهم لا يجري قلمه إلا بتجربته الشخصية الفردية الذاتية التي لا يشاركه فيها فرد آخر، ولتكن هذه التجربة النفسية بعد ذلك ما تكون؛ وثقوا بأنفسهم وأخلصوا لمشاعرهم، واستمعوا لخلجات نفوسهم، ثم أجروا كل ذلك في شعر ونثر لا يتهيبون شيئا ولا يحول دونهم شيء؟ وهم «أفراد» بمعنى الفردية الهادم لأوضاع المجتمع، فليس للمجتمع ولا لأوضاعه وقواعده عندهم المكانة الأولى، فالفرد أولا، وللجماعة أن تكون بعد ذلك أو لا تكون.

ولئن كان من العسير في كثير من الأحيان أن تحدد بداية للفترات الأدبية - لأنها تتداخل - فمن حسن الحظ ألا يتعذر علينا هنا أن نجد الحادث الأدبي الفريد الذي يحدد بداية العصر الابتداعي الذي نتحدث عنه، وذلك هو صدور ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»

4

عام 1798، أخرجه الشاعران «كولردج»

5

و«وردزورث»

6

فجاء فاتحة عهد جديد؛ فهو جديد في لغته، لأنه لم يعبأ بما جرى عليه الشعراء من أن يكون للشعر لغة خاصة، وهو جديد في موضوعه لأنه لم يجعل للشعر موضوعا خاصا؛ فكل شيء في الطبيعة والحياة الإنسانية جدير أن يكون موضوعا للشعر إن تحركت له نفس الشاعر. وحسبنا هذا القدر من التقديم للعصر، ليراه القارئ في رجاله. (1) صموئيل تيلر كولردج

Samuel Taylor Coleridge (1772-1834م)

هذا بغير شك في طليعة الرواد الذين رفعوا علم الحركة الابتداعية في الأدب الإنجليزي في أول القرن التاسع عشر. ولم يكن كولردج غزير الإنتاج في شعره، ولم يبلغ تمام الإجادة إلا في قليل أنشأه، ولكنه في هذا القليل الجيد قد بلغ الذروة التي ليس بعدها مطمع لشاعر. وليست مكانة «كولردج» في تاريخ الأدب مرتكزة على جيد شعره فحسب، بل إنها لتعتمد كذلك على الأثر العميق الذي كان له في عصره، فكم من رجل من أعلام الأدب يدين في ظهوره ونبوغه إلى «كولردج»! فهذا «سذي»

7

ظل سابحا في قراءة الكتب دون أن يبدي شيئا من علائم فطرته الأدبية حتى اتصل به «كولردج»، بل هذا «وردزورث»

8

نفسه لم يكن قد أنشد من شعره الجيد شيئا يذكر حتى عرفه «كولردج»، ثم قل ما شئت في مبلغ أثره في «لام»

9

الذي ربطته به أواصر الصداقة منذ الصبا، حتى «هازلت»

10

الذي لا تكاد تجد بين رجال الأدب من له مثل كبريائه واعتداده بنفسه، تراه يعترف في صراحة أنه لم يتعلم شيئا من رجل كائنا من كان ما خلا «كولردج»، بل ماذا تقول في هذا الشاعر الذي غير بفلسفته مجرى الفلسفة في بلاده؟ ولقد قيل صدقا إنك توشك ألا تجد حركة أدبية سواء أكانت في الشعر أم في النثر - ما بين العام الذي أخرج فيه مع زميله «وردزورث» ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»

11 (1798م) والعام الذي فارق فيه الحياة (1834م) - توشك ألا تجد بين هذين العامين إنتاجا في الشعر أو في النثر لم يتأثر بكولردج بطريق مباشر أو غير مباشر؛ فلو وضعنا نصب أعيننا هذا النشاط الروحي العجيب، الذي كان مصدر وحي لرجال الأدب في إنجلترا جميعا مدى ثلث قرن، لما أدهشتنا قلة إنتاجه، بل لأخذتنا الدهشة كيف استطاع أن ينتج ما أنتجه!

التحق «كولردج» بجامعة كيمبردج ولكنه غادرها ولم يظفر بدرجتها الجامعية ، ولم يلبث أن تفرغ بجهده كله للأدب، ولم يشأ له الله أن يعيش في هدوء وميسرة، فما فتئ، شاعرنا قلق النفس جوالا يكتنفه الغموض، يدمن على الأفيون إدمانا يبلغ به حد الإفراط، ولم يكن على وجه الجملة مستقيم السيرة في حياته الخاصة، فما كان أبعد الفرق بين سلوكه وبين ما يبشر به من مبادئ الأخلاق! ولا عجب أن تراه يضع لنفسه الخطط فيما ينبغي أن يكتب، ثم تذهب الخطط الموضوعة هباء لأن صاحبها لا يجد فراغ الوقت وهدوء البال اللذين يعينانه على تنفيذ ما يريد لنفسه!

انصرف «كولردج» ببعض جهده الأدبي إلى الصحافة التي ارتفعت أجورها عندئذ بحيث تكفيه موردا يغنيه عن السؤال لولا اضطراب حياته، لكنه لم يتردد في قبول ما كان المريدون الأغنياء يبعثون به إليه من المنح، بل لم يتردد في كثير من الأحيان أن يلتمس منهم العطاء التماسا، ومع ذلك كله ناء بحمل أسرته، فألقى بعبء زوجته على عاتق عديله «سذي»، وأخذ يضرب في أنحاء الأرض، آنا في لندن وآنا في غيرها، ثم ألقى عصاه آخر الأمر في لندن، حيث التف حوله نفر من أدباء الشباب، أخذ يمدهم بالوحي حتى وافته منيته.

كان في طليعة ما أنتجه كولردج «سقوط روبسبيير»

12

الذي اشترك في تأليفه مع «سذي» ونشراه سنة 1794م، ولم يكن أي من الأديبين قد كشف عن موهبته الصحيحة بعد. ثم نشر بعد عامين ديوانا يحوي ما أنشأه من الشعر، وكان في أثناء ذلك يحاضر في الأدب فيعرض وجهة نظره في قواعد النقد، ويقوم بتحرير صحيفة أدبية. وفي عام 1798م أخرج مع «وردزورث» ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» الذي جاء نشره بمثابة الإعلان عن قدوم عهد جديد في الشعر؛ وقد نشرت له في هذا الديوان طائفة من أجود شعره. نخص بالذكر منها قصيدة «النوتي الهرم»

13

ثم نشر بعد ذلك قصيدة «قبلا خان»

14

وقصيدة «كرستبل»

15

ومجموعة من محاضراته في النقد الأدبي أطلق عليها «سيرة أدبية»؛

16

وسنعود بعد قريب إلى عرض قصيدتيه العصماوين «النوتي الهرم» و«كرستبل» وترجمة نماذج منهما.

كان «كولردج» روحانيا في نظرته إلى الوجود، فالأشياء المادية عنده لا تنحصر حقائقها في مادتها، بل هي وسائل للتعبير عن روح الوجود الكامنة وراءها؛ فأنت تعلم أن الفلاسفة - منذ نشأة الفلسفة - ينقسمون شعبتين، وكل فيلسوف إما أن ينتمي إلى هذه أو تلك؛ ففريق يرى أن الأشياء مركبات مادية، وإن اختلف بعضها عن بعض في طريقة التركيب؛ وفريق آخر ينفذ ببصره خلال سجف المادة البادية فيرى وراءها فكرة أو روحا اتخذت من هذه الأشياء التي نراها وسيلة للتعبير عن وجودها، ومن هذا الفريق كان أفلاطون. وبهذه النظرة الأفلاطونية أخذ «كولردج» ولم يكفه أن يأخذ بالعقيدة لنفسه، بل طفق يذيعها في كل ما يكتب من نثر، وكانت الفلسفة الألمانية - فلسفة كانت مثلا - أقرب ما تكون لهذه النظرة التي ارتضاها الشاعر لنفسه، فأخذ ينشر بين قرائه من الإنجليز شيئا من آراء الفلاسفة الألمان، فيما يكتب لهم من سياسة ودين ونقد أدبي وفلسفة؛ فضع هذا الأساس المشترك نصب عينك إذا أخذت تقرأ شيئا من نثر «كولردج» يبد لك الكاتب وحدة متجانسة على تباين الموضوعات التي أدار فيها الفكر وأجرى بها القلم، وإلا لألفيت مقالاته أشتاتا يعوزها اتحاد الروح والغاية كأنما كتبها رجال عدة.

وتستطيع كذلك أن تلمس في نثره - وفي شعره - طابعين آخرين؛ أولهما دراسة لألفاظ اللغة ومآخذها، وثانيهما درايته بحقائق النفس البشرية، فهو - من حيث هذه الخاصة الثانية - يكاد يدرك بقوة البداهة ودقة الملاحظة ما ينتهي إليه العالم النفسي بعد بحث وتجريب.

ولسنا نريد أن نطيل الوقوف عند «كولردج» الناثر، لأنه قبل كل شيء شاعر، وشاعر من قادة الشعراء، وأعجب العجب في إنتاجه الشعري أنه يكاد كله أن يكون ثمرة عام واحد، (1797-1798م) فكل قصيدة من جياد قصائده - التي خلدته شاعرا - تم إنشاؤها أو وضع أساس بنائها في تلك الفترة الوجيزة من حياته، فحياته الشاعرة - على خلاف كثير من الشعراء - لم يتدرج إليها النضوج قليلا قليلا بحيث تستطيع أن تجد لتطورها بداية وختاما يتخللهما نمو هنا وهبوط هناك مما تقتضيه عادة ظروف البيئة وعوامل النفس ودوافعها إزاء تلك الظروف؛ إنما جاءه النضوج الشعري فجأة وزال عنه فجأة، كأنما هو الثمرة تبلغ تمام إيناعها في لحظة ثم لا تكاد تينع حتى تلفحها السموم فتذوي. ولو قرنا هذه الظاهرة في شعره بما رويناه عن نثره، تبين لنا أن الرجل كأنما آمن بأن رسالته في نشر المبادئ والأصول أكثر منها في الخلق والإبداع على أساس ما نشر من مبادئ وأصول. ولعل إيمانه بقدرته على قرض الشعر لم يكن شديدا؛ فانتهى به ذلك إلى قصر في أمد شاعريته وقلة في نتاجه الشعري على السواء، وما أبعد الفرق في ذلك بينه وبين صديقه وردزورث، وإن يكن الصديقان قد التقيا في وجهة نظر واحدة؛ كولردج يبسط أصولها، ووردزورث ينشئ القصيد على أساسها.

لننتقل الآن إلى عرض قصيدتيه «كرستابل» و«النوتي الهرم»، وهذه القصيدة الثانية نشرت له عام 1798م في الديوان المشترك الذي أخرجه مع زميله وردزورث ليكون لهما بمثابة الإعلان عن مذهبهما الجديد في الشعر، أعني ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» الذي سبقت الإشارة إليه؛ وكلتا القصيدتين أنشئت في العام الخامس والعشرين من عمر الشاعر، وهو أغزر أعوام عمره إنتاجا، والقصيدتان تمتازان بصفة شعرية عجيبة لعلها أخص ما يميز الشعر من صفات، تلك أنهما تنمان عن إحساس مرهف واغتباط مرح بالجمال ثم بقوة هذا الاغتباط وذلك الإحساس يسريان إلى نفس القارئ، وهما بعد منظومتان في أسلوب «الحكاية المنظومة»

17

بما لهذا الأسلوب الشعري القديم من تقاليد، وهما «ابتداعيتان»

18

جريئتان من الخيال البديع المبتكر، تحركان في القارئ ميله الفطري إلى الرواية عن الأمور الخارقة للطبيعة؛ وربما كان الفارق الأساسي بين كولردج وصديقه وردزورث في الشعر هو هذا: كولردج يروي عن الخارق فيخيل لقارئه أنه يروي له عن شيء يجري مع الطبيعة المعهودة مجرى الإلف والعادة، ووردزورث على عكس ذلك يحكي لقارئه عن أشياء يألفها فعلا في حياته الجارية لكنه يكاد يفتن قارئه عن حسه الواعي بالحياة الواقعة فيخيل له أنه يقرأ عن أشياء لم تقع عليها عين من قبل.

ولئن كان الإنسان نزاعا بفطرته إلى القصص يروى عن الكائنات الخارقة للطبيعة المألوفة، فتراه يفتن بما يروى له عن الغيلان والجن والمردة - وعلى أوتار هذه النزعة الفطرية أنشد كولردج قصيدتيه هاتين - إلا أن هذه الفطرة المغروزة في طبيعته لم تبق على حال واحدة في مراحل الرقي العقلي؛ فالإنسان في العصر الحديث لا ينخدع بمثل ما كان ينخدع به الأجداد الأولون في سذاجتهم، وإذن فشاعر العصر الحديث إن أخذ نفسه بإشباع هذا الميل الفطري في الإنسان، فلا مندوحة له عن إتقان فنه وإرهاف حسه وخفة لمسه فيما يروي لنا من تهاويل، حتى تجوز خدعته الفنية على عقولنا التي دق منطقها وشحذت قدرتها على النقد، وها هنا نبوغ شاعرنا كولردج، وإنه ليقال - على سبيل الجد أو الفكاهة - إن إدمانه على «الأفيون» قد أكسبه هذه القدرة على ما يشبه الأحلام في الوعي، فيروي لك شيئا لا تدري إزاءه أأنت بصدد حلم أو حقيقة.

وهاك شيئا من قصيدة «كرستابل» التي لم يتم الشاعر بناءها كما أراد له أن يكون؛ إذ أنشأ منها جزءا وبعض جزء من أربعة أجزاء، وهذا الذي نقدمه إليك بداية الجزء الأول:

انتصف الليل في جيران ساعة الحصن،

وأيقظت البوم الديك فصاح

تو - وت! - تو - وو!

ثم أنصت مرة أخرى؛ أنصت إلى الديك الصانع:

كيف صاح في شبه النعاس •••

وللسيد «ليولين» - وهو البارون الغني -

كلبة عقور بغير أسنان،

ومن تحت الصخرة، وهي في كنها،

أجابت الساعة في دقاتها،

فأربع لأرباعها واثنتا عشرة للساعة في تمامها،

وما انفكت الكلبة - أشمس الجو أو أمطر -

تعطيك ست عشرة نبحة لا تزيد عليها بالصياح؛

ويقال إنها ترى كفن سيدتي. •••

أكانت الليلة باردة معتمة؟

كانت الليلة باردة، لكنها غير معتمة؟

وانتشر في السماء سحاب رمادي رقيق

لا يحجب السماء ولكن يغطيها،

والقمر خلف السحاب في تمه،

لكنه يبدو ضئيلا أدكن؛

الليلة باردة والسحاب رمادي،

والشهر شهر قبل مايو،

والربيع يدنو رويدا إلى هذي الربوع. •••

والغادة الجميلة «كرستابل»

التي يحبها أبوها حبا شديدا

ماذا استبقاها إلى هذه الساعة المتأخرة في الغابة؟

على ربع ميل من بوابة الحصن؟

لقد امتلأت بالأحلام ليلتها البارحة ،

بالأحلام عن خطيبها الفارس؛

أحلام أنت لها ثم وثبت

بعد أن كانت في فراشها غارقة في نعاس؛

فقد أرادت أن تضرع بالدعاء في الغابة انتصف فيها الليل،

بالدعاء لحبيبها أن يسعد، وحبيبها في منأى بعيد. •••

تسللت خلال الطريق صامتة

تزفر تنهداتها لينة خافتة،

وقد تعرت السنديانة من كل خضرتها،

ولم يكن ثمة إلا أعلاق من حشائش،

فركعت عند جذع السنديانة الشامخة،

وأخذت تدعو في سكوت. •••

وبغتة فزعت الغادة واقفة؛

الغادة الجميلة «كرستابل»!

فقد سمعت أنة من قريب، جد قريب،

لكنها لم تدر من أين هذا الأنين،

فيظهر أن قد جاءها من وراء

السنديانة العتيقة الضخمة ذات الصدر العريض! •••

الليلة باردة والغابة جرداء!

أهي الرياح الباردة التي بعثت ذاك الأنين؟

لكن الهواء ساكن لا ريح فيه

تهز خصلة شعر

للغادة الجميلة تدلت فوق خدها!

لم تكن ثمة ريح ترقص

الورقة الحمراء الوحيدة، الأخيرة من نوعها،

الورقة التي ما ونيت راقصة كلما واتتها الظروف أن ترقص،

الورقة العالقة في خفة، العالقة في ارتفاع

فوق الغصن الأعلى الذي يرنو إلى السماء. •••

صه أيها القلب النابض، قلب «كرستابل»!

يا مارية اليسوع إنها في حماك!

وطوت ذراعيها تحت معطفها،

واسترقت خطاها إلى جانب السنديانة الآخر،

فماذا رأت هناك؟ •••

رأت هنالك فتاة باهرة الضياء

ارتدت ثوبا من حرير أبيض،

وبدت كالطيف وضاءة في نور القمر،

نقص بياض عنقها من بياض ثوبها؛

فجيدها الأملد والذراعان كانت عارية،

وقدماها حافيتان شفتا عن زرق عروقها،

وسطعت ببريقها الأخاذ هنا وهناك،

جواهر انعقدت في ثنايا شعرها؛

ما أرعبه منظرا أن تقع العينان في ذاك المكان

على امرأة في مثل تلك الثياب الفاخرة!

إنها جميلة دونها كل جميل! «مارية يا أماه عونك الآن!»

ثم قالت كرستابل: «من عساك أن تكوني؟» •••

فأجابت المرأة الغريبة من فورها

في صوت خافت رخيم: «اعطفي علي في موجع كربتي

أكاد أعيى عن النطق من نصب هد قوتي

مدي إلي يدا ولا تخافي!»

فقالت كرستابل: «كيف جئت إلى هذا المكان؟»

فطفقت الفتاة عن ذلك تجيب •••

في صوتها الخافت الرخيم:

إن بعلي ذو حسب شريف

واسمي «جيرالدين»

أمسك بي في صبيحة الأمس خمسة من رجال القتال؛

أمسكوا بي أنا، نعم أنا المرأة العزلاء!

وعنوة وبالإرهاب كمموني لا أصيح،

وشدوني على جواد مسرج أبيض،

وانطلق بي الجواد في سرعة الريح،

وامتطوا جيادهم خلفي راكضين

يركضون في سرعة البرق على غر الجياد،

واجتزنا معا ما اجتزنا من عتمة الليل؛

ورب السماء الذي به أعوذ

ما أدري من هؤلاء الرجال!

كلا ولا أدري كم لبثت ها هنا (فقد كنت في غيبوبة لا أعي)!

كم لبثت مذ جاءني أحدهم، أطول الخمسة جميعا،

وحملني عن ظهر الجواد،

حملني امرأة منهوكة القوى أشرفت على الموت؛

وتمتم رفاقه بكلمات،

فوضعني الرجل تحت هذه السنديانة

وأقسم لي أنهم عائدون على عجل،

ولست أدري أين ذهبوا؟

وخيل إلي منذ دقائق أني سمعت

صوتا كأنه صوت جرس لحصن؛

مدي إلي يدا وأعيني

امرأة منكودة الحظ على القرار (وختمت حديثها).

وهكذا يمضي الشاعر في حكاياته عن «كرستابل» و«جيرالدين»، ولعلك قد أدركت ما زعمناه من أن عدوى إحساس الشاعر تمتد إليك فتسايره وأنت مخدوع عن وعيك، فلا تدري أهو حلم ما تقرأ أم أمر من الواقع! ولا بد لك أن تعوض بخيالك ما لا بد أن تفقده الترجمة من حلاوة في اللفظ وإيقاع في الوزن والقافية. وعلى نفس هذا المنوال نسج آيته الكبرى «النوتي الهرم» وهاك مثالا منها، وهو جزء من سبعة أجزاء. (يقابل النوتي الهرم ثلاثة رجال من ذوي النخوة جاءتهم الدعوة إلى حفلة عرس فيستوقف أحدهم.)

إنه نوتي هرم،

استوقف رجلا من ثلاثة؛ «أستحلفك بلحيتك الطويلة البيضاء، وعينك الوضاءة، إلا

أخبرتني فيم استوقفتني؟ •••

إن دار العريس فتحت أبوابها

وإني له أقرب قريب،

واستقبل الأضياف، والوليمة قد أعدت

ألا تسمع طنين الفرح؟» •••

فيمسكه من يده الهزيلة

ويقول: «هنالك كانت سفينة ...» «أمسك! خل يدي، أيها السفيه ذو اللحية البيضاء!»

فأرخى قبضته عن يده، (ضيف العرس تسحره عين النوتي العجوز ويرى نفسه مجبرا على الوقوف ليستمع إلى حكاية.)

لكنه بوميض عينه أمسكه،

ووقف ضيف العرس لا يستطيع حراكا،

ويصغي كأنه الطفل في عامه الثالث،

وتتم للنوتي إرادته. •••

وجلس ضيف العرس على صخرة

لا يملك إلا أن يستمع!

وهكذا تحدث ذلك الرجل العجوز؛

ذلك النوتي ذو العين البراقة: ••• «هتفوا للسفينة وأخلوا لها الميناء

وهبطناها في مرح طروب

حذاء الكنيسة، حذاء التل،

حذاء المنار.» (يحكى النوتي كيف سارت السفينة تجاه الجنوب والريح مواتية والجو معتدل.) «أشرقت الشمس ذات اليسار،

إذ صعدت من جوف المحيط،

وسطعت وضاءة، ثم ذات اليمين

هبطت الشمس إلى جوف المحيط، •••

ثم ظلت كل يوم في صعود

حتى حاذت القلع عند الزوال ...»

هنا ضرب ضيف العرس على صدره

إذ طن في سمعه ضرب العازفين. (يسمع ضيف العرس موسيقى الفرح لكن النوتي يمضي في حكايته.)

والعروس إلى القاعة قد أقبلت

حمراء كأنها وردة

والمنشدون في طرب تقدموها

يومئون بالرءوس. •••

ضرب ضيف العرس على صدره

ولكنه لم يملك سوى أن يستمع،

وهكذا تحدث ذلك الرجل العجوز؛

ذلك النوتي ذو العين البراقة. (يعصف بالسفينة عاصفة تجذبها نحو القطب الجنوبي.)

وهنا هبت العاصفة

قوية عاتية

تضرب بجناحيها العريضين

وتقتفينا صوب الجنوب، •••

ومالت القلاع وانغمس الحيزوم في الماء

فالمقتفي ما فتئ في إثرنا يهب ويصيح

ولم تزل قدمه دائسة على ظل عدوه

منحنيا برأسه إلى أمام؛

أسرعت السفينة سيرها، وعلا من العاصفة زئيرها

وصوب الجنوب أخذنا طريق الفرار، •••

ثم جئنا إلى ثلج وضباب

وانقلب البرد زمهريرا

وعلا الثلج ما علت القلاع، ومضى حذاءنا طافيا

على خضرة الزمرد. (أرض الثلج وأرض الأصوات المخيفة حيث لا تقع العين على كائن حي.)

وأرسلت جبال الثلج على ظهور الموج

ضوءا تنقبض له النفوس؛

لا ترى العين إنسانا ولا حيوانا،

كل ما تراه ثلج من ورائه ثلج،

ثلج هنا وثلج هناك،

ثلج أينما أدرت البصر،

تشقق الثلج فأز وزأر وعوى؛

أصوات خليط كأنما غشيتنا الغاشية. (لبثت الحال كذلك حتى مرق من الضباب الثلجي طائر بحري ضخم يدعى القادوس واستقبلوه بفرحة كبرى واحتفال عظيم.)

وأخيرا أقبل علينا القادوس؛

جاءنا من خلال الضباب،

كأنما كان روحا مسيحيا؛

فباسم الله حييناه! •••

أكل طعاما لم يأكله من قبل

وحلق فوقنا ثم حلق،

وانشق الثلج في مثل صوت الرعد،

ووجه بنا السفينة صاحب السكان. (ها هو ذا الطائر يدل إلى أنه بشير بالخير، ويتبع السفينة في طريق عودتها صوب الشمال خلال الضباب والثلج الطافي.)

وهبت من الجنوب ريح مواتية،

وتبعنا القادوس،

وكل يوم إن أراد طعاما أو أراد مزاحا

أقبل على النوتي يحقق له ما أراد. •••

تراه يرقب ما طال المساء

آنا على السارية وآنا على الشراع، لا يثنيه ضباب أو سحاب، وفي الليل خلال دخان الضباب الأبيض

كان يسطع ضوء القمر. (لكن النوتي العجوز غدر بالطائر البشير بالخير فقتله.)

كان الله في عونك أيها النوتي العجوز!

ووقاك الشياطين التي أضلتك سواء السبيل!

ما هذه النظرة الغريبة في عينيك؟ لقد وجهت سهمي إلى

القادوس فأردته قتيلا!

وعلى هذا الغرار يمضي الشاعر في الأجزاء الباقية من القصيدة؛ ففي الجزء الثاني ينبئنا بثورة البحارة على النوتي الهرم لقتله الطائر الذي جاءهم بشيرا بالخير، لكن لم يكد الضباب ينقشع حتى نسي البحارة جرم زميلهم بل أيدوه فيما فعل، وبذلك التأييد كانوا شركاءه في جرمه. واستمر النسيم رخاء، ودخلت بهم السفينة في المحيط الهادي وسارت صوب الشمال تجاه الغاية المقصودة، ثم وقفت السفينة فجأة كأنما بدأ الانتقام لموت «القادوس»؛ فقد كان يتابعهم روح من هذه الأرواح التي لا تراها العين ولكنها تسكن هذا الكوكب الأرضي الذي نعيش فيه؛ هنا أخذ البحارة الهم من جديد، وألقوا بالتبعة كلها على زميلهم النوتي الهرم، وللدلالة على جريمته النكراء علقوا جثة الطائر القتيل حول عنقه. وفي الجزء الثالث من القصيدة ينبئنا الشاعر بأن النوتي الهرم أبصر بشيء في الأفق البعيد، فلما اقتربوا قليلا خيل إليه أنها سفينة، فأخذت الجميع هزة من الفرح وشربوا اغتباطا لهذه النجدة القريبة، لكنهم سرعان ما عاودهم الفزع؛ إذ تساءلوا: أيمكن أن تسير سفينة بغير ريح وتيار؟ وهكذا ذهب رجاؤهم أدراج الرياح وأخذوا يسقطون صرعى رجلا في إثر رجل. وفي الجزء الرابع يحدثنا الشاعر أن ضيف العرس الذي يستمع إلى قصة النوتي الهرم خشي أن يكون المحدث نفسه روحا من هاتيك الأرواح، لكن النوتي الهرم طمأنه على حقيقة حياته وأنها جسد من لحم ودم، ومضى يقص له حكايته: كيف ارتاع لجثث زملائه ملقاة إلى جانبه، بينما يرى خلائق المحيط حية! أفما كان الأجدر بتلك الحياة زملاؤه؟ لكن لعنة الله قد أصابته وقد لمسها في أعين هؤلاء الموتى. وطلع القمر وفي ضوئه الفضي شاهد النوتي الهرم بعض خلائق البحر في جمالها وجذلها، فدعا لها الله بدوام ذاك الجذل بالحياة. وما كاد يبدل نظرته إلى تلك الخلائق حتى انبسط لسانه بالدعاء، وسقط عن عنقه جثمان الطائر القتيل. وفي الجزء الخامس من القصيدة يقول الشاعر إن رحمة الله نزلت على النوتي الهرم غيثا، وسمع أصواتا وتبدت له في السماء أشباح، وسارت السفينة قدما، ودبت حركة الحياة في جثث زملائه الموتى! وفي الجزء السادس من القصيدة تأخذ النوتي الهرم غيبوبة روحية إذ يستوثق من وجود الملائكة معه تعينه، فها هي ذي قوة ملائكية تدفع السفينة دفعا نحو الشمال في سرعة تستحيل على البشر. ويعود النوتي الهرم إلى وعيه وتزول عنه اللعنة ويبصر بأرض بلاده تدنو في الأفق، وعندئذ تخرج أرواح الملائكة مرة أخرى من أبدان زملائه الموتى، وتتبدى في هيئة من الضوء. وفي الجزء السابع والأخير يلتقي النوتي الهرم براهب، ويقدم توبته، وتكون كفارته أن يظل طول حياته مرتحلا من بلد إلى بلد، فيكون مثالا للناس يتعلمون منه أن يضمروا الحب والتقدير لخلائق الله جميعا. (2) وليم وردزورث

William Wordsworth (1770-1850م) «وليم وردزورث» هو الذي شارك «كولردج» في إخراج ديوان الحكايات الوجدانية «المنظومة» التي تعد فاتحة العهد الابتداعي الجديد، لكنه مع ذلك يختلف عن شريكه كل الاختلاف؛ مات أبوه وهو يافع في الثالثة عشرة من عمره، وكانت أسرته حينئذ تعاني الضنك، ومع ذلك التمس الفتى طريقه إلى مدرسة ثانوية فجامعة كمبردج، بل إن ما كانت تعانيه أسرة الشاعر من عسر لم يحل دون أن يستمتع بما لا يستمتع به عادة إلا الأثرياء من فراغ وارتحال وانقطاع للدرس. وقد كان لإقامته في فرنسا إبان ثورتها أثر عميق في نفسه، جعله بادئ الأمر يتعصب للمذهب الجمهوري، لكن هذه الحماسة سرعان ما بردت في نفسه وزال أثرها.

فقد كانت الثورة الفرنسية في أوائلها حين كان «وليم وردزورث» طالبا في كمبردج فتأثر بتعاليمها كما تأثر سائر شباب جيله، وكان من الطبيعي أن يظهر ذلك الأثر في شخصيته وفي شعره. والعجيب أن حماسته للثورة في بداية الأمر ذهبت به إلى حد التطرف، فلم يهز نفسه - كما هز نفوس غيره - إفراط رجال الثورة في حز الرقاب وإراقة الدماء، بل كان يرى في كل ذلك قصاصا عادلا لما نال الفقراء والضعفاء من عسف على أيدي الأشراف والملوك. ولم يجفل من إعلان رأيه بأنه إبان الثورة للحرية لا يمكن أن تكون حرية؛ إذ في فترة التحول تزكو الفضائل السياسية على حساب الفضائل الخلقية، لكنه رغم هذه الحماسة كلها في بادئ الأمر، لم يسعه في النهاية إلا أن يستنكر الطغيان العسكري وحمى الغزو التي انتهت إليهما الثورة الفرنسية. نعم ظل الشاعر ثابتا على مبادئه الأساسية من حيث قيمة الإنسان وما له من حقوق وما عليه من واجبات، لكن الذي انقلب في نفسه رأسا على عقب هو رأيه في تطبيق تلك المبادئ وفي حكمه على رجال عصره وأحزابه السياسية والوسائل التي اتخذت لتنفيذ الدعوة إلى حرية الإنسان. ولما خابت آمال الشاعر في فرنسا الثائرة أن تحقق له ما يريد للإنسانية، تحولت تلك الآمال إلى شيء آخر تتعلق به؛ تحولت إلى وطنه إنجلترا فتعلقت بما فيها من تقاليد دامت مع الزمن وضربت بجذورها في قلوب الناس فطبعتهم على أسلوب مقبول من الحياة المتزنة. وقد كان هذا التحول العجيب من النقيض إلى نقيضه يكاد يشبه الارتداد المفاجئ من دين إلى دين، لكن الشاعر لم يعبأ بما قد يقوله الناس في هذا التغير السياسي السريع، بل لم يحاول أن يبرره لهم، إنما ترك لشعره أن يقص على الناس قصة نفسه. لكن على الرغم من ذلك كله، ظل للثورة وحوادثها في نفسه ذلك الأثر الذي لا بد أن تتركه الهزات الإنسانية العنيفة في أصحاب النفوس القوية المرهفة، فقد شحذت فيه ذكاءه وإرادته مرتين؛ حين اعتنقها أولا، وحين عاد إلى نفسه ثانيا فغربل حوادث الثورة ليقبل منها ما يقبل ويرفض ما يرفض؛ ومن هذا كله خرجت شخصيته الفذة بارزة بكل ما آتاها الله من مواهب.

كان «وردزورث» مفكرا فيلسوفا، أخذ على نفسه أن يفكر لنفسه في أمانة وإخلاص، في كل ما يتعلق بالطبيعة والإنسان. ثم كان شاعرا، أولا؛ لأن موهبة الشعر جزء من طبيعته فلا يسعه إلا أن يشعر، وثانيا؛ لأنه وجد في الشعر وسيلة أخصب وأتم للوصول إلى الحق فيما يعنيه من أمور الطبيعة والحياة الإنسانية، ثم لتبليغ ذلك الحق وتركيزه في أفئدة الناس، فالشاعر عنده معلم والشعر تعليم، ويقول: «كل شاعر عظيم معلم، والذي أرجوه لنفسي هو إما أن أعد معلما أو ألا أعد شيئا على الإطلاق.» فما هو من الشعراء الذين يكتبون ليمتعوا، ولا هو من الشعراء الذين يرون أن الشعر تعبير عما ارتآه الآخرون ولكن في صيغة أجمل، ولا هو من الشعراء الذين لا يمزجون نفوسهم كل المزج بما ينشئون وإنما يقفون إزاء خلقهم موقفا أشبه ما يكون بموقف المتفرج، ولا هو من الشعراء الذين اضطربت في رءوسهم الفكرة ثم أبت عليهم ثورة نفوسهم أن تتبلور هذه الفكرة وتتحدد معالمها فتخرج شعلة من غير صورة؛ بل لم يكن من الشعراء الذين ينظمون ليزيحوا عن صدورهم ما أثقلها من مشاعر، أو ليجتذبوا العطف على آمالهم وآلامهم؛ إنما وردزورث يقرض الشعر ليعلم الناس مذهبا جديدا، كان يقرض الشعر لأن الشاعر من طبيعة كل الأنبياء، وشعره وسيلة الأداء في نشر الدعوة، كان يقرض الشعر «ليسري عن المكروب كربته، ليضيف إلى ضوء النهار إشراقا بأن يجعل السعيد في حالة أسعد، ليعلم الشباب وذوي النفوس الحية من كل سن أن ينظروا وأن يفكروا وأن يشعروا، فيكونوا بذلك أقرب إلى عمل الفضيلة وكأنهم يعبرون عن أنفسهم.» تلك هي رسالة الشاعر كما عبر عنها بألفاظه.

ليس «وردزورث» شاعرا وكفى، بل هو صاحب مذهب جديد في الشعر، فصله تفصيلا في مقدمة طويلة قدم بها الطبعة الثانية من ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة»، والفكرة الرئيسية في مذهبه هي أن الشعر لا ينبغي أن تكون له ألفاظ خاصة به، وأنه يجب أن يصاغ في أبسط عبارة ممكنة كالتي يتفاهم بها عامة الناس في الريف البعيد عن عوامل المدنية التي قد تفسد نقاء العبارة، وأن جوهر الشعر في المادة المكتوبة، وليس للوزن أو القافية إلا أتفه الأثر في طبيعة الشعر، فهما عرضان لا يكونان جزءا من جوهره؛ إذ جوهر الشعر هو التعبير عن تجربة روحية عاطفية مرت بنفس الشاعر. وقد أخذ «وردزورث» ينشد الشعر على أساس مذهبه هذا، والعجيب أنه - في رأي بعض النقاد - لم يضعف في شعره إلا حين طبق مذهبه، وأنه لم يكتب قصيدة ممتازة على منهاجه الجديد في الشعر؛ فكثيرا ما كان الشاعر ينسى مذهبه ويطلق العنان لطبيعته الشاعرة فيبدع ويجيد، بل إن هذا الشاعر الذي أنكر أن يكون للشعر ألفاظ خاصة به، كان من أكثر الشعراء التزاما للألفاظ الشعرية في قصائده! فلئن ذهب «وردزورث» مذهبا في ألفاظ الشعر لم يخلص له في قصائده، فقد كان لمذهبه جانب آخر أخلص له حتى النهاية، وذاك رأيه بأن جوهر الشعر في المعنى وحده، وكل ما عدا ذلك من بحور وأوزان وقواف أعراض ليست من الجوهر في كثير ولا قليل.

كان «وردزورث» مستكشفا لشيء جديد، وشأنه في كشفه الجديد شأن سائر رجال الكشف عن الجديد بكل ضروبه، وذلك أن نبوغه الحقيقي هو أنه رأى ما لم يره غيره على الرغم من وجوده أمام الأعين جليا واضحا، وما إن يوجه المستكشف إليه أعين الناس حتى يروه في وضوح ويعجبون معه كيف ظل مستترا خافيا. وبكشفه الجديد فتح «وردزورث» عالما جديدا من الفكر ومتعة الشعور، وتستطيع أن تعد شعره علامة ترمز إلى بداية شوط جديد في مراحل الفكر والأخلاق من تاريخ البشر. ولكنه أمام هذا الخلق المبتكر الجديد لم يكن له مندوحة عن تغيير أذواق الناس حتى يتذوقوه، وتعليمهم الفن الذي يرون به فنه ويحكمون عليه؛ لأن الناس لم يكونوا على استعداد نفسي لهذا الانقلاب، فلما رأوه يلتمس أسمى مشاعر الإنسانية وأعمقها وأدقها في توافه الأشياء وأبسط الألفاظ والأساليب لم يسيغوه، بل زادوا على ذلك أن جعلوا منه موضوعا للهزؤ والسخرية.

ففي دار هادئة في منطقة البحيرات شمالي إنجلترا، لبث الشاعر نصف قرن كامل ينشئ الشعر في تؤدة وعلى مهل، وينشر إنشاءه حينا بعد حين، وكله إيمان بجودة شعره، لكن جمهور القراء لم يقبل عليه بادئ الأمر إقبالا يتناسب مع ثقة الشاعر الشديدة في قيمة شعره، ثم ما لبث أن وجد الطريق إلى قلوب فئة ممتازة من القارئين، وأخذ المعجبون في ازدياد حتى أصبحت لشاعرنا المكانة الأولى بين قراء الشعر. وما هي إلا أن منحته جامعة أكسفورد درجة فخرية اعترافا بمنزلته في دولة الأدب، كما أجرى عليه الملك راتبا، ثم عين أميرا للشعراء في السنوات السبع التي ختمت حياته؛ فما الذي حول وجهة النظر إلى شعره هذا التحول العجيب؟ ما الذي جاء في شعره من جديد حتى عرضه أول الأمر لسخرية الساخرين، بل لسخط رجال كان يعترف لهم في عصره بالقدرة وسعة العلم؟ أما أنه امتاز بموهبة شعرية من الطراز الأول فذلك ما لم يكن قط موضعا لشك منذ أخرج ديوان «الحكايات الوجدانية المنظومة» وحسبه في ذلك الديوان قصيدة واحدة - قصيدة «أشعار نظمت بالقرب من كنيسة تنترن»

19 - ليعترف له كل قارئ بالشاعرية الفذة، كلا ولا كانت مواهبه من حيث قوة العبارة وأصالة الفكرة ونصوع الخيال وخصوبته والسيطرة على اللغة في نقائها وجمالها وجلالها، ما كان ذلك كله ليجحد إذ لم تكن سبيل إلى جحوده منذ نشر أول نتاجه. وإذن فليس شيء من هذا ما أثار حوله ثائرة القارئين، لأن هذا وحده - وهو كثير - لا يشتمل على العلامة المميزة التي جعلت من وردزورث نسيج وحده وإمام عصره، ورسولا يبشر باتجاه جديد في الفكر والشعور؛ وإنما امتاز «وردزورث» بخاصة أخرى، هي أنه رأى في الموضوع البسيط وفي التعبير البسيط كل ما يريد من مادة وأداة! لم ير «وردزورث» ضرورة لزخرف العبارة ولا لجسامة الموضوع الذي يتحدث عنه، وفي هذا الانقلاب الذي يبدو شيئا تمليه البداهة التي لا تحتاج إلى عميق فكر، في هذا الانقلاب اليسير كان خروجه على المألوف وكان بدؤه لعالم جديد، ثم كانت الثورة عليه من أنصار القديم المألوف! كانت له العينان اللتان تدركان عناصر الشعر في الأشياء الساذجة التي عميت عنها أعين السابقين، أو قل التي رأتها أعين الشعراء السابقين، واهتزت لها نفوسهم، ولكن أوضاع الشعر التقليدية أبت عليهم أن يتخذوها موضوعات لشعرهم! فكانت رسالة «وردزورث» أن يفتح أعين الناس ويزيل الغشاوة التي رانت على قلوبهم لعلهم يرون في أصغر الأشياء «وأحقرها» قرينا يعدل أي شيء مما جرى العرف أن يعد أعظم الأشياء وأسماها.

الحق، والحق وحده، رائدك إن أردت أن تقول شعرا، وليس في الحق تافه وعظيم؛ الحق هو القانون الأول في تكوين الشعر الصحيح، تلك هي الدعوة التي حمل لواءها «وليم وردزورث»، وقد أفلح في أن يهدي القراء والشعراء على السواء إلى هذا النهج القويم؛ ومن هنا كانت طريقته في اختيار موضوعاته التي يقول فيها الشعر، فقد تعلم كيف يرقب الطبيعة في كل ظواهرها ومظاهرها، وكيف يرى فيها ذخرا لا نهاية له ولا حدود؛ ذخرا من أشياء تلمس صميم القلب فتنطق اللسان بالشعر، لقد أحب وردزورث الطبيعة حبا بلغ به حد العبادة، فهو يمجد شوامخ الجبال وهوج العواصف كما يقدس الزهرة النحيلة تهزها الريح.

أخرج «وردزورث» دواوين تشتمل على مجموعات من قصار القصائد، ثم أخرج مجموعة كبرى من «القصائد الأربع عشرية» فيها الجيد والرديء، لكنها في مجموعها - وقد بلغت ما يقرب من خمسمائة قصيدة - تعد من عيون الأدب في العالم، ثم له من القصائد الطوال «الرحلة»

20

التي هي جزء من مشروع قصيدة أطول وأشمل يكون عنوانها «المعتزل»،

21

وله كذلك «المقدمة»،

22

ويطول بنا الحديث لو أخذنا في ذكر قصائده، بل جياد قصائده، فهذا رجل لبث خمسين عاما لا يكاد يفكر في شيء أو يكتب شيئا ليس شعرا أو ما يتصل بالشعر، والآن فلنعرض بعض أمثلة من شعره:

هذه قصيدة «جسر وستمنستر»

23

نختارها نموذجا لمقطوعاته الأربع عشرية.

24

قالها الشاعر إذ وقف على جسر (كوبري) وستمنستر في لندن في أول الصباح، حين كانت مدينة لندن الجبارة لا تزال ناعسة. احتفظنا في الترجمة بتوزيع القوافي وهي تجري على هذا النظام: «أ - ب - ب - أ» «ج - د - د - ج -» «ه - و - ه - و - ه - و»

الأرض لا تملك أروع من هذا منظرا تبديه

يا له من صغير النفس إنسان هنا يعبر

فلا يستوقفه بسحر الجلال هذا المنظر!

فالمدينة الآن قد نشرت ثوبا ترتديه

من جمال الصبح الساكن العريان؛

أفلاك وأبراج ومسارح ومعابد وقباب

كشفت صدرها فلا يحجبها عن الحقول أو السماء حجاب،

كلها ساطع لألاء في هواء بغير دخان.

لم أر الشمس قبل اليوم بهذا الجمال تغمر

بطلائع نورها الوهاد والصخر والنجاد،

لم أشهد ولم أحس سكونا كهذا السكون ينشر،

والنهر ينساب في رقة كما أراد.

رباه! حتى المنازل خلتها في سبات تظهر،

وهذا القلب القوي

25

بأسره في سكتة ورقاد.

وهذه قصيدة قصيرة له عنوانها «جبت وحيدا»:

26

جبت وحيدا كالسحاب

ينساب فوق الوديان والتلال،

إذ رأيت جمعا على غير ارتقاب؛

جمعا من نرجس ذهبي

إلى جانب البحيرة، تحت الشجر

ترف مع النسيم وترقص، •••

موصولا غير مقطوع كالنجوم لألاءة

في نهر المجرة تلمع،

امتد في خط على حاشية الخليج،

امتد ما امتد البصر،

عشرة آلاف رأيت منها في طرفة عين،

تومئ برءوسها في رقص بهيج، •••

وإلى جانبها رقص الموج؛ لكنها

فاقت الموج المتلألئ في نشوتها!

وهل يملك شاعر إلا أن ينتشي

في صحبة هذا الجمع الطروب؟

حدقت بعيني - وحدقت - لكني عندئذ ما قدرت!

أي ذخر اقتنيت من ذلك المنظر! •••

فكلما استلقيت بعدئذ على أريكتي

خلي الفؤاد أو متأملا

وثب هذا المنظر إلى عين الخيال،

التي هي نعمة الوحيد في عزلته؛

عندئذ يملأ البشر قلبي،

فيهتز راقصا مع أزهار النرجس.

وهاك أسطرا من قصيدته الكبرى «المقدمة»:

إننا من تراب، لكن الروح الخالدة - رغم ذلك - تراها

تعمل عمل الاتساق بين أنغام الموسيقي؛ فلها ضرب من الفن

يخفى على العين الفاحصة، به توفق

بين العناصر المتنافرة، وتجعلها متآزرا بعضها مع بعض

في صحبة واحدة؛ ألا ما أعجب أن أرى

مخاوفي وآلامي وما رأيت في سالف أيامي من شقاء

وندم وانفعال نفس وفتور همة! كلها يمتزج

في وحدة عقلي، ثم تتعاون كلها على الأخذ بنصيب -

بل بالنصيب الذي لا غنى عنه - في تكوين هذه الحياة الهادئة

التي أحياها حين أكون جديرا بنفسي!

والحمد على ذلك للغاية التي ينشدها الوجود!

والفضل للوسائل التي تصطنعها الطبيعة لبلوغ تلك الغاية؛

سواء اتخذت لوسيلتها سبلا لا تبعث الخوف في النفوس،

أو جاءت بشيء من الفزع الرفيق، كأنها الضوء الذي لا يؤذي

يشق السحاب المستكن، أو اختارت وسائل أشد عنفا

وأغلظ أسلوبا توائم ما تنشده من غرض. (3) ربرت سذي

Robert Southey (1774-1843م) «ربرت سذي» زميل معاصر «لكولردج» و«وردزورث» لكنه كان - بغير شك - دونهما قدرة ونبوغا. ومهما يكن من أمر منزلته بالقياس إلى زميليه ففي شعره أجزاء بلغت من الروعة حدا يدعو إلى الإعجاب، وقد كان لشعره أثر غير قليل في عصره، وهو يمثل نزعات ذلك العصر تمثيلا صادقا دقيقا.

مات عنه أبوه وهو صغير، فكفله خاله وأرسله إلى جامعة أكسفورد، غير أنه غادرها دون أن يظفر منها بدرجة، وتزوج وهو في سن صغيرة وليس أمامه الأمل المزدهر في رزق يسمح له ولأسرته بالعيش الرغيد، فارتحل إلى البرتغال حيث أقام زمنا، وهنالك اشتدت صلته بالأدب الإسباني، وما هو إلا أن شغف حبا بالأدب وتوفر عليه بمجهوده كله؛ وما كان ليستطيع ذلك بغير مورد ثابت للرزق، فأجرى عليه زميل له في الدراسة مبلغا من المال يعينه على العيش. وقد لبث «سذي» أربعين سنة من حياته متفرغا للأدب، قانعا بدخل ضئيل، ومع ذلك استطاع - رغم هذا العسر - أن يجمع مكتبة زاخرة، وأن يعنى بتربية أبنائه، لا بل يعنى إلى جانب ذلك بأسرة «كولردج» - عديله - الذي كثيرا ما كان يحمل عبئها؛ وكان «سذي» متصل الإنتاج الأدبي، وإن لم يعد عليه أدبه إلا بالقليل، ومات بعد أن قضى بضعة أعوام لم يكن فيها موفور الصحة العقلية.

كان «سذي» أميرا للشعراء. وقد ظن أنه سيخلد بشعره، ولكنه ناثرا أعظم منه شاعرا، ونثره هو الذي أفسح له مكانا رفيعا في الأدب، وأهم إنتاجه «سقوط روبسبيير»

27

التي أخرجها مع كولردج، وخمس حكايات منظومة أراد أن يحلل ويصف في كل منها لونا من ألوان الخرافات الأسطورية (الميثولوجيا) في الشعوب المختلفة؛ من هذه الحكايات «جان دارك» التي نظمها وهو في التاسعة عشرة من عمره. ومنها «ثعلبة المدمر»

28

وقد أراد بها أن يصف شيئا من أساطير المسلمين، تقرؤها فكأنك من حيث الجو الخيالي الذي يحيط بك تقرأ قصة من ألف ليلة وليلة. ولم يجر الشاعر في نظمها على سنن معلومة مرسومة، لأنه ارتأى أن في مثل هذه الحكاية - التي تستخدم عناصر خارقة للطبيعة فتخرج عن قوانين الطبيعة - ينبغي للشاعر كذلك أن يحيد عن قوانين النظم المطردة، فليس من الملائم مثلا أن يلتزم الشاعر فيها شيئا من القافية؛ ولذلك أنشأها شعرا مرسلا، لكن الشعر المرسل نفسه قد يصعد إلى أعلى درجات التوقيع الموسيقي، كما هي الحال في «الفردوس المفقود» ل «ملتن»؛ وإذن فلا يكفي الشاعر في قصيدة «ثعلبة» أن يستخدم الشعر المرسل على إطلاقه، بل يجب عليه فوق ذلك أن يجعله مهلهل الديباجة نوعا ما، ليتناسب الموضوع والأسلوب. ومن هذه الحكايات أيضا «لعنة كيهاما»

29

بنيت على موضوع من الأساطير الهندية؛ و«لذريق الغوطي»

30

وهي خير هذه المجموعة - على غير ما قدر الشاعر نفسه؛ إذ كان في ظن الشاعر أن قصيدته التي تسمى «مادك»

31

هي آية فنه - وقد يكون بعض قيمة هذه القصيدة في نزعتها الخلقية، إلى جانب ما في حوادثها من مآس تحرك عواطف النفس.

وهاك مثالا من «ثعلبة»:

وجد في الكهف «امرأة»؛ «امرأة» تعيش في عزلة،

كانت تغزل إلى جانب المدفأة،

وتغني وهي تغزل .

وكانت أغصان الصنوبر من بهجة تتوهج،

ووجهها من وهج النار يلمع،

وجهها وجه «الفتاة»

ولكنها مبيض شعرها،

حيته بابتسامة

ومضت في غزلها،

تغني وهي تغزل ...

والخيط الذي نسجت كان يلمع كالذهب

في ضوء النار ذات الأريج،

لكن الخيط كان رفيعا جد رفيع!

فلولا لمعانه في الضوء

لاقتربت منه باحثا عبثا!

وجلس الشاب يرقب الخيط،

ورأت فيه المرأة نظرة العجب،

فعاودت الحديث مرة أخرى

ولم يزل كلامها غناء: «سألتك أن تلفه حول يديك،

رجوتك أن تلفه حول يديك؛

خيطي صغير، خيطي رفيع،

لكني أريد له أن يكون

أشد منك بأسا وقوة،

من ذا يستطيع أن يقطع خيطى هذا؟» •••

وشخصت بعينيها الزرقاوين البراقتين،

وابتسمت له ابتسامة رقيقة،

ولم ير في ابتسامتها شرا.

وحول يده اليمنى أخذ يلف الخيط ويلف،

وحول يده اليسرى أخذ يلف الخيط ويلف؛

يلف الخيط الدقيق الرفيع.

ثم عاودت «المرأة» الحديث،

ولم يزل حديثها غناء: «اجمع الآن - أيها الغريب - قوتك

واقطع هذه السلسلة الرقيقة.» •••

وحاول «ثعلبة» أن يقطع الخيط،

لكن الخيط غزلته يدان سحريتان!

وعلت خده حمرة الخجل،

وامتزج بالخجل شيء من الوجل؛

نظرت إليه وضحكت منه ساخرة،

ثم عاودت الغناء: «خيطي صغير، خيطي رفيع،

لكني أريد له أن يكون

أشد منك بأسا وقوة.

من ذا يستطيع أن يقطع خيطى هذا؟» •••

وشخصت بعينيها الزرقاوين البراقتين،

وابتسمت له ابتسامة الفاتك: «أشكرك ثم أشكرك يا ابن حضيرة!

أشكرك فقد حبكت لي ما ليس تنقض حبكته،

أشكرك على قيد نفسك بغل أنا التي نسجته!»

ثم من رأسه انتزعت

خصلة من شعره الفاحم،

وبالخصلة في نارها قذفت،

وصاحت والشعر يحترق: «أختاه! أختاه! اسمعي صيحتي!

أختاه! أختاه! تعالي واشمتي!

إن الخيط قد غزل،

والجزاء قد بذل،

والعمل قد عمل؛

فقد اتخذت أسيرا من ابن حضيرة.» (4) وولتر سكت

Walter Scott (1771-1832م) «وولتر سكت» يكبر «كولردج» بعام، ويصغر «وردزورث» بعام. وهو ينتمي إلى قبيلة كبيرة موطنها عند الحدود التي تقع بين اسكتلنده وإنجلترا. ولد في «إدنبره» وقد كان في صدر طفولته عليلا حتى لم يكن يرجى له طول البقاء، ثم بقي له من مرضه عرج لازمه حتى ختام حياته. تلقى علومه في جامعة «إدنبره» وكان يديم القراءة حتى اتسعت دائرة مطالعاته، لكنه في أعوام شبابه لم يبد شيئا من علائم النبوغ في الأدب، سوى كتاب صغير نشره وهو في الخامسة والعشرين من عمره يحتوي على قطع منقولة عن الأدب الألماني، وقليل من «الحكايات المنظومة» نشرها بعد ذلك بزمن قصير؛ ولما بلغ الثامنة والعشرين تزوج من سيدة على شيء من اليسار، وعين في منصب إداري في إحدى مقاطعات اسكتلنده؛ فكان له من دخل زوجته ودخله ما هيأ له عيشا رغيدا. فلما كان عام 1805م نشر قصيدته المشهورة «أغنية المنشد الأخير»

32

فكانت أروع ما شهدته اللغة الإنجليزية من شعر لأعوام سبعة مضت، منذ أصدر «كولردج» وزميله «وردزورث» ديوانهما المشترك «حكايات وجدانية منظومة»؛ فقصيدة «سكت» هذه جاءت علامة للمذهب الابتداعي الجديد لا يخطئها النظر، حملت المترددين في قبول الابتداع في الشعر على الإيمان به؛ فقد كان بعض الناس قد رأى جمالا رائعا في قصيدة «كولردج» «النوتي الهرم» لكنهم رأوا تفاهة موضوعها فلم يشفع لها عندهم جمالها. كذلك قصيدة «وردزورث» «كنيسة تنتيرن» لم تكن كافية وحدها أن تفرض المذهب الجديد على قراء الشعر. فجاءت قصيدة «المنشد الأخير»، وضمنت النصر لمذهب الابتداع، ثم أتبعها «سكت» بطائفة من طوال القصائد: «مارميون»

33

و«سيدة البحيرة»

34

و«أمير الجزائر»

35

وذلك فضلا عن عدد كبير من القصائد الغنائية القصيرة. ومن العجب أن هذا الشاعر لم يكن يعزف شيئا من الموسيقي، ولم تكن له بها دراية، ومع ذلك أنشأ للموسيقيين طائفة من أجمل الأغاني وأروعها، ولما اتجه «سكت» إلى كتابة القصة - وسنحدثك عنه كاتبا للقصة في الفصل التالي - لزمته موهبته في إنشاء الأغاني، فصار ينتهز لها الفرص في سياق قصصه.

لم يكد شاعرنا يخرج قصائده الكبرى حتى توطدت حياته الأدبية، وأخذ أدبه يدر عليه مالا كثيرا، وجاءته قصائده بدخل كبير، لكنه لا يقاس إلى ربحه من قصصه التي ظلت أعواما عدة تكسبه كل عام شيئا يقع بين خمسة عشر ألفا وعشرين ألفا من الجنيهات. وقد أنشأ لنفسه دارا جميلة واشترى حولها أرضا فسيحة الأرجاء وأنعم عليه بلقب «سير» وزوج أكبر أبنائه من فتاة غنية من أسرة نبيلة، وانفتحت أمامه السبيل إلى غايته التي كان ينشدها ويتمناها، وهي أن يؤسس أسرة تعد بين كرام الأسر، لكنه لسوء حظه شارك القائمين على طبع كتبه في تجارتهم فانتهى أمره إلى إفلاس، وصمم «سكت» ألا يرضى لنفسه بهذه الخاتمة، فضاعف مجهوده في الإنتاج ليرد عن نفسه دينا بلغ مائة ألف من الجنيهات أو يزيد، وقد أفلح فيما أراد، لكن مجهوده أضناه وأصابه بشلل ومس من جنون، ثم عاجلته بعد ذاك منيته.

ولكي نقدر شعر «سكت» قدره الصحيح - بل لكي نقدر شعر شاعر على الإطلاق - ينبغي لنا أن ننظر إليه من وجهتين؛ الأولى وضعه في عصره ومقدار تأثيره فيمن عاصروه ومن أعقبوه، والثانية قيمته الذاتية الباقية على وجه الزمان بغض النظر عن بيئته وعصره. فأما من وجهة النظر الأولى فتكاد لا تجد من الشعراء من يضارع «سكت» في عمق أثره، فقد كان يتعذر - لولاه - أن يتحول الذوق الأدبي السائد إذ ذاك إلى الاتجاه الجديد، ولولاه لقضي على شعر قادة الابتداع وأعلامه: «كولردج» و«وردزورث» و«شلي» و«كيتس» أن يظل طويلا دون أن يجد من الناس من يسيغه أو يزنه بميزانه الصحيح. وربما اعترضك في ذلك ناقد بقوله: إن من الخطأ أن تعول كثيرا على حكم جمهور القراء، فليس هناك كبير خطر إن أسرع الناس إلى تقدير الشاعر أو أبطئوا؛ إذ ما دام لشعره قيمة فنية ذاتية، فلا بد أن يفرض هذا الشعر نفسه فرضا على القراء إن عاجلا وإن آجلا. وهذه النظرة في النقد الأدبي صحيحة إلى حد كبير، لكنا لا نستطيع أن نغض من شأن رجل يفلح في توجيه الناس توجيها صحيحا، لأنه إذا سلم ذوق الناس في الأدب تهيأت الفرصة لنوابغ الشعراء أن يظهروا.

وأما قيمة شعره الذاتية فليست موضع شك، وإن يكن بعض النقاد أميل إلى وضعه في الصف الثاني من الشعراء؛ فالرجل شاعر لا ريب في صدق شاعريته ولو أنه في سوق الحكاية أنبغ منه شاعرا، فلو قارنته بالشعراء الأربعة الأعلام في حركة الابتداع: «كولردج» و«وردزورث» و«شلي» و«كيتس» لحرت في كثير من المواضع أيهم أجود شعرا، على أنه إذا ما كانت القصيدة حكاية منظومة فلن تتردد لحظة واحدة في تفضيل «سكت» عليهم جميعا من حيث براعة الرواية، وفضلا عن ذلك كله فشاعرنا من الشعراء القلائل الذين سرعان ما يدور شعرهم على ألسنة الناس؛ ففيه ما يقربه من قلوبهم ويحببه إلى نفوسهم، وليس ذلك على الشاعر بقليل.

وفيما يلي مثال من قصيدة «آخر المنشدين»، وهو بمثابة المقدمة للقسم الأول من القصيدة:

كانت الطريق طويلة والرياح صرصرا،

وكان «المنشد» عاجزا عجوزا مدبرا

ذابل الخدين مبيض الذوائب،

تبدل حالا بعد عز ذاهب

قيثارته، وهي الندم الوحيد المقيم،

يحملها له ولد يتيم.

جاء هذا المنشد آخر من أنشدوا،

فتغنوا بالحماسة عند «الحدود» ومجدوا،

ولكن وا حسرتا! يومهم تولى إلى غير معاد،

وأذهبت المنايا عنه صحبة الإنشاد،

فلما رآه مهملا تمنى

لو لحق الإخوان فاستكنا،

لم يعد على جواد راقص يركب،

وكالقبرة عند الصبح يغنى ويطرب،

لم يعد موضع احتفاء واحتفال؛

فلا يكرم من ضيف ولا له في البهو المقعد العال،

فيهز صاحب الدار وزوجه في جذل

بأغنية عفو الساعة ترتجل.

تلك عهود تقضت فتقضى طبع أصيل،

وآل «ستيورت» عرشهم اعتلاه دخيل

36

والمتزمتون في العهد الجديد الذي سيطرا

عدوا فنه المسالم جرما منكرا.

يغني على القيثار في فقر زري وتجواب،

يسأل الخبز في طريقه من باب إلى باب،

جلف غليظ هو الآن من يسر ويمتع

إذ يشد قيثارا كانت تصغي إليه الملوك وتسمع. (5) جورج جوردن بيرن

George Gordon Byron (1788-1824م)

ولد «بيرن» لأب عربيد وأم بلغت من حدة الطبع حدا لا يكاد يحتمل. وقد ورث لقب اللوردية وهو لم يزل طفلا، ثم أضاف إلى مجد الحسب طلعة جميلة لولا ظلع يسير؛ فأحس وهو في مدرسته الثانوية شموخا وكبرياء لهذا اللقب الذي يحمله دون سائر الطلاب، وكان مشتعل الذكاء، ملتهب المواطن، قلبا لا يستقر على حال، فقد عرف الحب وهو في الثامنة من عمره، فلما كان طالبا في المدرسة الثانوية أحب فتاة تكبره، وتزوجت من سواه، فلم ينقطع تفكيره في حبيبة قلبه التي لم يظفر بها، وأخذ ينشد فيها الشعر.

وانتقل «بيرن» من مدرسته الثانوية «هارو» - مدرسة يرتادها أبناء العلية - إلى جامعة «كيمبردج» فعرف فيها بعناده وازدرائه لرؤسائه. ولما بلغ التاسعة عشرة أخرج أول ديوان له وأطلق عليه «ساعات الفراغ»،

37

طبعه أول الأمر طبعة خاصة قصد بها إلى الأخصاء، ولم يرد أن ينشره على الناس عامة، وليس لشعره في هذا الديوان كبير قيمة، لو استثنينا بعض أجزائه، فهاجمه النقاد في مجلة أدبية مشهورة إذ ذاك، هي «مجلة إدنبره»؛

38

ولم يكن الديوان ليستوقف أنظار النقد لولا أن صاحبه «لورد»، ويظهر أن توجيه النقد لأصحاب الألقاب فيه لذة للنقاد! وما هو إلا أن قابل «لورد بيرن» هذه الهجمة النقدية بهجمة أشد منهما وأعنف، وكان في رده ذاك ساخرا لاذعا مجيدا في سخريته اللاذعة، ولقد حدث أن راجع «بيرن» بعد ذلك بسنوات كل ما كتبه في هذا الباب، فوجد أنه لم يكتب شيئا يعدل هذه القطعة الساخرة التي أنشأها وهو في الحادية والعشرين.

ارتحل «بيرن» في أوروبا بين عامي 1809 و1811م، ثم ظهر له بعد ذلك مباشرة الجزآن الأولان من قصيدته الكبرى «تشايلد هارولد»

39

في بحر يجري على غرار ما أنشأه «سبنسر»،

40

ولم يكد ينشر له هذا الشعر حتى «استيقظ ذات صباح فألفى نفسه ذائع الصيت.» - على حد تعبيره - وقد صادف هذا الجزء من «تشايلد هارولد» إعجابا شديدا عند «وولتر سكت» بحيث أصبح الشاعران بعدئذ صديقين حميمين، بعد أن كان بينهما عداوة ونفور، وتبادلا الثناء؛ ف «سير وولتر» معجب بشعر «بيرن» و«لورد بيرن» مفتون بقصص «سير وولتر».

ولم ينبه ذكر شاعرنا في دولة الأدب وحدها، بل اشتد نفوذه في دوائر المجتمع، حتى أصبح فيها «ضرغاما» - فقد كان ينعت بهذه الكنية بين عارفيه - فهو وسيم الطلعة جميل الهندام معني برشاقته وفخامة مظهره، ولبث نجمه يسطع في تلك الدوائر الاجتماعية ما أقام في إنجلترا قبل أن يغادرها إلى أوروبا مرة أخرى. وقد أنشأ في تلك الأعوام قصصه الشرقية التي حاول فيها أن يقتفي أثر زميله «سكت» وهذه القصص الشرقية حكايات منظومة اتخذ منها ستارا ليحكي قصة حياته خلال الفترة التي كان فيها «ضرغام» المجتمع في بلاده. وفي ذلك كتبت زوجته بعد انفصالها عنه إلى صديقة لها تقول: «إن الأنانية هي المحور الرئيسي في خياله، فمن العسير عليه أن يشعل قوة خياله موضوع لا تتمثل فيه شخصيته وأهواؤه.» وقد صدقت؛ فقصائده كلها تعبير عن حياته ومغامراته ومشاعره وخواطره، رغم ما تكلفه من عناء في إخفاء ذلك بما ابتكره من أسماء يتنكر وراءها.

ففي قصيدتيه «الكافر»

41

و«عروس أبيدوس»

42

إشارات لمن أحب من النساء، وله غير هاتين مما تصح الإشارة إليه قصيدة «القرصان»

43

و«حصار كورنثه»؛

44

وحسبنا - لكي نقدر وقع هذه القصائد عند أول نشرها - أن نقول إن «القرصان» بيع منها عشرة آلاف نسخة في اليوم الأول من نشرها.

وفي عام 1815م - والشاعر في السابعة والعشرين من عمره - تزوج من فتاة كان ينتظر لها أن ترث ثروة طائلة، لكنه لم يقم على حياته الزوجية إلا ريثما ولدت له ابنته، وبعدئذ ضاقت زوجته بالعيش معه وهجرته إلى أهلها. ولم يستطع «بيرن» الإقامة في إنجلترا لكثرة ما أحاط به من هموم الدين واضطراب الأسرة، فغادرها إلى سويسرا حيث لبث بضعة أشهر في صحبة الشاعر «شلي» - الذي سنتحدث عنه بعد قليل - ولشاعرنا رواية تمثيلية عنوانها «مانفرد»

45

تصوره في شخص بطلها، ففي مغامرات البطل فوق قمم الجبال وأمام العواصف القوية ومجاري الثلج الكاسحة تصوير لعواطف الشاعر ومطامعه، ومما يصح ذكره عن رواية «مانفرد» أنها صادفت هوى عند شاعر الألمان «جيته» ويظهر أن «بيرن» قد تأثر فيها بما ترجم له من رواية «فاوست» لجيته.

ثم أخذ وهو في سويسرا ينشئ القصيدة بعد القصيدة، فيبث في شعره لواعج نفسه فيما يمس العلاقة بينه وبين زوجته وأخته، ومن هذه المجموعة قصيدة جميلة عنوانها «حلم»

46

كذلك أنشأ في تلك الفترة الجزء الثالث من قصيدته الكبرى «تشايلد هارولد» الذي جاء عامرا بما يشف عن نفسه. وبعدئذ سافر إلى البندقية فروما حيث أتم «تشايلد هارولد» بإخراج جزئها الرابع الذي عرض فيه وجهة نظره فيما شاهد في تلك البلاد من آيات الفن - وكان مما أخرجه وهو يتنقل في ربوع إيطاليا قصيدة «السماء والأرض»

47

التي أعجبت «جيته»، وقصيدة «دون جوان»

48

التي بلغ فيها منتهاه من روعة الفن.

وعندئذ كانت الحرب قائمة بين تركيا واليونان، فتحمس الشاعر لأهل اليونان الذين يجاهدون في سبيل حريتهم، وقصد إلى بلادهم يريد القتال في صفوفهم، فنالت منه حمى الملاريا هناك ومات في أبريل سنة 1824م.

قليل هم الشعراء الذين اختلف في تقديرهم النقاد بمثل ما اختلفوا في شعر «بيرن»؛ فقد رن صداه في أرجاء أوروبا حيث كانت له منزلة فوق منزلة شيكسبير، وفي إنجلترا نفسها ترى رجلا له مكانته العالية في النقد، هو «ماثيو آرنلد»

49

يقول عنه إنه أقوى قوة دافعة في الأدب الإنجليزي، بينما تجد شاعرا عظيما مثل «سونبرن»

50

لا يدع من عبارات النقد شيئا إلا وجهه إلى «بيرن» فشاعر كهذا اختلف فيه الرأي كل هذا الاختلاف، يحسن أن يترك الحكم فيه لكل قارئ على حدة، ومما ييسر هذا أن قد نقل له بعض شعره إلى العربية.

هذا مثال من قصيدته «حلم»، وتقع القصيدة في تسعة أقسام؛ والمثال الآتي بعض جزأيها الأول والثاني:

1

حياتنا ذات شقين: فللنوم عالمه،

وهو حد يفصل شيئين أسميناهما خطأ

فناء ووجودا؛ للنوم عالمه،

وهو عالم فسيح، وجوده لا ينكر،

وللأحلام في تطورها أنفاس

ودموع وآلام وهزة من الفرح،

وهي تثقل عقولنا اليقظى بحمل من حملها،

كما تخفف من هموم اليقظة برفع جزء من حملها؛

تقسم وجودنا شطرين، فهي تصبح

جزءا من أنفسنا كما هي تملأ جزءا من دهرنا،

وكأنما هي تباشير الخلود؛

إنها تنقضي كما انقضت أرواح السالفين - وإنها لتنبئ

بما هو آت كأنما هي إحدى متنبئات العهد الغابر، وإن لها لسلطانا -

إذ تطغي علينا بأفراحها وأحزانها. ... ... ... ...

2

رأيت شخصين في إهاب الشباب

واقفين على تل؛ تل رقيق

اخضرت جوانبه وتدرج انحداره؛ وهو حلقة أخيرة

من سلسلة من التلال طويلة، كأنه رأسها؛

غير أنه لم يكن ثمة بحر يغتسل فيه أسفله،

بل كانت هنالك بقعة من الأرض تنبض بالحياة؛ وكانت موجات

من أشجار الغاب وحقول القمح، ومنازل القوم؛

كل ذلك تناثر، فهو يبدو آنا ويختفي آنا؛ والدخان ينعقد على هيئة الأكاليل

تصدر من هاتيك الأسطح الريفية، وازدان

التل على رأسه بإكليل عجيب

من الشجر صف في دائرة، ولم تحلقه في دائرته

يد الطبيعة، بل هكذا صفته يد الإنسان.

وهذان الشخصان: فتاة عذراء في صحبتها شاب، كانا هنالك

يرسلان البصر، فأما الفتاة فتنظر إلى كل ما دونها،

وقد كان ما دونها في مثل جمالها؛ وأما الفتى فأمعن فيها النظر؛

وكلاهما شاب، والفتاة رائعة!

كلاهما شاب، لكن الشباب فيهما لم يتشابه،

وكما يكون القمر الرقيق على حاشية الأفق،

كانت تلك الفتاة في بكرة الأنوثة؛

كان الفتى يصغرها؛ لكن قلبه

كان يكبر أعوامه بشوط بعيد؛ ولم يكن لعينه

على وجه الأرض سوى وجه واحد حبيب،

وكان ذاك الوجه مشرقا عليه؛ وقد أخذ يحدق

في ذلك الوجه حتى لم يعد يستطيع أن يزول عنه؛

وقفت في الفتى أنفاسه، فلا حياة له إلا في حياتها؛

كانت هي صوته؛ فلم يتحدث إليها،

لكنه كان يرتعش لكلماتها؛ كانت هي بصره

إذ تبعت عيناه عينيها، حتى لكأنه ينظر بناظريها.

وتلونت دنياه بما أرادت له فتاته؛ لم يعد الفتى

يعيش في نطاق نفسه لأن فتاته كانت حياته؛

كانت لمجرى أفكاره بمثابة البحر الخضم

تندفق فيه وتختفي؛ فحسبه منها نبرة،

حسبه منها لمسة، لتفيض دماؤه وتفيض،

وتضطرب وجنتاه اضطرابا عنيفا؛ وقلبه

ما يدري سبب عذابه،

لكنها لم تقاسمه من هذه المشاعر الغرامية شيئا؛

لم تكن تنهداتها له؛ فلم يكن لها

أكثر من أخ شقيق، أخ لا أكثر، وكان هذا الإخاء شيئا ثمينا؛

إذ كانت بغير إخوة، وهذا أخ ولو لم يشاركها لقب أسرتها ،

فما أكثر ما اكتسب من تلك الصداقة البريئة! ... ... ... ...

وهذه قطعة عن «البحر» نختارها من آيته الخالدة «تشايلد هارولد»:

إني لأستمتع بالغابات انسدت مسالكها،

وإني لأنعم على شاطئ البحر خلا من الأناسي؛

فهنالك أجد سامرا حيث لا يقتحم علي الحياة إنسان،

هنالك إلى جوار البحر العميق الذي لزئيره لحن الموسيقى؛

ليس في ذلك انتقاص لحبي للإنسان، ولكنه ازدياد في حبي للطبيعة؛

فحيثما التقيت بها فاستطعت أن أنسلخ

مما عسى أن تكون عليه نفسي، أو مما كانت عليه قبل،

أنسلخ عن نفسي لأتحد مع الوجود، فأحس

ما يستحيل أن أبديه، ولكني أستطيع أن أخفيه. •••

اضرب بأواذيك أيها الخضم العميق ذو الزرقة الدكناء!

فعبثا تنساب على متنك السفائن ألوفا ألوفا،

فلئن وصم الإنسان وجه الأرض بعلامات الدمار،

فعند شطك حد سلطانه؛ أما على ظهر الماء

فالتدمير فعل يديك، فلست ترى هنالك

أثرا من تخريب الإنسان، اللهم أن يحيق به

عندما يغوص إلى أغوارك وهو يبعث أنة تجلجل بالماء،

فتراه قد اختفى في طرفة عين كأنه قطرة الغيث،

اختفى مجهولا: فلا لحد يشق ولا جرس يدق ولا كفن يؤويه! •••

ليس يدب الإنسان بخطوه فوق مماشيك؛ كلا ولا رحابك

كانت لسطوه مرتعا؛ فإنك لتنهض

لتقذف به عنك بعيدا، مزدريا كل سلطان له دنيء

يصبه فوق الأرض لينتهي بها إلى الدمار،

تنفضه في ازدراء عن صدرك صوب السماء،

فتبعث به مرتعشا فوق رشاشك اللعوب،

وهو يعوي لآلهته حيث علق

آمالا له ضئالا في مرفأ قريب أو خليج

تتطوح به نحو الأرض من جديد، وهنالك تتركه سطيحا. •••

أدوات القتال التي دكت كأنها الصواعق أسوار

المدائن أنشئت على الصخر الأصم، فارتعدت لها أمم

وارتعشت ملوك فوق عروشهم؛

وجبابرة السفائن التي بنيت من السنديان، فجعلت بضخام ضلوعها

قطعة الأديم التي أنبتتها تنتفخ من غرور فتتخذ لنفسها لقبا؛

سيدة البحار وحكم القتال!

كل أولئك لعب في يديك، وتراها - كأنها رقائق الثلج -

تذوب بين أواذيك التي سخرت

من زهو «الأرمادا» وغنائم «الطرف الأغر». •••

شطآنك دول عراض، تبدلت في كل شيء إلاك .

ما آشور واليونان وما روما وقرطاجنة، ما أولئك اليوم؟

إن أمواهك نفحتها السلطان، إذ كانت حرة،

وبعدئذ كم من طاغية هنالك ساد، فأرضها تأتمر

بالدخيل والرقيق والهمجي، وانهيارها

صوح عمرانها فبات يبابا! ولا كذلك أنت؛

فأنت لا تتغير إلا حين يهتز من لعب موجك الجبار.

إن الزمان لا يخط أثرا فوق جبينك اللازوردي

فما تزال تموج اليوم كما كنت في فجر الزمان. •••

وإني لأحبك يا بحر فكانت متعتي

أيام الصبا أن تحملني فوق صدرك،

فأطوف كأني من حببك الطافي؛

لاعبت موجك مذ كنت غلاما، فكان موجك

لي متاعا، فإن تغيرت فجعلت من موجك

مصدر رعب، كان لي رعبا لذيذا؛

فقد كنت لك بمثابة الوليد،

ووثقت في أمواجك قريبها والبعيد،

فكنت أضع يدي فوق لبدك كما أفعل الآن. (6) بيرسي بيش شلي

(1792-1822م)

ولد «شلي» لأب من الطبقة الرفيعة، وكان منذ نشأته ثائرا كأنما أريد له أن تتجسد فيه روح الثورة، فلم يكن له إخوة يحدون نزواته بحقوقهم، وكان له أخوات بسط عليهن سلطانه. ثم بدأ حياته الدراسية في مدرسة خاصة كان فيها بغير رفقاء، ومنها انتقل إلى «إيتن» - مدرسة لأبناء الخاصة - حيث قاوم كل من أراد أن يستبد بالأمر من الأساتذة والطلاب على السواء؛ فقربه ذلك من قلوب الزملاء على الرغم من شذوذه المنكر المرذول. ولم يكن «شلي» طالبا مجدا في درسه؛ فقد كان يهمل واجبه المدرسي ليترك نفسه على سجيتها فيقرأ ما يحلو له. وأكثر ما أثار اهتمامه «جدون»

51

وفلسفته، وقد تأثر بتعاليمه تأثرا ظهر في أول إنتاجه الأدبي الذي أخرجه وهو طالب؛ وبعدئذ انتقل شاعرنا إلى جامعة أكسفورد، وهنالك أخرج «ديوان فكتور وسازير».

52

لم يكن لشلي في الجامعة صديق حميم سوى من أرخ له حياته فيما بعد، وهو «تومس هج»،

53

وكانت دراسته في أكسفورد على غير نظام، فهو الذي يوجه نفسه في مطالعاته، وكان أكثرها مما يتصل بالعقائد يهدم بعضها ويبقي على بعض، وأخرج عندئذ «ضرورة الإلحاد»

54

فلم تر الجامعة بدا من إخراجه، وخرج معه صديقه «هج».

تزوج شلي من فتاة صغيرة كانت صديقة لأخته، وأخذ يتنقل بها في الريف حيث واصل الكتابة والقراءة، وبخاصة قراءة «جدون» الذي طفق يراسله ويجاهد في نشر مبادئه؛ ثم أرادت له المصادفة أن يلتقي بابنة ذلك الفيلسوف «ماري جدون» وكان إذ ذاك قد مل زوجته التي رفضت أن تحيا معه حياة الأخت بعد أن ملأت «ماري» مكانها من قلب الشاعر؛ ولم يلبث شلي أن سافر مع حبيبته «ماري» إلى سويسرا، وهنالك التقي بهما «بيرن» ثم عاد معها إلى إنجلترا بعد قليل.

أخرج «شلي» بعد عودته إلى إنجلترا «الملكة ماب»

55

التي ظهرت فيها شاعريته الفذة و«ألاستر»

56

وهي قصة روح وحيد يحاول الفرار من نفسه إلى حيث مشاهد الطبيعة الشامخة المنعزلة؛ روح شرير قلق غير قانع مثل «شلي». وسافر شلي من جديد إلى إيطاليا، وتزوج من «ماري جدون» بعد انتحار زوجته التي أوذيت في كرامتها، وأنشأ قصيدته الطويلة «لاوون وسذنا»،

57

التي أعاد نظمها وبدل عنوانها فجعله «ثورة الإسلام».

58

كان شلي حالما بطبعه يرى في ظواهر من الأسرار ما لا يبدو لغيره، وأخذت شاعريته تقوى وتزداد خصوبة ونضوجا؛ ولا يعلم إلا الله ماذا كان هذا الشاعر لينتج من آيات الفن لو امتد به الأجل. ومن خير ما كتب في أخريات سنيه قصيدة رائعة رثى بها زميله الشاعر «كيتس» عنوانها «أدونس»

59

ثم قصيدة «برومثيوس الطليق»

60

الذي يثور فيها على العالم كما هو، ويدافع عن حقوق البشر الذين نال منهم الظلم والألم.

ومات شلي غريقا في إيطاليا على إثر عاصفة هوجاء، وألقي في النار ما طوح به ماء البحر من جسده على أرض الشاطئ؛ ووضع رماد جثمانه إلى جوار مثله من جثمان صديقه «كيتس» في «مكان له من الجمال ما يحببك في الموت».

وهذا مثال من قصيدته «ألاستر، أو روح العزلة»:

أيتها الأرض ويا أيهذا البحر والهواء، أيتها الأخوة المحببة إلى فؤادي!

لو كانت أمنا الكبرى قد عمرت نفسي

بشيء من الورع الفطري فشعرت

بحبك، وبادلت هذا النعيم من عندي بنعيم مثله؛

لو كان الصبح الندي، والظهر الأريج، والمساء

بشمسه الغاربة في موكبها الجليل،

ومنتصف الليل بسكتته الرصينة ذات الصدى؛

لو كانت زفرات الخريف الجوفاء بين أشجار الغابة الزاوية،

والشتاء الذي يكسو بثلجه النقي ويتوج

بجليده المتلألئ رمادي العشب وعاري الغصون؛

لو كان الربيع بلهثاته الشبقة حين يتنفس

أولى قبلاته الحلوة؛ لو كان هذا كله حبيبا إلى نفسي؛

إذن لم أكن عن عمد قد آذيت طائرا مرحا

ولا حشرة ولا حيوانا وديعا، بل لبثت على حبها،

وأعززتها جميعا لأنهن عندي من ذوي قرباي؛ إذن فاغفري لي

هذا الزهد، أيتها الأخوة المحببة إلى فؤادي، ولا تحرميني شيئا

مما عودتنيه من حدب وعطف. ... ... ... ...

كان هنالك شاعر لم تشيد قبره الذي جاء قبل أوانه

يد بشرية خاشعة من التقوى،

بل أقامته دوامات رياح الخريف المسحورة،

أقامته على عظامه النخرة هرما

من أوراق الشجر اليابسة في الفلاة اليباب،

كان شابا جميل المحيا، لم تقصد إلى قبره فتاة محزونة لتزين

بالزهور الباكية أو أكاليل السوسن المنذورة

مخدعه الموحش الذي رقد عليه رقدته الأبدية.

كان رفيقا شجاعا كريما، يجيء إلى قبره منشد،

فيتأوه بزفرة واحدة منغومة حسرة على ما أصابه من قضاء بهيم؛

عاش، ومات، وغنى، وهو في عزلة.

كم من غريب أبكاه أن يسمع نغماته الحرى!

والعذارى، حين قضى هذا الشاب مجهولا، شقين

وأبلاهن الغرام بعينيه العارمتين،

كان في محجريهما شعلة لم تعد متقدة،

و«الصمت» من فرط غرامه بذلك الصوت لم يسعه

سوى أن يحبس موسيقاه الصامتة في سجن غليظ الجدر. ... ... ... ...

ضرب ذلك الشاعر في تجوابه

يتبع خواطره بخطاه، فزار

ما خلفته الأيام السوالف من آثار تخشع لها النفوس؛

حج إلى أثينا وصور بعلبك، كما قصد إلى اليباب

الذي كانت أورشليم ذات يوم تعمره؛ وزار الأبراج الهاوية

في بابل، والأهرامات الخالدات؛

زار ممفيس وطيبة، وكل ما يستوقف النظر

من منحوت على مسلات المرمر،

ومن قبور قدت في صخر الجرانيت المزركش الألوان،

ومن أبي الهول برته عوادي الزمن،

ومما تخفيه إثيوبيا المعتمة في ثنايا التلال من صحرائها؛

وبين المعابد المتهافتة جدرها هناك ،

بين العمد الشوامخ والتماثيل الغلاظ

التي تصور من هو أكثر من الإنسان، حيث وقف شياطين المرمر

يلحظون سر السماء في مسالك نجومها؛ وحيث الموتى

يعلقون خواطرهم الصوامت على الجدر الصوامت التي تحيط بهم؛

هنالك أخذ الشاعر يسير الهوينى، يتأمل ما خلفته

الدنيا من عهد شبابها؛ وقضى يومه الطويل القائظ

وهو يحدق البصر في تلك الأشباح الخرساء، ولم ينصرف

حين ملأ القمر رحاب الأبهاء الملغزة أشباحا سابحة،

بل واصل الشاعر تأمله وظل يحدق بالبصر،

ثم يحدق، حتى أشرق على ذهنه الخالي معنى

كأنه الوحي الملهم؛ إذ رأى

مولد الزمان الذي يهز بأسراره النفوس.

وهذه أبيات قصيدة له رائعة عنوانها «إلى قبرة»:

61

نعماك أيها الروح المبارك - فإنك لم تكن قط طائرا -

أيها الروح الذي يصب صميم فؤاده صبا

من السماء أو قربها

في نغمات دافقات من فنك الفطري، •••

فما تزال تصعد ثم تصعد

مبعدا عن الأرض في صعودك،

كأنك سحابة من نار،

وترف بجناحيك عبر محيط من القبة الزرقاء،

لا تني مغردا في صعودك، ولا تنفك صاعدا وأنت مغرد، •••

في بريق ذهبي

من الشمس الغاربة

سطعت السحب في ضيائه،

أراك طافيا عاديا،

كأنك مرح «مجرد» انطلق لتوه يسري. •••

المغرب الأرجواني الشاحب

يفنى حولك إذ تطير

كأنه نجم في السماء

غمره الضحى من ضوء النهار؛

خفيت عن النظر، لكني أسمع صياح نشوتك، •••

أسمعها نفاذة كأنها السهام

من ذلك الكوكب الفضي

الذي يذوي سراجه الوهاج

كلما وضح من الفجر الضياء؛

يذوي حتى لا نكاد نبصره، لكننا نحس وجوده هناك،

الأرض كلها والهواء

بصوتك تدوي

كأنه القمر حين يتعرى الليل

فلا تحجبه سحابة واحدة،

كأنه القمر يدفق أشعته فتترع بها حفاف السماء. •••

لسنا ندري ماذا عساك أن تكون

فماذا يقرب منك شبها يا ترى؟

إن قوس قزح سحابه إذ يفيض،

قطراته لا تسطع بحيث ترى،

كذلك حيث أنت يسيل هاطل من النغم. •••

إنك كالشاعر اندس

في شعلة من فكره،

وأخذ ينشد الألحان، ولم يطلب إليه إنشادها،

حتى يستوقف مسامع الدنيا

فتصغي إلى آمال ومخاوف لم تكن بها آبهة. (7) جون كيتس

John Keats (1795-1821م) «شلي» و«كيتس» بين الشعراء السبعة

62

الذين يمثلون حركة الابتداع، هما أخلصهم من آثار الماضي وأقواهم تصويرا للمذهب الجديد. وقد ولد «جون كيتس» بعد زميله بثلاث سنوات ومات قبله بعام؛ مات في السادسة والعشرين وهو في ريعان الشباب. ولقد قلنا عن «شلي» إن قوة شاعريته أخذت تعلو وتزداد حتى يستحيل الحكم ماذا كان ينتهي إليه شعره لو مد له في أجله، أما «كيتس» فقد بلغ ببعض قصائده ذروة الكمال التي ما كان له ولا لغيره من الشعراء أن يجاوزها، فما فقدناه بموته السريع هو نقص في كمية الإنتاج لا قصور في درجة الكمال. ولد «كيتس» لأب فقير يسوس الجياد، لكنه لم يحرم نعمة الدرس، وتخرج طبيبا جراحا، ومارس مهنته سبعة أعوام، ثم جذبته فطرته إلى الاشتغال بالأدب، وقد ربطته صلات الصداقة برجلين من أئمة النقد الأدبي إذ ذاك هما «لي هنت»

63 «هازلت»

64

فتعلم من الأول بعض خصائص الشعر الحديث، وحفزه الثاني على دراسة الشعر الإنجليزي القديم؛ لكن الشاعر الشاب لم يكن في حاجة إلى كثير إرشاد؛ فحسبه أن يترك نفسه لدوافع نفسه، فله من فطرته الشاعرة ما يكفل له الأصالة والابتكار.

أخرج «كيتس» أول إنتاجه في الشعر وهو في الثانية والعشرين، ديوانا لا يبين عن نبوغه في أكمل مراتبه، ثم نشر بعد عام قصيدته «أنديميون»

65

وهنا بدأت علته تستفحل وتقوى، وأخذت علائم السل تظهر عليه واضحة جلية، ومع ذلك استطاع بعد عامين أن يخرج ديوانا آخر فيه طائفة من القصائد الروائع مثل «لاميا»

66

و«هايبريون»

67

و«ليلة عيد القديس أجنيرس»

68

ثم سافر إلى إيطاليا ليلقى حتفه في روما.

كان ل «كيتس» خصائص واضحة تميزه عن سواه، منها أنه كان يبحث في كل عصور الأدب عن موضوعات تصلح ليتخذ منها هياكل لقصائده، بحيث يستطيع أن يقرن فيها الصورة بالنغم، ثم يؤدي بها المعنى الذي يريد أداءه، ومنها قدرته العجيبة على التغلغل إلى صميم الشعوب التي يقرأ عنها، فهو لم يعرف اللغة اليونانية، ومع ذلك يكاد يجمع النقاد أن الأدب الإنجليزي كله لا يشتمل على قصيدة تمثل الروح اليونانية كما تمثلها قصيدته «نشيد على وعاء يوناني»؛

69

وكذلك كان ما قرأه عن الأدب الوسيط قليلا، وبهذا القليل تمكن من تصوير روح الحياة في العصور الوسطى وكتب قصيدته

La Belle Dame Sans merci

فصور بها تلك الحياة أروع تصوير.

وهذه أمثلة من شعره:

ففي قصيدة «أنديميون» قال عن الجمال هذه الأسطر:

الشيء الجميل متعة لا تزول،

جماله يزكو ولا يحول

قط إلى عدم، بل ما ينفك يجعل من مخادعنا

كنا هادئا لمأوانا، ومن نعاسنا

نوما مليئا بحلو الرؤى وبالعافية والتنفس الهادئ؛

وإذن فكأنما نحن في كل صبح نضفر

من الزهر رباطا يربطنا بالأرض،

رغم ما يعاودنا من غم وما نعاينه من قحط

في نبل الطبائع لا يتفق ومنزلة الإنسان،

ورغم ما نصادفه من أيام داجية، ومن صعاب

شائكة معتمة تعترض سبيلنا،

فتحول دون سيرنا؛ نعم. على الرغم من كل هذا

ترى لونا من ألوان الجمال يزيل الغشاوة

عن أنفسنا القواتم، كالشمس والقمر،

والشجر قديمه والجديد، إذ يمد ظلا تتفيؤه

الأغنام الساذجة؛ وكالنرجس

بعالمه السندسي الذي يعيش فيه، وكالجداول الصافية

التي نسجت لأنفسها غلالة بليلة

تقيها الصيف الحرور، وكالأعشاب تنمو في جوف الغابة

غنية بما انتثر فيها من الزهرات ذات الأريج؛

وكالذي أصاب مشاهير الموتى من قضاء

فيه جلال صوره لنا الخيال؛

وكالذي سمعنا أو قرأنا من رائع القصص،

كل هذا معين لا ينضب من شراب خالد

ينصب علينا من حافة السماء.

وهذه قصيدة أخرى عنوانها «أغنية للخريف»:

يا فصلا فيه الضباب وفيه ينضج الثمر،

يا صديقا حميما للشمس المبدعة التي تمنح الأزهار النضرة والإيناع،

كأنما دبرتما معا أمر الكروم التي تلف حفاف السقوف،

فاتفقتما كيف تباركانها وتثقلانها بالثمار،

كما اتفقتما كيف تحنيان بالتفاح أشجار الكوخ غطى جذوعها الطحلب،

لقد دبرتما معا كيف تترعان الفاكهة كلها بالنضج حتى الصميم،

وكيف تكبران اليقطين وتملآن قشور البندق

باللباب الحلو؛ ثم كيف تزهران الزهر

وما تزالان تزهرانه في أواخر الفصل لتهيئا للنحل طعاما،

حتى يحسب النحل أن أيام الدفء ليس لها نهاية؛

إذ يرى أن «الصيف» قد أترع له الخلايا حتى فاض شهدها. •••

من ذا الذي لم يرك يا خريف وسط محصولك المخزون؟

فإن لم تكن خزينا، فها أنت ذا عند مجمع الغلال

قد افترشت الأرض في غير احتفال،

وشعرك رفرفته الريح التي هبت لتذروه؛

أو ها أنت ذا غارق في نعاسك في أخدود المحراث الذي لم يتم حصاده

أنعستك من الخشخاش نفحات، فألقيت منجلك

لتبقي على حزمة من الحصاد انضفرت أزاهرها، كانت ستقطف بأول ضربة من منجلك،

وأحيانا أراك في نبتة من فضلات الحاصدين

لبثت محنية رأسها المثقل عبر مسيل الماء،

أو أراك إلى جوار معصرة التفاح ترقب صابرا

آخر القطرات تساقط ساعة بعد ساعة؛

أين أناشيد الربيع، أين؟

دع عنك أناشيد الربيع، فلك يا خريف أنغامك،

فحين تزخرف السحائب المخططة نهارك إذ ينحدر برفق إلى الغروب،

فتصبغ بالورد سهولا جمعت منها الحنطة وبقيت أعقابها؛

عندئذ يأخذ البعوض الصغير في تغريد لحن حزين

بين صفصاف النهر، حينا تراه يعلو

وحينا يهبط، كلما هبت النسمة الخفيفة أو سكتت عن الهبوب،

وكذلك تسمع الحملان التي اكتمل نموها تثغو عند السفوح،

والصراصير عند حفاف الحقول تغني، وفي صوت رخيم

يصفر أبو الحناء في البستان،

كما تزقزق العصافير طارت في الهواء زرافات. (ب) القصة (1) وولتر سكت

لقد تحدثنا عن «سكت» شاعرا من شعراء الحركة الابتداعية في الأدب الإنجليزي، ونتحدث عنه الآن كاتبا للقصة من الطراز الأول بين قصاص العالم أجمع. وربما عجبت للدافع المباشر الذي حول أديبنا من قرض الشعر إلى كتابة النثر، وذلك أنه رأى ذكر «بيرن» يتسع ويزداد حتى لم يعد لنفسه خطر بالقياس إليه، فأخذته الغيرة وضرب بقلمه في مجال آخر، فكان هو المجال الذي أعدته له الطبيعة التي قلما تخطئ هدفها. على أن «سكت» حين اتجه بجهده إلى القصة لم يكن يخطو في أرضها أولى خطاه، فهو حكاء منذ الصبا، وكانت له محاولات موفقة فيها، فلما اعتزم أن تكون القصة ميدانه أخذ يقلب في أوراقه القديمة حتى أخرج من بينها فصولا كان قد أنشأها من قصص «ويفرلي»

70

فمضى فيها الآن حتى ختامها ونشرها، فجاءت آية أدبية كبرى أثارت إعجاب النقاد جميعا، كما صادفت هوى القراء؛ فأما الإنجليز منهم فقد رأوا فيها جدة وطلاوة فيما عرضته عليهم من مناظر اسكتلندة وأخلاق شعبها، وأما أهل اسكتلندة فقد وجدوا فيها ما عهدوه في بلادهم فأعجبهم منها دقتها وصدقها. على أن هؤلاء القراء من إنجليز وإسكتلنديين على السواء قد فاتهم أن عظمة هذه المجموعة الخالدة لا ترتكز على صدق وصفها لاسكتلندة وأهلها فحسب، بل ترتكز قبل ذلك على أنها تعرض الحياة الإنسانية عامة في ثوب من الفن الرفيع، فالمناظر والأشخاص فيها - على الرغم مما يكسوها من خيال الكاتب - تصور ما يصادفنا في الحياة، فكأنما هي حية تسري فيها الدماء وتدب فيها الحركة والنشاط، وليست من قبيل القصص القديمة التي تهول وتشطح في الخيال وتزخرف الأشخاص، فتجعل كل ما فيها دمى خشبية يحركها اللاعب وهي في ذاتها ميتة جامدة.

ولم يكد ينشر هذا الأديب الفحل مجموعته هذه حتى أحس كأنما وقع من نفسه على كنز ثمين، فأخذت قصصه بعد ذلك تتوالى في تتابع سريع؛ فكنت تراه يفرغ من القصة الطويلة في ستة أسابيع، ولم ينفق في أي منها أكثر من بضعة شهور؛ وبذلك أخرج سلسلة كل حلقة فيها آية خالدة، فالحق أن قصصه كلها من الجودة والروعة بحيث يكاد يستحيل القول إن هذه أو تلك أفضلها جميعا. حسبنا أن نذكر أنه أخرج أول الأمر نحو عشر قصص طوال تدور كلها حول وطنه اسكتلنده، ثم لعله أحس أن الموضوع قد أنهكته إفاضة الحديث، فاكتفى منه بهذا القدر واتجه إلى تاريخ بلاده وتاريخ أوروبا عامة يسرد الحوادث في لون قصصي بديع. ولقد تصادف ناقدا يأخذ على الكاتب أنه لم يراع الدقة في سرد حوادث التاريخ، لكن مثل هذا النقد لا يصدر إلا عن رجل تعوزه الدراية بالفن الأدبي في كتابة القصص التاريخي، وخير قصصه في هذا الباب قصة «أيفانهو»

71

التي صور بها عصر الملك شارل قلب الأسد، وقصة «كونتن درورد»

72

التي عالج فيها صورة من صور التاريخ الأوروبي، وله في الحروب الصليبية قصتان «الطلسم»

73

و«الخطيبة».

74

إنك لا تستطيع أن تستعرض القصة في مراحل نموها دون أن تذكر «وولتر سكت» الذي دفعها إلى الأمام دفعة قوية؛ فهو الذي خلق القصة التاريخية خلقا بعد أن لبثت ما يقرب من ألف عام تحاول الظهور محاولات كانت تنتهي دائما بالخيبة والفشل، وهو الذي عرف كيف يجعل الخصائص القومية لأمة من الأمم محورا أساسيا للقصة. ولو عرض الأشخاص الذين خلقهم خيال الأدباء - في كل العصور - في متحف لوجدت «سكت» قد خلق منها عددا لا يجاريه في كثرته أديب آخر إلا شيكسبير، ثم هو يفضل شيكسبير في كثرة ما صور من مناظر في قصصه. وكان له أعظم الفضل في رفع القصة إلى مستوى الأدب الرفيع؛ إذ جاء وهي على شيء من الزراية، توضع في منزلة أدنى من سائر الصور الأدبية، ولا يحاولها إلا قلة من الأدباء ويقرؤها الناس في شيء من التخفي والاستحياء، فتركها وهي - بفضله - في منزلة واحدة مع سائر ضروب الأدب احتراما ودرا للمال وخصوبة في الإنتاج. (2) جين أوستن

Jane Austen (1775-1817م)

تصغر هذه الكاتبة معاصرها «سكت» بأربعة أعوام فقط، لكن لم يكتب لها أن يمتد بها الأجل بقدر ما امتد به؛ إذ ماتت ولها من العمر اثنان وأربعون عاما. ولئن عد «سكت» أبا للقصة في القرن التاسع عشر، فلا شك أن «جين أوستن» أم لها؛ فكلاهما كان للقصة واضعا للأسس، مقيما للدعائم. فبينا ترى «سكت» قد طرق بقصصه كل الأبواب الممكنة، ثم مضى في بعضها إلى حد بعيد من الجودة والإتقان، ترى زميلته «أوستن» قد تناولت بنجاح - يوشك ألا يقل عن نجاحه - أبواب القصة التي لم يمسها «سكت» إلا مسا رفيقا.

تلقت «جين» درجة عالية من التعليم، وعاشت معظم سنيها في الريف قراه ومدنه؛ وماتت ولم تتزوج. وقد بدأت كتابة القصة وهي حول العشرين من عمرها، لكنها لم تجد ناشرا، وكانت أولى قصصها «كنيسة نورثانجر»،

75

اشتراها منها ناشر، لكنها لم تنشر إلا بعد موتها؛ وأول ما نشر لها في حياتها قصة «سلامة إدراك ودقة إحساس»

76

ثم تبعها قصة «كبرياء وتعصب»

77

ثم جاء بعد هذه ثلاث أخرى، وهي في كل قصصها هذه كادت لا تعالج إلا موضوعا واحدا هو حياة الطبقة العالية في أنحاء الريف. ولن تجد في عالم النقد ناقدا لرأيه وزن إلا رأيته يضع هذه الكاتبة في الصف الأول بين أصحاب القصة أجمعين. «كنيسة نورثانجر» موضوعها قصة فتاة جميلة ذكية ظنها أحد الأغنياء وارثة فرحب بها وأغدق عليها من كرم وفادته إغداقا رجاء أن تكون زوجة لابنه، فلما تبين له فقرها طردها من منزله طردا عنيفا. و«سلامة إدراك ودقة إحساس» تدور حول شخصيتين مختلفتين لأختين شقيقتين، إحداهما على شيء من الرعونة تستجيب لدوافع العاطفة بغير احتكام للعقل، والأخرى هادئة تحكم إدراكها العقلي في شتى أمورها، تركهما أبوهما في عسر فعاشتا مع ذوي قرباهما الأغنياء. وأساس القصة مقارنة بين الأختين في مختلف المواقف. والدرة العصماء بين هذه القصص كلها، قصة «كبرياء وتعصب» وهي قصة فتاة طموح أبية النفس أحبها شاب غني، لكنها نبذته في كبرياء لما لمسته فيه من ازدراء لأهلها وذويها. وهكذا تمضي الكاتبة في قصصها جميعا تصور لنا الفقراء على اختلاف صورهم وهم يخالطون الأغنياء لترينا كيف يفكر الأغنياء وكيف يعيشون. وهي تختار أبسط الموضوعات لقصصها، لكنها حين تجري الحوار أو تحلل الأشخاص تبدي براعة قل أن يكون لها نظير. ولو لم يكن في قصتها حبكة لكفاها جودة مثل ذلك الحوار البارع وهذا التحليل الدقيق. ويتميز أسلوبها بشيء من السخرية الرفيقة التي لا تفارق قلمها، وقد يأخذ عليها الناقدون أحيانا أنها تقسو في بعض المواضع في سخريتها. ومهما يكن من أمر هذه الكاتبة القديرة، فقد وجهت أدب القصة توجيها جديدا حين بينت في وضوح وقوة أن الحياة اليومية المألوفة المعروفة إذا أجاد الفنان ملاحظتها والاختيار من أجزائها، كانت له معينا خصيبا لا ينضب، للقصة في أعلى مراتبها. (ج) المقالة

على الرغم من هذا المجهود الجبار الذي بذله «سكت» و«جين أوستن» ربما لم تكن للقصة المنزلة الأولى في عالم النثر في الثلث الأول من القرن التاسع عشر. وربما كنا أدنى إلى الصواب إذا جعلنا تلك المنزلة الأولى للمقالة التي وجدت مجالا خصيبا في الصحف الأدبية التي كثرت في ذلك العهد لتسد حاجة عند القراء. ولم تكن المقالة عريقة الأصول في الأدب، فقد رأينا في الجزء الثاني من هذا الكتاب، ونحن نؤرخ لمونتيني في الأدب الفرنسي، كيف خلقت المقالة خلقا على يدي «مونتيني» في القرن السادس عشر، لكن العجيب في أمرها أنها حين ولدت جاءت كاملة الخلق والتكوين، وأخذت - منذ ظهرت في عالم الوجود - توسع من نطاقها من حيث الموضوعات التي تعالجها، فكانت مجالا لتحليل الشخصيات، ومتنفسا للأديب يبث فيها مشاعره وخواطره، وميدانا للنقد الأدبي، ووسيلة للإصلاح الاجتماعي. وهكذا لبثت المقالة طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر أداة طيعة في يد الأديب يتخذها لكل موضوع شاء أن يكتب فيه، ومن حسن حظها أن تناولتها أيدي فحول الأدباء فضمنت لها القوة وطول البقاء. فلما كان الثلث الأول من القرن التاسع عشر - وهو العهد الذي نحن الآن بصدده - تعهدتها طائفة من الأفذاذ، حسبنا أن نذكر منهم الأربعة الأعلام: «لام» و«هنت» و«هازلت» و«دي كونسي». (1) تشارلز لام

Charles Lamb (1775-1834م)

هو لندني المولد والنشأة والإقامة، تلقى بعض التعليم المدرسي ولم يبلغ في شوطه إلى غايته؛ إذ أريد له أن يستخدم في إحدى الشركات الكبرى، لكن حياته اضطربت بسبب جنون موروث لم يبلغ في حالته حد الجنون الكامل إلا فترة قصيرة، ثم كانت علامته بعد ذلك شذوذا في سلوكه، غير أنه كان أشد ظهورا في أخته «مارية» حيث انتهى بها إلى قتل أمها في ثورة من ثورات جنونها. وأخذت هذه الثورات الجنونية تنتابها على فترات تزداد قصرا كلما تقدمت بها السن. وكانت «مارية» تقيم مع أخيها «تشارلز» الذي أحبها حبا شديدا، ولم يتزوج حرصا على راحتها.

التقى «لام» بكولردج فكان له في حياته الأدبية أبلغ الأثر، وقد يكون هو الذي وجه «لام » إلى دراسة الأدب في عهد اليصابات دراسة ملكت عليه نفسه حتى إنه أنشأ مأساة على غرار المآسي في ذلك العهد عنوانها «جون وودفيل»

78

وأخرج مع أخته «مارية» «قصص من شيكسبير»،

79

ونشر مجلدين فيهما مختارات من الأدب التمثيلي في عهد اليصابات، علق عليها بمذكرات نقدية رائعة، وأما آيته الكبرى فهي «مقالات إليا»

80

التي طبعها بطابعه مادة وأسلوبا حيث جاءت شيئا فريدا في الأدب الإنجليزي كله، وقد حاول أن يقلده المقلدون لكنهم جميعا انتهوا في محاولتهم إلى الفشل؛ ففي خياله، وفي أسلوبه، وفي فكاهته خصائص تدركها بذوقك ولا تستطيع لها تحليلا ولا وصفا.

اتخذ لام المقالة أداة للتعبير عن نفسه، واتخذ من شخص خيالي يرمز به إلى نفسه أطلق عليه «إليا»، محورا تدور حوله أفكاره وخواطره وذكرياته وتأملاته. وهو في كل ما كتب سواء أكان ذلك تعليقا على كتاب أو على شخص صادفه في حياته أو على وضع من أوضاع المجتمع؛ إنما كان يعبر عن صدى هذا الشيء أو ذاك في نفسه هو دون أن يجعل هذه النظرة الذاتية صريحة مباشرة. لكن النظرة الذاتية في أدبه لها خصائص يتميز بها عن سواه، فكل أديب ذاتي فيما يكتب إلى حد ما، لكن ليس كل أديب ذاتيا بمعنى أن يشق نفسه شطرين، شطر منهما ينقد شطرا آخر نقد الحذر البصير الذي لا يغيب عن ذهنه قط ما يقع فيه الإنسان من خداع، إذ يحكم على الأشياء وفق هواه فيخطئ أحيانا وهو لا يدري بخطئه لأن هواه قد أعماه. وبهذا الأسلوب الذاتي المحايد عادت المقالة إلى ما كانت عليه عند أول خلقها على يدي «مونتيني».

ومع ذلك فلم يكن «لام» في مقالته صورة مكررة من «مونتيني»، بل ظل بينهما هذا الفارق الذي جعل لكل منهما شخصيته في أدبه؛ «مونتيني» يحلل نفسه تحليلا أقرب جدا إلى ما يصنعه عالم النفس إذ يرد المركب إلى عناصره الأولية، ثم هو يستخرج العبرة لعلها تكون درسا يقوم الأخلاق، أما «لام» فلا يجعل همه هذا التحليل ولا ذلك التقويم إنما أراد شيئا واحدا، هو أن يمتع نفسه بما يكتب وأن يمتع قارئه بما يقرأ، وهو في ذلك فنان مطبوع، إن أراد أن يرهف حس قارئه أو أن يعلو بنفسه، اصطنع لذلك سبيلا غير مباشرة بحيث لا يحس قارئه أنه إزاء معلم يؤدبه. (2) لي هنت

Leigh Hunt (1784-1859م)

لم يكد «هنت» يفرغ من دراسته حتى وجد سبيله إلى منصب في الحكومة يضمن له اطرادا في حياته، لكنه لم يلبث أن تركه مدفوعا برغبته في الاشتغال بالأدب؛ وكان له أخ يعرف كيف يشق طريقه في الحياة العملية؛ فتعاون الشقيقان على إخراج صحيفة تلونت بالدعوة إلى الحرية ومعارضة الحكومة. وقد زج «لي هنت» في السجن لمهاجمته للوصي على العرش عندئذ، ولبث بعد خروجه من السجن خمسين عاما، لم يكد يغادر فيها مدينة لندن، ولم يشتغل خلالها إلا بالأدب. ولم يكن «هنت» في الصف الأول من رجال الأدب في شعره أو نثره؛ إذ أعوزه الفراغ وطمأنينة العيش، فكان يكتب على عجل لكسب قوته، كما أعوزه الذوق المرهف. والفراغ وسلامة الذوق الأدبي شرطان لازمان للأديب الممتاز. وأبرع ما برع فيه قدرته على النقد الأدبي؛ فقد كان سديد الرأي في تقدير إنتاج غيره من الأدباء، ثم قدرته على كتابة المقالة الصحفية التي تتناول شتى الشئون؛ فهو في هذه نابغ قدير لا يدين لسابقيه إلا بالقليل، وله أعمق الأثر في عشرات من لاحقيه في هذا المجال. وقد حاول «هنت» أن يكتب أدبا قصصيا وغيره من ألوان الأدب فلم يفلح؛ فكأنما خلق بطبعه كاتبا صحفيا. غير أنه في الصحافة أقرب شبها بأدباء الصحافة الأقدمين منه بالمحدثين؛ إذ كان يتولى كتابة الصحيفة بنفسه، أو - على الأقل - كان العامل الرئيسي في تحريرها؛ فلم تكن الصحيفة الأدبية - مثلها اليوم - ميدانا تتعاون فيه أقلام طائفة كبيرة من الكتاب. كان «هنت» مخلصا فيما جاهد في سبيل نشره من آراء في إصلاح السياسة والاجتماع والدين، فقد أراد للأفراد والمجتمع نظرة للأمور تسودها القيم الروحية العليا، وله أعظم الفضل في أن خفف عن المقالة الأدبية بعض أعبائها وهيأها للصحافة، بحيث جعلها أداة صالحة لكثير جدا من أغراض الإصلاح، ولعله كان في الأدب الإنجليزي أول من استخدم المقالة في النقد المسرحي، وفي هذا تبعه «هازلت» وتفوق عليه إلى مدى بعيد. وله في النقد آراء صائبة صدر فيها عن تمثله بنماذج الأدباء القدامى، وخير ما خلفه لنا هذا الكاتب سيرة حياته

81

التي ملأها بما يستوقف القارئ بالإعجاب، والتي تلقي ضوءا قويا على الرجل وعلى عصره الذي كان غنيا بالأدباء الأعلام. ومما خلفه أيضا مجموعات مقالاته وأهمها «رجال ونساء وكتب»

82

و«الفطنة والفكاهة»

83

و«الخيال السوي والخيال الشاطح».

84 (3) وليم هازلت

William Hazlitt (1778-1830م)

هو في النقد أعظم من زميليه «لام» و«هنت»؛ بل إن شئت فقل إنه من أئمة النقد في آداب العالم كلها. ربطته الصلات بكولردج كما ربطت غيره من أدباء العصر، فكان لكولردج أعمق الأثر في توجيهه وإشعال نبوغه، كما صنع بكل من اتصل به. وعاش «هازلت» حياة فيها كثير من المتعة لكن تنقصها السعادة، فقد تزوج مرتين، وساء حظه فيهما معا؛ إذ اختلف مع الأولى اختلافا أدى إلى الطلاق، وهجرته الثانية بعد زواجها منه بأمد قصير، ولعله المعيب في كلتا الحالتين، لأنه كان معروفا بحدة طبعه التي ضاق بها حتى أخلص الأصدقاء. وكان يهاجم الناس عن طبع يميل إلى المشاكسة بداع وبغير داع، بل حمله ذلك الطبع المشاكس على الخوض بنقده وهجومه في أدب الأسبقين فضلا عن المعاصرين. وكانت تنقص «هازلت» الدراية التامة بالآداب واللغات الأجنبية، لكنه رغم هذه النقائص كلها، أنتج في نقد الأدب الإنجليزي مجموعة من المقالات والمحاضرات تكاد لا تجد لها نظيرا؛ ولهذا كان في عصره كاتبا يحسب حسابه، ومن العجيب أنه لم يلق كل هذا التقدير عند الجيل الذي تلاه، لكنه عاد بعدئذ إلى الصعود في نظر الأجيال التالية، ولعله حتى اليوم لم يوضع بعد موضعه الصحيح. «هازلت» فردي في روحه، بحيث وقف إزاء العالم موقف التحدي والمصارعة في السر والعلن، فكل ما تواضع عليه الناس من رأي وعقيدة أصابته طعنات نقده التي لم تصدر عن جهل عابث، بل صدرت عن رجل أوتي من نفاذ البصيرة وصواب الحكم قسطا موفورا. وإن شئت أن تتخيله فصور لنفسك رجلا بلغت به الكبرياء حدا مفرطا، واعتد بنفسه اعتدادا حدا به أن يستهين بسواه، بل أن يمقت غيره من أفراد الإنسان، ولم تكن له هذه النفس السمحة ولا هذا الصدر الرحب الذي ييسر على نفسه طريق الحياة، لكنه مع ذلك كان إذا ما أراد نقدا ضبط من نفسه جماحها واتزن في حكمه على نحو يدعو حقا إلى كل إعجاب. فهو بهذا ثنائي الشخصية تراه على لون في حياته وعلى لون آخر في نقده، ولعل في هذا الازدواج مصدر شيء من خصوبته وإن يكن بغير شك مصدر تعاسته وشقائه. وهو على أي الحالين صاحب نظرة نقادة، من طبعه أن ينقد ما يصادفه، وهو في هذه الثورة أو ما يشبه الثورة صنيعة الثورة الفرنسية ووليد دعوة قوية الأصداء إلى تحكيم العقل في كل الأمور والاهتداء بهديه؛ وهو من هؤلاء الرجال الذين يرون أن «الحياة عقيدة وجهاد» أعني أنه يعتقد بصواب المبدأ النظري ثم لا يلين بعد ذلك في جهاده في سبيل ما اعتقد صوابه.

وإنه لمما يبدو تناقضا في القول أن نزعم أنه من رجال الأدب الابتداعي - والأدب الابتداعي أميل إلى الأخذ بالعاطفة - ثم نزعم في الوقت نفسه أنه يسلم قياده لأحكام العقل. لكن هذا التناقض الظاهر ربما زال لو أضفنا إلى هذين الزعمين تحديدا، فاحتكامه إلى العقل هو في تبين الحدود التي ينبغي أن تقف عندها العاطفة؛ أعني أنه يسلم بضرورة أن يترك الإنسان نفسه على سجيتها في التأثر بالأشياء والحكم عليها بالفطرة واللقانة، على ألا يجاوز ذلك الحدود المشروعة.

كان «هازلت» ناقدا للأدب وناقدا لأوضاع الحياة في آن معا، وهو في نقده مطبوع بصراحة عجيبة، صراحة مصدرها ثقته بنفسه؛ فلا يعبأ في قليل أو كثير أجاء رأيه مستطابا عند الناس أم مريرا. وهو في تبينه للعيوب لا يصطنع التحليل بقدر ما يلجأ إلى الإدراك المباشر، فعينه الفاحصة لا تخطئ ما يريد أن يراه؛ ولذلك تحس وأنت تسايره في أيما طريق شئت كأنما يلفتك الرجل لفتات مفاجئة متداركة، تقلب لك آراءك التي ألفتها رأسا على عقب، ويزيح عن عينيك الغشاوة التي تريك ظواهر الأشياء حقائق ثابتة. وقد تمدحه على صنيعه لك، وقد تسبه وتلعنه لأنه سيريك رغم أنفك الحقائق المرة عن بعض الأشياء، وليس الإنسان على استعداد دائما أن يصغي إلى الحق.

وكذلك ترى هذه اللفتات المفاجئة القوية في نقده الأدبي، فهو - بحركة واحدة سريعة ماهرة - يجد نفسه في صميم الشخصية التي هي موضوع نقده، لا يحاور في ذلك ولا يداور؛ ثم هو يتدرج في خروجه من ذلك الصميم الذي وقع عليه شيئا فشيئا؛ فإذا بك ترى المعالم والقسمات في جلاء ووضوح. وكثيرا ما كان يقع على جانب خفي من نفس الأديب الذي يكون موضوع بحثه، حتى ليخيل إليك أنه يهتدي في ذلك بهذه الأساليب التي يستخدمها أصحاب التحليل النفسي في هذه الأيام فيبرزون بها ما خفي عن العيون. على أنه بغير شك لم يكن معصوما من الخطأ، فقد يضل بسبب تعصب سابق لرأي بذاته. ومن أمثلة خطئه في الحكم أنه لم ير في «شلي» شاعرا مجيدا. لكنه على كل حال من أقل النقاد ضيقا في الأفق وجريا مع الهوى، وفضله عظيم في تحليل كثير من شخصيات شيكسبير، فهو من المعجبين بأدب النهضة عامة، وإن يكن من العسير عليك أن تجد له عصرا معينا أو شاعرا خاصا أو مدرسة بذاتها تنسبه لها، فهو مادح أينما وجد ما يستحق المدح، مهاجم أنى صادف ما يستثير الهجوم. (4) تومس دي كونسي

Thomas De Quincey (1785-1859م)

مات أبوه وخلفه صغيرا، لكنه ترك له إرثا لا بأس به، وإن يكن «دي كونسي» بدده فيما بعد على نحو لا يشينه، غير أنه يدل فيه على غرابة وشذوذ؛ مثال ذلك أنه أجزل العطاء لرجال الأدب - فقد أعطى مبلغا كبيرا لكولردج - وأنه لم يعمل شيئا مما يعود عليه بالكسب اعتمادا على ثرائه الموروث، وأنه لم يتم دراسته الجامعية ، إلى غير ذلك من أمور. ولما كان الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة، كان لأديبنا بدوات في شبابه، منها إدمانه المفرط في «الأفيون»، وقد ذكر لنا مغامرات شبابه في سيرة حياته التي كتبها بقلمه وفي كتاب آخر عنوانه «اعترافات مدمن في الأفيون».

85

عرف «دي كونسي» في نفسه القدرة على الإنشاء؛ ثم نفد ماله الموروث، فأخذ يكتب كتابة لا تنقطع مدى أربعين سنة من حياته. وفي أخريات أيامه جمع كثيرا مما كتب وأعاد طبعه، فكان لنا بذلك أكبر مجموعة في الأدب الإنجليزي من أدب المتفرقات وأكثرها تنوعا؛ فقد كان هذا الأديب يجمع في نفسه دقة التحقيق العلمي وسعة الاطلاع، وكانت له قدرة على القصص، وموهبة نادرة المثال في العرض والتلخيص، فضلا عما امتاز به من فكاهة ونبوغ في الأسلوب المنمق المزخرف الذي لن تجد من يفضله فيه، ذلك إن وجدت من يجاريه. وكان يعلم أنه موهوب في هذا الضرب من الكتابة، لكنه أخطأ فظن أن مثل ذلك النثر المزوق أعلى منزلة من النثر السلس المتدفق. ومهما يكن من أمر فإنه إنما يحتل مكانه في تاريخ الأدب لأنه في طليعة من غيروا مجرى النثر الأدبي في القرن التاسع عشر، فجعلوه نثرا مزخرفا بعد أن كان ساذجا عاريا من كل تنميق. وقد وجد «دي كونسي» في ميدان الأحلام مجالا فسيحا لنثره، وهذه حقيقة لها مغزاها الواضح ودلالتها القوية؛ إذ لبث النثر الفني مائة وخمسين عاما لا يريد لنفسه شيئا فوق أن يكون أداة للتعبير عن شئون الحياة العملية، وها هو ذا ينتقل بمثله الأعلى إلى ميدان آخر، فصار على يدي «دي كونسي» أداة للخيال قبل أن يكون وسيلة للتعبير عن الواقع. ولا شك في أن هذه نتيجة طبيعية لمذهب «وردزورث» في الشعر - الذي أسلفنا الكلام عنه - بأن جوهر الشعر في المعنى لا في طريقة الأداء؛ فقد يكون الكلام شعرا حتى إن خلا من الوزن والقافية؛ فكان من أثر هذه الدعوة أن رأينا بعض أنصار المدرسة الجديدة يكتبون الشعر منثورا، أو قل يكتبون النثر ليكون شعرا. (د) ضروب أخرى من النثر

آثرنا أن نقسم الحديث في النثر قسمين، فقسم للمقالة أسلفناه، وقسم آخر لضروب النثر الأخرى التي ظهرت فيما كان يؤلف من الكتب على اختلاف موادها، وذلك لأن الأسلوب في الحالتين مختلف أشد اختلاف، فما أساغه الذوق في المقالة لم يكن ليسيغه في الكتاب. فقد كان يتعذر على «دي كونسي» - مثلا - أن يجد ناشرا لكتابه «اعترافات مدمن في الأفيون» لو أنه أخرجه كتابا كاملا، فلولا أنه نشره في الصحف الأدبية منجما في مقالات لما وجد سبيله إلى المطبعة. فقد اختار أدباء المقالة في العصر الذي نؤرخه - الثلث الأول من القرن التاسع عشر - الأسلوب المنمق لمقالاتهم، وكان هذا التنميق في الأسلوب علامة التجديد، لكن مثل هذا الأسلوب لا يصلح في كتاب طويل متصل؛ لهذا كان للنثر في ذلك العهد أسلوبان مختلفان: أسلوب للمقالة وأسلوب للكتاب، وسنختار اثنين من أصحاب الأسلوب الثاني لنسوقهما مثالا للنثر الأدبي في غير المقالة، وهما: «سذي» و«ماكولي». (1) سذي

Southey

لقد أسلفنا الحديث عن «سذي» شاعرا من شعراء الابتداع، وزعمنا إذ ذاك أنه خالد بنثره أكثر منه بشعره؟ فلو فرضنا أن للنثر الإنجليزي معيارا يقاس به الجيد والرديء، كان نثر «سذي» أقرب ما يكون إلى ذلك المعيار؛ فيوشك أسلوبه أن يكون نموذجا يحتذى. نقول ذلك على سبيل الافتراض الذي يقرب الصورة إلى الأذهان، لأننا نعلم أنه يستحيل أن يكون لكل ضروب النثر طريقة واحدة وأسلوب بعينه، فلكل موضوع طريقة تصلح له، ولكل كاتب أسلوبه الخاص الذي ينبغي أن يحكم عليه باعتباره كائنا حيا مستقلا دون النظر إلى سواه. وآيته النثرية الكبرى هي «حياة نلسن»؛

86

ولو أنه من الحق أن يقال إن قدرة الكاتب في التعمق في أسرار النفس كانت لها حدودها، وإنه حين تسلف «كارلايل» في التأريخ للأبطال كان مثله الأعلى في البطل مشوبا بعاطفته الوطنية. ومهما يكن من أمر فقد قدم لنا «سذي» في شخص «نلسن» صورة للرجل النشيط الطامح الذي لا يزال يدنو من غايته في نمو لا ينحرف ولا ينتكس. وقد أظهر الكاتب براعة ممتازة في تلخيص الحوادث الكثيرة التي صادفت بطله تلخيصا جاء في سياق رائع خلاب. وإن شئت وصفا لما يمتاز به نثر «سذي» في هذا الكتاب فقل إنه الوضوح والنقاء، وللكاتب قدرة عجيبة على استخدام الألفاظ الفصحى والعامية والمتداولة والمزخرفة كلها جنبا إلى جنب بحيث تأتي الديباجة رغم ذلك كله متسقة البناء سليمة الحبك. (2) ماكولي

Macaulay (1800-1859م)

ماكولي نابغ منذ طفولته، فقد كانت سنه العقلية أسبق من سنه الزمنية بمرحلة بعيدة، وكانت له ذاكرة هي أعجوبة الأعاجيب؛ فلما كان في التاسعة من عمره قرأ قصيدة «سكت» «المنشد الأخير»

87

مرة واحدة فحفظها وأنشدها؛ ولازمته هذه الذاكرة القوية مدى الحياة، فكانت له أكبر عون على ملء كتابته بالإشارات التاريخية والأدبية؛ مما جعل لمقالاته وتاريخه قيمة نادرة، وكان في ذلك غير منافس، لكن إلى جانب ذلك كان اعتماده على ذاكرته في بعض المواضع مؤديا به إلى الزلل. وكان «ماكولي» يقرأ في سرعة تكاد تستحيل على سواه، ويقرأ كل ما تقع عليه يداه، دون أن ينسى شيئا مما قرأ. وقد عالج كتابة الأدب وهو دون العاشرة، وظفر وهو طالب بالجوائز الأدبية على بعض ما أنشأ.

ليس الصواب كل الصواب أن يحشر «ماكولي» في زمرة أدباء الابتداع بغير تحفظ، فهو في حقيقة أمره مرحلة وسطى بين ذلك العهد وما تلاه؛ فهو ربيب أعوام سادت خلالها في إنجلترا الفلسفة العملية النفعية التي تقيس العمل بمقدار ما يعود به على الناس عامة من خير، وكان لهذا الاتجاه الفكري أكبر الأثر في «ماكولي» إذ جعله يؤثر أحكام العقل المنطقي وينشد في الظواهر تتابع الأسباب ومسبباتها، بل إن معيار الحق عنده هو ما يسود الظواهر من اطراد ينم عن انسياق للقواعد، ولذلك أثره في كتابته للتاريخ، فلم يكن بالمؤرخ الذي يتعقب الوثائق بحثا عن الحقائق، بل كان يقرأ عن العصر الذي يؤرخ له، ثم يكون فكرة واتجاها عقليا إزاءه، ثم ينسق كل ما يكتبه عن ذلك العصر وفق هذه الفكرة وهذا الاتجاه العقلي؛ يثبت ما يؤيده ويمحو ما ينفيه؛ فوراء تاريخه رجل له نزعاته وأفكاره وآراؤه يريد أن يعبر عنها فيما يكتب من التاريخ. وفي رأيه إذا لم يكتب التاريخ ليكون درسا لقارئه ففيم يكتب؟ فلا غرابة أن يرفضه المؤرخون المحترفون، وأن يرحب به الأدباء؛ لأنه رجل لم تعنه الحقيقة في ذاتها بقدر ما عنته آثارها في نفسه ونفس قارئه؛ ولهذا تراه يرسل لقلمه العنان فيختار ما يعجبه من الصور ليبلغ أعمق ما يمكن أن يبلغه من أغوار قارئه.

ولكنك تخطئ لو ظننت أنه شطح مع خياله في كتابة التاريخ إلى حد يقربه من القصة، فتاريخه تاريخ يتوخى الصدق في الرواية، على نحو يختلف بعض الشيء عن طريقة المؤرخ المحترف، فهو يبحث عن الوثائق والشواهد التي تعينه على تصوير إطار وبطانة تبرز عصره الذي يتناوله بالوصف إبرازا واضحا. وهو ممتاز في قدرته على وصف أوضاع الحياة وعلى أن يحيط الأشخاص والحوادث بجو نابض بالحياة، بحيث يستحيل عليك أن تقرأه دون أن تمتزج نفسك بحياة العصر الذي يقدمه إليك، وذلك كله يرجع إلى قدرته على النفاذ إلى قلب الشخص أو صميم الحادثة فيفهمها على حقيقتها ويفهمك إياها.

له كتاب عن تاريخ إنجلترا يصور عصر الانتقال من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر، وله مقالات - كل مقالة بمثابة كتاب صغير - عن بعض رجال الأدب ورجال التاريخ، وهو أبرع في مقالاته منه في تاريخه؛ لأنه على كل حال مقيد في كتابة التاريخ ببعض القيود التي هو منها طليق حين يؤرخ لشاعر أو كاتب، على أن أسلوب الحديث فيهما متشابه، والمادة في «المقالات» أضحل منها في «التاريخ» وهو كثيرا ما يبعد فيها عن الصواب في أحكامه، لكنه إذا كتب عن أديب صادف هواه فهنالك تجده في أعلى ذراه.

ولا يمكن الحديث عن «ماكولي» دون أسلوبه وخصائصه، فهو دفاق سلس واضح تكثر فيه المقابلة كما يكثر فيه القول القصير القوي؛ مرة تطول معه الجمل ومرة تقصر وتتركز كأنها الأمثال السائرة، وهو على كل حال يعنى أكبر العناية بهندسة بنائه بحيث يخرجه متزنا متسقا، هنا عبارة طويلة يقابلها هناك عبارة طويلة مثلها، وفي هذا الجانب استعارة تقابلها في الجانب الآخر استعارة مثلها وهكذا. ويؤخذ عليه جمود في طريقة تفكيره وتعبيره؛ فهو يمضي في كل ما يكتب على صورة واحدة وضع فيها كل ثقته، ولا نظنه قد وقف مرة ليناقش نفسه الحساب فيرى إن كان في ذلك مخطئا أو مصيبا.

الفصل الثاني: العصر الفكتوري

وهو الثلثان الأخيران من القرن التاسع عشر (أ) الشعر

يمثل الشعر في عصر فكتوريا شاعران بينهما من التفاوت ما لا تجد مثيلا له بين شاعرين في عصر واحد، وهما «تنسن» و«براوننج»؛ لكنهما على اختلافهما في طريقة الأداء يكمل أحدهما الآخر؛ الأول يغني لعاطفته والثاني يغني لعقله. (1) ألفرد تنسن

Alfred Tennyson (1809-1892م)

أما أولهما «تنسن» فقد وجد سبيله إلى مدرسة ثانوية فإلى جامعة كيمبردج حيث ظهر نبوغه في الشعر، فظفر بجائزة من الجامعة على إحدى قصائده. وقد نشر له أول ديوان وهو في الحادية والعشرين من عمره، ولم تكن يراعة الشاعر في هذا الديوان الأول قد ثبتت بين أنامله، وإن يكن قد أظهر براعة فائقة في التصوير وانسجام النغم مع المنظر الذي يصوره. ثم أصدر بعد ذلك بعامين وبعض عام ديوانا آخر جاءت قصائده أقرب إلى الكمال من قصائد الديوان الأول. ومن أبرز قصائد الديوان الثاني قصيدة «سيدة شالت»،

1

ولكنه لم يكن بعد قد بلغ منتهي كماله، ووجه إليه رجال النقد طعنات قاسية. ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الشاعر اهتدى بهذا النقد وأصلح من شعره، فلم تجئ حملة النقد بمثابة الصقيع الذي يفتك بالنبات قبل اكتمال نموه، بل كانت كلذعة البرد تمس شجرة أفرطت في النمو فتمسكها ليحسن فيها الزهر والثمر فيما بعد. ولبث «تنسن» بعد ذلك ما يقرب من عشرة أعوام يقرض الشعر ولا ينشره، ثم نشر مجموعتين في آن واحد، إحداهما تحتوي على طائفة من قصائده القديمة، وقد راجعها وأصلحها على ضوء ما وجه إليه من نقد، والأخرى مجموعة من قصائد جديدة، وهنا يكاد يجمع النقاد على أن الشاعر بلغ في هذه المجموعة أقصى مداه. وجاء في هذه المجموعة بعض قصائده المشهورة مثل قصيدة «يوليسيز»

2

و«موت أرثر».

3

كان العنصر الجديد في هذه المجموعة الجديدة هو السلاسة في عرض المناظر وتصويرها، ثم اتساق الأنغام في الألفاظ والجمل والأبيات والمقطوعات، بحيث تأتي موسيقى القصيدة في النهاية على أتم اتفاق مع المعنى. أما براعته في التصوير فسرها دقة ملاحظته للطبيعة بحيث لم تفلت منه دقيقة من دقائقها. وأما روعة موسيقاه فقد أعانه فيها ضخامة ثروته اللفظية وقدرته على وزن الكلام وزنا يخلب السمع مهما كان البحر الذي يجري فيه قصيدته، وبخاصة في شعره المرسل غير المقفى، فهو في هذا الضرب من الشعر في سماء وحده بالقياس إلى من حاول هذا النوع من شعراء الإنجليز، لا يعلو على منزلته فيه سوى «ملتن».

لبث «تنسن» بعد ذلك خمسين عاما يقرض الشعر الجيد، فيضيف بذلك إلى إنتاجه إنتاجا جديدا يزداد تنوعا وكمالا، لكنه في كل ذلك لم يكد يأتي بالجديد المبتكر من ضروب الشعر، شأنه في ذلك شأن الكثرة الغالبة من أئمة الشعر في العالم؛ فقلما يأتي الشاعر العظيم بالمبتكر الجديد في نوعه، وهو إن جاء بشيء مبتكر لم يكن من أعظم إنتاجه.

أخذ «تنسن» منذ ذلك الحين يشتهر بين القراء حتى أصبح ما يباع من دواوينه موردا من الرزق لا بأس به، ثم أضيف إليه مورد جديد هو راتب أجري عليه من القصر؛ ولذلك لم ينفق جهده إلا في الشعر، وظل على مهل يصقل مجموعة أخرى لها أعظم الخطر في إنتاجه، وهي طائفة من «المراثي»، ثم أخرج قصيدة «الأميرة»

4

وهي أطول قصائده وأروع ما ظهرت فيه عبقريته في الشعر المرسل، وهي تعد من أعظم الشعر في الأدب الإنجليزي كله، وهي تمثل ضربا من الشعر الابتداعي الطروب الذي يقابل في الشعر الاتباعي ما يسمى «بالشعر الحماسي الساخر»:

5

كلاهما يتناول موضوعا تافها ويعالجه كأنه موضوع هام خطير؛ فقصيدة «الأميرة» في هذا النوع في الأدب الابتداعي تقابل قصيدة «بوب» «اغتصاب الخصلة»

6

في الأدب الاتباعي، وكل منهما آية نوعها. وأخيرا نشر الشاعر ديوانه «أناشيد الملك»

7

الذي كفل له إمارة الشعر الإنجليزي حتى ختام حياته، وقد اتخذ الشاعر من أسطورة الملك أرثر

8

موضوعا لهذا الديوان.

وهذه قصيدته «سيدة شالت» نسوقها مثالا لشعره:

1

على جانبي النهر تمتد

حقول مديدة من شعير،

تكسو النجد، وبالأفق تلتقي،

وخلال الحقول يمتد الطريق

إلى ذات البروج العديدة، إلى «كاملت»،

والناس هنالك في جيئة وذهوب

يحدقون حيث السوسن عابق،

حول جزيرة ثمة في مرمى البصر؛

جزيرة «شالت». •••

الصفصاف مبيض والرجراج مهتز،

وهبات النسائم ارتعشت قائمة

خلال الموجة التي ما تنفك تجري

في النهر جنب الجزيرة،

تجري منسابة إلى «كاملت»؛

جدران رمادية أربعة وأبراج رمادية أربعة،

كلها تطل على فضاء فسيح من زهور،

والجزيرة في سكونها تؤوي

سيدة شالت. •••

حذاء الحاشية - والصفصاف لها قناع -

تنزلق السفائن الثقال مشدودة

إلى خيل وئيد؛ ثم في غير احتفاء

مرق الزورق حريري الشراع

يطير سبحا إلى «كاملت»

لكن من ذا رآها بيد ملوحة؟

من ذا رآها عند شباكها واقفة؟

بل من ذا في طول البلاد عرف

سيدة شالت؟! •••

لا يعرفها سوى الحاصدين يحصدون عند الفجر،

يتخللون أعواد الشعير الملتحي،

وهنا يسمعون أغنية يرتد صداها مرحا،

من النهر ينثني رائقا

متجها صوب ذات البروج، صوب «كاملت»،

وعندما يضيء القمر ترى الحاصد المنهوك

يكوم ما ضمه فوق النجاد ذات الهواء الطليق،

تراه يصغي، ثم يهمس: «إنها ربة الفتنة»،

إنها سيدة شالت.

2

لبثت هنالك تنسج بالنهار والليل

نسيجا سحريا ساطع الألوان،

فقد سمعت هامسا يقول

إن عليها اللعنة لو وقفت!

شاخصة بعينيها إلى «كاملت»

لم تدر ماذا عسى اللعنة أن تكون،

فمضت في نسجها لا تني،

ليس غير النسج يشغلها

سيدة «شالت». •••

وتحركت على مرآة مجلوة السطح؛

مرآة تدلت أمامها طوال العام.

أشباح العالم التي أخذت أمامها تبدو،

فرأت هنالك الطريق القريب

إذ ينثني صوب «كاملت».

وعند انثنائه تدور دوامة النهر،

وهنالك ترى أبناء الريف أجلافا غلاظا،

وترى البائعات حمر المعاطف

يمضين مبعدات عن «شالت». •••

آنا ترى جمعا من مراح الغواني،

وآنا ترى رئيس الدير ممتطيا جوادا،

ومرة ترى الغلام الراعي أجعد الشعر،

وأخرى ترى الصبي الخادم طويل الشعر قرمزي الرداء

ماضيا في طريقه إلى ذات البروج؛ إلى «كاملت».

وحينا ترى في مرآتها الزرقاء؛

ترى الفرسان اثنين اثنين على الجياد

وليس لها بينهم فارس مخلص وفي

سيدة «شالت». •••

لكنها في نسجها لم تزل يسرها

أن تنسج ما يبدو على سحري مرآتها

فكم مرة، خلال الأمسية الساكنة،

جاءت جنازة، فيها ريش وأضواء

وموسيقى، ماضية إلى «كاملت»!

وكم مرة حين كان البدر في كبد السماء

جاء المحبان تزوجا منذ قريب! «لقد أوشكت بالأشباح أن يضيق صدري» هكذا قالت

سيدة «شالت».

3

وقاب قوس من سقف مخدعها

جاء راكبا بين أكوام الشعير،

وسطعت الشمس خلال أوراق الشجر،

وانعكس بريقها على درع ساقيه؛

ساقي الباسل «سير لانسلت».

فارس شارته الصليب الأحمر لم ينفك جاثيا

أمام سيدة وهو مدرع

درعا تلألأ على الحقل الأصفر

بجوار القصر البعيد، قصر «شالت». •••

وتلألأ في الفضاء سرجه ذو اللآلئ

كأنه جمع من النجوم نراه

عالقا في المجرة الذهبية،

ورنت أجراس السرج في مرح

إذ هو في طريقه إلى «كاملت».

ومن نجاده المزركش تدلى

بوق فضي ثقيل،

وبينا هو راكب شنت عدته

بجوار القصر البعيد، قصر «شالت». •••

كان الجو أزرق صافيا

فأضاء سرجه المغطى باللآلئ،

ولمعت فوق رأسه الخوذة وريشتها،

سطع كلاهما معا كأنهما الشعلة اندلعت،

بينا هو راكب نحو «كاملت».

وكثيرا ما حدث خلال الليل الأرجواني

تحت عناقيد النجوم اللألاءة

أن هوى في السماء جرم مضيء يجر وراءه ذيلا من ضياء

هوى في السكون الشامل حول «شالت». •••

أشرق في ضوء الشمس جبينه الوضاء العريض،

وعلى السنابك الصقيلة خطر الكمي،

وفاضت من أسفل خوذته

ذوائب شعره الفاحم بينا هو راكب؛

راكب صوب «كاملت».

من الشط حينا ومن النهر حينا

لمع ضوءه على بلور مرآتها،

وحذاء النهر أخذ يغني «سير لانسلت» •••

تركت نسجها، تركت منوالها،

خطت في الغرفة ثلاثا من خطواتها،

رأت سوسن الماء مزدهرا

رأت خوذة الفارس وريشتها؛

شخصت بعينها صوب «كاملت».

طار النسج في الهواء سابحا ،

انشقت المرآة شقا فادحا، «لقد حلت بي اللعنة!» هكذا صاحت

سيدة شالت.

4

الرياح الشرقية العاصفة تدوي،

والغابات الشاحبة الصفراء تذوي،

والمجرى العريض على شطآنه يشكو،

والسماء الوطيئة أمطارها هطالة

فوق أبراج «كاملت».

وجاءت هابطة فوجدت زورقا

تحت صفصافة على الماء طافيا،

فحول حيزومه كتبت «سيدة شالت». •••

وعلى امتداد النهر ما امتد قاتما -

كأنها النبي المقدام في ذهوله

يرى كل ما سوف يصيبه من سوء -

شخصت وعلى محياها بريق آسن؛

شخصت إلى «كاملت».

وعندما غاب النهار

أرخت لزورقها الرباط وانطرحت،

وحملها المجرى العريض بعيدا بعيدا

سيدة شالت. •••

وبينا هي راقدة في ثوبها الأبيض الناصع

الذي رف في الهواء يمينا وشمالا،

وأوراق الشجر تساقط عليها خفافا،

ومن حولها لغط المساء

طافت صوب «كاملت».

وبينا شق زورقها الماء بحيزومه

خلال الحقول، حذاء التلال غطاؤها الصفصاف،

غنت آخر أغانيها، وسمعها الناس تغني

سيدة شالت. •••

سمعوا نشيدا حزينا عليه جلال،

تنشده في صوت عال مرة، ومرة في صوت خفيض،

وأخذت دماء عروقها تجمد رويدا رويدا،

وأظلم في عينيها الضياء،

وهي ما تزال مصوبة نحو «كاملت»،

إذ قبل أن يطفو بها الماء

إلى أول دار على شاطئ النهر

ماتت وهي تغني نشيدها

سيدة شالت. •••

تحت البرج والشرفة

وحذاء البهو وحائط البستان

مرت طافية في محياها الوضيء

مرت - وعليها شحوب الموت - بين شاهق الدور

صامتة نحو «كاملت».

وجاء الجمع مندفعا إلى مرفأ النهر؛

جاءوا فارسا وحاكما، سيدة وسيدا،

وعلى الحيزوم قرءوا اسمها «سيدة شالت». •••

من هذه؟ ماذا نرى؟

وفي القصر القريب المضاء

سكتت أصوات المرح الطروب،

وكلهم رسموا الصليب على صدورهم فزعا

كل الفرسان في «كاملت».

أما «لانسلت» فظل يخطو مفكرا

قال: «إن لها لوجها فاتنا!

يا رحمة الله تنزلي عليها

سيدة شالت.» (2) روبرت براوننج

Robert Browning (1812-1889م)

ولد «براوننج» في ضاحية إلى الجنوب من لندن، ولم يتلق دراسة منظمة ولا هو ممن تخرجوا في أكسفورد أو كيمبردج؛ لذلك تراه على الرغم من سعة اطلاعه وحسن تذوقه لما قرأ، كانت تنقصه لمسة العلماء التي تميز بها معاصره «تنسن»، ومع ذلك فقد كانت لشعره خصائص وسمات لا تكاد تخطئها من أول قصيدة نظمها إلى آخر إنتاج أخرجه، ذلك لو استثنينا بعض إنتاجه الغث الذي لم يقصد به إلى شيء سوى أن يطعم جمهرة من القراء أرادت أن تقرأ لبراوننج حين اتسعت شهرته كائنا ما كان الموضوع أو الأسلوب.

كانت باكورة شعره قصيدة «بولين»

9

أنشأها في عامه التاسع عشر، ونشرت وهو في الحادية والعشرين، وهي وإن لم تبلغ حد الكمال بالقياس إلى نتاجه المتأخر، إلا أن عليها طابعه الشعري الذي لم يفارق قلمه حتى النهاية، وهو في القالب المسرحي الذي عرفت به الكثرة الغالبة من شعره؛ فالقصيدة عند «براوننج» قطعة تمثيلية يدور فيها الحوار، لكنها مع ذلك لم تكتب للمسرح بل لا تصلح للمسرح؛ إذ قد يكون فيها شخص واحد، ثم قد تخلو من الحوادث خلوا تاما، لكنها عندئذ تغوص في تحليل هذا الشخص الواحد الذي تدور حوله القصيدة، فكأنما خواطره يحاور بعضها بعضا، وكأنما نفسه تنحل إلى نفوس عدة تبين تركيب شخصيته في شتى ظلالها وأضوائها. وعقب الشاعر على قصيدته تلك بقصيدة «باراسلسس»

10

التي فاقت زميلتها جمالا، وتقدمت عليها خطوة نحو القالب المسرحي الذي أشرنا إليه، فها هنا لم يعد الشاعر يتحدث عن أشخاصه، بل ترك الأشخاص تعبر عن نفسها.

بهاتين القصيدتين وضع «براوننج» خطة مستقبله الشعري كله، وإلا يكن قد ظفر بالإعجاب منذ باكورة نتاجه، فقد أخذ المعجبون يزدادون، وأخذ صوته بين القراء يتسع، وظل رجال النقد على شيء من الحيرة أيثبتونه في قائمة الشعراء أم يتمهلون، حتى أخرج للناس ديوانه «نوار ورمان»

11

فقطع عندهم حبل الشك، وبات - عند أشد النقاد ترددا وتحفظا - بين الشعراء الذين لا ريبة في صدق شعرهم، وكان عمره إذ ذاك نحو الثلاثين، ثم ظهرت له بعد ذلك مجموعة أطلق عليها «غنائيات مسرحية»

12

أجرى فيها القصائد على نمطه المعروف؛ وعندئذ تزوج الشاعر من شاعرة معروفة «اليصابات براوننج» وأخرج قطعتين جميلتين «وقفة عيد الميلاد ويوم شم النسيم»

13

و «رجال ونساء»،

14

ثم ماتت زوجته واضطرب إنتاجه، وبعدئذ أصدر «شخصيات مسرحية»

15

الذي يعد آخر نتاجه العظيم. ولسنا نستطيع أن نختم القول في تفصيل قصائده الكبرى دون أن نذكر له قصيدتي «جيمزلي»

16

و«الحبر ابن عزرا»

17

اللتين تعدان من أعظم ما أنتجه القرن التاسع عشر كله من شعر.

طريقة «براوننج» في إنشاء القصيدة هي أن يتخذ شخصية معينة أو حكاية بذاتها، ويرجها رجا عنيفا ليفرق عناصرها ويشرحها تشريحا ليعرض لك أعضاءها عضوا عضوا دون أن يعينك على تركيب هذه الأعضاء في النهاية جسما مترابط الأجزاء. وأما طريقته في الأداء فهي النظم المرسل الذي لا قافية فيه. وكثيرا ما ينحط نظمه إلى مستوى النثر من حيث الإيقاع والرنين، أو ينقص جماله بما يصطنعه أحيانا من ألاعيب في تركيب ألفاظه، وقد لا تجد في نظمه في بعض المواضع ما يغريك بالإعجاب، وعلى الرغم من أنه لا يكاد يخطئ في قواعد العروض إلا أنك تحس في أمثال هذه المواضع أن شيئا ينقص هذا الكلام الذي أنت بصدده ليكون شعرا له في الأذن وقع الشعر.

لقد قال عنه ناقد حين كان يرثيه عند موته، إنه كان «شاعر الحب»؛ فدهش الناس لهذا الوصف ينعت به هذا الشاعر الذي لم يمجد فيه أنصاره ومريدوه سوى فكره وفلسفته! كيف يكون شاعر الحب هذا الذي نراه يضرب بعقله في أغوار موضوعه، هذا الذي ترك لزميله «تنسن» أن يعبر عن عواطف العصر ليتولى هو التعبير عن نزعاته العقلية؟ لكن الناقد سرعان ما تبعه آخرون، ثم لم يلبث الآخرون أن لحق بهم آخرون حتى أصبح «براوننج» في تاريخ الأدب من شعراء الحب في غير ريبة ولا جدل. لماذا؟ لأنه لم يفتأ يبشر بقوة الحياة وعنفوان الحياة وانتصار الحياة وظفرها على كل ما يقف في سبيلها من جمود. لم تذكره الشيخوخة الموت بل بامتداد الحياة، ولم يذكره الفشل بالفناء بل بالنجاح يكتب آخر الأمر للأحياء. لقد كان «براوننج» شاعر الحب حين كان اللسان الناطق بقوة الحياة وتيارها الزاخر، وربما أصاب شوقي حين قال إن «الحياة الحب والحب الحياة.»

وهاك بعض قصيدته «الحبر ابن عزرا» مثالا لشعره:

شخ معي عجوزا حمل السنينا،

أفضل العمر أعوام بقينا،

هي للعمر انتهاء، ومن أجل النهاية كان ابتداء؛

أعمارنا في يديه (أي في يدي الله)

يدي الذي يقول: «أردت أن يكون العمر كلا بجزأيه،

وما الشباب إلا نصف، فتوكل على الله، لا تخف وأقدم لتخبر الكلا.» •••

لست أنتقص شبابا يقول في صوت المتنهد - إذ يجمع الزهر أكداسا - أين فيك يا زهر ما يكون وردتي،

أي سوسنة أخلي لتكون لي موضع الذكرى؟

لست أنتقص شبابا يدعو بصوت الطامح المتحرق - إذ يجعل النجم نبراسا - ولا بالمشتري أنا قانع ولا بالمريخ المتألق،

وليكن نجمي نجما يضم ويعلو الأنجم الأخرى! •••

لست أشكو في الشباب آمالا وآلاما

تفسد أعوامه، وأقصر بهن أعواما؛

فذلك حمق لا أرتضيه،

بل إني لأحمد في الإنسان هذ القلق

فلم يخلق الحيوان الأدني بمثل هذا القلق،

خلق الحيوان طينا له منتهى وحدود، لم تنفخ فيه شرارة تشقيه. •••

ألا ما كان أكذبها حياة حين تزدهي!

لو لم يخلق الإنسان إلا ليشتهي

متعته، لو كان مخلوقا ليسعى فيجد القوت فيطعم.

فإذا ما فرغ الطعام

كان في ذاك الختام.

وهل يشقي الهم طيرا مليء الحويصلة؟ هل يضني الشك وحشا جوفه أفعم؟ •••

وافرحتا! إننا الآن نقترب

من الله الذي يهب

ولا يرجو، يؤثر وليس عليه مؤثر؛

شرارة في طينة أجسادنا تحركها

فتدنو بها نحو خالقها

المعطي وهم إليه في فقر. •••

إني لأرحب بالصدمات من دهري،

تجعل سير الحياة يسرا بعد عسر،

أرحب بكل لسعة منه تحفزني: لا تقعد، لا تقف، بل واصل الدأبا.

ليت غبطتنا أن يكون ثلاثة أرباعها وصبا!

اكدح، واسترخص في سبيل كدحك النصبا.

تعلم، لا يوقفنك رهق؛ غامر، لا تشكون التعبا. (3) ماثيو آرنلد

Matthew Arnold (1822-1888م)

أما وقد فرغنا من نابغتي الشعر في عصر فكتوريا، وهما «تنسن» و«براوننج» فقد بقي علينا أن نذكر شاعرين آخرين أو ثلاثة جاءوا في الشطر الثاني من العصر، ولم يكونوا من تفاهة الشأن بحيث لا يجدون مكانا في هذا التاريخ.

ومن هؤلاء «ماثيو آرنلد» الذي عرف شاعرا وناقدا، وهو في شعره أقل إنتاجا وأقصر مدى من زميليه «تنسن» و«براوننج»، ولكن لعله أوضح منهما دلالة على ما تعاور العصر من تحلل في قوة الإيمان؛ فهو - مثل «براوننج» - قد انغمس في الحياة الاجتماعية حتى أعماقها، لكنه لم يحاول - كما فعل «براوننج» - أن يدخل هذه الحياة الاجتماعية في شعره، وجعل ميدان ذلك نثره الذي يدل على بصيرة نافذة، وملاحظة دقيقة، وتحليل بارع لكل ما يدور في العقل الإنساني من خواطر ونزعات.

تلقى أول مراحل تعليمه في مدرسة «رجبي» التي لا يزال ذكرها يدوي في كتب التربية بفضل المشرف عليها إذ ذاك، وهو «تومس آرنلد» والد الشاعر، فالولد والوالد كلاهما ممن تحتفظ لهم إنجلترا في العهد الفكتوري بالفضل العظيم. ثم استأنف «ماثيو» دراسته في أكسفورد حيث برز ودل على قدرة ونبوغ جعلاه موضع التكريم من الجامعة. ثم غادر أكسفورد ليشتغل بالتدريس حينا ثم عين كاتما لسر وزير المعارف في عهده، ولم يلبث أن نصب مفتشا للتعليم، وفي هذا المنصب قضى خمسة وثلاثين عاما كان له فيها اليد الطولى في كثير من الإصلاح، ولا تزال كتبه وتقاريره في شئون التربية مما يشار إليها بالإجلال والتقدير. ومات في نحو الخامسة والستين من عمره وهو لم يزل شابا في روحه وتفكيره وطلاوة حديثه، فقد قال عنه عارفوه إنه كان نعم الصديق المهذب الوفي المرح.

كان لأبيه بيت في منطقة البحيرات قريب من موطن «وردزورث» فكان «ماثيو» يقضي عطلاته المدرسية مع أبيه في هذا البيت؛ وبهذا أتيح له أن ينظر بعينيه ما كان «وردزورث» قد رأى من مفاتن الطبيعة، وأن يسمع بأذنيه ما كان «وردزورث» قد سمع من أنغامها، فلا عجب أن رأيناه فيما بعد يقدم للعالم «وردزورث» مشروحا منقودا ليفتح الأعين والآذان لما في شعره من جمال، ولا شك أن قد كان لهذا كله أثره العميق في شعره كلما شعر.

كان «ماثيو آرنلد» متزمتا في نشر شعره، حريصا على ألا يبدو للجمهور إلا وهو في كماله، وكان ينشر دواوينه أول الأمر دون أن يذكر اسمه على غلافها، مكتفيا بأن يقول «بقلم أ.» صنع ذلك مرتين متواليتين، ثم حدث فيما بعد أن جمع قصائد الديوانين في ديوان واحد وأصدره باسمه كاملا، وأضاف بعض القصائد الجديدة التي لم تكن قد نشرت، أهمها «زهراب ورستم»

18

ثم عقب على هذا الديوان بديوان آخر.

عين «ماثيو آرنلد» بعد ذلك أستاذا للشعر في أكسفورد، ولما كان في عامه الثالث بعد الأربعين أصدر كتابه المشهور «مقالات في النقد»

19

الذي قيل في التعليق عليه إن «آرنلد» لم يكن في هذا الكتاب ناقدا للأدب وكفى، بل علم الناس كيف ينقدون؛ إنه وضع للنقد أصولا وقواعد حتى لم يعد عذر لمن قرأ كتابه هذا ألا يكون ناقدا.

كان «ماثيو آرنلد» يتخذ لنفسه مكانا وسطا بين الشك والإيمان، فلا هو بالشكاك الذي يهدم العقائد بجرة من قلمه، ولا هو بالمؤمن الذي يعتقد بغير تفكير وتردد؛ لذلك كنت تراه يكثر التأمل في العقائد السائدة، لعله يستطيع أن يتبين فيها الصحيح والباطل، فكل قارئ من هؤلاء الذين يتشككون ولكنهم لا ييئسون، يتشككون وفي أنفسهم رغبة صادقة أن يجدوا ما هو جدير بالإيمان الصحيح، كل قارئ من هؤلاء سيجد التعبير عن وساوس نفسه في شعر «ماثيو آرنلد».

استمع إليه يقول في قصيدته «ساحل دوفر»

20

حين استثار صوت البحر تأملاته:

إن «بحر الإيمان»

كان ذات يوم مثلك يا بحر مترعا حتى حوافيه، وكان يمتد

حول شطآن الأرض كأنه الثنايا في ثوب ناصع مطوي.

أما الآن فلست أسمع

إلا زئيره الكئيب ذا الصوت المديد الرهيب،

أسمع زئيره ينسحب ليتصل بأنفاس

رياح الليل التي تهب على أطراف الأرض الفسيحة المخيفة،

وعلى الفيافي البلقع من أصقاع الأرض؛

إيه يا حب! لنخلص الود •••

أحدنا للآخر! فهذا العالم الذي أراه

يمتد وراءنا كأنه أرض الأحلام

في تنوعه وجماله وجدته

ليس يحتوي في حقيقته على هناءة أو حب أو ضياء،

ليس يحتوي على يقين أو سلام أو معونة عند الألم،

ونحن ها هنا كأننا على سهل معتم

شاع فيه مضطرب المفازع من عراك وقتال،

حيث الجحافل الغاشمة يصدم بعضها بعضا في ديجور المساء! (4) تشارلز سونبرن

Charlss Swinburne (1837-1909م)

هذا رجل فريد في شخصيته، فريد في شعره؛ أبواه من علية القوم، لم يشذا في وجه من وجوه الحياة، أما الابن فقد جاء ذا شذوذ يستوقف النظر، شذوذ في هيئة جسمه وشذوذ في سلوكه؛ فيروى عنه أنه كان يساكن قسيسا وزوجته، وذات مساء حلا له أن يقرأ لهما رواية تمثيلية كتبها، فوجه إليه القسيس نقدا في بعض أجزائها؛ فما هو إلا أن حدج الشاعر بنظره فترة، ثم صرخ صرخة داوية وأسرع إلى غرفته في الطابق العلوي، حيث ضم مخطوط روايته إلى صدره، وظل يذرع الغرفة جيئة وذهوبا، وعبثا حاولت زوجة القسيس أن ينزل لعشائه، ولبث طول الليل في غرفته يتحرك ويحدث أصواتا تدل على حالة عصبية شديدة، خشي الزوجان أن تؤدي به إلى خطر. فلما أن كان الصباح استيقظ متأخرا ونزل شاحب اللون، ولما هم القسيس أن يعتذر عما بدر منه، أجابه الشاعر بأنه أشعل نارا في مدفأته وأحرق الرواية كلها ورقة ورقة، فارتاع القسيس لهذا النبأ، فقال له الشاعر: «لا عليك فقد سهرت الليل كله وكتبت الرواية من ذاكرتي مرة أخرى.» ذلك هو الرجل العجيب الذي أراد له الله أن ينشد للناس شعرا عجيبا.

في نحو الثلاثين من عمره ظهر له ديوان «قصائد وحكايات منظومة».

21

الذي لو لم يكن له سواه لضمن له المجد في دولة الشعر؛ لكنه قوبل بالسخط لأنه - في رأي القوم عندئذ - قد خرج عن مألوف القول العف، والعصر الفكتوري معروف بتمسك أهله بكثير من آداب القول والسلوك في المجتمع؛ فاضطر الناشر أن يجمعه من المكتبات، فتصدى لإصداره ناشر آخر. ومن القصائد التي عدت إفكا وعارا قصيدة «دولورس»

22

التي رمز بها «سونبرن» للنساء اللاتي يستخدمن جمالهن ليجذبن المحبين إلى قضائهم المحتوم، مع أن الشاعر قد رمى بها إلى غاية خلقية - ذلك لو طالبنا الشاعر أن تكون له غاية سوى التعبير عما يجيش في نفسه كائنا ما كان - إذ أراد أن يبين أن أمثال هؤلاء النسوة ينتهين مع ضحاياهن إلى نفس الهاوية:

جفون باردة تخفي - كالجوهر المكنون -

عيونا صلابا تلين سويعة،

وأطراف بيض ثقال، وفم

أحمر قاس كأنه الزهرة المسمومة؛

إن ذهبت هذه عنك وذهبت معها مفاتنك

فماذا يبقى عندئذ لديك يا «دولورس»؟

ثم صدر له ديوان آخر عنوانه «أناشيد الفجر»،

23

وعقب عليه بحلقة أخرى من «قصائد وحكايات منظومة» وهو أقل جودة من الجزء الأول. ثم أخذ بعد ذلك يصدر منظومات طويلة واحدة في إثر واحدة، تدهورت فيها شاعريته رويدا رويدا؛ فقد بقي له اللفظ سلسا دفاقا، لكن غابت عنه موسيقاه، وهي التي وضعته في الصف الأول من شعراء الإنجليز. وإذ كان إنما يمتاز بموسيقاه، نرى عبثا أو كالعبث أن نترجم له مختارات من شعره؛ لأننا إن فقدنا في الترجمة نغمات ألفاظه وأوزانه فقد فقدنا كل شيء. ومع ذلك فهذه أمثلة من شعره، من قصيدة «أغنية المسير»

24

التي يصح أن يتغنى بها قادة الإنسانية في سيرها نحو الكمال:

نحن أخلاط من شتى البلاد،

مرادنا بالسير غرض قصي،

في القلوب والشفاه والأيدي

عدتنا: عسكر وقسي.

ضياؤنا تخبو له الشمس والبدر والكوكب الدري. •••

ضياؤنا لا يعتوره توهج وأفول

مع السنين، وكلما دارت في السماء أفلاكها،

الزعازع لا توهي ولا تديل

قوة وحدت في الشعلة أجزاءها،

شعلة تستمد لنا الضوء من روح ربها.

وهذه «منظومة أرض الأحلام»:

25

أخفيت قلبي في عش من ورود،

أخفيته هنالك من أشعة الشمس،

أرقدته على فراش أندى من القطن المندوف،

تحت الورود أخفيت قلبي.

لماذا لا يأخذه النعاس؟ لماذا ينتفض يقظان

وليس على شجرة الورد ورقة تتحرك؟

ما الذي جعل النعاس يرف بجناحيه مبعدا عني؟

لعلها أنشودة طائر خفي! •••

قلت يا قلب اسكن إن الريح أرخت جناحيها،

والأوراق الحنون ترد عنك شعاع الشمس إن قسا.

اسكن يا قلب فقد غفت الريح على البحر الدفيء؛

الريح التي هي أشد منك قلقا!

أفيك يا قلب فكرة تؤرقك كأنها وخزة الشوك؟

أما تزال تتحرق لآمال عنك تنأى؟

ماذا يبعد الكرى عن جفنيك؟

لعلها أنشودة طائر خفي! •••

أرض الأحلام السندسية اسمها مغلق بطلسم سحري

لم يره قط رحالة مخطوطا على مصوره،

وعلى أشجارها الشهد كأنه الفاكهة الشهية

لم تعرفه قط أسواق البائعين بين السلع،

وعصافير الأحلام تنطق على مروجها المعتمة،

وأنغام النعاس تنبعث من أعالي الشجر،

ليس ثمة كلب للصيد يوقظ بنباحه الظبي في الغابة،

ليس ثمة إلا أنشودة طائر خفي! •••

في عالم الأحلام اخترت موضعي،

حيث أغفو من الدهر حينا لا أسمع لفظا

عن حقيقة الحب الحق، أو فنون الحب الطائش،

لا أسمع إلا أنشودة طائر خفي. (5) دانتي جبرائيل روزتي

Dante Gabriel Rossetti (1828-1882م)

ولد «روزتي» في لندن لأب شاعر كان أستاذا للأدب الإيطالي في جامعة لندن؛ وحسبك أن تلقي نظرة على صورته لتعلم أن شاعرنا تجري في عروقه الدماء الإيطالية؛ فهو إنجليزي في ربعه، إيطالي في ثلاثة أرباعه. وكانت أخلاق أوروبا الجنوبية بادية في شخصيته وسلوكه، تراها واضحة في سرعة انقلابه وحدة انفعاله؛ فهو الآن يضحك من كل قلبه كأنه الطفل الغرير، وهو الآن في ثورة من الغضب لا يستطيع كبح جماحها.

كان «روزتي» شاعرا ومصورا في آن معا، وبدت فيه مخايل الفنين إذ كان غلاما في عامه الخامس عشر. ولم تكتمل سنته الحادية بعد العشرين حتى كان الفتى مصورا معروفا يرسم بريشته لوحات عليها طابعه ولا يدرك غايتها منافس. وكذلك لم تكتمل سنته الحادية بعد العشرين حتى كان الفتى شاعرا معروفا ينشد القصائد عليها سمته، وتجد مكانها بين جيد الشعر. بل كان الفتى أكثر من مصور وشاعر؛ كان زعيما لمدرسة في الفن ألف أعضاءها ورسم لها الطريق، يتلخص برنامجها في محاولة رسم الطبيعة بكل تفصيلاتها. وللمصادفة أحيانا تدبير محكم؛ فقد تصادف أن كانت أم شاعرنا الفنان تسير في أحد الشوارع الكبرى في لندن وفي صحبتها صديق لابنها فنان، وصادفتهما فتاة ود الفنان الشاب لو جلست ليصورها، وطلب من الأم أن تعرض على الفتاة أمنيته هذه، ورضيت الفتاة، وكان ما تمنى الفنان، ثم كان شيء غير ذلك، كان أن رسمها أيضا «روزتي» فأحبها فتزوج منها. ولو زرت متحف الفن في لندن لوجدتها مصورة بريشة زوجها في أوضاع عدة. ولم يمض على هذا الزواج الذي نسجته وربطت عراه أيدي الفن عامان حتى لقيت الزوجة حتفها، ووقف الزوج الشاعر إلى جانب تابوتها وفي يده مخطوط شعره كله الذي نظمه حتى ذلك الحين، ثم قال إن في سبيلها كان ذلك الشعر قد أنشد، ومعها إلى قبرها لا بد لذلك الشعر أن يمضي، ودفن الشعر مع من أوحت به في قبر واحد. ومضت أعوام قبل أن يلح الأصدقاء على «روزتي» ألا يدع تلك الدرة الثمينة في ظلمة القبر لا تشهد نور الحياة، ووافق الشاعر بعد إلحاح الأصدقاء أن يفتح قبر زوجته وأن تسترد القصائد الدفينة بين جدرانه. وطبع الديوان وطالعه الناس فطالعوا شعرا جميلا، وكان ذلك والشاعر في الثانية والأربعين من عمره. وبعد عشر سنوات أصدر ديوانا آخر يدور معظمه على الحب، ومعظم قصائده مليئة بالمعاني إلى حد الغموض؛ مما دعا الشاعر أن يعتزم شرح ديوانه بنفسه، ولو أنه لم ينفذ ما اعتزم؛ مما دعا أخاه أن ينثر ديوان أخيه ليفهم القراء معانيه!

قال في قصيدته «العذراء المباركة»:

26

العذراء المباركة أطلت برأسها

في السماء عبر الحاجز الذهبي؛

كانت عيناها أعمق من البحر العميق

إذا ما سكنت ساعة الغروب،

وكان في يدها ثلاث سوسنات

وفي شعرها أنجم سبعة. •••

ذلك الحاجز يمتد في السماء عبر غمر

من الأثير، كأنه الجسر؛

وفي أسفله ترى مد النهار وجزر الليل

يتتابعان من نور وظلام، فيكونان

للخلاء إطارا؛ في أسفله حيث هذه الأرض

تدور حول نفسها كأنها الحشرة الغاضبة. •••

ومن مقامها في السماء رأت

الزمن - كأنه النبض - يهتز في عنف

خلال سائر الأكوان؛ وظلت تجاهد بنظراتها

أن تعبر بها فجوة الخليج،

ثم قالت في صوت رخيم

كأنه ألحان الكواكب في دورات الفلك: •••

سيقدم إلي حبيبي وجلا، وسيكون من خوفه معقود اللسان؛

عندئذ سأضع خدي

على خده وأقص عليه قصة حبنا،

حبنا الذي عف عن الخجل ولم يعتره الضعف مرة،

وستصادف عزة نفسي من «أمنا» العزيزة

قبولا، وستأذن لي بالكلام. •••

ستأخذنا بنفسها ونحن سائران يدا في يد

إلى «الله» الذي حول عرشه تجثو

أرواح العباد؛ وحيث الرءوس الطاهرة التي لا حصر لعدها

تنحني وحولها هالات من النور،

فإذا ما التقت بنا الملائكة غنت

الألحان والأناشيد. •••

حدقت بنظرها وأصغت ثم قالت

في صوت تغلب على نغمته الحزينة رقته: «سيحدث هذا كله عند مقدمه.» وأمسكت عن الحديث

واهتزت موجات الضياء تجاهها

وعليها الملائكة صفوفا صفوفا سابحين،

وخشعت عيناها لله وابتسمت. ••• «ورأيت ابتسامتها» وسرعان ما

غمض أمام عيني طريقهم في الأفلاك النائية،

ثم طوحت بذراعيها حذاء

الحواجز الذهبية،

ووضعت وجهها بين كفيها

وبكت «وسمعت بكاءها».

وكان للشاعر أخت شاعرة تصغره بعامين، هي «كرستينا روزتي»،

27

التي عاشت حياتها في عزلة، يفيض منها الشعر كأنه الماء ينبثق من نبعه؛ مما ينهض حجة على فطرتها الشاعرة. فمن رأي «فيكتور هيجو» أن قول الشعر إما يسير وإما مستحيل ولا وسط بين الطرفين، ومن رأي «كيتس» أنه إذا لم يفض الشعر بطبيعته كما تورق الشجرة بطبيعتها فخير للشاعر ألا يحاول الشعر إطلاقا، ولو أخذنا سهولة فيض الشعر مقياسا للشاعرية لما وجدت أشعر من «كرستينا روزتي» أخرجت ديوانين، الأول: «سوق العفاريت وقصائد أخرى».

28

والثاني: «رحلة الأمير»؛

29

وهي في قصيدة «سوق العفاريت» التي سمت باسمها الديوان الأول تروي قصة فتاتين قابلتا جماعة من العفاريت إلى جانب مجرى ماء في غابة، واشترتا منهم بخصلة من الشعر الذهبي عددا من الفاكهة السحرية، أكلت منها إحداهما ورفضت الأخرى؛ أما التي أكلت الفاكهة فأخذت تذبل وتذوي؛ مما دعا أختها، رغم ما كان يملأ قلبها من رعب وخوف، أن تعود إلى جماعة العفاريت فتظفر منهم بدواء يرد للبنت المسحورة العافية.

وأما «رحلة الأمير» فقصة تروى عن أمير بدأ رحلته في سبيل عروسه، وكان وحيدا وكانت الطريق شاقة مليئة بالعقبات والصعاب، والعروس من ناحيتها ترتقب قدومه في صبر نافد، وحيدة في قصرها المعزول. فيلاقي الأمير في رحلته بائعة لبن هي في حقيقتها ساحرة تعرقل له السفر، ثم يصادف رجلا هرما في كهف يحاول أن يستخرج بعلمه في الكيمياء من النحاس ذهبا. وينجح الشيخ في أن يوقف الفتى حينا ينفخ له النار، ثم يقطع عليه الطريق بعد ذلك فيضان كاد يغرقه؛ حتى إذا ما بات على مقربة من قصر عروسه رأى جنازتها سائرة بجسدها نحو قبرها؛ فقد أضناها الانتظار حتى جاءها الموت.

ومن شعرها:

إذا مت يا حبيبي

فلا تغن من أجلي حزين الغناء،

لا تزرع عند رأسي ورودا،

كلا ولا السرو الظليل،

فحسبي أخضر العشب فوق رأسي

بليلا بقطرات المطر والندى،

وإن شئت فاذكرني،

وإن شئت فانسني، •••

لن أرى بعد الظلالا،

لن أحس بعد المطر،

لن أسمع بعد صوت البلبل

إذ يغني كأنما يبث الألم،

فبينا أنا حالمة في شفق

لا يعقبه شروق أو غروب

ربما عاودتني الذكرى

وربما طال نسياني. (ب) القصة (1) تشارلز دكنز

Charles Dicknes (1812-1870م)

قل ما شئت فيما أنتجه القرن التاسع عشر من شعر وتاريخ، وقل ما شئت فيما أنتجه من أدب النقد وأدب المقالة، فسيتخذ القرن التاسع عشر مكانته في تاريخ الأدب باعتباره عصر القصة، ذلك إن أردت أن تجمع القرن كله في حكم واحد. وحسبك أن تذكر أنه عصر شهدت فاتحته «سير وولتر سكت» وأنتجت أواسطه «تشارلز دكنز» و«وليم ثاكري»

30

اللذين يوضعان في طليعة الطليعة من كتاب القصة في الأدب الإنجليزي.

ولد «تشارلز دكنز» عام 1812م في «بورتسموث» من أب كان يشتغل كاتبا في أرصفة الميناء، ولم يلبث أبوه أن فقد مورد رزقه هذا؛ مما انتهى بالأسرة إلى كثير من ألوان العسر والعناء، ووجد هذا صداه في صدر أديبنا حين حمل القلم ليكتب؛ فأبوه هو «مستر مكوبر»

31

تلك الشخصية الرائعة التي صورها «دكنز» في قصة «ديفد كبرفيلد»

32

التي تعد من خيرة إنتاجه، والتي هي إلى حد كبير ترجمة لحياته.

لم يتلق «تشارلز دكنز» تعليما مدرسيا منظما، إنما لقف العلم من هنا وهناك، ثم كان مصدر معرفته فوق كل شيء هذا الذي لاحظه بعينيه من حياة الناس في الطرقات والدور. ولما بلغ السابعة عشرة من عمره استخدم مخبرا لإحدى الصحف، لكنه لم ينشر شيئا قبل سنته الثانية والعشرين؛ وبعدئذ أخذ يبعث للمجلات الأدبية مقالات يغلب عليها الوصف والخيال. جمعت فيما بعد، وأطلق عليها: «صور بريشة بز»

33

ثم بدأ بعد ذلك بقليل في نشر «صحائف بكوك»

34

التي كتبت له الشهرة والذيوع في عالم الأدب، ودرت عليه مالا جعله منذ ذلك الحين في ميسرة من العيش حتى ختام حياته، وقد جاء هذا الختام لحياته بغتة في شهر يوليو من عام 1870م، وهو أكمل ما يكون في قواه العقلية، وأوسع ما يكون الأديب شهرة بين أهل عصره.

وأهم ما خلفه لنا «دكنز» غير ما ذكرنا: «أولفر توست»

35

و«حانوت التحف»

36

و«مارتن تشزلوت»

37

و«قصة مدنيتين»

38

و«آمال ضخام».

39

ولأديبنا «دكنز» حسنات ومساوئ، كلاهما واضح لا ينكره إلا مغرض؛ ففي القدرة على الوصف، وبخاصة وصف مناظر المدن، ليس له بين رجال القلم ضريب، لو صور لك لندن بطرقها ودكاكينها وضبابها، أو لو صور لك دخيلة منزل أو غرفة لما تركك في حيرة أأنت بصدد وصف مقروء أم واقع منظور ملموس! ثم هو لا يقدم لك مناظره هذه خاوية خالية من آهليها، بل يملؤها لك بالشخصيات ذوات الطوابع المميزة التي تجعلهم أحياء بين الأحياء، ثم هو يحمل هذه الصورة التي رسمها، وهذه الشخصيات التي تعمرها وتحييها، فيحيطها لك بإطار من فكاهة هو في فنها علم من أعلامها. لكنك لا تعدم ناقدا يتوجه نحو ذلك كله بنقده فيقول: إن الصورة لا شك في صدقها، وإن الأشخاص لناس أحياء، لكن الكل في مجموعه أقرب إلى عالم خيالي نسجه الكاتب على منوال يختلف عن المنوال الذي تنسج الحياة الواقعة عليه ديباجتها. ومهما يكن من أمر فقد كان المحيط الاجتماعي الذي يتحرك فيه خيال الكاتب هو القسم الأدنى من الطبقة الوسطى، برع في تصويره براعة جعلت حياة هذه الطبقة ماثلة في أذهان القراء، وحفزت أولي الأمر في عصره على إصلاح الفاسد من تلك الحياة. والعجيب أنه إذا ما حاد قيد أنملة عن هذا المحيط الاجتماعي في قصصه، كان المخطئ العاجز الذي لا يكاد يقول صوابا؛ وفي هذا أكبر سيئات فنه. وربما وجدت بين النقاد المعجبين من يزعم لك أن «دكنز» قصر فنه على أهل طبقته لأنه لم يرد أن يخوض في سائر الطبقات، ولو أراد لمهر، لكن ذلك دفاع العين الراضية التي هي عن كل عيب كليلة؛ لأن «دكنز» حاول أن يجاوز حياة الطبقة الدنيا من الطبقة الوسطى فكان نصيبه الفشل، وجاءت شخصياته في هذا الباب أمساخا لا تجد لها حياة واقعة تحيا فيها وتتحرك. وكذلك مما يؤخذ على «دكنز» أنه لم يكن برجل الفكر الذي تدق عنده الفكرة وتعلو، وأن قدرته كلها تكاد تتركز في نوع واحد من الناس، بل في سن واحدة هي سن الشباب. وآياته الكبرى بين إنتاجه العظيم، ثلاث، هي: «صحائف بكوك» و«ديفد كبرفيلد» و«آمال ضخام». (2) وليم ثاكري

William Thacheray (1811-1863م)

ولد «ثاكري» في كلكتا بالهند، ومات أبوه والوليد ما يزال في خامسته، فلما تزوجت أمه من غير أبيه، أرسل إلى أرض الوطن حيث لم يلبث أن أخذ في الدراسة التي انتهت به إلى كيمبردج، لكنه غادرها ولم ينل فيها الدرجة الجامعية. وبعدئذ سافر إلى ألمانيا حيث طوف بأرجائها حينا، ثم استقر ليأخذ في دراسة القانون، لكنه سرعان ما فقد ثروة قليلة ورثها؛ فأصبح حتما عليه أن يشتغل ليكسب القوت، فأدلى بدلوه في عالم الصحافة، ولم يكفه أن يكتب ويؤجر، بل أخرج صحيفة لنفسه وضع فيها كل ما بقي له من مال. ثم ذهب إلى باريس حيث كانت عندئذ أمه وزوجها يعيشان، وبدأ في دراسة فن التصوير الذي كان ينزع إليه بطبعه أكثر مما ينزع إلى الأدب، لكنه لم يطل به المقام هناك، وعاد إلى لندن وألقى عصاه، لا يكاد ينقطع عن الكتابة لهذه وتلك من صحف العصر، لم يفرق بين أعلاها وأدناها.

لم يبلغ «ثاكري» أوج شهرته الأدبية إلا بعد أمد طويل، وهو في ذلك يختلف عن زميله «دكنز» الذي قفز إلى الذروة بوثبة واحدة. كما يختلف الأديبان في تدرج النضج الفني، فبينا تجد أدب «دكنز» أوله كآخره جودة، ترى «ثاكري» على عكس ذلك قد أخذ يتدرج نحو كماله الفني بحيث يرتفع في كل خطوة عن سابقتها. وجاوز «ثاكري» عامه الخامس بعد الثلاثين ولم يكن قد انفسح أمامه الأمل بعد في أن يمتاز بين الناس بأدبه.

ثم دارت عجلة الزمان بعد ذلك ودار معها حظ الأديب، وكانت نقطة التحول ثلاثة مؤلفات أخرجها فغيرت وضعه في أعين القراء والنقاد، أهمها جميعا «سوق الغرور»

40

التي أرغمت رجال النقد إرغاما أن يعترفوا لها بالجودة والنبوغ؛ وحكم لثاكري في نهاية الأمر أنه في القصة من الطراز الأول، وعادت عليه «سوق الغرور» فوق الشهرة بمال يسر له سبل العيش. وبعدئذ أخذت جياد قصصه تترى، فهذه «بندنس»

41

وهذه «إزمند»

42

إلى آخر ما أخذ يخرجه حتى نهاية حياته من جيد ممتاز.

ومن أبرز السمات التي تطبع أدب «ثاكري» أنه واضح المعالم والحدود؛ فهو في أسلوبه متميز من سواه بحيث لا تكاد تخطئه، ثم هو في شخصياته التي يخرجها أصيل لا يحاكى، ويخلق الشخصية واضحة القسمات فريدة الطباع. أسلوبه ساحر لكنه لا يسلم من الأخطاء، يكتب وكأنه يحدث شخصا يستمع إليه، ومن هنا تراه كأنما يجيب على كل ما يعترض به محدثه؛ فكان من أثر ذلك أن جاءت عباراته كثيرة الانحناءات تنعرج يمينا ويسارا في سرعة تملؤها حياة، وترغم القارئ على أن يرهف السمع، وأن يكون في وعي ويقظة ليتابع المتحدث كلما انعرج به ذات اليمين أو ذات اليسار. قد تجد من الكتاب من يعطيك العبارة الفخمة الجزلة الرنانة المصقولة، فتستمع إليها معجبا، لكنك لا تخلو إزاءها من الشعور بأنها تمثال جميل خال من الحياة، حلية للزينة لا للسير والحركة؛ وهذا ما لا تجده عند «ثاكري» الذي لا يسعك وأنت تقرؤه إلا أن تحس بأنك أمام شخص حي نابض متحرك نشيط، لست تقف إزاء أسلوبه موقف المتفرج على تحفة رائعة لكنها على روعتها شيء منفصل عنه، بل لا بد أن ينشأ بينك وبين ما تقرؤه تجاذب وتعاطف وتبادل أفكار.

ولئن كان «دكنز» مصور الطبقة الدنيا في عصره، فقد كان «ثاكري» مصور الطبقة العليا، وإن خلد «دكنز» في تاريخ الأدب بشخصية مثل «مستر مكوبر» فسيخلد «ثاكري» بهذه الشخصية البديعة الرائعة، شخصية «بكي شارب»

43

في قصته «سوق الغرور». (3) شارلت برنتي

Charlotte Brontë (1816-1855م)

اخترنا «شارلت» عنوانا لهذا القسم، لكننا نريد أن نكتب عن الأخوات الثلاث معا: «شارلت» و«إملي»؛

44

و«آن»

45

فهؤلاء الأخوات الثلاث مما يستوقف نظر القارئ لتاريخ الأدب، لأنهن مثال نادر لتشابه أفراد الأسرة الواحدة في النبوغ؛ إذ برعن جميعا في كتابة القصة، بل كان لهن أكبر الأثر في أن تتخذ القصة من بعدهن اتجاها جديدا.

أخرج الأخوات الثلاث متعاونات أول ما أخرجن ديوانا مشتركا، وضعن عليه ثلاثة أسماء غير أسمائهن، فلم يدع هذا الديوان إلى نقد ولا تعليق، لأنه لم يكن ذا قيمة تستحق الذكر في معظم أجزائه؛ فحاول الأخوات بعدئذ أن يتجهن بأقلامهن نحو القصة، وهنا وجدن أنفسهن على حقيقتها؛ فكتبت «شارلت» قصة «الأستاذ»،

46

وكتبت «إملي» قصة «مرتفعات وذرنج»،

47

وكتبت «آن» قصة «أجير ولدفل»؛

48

ومن هذه القصص جميعا كانت قصة «إملي» أروعها وأبرعها، فلا «آن» قد لحقت بأختها نبوغا، ولا «شارلت» قد أظهرت كل نبوغها المنتظر في قصتها «الأستاذ»، ثم أخرجت «شارلت» بعدئذ قصة «جين إير»

49

ثم قصتين هما «شيرلي»

50

و«فيلت».

51

لم تكن «أخوات برونتى» - الأخوات الثلاث - غزيرات الإنتاج، ولا هن طالت بهن الحياة ليكتبن أكثر مما صنعن، ومن هنا كانت صعوبة الناقد، ماذا كان يئول إليه أمرهن لو امتدت بهن الحياة؟ أذلك مدى نبوغهن أم كان ينتظر لهن نبوغ فوق هذا النبوغ؟ ومهما يكن من أمرهن فقد كن في وسط القرن التاسع عشر نقطة تحولت عندها القصة إلى الواقع شيئا ما بعد إغراق في الخيال طبع به الابتداعيون جميعا.

وأي واقع لجأ إليه هؤلاء الأخوات؟ واقع نفوسهن وتجربتهن الشخصية، وهنا موضع براعتهن وقصورهن في آن معا؛ أما البراعة فلأن التجربة الشخصية أصدق ما تلجأ إليه من موارد القول ، وأما القصور فلأنك إن قصرت نفسك على تجربتك فلا بد لك في نهاية الأمر أن تستنزف معينك وتبدأ حيث تنتهي. والأديب الفحل يستطيع أن يجد كتابا مفتوحا في كل شخص حي إلى جواره؛ فهذه «شارلت» في قصتها «جين إير» تكاد تؤرخ حياتها في دقة توشك معها أن تسمي أشخاص قصتها بأسمائهم في الحياة، وفي قصتها «شيرلي» تصور أختها «إملي» وما تحسه نحوها من حب وغيرة.

ليس نقصا في كاتب القصة أن يستمد من تجربته، بل حتم عليه أن يجعل تجربته الشخصية معينا، هكذا صنع أئمة القصة في الآداب كلها. لكن كاتب القصة لا يستطيع ما يستطيعه الشاعر، وهو أن يكون قلبه معينه الأوحد، لأن ذلك ينتهي به حتما - كما قدمنا - إلى ضحولة وجفاف؛ فلزام عليه أن يضيف إلى نفسه نفوس من حوله، وذلك ما لم يكد يفعله الأخوات الثلاث، ونريد أن نختم حديثنا عن القصة بذكر سيدتين أخريين، أولاهما: (4) مسز جاسكل

Mrs Gaskell (1810-1865م)

التي كانت صديقة «شارلت برونتي» والتي أرخت لحياتها؛ فقد استطاعت في قصتها «مارية بارتن»

52

أن تصور الحياة في المدن الصناعية الواقعة في شمالي إنجلترا أبدع تصوير وأصدقه. وبعد سنوات خمس من إخراج قصتها تلك، أصدرت خير آثارها الأدبية؛ قصة «كرانفورد»،

53

وفيها أبدعت ريشتها لوحة دقيقة للحياة العائلية في إنجلترا إبان القرن التاسع عشر.

وثانيتهما: (5) جورج إليت

George Eliot (1819-1880م)

وهي امرأة تسترت في قصصها وراء اسم من أسماء الرجال، فهي «مارية آن إيفنز»

54

لكنها نشرت قصصها باسم «جورج إليت».

بدأت الكاتبة حياتها الأدبية بترجمة عن الألمانية، فنقلت «حياة المسيح» للكاتب الألماني «ستراوس»؛

55

ثم اشتغلت محررة في مجلة أدبية وكان أهم ما تنشره أدبا ألمانيا مترجما أو تعليقا على الأدب الألماني. وقد كانت كاتبتنا عميقة الثقافة واسعة الأفق، لكنها في الوقت نفسه لم تكن على كثير من الجمال. ومما يجدر ذكره عنها أن «هربرت سبنسر» الفيلسوف الإنجليزي، قال في ترجمة حياته التي كتبها بقلمه إنه فكر في الزواج منها، لكنه على الرغم من أنه فيلسوف يحب في زوجته أن تكون على شيء من الجمال. وانتهى أمر «مارية» أن تعيش مع ناقد أدبي في بيت واحد عيش الصديقين، ثم تزوجت آخر الأمر بعد وفاة صديقها الناقد، ولم يطل زواجها أكثر من عام وبعض عام لأن حياتها لم تطل أكثر من ذلك.

كان أول ما أخرجته «مارية» باسمها المستعار «جورج إليت» قصة نشرتها تباعا في مجلة أدبية، ثم أخرجت بالاسم نفسه خير قصصها «آدم بيد»

56

وفيها انتفعت بخبرتها الواسعة بالناس وحياتهم في وسط إنجلترا، وصورت حياتهم في شيء من الفكاهة التي تعطف على من تصف دون أن تسخر منهم. ومن قصصها المشهورة أيضا: «مصنع الحرير»؛

57

التي درست فيها علاقة أخ بأخته. ولها طائفة أخرى من القصص؛ بهذه تصور عهدها، وبتلك تصور عصر النهضة الإيطالية، وبثالثة تصور علاقة زوجة بزوجها، وهكذا. ومما هو جدير بالذكر أنها كانت في قصصها الأولى أجود منها في قصصها الأخيرة. (ج) التاريخ والنقد (1) تومس كارلايل

Thomas Carlyle (1795-1881م)

ولد لأب بناء، وكان أكبر أخواته التسعة. أرسله أبوه إلى مدرسة القرية، فإلى المدرسة الثانوية؛ ولما كان الفتى ذا نبوغ ظاهر قرر الوالد أن يبعث به إلى جامعة «إدنبره» ليتلقى تعليمه العالي في الدين إعدادا له ليكون فيما بعد قسيسا. وسار الفتى على قدميه من بلده إلى «إدنبره» وهي مسافة طولها مائة ميل، وبلغها وهو في الخامسة عشرة من عمره، لكن أين لهذا الصبي الفقير بمصروفات الجامعة؟ لا بد له أن يلجأ إلى ما يلجأ إليه أبناء الأسر الفقيرة عادة في اسكتلندة، وهو أن يشتغل ليكسب قوته إبان دراسته الجامعية؛ وأخذ كارلايل يشتغل بالتدريس بعض وقته، ثم ما لبث أن تبين في نفسه نفورا من هذا الذي أريد له أن يدرسه؛ فانحرف عن ذلك الطريق ليكتب مقالة هنا ومقالة هناك، ثم ليدرس اللغة الألمانية. وفي هذه الدراسة كانت ولادته الأدبية؛ فقد انفتحت له آفاق فسيحة حين قرأ «جيتي»، عرف أولا كيف يصوغ إنجليزيته صياغة ألمانية، ثم عرف ثانيا كيف يفكر.

لما بلغ «كارلايل» عامه الثلاثين جاء إلى لندن مربيا لأولاد أحد الأغنياء، ولم يمض طويل وقت حتى صادف من أصبحت له فيما بعد شريكة حياته؛ وبعد زواجه سافر إلى «إدنبره» حيث أخذ يكتب في النقد الأدبي، لكن الزوجين لم يجدا هنالك ما يقتاتان به فعادا أدراجهما إلى لندن، ومن ثم أخذ يخرج نتاجه الأدبي، «الثورة الفرنسية»

58

و«فلسفة الملابس»

59

و«الأبطال وعبادة البطولة»

60

و«الماضي والحاضر»

61

و«خطابات أولفر كرمول وخطبه»

62

و«تاريخ فردريك الأكبر».

63

وآيته الكبرى هي «الثورة الفرنسية» التي قص قصتها في صورة حية ناصعة؛ فكارلايل مؤرخ موهوب، يبعث الحوادث والأشخاص بعثا جديدا، فإذا أنت إزاء حياة تجري فيها الدماء وأشخاص يتحركون وينشطون كما يتحرك الأحياء وينشطون. ومن خصائصه في وصف الأشخاص أنه كثيرا ما يوفق إلى عبارة واحدة تلخص كل شيء عن الرجل الذي هو بصدد الحديث عنه. فرغ «كارلايل» من كتابة «الثورة الفرنسية» فأعار المخطوط إلى «مل» ليقرأه قبل طبعه، وحدث أن أعاره «مل» بدوره إلى سيدة تدعى «مسز تيلر» فألقت به خادمتها في النار ظنا منها أنه أوراق مهملة! ولم يكن عند «كارلايل» نسخة أخرى، ولم يستطع أن يستعيد بالذاكرة عبارة واحدة؛ فأخذ نفسه بكتابته من جديد! ولم ينقطع أسفه على الصورة الأولى لأنها كانت في رأيه أروع، وإن تكن زوجته تخالفه الرأي في هذا، فعندها أن الصورة الثانية أقل من الأولى حيوية لكنها أكثر تنسيقا وأنظم تفكيرا.

أما كتابه «فلسفة الملابس» فهو أكثر مؤلفاته تأثرا بالروح التيوتونية في أسلوبه وهو في هذا الكتاب يعرض رأيه بأن العمل واجب مقدس على الإنسان، وبأن احتمال المكاره في سبيله فرض واجب، وليست السعادة التي ننشدها جميعا إلا شعور الاطمئنان الذي نحسه إذا ما أدينا واجبا: «بارك اللهم فيمن وجد عملا يؤديه، إن في هذا وحده البركة التي لا بركة وراءها ترجى.» إن العمل المتقن معناه النظام، والنظام شيء تمناه «كارلايل» لبلاده بل للإنسانية جمعاء، متأثرا في ذلك بما درس من الأدب الألماني والروح الألماني؛ فلن تفهم «كارلايل» حق الفهم إلا إذا وضعت نصب عينيك أنه ألماني الثقافة، ألماني التفكير. ولقد قيل إن إنجلترا في عصر فكتوريا كانت ألمانية النزعة والاتجاه بتأثير الملكة فكتوريا نفسها وزوجها الألماني، لكنها كانت كذلك أيضا بتأثير «كارلايل» الذي كان له من الأثر على معاصريه ما لم يكن لكاتب آخر في عهده. نقول إنه في كتابه «فلسفة الملابس» عرض فلسفته هذه في صورة حديث عن الملابس يجري على لسان أستاذ ألماني متقلب الأهواء.

64

وكتابه عن «الأبطال» يصور البطولة في شتى نواحيها؛

65

بطولة الحرب وبطولة الدين وبطولة الشعر وهكذا. وهو في عبادته للبطولة وإيمانه بها يبشر بالفلسفة الألمانية أيضا؛ تلك الفلسفة التي كان «نيتشه» بعد ذلك لسانها الناطق، وهذه نزعة - ولا شك - تناقض الاتجاه الديمقراطي، لأنها لا تؤمن بقدرة العامة، وتضع أملها في النوابغ وحدهم. والحق أنه إذا سادت في أمة رغبة نحو تمجيد البطل ووضع قيادها كله في يده، فقل أن تنجح؛ لأنها - أولا - من العسير أن تجد البطل المنشود، وثانيا في بحثها عن بطلها تقتل كل بطولة في شعبها بمجموعه. وهو في كتاب «الماضي والحاضر» يعيد إلى الحياة حياة القرن السابع عشر الذي كان في رأيه عصر بلاده الذهبي. ثم هو في كتاب «فردريك الأكبر» يظهر روحه الألماني من جديد؛ مما جعله يتخذ من هذا الحاكم الألماني بطلا يشيد به.

في كل هذه الكتب كان «كارلايل» ذا أسلوب يستحيل أن تخطئ سماته وقسماته حتى لو لم تكن ذا دراية واسعة بالأدب الإنجليزي وخصائص أساليبه، لأنه أسلوب فريد في بابه؛ أسلوب يصب اللغة الإنجليزية في قالب تيوتوني ألماني كما قلنا؛ فهو يصف الأسماء بصفات طويلة التركيب، وهو يصوغ لنفسه أحيانا ألفاظا لم يعهدها الناس من قبل، وهو فوق كل شيء يركب عباراته تركيبا خاصا به، وينظم ألفاظه في عباراته تنظيما لا يشاركه فيه سواه، وللجمل عنده رنين وإيقاع يضيفان مادة جديدة إلى خصائص أسلوبه؛ وإن أنت أخطأت في أسلوبه كل هذا فلن يفوتك أن ترى بعينيك ما عرف به الكاتب من الإفراط في استعمال حروف التاج والفواصل، وحذف كثير من حروف العطف والضمائر وشتى الألفاظ التي يدرك أنه لو حذفها وأمعن القارئ قليلا في معنى ما يقرأ، لاتضح المعنى الذي يريد. (2) جون رسكن

John Ruskin (1819-1900م)

كان وحيد أبيه ، وأبوه تاجر غني للخمور. ولم يكد يسافر هنا وهناك من أنحاء البلاد حتى أدركت نفسه المتفتحة ما في الطبيعة من جمال وفتنة؛ لأنه كان قبل كل شيء شاعرا مرهف الحس للجمال يبدو في شتى صوره، في الطبيعة وآيات الفن على السواء. اذكر دائما أنك إزاء شاعر كلما قرأت له نثرا يصف به شيئا أو ينقد شيئا أدركت حقيقة الرجل في صميمها؛ فها هنا نحن بصدد رجل من المدرسة الابتداعية لا يفتنه الجمال يبدو للعين كما يفتنه الجمال يبدو للروح. هو إلى الصوفي الذي يحب في الأشياء روح الله الكامنة فيها، أقرب منه إلى العاشق الذي يحب من الأشياء ما يشبع الحواس؛ الجمال عنده - كما كان عند وردزورث - حبه عبادة روحانية لا نشوة المخمور.

رأى «رسكن» في رسوم «تيرنر»

66

التي صور بها مناظر الطبيعة، جمالا له من السحر ما للطبيعة نفسها، فاتجه إلى دراسة هذا المصور الفنان واتخذ منه أساس مذهبه، فمذهبه واقعي يريد لنا أن ننقل الطبيعة بحذافيرها نقل الأمين، مع اعترافه في الوقت نفسه بتفاهة شأن الدقائق والتفصيلات في ذاتها. وقد يبدو في هذا شيء من التناقض يزول بعد شرح قليل: الفن على اختلاف صوره ينبغي أن يعنى بالفرد لا بالعناصر المشتركة بين الأفراد، يحلل زيدا أو عمروا باعتباره فردا له خصائصه التي «يتفرد» بها، ولما كان زيد أو عمرو إنما «يتفرد» بتفصيلات يختلف فيها عن سواه من الرجال، كانت مهمة الأديب أن يتتبع هذه التفصيلات التي تجعل له فرديته متميزة من سواه. وقل مثل هذا في كل شيء تعنى به الفنون، سواء أكان منظرا يصوره الرسام، أو موقفا يصفه القصصي، أو شعورا يعبر عنه الشاعر؛ إذن فالتفصيلات هي بغية الفن، لا مقصودة لذاتها، بل لأنها هي وسيلة تصوير الأشياء الفردة في الحياة.

درس أديبنا فن «تيرنر» لأنه رأى فيه تعبيرا عن نفسه، وأخرج المجلد الأول من مؤلفه العظيم «المصورون المحدثون»

67

ثم أخرج «أحجار البندقية»

68

الذي يعد أعظم مؤلفاته، وهو دراسة لشتى آثار الفن في البندقية. وبعدئذ أخذ يصدر كتبا صغيرة يكتب فيها عن كل شيء، فهو يكتب في الاقتصاد حينا، وفي العلم حينا، وفي الفن حينا ثالثا، على أنها جميعا تسري فيها روحه، فلن تجد عنده فكرا دقيقا عميقا، لكنك ستجد شعورا قويا وتعبيرا رائعا، ستجده في كل ما كتب شاعرا.

كان رسكن ناقدا للفن، وكان رأيه أن الصورة الفنية تقاس جودتها بمقدار ما تحمل من معان. ولا شك أنه بذلك يخالف رأي أعلام الفن أنفسهم، الذين يرون القيمة معظم القيمة فيما تقتضيه الصورة من فن التصوير نفسه، بغض النظر عن الموضوع الذي تعبر الصورة عن معانيه؛ فن التصوير عندهم هو قبل كل شيء وسيلة نخلق بها جمالا، وينبغي أن يحكم على الصورة بما فيها من جمال؛ وإذن ف «رسكن» مخطئ حين جعل قياس التقدير ما وراء الصورة من معان؛ ولكننا نعود فنذكر القارئ أن رسكن لا يقرأ لصدق آرائه، إنما يقرأ كما يقرأ الشاعر، يقرأ لنرى كيف استطاع هذا القلم القدير أن يخرج شعوره الجياش أتم إخراج وأكمله. (د) الأدب الإنجليزي في أواخر القرن التاسع عشر

لما بدأ الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأ معه تحول في الأدب الإنجليزي، لأن الحياة الإنجليزية نفسها أخذت في التحول؛ وبهذا التحول في الحياة والأدب معا بدأت فترة لها سماتها وخصائصها، امتدت حتى بداية الحرب العالمية الأولى سنة 1914م.

كان الربع الثالث من القرن التاسع عشر - الفترة ما بين 1850 و1875م - فترة رخاء وازدهار في إنجلترا لا تكاد تجد له مثيلا في تاريخها، وكان من الطبيعي أن ينشأ عن هذا الرخاء والازدهار تفاؤل بالحياة عند الناس وثقة في مستقبل أمتهم؛ وإذا ما رضيت أمة عن نفسها وعن مستقبلها المأمول زال عنها القلق واستقرت، فاستقر تبعا لذلك أدبها وركزت أوضاعها. تلك الفترة من حياة الشعب الإنجليزي والأدب الإنجليزي هي صميم العصر الفكتوري، فلما أن تقضت تلك الفترة الهانئة بقرارها، الراضية بمثلها العليا؛ توالت الصدمات التي رجت حياة الناس رجا عنيفا؛ فارتجت له موازين الأدب وتغيرت مجاريه.

في أول الربع الرابع من القرن ذهب عن الإنجليز رخاؤهم فذهب يقينهم بأنفسهم وثقتهم بمستقبلهم؛ فهذه صناعتهم تنافسها أمم أقل منهم شأنا وتهددها على نحو خطير، وهذه تجارتهم يهبط ميزانها رويدا رويدا، ثم هذه طبقاتهم العاملة تتأثر لذلك الكساد الاقتصادي تأثرا شديدا، فيسود التعطل ويعم الفقر والحاجة، ويزداد الاضراب اتساعا، وتزداد العقول ميلا إلى الاشتراكية. بهذا كله انقضى عهد ذهبي في حياة الإنجليز كان فيه النصر عليهم هينا، وكان سبقهم في ميادين التنافس مع سائر الأمم أمرا محققا لا يتطلب منهم كثيرا من عناء؛ فأي عجب إذن في أن تضطرب النفوس والعقول لهذا الأفق الذي اضطرب بعد قرار؟ وأي عجب في أن ينعكس هذا الاضطراب في شتى ألوان التعبير والتفكير؟ ثم أي عجب في أن يتجه الناس نحو إصلاح أنفسهم، والإصلاح يتطلب الخروج على الأوضاع القائمة كلها؟ فإن كان صميم العصر الفكتوري قد سايرته نزعة الاتزان العقلي، فطبيعي أن ينادي المصلحون بتغيير الأمر والعودة إلى سيادة العاطفة على العقل، وسيطرة الشعور على قواعد المنطق الهادئ. وها هنا تجد الأقلام متضافرة على مهاجمة العلم في حصونه؛ فمعالجة الأمور بطرائق العلم لم تحقق للناس ما ظن الناس - مخطئين من قبل - أنها ستحقق لهم من سعادة وسير بالأخلاق نحو الكمال، بل الأمر على نقيض ذلك تماما؛ إذ جفف العلم وطرائقه نبعا فياضا للسعادة، وشق ينبوعا للتمرد بالحياة والنقمة عليها. بهذا كله أخذ الناس يميلون إلى الأخذ بأحكام الغريزة قبل العقل، بالبداهة الفطرية قبل المنطق، بالنظرة الصوفية إلى الحياة قبل النظرة المادية، وبهذا الاتجاه الجديد فكر الفلاسفة وكتب الأدباء وصور رجال الفن.

ولما استهل القرن العشرون جاء معه لون جديد من التحول؛ إذ جاء جماعة من الكتاب يساهمون بنصيب في الثورة على الاستقرار الذي ساد في عصر فكتوريا، لكنهم جاءوا إلى جانب ذلك مبشرين بدعوة إلى النشاط والحركة والتفاؤل الذي يبعث على السير نحو الإصلاح بعد وضع قواعده وأصوله ؛ فهذا «كبلنج» ينادي بالتوسع الاستعماري، لا مستندا إلى عقل ومنطق، بل مدفوعا بشعور وعاطفة، وهذا «ولز» لا يدخر وسعا في نشر مبادئ الاشتراكية أساسا للإصلاح الاجتماعي، تحفزه إلى ذلك نفسه القلقة التي تنشد الخير. (1) صموئيل بتلر

Samuel Butler (1835-1902م)

بهذا الاتجاه الجديد الذي أراد أن يعلو بالحياة على المادة، وبالغريزة على العقل، وبالوجدان على قواعد المنطق، كتب «بتلر» الذي قضى شبابه في صميم العصر الفكتوري، فاستنشق شيئا من جو الثقة بالنفس السائدة عندئذ، وشيئا من النظام الذي خيم على أطراف الإمبراطورية الواسعة، لكنه استنشق ذلك الجو ليفر منه، وعاش تلك الحياة ليعلن عليها الثورة والعصيان. ولو أردت عبارة واحدة تلخص فلسفته ووجهة نظره، فتلك أنه شكاك ينشد اليقين الذي تطمئن له نفسه؛ فسرعان ما انتهت به تلك النظرة إلى أن يقف إزاء المجتمع المحيط به موقف الناقم الثائر المهاجم، لكن هجومه لم يكن بمثابة الحرب العلنية تجري على مرأى من الناس، بل كان أقرب إلى المخاتلة والاحتيال.

أعلن حربه هذه على ما حوله من دين وأخلاق وعادات، ثم أعلنها فوق كل شيء؛ على العلماء وما يبشرون به من مذاهب أخذها الغرور فظنت أنها بمنجى من كل نقد وتجريح، وإنما دعاه إلى محاربة العلماء أنه إذ كون لنفسه رأيا في كل مشكلة من مشاكل العصر، نظر فإذا برأيه هذا يناهضه العلم كما عرفه العلماء إذ ذاك. وخلاصة حملته دعوة إلى الحد من العقل بحيث يعرف حدوده التي ينبغي أن يقف عندها، وإلى الاعتراف بالغريزة وما لها من حقوق.

أراد أن ينقذ الديانة من التخريف؛ فمن أسس العقيدة المسيحية عودة المسيح إلى الحياة بعد صلبه، ولم ير «بتلر» في مثل هذه العقيدة شيئا يتمشى مع الفطرة السليمة، وفي الوقت نفسه لم يرد أن يحكم على عقيدة كهذه بمجرد الظن، فانطلق يحقق الأمر لنفسه، وانتهى به التحقيق إلى رأي مخالف لما تواضعت عليه القرون المتتالية، وهو أن المسيح لم يمت على الصليب، إنما «شبه لهم» برجل آخر. وهكذا هدف الكاتب بنقده إلى الكنيسة وتعالميها وقساوستها ، وتهكم وسخر بالطريقة التي يؤدي بها المعتنقون للعقيدة شعائرهم، تجد ذلك في كتابه «إرون»

69

كما تجده في «المرفأ الجميل»

70

و«طريق الأجساد»

71

و«عودة إلى زيارة إرون».

72

ومن أجمل مواضع نقده للكنيسة في كتاب «إرون» تصويره لها مصرفا يذهب العابدون إليه وقصدهم الحقيقي بيع وشراء، يبيعون كذا وكذا من الشعائر ليشتروا به كذا وكذا من خيرات الآخرة.

ومن الصور الرائعة أيضا في كتاب «إرون» تطبيقه مذهب دارون على الآلات، أليس أساس التطور تنازع البقاء وبقاء الأصلح؟ ثم أليس للأصلح الباقي السيادة على من دونه صلاحية؟ إذن فانظر إلى الآلات تجدها أقدر من الإنسان في شتى النواحي، تحسب فلا تخطئ الحساب، تنظر فلا تخطئ النظر، تطير في الجو وتغوص في الماء؛ إذن فلا بد لها في تنازع البقاء أن تبقى لأنها أصلح من الإنسان، ولا بد أن يجيء يوم يكون فيه الإنسان عبدا للآلة، على نحو ما ترى الخيل والبغال والحمير اليوم عبيدا للإنسان. تلك هي النتائج المنطقية لعلم يأخذ بنظرية التطور، ولعصر يؤمن باستخدام الآلة في حياته على نطاق واسع. كلا، العالم في تطور لكن تطوره يأخذ صورة غير هذه الصورة البشعة التي ارتآها «دارون»، هو تطور الكائن الحي الذي يختار لنفسه ما يصلح له، ليست البيئة هي التي تفرض على الكائنات ما ينبغي أن تكون عليه من هيئة وأعضاء، إنما الكائنات الحية هي التي تستغل البيئة بما لها من القدرة على تشكيل أنفسها تشكيلا مناسبا للظروف، ليس التطور حركة آلية، إنما هو تطور مبدع خلاق.

أخضع «بتلر» كل شيء حوله للنقد الساخر؛ هذه الجامعات التي - في رأيه - لا تعلم شيئا ذا غناء، هذه القوانين التي تظلم وترى العدل في ظلمها، هذه الأخلاق التي تنقصها روح الفضيلة بأصح معانيها، هذه النظم الاجتماعية الفاسدة كالأسرة وما إلى ذلك؛ كل هذا في سخرية عميقة تفوت القارئ العابر. فلن تجد على سطح مائه أمواجا هائجة مزبدة، إنما أنت منه إزاء بحر هادئ فيما يبدو للعين، جياش بالتيارات العنيفة الهادمة لمن يغوص في أعماقه ؛ ولذلك لم يظفر «بتلر» بإعجاب عامة القراء، ولم يعجب به إلا الخاصة المثقفة. (2) جورج مردث

George Meredith (1828-1909م)

كان «مردث» - على شديد اختلافه عن زميله «بتلر» - ينتمي معه إلى مدرسة فكرية واحدة. وتستطيع أن تحدد الاختلاف بين هذين الأديبين بأنه اختلاف في النسبة بين العناصر المكونة لشخصية كل منهما، لا اختلاف في العناصر نفسها، ف «مردث» من بناة الموجة الابتداعية الجديدة التي ظهرت في أواخر القرن، بعد أن ساد العنصر العقلي حينا من الدهر إبان عصر فكتوريا. هو من بناة الموجة الابتداعية الجديدة التي أرادت أن يكون للشعور الإنساني مكانته. ولا عجب؛ ف «مردث» - كما ترى من تاريخ مولده - قد شهد الحياة، والأدب الابتداعي الذي أشرق وساد في أول القرن كان قد بلغ أوجه ومال به الطريق نحو الانحدار، فكأنما ترك بذرته في طبيعة هذا الأديب، وظلت البذرة كامنة حتى نضجت وآتت أكلها في أواخر القرن؟ وكذلك عاصر «مردث» موجة الأدب العقلي - إن صح لنا أن نستخدم هذا التعبير لندل به على الفترة التي توسطت القرن التاسع عشر - عاصر أديبنا موجة الأدب العقلي في عصر فكتوريا، فوافقت في طبيعته وضوح الفكرة في ذهنه، لكنه مزج هذا الوضوح الفكري بحرارة الخيال، ولم يجعل العنصرين نقيضين إذا وجد أحدهما ارتفع الآخر؛ العقل عند «مردث» مهمته أن يوضح الطريق للخيال، لا أن يمسك بالخيال ويلجمه، لو ترك العقل وحده ليسود ذهبت عنا - في رأي مردث - الفاعلية والنشاط، فالعقل المنطقي يتأثر ولا يؤثر، ينفعل ولا يفعل. ولا فرق عنده بين إنسان يجمد فيه النشاط وتخمد الحيوية الفاعلة عن غيبوبة عقلية وبين إنسان ينتهي إلى نفس الموقف الجامد الخامد عن وعي وتنبه. وإن لخصنا رسالة «مردث» كلها في عبارة واحدة قلنا إنها توجيه الطعنات المتلاحقات النافذات إلى جمود تيار الحياة في الفرد أو في المجتمع؛ ذلك الجمود الذي ينشأ عادة عن الغباء أو الجهل أو آلية العمل اليومي؛ عدوه الألد في الإنسان هو التفكير الآلي الذي تنساب حلقاته بغير خلق وإبداع، إنه لا حياة لرجل يومه كأمسه . والدرس الذي نتلقاه عنه هو أن نكون أحرارا بكل ما وسعت هذه الكلمة من معان؛ أحرارا في تفكيرنا فلا نقلد، أحرارا في سلوكنا فلا نكون آلات صماء، أحرارا في تجديد حياتنا كل يوم بالإقدام على المجهول دون أن نخشى مخاطر المغامرة، أحرارا في استقبال الحياة مستبشرين بها مسيطرين عليها، لا أن نخشاها فلا نلبث أن نكون عبيدها الأذلاء.

ولد «مردث» لأب خياط، لكنه على انخفاض منشئه، أدمج نفسه في سادة القوم، وجاء أدبه دراسة لهؤلاء السادة، كأنما أراد أن يقيم الدليل على أن ابن الخياط يستطيع أن يكون سيدا. وقد صور أباه في قصته «إيفن هرنتن»،

73

التي نشرها في عامه الثاني بعد الثلاثين منجمة في سلسلة متتابعة الحلقات. والقصة بأسرها تكاد تكون تأريخا لحياة نفسه؛ إذ هو يقص علينا قصة ابن خياط تربى في وسط أخرجه سيدا مهذبا. ومن خير إنتاجه أيضا «محنة رتشرد ففرل»

74

وهي قصة والد وولده، أما الوالد فقد استعبدته آراؤه النظرية، فجلب الشقاء على ابنه بتعصبه الأعمى لآرائه تلك، وكان «مردث» قد اشتغل حينا مراسلا حربيا لإحدى الصحف الإنجليزية، وذلك إبان الحرب بين بروسيا والنمسا؛ مما اقتضاه أن يقضي بعض وقته في إيطاليا، ومن ثم خبر المناظر الإيطالية فوصفها في قصته «فتوريا»

75

التي حكى فيها عن ثورة عام 1848م، والتي رسم فيها صورة قلمية لزعيم إيطاليا المعروف «ماتسيني». على أن آية آياته هي قصة «الأناني»

76

التي لا يكاد يقرؤها قارئ إلا أحس أن الكاتب يتهكم عليه لشدة ما يرى نفسه وأخطاءها في دقة ووضوح. ويحكى أن صديقا للكاتب قرأ القصة بعد نشرها، فذهب إليه غاضبا عاتبا وصاح به: «تلك منك سيئة بلغت من السوء أقصى غايته؛ إن شخصية «ولوبي»

77

هي شخصيتي!» فأجابه «مردث»: «كلا يا عزيزي، إنها تصورنا جميعا.» وعن هذه القصة يقول القصصي المشهور «ستيفنسن»،

78

مشيرا إلى حكاية الصديق العاتب: «لقد قرأت قصة «الأناني» خمس مرات أو ستا، وأنوي قراءتها من جديد، لأني كذلك الصديق الذي ذهب عاتبا، أرى في شخصية «ولوبي» عرضا لنفسي، فيه قسوة التعريض ولكن فيه أيضا فائدة العرض.»

و«مردث» - فوق أنه كاتب للقصة - شاعر مجيد، أحب الطبيعة حب العشق وطفق يتغنى بفتنتها. (3) تومس هاردي

Thomas Hardy (1840-1928م) «هاردي» هو القصصي الأكبر في الفترة التي نقدمها الآن إليك. وهو شاعر نابغ وقصصي بارع على السواء، جاءنا في قصصه وفي شعره بالجديد الجيد، ولعل أوضح ما يستوقف النظر في هذا القصصي أنه كاد يحصر نفسه في إقليم صغير من بلاده؛ الإقليم الجنوبي الشرقي من إنجلترا، يصف مناظر ريفه ويحلل أشخاصه، ومع ذلك فقد اتخذ من هذا الإقليم الريفي الصغير نافذة أطل منها على العالم الفسيح، وإذا به لا يحدثك في قصصه عن زيد وعمرو من سكان هذا الإقليم الذي عني بدراسته، بل يقدم لك الإنسانية كلها متبلورة في زيد أو عمرو؛ فجاء ذلك مصداقا لقول «إمرسن» بأن الطبيعة كلها تعكس نفسها في قطرة واحدة من قطرات الندى.

ولد «هاردي» لأب بناء في قرية تحيط بها الغابات فتعزلها عن الأرجاء المعمورة، وقد كان هذا الإقليم الريفي الذي شهد فيه النور لأول مرة هو موضوع قصته «عمدة كاستربردج»

79

فوصفه وصفا دقيقا رائعا. نقول إن «هاردي» ولد لأب بناء، ثم بدأ هو نفسه طريق الفن المعماري ليكون بدوره بناء، ولم يلبث أن أظهر في هذا الفن وهندسته براعة استحق بها نوط الجدارة من «المعهد البريطاني لفن العمارة» تقديرا لمقالة كتبها عن البناء يبنى بالطوب المحروق، ثم ظفر بجائزة أخرى لتصميم رسمه فصادف القبول والإعجاب. ومع هذا البدء الموفق، دفعته فطرته إلى ترك هذا الفن ليجول في فن آخر؛ فن الأدب بفرعيه: الشعر والقصة، وكانت أشهر قصصه خمسا: «عودة الوطني»

80

و«عمدة كاستربردج» و«أبناء الغابة»

81

و«تس سليلة در برفيل»

82

و«جوده الغامضة».

83

ومما يجدر ذكره هنا أن نقدا لاذعا وجه إلى قصته الأخيرة «جوده الغامضة» فأمسك «هاردي» القلم عن كتابة القصة إلى ختام حياته.

في هذه القصص وغيرها مما جادت به قريحة هاردي، كان مدار القول دائما - كما قدمنا - الإقليم الريفي في الجنوب الشرقي من إنجلترا . وقد وهب الله هذا الكاتب كل ما يعينه على الوصف الدقيق الجميل، وعلى النفاذ ببصيرته إلى أعماق نفوس أهل هذا الإقليم؛ فهو يقدم لك في تحليل الخبير القدير تفصيلات الحياة التي أخذت رويدا رويدا تصوغ هذا الرجل أو ذاك، ثم هو يبسط أمامك ما يدور في رءوس أهل الإقليم الريفي الذي تناوله بقلمه، من آراء وعقائد. فبهذه المعرفة التامة التي أحاطت بكل دقائق الحياة هناك، أمد «هاردي» قصصه بالقوة والجمال.

ول «هاردي» فضلا عن قصصه، رواية «الولاة»

84 - ولعلها أعظم آثاره الفنية جميعا - أخرجها في ثلاثة أجزاء، وموضوعها أيضا هو الإقليم الريفي بعينه الذي شغل قلمه طول حياته، لكنه هنا أطل من هذا الإقليم على أوروبا في عصر نابليون، وقد اشتعلت أرجاؤها بالحرب وسعيرها.

وكان «هاردي» - كما أنبأنا - شاعرا إلى جانب فنه القصصي، بل كان شاعرا قبل أن يكون قصاصا. وأما وقد لذعه النقد الظالم في عالم القصة فقد ترك القصة وعاد أدراجه إلى الشعر ليعزف على قيثارته هادئ البال مطمئن النفس، لكنه إذ عاد إلى فنه الأول، بعد تلك الجولة الطويلة العميقة التي جالها في نفوس الناس وفي جوانب الحياة، عاد مثقلا بعلم وخبرة، أخذ يصبهما اليوم في كأس الشعر. (4) روبرت لويس ستيفنسن

Robert Louis Stevenson (1850-1894م)

ولد في «أدنبره» باسكتلندة من أسرة متوسطة يشتغل بعض رجالها ببناء منائر البحر، وقد اشتغل بالكتابة منذ حداثته، وكان له خصائص معينة ميزت أسلوبه، فهو قوي واضح لكن تنقصه حلاوة النغم. ومنذ حداثته ظهرت فيه موهبة الحكاية، فالقدرة على الحكاية موهبة تولد مغروزة في فطرة الموهوب، شأنها في ذلك شأن سائر المواهب الفطرية التي يهبها الله عباده المختارين.

درس ستيفنسن فن الهندسة ليكون فيما بعد موردا لرزقه، فانتهى به هذا الطريق إلى فشل، ثم درس القانون وأراد أن يكسب قوته من المحاماة، وعلق على بابه لافتة، لكن بابه لم يطرقه من الزبائن سوى ثلاثة أو أربعة؛ فليفر - إذن - إلى ما أرادت له الطبيعة أن يكونه، وليحمل قلمه ليكتب استدرارا لرزقه.

كان «ستيفنسن» مصابا برئته إصابة انتهت به آخر الأمر إلى قبره؛ ومن أجل هذه العلة في بدنه أخذ يجوب الأرض طلبا للعافية، فكانت هذه الرحلات موضوع كتابيه الأولين، «رحلة في القارة»

85

و«أسفار مع حمار في جبال سفن»

86

وهما كتابان من أمتع الكتب، يمتعانك بنصوع الصور التي يرسمها الكاتب عما يصادفه، ويمتعانك كذلك بتعليقه على من يلاقيه وما يلاقيه من ناس وأشياء، ومع ذلك لم يكونا في أول الأمر مصدرا لشهرة أو مال؛ وبعدئذ صدرت قصته المعروفة «جزيرة الكنز»

87

فما كادت تلتمس طريقها إلى أيدي القراء حتى ذاعت وذاع معها اسم كاتبها، وقيل عنها إنها أجمل ما شهده الأدب الإنجليزي في هذا اللون من الخيال منذ «روبنسن كروزو» فهي قصة تمتع الطفل وتمتع الشاب وتمتع الكهل على السواء؛ تمتع الطفل بما فيها من مغامرة طلبا لكنز خبيء في جزيرة مجهولة، وتمتع الشاب بما تصور له من أشخاص يجدون بغية الحياة في ركوب المخاطر، ثم تمتع الكهل لما يتستر وراء حوادثها من حكمة. ثم صدرت له قصة «المخطوفة»

88

التي تثير الخيال بحوادثها الرهيبة ومعاركها الدامية.

وذات صباح استيقظ «ستيفنسن» من نومه بعد حلم عجيب، ذكر عند اليقظة ما فيه من حوادث وأشخاص كأنها واقع محسوس؛ وإذن فهذه قصة أخرى، كتبها فكتب لها شهرة في أرجاء العالم أجمع على اختلاف لغاته، وهي قصة «دكتور جيكل ومستر هايد»

89

التي تصور رجلا ذا شخصيتين إحداهما تميل إلى الخير والأخرى تنزع إلى الشر، فجسدت بهذه الصورة القوية ما يحمله كل إنسان بين جنبيه من رغبة في الخير ورغبة في الشر. وأخيرا اتجه «ستيفنسن» إلى كتابة القصة القصيرة فبرع فيها، وأهم ما أخرجه في هذا الباب «صورة جديدة لألف ليلة وليلة»

90 (5) رويارد كبلنج

Rudyard Kipling (1865-1930م)

ولد لأب عالم في الآثار كان ذا صلة في زمانه بأعلى دوائر الفن والثقافة، وقد ولد في بمباي بالهند وتلقى تعليمه الثانوي في إنجلترا، حتى إذا ما بلغ مرحلة الجامعة آثر أن يعود إلى الهند، وكان إذ ذاك في عامه السابع عشر، فاشتغل مساعدا لرئيس التحرير في مجلة رسمية، وكان إلى جانب ذلك يخرج آثارا أدبية لم تزد في أول الأمر عن قطع هجائية يوجهها إلى بعض من كانوا يعايشونه، وأغان جماعية تكون ملهاة للناس إذا التأمت منهم جماعة. ولما بلغ الثانية والعشرين سافر في أرجاء الهند والصين واليابان وأمريكا، ثم ألقى عصاه في إنجلترا حينا استأنف بعده السفر إلى أمريكا والهند وأستراليا وزيلندة الجديدة، وعاد آخر الأمر إلى إنجلترا مرة أخرى ليتخذ منها مستقرا.

كان «كبلنج» بحكم نشأته وقراءته نزاعا إلى القديم؛ فأبوه عالم في الآثار، وطفولته ترعرعت في الهند حيث استقت من ثقافة الشرق العريقة في القدم. وقرأ في شبابه كثيرا لكنه لم يكون بقراءته عقلية العالم الحديث؛ فهواه دائما منجذب إلى الماضي البعيد، يؤثر قراءة الذين عاشوا في العصور الوسطى وعهد النهضة ثم القرن السابع عشر، ويخص بعنايته قراءة الإنجيل وكتاب «رحلة الحاج»

91

ولم يأبه طول حياته بكاتب أو شاعر ممن ظهروا بعد النصف الأول من القرن التاسع عشر، لكنه حين أخذ يطوف في أرجاء المعمورة مسافرا من بلد إلى بلد، تغيرت تجاربه وتبدلت وجهة نظره، فحيثما أدار بصره ألفى مدينة جديدة غير التي ألف في نشأته وأثناء قراءته، مدينة تعبد إلها جديدا هو إله القوة البادية في نواحي الاقتصاد، فقد خلق العلماء في معاملهم، وأصحاب الأعمال في مناحي نشاطهم، آلهة جديدة معابدها المصانع والمصارف ومباني السفن والمناجم، ومن هذه المعابد تبدت للناس مباهج جديدة في الحياة أهمها بهجة الذهب اللامع الرنان الذي يحكم العالم ويسخر الشعوب.

وانتشر الناس في الأرض شرقا وغربا يبحثون عن الذهب، فالتقوا على اختلاف أجناسهم في هذا البلد أو ذاك، وبهذا امتزجت الشعوب بعضها ببعض في المدن الكبرى، فكان ذلك مظهرا دوليا يؤلف في صعيد واحد أجناسا أشتاتا، لكنه مظهر لا روح فيه، فالروح وراء ذلك وطنية إقليمية متطرفة، فأفراد الشعب الواحد كانوا في هذا البحث عن الذهب يتعصبون ويتعاونون ومن ورائهم دولهم، خشية أن يلقف الغنيمة شعب آخر. ذلك كان العالم الذي ارتحل في جنباته «كبلنج»؛ أفلا يمكن أن يستغل هذا الشر فإذا به خير للبشر! ذلك ما صوره الشاعر لنفسه بخياله، ولكن كيف؟ ها هنا تظهر في الأديب عنجهية وطنه، ها هنا تتبدى روح العصر من حيث حدة الشعور القومي إزاء الفكرة الدولية؛ فطريق الخير في رأي شاعرنا وأديبنا «كبلنج» هو أن تدعم قوائم الإمبراطورية البريطانية، لماذا؟ لأن شخصا معنويا تستطيع أن تطلق عليه اسم «القانون» هو وحده السبيل إلى كل خير؛ «القانون» يرمز لتقدم المدنية، و«القانون» يضمن العدل ويقاوم الجوع والمرض؛ فمن ذا يجسد لنا «القانون» ليفعل فعله ويؤتي أكله في هذه الدنيا التي كادت تمزقها المطامع؟ تجسده - في رأي «كبلنج» - الإمبراطورية البريطانية التي يراها تغزو العالم لتحرره.

فلتكن إذن هذه الفكرة أساسا لما يجري به قلم الأديب، فهي موضوع قصة «بنو وطني»

92

وقصيدة «منظومة الشرق والغرب»

93

و«أنشودة الإنجليزي»

94

و«عبء الرجل الأبيض»

95

و«أهل الجزيرة»

96

إلى آخر ما كتبه شعرا ونثرا. فكلما وسعت الامبراطورية البريطانية أرجاءها طبل لها الشاعر وزمر، أو ربما كان العكس أقرب إلى الصواب، وهو أنه كلما أنشد الشاعر أنشودة التوسع الاستعماري في آذان قومه، اشتدت حماسة القوم نحو استعمار ما لم يستعمروه بعد. لكن يظهر أن لكل شهوة حدا تنطفئ عنده حدتها، فقد جاء يوم كاد يصم الشعب الإنجليزي فيه آذانه عن «كبلنج»؛ فكفاهم ما استعمروه إذا هم نظموه. وهنا يظهر أديبان آخران سنحدثك عنهما فيما بعد أخذا على نفسيهما أن يبينا للناس طريقة هذا التنظيم، وهما «ولز» و«شو».

وأديبنا «كبلنج» تربى في أحضان الصحافة كما علمت، فهل يفوته هذا التحول في اتجاه الشعب ولا يدركه؟ كلا، بل أدركه وأدار سفينته مع الريح؛ فليكتب للناس الآن كيف يفكرون وكيف يسلكون ليكون هذا السلوك وذلك التفكير خليقين بالمستعمر، بل لتكن كتابته على نحو يروق لليافع كما يعجب به من اكتملت رجولته، فكتب لهم قصصا عن الحيوان، وأخرج في ذلك «كتاب الغابة»

97

و«كتاب الغابة الثاني»

98

وغير ذلك من القصص التي يميل إليها الإنسان لما فيها من نزعة بدائية تتفق مع طبعه الأصيل.

لو أردت عبارة واحدة تلخص لك أدب «كبلنج» فهي أنه حاول أن يوفق بين الفرد ودنياه التي يعيش فيها، أو قل أراد أن يعلم الإنجليزي كيف يعيش في هذا العالم الواقعي الذي يحيط به. لقد تجد من الشعراء الفحول من يؤرقه أن يرى العالم أصغر من الإنسان، فيبحث للإنسان عن شيء أكبر من العالم يعيش فيه، لكن «كبلنج» لا يرى هذا الرأي؛ إن العالم في نظره فيه من الرحابة والاتساع ما يكفي كل إنسان كبر أو صغر، ومهمتنا أن نبصر الأفراد بعالمهم هذا ليفهموه.

القسم الثاني

الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر

الفصل الأول: عصر الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر

(أ) الشعر

كان الأدب الفرنسي طوال القرن الثامن عشر - كما ذكرنا في الجزء الثاني من هذا الكتاب - أدبا تطبيقيا أكثر منه أدبا خالصا؛ كان أدبا أريد به أن يكون أداة لغرض ووسيلة لغاية، لا أن يكون في ذاته غرضا وغاية؛ ذلك أن أقلام الكتاب والشعراء قد تناصرت إبان ذلك القرن على أن تنشر من الآراء والمذاهب ما ينتهي بالناس إلى ثورة تحطم الأوضاع القديمة البالية. ووفق أدب القرن الثامن عشر فيما أراد؛ إذ لم يكد يدنو ذلك القرن من ختامه حتى اشتعلت الثورة الفرنسية الكبرى، لكنها إذ اشتعلت نيرانها كانت كالقنبلة تفجرت ففتكت بالأعداء والأصدقاء على السواء؛ فتكت بأنصار الاستبداد الذين أريد بها أن تفتك بهم، لكنها أحرقت مع هؤلاء بناتها؛ فقد بناها وسواها نفر من الفلاسفة، أو من كانوا في تفكيرهم أقرب إلى الفلاسفة لأن العقل كان رائدهم فيما يكتبون، وكأنهم لم يدروا أنها حين تشعل النار فيما حولها، ستمحو كذلك سيطرة العقل على أقلام الكتاب والشعراء لتحل محله على العرش حاكما آخر، هو الوجدان. وفي سيطرة الوجدان أساس الأدب الابتداعي؛ فلم يكن من الطبيعي للثوار أن يهاجموا أوضاع القرنين الماضيين في بلادهم، ثم يشفقوا على الأدب وحده دون غيره من سائر الأوضاع، فيتركوه على أسسه آمنا مطمئنا، بل ليذهب مع الذاهبين هذا اللون من الأدب الذي ساد فرنسا مدى قرنين من الزمان، والذي تزمت في اتباع طائفة من القواعد شلت فيه الحركة وأماتت فيه النشاط، وليطلق أدباؤنا العنان لخيالهم لا يتقيدون من القواعد إلا بما تمليه عليهم طبائعهم، وليستمدوا الوحي - لا من الأدباء الأقربين - بل من الأجداد السوالف، وأي أجداد؟ لا اليونان ولا الرومان إذ اختص الاتباعيون هؤلاء بحبهم، ولسنا نريد اليوم أن نكون في ذلك أتباعا للاتباعيين في حبهم وكرههم؛ ليستمد أدباؤنا الوحي من العصور الوسطى، حيث كانت للكنيسة سيادة، وحيث كان الإيمان يعمر القلوب، لكنك كثيرا ما تجد وسط التيار الجارف في الأدب أو في الاجتماع رجلا أو رجلين يثبتان أقدامهما ويأبيان أن يجريا مع تيار الحوادث؛ وهكذا كان «شينييه»

1

الذي أخذ ينشد شعره كأنما هو في جزيرة معزولة لا يتأثر بمن حوله، فاتخذ «شينييه» اليونان مصدر وحيه لكنه مع ذلك أوقد الشعلة بضوء جديد، ولهذا قدمناه في الجزء الثاني حلقة اتصال بين القديم والجديد. (1) فرانسوا رينيه دي شاتو بريان

Francois-René de Chateaubriand (1768-1848م)

اتخذت الحركة الابتداعية من «شينييه» بداية، لكن البداية كانت مختلفة كل الاختلاف عن سائر الحركة كما أسلفنا؛ ف «شينييه» اتباعي في صميمه لعنايته الشديدة بالصقل والتجويد، والحركة ابتداعية تسلم زمامها للوجدان.

إذا استعرضت الأدب الفرنسي من أوله إلى آخره وجدت عاملين يظهر أحدهما آنا ويختفي آنا ليظهر مكانه العامل الآخر، فإذا ما اجتمعا في أديب أو في طائفة من الأدباء كان الكمال؛ فأما أولهما فرغبة في الدقة أضفت على النثر الفرنسي خصائصه من حيث الوضوح وتوخي الصدق ومتابعة الواقع، وأما الآخر فميل إلى زخرفة اللفظ والعناية به لذاته، فترى الأديب يحب اللغة التي يلهو بألفاظها على سنان قلمه، لا لأنه يريد أن يزيل معنى عن صدره لا يطمئن إلا إذا أخرجه، بل لأنه يستمتع باللعب بالألفاظ نفسها، فيجد لذته في رصها على نحو معلوم وتزويقها على صورة معينة. وقد حدث لهذين العنصرين أن اجتمعا في القرن السابع عشر فحد المعنى من اللفظ وخدم اللفظ المعنى في اتزان عجيب، فنرى في أدب «راسين» و«لافونتين» واقعية تنشد صدق الأداء، لكنها تعرف كيف تستخدم من أجل ذلك لغة جميلة تفتن القارئ بما فيها من روعة الفن، فلا يقال اللفظ الفخم لفخامته، ولكنه يقال لأن المعنى المراد يتطلبه. ذلك الالتقاء بين العنصرين كان على أيدي فحول الأدب الفرنسي في القرن السابع عشر، فلما جاء القرن الثامن عشر، ذلك القرن الذي كتب فيه الكتاب ونظم الشعراء لينشروا في كتابتهم وفي نظمهم مذاهب فكرية أرادوا لها أن تشيع بين الناس، تغيرت الحال، فلم تعد العناية بالفظ واجبة على الأديب، فلا عليه أن يستخدم هذا اللفظ أو ذاك، هذه العبارة أو تلك، ما دام المعنى واضحا، ومثال هذا تراه في فولتير، وذلك هو ما وجده رجال الأدب الابتداعي عندما شبت الثورة الفرنسية، وجدوا واقعية ذهبت إلى حد التطرف، فماذا تظنهم فاعلين؟ الثورة لقلب الوضع من النقيض إلى نقيضه، فلئن عني أدباء القرن الثامن عشر بالمعنى وحده وبالواقع وحده، فلنذهب نحن اليوم إلى الطرف الآخر فلا نعنى إلا بجمال العبارة وإلا بروعة الخيال. لم يقف الثائرون موقفا وسطا فيه اتزان واعتدال، لم يقلدوا أدباء الاتباع في القرن السابع عشر فيعدلوا القسمة بين اللفظ والمعنى، لأن الاتزان والاعتدال قلما تجدهما عند جماعة ثائرة، وقد وجدت هذه الحركة الجديدة لسانها المعبر في «شاتوبريان».

ولد «شاتوبريان» من أسرة عريقة، ولو استثنينا زمالة أخت هزيلة عليلة رقيقة المزاج، صح لنا أن نقول إنه قضى طفولة لا زمالة فيها، قضاها وحيدا لا تصاحبه إلا الرياح والأمواج، وإلا المروج الفسيحة والغابات، فكانت العزلة التي تكتنفه وهو في داره، وظواهر الطبيعة التي تصادفه وهو خارج الدار، هما مصدري وحيه، بالإضافة إلى بعض الأدباء القدامى - مثل هوراس - الذين غذوا خياله بخيالهم.

بلغ السابعة عشرة فذهب إلى باريس، وطالع شيئا من حياتها الأدبية، ثم غادر فرنسا إبان الثورة إلى أمريكا، فما إن سمع بقتل الملك لويس السادس عشر حتى عاد. ولما هدأت الحرب في أوروبا ذهب إلى لندن يعاني آلام الفقر، وهنالك أخرج باكورة آثاره الأدبية «مقال في الثورات»؛

2

فلقد كان القرن الثامن عشر يؤمن إيمانا قويا بأن الإنسان في تطوره يسير نحو الكمال، وجاءت الثورة تعقد آمالها على هذا الكمال المنشود. أما «شاتوبريان» حين أصدر كتابه هذا، فلم يكن يؤمن برقي الإنسان في اجتماع أو سياسة أو دين، فلماذا إذن يخدع نفسه بآمال الثورة؟ لكنه سرعان ما نفض عن نفسه هذا اليأس، وصمم أن يخرج كتابا آخر يستبشر فيه ويفرح، ويجعل الدين مصدر فرحه واستبشاره، ألم يقل رجال القرن الثامن عشر عن الديانة المسيحية إنها خرافة وجهل؟ فليبين هو للناس أنها عقيدة لها جمال فوق جلالها، ليبين لهم أنها معين لا ينضب للشعر والفن؛ ليبين لهم أنها ليست مجموعة من الشعائر الجافة بل عقيدة حية. بهذا كله أخرج كتابه الثاني «عبقرية المسيحية»،

3

ومع ذلك قد تجد من النقاد من يعلقون على هذا الكتاب بقولهم إنه لا يزيد في إيمانه الحق بالمسيحية عن إيمان فولتير! إن ما حلله وشرحه فولتير بمبضع العقل الجاف، كساه «شاتوبريان» برداء زاهي الألوان، وكلاهما معا لا يعرف الإيمان الحق كيف يكون! ومهما يكن من أمر هذا الكتاب، فليست عظمته في رجاحة حججه التي يدافع بها عن المسيحية، إنما خطره في أنه رد العقيدة الدينية إلى حظيرة الفن، فهو حين مجد العاطفة الدينية على أساس فني، كان كأنما كشف لونا جديدا من الجمال ينقص دولة الأدب، فكان بذلك بشيرا بأهم عناصر المذهب الابتداعي في فرنسا. فالأدب الفرنسي كله منذ «رنسار» إلى «شينييه» كان يهدف إلى محاكاة الأقدمين في محاولة التعبير عن ألوان الحياة، وها هو ذا «شاتوبريان» يصيح بهم: فيم هذه المحاكاة للقدامى؟ لنكن فرنسيين في أدائنا، لنكن محدثين في أدبنا، وإذن فلنكن مسيحيين في تمجيدنا للعقيدة وفي استحيائنا لأزهى عصور العقيدة، وهي العصور الوسطى. ولم يكن ذلك منه ثورة دينية، إنما كان قبل كل شيء ثورة أدبية فنية امتدت بعده إلى منتصف القرن التاسع عشر. وله في هذا الاتجاه نفسه كتاب «الشهداء»

4

الذي أخرجه ليكون مثالا لهذا الفن الأدبي الجديد الذي يدعو إليه؛ الفن الأدبي الذي يستوحي المسيحية بدل أن يجعل مصدر وحيه العصور الوثنية بأساطيرها؛ فلا شك عنده في أن ديانة المسيح قد تثير في صدر الأديب من العواطف، وتمده بأنماط من الشخصيات أرفع وأسمى من العواطف التي تثيرها في نفسه أساطير الوثنية وأنماط البشر الذين تمده بهم عصورها، فإن كان لأساطير اليونان والرومان أعاجيبها، فللعنصر الإلهي في العقيدة المسيحية ما هو أشد استثارة للعجب والإعجاب جميعا.

لقد عني «شاتوبريان» في أدبه بثلاثة أمور: المسيحية، والطبيعة، ونفسه. وها نحن قد حدثناك عن أثر المسيحية في أدبه، وعن تأثيره بها في آداب من جاءوا بعده حتى منتصف القرن. وأما وصفه للطبيعة، فقد جاء - كوصفه للمسيحية - رائع العبارة خلابها، ضحل الإيمان قليله! نعم، قد تقرنه بأديب مثل «روسو» فتراه وصف الطبيعة بما لم يبلغه «روسو» سعة ودقة وزخرفة، ورغم ذلك ترى «روسو» في قليله وساذجه أشد منه إقناعا لك بالطبيعة وجمالها؛ تقرأ عن الطبيعة فتتحرك نفسك لما تقرأ لأنك بصدد كائن حي، وتقرأ «شاتوبريان» فترى زخرفة أقرب إلى عينيك منها إلى قلبك وفؤادك.

و«شاتوبريان» من أكثر الأدباء تحدثا عن نفسه؛ أرخ حياة نفسه في «ذكريات ما بعد القبر»،

5

وأراد بهذا الكتاب أن ينشر بعد موته (ولو أن الطابع نشره خطأ ضمن كتاب آخر في حياة الكاتب). وفي هذا الكتاب يتحدث الكاتب عن نفسه حديث المغرور يعلو بنفسه، ويعتد بها بمقدار ما يزدري أعداءه. وهذا أيضا تستطيع أن تقرنه بروسو، فلديه كل ما لدى روسو من اعتداد بالنفس، ثم لديه أروع ما يمكن لأديب فرنسي أن يصوغه لك من عبارة، لكن ينقصه الإخلاص وأمانة الأداء؛ فبينا ترى «روسو» لا يخدع نفسه عن نفسه قط، تجد «شاتوبريان» لا يتورع عن ذلك مرارا عدة؛ فهذا الكتاب الجميل يعطيك عن كاتبه تحفة جميلة الصورة لكنها خاوية، يعطيك جوهرة تستوقف النظر لكنها ليست من الجوهر الحق؛ إنه يريك من كاتبه صورة الكاتب البليغ لكنه لا يطلعك منه على الإنسان الحي. (2) ألفونس دي لامارتين

Alphonse de Lamartine (1790-1869م)

ذهب «شاتوبريان » وخلف وراءه أثرا عميقا؛ فهذا أدب القرن الثامن عشر الذي كان قد بلغ ختامه، يبدو إلى جانب أدبه المتدفق النابض بحرارة الحياة وقوة الخيال، نحيلا هزيلا باردا خلوا من المعنى. وقرأ الناس «شاتوبريان» فتبدى لهم عالم فيه الطبيعة باهرة بفتنتها، وعلى بساط هذه الطبيعة الباهرة يختال الفرد من الإنسان أشم الأنف عامر القلب بالإيمان.

وأراد الله أن يصنع «لامارتين» في دولة الشعر ما صنعه «شاتوبريان» في عالم النثر؛ فلدى «لامارتين» الشاعر تجد ما تراه عند «شاتوبريان» الناثر من حب للطبيعة ومن إيمان بالعقيدة الدينية ومن اعتداد بفردية الإنسان.

ولد «لامارتين» لأبوين عرفا بميلهما إلى الملكية في ذلك العصر الذي ثار فيه الناس على الملوك. وقضى طفولته في داره الريفية تحيط بها حقول هادئة، وتنتثر حولها تلال جميلة، وفي هذه البيئة الريفية الهادئة، وهذه الأسرة العريقة المحافظة، علمته أمه حب الإنجيل كما فتحت قلبه لبعض الآثار الأدبية مثل أدب «تاسو»

6

من أدباء النهضة في إيطاليا، ومثل «برناردان»

7

من أدباء فرنسا المحدثين، ثم شب فقرأ «شاتوبريان» و«روسو» من الأدب الفرنسي، و«ملتن» و«بيرن» من الأدب الإنجليزي؛ وكانت في طفولته وصباه تكتنفه روح اكتئاب لا تعرف المرح، فلما أن ارتحل في ربوع إيطاليا زالت عنه تلك الكآبة، ولكنها سرعان ما أسلمته إلى حب عميق عنيف فيه كثير من الأسى، فحرك في نفسه ذلك الحب وهذا الأسى مشاعر رقيقة دقيقة تدفقت في شعر بلغ الغاية في إخلاصه وبعده عن التصنع والتكلف. وبهذا الشعر الذي انبثق منه كما ينبعث عن الشمس ضوءها بات «لامارتين» شاعر عصره بين قومه، وترى في «رفائيل»

8

مثالا لحبه اليائس الحزين.

كان «لامارتين» من ضباط الحراسة للويس الثامن عشر، ثم استقال ليأخذ في مناصب السلك السياسي، فهو الآن ملحق للسفارة الفرنسية في «نابلي»، وهو الآن يعمل في المفوضية الفرنسية في فلورنسة، ثم ترك مناصب السفارة وسافر في بلاد الشرق الأدنى بعد أن أخرج «أناشيد سياسية ودينية»،

9

وسجل ذكريات رحلته في كتاب «رحلة إلى الشرق»،

10

وهنا عاد ليغامر في لجة الحياة السياسية. وكانت خطته أول الأمر أن يظل في سياسته بعيدا عن الأحزاب، فلما سئل عند أول دخوله مجالس النواب: «أين تريد الجلوس؟» أجاب قائلا: «على السقف.» ليرمز إلى استقلاله في الرأي السياسي، لكنه أخذ رويدا رويدا ينحاز إلى جانب الحزب الديمقراطي؛ وختم حياته الشعرية ببعض آثاره الخالدة ومنها «جوسلان»

11

و«ملك يهوي».

12

كان «لامارتين» رغم كل ما صادفه من عقبات في حبه وفي حياته السياسية وحياته المالية - إذ أفل نجمه في السياسة بعد سطوع وأصابه الفقر بعد ثراء - مستبشرا بالحياة لأنه كان يحمل بين جنبيه قلبا مؤمنا؛ فإذا ما أرسل البصر إلى الطبيعة من حوله لم يقع على ما فيها من خسيس مرذول، كأنما خسيس الحياة ومرذولها أضأل من أن تراهما عين هذا الشاعر الذي طار عن الأرض وحلق في السماء؟ نعم كان «لامارتين» حزين القلب يشوب تفكيره ظل من الشك، لكنه لم يكن حزن الناقم المتمرد، ولا شك الثائر المخرب، إنما كان حزنه وكان شكه على كثير من الرقة والدعة؛ فحسبه أن يكون في الحياة ما فيها من عطف الأمومة ومن حب العاشقين ومن إيمان المؤمنين.

لم يكن «لامارتين» قويا في أدبه الوصفي بحيث يقدم لك الصورة ناصعة جلية؛ فالصور التي تخرجها ريشته باهتة بعض الشيء، غامضة المعالم بعض الشيء، لكنه إذا ما وصف شعورا ألم به فهيهات أن يلحق به لاحق. ولم تكن نغمات شعره مما يستوقف الآذان، ولكنها كانت تغزو القلوب.

لم يكن شعر «لامارتين» في أخريات أعوامه من القوة كما كان شعره وهو في عنفوانه، فهو من هؤلاء الشعراء الذين يرتفعون إلى قمة المجد الفني، ثم ينحدرون هبوطا مع هرم الشيخوخة وضعفها. أراد أن يبث فلسفته في شعره فكان له هاتان الآيتان اللتان ذكرناها: «جوسلان» و«ملك يهوي» فهو في الأولى يدير القول حول قصة صديق له كان قسيسا بهذا الاسم، نشأ من أسرة فقيرة، ولجأ إلى العزلة في الجبال فرارا من فظائع الثورة، ولم يكن قسيسا بعد، ثم رافقه شاب يدعى «لورنس» اضطهده الثائرون فلاذ بالفرار، ثم تبين أن «لورنس» هذا كان فتاة متخفية في ملابس الرجال، فانقلبت الصداقة بين الزميلين غراما بين حبيبين؛ وبعدئذ نصب «جوسلان» قسيسا، فافترق الحبيبان، لكن الفتاة لم تحتمل صدمة الفراق فغلبتها العاطفة على أمرها، وتعهدها الحبيب في ساعات احتضارها، ثم أودع جثمانها التلال ومجاري الماء التي شهدت الغرام بينهما. وهكذا وضع الشاعر في «جوسلان» مشاعره من غبطة وأسى، معترفا أنه حين أنشأ هذه القصة كان يحتذي «برناردان» في قصة «بول وفرجيني».

كانت قصة «جوسلان» قصيدة كاملة قائمة بذاتها، لكنها مع ذلك أنشئت بادئ ذي بدء لتكون فصلا من قصة أشمل، تكون الإنسانية بأسرها بطلها، كما أنشئت قصيدة «ملك يهوي» لتكون في تلك القصة الشاملة فصلا آخر. وهذه القصيدة الأخيرة تمثل أدب الشاعر حين كان في طريقه إلى الضعف؛ فنحن فيها بين جبال لبنان حيث أحب ملك فتاة من البشر، فلبس لها لبوس البشر ليظفر بحبها، وبهذا أراد الشاعر أن يصور هوي الإنسانية كلها إذا ما أسلمت نفسها لشهوات حسها، كما أراد بالقصيدة السالفة «جوسلان» أن يصور الإنسانية في طموحها، إذ تستمسك بما يغذي النفس لا الحس، والروح لا البدن. ولقد قيل إن القصيدتين تصوران شعر «لامارتين» في صعوده نحو الكمال، وفي هبوطه إلى الضعف.

وسنسوق مثالا لشعره قصيدته «البحيرة»:

هكذا نساق كل يوم نحو شط جديد،

نساق إلى غير أوبة في ليل سرمدي.

يا ليت شعري - والأيام نسبحها كبحر مديد -

أنلقي المرساة يوما واحدا في بحرها اللجي؟ •••

أيتها البحيرة! ها أنا ذا - ولم تكد تدور بنا دورة العام -

ها أنا ذا بجانب الموج الحبيب الذي ودت لو تعود إليه،

انظري! ها أنا ذا أجلس على هذه الصخرة وحيدا،

على الصخرة التي رأيتها جالسة عليها! •••

هكذا غمغمت تحت عميق الصخور،

هكذا لاطمت جنبيها فانتثرت رذاذا،

هكذا ألقت الريح من أمواجك بالزبد

على قدميها الحبيبتين. •••

أتذكرين ذات مساء إذ سبحنا في الزورق صامتين

بين موجك والسماء، لا نسمع على بعد صوتا

إلا إيقاع المجاذيف يغمسها أصحابها

في موجك المتناغم الألحان ؟ •••

وإن هي إلا نبرات لم تعهد الأرض مثلها

ترف من الشاطئ المسحور فتسكت سائر الأصداء،

ويصغي الموج إلى صوتها الرخيم

إذ يجري بهذه الكلمات، •••

قف أيها الزمان دورتك، ويا أوقات السعادة

رويدك لا تسرعي الخطى!

لننشق منك العبير وإنه لسريع الزوال؛

فأنت من أيامنا أحلاها عبيرا. •••

كلا يا زمان، فما أكثر البؤساء الذين رفعوا أكف الدعاء

لنسرع الخطى! فدر يا زمان من أجل هؤلاء،

وفي غضون أيامك احمل ما يشقيهم من عناء،

وعن السعداء غض الطرف، إنهم سعداء. •••

لكني عبثا دعوت أن أمهل بضع دقائق،

إذ أفلت مني الزمان وأسرع،

فخاطبت ليلتي: «إذن فرويدك أبطئي.»

لكن أقبل الفجر وبدد ليلي «هيا إلى الحب، وإلى الحب هيا! لا نبطئن،

وبهذه اللحظة الهاربة فلنسعدن؛

ليس للإنسان مرفأ فيرسو، بحر الزمان بغير شط،

إنه يجري، ونحن في جريه نمضي!»

يا لغيرة الزمن! أيجوز لهذه اللحظات النشوى بالنعيم

حيث الحب قد أترع كئوسنا غبطة وسعادة

أن تزول عنا مسرعة خطاها

كأنها في ذلك وأوقات الشقاء سواء؟ •••

ويحي! أفلن نستطيع أن نخلف بعدنا أثرا؟

ماذا؟ أماضون نحن إلى الأبد فلا إياب؟

وهذا الذي أعطاه الزمن ثم محاه

ألن يعود مرة أخرى فيعطيه؟ •••

أيها الأزل، أيها العدم، أيها الماضي، يا هوة سحيقة ظلماء!

ماذا تصنعين بالليالي التي في جوفك تبلعين؟

انطقي! أأنت رادة إلينا لحظات النشوة العظمى

التي كانت لنا فسلبتها؟ ••• •••

أيتها البحيرة، ويا بكم الصخور، ويا كهوف، ويا ظليل الغاب!

أناديك أنت التي أغضى عنك الزمان فأبقاك، بل هو خالع عليك شبابا بعد شباب،

احفظي من هذه الليلة، أيتها الطبيعة الجميلة، احفظي

على الأقل ذكراها! •••

كلما سكن منك الماء أو اضطرب بهوج الرياح

أيتها البحيرة الجميلة، وفي جبينك هذا، المشرق الوضاح،

في هذا الصنوبر الأدكن، وفي هذه الصخور الغلاظ

التي تعترش فوق مياهك، •••

كلما هب عليك النسيم هامسا أو لامسا،

كلما صاتت جنباتك فردت جنباتك الأخرى الصدى،

كلما فضض ماءك النجم اللامع

بخيوط من شعاعه الوضاء، •••

كلما أنت رياح أو تنهد عود،

كلما عبق هواؤك بأريج وعبير،

مري كل ما ترى العين أو يشم الأنف أو تسمع الأذن؛

مري كل هؤلاء أن تقول «لقد كانا حبيبين!» (3) فكتور هيجو

Victor Hugo (1802-1885م)

إبان أعوام الثورة الفرنسية وفي ظل نابليون وخلال الأعوام التي تلت سقوطه، أوشكت فرنسا أن تنفق جهدها كله في الحرب والسياسة، وبذلك قضت من حياتها أربعين عاما لم تشهد خلالها من الأدباء الأعلام إلا نفرا قليلا. لكنه لم يكد ينقضي ثلث القرن التاسع عشر حتى نهضت طائفة من الأدباء أعادت للأدب الفرنسي سالف مجده، وأقامت الدليل على أن اللسان الفرنسي لم يزل قويا. وكانت هذه الطائفة الجديدة الناهضة من الأدباء ترتبط كلها معا برباط من مذهب واحد، كما هي العادة المألوفة في تاريخ الأدب الفرنسي؛ أفرادها من الشباب المتحمس الذي ينظر إلى الماضي نظرة الساخر، ويلقي ببصره نحو المستقبل فيرى أملا يبهر الأنظار؛ فلم يترددوا في رفع علم الثورة على تقاليد الأدب الاتباعي بغية أن يمهدوا الطريق لمذهب جديد يريدون له السيادة، وقد كتب لهم آخر الأمر أن يظفروا بما أرادوا بعد لأي ومجهود. ولم يكن التجديد الذي أرادوه تافها ولا ضئيلا، إنما كان تحولا يمس الصميم؛ لهذا أصبحت سنة 1830م تاريخا مشهودا في تاريخ الأدب الفرنسي؛ فكل عبارة جرى بها قلم في فرنسا منذ ذلك التاريخ عليها طابع التحول الذي وقع في عام 1830م. فما الذي حدث بحيث جعل من ذلك العام فاصلا بين عهدين؟

كانت المدرسة الابتداعية - وأعلامها «هيجو» و«دي فني»

13

و«جوتييه»

14

و«إسكندر ديماس»

15

و«دي ميسيه»

16 - تسودها بلاغة اللفظ وحب اللغة لذاتها كما أسلفنا في ذلك القول؛ كانت تسودها العناية بالتعبير حبا في جمال العبارة، تلك العناية التي لم يكد يبدو لها أثر طوال القرن الثامن عشر حيث ساد العقل فساد تبعا لذلك النثر لما يحمل من معنى وما يؤدي من غرض. فلما أن بدت في البلاد بشائر الابتداع في نثر «شاتوبريان» وفي شعر «لامارتين» بدت في الروح وحدها ولم تتناول قوالب التعبير؛ فهذان الأديبان كانا يكتبان بروح ابتداعية جديدة ، لكنهما مثلا تلك الروح في صور التعبير التقليدية القديمة، فكانا كمن يصبان خمرا جديدا في كئوس قديمة. ثم جاء أدباء الحركة الابتداعية القوية التي ظهرت في نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر، فصنعوا لأنفسهم كئوسا جديدة ليصبوا فيها خمرهم الجديدة؛ جاءوا فابتكروا أنواعا جديدة من صور التعبير ليلبسوها الروح الابتداعية الجديدة؛ أدخلوا أنواعا جديدة من أوزان الشعر، وإن يكونوا قد أبقوا على كثير جدا من تقاليد العروض التي سادت الشعر الفرنسي في شتى عصوره فحرمته حرية الحركة وسهولة النمو. كان ما أدخلوه من الجديد قليلا بالقياس إلى الكثير الموروث، ولكن لهذا القليل الجديد كل الخطر، فيكفي أن تقيم الدليل على أنك تستطيع أن تهدم قاعدة من القواعد ومع ذلك تنشد شعرا جميلا. يكفي أن تقوض من البناء عمودا واحدا، فإذا لم ينهدم البناء كله أنقاضا كان في ذلك كل البرهان على أن ذلك العمود المهدوم لم يكن من البناء في صميم جوهره. وتستطيع أن تصور لنفسك عمق الأثر الذي أحدثه هؤلاء الأدباء بخروجهم على بعض القواعد السائدة حين تعلم أن «فكتور هيجو» حين أراد أن يذكر شيئا عن «سلم خفي» وحين بالغ في جرأته فوضع لفظة «سلم» في آخر بيت وبدأ البيت التالي بلفظة «خفي» هوجم من أنصار القديم هجوما لا تبرره إلا أفدح الجرائم. إذا علمت إذن كيف كان أنصار القديم ينظرون إلى الخروج على القواعد، تبين لك أن «هيجو» حين فصل بين هاتين اللفظتين فوضعهما في بيتين متلاحقين، كان زعيما لثورة أدبية، لا لأن هذه الحادثة وأمثالها ذات خطر في نفسها، بل لأنها دليل على أن النظرية القائلة بوجوب اتباع طائفة معينة من القواعد في الإنشاء الأدبي نظرية خاطئة، وإذا أنت ألقيت عن عاتقك مذهبا كهذا، فقد حررت نفسك تحريرا الله أعلم بمنتهاه. وهذا ما صنعه زعماء الحركة الابتداعية في فرنسا - وهو شبيه جدا بما حدث في الحركة الابتداعية في إنجلترا - إذ زعموا أن طرائق التعبير لا تتوقف على قاعدة أو تقليد، إنما تعتمد أولا وآخرا على طبيعة الموضوع الذي يريد الأديب أن يعبر عنه.

ولعل أعظم انقلاب تم على أيدي هؤلاء الابتداعيين هو ما يختص بألفاظ الشعر؛ فقد كان للشعر الفرنسي مجموعة من الكلمات لا يجوز له أن يجاوزها، ثم أخذت هذه المجموعة المحدودة تتناقص كلما تناقصت عبقرية الأديب. فليست ألفاظ اللغة كلها عند الشاعر سواء، إنما هي تنقسم طائفتين، فألفاظ خسيسة لا يصح للشعر أن ينزل إلى دركها، وأخرى شريفة هي التي ينبغي أن تكون مجال الشعراء. ولا يمكن للفظة أن ترتفع إلى منزلة الشرف إذا هي دارت على ألسنة العامة ولاكتها أفواههم، أو إذا كانت لفظة فنية تعبر عن معنى خاص في دائرة خاصة من الناس؛ فإذا أراد الشاعر أن يعبر عن معنى يقتضي لفظة من الألفاظ المحرمة وجب عليه أن يدور حول المعنى المراد بعبارة كاملة لينجو من المحظور. صور لنفسك أمثال هذه القيود التي غل بها الشعراء الاتباعيون أنفسهم لتعلم كم كانت الثورة الأدبية عنيفة حين حطمت الفواصل بين خسيس اللفظ وشريفه! فقد كان لفتح باب اللغة على مصراعيه أمام الأديب أثران؛ الأول أن انفسحت آماد القول فخرج الأدب الفرنسي من الغرفة المحبوكة المملوءة بالطرف والتحف إلى حيث الهواء طلق والأفق فسيح. لكننا ينبغي أن نسارع في هذا الصدد إلى تذكير القارئ بما أسلفناه وهو أن طابع الأدب الابتداعي في فرنسا هو العناية باللفظ والبلاغة، لا الحرص على نقل الحقائق نقلا أمينا دقيقا؛ لهذا لم تستخدم هذه الثروة اللفظية التي غمرت أرض الأدب في الاتجاه نحو الواقعية التي تعكس على صفحتها حقائق الدنيا كما هي، بل استخدمت هذه الألفاظ الجديدة لما فيها من ظلال وما توحيه من أثر؛ استخدمتها للزيادة من بلاغة القول لا للزيادة من المعنى وأداء الحق والواقع، لكن على مر السنين جاء الأثر الثاني لهذه الثروة اللفظية الجديدة؛ وهو أن اشتدت قدرة الأدب الفرنسي على تصوير الحق حين جاء عهد سادت فيه الرغبة إلى مثل هذا التصوير.

كان القرن الثامن عشر - إذن - أعني ما قبل الثورة الابتداعية عصرا يمجد العقل ويسعى في أدبه إلى التعبير عن الحقائق العامة في العلم والاجتماع والسياسة، وكان الفن الأدبي في ذلك العصر ميراثا هبط إليه من القرن السالف وأخذ يتناقص على يديه، وأما الحركة الابتداعية التي أعقبته ، والتي تم نضجها في نهاية الثلث الأول من القرن التاسع عشر فقد قررت للخيال حقه في حرية التعبير، كما قررت لشخصية الأديب، التي لا يشاركه فيها إنسان آخر، الحق في الإفصاح عن نفسها بما ترتئيه من الوسائل المؤدية إلى ذلك، فلما رد للخيال حقه الضائع أبى أن يستسلم للقواعد التي كان العقل قد فرضها على نفسه في القرنين السالفين. كان الأدب الاتباعي يرى من الواجب ألا تتداخل صور الأدب بعضها في بعض، فعجب أدباء الابتداع من هذا اللزوم لما لا يلزم؛ لماذا تحبس كل صورة أدبية في حظيرة فلا تمتزج بأخواتها؟ لماذا لا تبيح للملحمة أو للرواية التمثيلية أن تمتزج بالقصيدة الغنائية فتأخذ عنها شيئا من التعبير عن وجدان الشاعر؟ لماذا لا تأذن للمأساة أن تأخذ بنصيب من الملهاة فتخفف حدتها، وللملهاة أن تأخذ بنصيب من المأساة فتزيد من جدها؟ لماذا نحصر أنفسنا في حدود ما رسمه اليونان والرومان لأنفسهم من أوضاع كأنهم الخالقون ونحن العابدون؟ لماذا لا نغوص في كل عصور التاريخ فنأخذ من هذا ما يروعنا ومن ذاك ما يصادف منا الإعجاب؟ لئن كان عصر اليونان والرومان مصدر الشعر والشعور، فلقد كان العصر الوسيط الذي سادت فيه الكنيسة وصفت فيه العقيدة المسيحية مصدر المعجزة والعاطفة الروحية؛ فلنمجد إذن آباءنا الذين عاشوا في هذا العصر الوسيط. وخل عنك العقل ومنطقه وقيوده إذا ما ولجت بابا من أبواب الخيال، فالخيال أدرى بما يلزم له من طرائق التعبير، وإذا أردت حقيقة عامة عن بني الإنسان فحسبك أن تغوص في نفسك وخصائصها، وعن طريق نفس واحدة ستجد سائر النفوس؛ فالصورة الذهنية قد تكون إلى جانب معناها في ذاتها رمزا يرمز إلى ما عداها، وقد ترسم صورة تاريخية لعهد واحد فإذا بك ترمز بها إلى حقيقة عامة تشمل كل الشعوب في سائر العصور؛ فليكن الفرد موضوعك، والخيال أداتك.

تلك كانت الدعوة التي بشر بها الابتداعيون وعلى رأسهم «فكتور هيجو» الذي ولد لأب كان في الجيش الفرنسي ضابطا ممتازا رحل بأسرته إلى إيطاليا وإسبانيا ، ثم عاد إلى باريس، حيث التحق فكتور بإحدى مدارسها، فأخذت براعته تجري بالشعر وهو يافع يتلقى دروسه، فما إن بلغ العشرين حتى أصدر «أناشيد وأشعار مختلفة»

17

وظفر براتب شهري من لويس الثامن عشر فتزوج من فتاة كانت رفيقة صباه. ومنذ ذلك الحين أخذت قصصه وأشعاره ورواياته التمثيلية تترى في تعاقب سريع؛ فكان من الطبيعي لرجل له هذه العبقرية الممتازة وهذه الشخصية الأخاذة وهذا النشاط الجم الذي لا ينقطع أن يصبح زعيما لأدباء الابتداع. وفي سنته التاسعة بعد الثلاثين انتخب عضوا في المجمع العلمي، ثم غامر في بحر السياسة اللجي يطفو على سطحه حينا ويغوص إلى أعماقه أحيانا، ويطرد من البلاد آنا ويعود إلى أرض الوطن آنا، حتى وافته منيته فكانت جنازته من الفخامة والجلال بحيث خيل للرائي أن فرنسا بأسرها حملت عبقريتها لتودعها أرض البانثيون (مقبرة العظماء).

ولم يكن «هيجو» غافلا عن عظمته، بل كان من الاعتداد بمكانته بحيث رأى العظمة متمثلة في نفسه، وجعل من نفسه لنفسه بطلا كأبطال الأساطير؛ ف «هيجو» الرجل يمجد «هيجو» البطل. وكان رحب الصدر سمحا كريما مع الناس أجمعين، إلا إذا آذاه إنسان في كرامته أو انتقص له من عظمته؛ فهنالك تجد البركان الثائر والليث الغاضب؛ إذ لم تكن تخالجه ذرة من شك في أنه الخير كل الخير، فمن عارضه كان بالضرورة شرا يجب أن يقتلع من جذوره.

كانت عيناه لا تدعان من تيار الحياة الدافق حوله صورة إلا أخذتاها، وكانت أذناه لا يفلت منهما صوت ينطق به مر الهواء أو تلاطم الموج، وكانت ألفاظ اللغة توحي له بما يكتب كأنها كائنات حية تدور في رأسه وتتحدث إليه. فقبل أن تنعت «هيجو» بصفة كائنة ما كانت، يجب أولا أن تصفه بهذه القدرة العجيبة التي أبداها في السيطرة على ألفاظ اللغة سيطرة لم تعرف في آداب اللغات مثيلا، قل ذلك عنه في غير تحفظ وأنت بمنجى من الخطأ إذا استثنيت «شيكسبير»؛ فهو يخوض في غمر من الثروة اللغوية خوضا، وتنساب بين شفتيه الألفاظ انسيابا، لا يجد في ذلك مشقة ولا عسرا؛ فعلى الرغم من ضخامة إنتاجه وتنوعه، تكاد لا ترى صفحة واحدة ليس فيها الدليل الناهض على هذه الصفة فيه؛ فكما ترسل الوردة عبقها إرسالا لا جهد فيه، وكما يفيض عن الشمس ضوءها فيضا، كذلك كانت ألفاظ اللغة تسيل على قلمه سيلا تنتظمه براعة الفن وتمسك بقياده أنامل الفنان، فليس هو اللغو الفارغ الذي يصب الكلام صبا في غير وعي وعلى غير هدى.

لقد أتى هذا الأديب في أدبه بالأعاجيب، فهو مستطيع أن يصور أمام عينيك أغرب ما يستطيع خيال أن يتصوره، وهو مستطيع أن ينفض عن الماضي غبار القدم فإذا هو أمامك في جلاله وجماله، وهو مستطيع أن يتغنى بألوان الجمال التي تبلغ من الدقة حدا يتعذر على غيره أن يدركه فضلا عن أن يعبر عنه، وهو مستطيع أن ينشد على قيثارته أناشيد الحب رقيقة حينا، عنيفة حينا، وهو مستطيع أن يؤجج إنشاءه نارا، وهو مستطيع أن يخفض في إنشائه الصوت ليكون صوتا حزينا. فلو قلت إن «هيجو» كان أعظم من أنشد الشعر الوجداني في فرنسا لما عدوت الحق، لأنه ربما كان أعظم من أنشد هذا الضرب من الشعر في آداب العالم كلها. ولعله استمد هذه القوة الجبارة في غنائه من امتزاج نفسه بما حوله، فهو بشعره هذا يعبر عن وجدانه ثم يعبر في الوقت نفسه عن أنغام العالم بأسره، وقد تردد صداها بين جنبيه؛ فكأنما القصيدة من قصائده يغنيها الكون كله لا شاعر واحد؛ ذلك لأن «هيجو» لم يعتزل تيار الحياة، بل امتزج به امتزاجا جعل الحياة جزءا منه.

ولو زعم «هيجو» أنه الأديب الفنان وكفى، لما وجد إنسانا واحدا ينكر عليه ما زعم؛ لكن الغرور يخدع حتى «هيجو»! إذ ظن أديبنا العبقري أنه حين يكتب، فهو الفيلسوف وهو الأخلاقي وهو المتنبئ وهو المفكر وهو المؤرخ، ومن حقك أن تشك في أن الشاعر قد صدق حين زعم لنفسه هذا كله.

لم يبلغ «هيجو» ذروة كماله الفني طفرة واحدة، إنما تدرج إليها في تطور امتد به أمدا طويلا؛ فهو بعد أن أصدر ديوان «الأناشيد» الذي أسلفنا ذكره، عقب عليه بديوان آخر «أناشيد وحكايات منظومة»،

18

وكانت سنه إذ ذاك أربعة وعشرين عاما؛ وهو في هذين الديوانين على شيء من الانسياق لقواعد الماضي وأفكاره، ولكنك تلمس روح الأصالة فيهما تجاهد في مغالبة هذه الحوائل جهادا دل على وجودها لكنه لم ينته بنصرها نصرا حاسما. ثم أخرج قصتين نثريتين كانتا بمثابة الإعلان عن اتجاهه الصريح نحو الأدب الابتداعي الذي لا تعرقله حوائل الماضي، ولما كان في عامه السابع والعشرين أصدر ديوان «مشرقيات»

19

الذي جاءت قصائده بمثابة الدراسة في الفن الشعري الجديد كيف تصاغ مادته. وبعدئذ اتجه إلى المسرح، وفي المسرح كان جانب الضعف في المدرسة الابتداعية كلها.

نعم، كان الأدب المسرحي هو جانب الضعف في هؤلاء الأدباء الابتداعيين، ومع ذلك فقد شاء سوء الطالع أن يكون المسرح هو ميدان القتال بين الجديد والقديم! وإن في هذه الحقيقة وحدها لدليلا على خاصة يكاد يتفرد بها الشعب الفرنسي، وهي أن الشعب نفسه يساهم في المعارك الأدبية، ولا يتركها لأصحاب الأقلام وحدهم؛ فلم تكن مشكلة الابتداع والاتباع مسألة يناقشها الأدباء والنقاد كما يناقش رجال الفن أمور فنهم فيما بينهم، بل كانت ميدان تنازع بين الناس، وكان ميدان التنازع أرض المسرح. ومن أوضح ما يوضح ضعف أنصار الأدب الابتداعي في المسرح، أنهم وضعوا لأنفسهم برنامجا أرادوا أن يحققوه في أدبهم المسرحي، فكادوا ألا يحققوا منه شيئا، وأول من وضع أسس هذا البرنامج هو «هيجو» نفسه في مقدمة روايته «كرمول».

20

فلقد قيل إن الشعر في طفولة الإنسانية كان شعرا وجدانيا غنائيا، وكان في شباب الإنسانية شعر الملاحم، أما في نضج الإنسانية واكتمال نموها فيجب أن يكون الشعر مسرحيا، والرواية المسرحية إن هدفت إلى شيء فذاك هو الحق الصراح ، يجب أن تعرض لنا الرواية المسرحية أفراد الإنسان في تمام نضجهم الإنساني، ولهم كل ما ينتظر أن يكون لهم في هذه المرحلة من جمال ومن ثورة ومن فخامة ومن جلال، يجب أن تنقل لنا الرواية المسرحية حقائق الطبيعة نقلا أمينا، ومهمة الخيال فيها هي أن تنسق بين شتى العناصر في وحدة متصلة الأجزاء؟ وليس من واجبها أن تقيد نفسها بقيود الماضي من حيث وحدة الزمان ووحدة المكان،

21

إذ كل واجبها في هذا الباب أن تراعي وحدة العمل دون غيرها، فنشاط الأشخاص فيها يجب أن يكون موصول الحلقات، ولا عبرة بعد ذلك أكان مجال هذا النشاط مكانا واحدا أم أكثر من مكان، يوما واحدا أم أكثر من يوم، لكن تصوير الطبيعة الذي أراده «هيجو» لنفسه ولغيره من أدباء المسرح يستحيل أن يتحقق في نطاق المسرح على ضيقه، إنما مجال ذلك القصة؛ ومن هنا كان أساس الفشل.

كانت عبقرية «هيجو»، بل عبقرية أدباء الابتداع قاطبة، في الشعر الوجداني؛ فالشعر الوجداني الذي تنحصر كل مهمته في التعبير عن عواطف الأديب نفسه، عواطفه الفردة التي يتميز بها عن سائر أهل الأرض جميعا؛ الشعر الوجداني الذي تنحصر مهمته في هذه الفردية هو صميم الحركة الابتداعية في الأدب؛ لذلك تجد «هيجو» في مسرحياته فاشلا إلا فيما تحتوي عليه تلك المسرحيات نفسها من مقطوعات تعبر عن وجدان الشاعر! فهو حين أخرج روايته «هرناني»، ومثلت في «المسرح الفرنسي» أحدث ضجة بل أحدث معركة حقيقية بين جدران المسرح إبان تمثيلها، كان يناصره فيها جماعة من الشبان ويعارضه قوم ممن استمسكوا بالتقاليد المسرحية، ودوى في المكان صوت قائل: «اقتلوه!» ولعلك من هذا وحده تستطيع أن تقدر ما بلغته حماسة القوم في النزاع الأدبي القائم، وما بلغته رواية «هيجو» الأولى من البعد عن التقاليد. وقد كان يكون هذا التجديد محمدة لولا أنه لم يكن في حلبة الأدب المسرحي من فرسانها. وتوالت رواياته المسرحية ثم انتهى أمرها جميعا إلى الفشل.

نعود إذن إلى شعره الخالص؛ فقد صدر له بعد ديوان «المشرقيات» ديوان آخر عنوانه «أوراق الخريف»

22

الذي جاء آية في الشعر الوجداني، فها هنا بث الشاعر ذكرياته وهواتف قلبه وأمنيته في حياة هادئة، وها هنا أبدى الشاعر عطفه على كل عنصر من عناصر الطبيعة مؤداه الهدوء والقرار، كما أبدى عطفه على الإنسانية كلها وإيمانه بالله وأمله في الخلود. ثم أصدر «أغاني الشفق»

23

وفيه ارتياب وهم وقلق، فهو ساخط على الحاضر كما يراه متمثلا في ملكية ضعيفة، ممجد لشيئين يراهما جديرين بكل إجلال، نابليون في الماضي القريب، وطغيان قوة الشعب في المستقبل المرجو طغيانا يثل عروش الملوك؟ وبعد ذلك ظهر له «أصوات باطنة»

24

استأنف فيه شعائر ولائه وتمجيده لنابليون من جهة، ورجاءه في أن يقوى سلطان الشعب من جهة أخرى. وهنا أدار «هيجو» أذنيه إلى الطبيعة، فصدر له ديوان «البقرة»

25

الذي رمز به إلى أمومة الطبيعة للكائنات الحية جميعا ورعايتها لهم، وهو يمضي بعدئذ في ديوان «أضواء وظلال»

26

لينبئنا أن الطبيعة ليست أما رءوما وكفى، بل هي كذلك معلمة للنفس مهذبة للقلب توحي له بما توحي. وكان الشاعر قد بلغ عندئذ عامه الأربعين تقريبا، ثم صمتت قيثارة شعره الوجداني نحو ثلاثة عشر عاما خاض خلالها بحر السياسة المتلاطم الأمواج، وفي هذه الفترة لاقى ما لاقى من أحزان وكوارث؛ فابنته وزوجها لقيا حتفيهما مغرقين، وهو أصابه النفي! ومن أروع ما أنشأه في نهاية هذه الفترة قصيدة «ألوان العقاب».

27

ثم عادت قيثارته إلى الغناء، فأخرج «التأملات»

28

في عدة أجزاء ضمن قصائدها الأولى ذكريات ماضيه، ثم عقب على هذه بأحزانه على ابنته، ثم ختمها بمجموعة رائعة امتزج فيها الظل والنور، فهو مشرق مرة، كئيب النفس مرة. وبعدئذ اضطلع الشاعر بإنتاج فني عظيم تطلب منه كل ما وهبه الله من نبوغ في الشعر الوجداني، إذ أراد أن يعرض صورا متفرقة من تاريخ الإنسانية كلها، فصدر الجزء الأول من «أسطورة القرون»

29

وعمره سبعة وخمسون عاما. وهو في هذه الآية المجيدة الخالدة ينشر أمام ناظريك حياة الإنسانية منذ ظهرت حواء إلى أن ينفخ في الصور يوم الحساب؛ فتنشرح صدرا لما تراه هنا وتضيق صدرا لما تراه هناك، لأن الإنسانية في تاريخها تبشر بالأمل مرة وتبعث على اليأس أخرى؛ فهذا عظيم بلغ قمة المجد، وهذا مجرم تتبعه القصاص. والأمل الأكبر على كل حال هو في مجموعة الشعب، فلئن برهن الملوك على أنهم طغاة، والقساوسة على أنهم أشرار مناكيد فليكن بطل الملحمة كلها هو الشعب بأسره، لا هذا الفرد ولا ذاك. لقد جاءت «أسطورة القرون» دعامة للدعوة الديمقراطية، ثم ما هو إلا أن أخرج الأديب للناس كتابا آخر، ليكون للديمقراطية دعامة أخرى، ذلك هو كتاب «البؤساء»

30

وكان له من العمر إذ ذاك ستون عاما، والكتاب أقرب إلى أن يكون ملحمة نثرية منه إلى أن يكون قصة بالمعنى الدقيق، فالبطل طريد المجتمع لكنه يحمل بين جنبيه نفسا أبية، وكل صفحة من الكتاب تستوقف منك النظر والسمع والحواس جميعا، فالكاتب يؤرخ لك مرة، ويقص عليك مرة، ويصف ثالثة، ويغني رابعة، ويتفلسف خامسة، وهكذا دواليك تتوالى عليك الصور شتى كأنك في حلم يثير فيك الفزع.

جاوز الشاعر الستين، فالسبعين، فالثمانين، وآثاره تترى تباعا. ونحن إذ نقدم لك «هيجو» في صفحات نحس كأنما نحاول أن نصب البحر الخضم في كوب. وحسبنا أن نقول إن دولة الشعر تفخر أن كان بين أعلامها «فكتور هيجو».

وهاك بعض أمثلة من شعره:

لو كانت أشعاري مجنحة؛

مجنحة كأنها عصفور،

إذن - في حسنها ورقتها -

لودت إلى بستانك الأغن تطير. •••

لو كانت أشعاري مجنحة؛

مجنحة كأنها الروح،

لطارت إلى دارك السعيدة دفئا

كأنها شرر في الهواء يلوح. •••

لو كانت أشعاري مجنحة؛

مجنحة كأنها الحب،

لما انفكت في صفائها وولائها

نحو دارك تسري، سعدها القرب.

وهذه قصيدة أخرى عنوانها «ما دمت قد وضعت شفتي»:

31

ما دمت قد وضعت شفتي على كأسك المترعة؛

ما دمت قد أسندت على كفيك شاحب جبهتي؛

ما دمت قد تنفست أريجا ذكيا

عبقت به روحك عطرا هو الآن في ظلمة القبر؛ •••

ما دمت قد نعمت بالإنصات إليك تحدثين

بكلم يفيض له القلب معقل الأسرار؛

ما دمت قد رأيت العبرات، ما دمت قد شهدت البسمات

على فمك إذ هو إلى فمي، وعلى عينيك إذ هما إلى عيني؛ •••

ما دمت قد رأيت على جبهتي الشعاع ساطعا

من نجمك - وا أسفاه! - نجمك الذي غرب إلى الأبد؛

ما دمت قد رأيت في تيار دهري قد سقطت

ورقة ورد قطفتها من دهرك؛ •••

ففي مكنتي الآن أن أقول للأيام التي أسرعت خطاها:

اذهبي! إلى الأبد اذهبي! فهيهات أن تزيديني هرما!

امضي بأزهارك التي ذبلت أوراقها؛

إن في طوية نفسي زهرة هيهات أن تقطف، •••

في استطاعتك أن ترجي من الفؤاد إناء

أترعته ليرويني، لكنك لن تسيلي منه قطرة واحدة؛

اصنعي ما شئت، ففي الفؤاد شعلة لن تستحيل رمادا!

اصنعي ما شئت، ففي القلب غرام لن يمحوه نسيان!

وهذه قطعة أخرى عنوانها «القبر والوردة»:

32

قال القبر للوردة: «ماذا صنعت يا زهرة العشاق

بقطر به الفجر رواك؟»

فقالت الوردة للقبر: «وأنت ماذا صنعت بالأولى هبطوا

جوفك الذي لا يني الأجساد يلتقط؟» •••

وقالت الوردة: «أيها القبر البهيم

من ذلك القطر أصنع - لا أرى -

شهدا شهيا وعنبرا!»

قال القبر: «يا وردة شائكة،

كل روح هنا قدم

صيرته من ملائكة السما.» (4) ألفرد دي فني

Alfred de Vigny (1797-1863م)

ربما جاز لنا أن نقسم خصائص الأدب الابتداعي قسمين؛ فهو أدب يميل إلى التنوع والخصوبة وسعة الأفق وارتفاع النفس من جهة، وهو أدب يختص الفرد بكل عنايته من جهة أخرى. وقد ظهرت هاتان الخاصتان معا في أدب «فيكتور هيجو»، ثم انشعبتا منفصلتين عند اثنين من زملائه، في «ألفرد دي فني» عني بالأولى، وعني «ألفرد دي ميسيه» بالثانية.

التحق «دي فني» بالجيش ضابطا، فتبع في ذلك مهنة أبيه، ولكنه أديب مطبوع، فلم يكن مناص من أن يقرأ أدبا وأن ينتج أدبا؛ فعب من الأدب اليوناني القديم عبا، كما قرأ العهد القديم من الكتاب المقدس، ودرس ما كتبه فلاسفة القرن الثامن عشر. ولم يكد يبلغ الفتى عامه الثامن عشر حتى أنشأ قصيدة رائعة عنوانها «عروس الغابة»

33

وهي تفوح بأريج اليونان، فجاءت القصيدة مبشرة بالروح اليوناني الذي ظهر واضحا في شعر «شنييه» الذي أسلفنا الحديث عنه. وبعد ذلك بأعوام أربعة أصدر أول دواوينه، ثم أعقبه بعد أربعة أعوام أخرى بديوان ثان أطلق عليه «أشعار قديمة وحديثة»

34

ضمنها قصيدته الرائعة «موسى»

35

الذي صوره صاعدا جبلا وقد تجسدت في شخصه العزلة كما تمثل فيه عبء العبقرية الباهظ؛ فالعبقرية عبء يضطلع به العبقري. وكان الأمل الذي يتردد في نفس موسى، وهو في عزلته تلك، أن يختاره الله إلى جواره، فقد أدى رسالته وبقي على من بعده أن يسيروا بالشعب في الطريق الذي رسمه.

ولما بلغ «دي فني» الثلاثين من عمره، غادر الجيش وتزوج من سيدة إنجليزية، وأخذ يقرأ الأدب الإنجليزي في شغف أغراه بنقل بعضه إلى الفرنسية، فترجم عن شكسبير روايتي «عطيل» و«تاجر البندقية»، ومثلت الأولى في جو صاخب من تصفيق الشبان الذين حملتهم الثورة الأدبية الابتداعية على تيارها الدافق. ومما هو جدير بالذكر هنا أن لفظة «منديل» وردت في هذه الرواية ونطق بها الممثلون على المسرح، فما كان أشأمه من يوم عند أنصار القديم أن يروا الأدب المسرحي قد تهدمت أركانه ودخلت فيه ألفاظ لم تكن من النخبة الشريفة التي كان لها وحدها حق الدخول في المسرح! كيف جاز لأديب وكيف جاز لممثل أن يستخدم لفظا كهذا تواضع العرف الأدبي على ألا يستخدم؟! لكنها الثورة الأدبية الابتداعية تقوض من أوضاع القديم حجرا بعد حجر، ومن ورائها الشبان المتحمسون يصفقون إعجابا. وأخرج «دي فني» رواية تمثيلية عنوانها «تشاترتون»

36

صادفت في عالم المسرح نجاحا عظيما، وإن يكن نجاحها ذاك في رأي النقاد اليوم أكثر مما تستحق. ومضت سنوات عشر بعد «تشاترتون» فعين «دي فني» عضوا في المجمع العلمي الفرنسي، وقد كانت تلك الرواية بمثابة قمة صعوده، لم يكد يخرج بعدها شيئا سوى طائفة من جيد قصائده.

كان «دي فني» بين زملائه وأترابه فريدا وحيدا، لا يتأثر في قليل أو كثير بأدب معاصريه، بل لا يمزج نفسه بنفوس معاشريه، كأنما استطابت تلك النفس الفريدة أن تعيش من برجها العاجي في عزلة عن الناس؛ واكتفى من دنياه بأفكاره وخواطره يجعل منها عالما خاصا له يحيا بين جنباته، على نحو كاد معه أن يرى شيئا من الخطيئة في أن يخرج تلك الأفكار والخواطر في أدب يقرؤه سواه. ف «دي فني» لم ينظر إلى الحياة نظرة المتفائل، شخص إليها ببصره فما وقع منها البصر على شيء يسحره ويفتنه، ولم ير في مستقبل الحياة من الرجاء ما يعوض نقصها الراهن؛ فمستقبلها يبدو له معتما كحاضرها. فبهذا اليأس انكمش شاعرنا في قوقعته لا يريد من حياته شيئا، لكن ذلك اليأس لم ينته به إلى ثورة من غضب ومقت، بل كانت نتيجته شعورا بالإشفاق على بني الإنسان، من صنع منهم الخير ومن صنع الشر على السواء، وأخذ ينثر يأسه هذا في أدبه، ففي «غضبة شمشون»

37

عبر عن يأسه من الحب الصحيح، وفي «جبل الزيتون»

38

جعل المسيح يبحث عن الله عبثا، وعلى مقربة منه يهوذا متخفيا ليعبر على لسانه عن يأسه من الدين. وماذا ترجو من شاعر ينظر إلى الأرض فلا يراها - كما يراها غيره - أما رءوما بل قبرا تسوى فيه الأجساد جثثا هوامد؟ ومع ذلك كله فليس هو بالناقم على السماء ولا بالساخط على الأرض ولا بالمتمرد على ما أريد للإنسان، فعليه أن يلاقي حتفه إذا ما جاءه الأجل راضيا بقضاء الله فيه كما قال في آيته الرائعة «موت الذئب»

39

إذ قال عن الذئب الذي تعقبه الصائدون حتى أوردوه منيته: إنه لاقى الردى صامتا، فكان بذلك كأنما يعبر عما كتب للإنسانية جميعا أن تلاقيه. كان «دي فني» بين معاصريه الأدباء مفكرهم الهادئ الرصين، فإن أزلت عن شعره ازدهار الألوان وأنغام الألفاظ، بقي لك فكره الخالد.

وهاك مثالا من شعره؛ جزءا من قصيدة «البوق»:

40

أحب صوت البوق يرن في جوف الغابة إذا أمسى المساء،

أحبه إن كان نعيا لصيد يتهدده الخطر،

أحبه إن كان وداعا لصائد يردده خافت الأصداء،

وتحمله ريح الشمال من ورقة إلى ورقة فوق الشجر. •••

لطالما جبت وحيدا في ظلام الليل إذ الليل انتصف،

فسرني صوت البوق حينا، وأحيانا صوت البوق أبكاني!

إذ تمثلت في صوته أصوات عصر سلف

أطلقت نذرا بوشيك موت لأبطال وشجعان. •••

أيها الجبل اللازوردي! أيها البلد الحبيب!

إيه يا صخور «فرازونا» ويا رءوس «ماربوريه»

يا مساقط الماء اكتسحت معها أحمال الجليد،

ويا جبل البرانس بالمنابع والأنهار والسيول تجري في حواشيه! •••

يا جبالا أثلجت وأزهرت فتربع فوق عرشها فصلان؛

عرش له الثلج هام والمرج موطئ الأقدام،

ها هنا يطيب المقام، ها هنا تنصت الآذان

لصوت البوق البعيد يرن حزينا حلو النغم. •••

رب مسافر حين سكن الهواء

هز الليل بصوت قوي،

بنشيده المنغوم اختلط الثغاء

من حمل رن بجرس معدني. •••

لم يفر الظبي هاربا بل ظل مصغيا،

جمد الظبي فوق التل واستقر،

وفي هدير الماء إذ تحدر داويا

امتزجت شكاته بنشيد عهد غبر. (5) ألفرد دي ميسيه

Alfred de Musset (1810-1857م) «دي فني» و«دي ميسيه» نقيضان، فلئن كان الأول بين زملائه المفكر الرزين الهادئ، فقد كان الثاني بمثابة الطفل المدلل رعونة وغراما وجاذبية وجريا وراء الشهوات، لكنه مع هذا كله كان الشقي العاثر الجد، وكان شعره سجلا لهذه المشاعر المتقلبة وهذه الحالات النفسية المختلفة التي تعتريه آنا بعد آن، وهذا الحب الذي كان دائما ينتهي به إلى الفشل، وهذا اليأس الذي تولاه آخر الأمر.

أبوه هو الذي أرخ له «روسو» وإذن فقد تشرب الأدب منذ نعومة أظفاره عن أب أديب، فلما أن شب تلفت حوله فإذا المجد السياسي الذي ازدهر على يدي نابليون قد انقضى، وإذا بالإيمان الديني الذي كان ذات يوم يعمر القلوب قد مضى؛ فماذا بقي حيا بين الأحياء يستمسك به؟ بقي له الشعر، فهذا هو شعر «شينييه» يطبع وينشر، وهؤلاء هم «لامارتين» و«هيجو» و«دي فني» يفتحون أمام خياله المتوثب آفاقا فسيحة الأرجاء، وهذا شاعر الإنجليز «بيرن» قد خلف للناس «تشايلد هارلد» و«دون جوان»، فإن كانت هذه الثروة الشعرية كلها أمام عينيه، وإن كان الله قد خلقه شاعرا، فليمرح إذن في جو خلقه الله ليعيش فيه.

كان «دي ميسيه» شاعرا من شعراء الابتداع، مدفوعا إلى ذلك بفورة شبابه، أكثر منه بعقيدة وإيمان؛ فقد تجمعت فيه خصائص الشباب على نحو ما تجمعت في «بيرن» من قبله، فكنت تراه في عامه التاسع عشر شابا مستهترا ساخرا شكاكا أفاكا؛ وبهذه الروح أنشأ الشعر أول الأمر، لكن بعض هذا الشعر الأول جاء جيد الإنشاء، وكان لبعض مقطوعاته وأبياته من الرشاقة ما يذكر بخير الشعر وأجوده. ثم مر الشاعر بعد ذلك الشطر الأول من حياته الشاعرة في دور انتقال انتهى به إلى ما خلق له، فلم يكن «دي ميسيه» ابتداعيا خالصا تذهب به الحماسة إلى الاتجاه الجديد مذهبا ينكر معه الأعلام القدامى؛ فلئن أعجب ب «هيجو» فقد أعجب كذلك من الاتباعيين القدماء ب «راسين»، فشاعرنا كانت له شخصيته الفذة التي تأبى أن تذوب في هذه المدرسة أو تلك. نعم لم يكن «دي ميسيه» من الأساطين القادة، وكانت لقدرته وموهبته حدودها، لكنه أراد ألا يشرب إلا من كوبه الصغير، وألا يستوحي إلا نفسه؛ وكان ما احتوى عليه ذلك الكوب حبا وشبابا ممزوجين بشيء من دواء مرير.

ففي عامه الثالث بعد العشرين كان مع الكاتبة القصصية الفرنسية «جورج ساند» - وسنحدثك عنها في فصل تال - كانا معا في ربوع إيطاليا، وها هنا اعتراه يأس بعد ما كان قد ملكه من غرور، وها هنا عرف كيف تكون الحياة قاسية على الأحياء، عرف ذلك لا بقوة خياله بل بدرس من الواقع الذي يخوض فيه ويعانيه، ولكنه لم يلبث أن عاوده شيء من طمأنينة النفس، واستيقظ من الشاعر نبوغه الحق، فلم يعد ذلك الشاب الذي إن أخذه اليأس فعن رعونة الشباب، وإن رق حسه فعن ضعف وانحلال، كلا بل أخذ الآن يغني غناء قويا ينبعث من أعماق قلبه، ويوحي به ما يصادفه في إيطاليا من لذة وألم، وبهذه الروح أنشد «الليالي»؛

41

فكأنما الألم الذي عاناه وهو في إيطاليا قد أنضج فيه الشاعرية، وأنطق لسانه بأجود قصائده.

على أن عظمة «دي ميسيه» هي لا شك في رواياته التمثيلية، فهو في رواية «الكوب والشفاه»

42

يصور صاحب العاطفة الشهوانية الجامحة وقد أراد أن يهتدي إلى طهر الحياة ونقائها فلم يوفق، وفي «نامونا»

43

يمثل الحب وقد أخذ يغري فريسته بمغريات الشهوة ومثيراتها؛ ثم أراد في روايته التاريخية «لورنزاشيو»؛

44

أن يحاكي شيكسبير فكان له منه شيء ثم خانته قدرته المحدودة أن يبلغ مداه، وأطول قصصه النثرية «اعتراف ابن العصر»

45

الذي «تقيأ الحق على صفحاته» - على حد تعبيره - وخلاصة الكتاب أن يبين أن حياة الدعارة منتهية بصاحبها إلى تشاؤم بالحياة كلها. وله كذلك طائفة من القصص القصيرة تعد من أبرع ما أنتجه الخيال في هذا الباب.

على أن «دي ميسيه» قد وازن آخر الأمر بين رهافة الحس ورجاحة العقل، بين العاطفة الهوجاء والعاطفة الرشيدة في «أهواء ماريان»

46

وفي «ليس في الحب مهاذرة»

47

وغيرهما، مما أقام به الدليل على أن الفن الابتداعي يستطيع بشيء من الاتزان أن يبلغ المثل الأعلى للفن الاتباعي في آن معا؛ ففي هذه الآثار الأدبية التي أنتجها أخيرا التقى جلال الاتباع بجمال الابتداع، وتقابل العقل والقلب، وأدنانا الشاعر من شيء شبيه ببعض ما جادت به قريحة الفنان الأكبر «شيكسبير».

ومن شعره:

أغنية

إذا المرء لم يسعده نجمه،

فضاع الأمل،

وغاض الجذل،

وأراد دواء يزول به همه،

فالموسيقي دواؤه،

والجمال شفاؤه. •••

ما أبعد الفرق في قوة الفعل

بين وجوه الملاح

وبين عدة وسلاح!

خير ما في الحياة من فضل

نغم حلو حنون

أحبه السالفون.

وهذه قصيدة أخرى له عنوانها «في امرأة ماتت»:

48

كانت جميلة، ذلك إن كان «الليل»

كما صورته ريشة «أنجلو»

نائما في محرابه المظلم

جامدا، يعد جميلا. •••

كانت محسنة، ذلك إن كفانا

من الإحسان أن تنفتح الكف وتعطي،

لا يرى الله عطاءها ولا يقول فيه قولا،

كانت محسنة إن عد الذهب الذي لا رحمة فيه إحسانا، •••

كانت تفكر، ذلك إن كان اللغو الفارغ

يقال في صوت منغم رخيم

كأنه خرير الماء،

إن كان ذلك تفكيرا وتعبيرا. •••

كانت تصلي، ذلك إن كانت العينان الجميلتان

تصوبان نحو الأرض آنا،

وتصعدان نحو السماء آنا،

مما يجوز أن يعد صلاة. •••

كانت تبتسم، لو كانت الزهرة

التي يتفتح كمها

تنفرج إذا ما مسها

الهواء البليل الذي يمضي عابرا فينساها. •••

كانت تبكي، لو كانت كفها

الموضوعة باردة على قلبها،

تحس مرة واحدة - وهي التي في جسد من طين -

بقطرات الندى ساقطة من السماء،

كانت تحب لو لم تقف كبرياءها

حارسا على قلبها العقيم فيحول بينه وبين الحب،

كأنه المصباح نوقده إلى جانب اللحد،

فضوءه لا يهدي من رقد فيه. •••

إنها ماتت دون أن تحيا،

لم يكن لها من الحياة إلا صورة الحياة،

سقط الكتاب من كفيها

دون أن تقرأ من الكتاب شيئا. (6) ثيوفيل جوتييه

Theophile Gautier (1811-1872م)

بلغ الشعر الوجداني الذي يعبر فيه الشاعر عن نفسه أقصى مداه في شعر «ميسيه» وها نحن أولاء نصادف شاعرا آخر من شعراء الابتداع يتخذ لابتداعه طريقا آخر غير الطريق التي سلكها «ميسيه». فها هنا عند «جوتييه» نجد شاعرا لا ينطق بشعره دخيلة نفسه، بل يخضع نفسه للموضوع الخارجي الذي يستوقف حواسه والذي يستثير فيه قول الشعر؛ ف «جوتييه» حين يكتب الشعر بمثابة عين ترى ويد تلمس؛ إذ هو يتخذ من نفسه أداة تخدم الشيء الخارجي، فالشيء الذي يدور عنه القول هو هنا صاحب السلطان.

ولقد حدثناك عن رواية «فيكتور هيجو» «هرناني» كيف جاءت فاتحة لعهد جديد تصدم أنصار القديم حين تحطم لهم بعض القواعد التي قدسوها والتي ظنوا أن لا أدب بغيرها، وذكرنا لك كيف كان الشعب نفسه يشترك في جوف المسرح في المعركة الناشبة بين أنصار القديم وأنصار الحديث؛ فقد كنت تسمع تصايحا وتراشقا بالسباب أحيانا بين هؤلاء وهؤلاء. ولكي نقدم لك صورة دقيقة لإخلاص «جوتييه» للمذهب الابتداعي الجديد، نروي لك أن صديقا شاعرا طلب إليه أن يحضر ليساهم في المعركة الدائرة رحاها حول «هرناني» فأقسم «جوتييه» بالجمجمة التي قيل إن الشاعر الإنجليزي «بيرن» كان يشرب فيها الخمر، إنه لن يتخلف عن الأخذ بنصيبه في مظاهرة الجديد؛ وفي هذا القسم وحده ما يكفيك دلالة على روح الشاعر الذي نقدمه الآن؛ ف «بيرن» رمز قوي لروح الابتداع، وشربه الخمر من جمجمة علامة واضحة لحياة ترسل نفسها مع العاطفة دون العقل. هكذا أخلص «جوتييه» الولاء لمذهب الابتداع، بحيث اتخذ من «مشرقيات» «هيجو» دستوره في الشعر، و«هيجو» في «المشرقيات» لم يجعل غاية من فنه إلا الفن لذاته، وترك لنفسه الحبل على الغارب تفيض بما يملؤها، لا يراقبها في فيضها إلا ضوابط الفن وحدها. وعلى هذا النحو أخرج «جوتييه» أول دواوين شعره «أشعار»

49

وكان له من العمر إذ ذاك تسعة عشر عاما، ثم أخرج «ملهاة الموت»

50

وفيه يسوق صورا نواصع من «رفائيل» لامارتين و«فاوست» جيته، و«دون جوان» بيرن، ليقيم بها البرهان على أن المعرفة والمجد والفن والحب كلها عبث لا جد فيه.

شغل «جوتييه» نفسه بالنقد الأدبي حينا وبالنقد الفني حينا، فهو اليوم في مسرح وهو اليوم في متحف، ليسمع ويرى ثم ينقد، وكان في نقده أقرب إلى أن يقدم لقارئه آثار ما يسمع وما يرى منه إلى أن يصدر له أحكاما. وأروع ما كتبه في النقد الأدبي هو ما اختص به بعض أدباء القرن السابع عشر، ونشره في مجلد واحد مع دراسته للشاعر «فيون»

51

بعنوان «الشوامخ».

52

ولما بلغ التاسعة والعشرين من عمره، شد رحاله إلى إسبانيا فإيطاليا فالجزائر فالقسطنطينية فروسيا فاليونان، وهو في كل هذه الرحلات ينقل عينيه فيما يصادفه فكأنما هو يرى في كل شيء فتنة في اتساق الألوان. لقد كان العالم في رأيه مجالا للعين ترسل في جنباته البصر لتشهد هذا الجمال اللوني، فهو لم يسافر أسفاره تلك ليدرس الحياة، بل سافر ليرى «بديع صنع الباري». نعم سافر ليرى، حتى إذا ما عاد وأرجعت له ذاكرته القوية ما رأى، أخذ يرسم للقارئ صورة بما حباه الله من قدرة عجيبة على وعي ألفاظ اللغة واستعمالها في مواضعها الصحيحة، بحيث يقرأ القارئ فكأنه يرى ما كان قد رآه الكاتب، فلا تنحرف الصورة في موضع ولا يخبو لونها في موضع، بل هي كاملة زاهية في كل جوانبها على السواء، فهو في إنشائه مصور يستخدم الألفاظ والقلم مكان ريشة الفنان وألوانه. وليس المعجم في عرفه مجموعة من ألفاظ رص بعضها إلى جانب بعض على نظام معلوم، إنما هو صندوق من جواهر يسطع لونها ويتلألأ بريقها، ومهمته أن يختار من هذا الكنز الحقيقي جوهرة من هنا وجوهرة من هناك ليصوغها الصياغة بمعناها الحرفي الذي يفهمه الجوهري حين ينسق أحجاره الكريمة تنسيقا يرضي قواعد الفن.

وكتب «جوتييه» قصصا يخاطب به الطبقة الوسطى، وقد وفق فيما كتب من حيث جودة الفن والصياغة، أما محصوله الفكري فليس مما يميز نابغا من أوساط الناس، فآراؤه فيما عدا نظراته في الأدب والفن، لا ترتفع كثيرا عن آراء هؤلاء. وقد كان في حكاياته محبا للصور الغريبة التي تثير في قارئه العجب والدهشة، وخير ما أنتجه في هذا الباب «الضابط فراكاس»

53

وهي حكاية عن جماعة من الممثلين الجوالين في عهد لويس الثالث عشر.

و«جوتييه» في شعره - كما هو في نثره - صائغ يصوغ اللفظ الجميل في سبك جميل، فليس همه أن يثبت خواطره ومشاعره، كلا فهذه فردية عرف بها غيره من أدباء الابتداع، أما هو فيريد وصف الشيء لا وصف ما يدور في نفسه؛ إنه اختار لنفسه موقف الرسام والصائغ؛ فهذه هي الحياة يتلاطم موجها حوله، لكنه لا يريد منها شيئا لأنها ليست غايته، غايته الأولى والأخيرة أن يرى بعينيه لا بقلبه، وأن يرسم لقارئه ما رآه مزخرفا جميلا؛ وبهذا كان «جوتييه» حلقة اتصال بين مدرسة الابتداع التي عنيت بنفس الأديب، وبين مدرسة ستتلوها تجعل عنايتها أدبا موضوعيا.

وهاك مثالا لشعره قصيدة «الفن»:

54

ألا إن آية الفن تزداد بهاء

إن اقتضت صناعتها عناء

فيه عنف،

شعرا، نحتا، زخرفة ورسما، •••

القيود السخيفة لا ترضيها،

فلكي تمشي مشية أنت أهل لها

يا ربة الفن،

فالبسي حذاء على قدر رجليك. •••

ازدري القوافي إن أفرطت في يسرها

كأنها النعل فاضت الحد في حجمها

فجاءت طرازا،

كل قدم تستطيع لها لبسا وخلعا. •••

أيها المثال لا تختر من الطين

ما لكل غمزة خفيفة يلين

تحت إبهامك؛

إذ روحك في الأفق البعيد تهيم. •••

بل غالب بفنك صلب المرمر؛

فبالصخر القوي الأعسر

والأندر

تخلد واضح القسمات. ... ... ... ...

أيها الرسام اطرح أصباغ الماء،

ثبت ألوانك في قوة وبهاء

وإن وهنت.

وسلط عليها لهيب الفن. ... ... ... ...

كل شيء فان، إلا الفن المكين؛

فباق وحده إلى أبد الآبدين،

فتمثال

يحيا بعد مدينة تفنى بأسرها، •••

رب وسام قل زخرفه

يراه العامل الحفار وهو يجرفه

في التراب؛

عن صاحب الصولجان يحدث، •••

الآلهة بجلالها تفنى،

وجيد الشعر لا يفنى

بل يخلد

أبقى على الدهر من قطع المعدن؛ •••

فيا صاحب الفن، صقلا ورقما،

واجعل منك عابر الحلم

ينطبع

فوق صم الجلاميد. (ب) القصة

كان الأدب القصصي خلال القرن التاسع عشر سجلا أمينا لما شهده العصر من نزعات شتي؛ فمن أراد من الناس أن يعود إلى الماضي الزاهر، ففي القصة أداته، ومن أراد منهم أن يقصر نفسه على الحاضر المحيط به يصوره كما يقع، ففي القصة ميدانه، ومن أراد منهم أن يكون الأدب تعبيرا عن مشاعر الأديب وخواطره، وأن تكون مهمة الأديب هي أن يصب على الورق ما يجيش به صدره، ففي القصة كذلك مجال فسيح؛ وإذن فستجد بين قصص هذا العصر، قصصا تاريخيا، وقصصا يصور الواقع، وقصصا يعبر عن وجدان الأديب.

أما القصص التاريخية فقد بدأت في هذا العصر الذي نقدمه إليك، على يدي «دي فني» - الذي حدثناك عنه في قسم الشعر الذي سلف - ثم على يدي «هيجو» في قصته المشهورة «نوتردام دي باري»

55

ولو أن روعة هذه القصة في نصوع خيالها ودقة شاعريتها لا في قيمتها التاريخية، ثم انتهى هذا النوع من القصة إلى يدي «اسكندر ديماس»

56

فبلغ عندئذ حدا بعيدا من الكمال يتمثل في قصته المعروفة «الفرسان الثلاثة»

57

التي يستحيل أن يقرأها قارئ ثم ينكر عليها ما تضطرب به من حياة نابضة وحركة دائمة، وما يسطع فيها من خيال وابتكار أصيل، وليقل المؤرخون في صدق حقائقها التاريخية ما يشاءون؛ فحسبنا أن يتخذ التاريخ إطارا تصب فيه هذه الحياة الدافقة. وقد رزق الله «ديماس» ذهنا حيا نشيطا مبتكرا، هو في ابتكاره للصور والمعاني أسرع من يده في إثبات ما ابتكر على الورق؛ فذلك المعين المليء ما كانت لتستطيع يد واحدة أن تفرغ ما فيه، لهذا استخدم طائفة كبيرة من المعاونين يكتبون له ما يخلق فكره، لعلهم بكثرة أيديهم العاملة مستطيعون أن يلحقوا بهذا الذهن الجبار الذي يطيرا طيرا. ولقد قيل إن هذه الجماعة التي أخذت تعمل تحت إشرافه أخرجت ألفا ومائتي قصة، لم يكن معظمها أدبا صحيحا، إنما استحال الأدب بضاعة تخرجها آلات لتسد حاجة الأسواق. وجمع «ديماس» من وراء ذلك مالا طائلا بدده بغير حساب ولا حذر، ومات فقيرا ينفق عليه ابنه ويحميه. (1) ستندال

Stendhal (1783-1842م)

بهذا الاسم المستعار كتب «هنري بيل»

58

الذي لم يصادف إعجاب معاصريه، لكن الرجل كان يؤمن بقيمة فنه، وآمن معه بها أعلام القصة مثل «مريميه»

59

و«بلزاك»؛

60

فتنبأ لنفسه بأن أدبه سيجد التقدير الذي كان به جديرا، حين ينصرم الشطر الأكبر من القرن التاسع عشر. وصدقت نبوءته، ففي نحو التاريخ الذي حدده كانت قصصه موضوع الدرس وموضع الإعجاب؛ فقال عنه «تين»

61 - وهو من فطاحل النقد في عصره - إنه أعظم من عرف أسرار النفس البشرية من أدباء القرن التاسع عشر جميعا.

لقن «بيل» أيام طفولته وجوب أن يكتم في نفسه أحاسيسه، فيبدو في الناس بوجه لا ينم عما يدور في طويته، فكأنما تعلم بذلك أن يضرب بين نفسه وبين الناس حجابا كان له مصدر شقاء في صغره، ثم كان عاملا قويا على العزلة الموحشة في كبره. وقد خدم في جيش نابليون بجد، وكان يضع عليه ستار الهدوء الذي وافق طبيعة تكوينه، ثم أحس في نفسه ميلا شديدا إلى إيطاليا؛ مناظرها وأهلها وموسيقاها وفنها، فاختارها مستقرا ومقاما، كما اختار لغذائه العقلي فلاسفة القرن الثامن عشر الذين وجد في مذهبهم المادي ما يتفق مع وجهة نظره، فقد كان يرى أن ما ينسب إلى الله عبث كعبث الأطفال، وفي ذلك قال «إن العذر الوحيد الذي يشفع لله ما يصنع هو أنه غير موجود.» وفي رأيه أن هدف الإنسان الأخير هو المتعة في هذه الحياة، فما كان أشد إمتاعا من غيره كان أفضل، والإنسان أناني بطبعه ولا ينبغي له أن يقاوم في نفسه هذه الأنانية لأنها قانونه الذي يحيا بمقتضاه. ولقد مجد في نابليون تمثيله للقوة، ففي شخصه تجسدت رغبة الإنسان في النفوذ والسيطرة.

ويرى «بيل» أن الإنسان خير موضوع لدراسة الأديب، فهو في كتابه «عن الحب»

62

يبحث هذه العاطفة بحثا تحليليا دقيقا وينفذ إلى صميمها ما وسعته قدرته على التفلسف والتأمل، وهي قدرة محدودة على كل حال، لم تبلغ ما قد يبلغه الفلاسفة. ورأيه في النقد الأدبي - وهو رأي مهد به الطريق إلى «تين» - هو أن الأديب حاصل جمع الظروف التي أحاطت به، فادرس نشأته ووسطه وتربيته وسائر العوامل التي أثرت فيه دراسة دقيقة يكن لك كل ما تريد من أدبه وما يحويه من عناصر. وبهذا الرأي نفسه تأثر في كتابته للقصة، فهو في أدبه القصصي يتتبع هذه العناصر المتفرقة التي تتجمع في نفس هذا أو ذاك من الناس وتكون له عاطفته أو إرادته وطرائق سلوكه. ومن قصصه «الأحمر والأسود»

63

وبطلها رجل من طبقة دنيا استبدل بالرداء الأحمر رداء القساوسة الأسود ليصنع تحت ستاره ما يريد من نفاق وتضليل وغدر وإجرام. ولعله بذلك يشير إلى المخرجين اللذين بثت خلالهما الإنسانية في عهده نشاطها وحيويتها، فقد أجرت هذا النشاط وهذه الحيوية في الحروب النابليونية، ثم أعقب ذلك حركة رجعية أرادت أن تسترد ما أضاعته تلك الحروب. وفي قصة «راهبة بارما»

64

يصور لنا إيطاليا إبان القرن التاسع عشر وما عرف به أهلها عندئذ من طبائع وأخلاق، وقد أجرى في هذه القصة وصفا لمعركة «ووترلو» التي مني فيها نابليون بالهزيمة التي قضت عليه، وجاء الوصف حيا صادقا لأن كاتبه خاض المعركة جنديا محاربا.

لم يكن ل «بيل» قدرة الفنان الممتاز في مرونة الخيال، وإنما انحصرت كفايته في صدق نظراته التحليلية التي تعتمد على القوة العاقلة في الكاتب، ولا شك أن لهذه النظرات الصادقة قيمتها، لكنها في النهاية لا تكون قصة من الطراز الأول . (2) جورج سان

George Sand (1804-1876م)

وهذا كذلك اسم مستعار لامرأة تسمى «لوسيل أورور»

65

كانت مثالا في أدبها القصصي للاتجاه الوجداني الذي يريد من الأدب تعبيرا عن شخصية الأديب لا أكثر ولا أقل. فإن كان «ديماس» يصور العصور السالفة، وإن كان «بيل » يرسم الواقع من حوله، فهذه الكاتبة تتخذ من القصة أداة للتعبير عن نفسها. ونحب أن نلفت نظر القارئ إلى أنه قد لا يكون ثمة تعارض بين أن تصور الواقع حولك إذ تصور نفسك، بل إن ذلك ما حدث لكاتبتنا هذه، وما يحدث في معظم الحالات التي يحاول فيها الأديب أن يعبر عن نفسه؛ فالعبرة بطريقة التصوير، فإن صورت الدنيا الواقعة كما هي لا كما تتأثر بها أنت فأنت واقعي النزعة والاتجاه، أما إن صورت دنياك كما يتردد صداها في نفسك فأنت من أدباء الوجدان، ومن هؤلاء كانت «جورج سان» في الشطر الأخير من حياتها الأدبية.

ولدت لأب ضابط من أسرة عريقة في خدمة الجيش، وأم من الطبقة الدنيا، فاجتمعت فيها خصائص الطبقتين العليا والدنيا على السواء. وقد قضت أولى سنيها في بيت جدتها في الريف حيث الغابات والأزهار والمروج والنجاد المعشوشبة والوهاد الباسمة بخضرتها، وحيث الحقول تمتد فيها آثار المحراث خطوطا خطوطا، وحيث الزارعون في حياتهم الساذجة يحرثون الأرض ويروونها، ويجمعون الحصاد ويخزنونه، ويجتمعون في المساء ليستمعوا إلى حكايات فيها البساطة وفيها ما يشبع العقول التي تصدق الخرافة؛ ومن ذلك كله تلقت الكاتبة أول دروسها. فلما أرسلت في عامها الثالث عشر إلى باريس لتبدأ حياة دراسية منظمة في أحد الأديرة، كان ذهنها قد اختزن محصولا ثمينا يصلح للقصة حين تبدأ في كتابة القصة، وأخذت تغذي عقلها بقراءة واسعة المدى منوعة الألوان، فقرأت فيما قرأته شعرا وتاريخا وفلسفة، لا تضع لقراءتها خطة أو نظاما، ولا تمل القراءة مهما يكن موضوعها؛ قرأت ل «شاتوبريان» كتابه «عبقرية المسيحية» ثم قرأت «روسو» و«بيرن». فلما بلغت من العمر ثمانية عشر عاما تزوجت من رجل لم يصلح لها زوجا؛ إذ لم يكن يعمر قلبه تلك المشاعر ، ولا رأسه تلك الخواطر التي كان لا بد منها لتجعل منه زوجا ملائما لها، وأنجبت منه طفلا وطفلة، وبعدئذ لم تستطع الحياة معه فظفرت منه بطلاقها، واعتزمت أن تعيش على فنها وأدبها في باريس.

فها هي ذي تارة ترسم الطيور والزهور لتزين بها علب السجائر فتكسب من وراء ذلك رزقها، وها هي ذي طورا تعمل في الصحافة فيعوزها بعض الصفات العقلية التي لا بد منها للصحفي، لم يكن في مستطاعها أن تلجم قلمها فيكتب النتف القصيرة؛ لأن خيالها ذو جناحين قويين عريضين إذا ما رف مرة واحدة وجدته يحلق سامقا ولا يستطيع الوقوف إلا وقد امتلأت من الصحيفة بعض أعمدتها. ثم ها هي ذي تدلي بدلوها في القصة، وهي المجال الذي كتب لها أن تجول فيه وتصول؛ فاشتركت مع زميل لها يدعى «ساندو»

66

في إخراج قصة «وردي وأبيض»؛

67

فإن كان اسم زميلها «ساندو» فلماذا لا تطلق على نفسها «سان» ليتم التوافق بين الاسمين؟ ثم إن كان عدد عظيم من الرجال في ريفها الذي نشأت فيه قد تسموا باسم «جورج» فلماذا لا يكون لها هي الأخرى هذا الاسم مثلهم؟ وإذن فلتطلق هذه المرأة التي لبست ثياب الرجال، على نفسها اسما من أسماء الرجال، وليكن اسمها فيما بعد «جورج سان».

أرأيت الينبوع ينبثق فيه الماء دفاقا في غير عناء لأن طبيعته هي أن يدفق الماء؟ كذلك كانت «جورج سان» في إنشائها لقصصها؛ تجلس إلى مكتبها في الساعة العاشرة، وذهنها خال لا يكاد يشتمل على تخطيط تقريبي لما يكتب، لكنها تجري القلم على القرطاس، فتستدعي الصور بعضها بعضا، ويظل القلم يسيل بالقصة سيلا حتى الساعة الخامسة، كأنما القصة تكتب نفسها، وكأنما فضل الكاتبة هو أن تمسك بالقلم بين أناملها، وعلى القلم أن يرسم لنفسه الطريق! وهكذا دواليك كل يوم، جلوس إلى مكتبها في العاشرة وكتابة موصولة تنبثق من قلمها انبثاق الماء من ينبوعه حتى الساعة الخامسة. وتصوير إنشائها على هذا النحو قد يوهمك أن أدبها آلي يخلو من الفن ويعوزه التفكير، وحقيقة الأمر في إنشائها هي أن القصة في يدها كانت تنمو كأنها الكائن الحي يبدو بذرة صغيرة ثم يظل آخذا في النمو حتى يورق ويترعرع وينتج الثمار. هكذا كانت «جورج سان» تبدأ وليس في ذهنها من قصتها إلا نواة لا يكاد يكون لها شكل وصورة، وما تزال تنمو على تتابع الصفحات يوما بعد يوم فإذا بها قصة كاملة.

كانت «جورج سان» بادئ ذي بدء تقتفي أثر «روسو» و«شاتوبريان» وكان موضوع قصصها الحب وما يحيط به من عواطف؛ وأخرجت من القصص في هذا الموضوع «إنديانا»

68

و«فالنتين»

69

و«ليليا»

70

و«جاك»

71

وأخذت في هذه القصص تدافع عن العاطفة وما ينبغي أن يكون لها من الحق في التعبير عن نفسها. وهذه القصص الأربع وجدانية بثت فيها الكاتبة أسرار قلبها الجريح، فمن الإجرام أن يتم زواج - كزواجها - بغير حب صحيح، ومن الطغيان أن يستبد الرجل وأن تستعبد المرأة. لكل إنسان فرديته وشخصيته وإنسانيته، رجلا كان أو امرأة؛ تلك هي صرخة «جورج سان» التي بعثتها مدوية في قصصها الأولى التي عرفت كيف تصهر تجاربها الشخصية بشواظ من لهيب خيالها فتحيلها قصصا غراميا جميلا.

في تلك القصص الأولى كان خيالها قويا، لكن فكرها لم يكن قد عمق تياره بعد، كلا ولا كانت ديباجة أسلوبها قد قوي نسجها، ومع ذلك فأنت لا بد مصادف فيها بين آونة وأخرى فقرة أو صفحة ترتفع في رقة شاعريتها ودقة وصفها إلى أعلى مدارج الكمال. فلما أخرجت طائفة أخرى من قصصها: «أندريه»

72

و«سيمون»

73

و«موبرا»

74

كانت قدماها قد رسختا في الفن وأناملها قد ثبتت على القلم؛ وها هنا انفتحت نوافذ نفسها للعالم من حولها، فبدل أن تبث أنينها وشكواها في قصصها، أخذت تتلقى من الدنيا الخارجية الدوافع والمؤثرات والآراء والأفكار. واختلط في عقلها شيء من الشعور الديني بشيء من الحماسة نحو النهوض بالإنسانية قاطبة، مع ميل إلى المذهب الاشتراكي الذي بدا لها أداة صالحة لما أرادته للإنسانية من نهوض، وبهذا الرأي وهذا المذهب الاجتماعي أخرجت قصص «جان»

75

و«طحان أجريبو »

76

و«خطيئة مسيو أنطوان»

77

و«كونسويلو»

78

وها هنا تجد الفكرة غالبة على الفن القصصي؛ فالكاتبة تريد أن تنشر مذهبا، ولا تقصد قبل كل شيء إلى متعة القارئ، وبهذا انتقلت إلى مرحلة ثانية من أدوار حياتها الأدبية.

ثم انتقلت بعد هذه المرحلة الثانية إلى مرحلة ثالثة، فهي الآن لا تريد أن تقصر القصة على تجاربها الشخصية في حبها وزواجها كما فعلت في المرحلة الأولى، ولا تريد أن تجعل قصصها أدوات لنشر مذهب اجتماعي كما فعلت في المرحلة الثانية، إنما أرادت أن تعود إلى مجالي الريف لتزور الفقراء في دورهم المتواضعة وتريك كيف يحيا هؤلاء، ثم لتسايرك في مماشي الريف وحقوله وعلى مشهد من مناظره. ولم يكن التغني بمباهج الريف مألوفا في الأدب الفرنسي، لكن هذه الكاتبة وجدت تلك المباهج كامنة مستقرة في أعماق نفسها تجمعت هناك منذ أيام الطفولة الأولى، فأخذت تجري ذكرياتها على سن قلمها أدبا رائعا. ومن قصص هذا العهد «بركة الشيطان»

79

و«فرانسوا اللقيط».

80

وكأنما أرادت «جورج سان» ألا تسدل ستار حياتها على قصص الفقر والبؤس، فانتقلت في آخر مراحلها إلى ربوع العلية تصورها إلى جانب تصويرها لأبناء الريف السذج. وكانت تقدمت بها السن وفاض منها كأس التجارب، وازداد قلبها رقة ووداعة، فطفقت تكتب القصص لتروي لأحفادها الصغار، ثم تكتب القصص للناس عامة وكأنهم في عينها حفدة صغار أيضا تروي لهم القصص على النحو الذي تروي به الجدة حكاياتها على الحفدة الصغار. وكان أكثر الناس استدرارا لعطفها أهل الريف، وأصحاب الفنون، وأجدر الأنماط البشرية بدراستها الرجل الذي يجد من طبيعته ميلا إلى الركون إلى امرأة أقوى منه شخصية لتكون له دعامة، والفتاة التي يتوسط عمرها بين الطفولة والمراهقة. وأسلوبها في قصصها سلس دفاق لا تعترض مجراه الصخور والجنادل، فيه اتساق صوتي في غير تكلف ولا تعقيد، وهو يصور الجمال في صفاء وهدوء كما يصور المنظر الريفي الجميل نهر رائق ساكن. (3) أونوريه دي بلزاك

Honoré de Balzac (1799-1850م) «جورج سان» و«بلزاك» تعاصرا في كتابة القصة، وكانت الأولى وجدانية الأدب، بمعنى أنها تعبر عن نفسها، فإن صورت الواقع بما وهبها الله من دقة في الملاحظة، صورته كما وقع في نفسها، وكان الثاني واقعي الأدب، إلا أن واقعيته كانت تنتابها الأحلام والأشباح آنا بعد آن.

ولد «بلزاك» لأب درس القانون، فاختار لابنه الطريق عينها. ودرس الابن القانون كما أراد له أبوه، لكنه صمم أن يجعل قلمه مصدر رزقه. وكان يلوح له وللناس بادئ ذي بدء أن هذا الرجل بما أوتيه من قوة وقدرة وإرادة مستطيع أن يشق طريقه في يسر إلى الثروة والشهرة في آن معا. لكن الثروة والشهرة مطلبان كثيرا ما يستعصيان حتى على ذوي القوة والقدرة والإرادة، وقد استعصيا حينا على «بلزاك»، فكنت تراه يحاول هذه الصناعة مرة وتلك الصناعة مرة، ولا يكاد يصيب شيئا مما يريد؛ فها هو ذا يخرج رواية تمثيلية عنوانها «كرمول»

81

فيسخر منها كل من رأى مخطوطها ولم تجد طريقها إلى المطبعة سهلا معبدا، ثم ها هو ذا يخرج القصص، لا ليقبل الناس على قراءتها، بل لتطوى في غمر من النسيان؛ فليكن إذن ناشرا لا كاتبا ليكسب القوت، وليكن طابعا، فيعود عليه النشر وتعود عليه الطباعة بعبء ثقيل من الدين؛ وبلغ من عمره العام الثلاثين، فأصدر قصة تقوم على أساس من التاريخ على النحو الذي تراه في قصص الكاتب الإنجليزي «وولتر سكت»؛ عنوانها «الثائر الأخير»،

82

فصادفت عند الناس شيئا من القبول.

وما هو إلا أن وجد «بلزاك» نفسه محوطا بالجو الذي يستطيع أن يتنفس فيه، حتى واصل الكتابة للصحف تارة وللكتب طورا، وتستطيع أن تقول إن «بلزاك» منذ أخذ القلم يجري بين أصابعه إلى اليوم الذي لاقى فيه منيته، كان يحيا مع ناس خلقهم له خياله على غرار الواقع؛ فقد كان له أصدقاء قليلون، لأنه لم يجد للأصدقاء متسعا من الوقت؛ إذ كاد لا يغادر مكتبه إلا إلى سريره، فهو يأوي إلى فراشه مع الغروب ليستيقظ إذا ما انتصف الليل، فيشرب قدحا أو قدحين من القهوة ليحرك بهما نشاط ذهنه، ثم يكتب، فإذا بالصفحات تمتلئ واحدة بعد واحدة لا يكاد كاتبها يتنبه إلى نفسه حتى ينتصف النهار، وعلى هذا النحو قضى عشرين عاما حتى أضناه الجهد ففارقته الحياة.

كان إحساس الكاتب بالحياة قويا ناصعا، يدرك من تيارها بلمحة واحدة كل ما يمكن لعين الرائي أن ترى، ولقلم الكاتب أن يصف ويحلل؛ فكل حواسه منصرفة إلى الواقع حوله، وكل عواطفه تدور حول الأشياء التي تراها الأبصار وتمسها الأيدي؛ وكل همه هذا المجتمع الإنساني وما يحركه من دوافع، هذا الميدان الذي يعترك الناس فيه تنازعا على بقائهم، هذا الصراع الذي لا ينقطع ولا ينتهي سعيا وراء المال وقوة السلطان، هذا الجهاد الذي ينتهي إلى النصر حينا وإلى الهزيمة حينا. هذه الإرادة القوية الكاسحة التي تبدو في بعض الأفراد فتنثر عن طريقها الضعاف يمينا ويسارا، وتدوس الصرعى تحت أقدامها وهي ماضية في سبيلها. هذا الطموح بما يقتضيه من صفات نبيلة وصفات خسيسة في آن معا، وما يتطلبه من شهامة البطولة آنا ومن قسوة الطغيان آنا؛ هذا هو ما صرف إليه «بلزاك» كل انتباهه ليستخرج منه العوامل المحركة فيضفي عليها ثوبا من خياله ويقدمها للناس قصصا رائعا؛ فما رأته عيناه وما خلقه خياله لا يضيع منهما ذرة واحدة، إذ يجريهما على قلمه، فإذا القارئ يحس أنه يرى بعينه وبخياله ما وقع للكاتب.

لكن عبقرية «بلزاك» لم يكن قوامها إحساسا رقيقا دقيقا، بل كانت على كثير من الغلظة والخشونة، فليس هو الكاتب الذي تبادره النكتة الفطنة أو يسارع إليه اللفظ الذي يقتضي الذوق الاجتماعي أن يقال في مناسبة معينة. وليس هو الكاتب الذي يقف طويلا ليناقش نفسه الحساب على ما يقول ويفعل، أو الذي يحاول أن يكون خافت الهمس رقيق اللمس فيما يكتب. وليس هو الرجل الذي تضعه في وسط من علية القوم فيزن تقاليده وزنا دقيقا يرضى عنه ذلك الوسط وأوضاعه؛ ولهذا كله تراه في إنشائه يقذف عبارة بعد عبارة كأنه يرمي في كومة مهوشة حجرا فوق حجر، فالأدب عنده - فوق أنه فن جميل يستمتع به الفنان - أداة لجلب الشهرة وكسب المال.

ولعل ذلك يفسر لنا ناحية من أدب «بلزاك» فقد أخطأت عيناه ملامح الطبقة العليا من المجتمع، ولم يدرك من حياة الأشخاص رقيقها ورشيقها؛ فليس في وسع خياله - مثلا - أن يصور لك سيدة من اللائي يجعلن رشاقة الحركة ورقة النبرة لب الحياة وصميمها، أما مجاله الصحيح فالطبقتان الوسطى والدنيا بما فيهما من صخب وجهاد. ذلك هو المحيط الذي وجه إليه دراسته فدرس كل نواحيه؛ الشارع والبيت والغرفة، فهذه كلها يهتم لها كما يهتم بمن يسكنها وينشط فيها من الناس، لأنها القوقعة الطبيعية التي ينمو فيها الكائن الحي الذي هو بصدد تحليله وتشريحه، هي التي تحد تصرفه وتشكله فيصبح على النحو الذي نراه. وقد خلق «بلزاك» بقوة خياله ما يقرب من ألفي شخص، كل واحد منهم كامل الخلق والتكوين، وكثيرا ما يجعل في الفرد مركزا واحدا تصدر عنه كل أفعاله، كحب المال أو الطموح إلى الشهرة، أو السعي وراء القوة، أو هذه الغريزة أو تلك من غرائز الإنسان التي تهبط به إلى مستوى الحيوان. لكن الفرد يعيش في وسط من الأحياء والأشياء يؤثر فيها ويتأثر بها، فلا بد عند تصويره من وضعه في بيئته التي يستمد منها القوة والتي يكافح فيها ويجاهد.

كانت الأعوام العشرة الممتدة بين 1830 و1840م، أي حين كان الكاتب بين الثلاثين والأربعين من عمره، أخصب فترة في حياته الأدبية من حيث الجودة، ففيها أنتج آياته «جلد مشغول»

83

و«يوجين جرانديه»

84

و«البحث عن المطلق»

85

و«الأب جوريو»

86

وغيرها، وقد أطلق على هذه المجموعة من قصصه «الملهاة البشرية»،

87

لأن «بلزاك» أراد أن يصنف قصصه في مجموعات تضم كل منها المتشابهات. وهذه الرغبة منه في التبويب هي في الحقيقة فرع عن رغبة أعم وأشمل في أن يجعل من أدبه سجلا شاملا لشتى نواحي الحياة الاجتماعية في عصره: الحكومة والكنيسة والجيش والقضاء والطبقات الاجتماعية؛ العليا منها والوسطى والدنيا على السواء، وأهل الريف وأصحاب الفن ورجال الصحافة والأدباء والممثلون والتجار على اختلاف طبقاتهم، والمجرمون، إلى آخر ما يمكن أن يعد هيئة بذاتها من هيئات المجتمع وطبقاته. ثم أراد «بلزاك» أن يحرك هؤلاء الأشخاص والجماعات في مناظر مختلف ألوانها، فمنها الريفي ومنها ما يصور مناظر باريس، ومنها ما يحيط به جو السياسة أو جو القتال، أو جو الحياة الفردية الخاصة، ثم يقرن هذا كله بدراسات فلسفية في العواطف الإنسانية وتحليله. فقد حاول «بلزاك» أن يكون إلى جانب أدبه فيلسوفا، لكن آراءه الفلسفية كانت ضحلة أو كانت محاكاة لغيره لا أصالة فيها. (4) بروسبيه مريميه

(1803-1870م)

عندما بسطنا في مواضع مختلفة مما سلف عناصر الأدب الابتداعي، حاولنا أن نبرز من بينها عنصرا يكاد يكون لها أساسا ومحورا، وذلك هو التعبير عن فردية الأديب الكاتب، ثم قلنا إن هذه الفردية المتمثلة في الأدب هي التي تجعله وجدانيا أو غنائيا، سواء أكان الأثر الأدبي قصيدة أم قصة. أما إن وصف الأديب الأشياء كما هي، لا يجعل من نفسه عنصرا إلا بالحد الأدنى الذي يجعل الكتابة أدبا، فذلك أدب واقعي اتباعي في صميمه. لكن هل يستحيل أن يكون الأدب ابتداعيا دون أن يكون وجدانيا؟ ألا يمكن أن يكتب الأديب الابتداعي أدبا موضوعيا خالصا، يكتم فيه وجهة نظره وينظر بين الفينة والفينة إلى الناس نظرة سخرية واستعلاء؟ ذلك هو ما حاول أن يصنعه «مريميه» في قصصه.

كان «مريميه» من هؤلاء السادة الذين صقلهم التهذيب الاجتماعي؛ فأنت قد ترى الرجل سيدا مصقولا بفطرته كأنما هذبته يد الله، وقد ترى الرجل مصقولا بتطبعه لا بطبعه هذبته التربية والوسط الاجتماعي لا الفطرة والغريزة. و«مريميه» من هذا الفريق الثاني، هو رجل كأنما صقل صقلا صحيحا لا خطأ فيه، كما تركب الجملة وفق قواعد النحو والصرف؛ ومثل هذا الرجل الذي هذب هذا التهذيب لا ينبغي له أن يبدي للناس انفعاله إذا انفعل، ولا أن يعبر عن عاطفة له إذا أحس بها تجيش في صدره، ولا أن تأخذه الحماسة لفكرة أو شيء مهما تكن الفكرة ومهما يكن الشيء، لأن التحمس فيه انفعال يضطرب معه الاتزان المطلوب؛ ولا ينبغي أن يكون له عقيدة تملك عليه فؤاده، ولا بد له أن يعلو على الضعف البشري بكافة نواحيه، فلا يبدو في صورة العاجز المحتاج، وله إن أراد أن ينظر للحياة نظرة العابس المتشائم على شرط أن يهيمن على تشاؤمه هذا فلا يحميه بحرارة الإيمان، وله إن أراد أن يسخر من الناس، على شرط أن تكون سخرية مقنعة. وإن حدث لمثل هذا الرجل - الذي هذبته التربية هذا التهذيب - أن يكون أديبا، فلا بد أن يكون أديبا أنيقا في تفكيره وتعبيره؛ فلا يكتب قط ما يثير في القارئ ضحكة عالية، ومع ذلك فيستطيع بقوة فنه أن يجعل من الأثر الأدبي موضوعا للضحك والسخرية؛ ومثل هذا كان «مريميه».

كان ل «مريميه» خيال خصب قوي، وبصيرة نافذة إلى أعماق الناس فترى مكوناتهم وعناصر شخصياتهم، كما كانت له أنامل الأديب الفنان. ومما أنتجه «كارمان»

88

و«كولومبا»

89

وكل منهما بمثابة قطعة وصفية لجانب من جوانب النفس البشرية، جاء فيها الكاتب بالحق الذي هداه إليه صدق نظره؛ والأدب فيها موضوعي ابتداعي في آن واحد؛ فهو موضوعي لأنه يوهم القارئ أن لا شأن للكاتب بما يحدث لأشخاص القصة، فلا هو يسر بسرورهم ولا هو يحزن لحزنهم، كأنما هو عالم أثري يحفر الأرض ليخرج منها المخلفات فيعرضها في متحف كما هي، وهو ابتداعي - لا لأنه يعرض نفس الأديب كما عهدنا في الأدب الابتداعي - بل هو ابتداعي بمعنى معكوس، بمعنى أن الأديب يحاول أن يسدل على نفسه قناعا حتى لا يراها القراء، لكن «مريميه» لم يستطع أن يظل قابضا على عنان نفسه لا يبديها لقرائه؛ فقد ظهرت بعض عواطفها جلية في «خطابات إلى مجهولة».

90 (ج) التاريخ والنقد (1) أوغسطين ثييري

Augustin Thierry (1795-1856م)

تغيرت كتابة التاريخ في فرنسا إبان القرن التاسع عشر لما تغيرت وجهة النظر الفلسفية عند الفرنسيين؛ فقد كان القوم قبلئذ يأخذون بفلسفات تزدري العصور الماضية وتنظر إلى آرائها وأفكارها نظرها إلى الخرافة. أما في هذا العهد الجديد فقد تغيرت وجهة نظرهم وأصبحت فلسفتهم أن يأخذوا من كل عصر ما يروق من فلسفته، مهتدين في هذا الاختيار بالذوق ودليل القلب أكثر منهم بالعقل والمنطق؛ ولهذا أخذوا ينظرون إلى ديانات الأقوام المختلفة نظرة عطف وتقدير، لا يعميهم الهوى ولا يصم التعصب آذانهم. كذلك أداروا أعناقهم إلى العصور الوسطى وعقائدها وأفكارها، بعد أن كانت هنالك قطيعة فكرية بين العصر الحديث وتلك العصور، على اعتبار أنها عصور مظلمة لا خير فيها ولا غناء. وكان رائد الطريق في ذلك التجديد في الأدب التاريخي هو «ثييري» الذي قرأ صفحات من أدب «شاتوبريان» فوجدها مترعة بشعور العطف على العصور الماضية، فأوحت له تلك الصفحات بما ينبغي هو أن يؤديه، ثم قرأ فيما بعد «وولتر سكت» الأديب الإنجليزي الذي كتب القصة التاريخية فبلغ بها حد الكمال، فركزت في نفسه العقيدة بأن التاريخ لا بد أن يكتب على نحو جديد يستخدم قوة الخيال، فهذه المهازل التي يخرجها الناس ويسمونها تاريخا تحرج الصدر وتثير النفس، فكاتبو التاريخ إما ينقصهم العلم فهم عمي عن الحقائق لا يبصرونها، أو ينقصهم الخيال فيرصون لك الحقائق رصا لا تصوير فيه؛ وإذن فلا بد له أن يقدم للناس طريقة جديدة في كتابة التاريخ، فيها العلم بالحقائق وفيها إبداع الخيال في الوصف والتصوير.

على هذا الأساس أصدر «ثييري» «خطابات في تاريخ فرنسا»

91

ثم عقب عليه ب «تاريخ غزو إنجلترا»

92

وفي كلا هذين المؤلفين وفق الكاتب توفيقا عظيما في تطبيق طريقته، فلو كان الماضي عظاما رميما في أيدي سواه من المؤلفين، فقد أحيا هذا المؤرخ عظام الماضي وهي رميم؛ إذ كانت له موهبة عجيبة في فهم النصوص القديمة، استطاع بها أن يلمس من خلال سطورها حياة الأقدمين كأنها حياته هو التي يعيشها ويحياها. وما إن جاوز هذا المؤرخ الأديب عامه الثلاثين بعام واحد حتى فقد البصر بين الوثائق والكتب، فعاونه أخوه، وعاونه أصدقاؤه، وعاونه كاتمو سره، ثم عاونته امرأة أخلصت له الحب وكانت له فيما بعد شريكة حياته؛ عاونه هؤلاء جميعا على المضي في عمله، فأصدر «قصص عن الميرفنجيين وعصورهم»

93

ثم «مقال في تاريخ تكوين السلطة الشعبية»

94

أصدر هذين وهو ضرير؛ ولم تحد هذه الإصابة في بصره من رغبته في التجويد، بل ازداد الرجل عناية بتجويد ما يكتبه، فيقنعه أن يقضي يومه كله في كتابة خمسة عشر سطرا أو عشرين، ما دام يستطيع بهذه الأناة أن يوضح فكرته وأن يتقن عبارته؛ وكأنما المصائب إذا انفتح لها الطريق توالت واحدة في إثر واحدة، فها هو ذا يصاب بالشلل وتتمكن منه الإصابة رويدا رويدا، ومع ذلك جعل لفكره اليد العليا على جسده وما فيه من علل، ومضى ينشد لنفسه وللناس صور الحق والجمال. وذات صباح - والصبح في الفلق لم يزل - استيقظ الرجل وأيقظ من أملى عليه إصلاحا لعبارة في كتابه عن «غزو إنجلترا» وقد كان يعد لطبعة ثانية؛ وشاء الله أن يختاره إلى جواره في ذلك اليوم نفسه، كأنما أراد أن تكون الرغبة في التجويد وبلوغ الكمال آخر ما يهتم له في حياته وأول ما يهتم له من شئون الحياة. ولم يكن «ثييري» بين المؤرخين المحدثين في فرنسا أغزرهم مادة ولا أجودهم أسلوبا، لكنه كان رائدهم في الطريق الجديد. (2) فرانسوا جيزو

Francois Guizot (1777-1874م) «جيزو» مؤرخ لكنه نفسه يكون جزءا من تاريخ أمته؛ وعنده أن واجب المؤرخ ذو شعب ثلاث: أولاها تحقيق الوقائع، وثانيتها تصنيف هذه الوقائع تصنيفا يدرج الأشباه منها تحت قانون واحد من مجموعة القوانين التي ينحل إليها بناء المجتمع وآلته، وثالثتها وصف الوقائع وصفا يجعلها واضحة ناصعة أمام عين القارئ؛ وكانت عبقرية «جيزو» في قدرته على التحليل والتعليل، فليس هو بصاحب الخيال الذي يسلكه في عداد الطراز الأول من رجال الفن، وليس هو بالذي يتغلغل في الحياة فيرى ظلالها وأضواءها ولا هو بالكاتب الذي يمتاز بجودة الأسلوب، لكنه مفكر، يدرك حياة العصور السالفة عن طريق الأفكار التي سادت في تلك العصور، تقرؤه فلا تجد صورا حية كالتي تنتظر من قلم الأديب، ولا تجد قلوبا نابضة بالعواطف التي تستوقف نظر الرجل الذي تسيطر فيه العاطفة، بل تجد المجتمع قد انحل أمامك إلى عناصر وخيوط، وتراك قد سايرت الكاتب حتى بلغت من بين هذه العناصر تلك الأسس التي عليها يقوم بناء المجتمع كله، وتلك الدوافع الكبرى التي تكمن وراء تيار الحياة.

وأشهر كتبه «تاريخ عام للمدنية الأوروبية»

95

و«تاريخ المدنية في فرنسا»

96

وقوام الكتابين محاضرات ألقيت في السوربون بباريس؛ وهو فيهما يذهب إلى أن تقدم المدنية لا ينحصر في تطور الجماعات بل يشمل كذلك رقي الأفراد. وهو يعتقد أن سير المدنية الأوروبية عامة يتمثل أصدق تمثيل في سير المدنية في فرنسا خاصة، وفي فرنسا تستطيع أن ترى في جلاء كيف ساير الرقي العقلي للأفراد التطور الاجتماعي للأمة في مجموعها. وفي فرنسا تستطيع كذلك أن ترى في جلاء أن المذاهب الفكرية كانت دائما تصطحب بانقلابات شعبية. وفي تحليله لتاريخ فرنسا، تراه يرده إلى أساس واحد، هو سير البلاد نحو الوحدة الاجتماعية والسياسية، فقد كان يسودها في الفترة التي امتدت من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر قوى أربع أخذت تتعاون حينا وتصطرع حينا، وهي: الملكية، والنظام الإقطاعي، وسواد الشعب، والكنيسة. وفي سير البلاد نحو التوحيد، سقط النظام الإقطاعي من بين هذه العناصر الأربعة، وازدادت الملكية قوة بضياع القوة من أيدي أمراء الاقطاع، ثم سقطت سلطة الكنيسة حين قرر الإنسان حقه في الحرية الدينية عندما نهض بالثورة البروتستانتية ليظفر باستقلاله الروحي. وبقيت إذن الملكية والشعب، لكن قوة الشعب أخذت تزداد وتوسع من دائرتها، كما أخذت قوة الملكية التي كانت صاحبة الحول والطول خلال القرن السابع عشر، تتناقص وتنكمش في القرن الثامن عشر حتى انتهى بها الأمر إلى زوال، ولم يبق هنالك إلا عنصر واحد هو الشعب بما تقوم عليه من حكومة أقامها الشعب نفسه، وفي تنسيق العلاقة بين الشعب وحكومته تقع مشكلات السياسة كلها في العصر الحديث. (3) جيل ميشليه

Jules Michelet (1798-1874م) «ميشليه» هو أعظم من نفخوا الحياة في الماضي بقوة خيالهم، وعبروا عن روح فرنسا الغابرة بفصاحة أقلامهم. ولد في باريس من أبوين فقيرين؛ فعرف الغلام وهو لم يزل في نعومة أظفاره كيف يكون العسر والإملاق؛ فهذا أبوه يكدح طول يومه في صناعة الطباعة، ثم لا يكاد يقوى على حماية أسرته من عادية الجوع والبرد، ومع هذه المسغبة صمم الوالد على أن ينال ولده قسطا من التعليم، وكأنما استمد الولد شجاعة وبأسا من أبيه، فهو يرى أمه تنوء تحت عبء من العمل لتعاون أبا يرزح تحت هم من الفقر، وإذا ما ذهب إلى مدرسته لقي من زملائه زراية وسخرية، ومع ذلك كله لم ينل منه اليأس، وكلما شهد شيئا من علائم بؤسه وبؤس والديه قرأ من الأدب ما يرد لنفسه الثقة، أو قصد إلى متحف ليرى من الآثار ما يغوص به في أعماق الماضي لينسى هذا الحاضر المتجهم. وما أحلى أياما كان يقضيها عند عمة له في الريف فتقص عليه حكايات، قدم عليها العهد، تنبئ عن فرنسا في سالف أزمانها! ولم يمض على الفتى طويل وقت حتى سمع في طوية نفسه صوتا يناديه بما ينبغي عليه أن يصنعه، وهو أن يحمل قلمه ليكتب التاريخ.

وفي عامه الثلاثين صدرت له باكورة آثاره، وهي «خلاصة التاريخ الحديث»

97

حيث استعرض فترة طويلة بقلم العالم الأديب، ثم تبع ذلك «التاريخ الروماني»

98

و«مقدمة التاريخ العام»

99

ومنذ ذلك الحين، عاش «ميشليه» في التاريخ وبالتاريخ، فهو مدرس التاريخ في مدرسة المعلمين، وهو رئيس القسم التاريخي في «دار المحفوظات القومية» وهو خلف ل «جيزو» في السوربون، وهو أستاذ التاريخ والأخلاق في «كوليج دي فرانس»

100

وهكذا جعل الرجل حياته حياة قومه وبلاده، وقد بدأ كتابه «تاريخ فرنسا»،

101

وعمره عامان بعد الثلاثين، ولم يتمه إلا بعد ذلك بسبعة وثلاثين عاما.

انظر إليه وقد جلس إلى وثائقه، التي نشر بعضها وبعضها لم ينشر، يستنبئها أخبار أعصر خلت، وكأنه يخالط منها ناسا من لحم ودم تنصت وتحدث. له الخيال القوي الذي ينفذ به خلال الصورة السطحية إلى اللب والصميم، ويأخذه العطف الشديد على ألوف من الرجال العاملين تتعاقب جيلا بعد جيل في ظلام النسيان، وهو يبكي للأحزان التي يراها مرقومة على الورق مدادا، وهو يفرح لخير يراه قد أصاب هذا أو ذاك ممن يستحقون الخير. وهو شديد الإعجاب بمن يراه جديرا بإعجابه، شديد النقمة على من يثير فيه السخط والنقمة. يعرض أفكاره فإذا هي أوعية أترعت بالعاطفة حتى حفافيها، ويعرض عاطفته فإذا هي مثقلة بالفكر الرصين. على هذا النحو كان يجلس «ميشليه» إلى وثائقه، أو قل كان يجالسها، ليعيد الحياة إلى ماض ثوى في أعماق القبور . وتصور «ميشليه» تاريخ أمته كائنا حيا له جسم وروح، ثم نظر إلى ما كتبه أعلام المؤرخين مثل «جيزو» و«ثييري» - وقد حدثناك عنهما - فوجد أن كلا منهما يتناول جزءا واحدا من ذلك الجسم أو شطرا واحدا من هذه الروح، أما هو فأمله ضخم عريض، أمله أن يعيد إلى الحياة هذا الجسم كله كاملا وهذه الروح كلها تامة، أمله أن يعيد تاريخ فرنسا كله، لأن تاريخ فرنسا كائن عضوي واحد يستحيل أن يتجزأ بغير أن يفقد الحياة، ومذهبه في ذلك أنه إما أن يحيي التاريخ كله أو لا يصنع شيئا.

لكن هذا الشعب الذي أخذ على عاتقه أن يؤرخ له تأريخا كاملا، لا يتحرك في الهواء؛ إنه يعيش على أرض لها سماتها وقسماتها، من تربتها يستمد غذاءه ومن هوائها يتنفس حياته، وإذن فلتكن الخطوة الأولى من عمله العظيم أن يصف لك هذه الأرض التي عاش عليها قومه، وهنا ترى «ميشليه» يصور لك كل جزء من الأرض الفرنسية كأنه يصف كائنا حيا لا يابسا من جماد، ثم ما هو إلا أن يطالعك بحقيقة يكشفها أمام عينيك، وهي أن طابع فرنسا الذي يميزها هو وليد هذه الوحدة الأرضية التي تصل أجزاء البلاد بعضها ببعض فتجعلها «فرنسا». وهو كلما مضى في تاريخه فترة بعد فترة يحاول جهده أن يبين لك أن الشعب الفرنسي ما غفا عن الحياة قط. فها هو ذا يصل بقصته إلى القرنين العاشر والحادي عشر وما اكتنفهما من ظلام، فيهتز شعوره لما يلاقيه من جهل ومن عنف في ذلك العصر. ولكن هل ماتت في الشعب روحه؟ كلا! فهذا أمامك الفن القوطي، وهذه أمامك الحروب الصليبية، كلها تحدثك أن هنالك أفئدة حية تعبر عن حياتها في آثار الفن وفي القتال في سبيل الدين. ثم دنا بتاريخه من ختام القرون الوسطى، فبدا كل شيء كأنما زالت عنه الحياة، وبدت جموع الشعب كأنها أصنام جمدت في عروقها الدماء؛ كلا! فهذه حرب المائة العام في ذلك العهد تشهد مولد الوعي القومي، فمن ويلات تلك الحروب ولدت القومية الفرنسية وأصبحت فرنسا وطنا وأصبح الفرنسيون أمة.

وانقضت ثلاثة عشر عاما والمؤرخ يساير أمته في نشوئها وارتقائها حتى جاوز العصر الوسيط وبلغ ختام عهد لويس الحادي عشر، وهنا وقف برهة! لماذا؟ لأن التفاتة عابرة حانت منه إلى برج كنيسة ريمز؛ ذلك البرج الذي جرى التقليد بأن تتوج في ظله رءوس العاهلين، فرأى على حجر البرج عند أعلاه نقشا يصور طائفة من بني الإنسان وقد سيمت عذابا وشاهت أجسادا! ماذا؟ أهؤلاء من الشعب الفرنسي في عهد الملكية المطلقة الذي أنا مقبل على كتابة تاريخه؟ أيقع مني البصر على مثل هذا الرمز ثم أجد في نفسي الهمة لأكتب عن إيماني بقوة الشعب وروح الشعب؟ لا! لأتريث قليلا حتى أتثبت مما أنا مقدم عليه؛ لألتمس العصور التي تبدو فيها هذه الروح واضحة ثم أخطو خطو الحذر نحو عهد كهذا الذي سادت فيه الملكية وكان الشعب بحيث أرى في هذا النقش عند حافة البرج. وبهذا قفز المؤرخ عبر قرنين أو نحو ذلك ليؤرخ للثورة الفرنسية، التي أنفق في كتابة تاريخها ثمانية أعوام، والتي أخرج تاريخها كأنه ملحمة شعرية بطلها هو الشعب الفرنسي نفسه. وعاد مؤرخنا بعد هذه الأعوام الثمانية التي أنفقها في تاريخ الثورة الفرنسية، إلى حيث كان قد ترك الطريق، عاد إلى القرن السادس عشر يواصل تاريخه، لكن الأعوام الثمانية أنفقت في جو من الثورة والثائرين لم تمض عبثا لتترك روحه كما كانت قبلها. لقد تغير الرجل وتغيرت وجهة نظره؛ لقد كان مجد العصر الوسيط؛ كيف ذاك والكنيسة كانت تستبد بالناس، وكل استبداد هو الشر بعينه حتى لو صدر عن الكنيسة؟ وبمثل هذا التشكك أخذ يؤرخ للإصلاح الديني وللنهضة وللحروب الدينية، فجاء تاريخه هذا أقل من كتبه الأولى اتزانا وتماسكا.

وبلغ «ميشليه» عامه الرابع بعد الخمسين، وعندئذ (1852م) طلب إليه أن يقسم يمين الولاء للإمبراطور، ولكن الرجل لم يرد أن يكون من أولياء هذا الإمبراطور ورفض القسم، فعزل من منصبه في «الكوليج دي فرانس» وفي «دار المحفوظات»؛ وغادر باريس ليأوي إلى دار له في حضن الجبل بالقرب من جنوا. وفي تلك البقعة الجبلية سكنت نفسه وفاضت عليها طمأنينة عجيبة؛ ألم ينفق أعوامه في التعبير عن روح الآدميين من بني وطنه؟ ماذا لو اتجه الآن بجهده إلى فريق آخر من بني وطنه يعبر عن روحهم؛ إلى عالم الطير وعالم الحشرات؟ ماذا لو عبر عن روح ما لا يستطيع التعبير من خلائق الله؛ هذا البحر وذاك الجبل؟ هنا بدأ المؤرخ ينشر أمامه وثائق من نوع جديد ليدرسها، نشر أمامه وثائق الطبيعة، أو قل نشرت أمامه الطبيعة صحائفها وما عليه إلا أن يقرأ؛ وقد قرأ بقلب يعمره الحب لتلك الطبيعة فأضاء له الحب ما تخفي من معان، ومزج روحه بروحها وهو يكتب عنها، كما كان قد مزج روحه بروح الشعب وهو يكتب عنه، وأصدر كتاب «الطير»

102

وكتاب «الحشرة»

103

وكتاب «البحر»

104

وكتاب «الجبل»

105

وهي كتب أقرب إلى الأناشيد يتغنى بها محب للطبيعة عالم بأسرارها، منها إلى الرسائل العلمية، تفيض بالعاطفة فيضا، وتنهض دليلا على قلم قدير. (4) آبل فرانسوا فلمان

Abel-Francois Villemain (1790-1870م)

كان النقد الأدبي قبيل هذا العصر الذي نؤرخه الآن يحكم على الأثر الفني بإحدى طريقتين، فإما أن يطبق عليه طائفة من القواعد التي عاشت على مر الزمان فاكتسبت مجدها بالقدم، وإما أن يحكم فيه الذوق وحده. أما إن اتبعت الطريقة الأولى فالأثر الفني جميل أو قبيح بمقدار ما يجري على سنن تلك القواعد الموروثة أو يبعد عنها، كما تستطيع مثلا أن تحكم على جملة بصحة التركيب أو خطئه وفق مجموعة معروفة من القواعد؛ وأما إن اتبعت الطريقة الثانية فالحكم هو الناقد وحده، إن قالت له أذنه هذا شعر ناب كان الشعر نابيا، أو قالت إنه جميل فهو جميل.

لكن أقبل على الناس عهد جديد، هو القرن التاسع عشر، فلفهم بجو جديد هو جو العلم الذي ساد إبان ذلك العهد؛ وأي علم؟ علم الحياة على وجه التخصيص، الذي شغل الأذهان بنظرياته في التطور، والذي جاوز دائرة العلماء إلى الأدب وإلى الدين وإلى الاجتماع وإلى كل ضرب من ضروب التفكير. إن أردت أن تدرس حيوانا فواجبك أن تتتبع نشأته وتطوره لتضعه في موضعه الصحيح من شجرة الأنساب والأسلاف والأبناء والأحفاد؛ فلماذا لا يكون ذلك أسلوبنا أيضا في دراسة الأدب؟ إن أردت أن تدرس أثرا أدبيا دراسة نقدية فتعقب نشأة العقل الذي أنتج ذلك الأثر، وحلل عناصره لتبين كيف يمكن أن يكون ذلك الأثر حاصل تلك العناصر، فإن استطعت أن ترده إلى «أ، ب، ج، د» من عوامل المجتمع والسياسة والبيئة والنزعات الموروثة في الجنس الذي ينتمي إليه الأديب وفي الأديب نفسه باعتباره فردا هبط من أسرة معينة في ظروف معينة؛ فقد أديت واجبك نحو النقد الأدبي الصحيح. وربما جاز لنا أن نعد «مدام دي ستايل»

106

مؤسسة لهذا المذهب النقدي؛ فهي إذ قررت أن الشعوب التيوتونية تميل بطبعها إلى الأدب الابتداعي، وأن الأمة الفرنسية تنحو بطبعها نحو الأدب الاتباعي، لا يعنيها أن تحكم أيهما أجمل، لأن واجبها نحو النقد لا يلزمها بمثل هذا الحكم، وحسبها أن تبين كيف جاء اختلاف الذوق في الشعوب التيوتونية عنه في الشعب الفرنسي نتيجة لأسباب هي كذا وكذا مما يؤثر في تكوين الفكر والخيال.

وهذا الاتجاه نحو تعليل الأثر الأدبي برده إلى عناصره التي كونته - ولنسمه المذهب التاريخي في النقد - لم يقتصر على النقد الأدبي وحده، بل ساد الدراسة الفلسفية والسياسية كذلك؛ فبينما كان «كوزان»

107

يدرس الفلسفة على هذا النحو، و«جيزو» يطبق الطريقة نفسها في عرضه للسياسة، كان «فلمان» يدرس الأدب مستضيئا بهذا المذهب.

كان «فلمان» عالما متمكنا من الأدب الفرنسي، بل من الآداب الإنجليزية والإيطالية والإسبانية كذلك. وقد أصدر «عرض للأدب في العصر الوسيط»

108

و«عرض للأدب في القرن الثامن عشر»

109

فاستعرض بهذين الكتابين آفاقا فسيحة منوعة الثمار، فكان يستحيل عليه أن يطبق قاعدة واحدة، أو مجموعة قليلة من القواعد في دراسة هذه الآثار الأدبية كلها؛ فاهتدى بوحي من طبيعته إلى أن يدرس كل أثر على حدة كما يدرس الكائن الحي في علم الحياة، وبهذا تحدد الاتجاه نحو المذهب التاريخي في النقد، وإن يكن «فلمان» لم يحدد لهذا المذهب النقدي حدودا تجعله مذهبا واضح المعالم، وإنما هداه إلى هذا الاتجاه في الدراسة ما لاحظه مقابلة بين الآثار الأدبية وشتى ظواهر البيئة الطبيعية والاجتماعية؛ فهو في استعراضه لعصر بعد عصر، وأمة في إثر أمة، رأى أن حركة فكرية بعينها صحبتها آثار أدبية ذات لون معين، وهكذا لكل محيط فكري أدبه؛ إذن فدراسة الأدب هي أن نرده إلى هذا المحيط الذي أنتجه. هذا هو ما صنعه «فلمان» في دراسته للأدب، فمهد به الطريق إلى شيخ النقد الفرنسي في القرن التاسع عشر «سنت بيف»،

110

وإن يكن مما يؤخذ عليه أنه كان أحيانا ضحل المعرفة قليل العلم يحاول أن يكسب إعجاب قارئيه بفصاحة تعبيره. (5) دزريه نيسار

Désiré Nisard (1806-1888م)

بينما كان «فلمان» يتجه بحركة النقد الأدبي نحو المذهب التاريخي الذي حدثناك عنه الآن، وقف ناقد آخر وقفة أخرى في عالم النقد، ذلك هو «نيسار» الذي تمثل فيه المذهب القياسي في النقد، ونعني بالمذهب القياسي قياس الأثر الأدبي بقاعدة يجتمع الرأي على صوابها؛ فلا بد أن يخضع النقد الأدبي لطائفة من القوانين الثابتة حتى نقضي على فوضى الأذواق، أو بعبارة أخرى، لا بد أن يصبح النقد الأدبي علما من العلوم. وأهم مؤلفات «نيسار» كتابه «تاريخ الأدب الفرنسي»

111

الذي أنتجه في أعوام طوال، والذي حاول فيه أن يخضع الأحكام الأدبية للقواعد الثابتة. وطريقته هي أن يقيس الأثر الأدبي الذي هو بصدد الحكم عليه بمثل أعلى كونه في ذهنه عما يجب أن يكون عليه الأدب الذي من قبيل هذه القطعة الأدبية المعينة. هبنا - مثلا - نريد أن نحكم على قصيدة من الشعر الوجداني؛ فينبغي أولا أن نسائل أنفسنا: ماذا نريد من القصيدة الوجدانية إن أردنا لها الكمال في نوعها؟ نريد كذا وكذا من الصفات، وقد تمثلت هذه الصفات جميعا في كيت وكيت من قصائد الشعر الفرنسي من جهة ومن قصائد الشعر في سائر أنحاء العالم من جهة أخرى؛ إذن فلنخبر هذه القصيدة التي أمامنا لنرى إلى أي حد قد جاءت لنا بما نريد، وإلى أي حد تقرب من هذه النماذج التي اتفقنا على أنها حققت الشروط المطلوبة فأصبحت مثلا يقاس عليها. والحكم بجمال القصيدة أو بقبحها متوقف على هذه المقارنة وحدها، ومن رأيه أن خير ما أنتجته أقلام الأدباء في فرنسا هو ما كان فيه سلطان العقل ظاهرا في التنسيق والتشذيب، فأرسل ما شئت العنان لخيالك وعاطفتك على شرط أن يرضى العقل آخر الأمر عن النسب بين العناصر التي يتكون منها أدبك. إذ ليس الأدب أن يطلعنا الفرد على جوانب شذوذه، إنما الأدب الصحيح أن يبين لنا الأديب كيف تسير الحياة الإنسانية وفق نزعات معروفة معينة، يستطيع تبيانها وتوضيحها لنزداد ببيانه وإيضاحه علما بالحياة. وليس الخيال أن تشطح في أوهام وتهاويل، إنما الخيال الصحيح ظاهرة من ظواهر العقل نفسه، لأنه ينظم مجموعة من التفصيلات والعناصر تنظيما يطابق منطق الحياة. وصفوة القول عند «نيسار» أن الأديب ليس حرا فيما يكتب، ليس حرا في تفكيره وخياله، بل هو مقيد بقواعد العقل، فلكل شيء حدوده التي يجب أن يقف عندها وإلا جاوز ما يقتضيه العقل ويرتضيه. ومثل هذا الأدب تراه على أجود ما يكون مثالا في الأدب الفرنسي إبان القرن السابع عشر، أي عهد عاهل فرنسا العظيم لويس الرابع عشر، الذي يسمى في تاريخ الأدب الفرنسي بالقرن العظيم؛ وإذن فليكن الأدب في ذلك العصر نموذجنا الذي نقيس عليه.

وهكذا ترى أن «نيسار» لم يكن ممن يؤمنون بأن النقد الأدبي «مسألة أذواق»، فذلك في رأيه فوضى، لأنه إذا اختلفت الأذواق فلا حكم بينها. وكانت الغاية التي ينشدها «نيسار» هي أن يضبط «الأذواق» بالقواعد. ولكنه من الحق أن نقول إنه حين أراد أن يجعل من النقد علما ينبني على أصول ثابتة ، وحين أراد أن يهتدي إلى تلك الأصول الثابتة، جعل «ذوقه» حكما، فما يصح أن يتخذ نموذجا يقاس عليه هو ما صادف منه إعجابا، وقد يكون إعجابه نفسه أمرا مشكوكا في سلامته؛ وإذن فقد تدهور النقد على يديه إذ أراد له ارتفاعا، ولكنه في تدهوره ذاك اكتسب شيئا وهو أنه لفت الأنظار إلى وجوب العناية بالنقد الصحيح، وإن شئت فقل عن «نيسار» إنه جاء بمثابة الشكيمة التي حدت بعض الشيء من رغبة في التحلل من جميع القيود باسم الحرية. (6) سنت بيف

Sainte-Beuve (1804-1869م)

وبعد، فإن «سنت بيف» هو ناقد المدرسة الابتداعية غير منازع، وهو أعظم من نقد على أساس المذهب التاريخي الذي بسطناه عند الحديث عن «فلمان» وهو المذهب الذي يفهم الأثر الأدبي بفهمه للظروف التي عملت على إنتاجه، وقد نعتناه بالتاريخي لأنه شبيه بعلم التاريخ الطبيعي الذي يفهم الكائن الحي بوضعه في موضعه من شجرة التطور لكي تظهر السوالف التي انتهت إلى خلقه وإخراجه.

كان «سنت بيف» شاعرا وقصاصا، وكان يدرس الطب، وكان شكاكا، وكان مؤمنا، وكان اشتراكيا، وكان استعماريا. مفارقات يعللها أنه كان يسبح في محيط الفكر سبحا، كلما فرغ من جانب انتقل إلى جانب آخر، فهو اليوم شكاك لأنه يدرس ويفهم ويستسيغ ما يقوله الشكاكون، وهو اليوم مؤمن لأنه يقرأ ويعجب بما يقوله المؤمنون، وهكذا كلما فهم شيئا تركه جانبا ليفهم شيئا آخر.

أصدر «سنت بيف» كتابه «عرض للشعر الفرنسي في القرن السادس عشر»

112

ليدل به على أن المذهب الابتداعي قديم في فرنسا قدم القرن السادس عشر، ثم أخرج «صور أدبية»

113

و«صور معاصرة»

114

أخذ فيهما يتنقل من أديب إلى أديب، ويحلل من يتناوله بالدرس من الأدباء تحليلا لا يغفل شيئا من حياته وظروفه التي كونت أدبه، حتى إذا ما أخرج كتابه «بور رويال»

115

كان قد بلغ بمذهبه في النقد مرحلة التحديد الواضح؛ إذ أخذ يقسم في هذا الكتاب رجال الأدب أنماطا تنتمي كل مجموعة منها إلى فصيلة معينة، ويفصل لكل نمط أدبي مميزاته وصفاته، بحيث لا يتعذر إذا درست أديبا أن تضعه في موضعه من شجرة الأنساب. وبعدئذ أخذ مدى خمسة وعشرين عاما يدرس الأدباء أديبا أديبا، يوضح معالم كل أديب ويميزه عن سواه، ومن هذه الصور يتألف كتاباه «أحاديث الاثنين»

116

و«أحاديث الاثنين الجديدة»

117

وتستطيع أن تعد هذين الكتابين بمثابة مؤلف في التاريخ الطبيعي، لولا أن أنماط الأدباء قد أخذت فيه مكان أنواع الحيوان التي يدرسها التاريخ الطبيعي. وفي هذين الكتابين فصل المذهب التاريخي في النقد تفصيلا، ووضح بالأمثلة الكثيرة توضيحا لا يدع زيادة لمستزيد.

لم يرد «سنت بيف» - كما أراد «نيسار» - أن يجعل من النقد الأدبي علما يقوم على أصول مقررة وقواعد ثابتة، أو بعبارة أصح لم يطمع في ذلك؛ إذ رآه فوق مقدور شخص واحد؛ وإنما كان رجاؤه أن تكون الملاحظات الكثيرة التي يثبتها هو ويثبتها غيره من النقاد طريقا ينتهي إلى تكوين العلم الذي نرجوه للنقد. وإلى أن يتم تكوين هذا العلم المنشود ويجمع الرأي على سلامة أصوله وصحة قواعده لا ينبغي أن نتسرع فنضع قاعدة عامة شاملة نحكم على أساسها في أقدار الأدباء، بل يجب أن يدرس كل أديب على حدة، وبغير افتراض قواعد أدبية قبل البدء في دراسته. وطريقته في الدراسة هي أن يدرس الأديب ليفهم ما أنتجه من أدب، أي أن يتخذ من حياة الأديب منظارا ينظر خلاله إلى أدبه فيفهمه. فإذا أردت مثلا أن تدرس شعر المتنبي فادرس كل تفصيلات حياته أولا؛ لأن شعره هو حاصل جمع العناصر التي تكونت منها تلك الحياة. وهكذا كان «سنت بيف» يتناول الأديب فيحلل كل ما أحاط به وما سبقه مما كان له أثر في تكوينه؛ يحلل بنية جسمه، يحلل أسرته التي هبط منها، ويحلل المجتمع الذي نشأ بين أفراده، يحلل الظروف التي سايرته في تعليمه، يحلل علاقاته بأصدقائه وصلاته بمعاصريه، يحلل اللحظة التي بدأ فيها أدبه في الظهور، فيم اختلفت عن سائر لحظات حياته، ويحلل اللحظة التي بدأ فيها أدبه في التدهور إن كان أدبه قد اجتاز مرحلة كهذه ليرى علة هذا التدهور في هذا الظرف المعين دون سواه، يحلل أتباعه ومشايعيه ومن أعجبوا بأدبه، كما يحلل أعداءه ومناهضيه، فإن وجد أن هذه الجوانب كلها تلتقي في نقطة واحدة واستطاع أن يصفها، كان هذا الملتقى وما يوصف به هو نقد الأديب. ولعلك تدرك من هذا أن «سنت بيف» لا يقدم لك «قاعدة » تحكم بها من فورك على الأثر الأدبي أجيد هو أم رديء، إنما يقدم لك «طريقة» في البحث وأسلوبا في النقد، وقد كان لهذه الطريقة أعمق الأثر في الدراسات الأدبية إبان القرن التاسع عشر.

الفصل الثاني: عصر الابتداع في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

(أ) الشعر (1) شارل بودلير

Charles Baudelaire (1821-1867م)

لو قيس الشاعر بما له من قوة الابتكار وما له من أثر على أخلافه من الشعراء، كان «بودلير» بغير شك أعظم الشعراء الفرنسيين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. تلقى «بودلير» قسطا لا بأس به من التعليم، على الرغم من أنه كان تحت رعاية رجل تزوج من أمه بعد موت أبيه، لكنه لم يكد يشب عن طوقه حتى أرسل إلى الهند ليكسب قوته بعمله، غير أنه لم يلبث أن عاد إلى بلاده وكانت سنه قد بلغت الحادية والعشرين، فتزوج واستقل بنفسه وحياته ليكون بعدئذ أديبا مذكورا. وقد لبث مقيما في باريس حتى جاوز الأربعين، ثم سافر إلى بلجيكا ليحاضر في الأدب هنالك وليخرج أدبه في مجموعة كاملة، وكان أمله أن يدر عليه العملان، محاضراته وكتبه، ثروة، لكن خاب رجاؤه؛ إذ لم يكد يستقر في بلجيكا حتى أخذت عافيته في الانحلال، وأعيد إلى باريس مشلولا، ليموت وهو في عامه السادس بعد الأربعين.

وجد «بودلير» في الأدب الإنجليزي مثاله الذي يحتذيه؛ فقد أنفق من مجهوده شطرا عظيما في ترجمة «إدجر بو»

1

حتى كاد يترجم كل ما أنتجه «بو» بحيث كان «بودلير» يعرف في حياته بأنه مترجم «بو» أكثر مما يعرف بإنتاجه الأصيل، وإنتاجه الأصيل لم يكن غزيرا بالقياس إلى خمسة وعشرين عاما أنتجه خلالها، لكنك توشك ألا تجد بين سائر الآداب ما يفوقه في الأصالة التي جعلت ذلك الإنتاج مطبوعا بطابع لا تخطئه العين.

عاد «بودلير» من رحلته إلى الهند ومعه بعض القصائد التي كان قد أنشأها، فأخذ ينشرها - وينشر ما ينشئه وهو في فرنسا - في الصحف، ولم يصدر له ديوان يجمع قصائده تلك إلا وهو في السادسة والثلاثين من عمره ؛ إذ صدر له ديوان «زهرات السوء»

2

وكان يحتوي على قطع أثارت غضب الحكومة إذ ذاك؛ فاستدعت إلى القضاء صاحب الديوان وناشر الديوان معا، وقضت عليهما أن يدفعا غرامة معينة وأن يصادر الديوان حتى تحذف منه القصائد التي عدت خارجة على القانون. ومضت سنوات أربع بعد ذلك ثم صدرت طبعة ثانية للديوان حذفت منها تلك القصائد المحرمة، وأضيف إليها مجموعة جديدة. وللشاعر غير هذا الديوان الذي لا يزيد على كتاب متوسط الحجم، والذي يحتوي على كل شعره، «قصائد قصيرة نثرية»

3

تبهرك بما فيها من أصالة وابتكار، أضيفت إليها فيما بعد طائفة من القصص والمقالات المختلفة في النقد الأدبي وغيره، كلها ينهض دليلا على ما امتاز به «بودلير» من خلق وإبداع.

ليس ما يفتنك من شعر «بودلير» حلاوة صياغته التي تروقك باختيار ألفاظها أكثر مما تروقك بأنغام أوزانها، بقدر ما يفتنك من شعره أنه يعبر لك عن حالة نفسية عرفتها كل العصور التي اهتزت بروعة الخيال ولم تسد فيها عبادة العقل وعبادة الحقائق الواقعة. شعر «بودلير» يعبر لك عن حالة نفسية سادت العصور التي اهتزت بشيء من روعة الخيال، كالعصر الذي سبق المسيحية مباشرة، والعصر الذي تلا المسيحية فورا، وكالعصر الذي نهضت فيه أوروبا بعد رقدة العصور الوسطى، وأخيرا كالقرن التاسع عشر الذي عاش فيه الشاعر. هذه الحالة النفسية التي تختلط فيها اللذائذ الحسية عند الإنسان بميل قوي ملح عند هذا الإنسان نفسه أن يحلل عواطفه وخواطره تحليلا نقديا يشيع فيه شيء من اللفتة الصوفية، وأقرب الشعراء في التعبير عن هذه الحالة النفسية إلى «بودلير» هما «لوكريشس»

4

قديما و«دن»

5

الشاعر الإنجليزي في القرن السابع عشر.

كان «بودلير» لمن جاء بعده من الشعراء الناشئين في فرنسا إماما في الروح والنزعة كما كان «هيجو» إمامهم في الصورة والقالب. وهاك أمثلة من شعره:

الجمال

أيها البشر الفاني، ما أحلاني! كأنما أنا حلم تجمد،

وكأنما صدري - وقد سقط الناس حياله عابرا بعد عابر -

أريد به أن يوحي بالعشق للشاعر؛

بالعشق لا يبلى، ويصمت فيه اللسان كأنه جلمد. •••

كأبي الهول ألغزت، جاعلا عرشي في السماء؛

اجتمع بياض الثلج والطير في ساحتي؛

من أفسد الأوزان لفظت من حظيرتي؛

ليس مني الضحك، كلا ولا مني البكاء. •••

انظر إلى الشعراء إذ هم على مرأى من جلالي؛

جلالي الذي اتخذ من آيات العالمين وشاحا،

في سبيل معرفتي ينفقون أيامهم والليالي، •••

فلكي أفتن هؤلاء العاشقين

لدي صافي المرايا التي تجعل كل شيء أبهى وأجمل،

هي عيناي؛ عيناي الواسعتان اللتان تشع بالصفاء الخالد.

وهذه قصيدة أخرى له يتبين فيها خياله الغريب المبتكر:

العملاقة

مضى زمن كانت فيه الطبيعة في عنفوان قوتها،

تلد كل يوم عددا من أبنائها العمالقة؛

وددت لو عشت في ذلك الزمن، في كنف عملاقة حسناء،

كما تلوذ قطة شهوانية بملكة فتجلس عند قدميها،

وددت لو رأيت هذه العملاقة الحسناء تزدهر جسدا وروحا،

وتنمو إذ هي تمرح في لهوها المخيف نموا لا يعوقه عائق؛

لأرى هل كان قلبها لينطوي على لهب دفين

وراء ما يرتج في عينيها من بليل السحاب. •••

وددت لو سرت خلي البال فوق أعضائها الضخام،

وحبوت على منحدر ركبتيها الكبيرتين،

فإذا ما كان الصيف واشتد القيظ، •••

واستلقت عملاقتي فوق المروج؛

نمت في ظل ثدييها ساكنا

كأنني القرية الهادئة عند سفح الجبل. (2) ثيودور دي بانفيل

Theodore de Baniville (1820-1891م)

كان «بانفيل» ل «بودلير» معاصرا وصديقا، يكبره بعام، وعاش بعد موته خمسة وعشرين عاما. وكان هو وصديقه يمثلان اتجاهين مختلفين في الشعر.

ولد «بانفيل» لأب ضابط بحري من أسرة عريقة، وبدأت شاعريته في الظهور وهو دون العشرين، وظل يكتب في اتصال لم ينقطع مدى خمسين عاما. بدأ إنتاجه بديوان أصدره وهو دون العشرين أطلق عليه «العمد التي على هيئة النساء»

6

فظهرت في هذه الباكورة قدرته العظيمة في قرض الشعر الجاد والشعر الهازل على السواء. ومن شعره الجاد أخرج بعدئذ عدة دواوين، منها «الرواسب الكلسية المدلاة من سقوف المغاور»

7

و«أناشيد قصار»

8

و«المنفيون»

9

كما أخرج ديوانين من الشعر الهازل يمتازان بما فيهما من حكايات رمزية وسخرية، وهما «مغربيات»

10 (وقد اختار هذا الاسم تقليدا لهيجو في «مشرقيات») و«أناشيد بهلوانية»

11

وفي هذين الديوانين الأخيرين تجد روحا من التهكم في الشعر قلما تجد لها نظيرا في الأدب الفرنسي كله. أما امتيازه في شعره الجاد فأظهر ما يكون في الصياغة والقدرة على استخدام الأوزان، التي لم يكتف باستخدامها باعتباره شاعرا، بل أضاف إلى ذلك أن ألف فيها كتابا أطلق عليه «رسالة صغرى»

12

سجل فيه قواعد العروض كما تراها المدرسة الابتداعية؛ فشرح كيف أباح «هيجو» لنفسه الحرية أن يجري فيها وفق ما أملاه عليه فنه، ثم كيف صارت اتجاهات «هيجو» طرقا يسلكها بعده الشعراء. ول «بانفيل» عدا ذلك روايات تمثيلية وقصص نثرية ومقالات منوعة في موضوعات شتى.

وتستطيع أن تعد «بانفيل» متمما لصديقه «بودلير»؛ فاختلافهما هو اختلاف الشيئين يكمل أحدهما الآخر؛ «بانفيل» يعنى عناية بلغت أقصى حدود الدقة بأوزانه وقوافيه، وقد برع براعة فائقة في إخضاع الأوزان إلى أغراضه ومراميه، فما استعصى عليه وزن ولا أفلتت من زمامه قافية، بينما ترى «بودلير» يهتم بالروح فيما يكتب مكتفيا من بحور الشعر بأيسرها مأخذا وأسهلها صناعة. ولما كان جزء كبير من شعر «بانفيل» مرتكزا في جودته على جودة صناعته وجد كثير من النقاد ما يغريهم بإصدار حكم سريع على الشاعر بأنه سطحي ليس لبحوره عمق من الروح والمعنى! وأقل ما يقال في مثل هذا النقد إنه يظلم بعض القصائد الممتازة التي لا يخلو منها ديوان واحد من دواوين الشاعر الكثيرة. ومهما يكن من أمر، فالحق أن «بانفيل» برع في صناعة الشعر براعة تستوقف النظر، فبغير أن يبيح لنفسه خروجا على القواعد، استطاع أن يصوغ اللغة في يديه على أي نحو أراد، فالأوزان والقوافي سلسة طيعة لا تعصي لفنه أمرا.

وهاك قصيدته «أيها المثال دقق البحث»

13

مثالا لشعره:

أيها المثال دقق البحث - إذ أنت في نشوتك -

عن مرمر جيد لتصوغ منه أصيصا جميلا،

أنعم النظر كيف تكون صورته، فلا تنقش على جدرانه

قصص الحب الغامض أو معارك الآلهة،

لا تحك عن «هرقل»

14

وما أصاب في قتاله من فوز،

ولا عن «أفروديت»

15

التي ولدت على متن البحر تفوح بالأريج،

ولا عن «المردة»

16

الذين منوا في عصيانهم بالهزيمة،

ولا عن «باكوس»

17

الذي ألجم الأسد

بلجام مضفور من غصون العنب وأوراقه،

ولا عن «ليدا»

18

تمرح بين طيور التم

تحت ظلال الغار الذي أينع فيه الزهر،

ولا عن «أرتميز»

19

وقد فزعت للماء يلطم جسمها السوسني،

فخير لك من هذا كله أن تنقش على جدران الأصيص الصافي

عرارا امتزج بأوراق الحسك المزدهر،

وأن تنقش العذارى وقد سرن الهوينى

اثنتين اثنتين، في خطو ثابت يفتن الألباب،

وقد تدلت الثياب مستقيمة على أذرعهن،

وانعقدت خصلات الشعر منهن على مشرق الجباه. (3) ليكونت دي ليل

Leconte de Lisle (1820-1894م) «بودلير» و«بانفيل» و«دي ليل» ثالوث تعاصر أفراده، لولا أن «بودلير» مات قبل زميليه بربع قرن تقريبا؛ وقد عني «دي ليل» - كما عني زميله «بودلير» - بالترجمة إلى الفرنسية، ترجمة ما يروقه من الآداب الأخرى؛ وذلك في ذاته اتجاه ابتداعي؛ إذ من تقاليد الأدب الابتداعي أن يستورد ما يجري في البلاد الأخرى. وكان مما ترجمه «دي ليل» شعر الأعلام من شعراء اليونان، ومما تشبث به في ترجمته إصراره على نقل أسماء الأعلام كما هي في أصلها اليوناني، حتى لو نقلت إلى الفرنسية حروفا ليست من طبيعة اللغة الفرنسية. على أنه فوق ذلك شاعر له قصائده الجيدة الممتازة، التي يبث فيها عاطفة المتشائم الناقم، وقد استفحل معه هذا الشعور السوداوي حتى انقلب في نهاية الأمر دعوة إلى تحطيم المجتمع من أساسه، وخروجا على الديانة المسيحية.

ومن شعره قصيدة «الظهر»:

20

إذا ما حل الصيف كان الملك للظهر تراه فوق السهل ممتدا،

تساقط رقائقه الفضية من أجواز السماء الزرقاء،

الصمت شامل، والهواء مشتعل محترق جمدت فيه الأنفاس،

والأرض في سنة من نومها تلفعت برداء من لهب. •••

الفضاء فسيح والمروج لا ظل فيها،

والنبع جاف وقد كانت الماشية من مائه ترتوي،

والغابة البعيدة التي اسودت حواشيها

تراها هنالك في الأفق قد سكنت وأطبق عليها الكرى، •••

أما سنابل القمح الناضجة الباسقة - وكأنها بحر من زبرجد -

فقد لبثت وحدها على مبعدة تبدي محاسنها غير آبهة بالنعاس الشامل،

وأخذت هذه الذراري الوديعة التي أخرجتها الأرض المقدسة من جوفها

تعب وحدها كأس الشمس بلا وجل. •••

وتارة - كأنما تتنهد عن فؤاد يحترق -

كانت تنبعث من تلك السنابل المثقلة التي يهمس بعضها إلى بعض

موجة تسري في جلال وتؤدة

حتى إذا ما بلغت حدود الأفق المغبر لاقت فناءها. •••

وعلى مقربة قبعت ثيرة بيضاء بين النجيل،

ترغي في تراخ فوق غبها المتدلي،

وتتعقب بأعين لامعة نعسانة

حلما يتردد في نفسها ما استطاعت قط أن تتبينه. •••

أيها الإنسان! إذا أفعم قلبك بالغبطة أو بالأسى،

وعبرت عند الظهر وضيء المروج

فطر هاربا! إن الطبيعة خاوية والشمس تفترس،

لن ترى ها هنا حيا، لن ترى ها هنا غبطة وأسى. •••

أما إن نفضت عن نفسك الضحك والبكاء،

وأردت أن تنسى هذه الدنيا بما به اضطربت؛

فتستطيع - وقد خلصت من عواطف السخط والإشفاق -

أن تتذوق بالحس متعة عظيمة لكنها واجمة. •••

أقدم! ستحدثك الشمس طلي الأحاديث،

ذب في وقدتها التي لا تخمد،

ثم عد في خطو وئيد إلى المدائن الشائهة وجوهها،

بعد أن قد غمست قلبك سبع مرات في هذا الخلاء الإلهي. (4) بول فرلان

Baul Verlaine (1844-1896م)

هو بين أتباع «بودلير» أعلاهم كعبا وأطولهم قامة. وقد لقي ما لاقاه أستاذه من عنت النقاد من ناحية، وبلاهة الحمقى من أشياعه من ناحية أخرى. لكنه كان كلما تتابعت عليه الأعوام، ازداد منزلة عند النقاد كما يزداد شيعة من خيرة الأدباء. ونحن إذ نقرنه في ذلك ب «بودلير» لا يفوتنا أن نذكر ما بين الأستاذ والتلميذ من تفاوت في الأصالة وفي قوة التفكير وفي جودة الشعر، لكنه من ناحية أخرى يفوق أستاذه في تنوع أبواب القول وفي رشاقة القالب الذي يختاره لشعره. وقد اختلفت نهاية حياته الشاعرة عن بدايتها؛ إذ بدأ شعره باقتفائه أثر «جوتييه» في ضرورة التمسك بصحة القواعد العروضية إلى حد التزمت الذي يدنو بالشعر من الجفاف واليبوسة، وكذلك تأثر خطو «جوتييه» في جانب آخر وهو نقل الصورة المحسوسة التي تقع من الحياة الواقعة على عين الرائي نقلا دقيقا أمينا كأن الأديب آلة مصورة أقصى غايتها نصوع الصورة المنقولة ووضوحها. ثم ختم «فرلان» حياته الشاعرة بثورة على ما بدأ به تلك الحياة، بثورة على التزمت في اتباع القواعد العروضية في إنشاء الشعر. ولقد كان «فرلان» في هذه الثورة مبشرا بمبدأ أكثر منه منفذا لما كان يبشر به. ولسنا نريد أن نزعم أنه كان أول من صرح بتحطيم القيود التي تفرضها القواعد العروضية على الشاعر؛ فقد سبقه إلى ذلك شعراء الحركة الابتداعية جميعا في الثلث الأول من القرن كما أسلفنا. لكن الحركة الابتداعية تبعها رد فعل؛ إذ نشأت جماعة من الشعراء الأوساط، لم تعجبهم هذه الحرية التي أباحها الشعراء لأنفسهم، ونادوا بالعودة إلى القواعد التقليدية، ومن هؤلاء كان «فرلان» أول الأمر، لكنه عاد فشق عصا الطاعة على هؤلاء، وخرج على ما كان آمن به؛ فثورته في الواقع بمثابة استئناف لثورة قديمة.

عني «فرلان» أشد عناية بحلاوة الإيقاع في شعره، وهو فيما بذل من مجهود في هذا السبيل، سار على منهاج اثنين من أسلافه؛ «فكتور هيجو» أولا، و«بانفيل» ثانيا. ومن أمثلة ما اصطنعه في نظمه ليحقق لنفسه ما أراد من نغم موسيقي في شعره، أنه أولا لم يقيد نفسه بتقليد قديم في الشعر الفرنسي، وهو أن يختم الشاعر أبياته بكلمات مذكرة ومؤنثة على التوالي، فبيت قافيته لفظة مذكرة، والبيت الذي يليه قافيته لفظة مؤنثة، وذلك لا شك قيد قد يفوت على الشاعر اختيار اللفظة التي تخدم النغم. ولم يستطع «فرلان» أن يحرر نفسه من هذا القيد تحريرا تاما، لكنه على كل حال جاهد ما استطاع في تحطيمه. وهو ثانيا، لم يتقيد بتقليد آخر في نظم الشعر؛ وهو أن يرد في البيت وقف يجب أن يوضع في مكان معين منه، وعلى نسبة معينة من طرفيه. وثالثا، أطلق لنفسه الحرية في أن ينشئ أبيات الشعر قوامها عدد فردي من المقاطع وكان التقليد أن يكون البيت محتويا على عدد زوجي منها. ورابعا، أباح لنفسه أن يجعل قافيتين من كلمة بعينها، أعني ألا يحصر القافية في المقطع الأخير، فمثلا بدل أن تكون القافيتان المتتاليتان كلمتين مثل: «قوافي وفيافي» وهما متحدتان في الجزء الأخير منهما فقط، لم ير «فرلان» ما يمنعه من أن يجعل القافيتين المتتاليتين «فيافي وفيافي» وهو شيء لم تكن ترضاه تقاليد الشعر. كل هذه وغيرها أفسحت له في مجال اختيار ألفاظه، اختيارا يرضي أذنه قبل أن يرضي القواعد، فوفق فيما أراد كل توفيق.

ومن شعره:

قبل أن يغرب عن السماء شعاعك

يا نجمة الصباح الشاحبة

أخذت ألوف «الحمام»

تغني، تغني بين أعواد الأشجار •••

وجهي شعاعك نحو الشاعر

الذي تفيض بالحب عيناه.

إن القبرة

لتصعد صوب السماء مع الصباح، •••

صوبي ها هنا عينك التي بهت لها

الفجر في لا زوردي السماء.

يا لها من نشوة

سرت في حقول القمح الناضج! •••

ثم بشعاع منك اجعلي فكري

ها هنا يسطع بعيدا بعيدا!

إن الندى

قطره الوردي فوق العشب وضاء، •••

وبنورك انسلي إلى الحلم الجميل

الذي تحلم به الآن حبيبتي وهي نائمة ما تزال؛

أسرعي! أسرعي!

فها هي ذي الشمس ترسل شعاعا من ذهب. (5) ستيفان مالارميه

Stèphane Mallarme (1842-1898م)

سنتحدث الآن عن شاعر ختم دولة الشعر الفرنسي في القرن التاسع عشر، ليسيطر بقوته على الشعر في فرنسا إلى يومنا هذا، لأنه لفت الأنظار لفتة جديدة، فيها بهاء الجديد وفيها غرابته في آن معا، ونعني بهذا الاتجاه الجديد الشعر الرمزي.

كان «مالارميه» يكسب عيشه من تدريس اللغة الإنجليزية في مدارس الدولة في فرنسا، وكان مدرسا فاشلا من ناحيتين، فلا هو أتقن فن التدريس، ولا هو تمكن من المادة التي كان يدرسها! ومع تقصيره عن بلوغ الكمال في معرفة اللغة الإنجليزية، فقد أحب الشعر الإنجليزي حبا لعله كان مصدر مذهبه الجديد، وأحب من شعراء الإنجليزية بصفة خاصة «إدجر ألن بو» وترجم عنه إلى الفرنسية بعض شعره - كما ترجم عنه كذلك «بودلير» - أليس «مالارميه» يقرأ القصيدة الإنجليزية فلا يفهمها فهما جيدا ومع ذلك يتأثر بها أبلغ الأثر؟ أليس هو إذ يقرأ القصيدة الإنجليزية ولا يفهمها يسد النقص بخياله ؟ إذن فليكن هذا هو الأساس في الشعر كله! الشعر لا ينظم ليفهم، إنما ينظم الشعر لكي يتأثر القارئ بما يقرأ عن غير فهم.

مذهب «مالارميه» في الشعر له جانبان: أحدهما سلبي والآخر إيجابي، فهو سلبي بمقدار ما ينفي الشاعرية عن كل شعر لا يذهب مذهبه، وهو إيجابي بمقدار ما يضع من قواعد تصلح أساسا لقرض الشعر الصحيح. لكن جانبه السلبي أكثر شيوعا بين أتباعه، فقلما تجد من يأخذ بمذهب «مالارميه» من حيث قواعده الإيجابية، وأقل من هؤلاء القليلين الذين يأخذون بمذهبه هم هؤلاء الذين يستطيعون أن يقرضوا شعرا على أساس ذلك المذهب، بل إن «مالارميه» نفسه كاد يعجز عن نظم الشعر كما ينبغي أن يكون الشعر في رأيه؛ فتستطيع أن تقول عنه إنه لم يكن ناثرا ولا ناظما، إنما كان مفكرا ومحدثا. والعجيب أن الكثرة الغالبة من تلاميذه جاءت على نمطه في هذا، فهم يحدثونك عن المذهب الرمزي الجديد فإذا الحديث خلاب، وهم يفكرون في أمر المذهب الرمزي الجديد فإذا التفكير ناضج جذاب، أما أن يكتبوا على أساس ما يقولون فذلك ما لم يصنعوه على الوجه الأكمل في رأي هذا المذهب الجديد الذي بشر به «مالارميه». إن الواقع لا يصلح أن يكون شعرا ولا فنا على الإطلاق؛ إذا كتبت عن الغابة فكتبت عن أشجارها فلم تكتب شعرا، لأن أشجار الغابة أمر واقع فهو إذن لا يصلح موضوعا للأدب، وإذا حكيت حكاية فليست حكايتك شعرا، لأنك تحكي عن الواقع أو ما يشبه الواقع، وإذا أردت أن تلقن قارئك درسا يتعلمه عنك فليس ما تلقنه شعرا لأنك عندئذ ستكون مرتبطا بالواقع، بل إذا عبرت عن شعورك تعبيرا صادقا كما يقولون فليست عبارتك شعرا لأن شعورك هذا الذي تعبر عنه جزء من الواقع، وليس الواقع هو ما نريد، وإذا أنشأت مأساة أو ملهاة فليس ذلك شعرا، بل إن المأساة أو الملهاة هي آخر ما يمكن اعتباره شعرا من ضروب الإنشاء جميعا.

ماذا إذن تريدني أن أكتب ليكون ما أنشئه شعرا صحيحا؟ يريدك «مالارميه » أن تكتب ما يرمز إلى شيء لا ما يدل على معنى. ولشرح ذلك نقول إن كل كلام معقول له معناه في هذه الدنيا الواقعة، لكن ليس كل كلام يرمز وراء هذا المعنى إلى شيء وراء الواقع، فلكي يكون أدبك أدبا يجب أن يكون لإنشائك معنى ومغزى في آن واحد، له معنى الألفاظ، ثم له بالإضافة إلى ذلك مغزى يرمز إليه لا في دنيانا هذه الناقصة الشائهة، بل فيما وراءها من أبدية وكمال؛ فهذه الدنيا التي نرى مشاهدها ونسمع أصواتها ونذوق طعومها ونشم روائحها ونلمس أشياءها، هذه الدنيا التي نسميها بالعالم الواقع، إن هي في الحقيقة إلا تشويه للعالم الحقيقي الذي تستطيع أن تستشفه من وراء هذه الحجب؛ فإن رأيت زيدا وعمرا من الناس، فسترى فيهما النقص والسوء والرذيلة، أفلا يمكنك أن ترى خلال ما فيهما من نقص الإنسان الحق كيف يكون؟ إذن فإن كتبت أدبا فاكتب ما يرمز إلى هذا الإنسان الحق الذي تلمحه خلال الإنسان الناقص الذي يصادفك في هذه الحياة، وبعبارة أعم إذا كتبت أدبا صحيحا فينبغي أن ترمز بما تكتب إلى العالم الكامل الأبدي الدائم الذي تنفذ إليه خلال الشقوق والفجوات التي تراها في بناء هذا العالم المحيط بك. مهمة الشاعر أن يكشف عن مواضع هذه الشقوق والفجوات، بل أن يوسعها حتى يستطيع أن ينفذ منها فينتقل من عالم الواقع العابر إلى العالم الأبدي الخالد. وربما قلت معترضا: لكن أليست هذه مهمة الفلسفة لا مهمة الشعر؟ إن الفلسفة تحاول جهدها أن تكشف عن الحقائق الخالدة الكامنة وراء ظواهر العالم البادية للحواس، أتكون هذه هي نفسها مهمة الشعر والشاعر؟ كلا! لسنا نريدك أن تنفذ خلال نقص الواقع لتبلغ «أفكارا» عن العالم الخالد يفهمها العقل ويجيزها المنطق، بل إن ما نحملك على صنعه لو كنت شاعرا هو نقيض ذلك تماما؛ فالمقياس الذي نقيس به فشلك في مهمتك باعتبارك شاعرا هو هذا: هل يفهم العقل ما تنشئه؟ لو كان العقل يفهمه فليس هو من الشعر في شيء! إننا نريدك أن تستخدم الألفاظ نوافذ تطل منها على عالم الروح لا عالم العقل، وعالم الروح قوامه أشياء لا تفهم إذا أردنا بالفهم ما يجري على منهاج المنطق العقلي. والشعر وحده هو الطريق المؤدية إلى عالم الروح، والفرق بينه وبين الفلسفة فيما يتصل بالعالم الخالد الذي لا يتغير ولا يزول هو أن الفلسفة «تحدثك» عن العالم الخالد، أما الشعر فيخلق فيك الأثر الخالد نفسه، والعلامة التي تميز بها الشعر الصحيح هي - كما قلنا - أن تشعر بهذا الأثر ولا تفهمه. هذه خلاصة للمذهب الرمزي الذي نادى به «مالارميه»، والذي جعل كل شاعر في فرنسا منذ ذلك الحين يسائل نفسه إذا ما أنشأ قصيدة: ترى لو قرأ «مالارميه» هذا الذي أنشئه فماذا هو قائل فيه؟ (ب) القصة (1) جستاف فلوبير

Gustave Flaubert (1821-1881م)

هذا أديب ممن أسعدهم الحظ فلم يرتزقوا عن طريق أقلامهم؛ فقد كان له من الدخل ما يكفيه، ولهذا خصص نفسه لأدبه منذ سنه الباكرة، وعني بتجويد أدبه عناية نادرة بين الأدباء الذين تدفعهم ضرورات العيش في كثير من الأحيان أن يرسلوا إلى المطبعة بما لم يجودوه. وقد بدأ «فلوبير» حياته الأدبية بالنشر في صحيفة كان يقوم على تحريرها «جوتييه» الذي حدثناك عنه شاعرا، فلما أن بلغ الأربعين من عمره أحرز نصره الأدبي بإخراجه للقصة المشهورة «مدام بوفاري»

21

التي درس فيها حياة الريف دراسة صورت الواقع في دقة تستثير الإعجاب وبأسلوب أخاذ يستوقف المسامع، ثم أخرج بعدئذ قصة «سلامبو»

22

التي صور فيها قرطاجنة في عصرها الغابر، وها هنا برع الكاتب أيضا في وصفه وتصويره. ثم أصدر «إغراء القديس أنطون»

23

الذي نشر فصولا منه في صحيفة «جوتييه»، وله بعد ذلك «حكايات ثلاث»

24

تجد فيها كل خصائص هذا الكاتب منعكسة في صورة مصغرة، وأخيرا صدر له بعد موته المفاجئ كتاب «بوفار وبكيشيه»

25

الذي لم يكن قد أكمله، وهو مجموعة صور نقدية للفنون والعلوم ولما في الحياة من صنوف العمل ووسائل اللهو وما إلى ذلك.

ل «فلوبير» عيوبه التي من أهمها الخوض في موضوعات ليس له أن يخوض فيها، والاستطراد آنا بعد آن إلى تفصيلات يبسطها ليدل بها على سعة علمه، فكأنه يلقي بها الحجارة في طريق قارئه، فيفوت عليه سهولة السير واتصال الحركة. لكن مهما يكن له من نقائص فهو كاتب وصاف من الطراز الأول، وله قدرة عظيمة على التغلغل إلى دقائق التفصيلات التي تكون هذه الأنماط البشرية العجيبة التي يتعرض لتصويرها؛ وذلك بالطبع مرده إلى خيال بارع امتاز به. ومن خصائصه كذلك السخرية اللاذعة بأوضاع الحياة، سخرية اتسمت بصفات تجعله فريدا بين الكتاب الساخرين؛ فقد تجد من الناس من لا يعجبه «فلوبير» لأن أدبه يبعث على النفور، وقد تجد منهم من لا يعجبه «فلوبير» لأن أدبه عسير الفهم غامض الأغراض، لكنك لن تجد ناقدا واحدا يقدر الأدب لذاته لا لأغراضه ومراميه، لن تجد ناقدا من هؤلاء ينكر على «فلوبير» مكانه في الصف الأول من أدباء العالم.

كان ل «فلوبير» مذهب خاص في الإنشاء الأدبي، تأثر به من تبعه من الأدباء الناشئين، ومؤدى هذا المذهب في عبارة واحدة هو أنه «مذهب الكلمة الواحدة» ومعنى ذلك أنه لكي يعبر الأديب عن فكرته - بحيث ينقلها ناصعة قوية إلى ذهن قارئه - لا بد له أن يحاول وأن يجاهد مهما لاقى في سبيل ذلك من عناء، في سبيل الوصول إلى العبارة التي تفصح عن الفكرة بما لا تستطيع عبارة أخرى أن تفصح عنها، وهو يعتقد أن لكل فكرة عبارة واحدة هي التي تستطيع أن تقول عنها إنها تعبر عن الفكرة تعبيرا قويا سليما لا تشوبه شائبة، وكل ما عداها من العبارات ناقصة بالقياس إلى كمالها، أو مغلوطة بالقياس إلى صحة تعبيرها؛ وإذن فمهمة الأديب عن كل فكرة يريد أن يسوقها في إنشائه هي أن يتصيد على مهل هذه العبارة الواحدة أو الكلمة الواحدة التي تطابق الفكرة تمام المطابقة، غير عابئ بما لا بد أن يلاقيه في سبيل ذلك من وقت ومجهود.

ومذهبه هذا في البحث عن «الكلمة الواحدة» التي تلائم الفكرة، فرع عن عقيدته بأن مهمة الأديب هي الأدب، مهمته أن يخدم الأدب لذاته، وليس هو أداة للوصول إلى غاية وراء هذه الغاية. ولذلك يعد «فلوبير» تابعا من أتباع المدرسة الابتداعية التي ظهرت في الثلث الأول من ذلك القرن، أكثر منه فردا له خصائصه التي تجعله وحده مدرسة أدبية يكون لها الأتباع والأشياع، ولكننا إذ نقول إنه دون معاصريه من أدباء القصة كان ألصق بمدرسة الابتداع التي سلفت عصرهم، ثم إذا أضفنا إلى ذلك أنه يفوق هؤلاء المعاصرين في نبوغه وفنه، كان لنا أن نستنتج أن هذا التفوق نتيجة لما امتاز به من صفات الابتداع الأدبي. ومهما يكن من أمر فكتابه «إغراء القديس أنطون» هو من أعظم ما أنتجته فرنسا من الأدب الخيالي الذي لا يجري في خياله مجرى مألوفا، وقصته «مدام بوفاري» هي كذلك من أروع آيات الأدب الفرنسي من حيث ما فيها من سخرية في عرض الحياة الواقعة. وعلى الجملة فأديبنا لا شك من أبرع من كتب نثرا أدبيا على الإطلاق. (2) الشقيقان: جيل دي جونكور

Jules de Goneourt (1830-1870م) وإدمون دي جونكور

Edmond de Goncourt (1822-1896م)

في حديثنا عن «فلوبير» أشرنا إلى اختلافه عن معاصريه من أدباء القصة؛ فهو ابتداعي ينتمي إلى أدباء الثلث الأول من القرن التاسع عشر أكثر منه عضوا من جماعة أدبية قصدت بأدبها إلى تصوير الواقع على نحو خاص بهم، ووجهت الأدب الفرنسي في النصف الثاني من القرن. وأدق ما توصف به هذه المدرسة الجديدة التي عاصرت «فلوبير»، لكنها اختلفت عنه في المذهب، هو أنها «مدرسة التحليل العلمي» لأن أدباءها أقرب شبها بعلماء الطبيعة في معاملهم، إذ هم يحللون زهرة أو حيوانا ويشرحونه عضوا عضوا بغير زيادة أو نقصان.

أدارت هذه المدرسة الأدبية ظهرها للمذهب الابتداعي، وشقت لنفسها هذا الطريق الجديد، وأعضاء هذه المدرسة كلهم من أدباء القصة، وعلى رأسهم هذان الشقيقان «جونكور» و«إميل زولا» و«ألفونس دوديه» و«جي دي موباسان». وطريقتهم جميعا هي - كما أسلفنا - الطريقة التحليلية، وأهم ما وجهوا إليه عنايتهم هو دراسة الشخصيات بهذه الطريقة التحليلية. وهم في عنايتهم بدراسة الشخصيات في قصصهم يزعمون أنهم يستقون أصول فنهم من أعلام القصة في القرن التاسع عشر: «ستندال» و«بلزاك» و«فلوبير» لكنهم في الواقع لا يأخذون عن هؤلاء فنا وإن أخذوا عنهم موضوع الفن، درسوا الشخصيات كما درسها هؤلاء، ولكن بغير الفن الذي درس به هؤلاء شخصياتهم القصصية. وما لهم وللفن؟ إنهم يصارحونك بأن أدبهم «علمي» بمعنى هذه الكلمة الدقيق. إن أدبهم ضرب من التشريح لا أقل ولا أكثر، ولقد يقسو عليهم ناقد فيقول إنه تشريح الجثة الهامدة لا تحليل الكائن الحي. إنهم حرموا على أنفسهم ما رآه الابتداعيون ضرورة فنية في تصوير الواقع، ألا وهو الإطار الفني الذي تضع فيه صورة الواقع. لا، حتى ولا هذا الإطار الفني أرادت «المدرسة العلمية» أن تبقي عليه؛ يجب على الأديب في رأيهم أن يحكي الواقع كما يحكيه الصحفي الأمين، ويجب على الأديب أن يصور الواقع كما تصوره آلة التصوير لا كما ترسمه ريشة الفنان؛ فأين هذا القارئ الذكي الذواقة الذي تعجبه قصة تبسط له وقائع الحياة على هذا النحو، وترجع له الحوادث إلى أسبابها كما يرد العلماء ظواهر الطبيعة إلى عللها؟ إن كتابة القصة على هذا النحو الواقعي الخالص منتهى بها حتما إلى جفاف وموات ينفر منهما القارئ إن كان على شيء من الذكاء وحسن الذوق؛ وبديهي أن ذلك لم يكن ليخفى على الأدباء أصحاب هذا المذهب، فماذا هم صانعون إزاء ذلك؟ لا بد لهم أن يتوخوا في اختيار الحقائق التي ينقلونها عن الحياة أن تكون بطبيعتها مثيرة لاهتمام القراء محركة لشوقهم. وإنه لمن حقائق الحياة ما يستطيع بطبيعته أن يفعل ذلك. إن في الرذيلة والجريمة ما يثير اهتمام القارئ مهما حصرت نفسك في حدود الواقع لا تضيف إليه شيئا ولا تنقص منه شيئا، قص عن رذيلة أو جريمة، وضع قصتك فيما شئت من صورة، فيستحيل أن تخطئ آذان الكثرة الغالبة من القراء؛ وإذن فلتكن الرذيلة ولتكن الجريمة موضوعا للقصة عند هؤلاء، وليكونوا أمناء في صدق ما يقولون وما يصفون، فالواقع الصادق هنا لن يكون منفرا ولا جافا. والشقيقان - «جيل جونكور» و«إدمون جونكور» - هما البادئان لهذا المذهب العلمي في أدب القصة. وقد عرف الأخوان بادئ ذي بدء بنقدهما للفن وتأريخهما له، وللفن إبان القرن الثامن عشر على وجه التخصيص، ثم كان لهما فوق ذلك نشاط أدبي جم، فهما يحاولان الرواية المسرحية ولا ينجحان، وهما عضوان عاملان في جمعية أدبية في باريس، ثم هما يخرجان القصص معا فيصدران «الأخت فيلومين»،

26

و«رينيه موبران»

27

و«جيرمني لاسيرتيه»

28

و«مدام جرفزيه»،

29

ومعظمها يدور حول موضوعات يترفع عنها الأدب العفيف. والأسلوب في هذه القصص أسلوب فيه صناعة مقصودة حتى تجيء الصورة المرسومة أقوى ما تكون الصورة أثرا وأنصع ما تكون وضوحا. ثم مات الأخ الأصغر «جيل»، فاستأنف الأخ الأكبر كتابة القصص وحده، فأصدر «الابنة إليزا»

30

و«الإخوة زمجانو»

31

و«عزيزتي»،

32

وأخيرا أخذ ينشر حتى ختام حياته «صحيفة جونكور»

33

حيث أخذ يقص للقراء أنباء رجال الجمعية الأدبية الباريسية مدى أربعين عاما، ولم يتورع بحكم مذهبه في الأدب أن يقص عن هؤلاء الرجال أدق دقائق حياتهم الخاصة؛ مما أثار اهتمام القراء فأقبلوا على قراءته إقبالا شديدا، على الرغم من أن الكاتب قد هبط بأدبه هبوطا فاحشا في هذا الكتاب.

إن تاريخ الأدب لا يذكر هذين الشقيقين لجودة ما أنتجاه، بقدر ما يذكرهما لأنهما أنشآ مدرسة جديدة في الأدب القصصي، هي «مدرسة التحليل العلمي»؛ فإذا قست عظمة الأديب بما ابتكر من اتجاه جديد في الأدب، وبأنه استطاع أن يستوقف أسماع كثير من القراء، فلك أن تضع الشقيقين موضعا عاليا من التقدير، أما إذا قست عظمة الأديب بجودة أثره الأدبي، سواء أأنشأ بهذا الأثر مذهبا جديدا أم لم ينشئ، وسواء أقرأه كثيرون أم قليلون، فلا نظن أنهما يظفران من تاريخ الأدب بمكانة ممتازة. (3) إميل زولا

Emile Zola (1840-1903م)

لئن كان الشقيقان «جونكور» هما منشئا مذهب التحليل العلمي في القصة، فلا شك أن «زولا» هو الذي رفعه على كتفيه، فما أصاب من نصر فله، وما ناله من هزيمة فعليه. ولد «زولا» لأب إيطالي ونشأ في جنوبي فرنسا، وجاء إلى باريس وعمره ثمانية عشر عاما . ول «زولا» شهرة واسعة بأدبه أولا، وثانيا بهذه القضية التي ارتج لها العالم عندئذ بفضله، والتي تصدى للدفاع فيها عن المظلوم بعد أن كان قد فرغ من رسالته الأدبية ووضع القلم ليستريح؛ قضية «دريفوس»

34

التي وجه بشأنها إلى رجال الدولة خطابه المشهور «إني أتهم» الذي يعد صرخة في وجه الظلم والطغيان والدسيسة؛ والذي كان له أبلغ الأثر، لأنه في نهاية الأمر نصر الحق على القوة الحمقاء. و«دريفوس» هذا الذي رج «زولا» العالم بقضيته، كان ضابطا في الجيش الفرنسي، ووجهت إليه تهمة التجسس ظلما، وحكم عليه بالنفي ظلما، وترامى الأمر إلى «زولا» فتولى الدفاع عنه بقلمه وانتصر.

لقد قلنا حين حدثناك عن «مالارميه» الشاعر الفرنسي الذي كان معاصرا ل «زولا» إنه كان يرى الشعر الحق، بل الفن على إطلاقه، لا في وصف هذه الحياة الواقعة من حولنا، بل في تلمس ما في هذه الحياة الواقعة من أوجه النقص، لننفذ خلالها إلى حياة الأبدية والكمال، أما «زولا» فعلى نقيض زميله الشاعر، لا يرى أمام الأديب حياة غير هذه الحياة. لقد أرادنا «مالارميه» على تلمس ما في هذا العالم من فجوات وشقوق لنتسلل خلالها إلى ما وراء الجدران، لكن ذلك كلام لم يفهمه «زولا»، إنه أراد أن يتلمس ما في هذا العالم من فجوات وشقوق ليرممها حتى تكمل هذه الحياة، لأنه إن تسلل خلالها فلن يجد إلا خلاء وعدما، إذ ليس وراء الجدران من شيء. «زولا» في أدبه عالم طبيعي، ولا غرو فعصره الذي عاش فيه كان كله صارخا بوجوب الإنصات إلى قول التجربة في كل شيء؛ وتستطيع أن تطلق على القصة عند «زولا » اسم «القصة التجريبية» لأنه كما يقف العالم أمام أنابيبه يضع المواد بعضها ممزوجا ببعض ليرقب النتائج، كذلك كان «زولا» يحلل الظروف الاجتماعية ثم يمزج عناصرها بعضها ببعض ليرى ماذا ينجم عن مثل هذا المزج، فهو يضيف إلى هذه الشخصية عنصر الإدمان في الخمر، وهو يضيف إلى تلك الشخصية عنصر الشهوة الحيوانية، ثم يتعقب ما ينجم عن مثل هذه الإضافة من أثره في السلوك. لكنك إذا ما أردت أن تحلل الشخص إلى عناصره فلا مندوحة لك عن الرجوع إلى والديه وأجداده، وها هنا يقع الفرق بين كاتب القصة والعالم الطبيعي في معمله؛ العالم الطبيعي لا يخلق العناصر إنما يضيف بعضها إلى بعض. أما كاتب القصة فلا بد أن يبتدع العناصر التي سبقت في الزمن هذا المركب الذي يبحثه. ولكن أيكون في ابتداعه هذا بعيدا عن الحق والواقع؟ كلا، بل مهمته أن يرجع إلى التاريخ ليعرف كيف كانت الأجيال المتعاقبة تتعاون عناصرها على خلق شخص ذي خلق معين، ليقيس ابتداعه بمقياس الحق الذي يشهد به التاريخ، ومن هنا كانت القصة على مذهب التحليل العلمي قصة تاريخية من بعض نواحيها، ومن هنا أيضا كان أهم ما أنتجه «زولا» في القصة مجموعة قصص تعالج حياة أسرة ليتتبع في تسلسل أبناء الأسرة الواحدة تطور العوامل الاجتماعية في تكوين الأفراد، ونعني بهذه المجموعة «أبناء روجون ما كار».

35

لسنا ندري على وجه اليقين ما الذي دفع «زولا» إلى تعقب هذه الأسرة في أبنائها، فقد لبث خمسة وعشرين عاما، يخرج فيها القصة تلو القصة، وكلها عن «أبناء روجون ما كار»، حتى بلغت حلقات السلسلة عشرين قصة، ذلك إذا أخرجنا من العدد قصصا سبقت وقصصا لحقت مما له علاقة بعيدة بهذه الأسرة أيضا. وبدأت السلسلة بقصة «أسرة روجون ونصيبها من الحياة».

36

ومن حلقاتها «جوف باريس»

37

التي وصفت حركة التجارة في أسواق العاصمة، و«الحانة»

38

التي وصف فيها مشارب باريس، و«نانا»

39

التي وصف فيها أوكار الفجور في باريس، و«حياة عائلية»

40

يصف فيها الطبقة الوسطى في حياتها المنزلية، و «في سبيل سعادة السيدات»

41

يصف فيها الحوانيت، و«الوحش البشرى»

42

يصف فيها السكك الحديدية، و«من الجذور»

43

يصف فيها المناجم، و«الأرض»

44

يصف فيها حياة المزارعين، و«الآية الفنية»

45

يصف فيها حياة رجال الفن، و«المال»

46

يصف فيها العلاقات المالية، و«الانهيار»

47

يصف فيها نكبة الحرب مع ألمانيا سنة 1870م، و«الحلم»

48

يصف فيها الكنيسة وما يتبعها من مؤسسات . وفي كل هذه القصص ترى «زولا» يمزج قليلا من محصول ملاحظته الخاصة بكثير جدا مما يستقيه من الكتب والوثائق، لأن القصة عنده - كما قدمنا - نتيجة تحليل علمي قبل أن تكون أي شيء آخر. ولا بد لنا أن نذكر أنه أخرج فضلا عن هذه السلسة المتتابعة الحلقات من القصص، مجموعة من الحكايات القصيرة بدأ بها حياته الأدبية، وأطلق عليها «حكايات إلى نينون».

49

وأخذ يتابع إخراج مثل هذه الحكايات آنا بعد آن، تحت هذا العنوان وغيره، ولعل هذا الضرب من إنشائه هو خير إنتاجه جميعا لو قيس الإنشاء بمقاييس الأدب الخالص وحدها.

ليس «زولا» في تحليله لشخصياته بالعالم النفسي الذي يغوص إلى خفايا النفس البشرية ودوافعها الباطنة، فليس للإنسان عنده ظاهر وباطن، الإنسان في رأيه حاصل جمع الظروف الاجتماعية؛ فابحث هذه الظروف بحثا جيدا تكن لك حقيقته. وهو في كل قصصه بل في حياته كلها، ينشد شيئا واحدا: العدالة الاجتماعية؛ إن رأيت في دور الفجور ضحايا وإن رأيت في الحانات ضحايا، وإن رأيت في الطبقات الفقيرة البائسة ضحايا، فكلهم ضحايا الظلم الاجتماعي، كلهم ضحايا الظروف التي وضعت وضعا خاطئا، ولو صحح وضعها لصحت حياة الناس أجمعين.

فإن أردت كلمة عن أسلوبه، فحسبنا أن نقول - على الرغم مما يوجه إلى أسلوبه من نقد - إنك إذ تقرؤه تنسى أن كاتبا يحدثك، لأنك ترى الناس وترى الحوادث أمام عينيك دون أن يكون بينك وبين الناس والحوادث وساطة من أسلوب الكاتب؛ أسلوب الكاتب هنا هو مادته التي يعرضها، ولو كان أسلوبا رديئا لاستوقف النظر، ولو كان أسلوبا متكلفا لاستوقف النظر كذلك، أما أن تنسى كل شيء عن الأسلوب وأنت تقرأ، فتلك علامة الفن الجيد الممتاز. (4) ألفونس دوديه

Alphonse Daudet (1840-1898م)

لسنا نسلك «دوديه» في جماعة «الأدب العلمي» إلا بعد شيء من التحوط والتحفظ؛ إذ كان يختلف عنهم بعض الاختلاف، فهم يرجعون فيما يكتبون إلى «الوثائق» لتجيء القصة أقرب إلى «البحث» منها إلى أي شيء آخر، أما هو فيرجع فيما يكتب إلى مذكراته وذكرياته؛ فقد كان «دوديه» أنى سار وأينما حل يلاحظ الدقائق التي تجعل من الأشخاص والمواقف والحوادث أشياء فريدة في ذاتها. فقد ترى إنسانا له سحنة معينة تتسم بما يجعلها وحيدة نوعها، وقد تسمع كلمة ترى فيها طابعا يميزها من سائر الكلمات، فكان «دوديه» يلاحظ أمثال هذه الفرائد ويسجلها في مذكراته وهو لا يدري في أي قصة أو حكاية سيكون مصير هذه المذكرة أو تلك.

لم يكد «دوديه» يبلغ الثامنة عشرة حتى أصدر ديوانا من الشعر، وبعد ذلك بقليل كان له شأنه في الأدب المسرحي في باريس، ثم في عامه الثامن والعشرين وفي العام الذي تلاه أخرج كتابين لعله لم يبلغ بعدئذ من الكمال الأدبي ما بلغه فيهما، أما أولهما فعنوانه «الكائن الصغير»

50

وهو أقرب شيء إلى ترجمة حياة كاتبه في أسلوب قصصي له عيوبه الكثيرة، ولكن فيه بوادر النبوغ المقبل، وأما ثانيهما فهو «رسائل طاحونتي»

51

وهو مجموعة حكايات قصار ومقالات بلغت في بعض أجزائها حد الكمال. لكن شهرته الأدبية لم يكن مصدرها هذين الكتابين، إنما ذاعت شهرته لما كتبه بعد ذلك من القصص «جاك»

52

و«فرومان الصغرى ورسليه الكبير»

53

و«الملوك في المنفى»

54

و«المبشر بالإنجيل»

55

و«سافو»

56

و«الخالد»

57

و«الثرى»

58

و«نوما رومستان».

59

لا عيب في أن يتأثر أديب بأديب، ولكن العيب في أن ينكر المتأثر فضل المؤثر، وفي هذا وقع «دوديه» فليس هناك من شك في أن أديبنا قد تأثر أبلغ الأثر وأعمقه في كتابه «الكائن الصغير» ب «دكنز» القصصي الإنجليزي، وفي كتابه «فرومان الصغرى ورسليه الكبير» ب «دكنز» أيضا وب «ثاكري» كذلك، فهناك من التشابه ما يحمل على الترجيح، بل هناك من التطابق في بعض المواضع ما يحمل على اليقين بأن «دوديه» قد تأثر بهذين الكاتبين الإنجليزيين، ولكنه هو وأتباعه ينكرون ذلك؛ وكذلك مما يؤخذ على «دوديه» أنه بسط في قصصه حوادث واقعة عن أشخاص حقيقيين، ولم يكن له من قوة الخيال ما يجعل الستار من الكثافة بحيث تخفى هذه الحقيقة عن العيون، فكانت الغلالة التي أسدلها بخياله على الأشخاص والوقائع من الرقة بحيث استشف كل راء حقيقة ما وراءها، فقد اشتغل أمينا لسر «دوق دي مورني» وجعل من حوادث تجربته كما وقعت موضوعا لقصة «الثري». وقصة «الملوك في المنفى» لا تزيد في كثير عن رواية ما حدث لملك نابلي الذي خلع عن عرشه، ولغيره من الملوك الذين طاحت عن رءوسهم تيجانها، و«نوما رومستان» هو «غامبتا» بكله وأجزائه، و«الخالد» فيها تعريض يكاد يكون صريحا بأعضاء المجمع العلمي من كان حيا منهم ومن مات، ولعلنا نسمع القارئ هنا يعترض قائلا: وأين وجه النقد في كاتب استقى أدبه من تجاربه، وإن لم تكن تجارب الأديب معينة فأين يكون هذا المعين؟ والجواب: إن هذا حق لا غبار عليه ولا مطعن فيه، ولكن هناك فارقا شاسعا بين أن تروي لنا عن رجل صادفته في حياتك رواية الفنان الذي يكسب ما يقوله جمالا وحكمة، وبين أن تبحث في هذا الرجل الذي تروي عنه عن دخائل سره بقصد التعريض والفضيحة.

ولئن ذكرنا هذه المآخذ على «دوديه» فإنما نذكرها لنعبر بها عن أسف أن يشوب أمثالها أدبا جميلا فاتنا كأدبه، وإنه لمن حسن الحظ أن تكون الأجزاء المنقولة في أدب «دوديه» أقبح ما فيه لا أجمل ما فيه. (5) جي دي موباسان

Guy de Maupassant (1850-1893م)

لعل «موباسان» أن يكون أنبغ من نبغ من أتباع «القصة العلمية» التي تقوم على تحليل الواقع: ولم يكد يبلغ «موباسان» عامه الثلاثين حتى عرف جمهور القراء بنفسه في ثلاثة أشياء؛ قدم لهم ديوانا من شعره، وقدم لهم مؤلفات فلوبير بمقدمة بسط فيها رأيا خاصا له في الأدب الذي يقوم على التحليل العلمي، وقدم لهم حكاية قصيرة ظهرت في مجموعة من أمثال هذه الحكايات، وقام بإصدارها «زولا» بمعونة تلاميذه الذين منهم «موباسان»، وكانت هذه القصة القصيرة فريدة في جمالها بين ما نشر في تلك المجموعة، ولا عجب فقد كتبها من أقام الدليل على أنه بطل من أبطال هذا اللون من الأدب، إذ لبث «موباسان» بعد ذلك أكثر من عشر سنوات يتابع إنشاء الأقاصيص القصار، وفي غضون ذلك يخرج آنا بعد آن قصة طويلة، مثل «حياة»

60

و«بطرس وجان»

61

التي كتب لها مقدمة شرح فيها رأيا في أدب القصة، قال فيه إن حبكة الحوادث ليست شرطا أساسيا في بناء القصة. ومن خصائص أدبه القصصي أنه يقدم للقارئ حادثة أو موقفا أو حالة نفسية لشخص من الأشخاص، يقدمها لتصدم القارئ ويتركها بغير شرح ولا تحليل، كأنه يريد القارئ أن يشاركه في النظر إليها والتأثر بها على النحو الذي نظر إليها هو وتأثر بها في جملتها دون التغلغل في عناصرها ومقدماتها.

وما دام «موباسان» عضوا في جماعة القصة التحليلية، فهو كغيره من أعضاء هذه الجماعة يبحث عن الحوادث التي تثير بطبيعتها شوق القارئ. مثل حوادث الجرائم والرذيلة، حتى لا يجيء وصف الواقع كما هو باعثا على الملل، وقد كان «موباسان» فوق ذلك متشائما سوداوي المزاج ينظر إلى الحياة بمنظار أسود؟ ولذلك تراه - شأنه في ذلك شأن الكثرة الغالبة من أصحاب المزاج السوداوي من الأدباء - يدخل السخرية في أدبه، والسخرية - كما قيل - هي للأدب كالملح للطعام، لا بد من قليل منها ليملح طعمه على اللسان ويصبح شهيا مستساغا.

كان «موباسان» موهوبا في حكاية القصة، فالقدرة على الحكاية موهبة يصعب تحليلها أو تعليلها، فإما أن تكون حكاء بطبعك أو لا تكون، وأسلوبه سهل قوي لا تكلف فيه ولا صناعة. وقد مات بالشلل وهو لم يزل في سن متوسطة لم تشخ، ولعله لو عاش لكانت شجرته أكثر إيناعا وثمرا. والعجيب في أدبه أنه يجود إذا تخلص الكاتب من تطبيق آرائه النظرية - وهي حقيقة كثيرا ما نجد لها الشواهد في تاريخ الأدب - فأقل قصصه انصياعا للآراء النظرية التي بسطها في المقدمتين اللتين ذكرناهما، هي أجود قصصه، وهي قصة «بطرس وجان» مع أنه قدم هذه القصة نفسها بمقدمة شرح فيها رأيه في أدب القصة كما أسلفنا. (ج) النقد الأدبي (1) هبولت أدلف تين

Hippolyte Adolphe Taine (1828-1893م)

تخرج «تين» في مدرسة المعلمين العليا بباريس حيث امتاز طالبا، لكنه اختلف في نظراته - وفي آرائه الفلسفية على وجه التخصيص - عن أساتذته، ولم يتخذ التعليم حرفة. ولقد قيل صدقا عن مدرسة المعلمين العليا بباريس - وهو قول قد يصدق على مثيلاتها في سائر الأقطار - إنها معهد يعد أبناءه للأدب عن طريق غير مباشر أكثر مما يعدهم للتعليم عن طريق مباشر. وقد بدت وجهة نظر «تين» في النقد الأدبي منذ رسالته التي قدمها عن «لافونتين» ليظفر بإجازة الدكتوراة، ثم عقب عليها بكتاب «الفلاسفة الفرنسيون في القرن التاسع عشر» وقد أنفق «تين» بقية حياته بعدئذ في الدراسات الأدبية، وهي دراسات تنوعت موضوعا واتحدت فكرة وأساسا، فله مجموعة كبيرة من الكتب في النقد الأدبي، لعل أهمها كتابه عن الأدب الإنجليزي،

62

وله كتب عن رحلات قام بها، منها «مذكرات عن إنجلترا»

63

و«رحلة في جبال البرانس»؛

64

وله فضلا عن ذلك كتاب «في الذكاء»

65

وأخيرا كتاب «أصول فرنسا المعاصرة»

66

الذي قيل عنه إنه فتح له أبواب المجمع العلمي حين كان عمره قد بلغ الخمسين. «تين» فيلسوف ومؤرخ وناقد، وهو في هذه الجوانب جميعا يتخذ موقف الجبري الذي يعتقد أن كل شيء مما يحدث في هذه الدنيا نتيجة لعوامل تحتم حدوثه، لا تستثن من ذلك شيئا حتى عبقرية العبقري، فإن أردت أن تعلل عبقرية زيد من الناس فعليك أن تتعقب العوامل التي أنتجته في ثلاثة أشياء: أسلافه وعصره وظروف حياته الخاصة. والجانب الذي يعنينا الآن من «تين» هو مذهبه في النقد الأدبي.

العبقري - كالشجرة - نتيجة مباشرة للتربة التي نبت فيها، ولا بد لفهمه من الرجوع إلى هذه التربة التي أنبتته، وإلى الطريقة التي اغتذى بها من عناصر تلك التربة. وستجد في دراستك هذه للعناصر التي كونت العبقري، أن هناك ألوفا منها، لكنك تستطيع أن تردها جميعا إلى أنواع ثلاثة: ما يتعلق منها بالجنس الذي ينتمي إليه الرجل الذي تدرسه، وما يتعلق منها بالوسط الذي عاش فيه، وأخيرا ما يتعلق منها باللحظة التي ولد فيها العبقري ولادة فكرية والتي بدأ فيها يفكر ويعبر عن تفكيره في حديث أو كتابة. تلك هي المفاتيح الثلاثة التي لا بد منها جميعا - والتي لا حاجة إلى شيء سواها - لكي تنفتح لك مغاليق العبقري وتنبسط أمام عينيك آفاقه.

هي طريقة تخلب القارئ للوهلة الأولى، لأنها تبشر بإخضاع النقد الأدبي إلى شيء إلا يكن علما دقيقا فهو أقرب ما يكون إلى العلم الدقيق. ولكنك إذا ما تدبرتها وجدتها أبعد ما تكون عن الكمال؛ هي طريقة من يؤمن بأن الأدب يصور المجتمع، لأنه إن كان كذلك، فمعرفة المجتمع ودقائقه سبيل مؤكدة لفهم ذلك الأدب الذي يصوره. لكن هل صحيح أن الأدب يصور المجتمع؟ لكي نجيب عن هذا السؤال إجابة فيها شيء من الدقة، ينبغي أن نسأل: أي أدب تقصد؟ وأي مجتمع تريد؟ أما إن أردت بالمجتمع مجموعة الأسرة البشرية في شتى أجيالها الماضية، وفي جميع أنحاء المعمورة فلا شك أن الأديب نتيجة هذه المجموعة الإنسانية، ولكن هل هذا طريق يؤدي بنا إلى غاية؟ إنه من الحق الذي لا ريبة فيه أن فولتير - مثلا - نتيجة للعوامل الإنسانية التي سبقته في الحضارات البشرية المتعاقبة، ولكن هل يمكنك أن تدرس تلك الحضارات البشرية المتعاقبة دراسة تفصيلية لتفهم فولتير؟ أما إن أردت بالمجتمع معناه الضيق، وهو الأمة الواحدة التي تعيش في عصر معين هو العصر الذي فيه الأديب، فها هنا يأتي السؤال الثاني: أي أدب تقصد حين تزعم أن الأدب يصور مثل هذا المجتمع؟ ذلك لأن الأدب ليس شيئا متجانسا يشبه بعضه بعضا، ليس الأدب كالماء في النهر كل جزء منه قريب الشبه بكل جزء آخر، فهناك أدب اليوميات وأدب الرسائل وأدب الصحافة، ثم هناك الأدب بالمعنى الأرفع؛ أدب الشعر، ولا شك أن أدبا كأدب الصحافة يعبر عن المجتمع ويصوره، وتستطيع أن تطبق عليه طريقة «تين» ولكن هل يجوز تطبيق مثل ذلك على الشعر؟ كلا؛ لأن الشاعر العبقري إنما أصبح شاعرا عبقريا لأنه اختلف عن سواه من جيرته وإخوانه وبني وطنه. طريقة «تين» صالحة كل الصلاحية لو كان موضوع البحث هو العناصر المشتركة بين الناس في زمن معين وأمة معينة، لأنه حتى إذ يطالبنا ببحث العناصر التي أحاطت بالعبقري عند ولادته الفكرية، فتلك العناصر شيء مجرد لا يعطيك صورة فردية هي التي ميزت العبقري من سواه؛ وإذن فتستطيع أن تقول إن طريقة «تين» ناجحة في أدب الدرجة الثانية، فاشلة في أدب الدرجة الأولى، ناجحة إذا بحثت الأدباء الأوساط، فاشلة إذا بحثت العباقرة الفحول. ومع ذلك ف «تين» تعرض بطريقته هذه لطائفة من هؤلاء العباقرة الفحول، فكأنه وضع طريقة وأراد أن يطبقها حيث يستحيل عليها التطبيق.

لكن هذا كله جانب واحد من طريقته، وهنالك جانب آخر، فهو يقول إنه بعد أن يبحث الناقد العناصر التي أحاطت بالأديب الذي يدرسه، ينبغي أن يحاول ما استطاع أن يضع نفسه في صميم هذا الأديب، ينبغي أن يضع نفسه في النقطة المركزية التي توسطت تلك العناصر المحيطة؛ إذ لكل إنسان دافع أساسي يحركه، أو قل إن لكل إنسان مركزا يقع من بنائه في السويداء، فإن كشفت عن مكان هذا المركز وحللت فيه، رأيت الدنيا التي عاصرت الأديب بعيني الأديب، وبهذا تستطيع أن تسلك شتى العناصر التي أحاطت به في حياته في عقد واحد أو بناء واحد؛ هو الرجل. إن العناصر التي تحيط بالعبقرية - أو بالإنسان على إطلاقه - تعد بألوف الألوف، فهي منوعة متباينة مختلفة إلى درجة لا تكاد تقع تحت الحصر، ولكنها ليست كلها على درجة واحدة من القيمة في تكوين العبقري، فلتكن مهمتنا أن نغربل هذه العناصر، لنلقي وراء ظهورنا ما لم يكن ذا قوة مؤثرة دافعة، ونبقي على الأساسي منها، وذلك مستطاع لو أحللنا أنفسنا في سويداء الأديب الذي ندرسه. هذا كله جميل، ويشبه أن يكون طريقة علمية دقيقة، لو كان حقا ينطبق على الواقع! إذ الواقع غير ما تخيل «تين»، فالناس صنوف أشتات، منهم من له قوة مركزية واحدة نظمت حياته تنظيما جعلها بناء متماسكا، فلو كشفت عن هذا المركز الواحد انكشف لك سائر البناء، ومنهم من دفعته في حياته دوافع شتى، تتضارب حينا ويتوازن فعلها حينا آخر.

وبعد فلسنا نظن أن النقد الأدبي علم تجري عليه طرائق العلم ومقاييسه، فأكثر ما يمكن أن يقال في ذلك إنه - كسائر ضروب المعرفة التي تجعل الحياة الإنسانية موضوع بحثها - مزيج من العلم والفن. ليست هناك طريقة بعينها يمكن اصطناعها في النقد الأدبي بغض النظر عن الناقد نفسه باعتباره فنانا ينظر إلى آثار الفن فيدرك جمالها. ولو لم يكن «تين» نفسه هذا الناقد الفنان لما نفعته طريقته في نقده نفعا كبيرا. إن دراسة العناصر التي أحاطت بالعبقري تساعد على فهمه، ولكنها ليست كل ما نريد. الفرق بين «تين» و«سنت بيف» هو أن «سنت بيف» بحث الأدباء أفرادا؛ لعله أن يصل إلى قواعد عامة، فبدأ بدءا صحيحا، وأما «تين» فقد بدأ بالقواعد ليبحث الأفراد على سننها فأخطأ البداية.

القسم الثالث

الأدب الألماني في القرن التاسع عشر

الفصل الأول: أدب الابتداع في النصف الأول من القرن التاسع عشر

(أ) الشعر

نشأت في ألمانيا عناصر الابتداع في الأدب قبل أن تنشأ فيها مدرسة ابتداعية؛ فلا شك أن «جيته» كان ابتداعيا في أدبه، ولا شك كذلك أن «لسنج» حين هاجم قواعد الأدب الفرنسي في عصره الاتباعي كان في الوقت نفسه داعيا إلى الابتداع، وأنه حين أنشأ قصة «ناثان الحكيم» كان يهتدي في إنشائها بأحوال الأدب الابتداعي؛ أضف إلى ذلك تيارا جارفا نحو اعتداد الفرد بنفسه باعتباره فردا، ثم أضف كذلك شعورا جديدا سرى بين الأدباء أن ينظروا إلى الطبيعة نظرة من يستوحي شيئا من التصوف، لأنها دون سواها المعين الذي توحي إليك ينابيعه بمثل هذه النظرة الروحية. هذه كلها عناصر ابتداعية نشأت في ألمانيا قبل أن تنشأ فيها مدرسة ابتداعية، وإنما نعني بهذه المدرسة جماعة من الأدباء يجتمعون على أسس معينة وهم على وعي بتلك الأسس، وينشئون أدبا ابتداعيا وهم يعلمون ما يصنعون ويحاولون أن يدعوا الناس إلى اتباعهم والنسج على منوالهم.

ويمكن القول إن مدرسة الابتداع الأدبي قد نشأت في ألمانيا حين أصدر الشقيقان «ولهلم شليجل»

1

و«فردريش شليجل»

2

مجلة أدبية أطلقا عليها «أثنيوم»

3

وأخذا يفصلان فيها قواعد الابتداع ويحددان معانيه ومراميه. وكان الأخوان معجبين ب «جيته» ويريان في أدبه نموذجا صالحا، وكان أصغرهما هو القوة الدافعة في تحرير المجلة، اتخذ لنفسه موقف من يسن القوانين دون أن تكون له القدرة على الابتكار والخلق وفق تلك القوانين التي يسنها. ومما نذكره عنه أنه درس الفلسفة اليونانية ثم تشبع بفلسفة «فخته»

4

المثالية، وكان «فخته» إذ ذاك يحاضر في جامعة «يينا» ويؤثر في تلاميذه بفلسفته أعمق الأثر. ولو جاز لنا أن نلخص مذهبا فلسفيا بأسره في عبارة واحدة، قلنا إن فلسفة «فخته» ترمي إلى جعل الفرد وما لديه من أفكار عن العالم هو العالم الذي لا عالم سواه، فأنت وما في رأسك من خواطر كل شيء، ومهما حاولت أن تخرج من حدود نفسك إلى ما يسمونه العالم الخارجي وجدت نفسك في هذه المحاولة نفسها محدودا بدخيلة نفسك؛ الفرد هو كل شيء! ألا ما أخصبها من فلسفة إذا أردنا أن نتخذ منها ذريعة للنهوض بالأدب والحياة. وهكذا أخلص «شليجل» الأصغر لأدب «جيته» وفلسفة «فخته» إخلاصا حدا به أن يقول إن هذه الفلسفة وذلك الأدب هما مركزا الفن والثقافة في ألمانيا. ولما كان شعر «جيته» تمثله قصته «ولهلم مايستر»

5

كانت مقومات العصر في رأيه ثلاثة: «ولهلم مايستر» و«فلسفة فخته» و«الثورة الفرنسية»؛ إن «ولهلم مايستر» كتاب «جاء فيه التفكير والتعبير على نحو ما نتوقعه من رجل شاعر موهوب وفنان بلغ الكمال» ففي هذه القصة الرائعة ترى كل فنون الأدب قد اجتمعت في صعيد واحد، فترى فيها نثرا وترى فيها شعرا كما ترى فلسفة ونقدا وتعبيرا للكاتب عن طوية نفسه، وإذن فلتكن رسالة الشعر الابتداعي في رأي «شليجل» الأصغر أن يمزج كل صنوف الأدب في آية واحدة، على أن تطعم هذه الآية الواحدة بالنظرات الفلسفية، وأن تصاغ وفق ما تقتضيه بلاغة القول وفصاحته، وأما ما أنتجه «شليجل» هذا - أصغر الأخوين - فمقالات فلسفية، وتاريخ للأدب كان في طريقة أدائه مبتكرا، وهو أول من ألف من أدباء الألمان كتابا عن لغة الهندوس وأدبهم، ولم يكن إنتاجه الأدبي الخالص من شعر ورواية وقصة ذا شأن يذكر.

وربما كان أكبر الأخوين أبقى أثرا بترجمته سبع عشرة مسرحية عن شيكسبير وبمجموعة محاضراته القيمة عن الأدب المسرحي، وبمقالاته النقدية التي أنشأها في أدب «جيته» فكانت عاملا قويا أدى إلى زيادة العناية بهذا الأديب العبقري في عصر الابتداع؛ فقد كانت ل «شليجل» الأكبر نظرات صادقة في النقد الأدبي، حتى إنه ليعد بين الطبقة الأولى من رجال النقد في ألمانيا. ولو استثنيت «لوثر» وترجمته للإنجيل إلى اللغة الألمانية في عهد الإصلاح الديني، جاز لك في يقين أن تقول عن «شليجل» إنه خير من ترجم أدبا إلى الألمانية بين الألمان. (1) نوفالس

Novalis (1772-1801م) «نوفالس» اسم مستعار كنى به أديب عن نفسه، أما اسمه الصحيح فهو «فردريك فون هاردنبرج»

6

الذي كان بين جماعة الأدباء التي قامت على تحرير الصحيفة الأدبية التي أسلفنا ذكرها - مجلة أثنيوم التي أنشأها وتعهدها الأخوان شليجل - وقد خلف لنا «نوفالس» نتفا أدبية هي خير تراثه، تراها فتحسبها لمعات من الضوء الخاطف انعكس شعاعها على مرآة عقلية مصقولة، صقلتها فلسفة «فخته» أيضا كما أثرت في «شليجل» أصغر الأخوين.

كان «نوفالس» بروتستنتي العقيدة، لكنه أحب الكاثوليكية لجمالها الفني، ولما كانت العصور الوسطى هي العهد الذي ازدهرت فيه الكاثوليكية، وسيطرت على حياة الناس بما كان يكسوها من رداء الشعر، بدأ أديبنا ينظر إلى تلك العصور نظرته إلى المأوى الذي تجد فيه الروح كنها. وهل يكون الأدب أدبا إذا لم يعش الأديب بروحه في تلك العصور التي فاحت أيامها بعبير الإيمان! فماذا أنت قائل إذن في قصة «جيته» «ولهلم مايستر» التي جعلها زميلك «شليجل» أحد مقومات ثلاثة للعصر كله: هي «ولهلم ما يستر » وفلسفة «فخته» والثورة الفرنسية، والتي تقوم على الواقع الراهن ولا تعود بخيالها إلى تلك العصور؟ أقول إنني شديد الإعجاب بها، لكني لا أسلكها في أدب الابتداع الذي قوامه الخيال والوجدان.

وكتب «نوفالس» قصة - لم تكمل - أطلق عليها اسم بطلها «هنريش فون أوفتردنجن»،

7

وأراد بها أن يعارض قصة «جيته» «ولهلم مايستر»، وتعد هذه القصة ممثلة للمدرسة الابتداعية في أول مراحلها في ألمانيا؛ والعصر الذي تدور فيه حوادث القصة هو العصر الوسيط الذي خلب فؤاد «نوفالس»، لكنه زخرف هذا العصر وزوقه بخياله حتى لم يعد كما عرفه التاريخ. يقص الأديب عن بطله «هنريش فون أوفتردنجن» أنه رافق أمه في رحلة إلى جده، ورافقهما في السفر جماعة من التجار كانت تتحدث معهما في الشعر والفن، فكان هذا الحديث أول درس حقيقي تلقاه الفتى في أصول الفن والشعر. فما إن بلغ مكان جده حتى أسلم نفسه لقيادة شاعر هناك أخذ يلقنه أصول الشعر الابتداعي وسر جماله. ويحب الفتى ابنة الشاعر المعلم - كما أحب «نوفالس» نفسه فتاة صغيرة ماتت في صدر شبابها فأماتته الحسرة عليها بعدها بقليل - وتموت ابنة الشاعر الحبيبة، كما ماتت محبوبة الأديب نفسه؛ ويحب «هنريش» بطل القصة فتاة أخرى يجد فيها بعض العزاء، كما أحب «نوفالس» نفسه فتاة أخرى وجد في حبها بعض العزاء.

الفرق بين قصة «جيته» «ولهلم مايستر» وقصة «نوفالس» «هنريش فون أوفتردنجن» هو أن «نوفالس» كان واضح المرمى في قصته؛ فليس البطل هنا كالبطل عند «جيته» تكتنف أغراضه سحب الغموض فلا ينفك باحثا، ولا ينفك جاهلا بحقيقة ما يبحث عنه، بل البطل هنا عند «نوفالس» يبدأ رحلته شاعرا وغايته المحددة هي أن يظفر من رحلاته ب «الزهرة الزرقاء» - وهي شعار أدباء الابتداع - وأمله في بلوغ غايته لا يتزعزع، فليس هو مثل «مايستر» يصادف في حياة الواقع ما يهد فيه العزم ويبعث في نفسه الشكوك، بل تراه يمضي في رحلته ويبلغ ما يريد، فيجد ما أراده حقيقة لا أوهاما، لأن ما أراده هو حياة الروح؛ وتستطيع الروح أن تحيا لو استعادت بالخيال مفاتن العصور الوسطى. (2) لدفج تيك

Ludwig Tiech (1772-1852م)

عاش «تيك» حتى عمر، على عكس زميله في الابتداع «نوفالس» الذي مات ولم يوف من العمر ثلاثين عاما؛ فمكن العمر الطويل ل «تيك» أن يكون غزير الإنتاج، وأن يجيء إنتاجه منوعا، حتى ليعد بين رجال المدرسة الابتداعية في ألمانيا أوسعهم أفقا وأشملهم لصنوف الأدب، وكانت باكورته الأدبية قصة «وليم لفل»

8

التي يكتنفها جو حزين تنعكس فيه الحياة اليائسة التي اعترضت «تيك» في أعوام شبابه، وكانت هذه القصة التي نفث فيها كربه بمثابة الاعتراف الذي يزيح عن صدر المعترف عبئا ثقيلا، وبعدئذ أدرك «تيك» أنه أفرط في النظرة الجادة إلى الحياة، وحسب تلك النظرة الجادة قصة واحدة تعبر عنها، وليلفت أنظاره الآن إلى جانب آخر ليكون أدبه ذا لون آخر، وذلك ما كان؛ إذ أصبح أدبه بعد قصة «وليم لفل» خفيفا رشيقا لكنه مترع بالسخرية، وكانت عادته أن يتخذ من قصص الأطفال تكأة لأدبه وإطارا يصوغ فيه ما أراد أن يتوجه به إلى أصحاب الرزانة العقلية في عصره من سخرية لاذعة، ومن هذا القبيل قصتاه «ذو اللحية الزرقاء» و«الهرة في الحذاء». لقد نظر «تيك» إلى الحياة نظرة عقلية فأجهد نفسه بغير طائل، وها هو ذا ينظر إليها نظرة الرجل الساذج كما تصورها أمثال تلك القصص التي تروى للأطفال فتشبع خيالهم الجامح، وكما تصورها «الحواديت» الشعبية التي لا تعلل ظواهر الحياة على نحو يرضي منطق العقل، والتي لا ترى في الحياة والأحياء لغزا محيرا، إنها حكايات يلذ سماعها ويريحك الإنصات لها كأن لها فعل السحر الذي يزيل العناء؛ فقد وجد «تيك» نفسه إزاء تلك الحكايات الشعبية الصبيانية كما يجد الفيلسوف الحزين نفسه، إذ يشارك أطفاله الصغار لعبهم فينسى حزنه وتفكيره؛ وإذن فليكن هذا مجالا خصيبا لقلمه لعل غيره ينتفع بمثل ما انتفع هو، ليكتب هذه «الحواديت» الشعبية بقلمه كتابة الأديب الذي يحفظ لها سحرها ويزيل عنها شوائبها، ثم إذا هو حاول ابتكارا فليكن ابتكاره على هذا الأساس نفسه، أساس القصة الشعبية الصبيانية، فهو حتى في مسرحياته لم يحاول أن ينشئ شيئا يصلح تمثيله على المسرح، إنما كان رائده فيها أن يقدم للقارئ عصر الخرافات وقد طلاه بطلاء وردي جميل فأخرجه أمام العين عصرا تسوده العاطفة السليمة والإيمان القوي والشعر الصحيح، فإذا قرأ له قارئ إحدى مسرحياته «حياة القديسة جنيفيف وموتها»،

9

أو «أوكتافيانوس»

10

أو غيرهما، فينبغي له أن يقرأ الأسطورة وكأنه يقرأ أنباء جادة، ولا يجوز أن يرى بعقله شيئا وراء الأسطورة في ظاهرها، لأن ظاهرها هو المراد، وما فيها من حوادث المعجزات يجب أن يقع لديك موقع التصديق كأنها من الحوادث المألوفة التي لا تثير في نفسك الشكوك. ولكي يساعدك الكاتب على مثل هذا الجو الأسطوري، لم يحاول أن يصب شخصياته في قوالب واضحة المعالم والحدود، بل تركها على شيء من الإبهام كأنها أشباح، لا بل جعل بين أشخاصه أشباحا، كما جعل بينها شخوصا رمزية، فواحدة تمثل الكنيسة وواحدة تمثل الإيمان وثالثة تمثل الحب ورابعة تمثل الخيال وهلم جرا، وتتحدث هذه الأشخاص بالشعر الذي لا يقصد من إنشائه إلا النغم وإلا إثارة الخيال.

هذا الحنين من الشاعر إلى ضرب من الجمال يراه في عهود سلفت وسادتها السذاجة والفطرة، ولا يرى له مثيلا في الحياة المحيطة به، هو لب الأدب الابتداعي في ألمانيا؛ ولذلك ترى «تيك» ينثر في كتابته المناظر والأصداء التي تعيد أمام عين القارئ وفي سمعه حياة العهد الذهبي الغابر، تعيدها له بالإيحاء لا بالطريق المباشر؛ ليلة مقمرة، وغابات لفها ظلام الليل، وصائد نفخ في بوقه هناك فترددت أصداء بوقه في جنبات المكان، وراع يرعى قطعانه، وهكذا. وقد كانت أساطير العصور الوسطى هي موضوعه المختار الذي أدار حوله ابتداعه الأدبي، لأنه وجد فيها ما يوحي بالشعر؛ وهذا الحنين إلى الماضي هو الذي دفعه إلى رحلة في صحبة صديقه «فاكنرودر»

11

شهدا فيها آثار ألمانيا القديمة التي صادفت منهما إعجاب المفتون لما توحي به من حرارة العقيدة الدينية ومن إحياء للشعور الوطني، وأنشأ كل من الصديقين أدبا جميلا عما شهده من تلك الآثار، وكان ما أنتجه أديبنا «تيك» قصة «فرانز ستييرنبالد في تجوابه»،

12

وهي قصة تأثرت بقصة «جيته» «ولهلم مايستر»، ف «فرانز ستييرنبالد» شاب سافر إلى هولندا وإيطاليا حيث صادف من أحبها، وحيث جرت أحاديث حول الشعر والفن، تتخللها القصائد والأغاني. (3) كلمنز برنتانو

Clemees Brentano (1778-1842م)

كان «الشقيقان شليجل» و«نوفالس» و«تيك» بشائر المدرسة الابتداعية، وتبعتهم موجة جديدة من الابتداعية أيضا علماها هما «آرنم» و«برنتانو» الذي نحدثك عنه الآن ، والذي ولد لأب إيطالي وأم ألمانية، ودرس في صباه في جامعة «يينا»، واتصل بالشقيقين «شليجل» وتأثر بدعوتهما إلى الأدب الابتداعي، لدرجة حملته على أن «يحيا» وفق القواعد الابتداعية، فها هو ذا يهيم جوالا في ثياب القدامى، ليعيش كما كانوا يعيشون! وسجل في قصة «جدفي»

13

تجاربه في ذلك العهد؛ تجاربه التي صادفته في حياته وفي غرامه. ولو اعتبرت ثباته على الإفراط في الحياة العاطفية ضربا من الثبات، كان ذلك هو المثل الوحيد الذي يمكن أن يساق لما عرفته حياته من ثبات مطرد، وما عدا ذلك كان في حياته متقلب الأهواء لا يدوم له حال. وهو في قصته «جدفي» مستهتر يفجؤك بإيمانه بالإباحية في الحب والانغماس في الشهوة، لكنه فيما بعد خجل أن تكون «جدفي» هذه من نتاج قلمه، وكان يقول إنه يستحيي أن يذكرها ويخشى إن هو فعل أن يتحول عمودا من ملح! ومهما يكن من أمرها فقد احتوت على عدد من الأغاني الشعرية الرائعة. وأما أهم أثر له في الأدب فما صنعه في جمعه للأغاني الشعبية مشتركا مع «آرنم» ... (4) فون آرنم

Achim Von Arnim (1781-1831م)

بدأ «آرنم» حياته الأدبية، كما بدأ «برنتانو» حياته، بكتاب يقص فيه تجاربه، وكلا الأديبين اتجه منذ البداية نحو جمع الأغاني الشعبية، فلما التقيا وتصادقا اتفقا على أن يتآزرا ويتعاونا على عمل واحد، وكان أول ما أنتجاه معا مجموعة من هذه الأغاني الشعبية أطلقا عليها اسم «الصبي وبوقه السحري»

14

ثم عقبا على هذه المجموعة بمجموعتين أخريين، قدم لهما «آرنم» بمقدمة بديعة في أدب الغناء الشعبي، وقد أهديت المجموعة بأجزائها الثلاثة إلى «جيته» الذي نشر عنها تعليقا عبر فيه عن إعجابه بها. ولم يقصد الأديبان أن يعيدا الأغاني كما كانت في عهدها القديم، بل لمساها بقلميهما ليزيداها حسنا على حسنها، ولم يكن لهما عن ذلك محيص إذا أرادا لمثل تلك الأغاني القديمة أن تصادف هوى عند جمهور حديث؟ وكان لهما ما أرادا من إقبال الجمهور وإعجابه، كأن الناس قد عثروا في تلك الأجزاء الثلاثة من أغاني أسلافهم على ثروة أدبية قومية لم يكونوا يحلمون بوجودها، تكشف القناع عن روح الشعب الألماني وصميم نفسه. وإن كان من أنشأ هذه الأغاني هو سواد الشعب، هو الرجل من غمار الناس، إذن فقد مضت قرون على هذا الرجل من غمار الناس وهو مجهول وكان ينبغي أن يمجد بطلا في القصة خاصة وسائر الأدب عامة، ثم إن كانت النظرة الساذجة التي ينظر بها الرجل من غمار الناس إلى الحياة تجد صداها في نفوس المحدثين قويا رنانا، إذن فقد خاب رجاء الذين كانوا عندئذ يدعون إلى الاحتكام إلى العقل في أمور الحياة، وإلى النظر إلى عقائد الأقدمين نظرة المحتقر المزدري؛ فتلك العقائد - بكل ما فيها من تخريف - عميقة الجذور في النفوس ولا يمكن اقتلاعها بمثل اليسر الذي توهموه. ثم إن كانت للروح التقليدية كل هذا الأثر في القلوب، فليكن التقليد منذ الآن - لا العقل ومنطقه - هو أساس الدعوة الجديدة التي أشربت بالعاطفة القومية وبالعطف على الرجل من غمار الناس في آن معا.

وما دمنا في ذكر هذا اللون من الأدب الشعبي، فيجمل بنا أن نذكر نتاجا أدبيا من القبيل نفسه، كتب له أن يكون أدبا للعالم كله فيما بعد، ألا وهو مجموعة من القصص أطلق عليها «قصص للأطفال والأسرة»،

15

أخرجها شقيقان، هما «يعقوب جرم»

16

و«ولهلم جرم»

17

في نفس الوقت الذي أخرج فيه «آرنم» و«برنتانو» مجموعة الأغاني الشعبية. (6) زاكارياس فرنر

Zacharias Werner (1776-1823م)

وهذا أديب ابتداعي آخر، اقترنت ابتداعيته بعربدة في حياته كما حدث لزميله «برنتانو»؛ لولا أنه في شبابه أخذ يتذبذب بين حياة الفجور وحياة التصوف الديني. بدأ حياته الأدبية بقصتين «أبناء الوادي» و«الصليب على البلطيق»، في الأولى يروي عن انهيار طائفة دينية كانت تعرف باسم فرسان المعبد، وفي الثانية يقص كيف تحولت ألمانيا الوثنية إلى ألمانيا المسيحية، لكنه لم يبلغ مجده بهاتين القصتين، بل كان المسرح مجال نبوغه، فأصدر مسرحية «مارتن لوثر» ظفر بها باسم في عالم المسرح، لعله هو الذي جعل «جيته» يقربه منه حين جاء «فرنر» إلى فيمار. ومن علاقة الأديبين أحدهما بالآخر، نتجت مسرحية أخرى، عنوانها «الرابع والعشرون من فبراير» تقع أهميتها في ذاتها أولا وفي كثرة ما كتب على غرارها من المسرحيات ثانيا؛ المسرحيات التي تنشئ المأساة على أساس سطوة القدر المنتقم، وأمرها هو أن «فرنر» فقد أمه وفقد صديقا عزيزا له في يوم واحد هو الرابع والعشرون من فبراير عام 1804م، فنبه فيه هذا التوافق في وقوع النكبات شعورا دفينا فيه، هو الشعور بقوة القدر في مجرى الحوادث. وخلاصة حوادث المسرحية أن شابا من سويسرا اعترك مع أبيه بشأن فتاة أراد الزواج منها، وبلغت حدة العراك حدا جعل الولد يرمي أباه بخنجر أخطأه، لكن الوالد مات على الأثر، وفي موته استنزل اللعنة على ابنه العاق وزوجته. وأنسل الولد وزوجته ابنا وابنة، فشاء القدر أن يرمي الولد أخته بنفس الخنجر فيرديها ميتة؛ مما جعل أباه في ثورة غضبه يطرده مستنزلا عليه اللعنة كذلك. وأخيرا تجد الرجل وزوجته كهلين في كوخ فوق سفح الجبل، يعيشان في فقر مدقع، ويطرق بابهما غريب ذات ليل، وينتهز الرجل هذه الفرصة ويفتك بالزائر الغريب وهو في نعاسه ليسلبه ما عسى أن يكون معه من مال، يفتك به بالخنجر نفسه، وما هو إلا أن تنكشف له الحقيقة المرعبة وهي أنه إنما فتك بابنه الطريد! والكاتب يجعل حوادث القتل كلها تتم بخنجر واحد، وفي يوم واحد من العام، هو الرابع والعشرون من فبراير، ليرمز بذلك إلى العقيدة الخفية في النفوس، بأن القدر متربص لفاعل السوء، لا بل إنه ليتربص له في شيء من دقة التدبير، فكثيرا ما يجعل العقاب في نفس المكان أو في نفس الزمان أو بنفس الأداة التي وقعت بها الجريمة.

كانت هذه المسرحية ذات فصل واحد، وهي قطعة فنية من حيث شعرها وفنها المسرحي على السواء، وقد فتحت الباب بعدها لفصيلة بأسرها من المآسي التي تقوم على أساسها؛ المآسي التي تصور أسرة حلت بها النقمة لجريمة اقترفها أحد أفرادها فيما مضى. غير أن المحاكاة لا بد يوما أن تنتهي إلى الضعف، وهكذا حدث في نهاية الأمر لهؤلاء المقلدين؛ إذ وصلت بهم المحاكاة مرحلة كانوا لا يراعون فيها أن ينتقم القدر ليضع الأشياء في نصابها الصحيح، بل يربطون العلاقة بين القدر وبين مكان أو زمان أو أداة ربطا آليا لا يحمل شيئا من المعنى. وبهذا أصبح الأساس أقرب إلى التخريف منه إلى الشعر، فالخرافة - كما قال جيته - قد تكون هي شعر الحياة، إذا عولجت كما عالجها «فرنر» في مسرحيته هذه، ولكنها كذلك قد تكون تخريفا لا أكثر ولا أقل، إذا فهمت على النحو الذي فهمها به هؤلاء المحاكون، حين رأوا تناسبا بين الجريمة والعقاب، حين يقع العقاب في نفس مكان الجريمة أو زمانها أو بالأداة التي اقترفت بها، دون أن يؤيدوا هذا التناسب بسند من معنى العدالة. (7) هنريش فون كليست

Heinrich von Kleist (1777-1811م)

إذا غزا الأمة غاز وكانت أمة حية، أخذ الأدب بقسط موفور في إنهاض الشعور القومي ليرد المعتدي عن محراب الوطن؛ وقد وقعت ألمانيا تحت أقدام نابليون، فلا بد لأدبائها أن يستعينوا بربة الأدب على هذا الغازي، وكانت ألمانيا عندئذ لم توحد أمة؛ إذ كان يتقسمها الأمراء الحاكمون، لكن حملة التحرير التي نهض بها الألمان ضد نابليون كانت من بواعث نشوء القومية الألمانية؛ ومن أجل هذه الوحدة الألمانية كان يحارب الأدب الألماني حتى ظفر.

ولو استثنينا «جيته» كان «فون كليست» أهم أدباء العصر النابليوني في ألمانيا، وكان «فون كليست» فوق كل شيء كاتبا مسرحيا موهوبا، وإن تكن موهبته هذه لم تنكشف كلها لبني عصره، فكل من سبقه إلى كتابة المسرحية من أدباء المدرسة الابتداعية: شليجل (الشقيقان كلاهما) و«برنتانو» و «آرنم» و«تيك» و«فرنر»؛ كلهم كانوا بمثابة من جاءوا ليمهدوا الطريق إلى المسرحية الابتداعية بمعناها الصحيح على يدي «فون كليست».

كان «فون كليست» فقيرا على الرغم من أنه سليل أسرة شريفة، واتخذ الجندية مهنة له في صدر الشباب، لكنه لم يلبث أن ترك حياة الجيش ليخلو إلى متابعة مثل أعلى وضعه لنفسه، وهو أن يثقف نفسه بقدر المستطاع. والقراءة والدرس كثيرا ما ينتهيان - كما انتهيا بفاوست - إلى الحيرة والارتباك بدل أن يؤديا إلى الاطمئنان واليقين. وهكذا كان الأمر مع «فون كليست» إذ انتابه القلق والهم وتعاورته غرابة السلوك، ومع ذلك كله لبث أمام عينيه طموحه الشعري شاخصا يدعوه إلى متابعة الطريق، فانتهت به كل هذه العوامل إلى تجواب في ربوع أوروبا لعله يصادف حياة الأمن بين ربوعها، ولازمته في رحلاته فكرة سوداء، وهي الرغبة في الانتحار، وأخذت الفكرة في ذهنه ألوانا شتى؛ فلماذا لا يموت ميتة تؤدي به إلى هذا «القبر الفخم الذي ليس لعظمته حد؟» وما ذلك القبر العظيم إلا إنجلترا التي كان نابليون يعد العدة لغزوها، وفكر الأديب القلق أن يلتحق بجيوشه في ذلك الغزو، ولا بأس عليه إن هو مات ليثوي جسده في ذلك القبر المجيد ... لا، ليطرح هذه الفكرة المتشائمة وليذهب إلى سويسرا فيحيا حياة فلاح ساذج ويعيش على زراعة الأرض. وأخذ سمته نحو سويسرا، وهنالك سرعان ما تحول به مجرى الحياة عما أراد لنفسه؛ إذ اتصل بجماعة أدبية هناك، وهناك أخرج أول نتاجه الأدبي «أسرة شرفنشتاين»

18

وهي مأساة شعرية ابتداعية، يموت فيها حبيبان لعراك نشب بين أسرتيهما، كما مات روميو وجوليت عند شيكسبير لخلاف بين أسرتيهما أيضا. وبناء المسرحية عجيب في فنه، لأنها تبعثك على الأسى مرة وعلى الضحك مرة، ويسودها كلها إصبع القدر فيحرك الحوادث كيف شاء.

ورأى «فون كليست» ذات يوم صورة منقوشة على جدار بيت صديق له في سويسرا وأوحت له الصورة بمسرحية «الإبريق المكسور»

19

التي روى فيها قصة قاض تسلل ذات مساء إلى غرفة امرأة، وبينما هو يسرع في طريقه إلى الخروج صدم إبريقا فكسره، وألقي القبض على رجل آخر حامت حوله الشبهة وجيء به أمام القاضي - القاضي الذي اقترف الجريمة - فأدار هذا مجرى التحقيق على نحو أوقعه في الاتهام آخر الأمر. وفي هذه المسرحية تهكم شديد فعال قصد به إصلاح المفاسد والعيوب التي أصيبت بها الأمة الألمانية عندئذ، ويقال عنها إنها أجمل وأروع ملهاة شعرية عرفها الأدب الألماني كله. وللشاعر كذلك مأساة «بنثزليا»

20

التي حكى فيها عن موضوع يوناني، هو القتال بين أخيل وحبيبته، قتالا أذهب عن الحبيبة رشدها فقتلت حبيبها برمية من رمحها، ثم أفاقت إلى رشدها وعاودها جلال منزلتها باعتبارها ملكة، فطلبت قتل نفسها. وكان غرض الشاعر بهذه المسرحية دراسية الأنانية الهوجاء إذا تملكتها العاطفة العمياء فأفقدتها صواب الحكم وحسن التدبير.

ونزلت النازلة، وجاء نابليون إلى قلب البلاد الألمانية ظافرا منتصرا، وكان «فون كليست» إذ ذاك يشغل منصبا كتابيا متواضعا في الحكومة في مدينة «كونجز برج» وتحركت في نفسه الإحنة ضد هذا الطاغية حتى تساءل يوما: لماذا لا يهم رجل ذات يوم فيرمي رأس هذا الجبار برصاصة في رأسه فيرديه؟ وبدا له أن لا أمل لألمانيا بغير وحدة أجزائها وبغير أن تمتلئ صدور الأمراء والشعب على السواء بوطنية تضحي بالمصالح الفردية في سبيل مصلحة الوطن كله! ومع ذلك لم يتحول بأدبه فورا نحو موضوعات الساعة الراهنة، ليحرك النفوس بقلمه، بل ترك منصبه في «كونجز برج» وذهب إلى «درزدن» حيث التقى ب «تيك» ونشأت بينهما صلات الود والصداقة، وحيث أخذ في إنتاج آثار أدبية لم يعرف عنها معاصروه شيئا، أو عرفوها ولم يقدروها قدرا عظيما، وعندئذ أصدر مسرحية «كاتي هيلبرن»

21

التي هي بين رواياته أكثرها قبولا من الجمهور، لكنها لم تمثل في حياة كاتبها. و«كاتي» اسم لامرأة خلقها على نقيض خلق «بنثزليا»؛ فهذه الأخيرة - كما أسلفنا - تصور المرأة وقد غلبت عليها الأنانية التي لا تعرف حدا تقف عنده في تحقيق أغراضها، وأما «كاتي» فصورة المرأة التي تخصص حياتها لخدمة حبيبها أو زوجها وإن آلمها هذا الحبيب أو الزوج، فهي تحتمل الألم في سبيله صابرة خاضعة لإرادته.

وللشاعر كذلك مسرحية «معركة هرمان»

22

وهي تتصل بالحالة السياسية الألمانية في ذلك العهد اتصالا مباشرا، ف «هرمان» يوحد رؤساء المقاطعات الألمانية تحت قيادته ويهجم بصفوف متماسكة هجمة عنيفة على الطاغية الروماني فيظفر بلواء النصر. وإنما وفق «هرمان» في هذا بفصاحة خطابه الذي وجهه إلى أمراء المقاطعات، وبأنه بدأ بنفسه فتناسى مصلحة شخصه ومصلحة أسرته في سبيل مصلحة الوطن، بل إنه أبدى استعداده أن يسلم قياد نفسه إلى منافسه «مار بد». و«هرمان» هنا يمثل بروسيا، و«مار بد» يمثل النمسا، والطاغية الروماني يمثل نابليون. فالمسرحية كما ترى دعوة صريحة إلى الوحدة الألمانية في وجه نابليون، ولا وحدة بغير نسيان المصالح الشخصية وإنكار الذات في سبيل الخير للمجموع، وله كذلك مسرحية «أمير همبرج»

23

التي أراد بها أن يخفف بعض الشيء من وطأة النظام العسكري في ألمانيا، فماذا يحدث لو عصى ضابط أمر قائده، لكنه عن طريق هذا العصيان ظفر بنصر عظيم؟ وأوحى له بهذا الموضوع حادثة وقعت، والذي حدث هو أن قضى الرئيس الأعلى بموت الضابط لعصيانه ثم بشكر الله على أنه أنعم عليه بهذه الأداة التي أتت له بالنصر. وأما «فون كليست» في مسرحيته فجعل الرئيس الأعلى يقضي على الضابط بالموت، ثم يعفو عنه لأنه تبين أن الضابط لم يسمع الأمر الذي صدر له من رئيسه إذ كان عندئذ فيما يشبه الحلم يفكر في حبيبته، ولو أنه كان يبدو ويتصرف كما يبدو أو يتصرف اليقظان الواعي. وذهب «كليست» إلى برلين لعله يظفر بمن يقبل مسرحيته هذه - وهي آية في الفن - فتمثل، فيكسب ما يقيم أوده لأنه في فقر مدقع لا يكاد يجد ما يسد به الرمق! لكن أحدا لم يعرف للرجل قيمته، فما وجدت مسرحية واحدة من مسرحياته طريقها إلى المسرح إبان حياته، فماذا عسى أن يصنع هذا الشاعر العبقري الموهوب وهو لم يزل في صدر رجولته، في الرابع والثلاثين من عمره؟ يصوب غدارته إلى رأسه فيحطمها ليخلص من هذا الشقاء . (8) فريدريش روكرت

Friedrich Rűchert (1788-1866م)

يكاد يستحيل أن يخلو عصر ممن يؤمنون أن حياة الإنسانية تسير من سيئ إلى أسوأ؛ فالقدماء كانوا في أخلاقهم أفضل، وفي أدبهم أروع، وفي فنهم أنبغ. ثم يزداد هذا الشعور حدة إذا ما وجد الناس أن ما يعلقون عليه آمالهم قد تبين فيه السوء والفساد؛ فهذه هي الثورة الفرنسية قد فتحت آفاق الأمل أمام المستبشرين الذين رجوا منها أن تؤدي بالناس إلى حرية ومساواة وإخاء، هذه هي الثورة قد انقلبت في أعين الناس إرهابا وإرهاقا للنفوس واستبدادا في الحكم! فالرجاء الذي لا رجاء سواه، إن أردت أن تسعد بحياتك، هو أن تغض النظر عن الحاضر، وأن تعود بخيالك إلى الماضي الجميل، بل إن استطعت أن تعيش حياتك كما عاش الأقدمون. وبهذا انقسم الناس جماعتين: واحدة تنظر إلى المستقبل وتمزج نفسها بشئون الحياة الحاضرة، وأخرى تلوي عنقها نحو الماضي وتنطوي على نفسها بخيالها. الأولى تهتدي بالعقل وإملائه، والثانية تمجد التقليد وإيحاءه. فأين تضع الأدباء الابتداعيين؟ بين الجماعة الثانية ولا ريب، بين أولئك الذين يفتنهم الماضي بسحره مع اختلاف في معنى الماضي، فقد تجد الابتداعي الذي يجد ضالته في عهد اليونان، وقد تجد الابتداعي الذي يلقي عصاه بخياله في العصور الوسطى التي سادتها سلطة الكنيسة وقوة الإيمان، ثم قد تجد الابتداعي الذي يريد أن يجعل ماضيه أبعد من هذا وذاك، وقد لا يكون البعد في المسافة الزمنية، بل في المدى الذي ينبغي للخيال أن يعبره، في الشرق الذي يرتسم في أذهان الغربيين أحيانا وكأنه بلاد السحر والعجائب، فما أبعد الشوط بين أوروبا في النصف الأول من القرن التاسع عشر وبين بلاد الهند وبلاد العرب! ما أبعد الشقة بين الواقع إذ ذاك وبين ما عسى أن يصادفه خيال الأديب لو عاش في تلك الأصقاع!

هذا هو «جيته» يدير البصر إلى هذا الشرق البعيد ليخلص من الواقع الذميم، إلى هذا الشرق كما يراه مصورا في ألف ليلة وليلة وما إليها من مفاتن الخيال، إلى هذا الشرق كما يروى عنه في أشعار الهندوس والفرس والعرب. لكنك لكي تعود بالخيال إلى تلك الأصقاع فلا بد من علم دقيق بها، وإلا شطحت في ترهات وأكاذيب، ومن هنا نشأت جماعة من المستشرقين في ألمانيا جعلت بغيتها مثل هذه الدراسة الدقيقة للشرق في تاريخه وعلمه وأدبه وديانته وسائر ما يتصل به، بل نشأت الرغبة الشديدة عند كثير من الأدباء أن يدرسوا لغات هؤلاء الأقوام، فالشقيقان «شليجل» اللذان حدثناك عنهما علمين من طلائع النهضة الابتداعية في ألمانيا درسا اللغة السنسكريتية، وتبعهما كثيرون، لأن سحابة الأحلام التي تكتنف آداب الشرق تصادف هوى عند من جعل الأدب الابتداعي مذهبه. وضرب كبير الشعراء الألمان «جيته» لزملائه بنفسه مثلا، إذ أصدر ديوانه الشرقي الذي زعم أنه فارسي وما هو بفارسي، لا روحا ولا مادة؛ ف «جيته» في هذا الديوان بمثابة من يبدي غبطته إن وجد في «حافظ الشاعر الفارسي» زميلا له في وجهة النظر، وراح يوهم أنه ينظر إلى الحياة كما نظر إليها «حافظ»، لكنه في الواقع إنما كان يعبر عن آرائه هو ومشاعره هو، مستخدما في هذا السبيل أسماء شرقية.

وبين الرجال الذين فتنهم الشرق فوجهوا إليه عنايتهم، «روكرت» الذي قضى حياته الطويلة أستاذا مستشرقا من جهة، وشاعرا ينظم القصيد من جهة أخرى، وقد نظم طائفة كبيرة من «قصائد الغزل» - قصائد منظومة على غرار الشعر العربي في الغزل، تجري في القصيدة قافية واحدة - كما ترجم مجموعة منوعة من الشعر عن السنسكريتية والفارسية والصينية والعربية والعبرية وغيرها من اللغات الشرقية. ولو قيس الشعراء بضخامة نظمهم، كان «روكرت» في طليعة شعراء القرن التاسع عشر، ولكن كثيرا جدا من شعره المتأخر رديء، وجيد شعره هو ما نظمه في صدر حياته. (9) أوجست فون بلاتن

August Von Platen (1796-1835م)

وهذا رجل آخر ممن عنوا بالشرق؛ نظم كثيرا من «قصائد الغزل» - القصائد التي قلنا إنها تقليد الشعر العربي - لأنه كان يؤمن إيمانا قويا بقيمة هذا اللون من الشعر، وامتدح شعره هذا «جيته» لكن كثيرين لم يروا فيه سوى قدرة على صوغ القوافي، لا أكثر ولا أقل، فكأنما القصيدة قالب أجوف لا مادة فيه. ولعل أقوى وأقذع ما قيل في نقد «قصائد الغزل» ما قاله «هيني» من أن قارضيها كانوا بمثابة من أكل من «جنة شيراز» حتى أتخم نفسه فتقيأ هذه «القصائد الغزلية»! ونشأت على أثر ذلك بين الأديبين «بلاتن» و«هيني» معركة أدبية، لكن «بلاتن» بالطبع لا تقاس قامته إلى قامة «هيني»، فوضعه الناس حيث وضعه «هيني» إذ اعتبروه شاعر صنعة لا شاعر طبع؛ فكل قدرته انحصرت في صياغة القصائد التي لا مادة فيها ولا شعور. ولقد أصاب «هيني» في حكمه هذا على شعر «بلاتن» إلى حد ما؛ فلم يكن شعره بالذي يوقظ بأنغامه أحلام قارئيه أو سامعيه، بحكم أنه صيغ في قوالب لم تألفها الأسماع، فمن أراد أن يستمتع بشعره فليعمل فيه الفكر ليبلغ معانيه؛ فإن كنت ممن لا يؤمنون بأن مثل هذا النظم يدخل في دولة الشعر فليس «بلاتن» عندك شاعرا، أما إن كنت ممن يفسح المجال في دولة الفن إلى الشعر الذي يروع بفكره لا بأنغامه، فسيجد «بلاتن» عندك مكانا يستقر فيه. (10) هنريش هيني

Heinrich Heine (1797-1856م)

ها نحن أولاء نسوق لك الآن عملاقا من عمالقة الشعر في آداب العالم أجمعين؛ «هيني» الذي كان ابتداعيا على نحو خاص به، فلا هو متمرد على الواقع الحاضر، كما تمثله الثورة الفرنسية وأعقابها، فيتركه جملة واحدة لينطوي بخياله على أحلام الماضي، ولا هو تارك هذا الماضي جملة ليحصر نظره في الواقع، إنما كان «هيني» بعواطفه شيئا وبعقله شيئا آخر، فعاطفته مع الماضي وعقله صنيعة الحاضر الواقع.

أصدر أول ديوان له وهو طالب قضى من حياته خمسة وعشرين عاما، فجاءت قصائد هذا الديوان معبرة عن آلام نفسه التي أحسها حين خاب رجاؤه في حبه، فقد يظهر أنه اتجه بهواه إلى فتاة أجابت هذا الهوى بشيء من الزراية والاحتقار، ومن هنا كانت مرارة نفسه وتبرمه بالحياة كما بدا في ديوانه الأول، لكنها كانت مرارة وكان تبرما انتفع بهما الأدب، لأن شاعرنا لم يجد متنفسا إلا شعره، وإنا لنذكر عنه في هذا الصدد حقيقة جديرة من القارئ بالعناية لأنها تلقي ضوءا على معنى ما يقال من أن نفس الشاعر تنعكس في شعره، وهي أن «هيني» تألم حين أجابته الحبيبة بنظرة المزدري، فبث آلامه في شعره، ثم ذهب عنه الألم، لكنه ظل يبث آلامه في شعره. وإذن فلنكن على حذر حين نحاول أن نرى نفس الشاعر معكوسة في شعره، إذ قد يتخذ الشاعر لونا معينا من وجهة النظر إلى الحياة، وإن تكن قد ذهبت عنه البواعث والدواعي . ومما أنشأه ليعبر فيه عن خيبة أمله في حبه مسرحيتان، إحداهما تدعى «المنصور»

24

والثانية «وليم راتكلف».

25

ثم أخذ بعدئذ يغني بشعره في يومياته، كلما جاشت في نفسه عاطفة بثها، دون أن يلتزم وضع عنوان لكل فورة نفسية من هذه الفورات التي تنتابه يوما بعد يوم في غير ترتيب ولا تشابه، فهو اليوم يروي عن حلم فظيع رأى فيه قبورا وموتا، وهو اليوم يقص أسطورة قديمة فيها جمال ولها إيحاء، وهو اليوم يسجل ما عبر بخاطره من صورة الحياة الفطرية الهانئة على ضفاف الكنج في بلاد الهند، وهو اليوم يذكر كيف استحالت نشوة حبه ذات يوم مرارة بسبب امرأة قسا قلبها وتحجر، وهو اليوم يرى في الطبيعة ما يلفت نظره وما يقرأ فيه معنى وعبرة، وهكذا دواليك. وهو في كل شعره تقريبا لاذع السخرية مر التهكم، متشائم النظر، يصب هذه السخرية وهذا التهكم على الحياة الإنسانية بأسرها، بل كثيرا ما يصوب سهامه نحو صدره، تقرؤه فلا تحبه صديقا لك لأنه لن يجعلك ترضى عن نفسك، لكنك يستحيل أن تخطئ فيه روعة الفن وقوة الإيحاء وحلاوة النغم، وله من هذا اللون من الشعر «ديوان الأغاني»

26

الذي تجد فيه من الخرائد عددا قل أن تجد نظيره في ديوان آخر من الشعر الألماني، ثم أعقب ذلك الديوان «رحلات».

27

اتخذ «هيني» فيه من نفسه بطلا، بدل العادة المألوفة في مثل هذه الرحلات الأدبية، وهي أن يتخذ الأديب بطله شخصا ما ثم يجري خواطره على لسانه. وكان «هيني» في كتابه «رحلات» - كعادته - هازئا بأوضاع الحياة كما رآها، ساخرا من بعض العقول، ولعل اللغة الألمانية لم تشهد قبل هذا الكتاب ما يجاريه في مرارته التي تشع بعبقرية الكاتب وتبعث اللذة في نفس القارئ.

كان «هيني» في شعره بمثابة من يعترك مع الحياة اعتراكا ربما كان مصدره مرض أعصابه الذي انتهى به آخر الأمر إلى شلل ألزمه الفراش - وقد أطلق على فراشه إذ ذاك «قبر من حشايا» - على أن هذه النظرات السوداء كانت ترتفع عنه أحيانا لتأخذ مكانها نوبات من مرح تجد سبيلها إلى شعره في ضحكات ونكات، ولكنها أيضا ضحكات السخرية من إنسانية ضلت سواء السبيل، على الرغم من أنه لم يكن باليائس من أن تهتدي الإنسانية إلى الطريق القويم، بل كان يؤمن أنها تستطيع ذلك بالهداية البصيرة، وجعل همه أن يكون هو أحد الهداة. وها نحن أولاء نقدم لك بعض شعره:

ها أنا ذا في أرض السحر من جديد!

ها هو ذا عطر الزيزفون قد أزهر!

إن القمر بما ينشر من ضياء

ملك علي الفؤاد بسحره وسيطر، •••

سرت في طريقي، وكلما سرت

رن الهواء من فوقي ورددا،

إنه البلبل في الغرام يغني،

في عذاب الحب غنى وأنشدا. •••

في عذاب الحب غنى البلبل،

وأنغامه كانت من دموع وابتسام؛

ابتسامه حزين، ودموعه مرحات،

فأيقظ ما طال نسيانه من الأحلام. •••

سرت في طريقي، وكلما سرت

رأيت قائما أمامي

في الفضاء حصنا فسيحا

شامخا برأسه المتسامي، •••

غلقت نوافذه، وأينما أدرت البصر

وجدت حزنا صامتا؛

لعله الموت ضاربا بجرانه

فألجم صوت الحياة وأسكتا. •••

أبو الهول أمام الباب راقد

قوامه مزيج من مرح ورعب،

له جسم الليث والمخالب

ومن المرأة رأسها والنهد؛ •••

امرأة فاتنة! في نظرتها شحوب ينطق

كأنه بالشهوة القوية يغرى،

وصامت الشفتين في انحناء خفيف

نمتا عن ابتسامة فيهما تسري، •••

وغنى البلبل لحنا طروبا

واستسلمت للمرأة في إغرائها،

فقبلت منها مليح وجهها

فأهلكتني القبلة، ليتني ما لثمتها. •••

تحرك التمثال المرمري بعد جمود،

وأصبح الصخر كائنا حيا،

تحست المرأة من حرارة قبلتي،

فلهثت إعياء وجف الماء من شفتيا، •••

تحست المرأة منى النفس،

وراحت في غبطتها تمرح،

وبالمخالب منها زمت على جسدي،

وخلفتني وأنا الهشيم الأكسح. •••

يا عذابا فيه المرح! ويا شقاء فيه النعيم!

ما أكثر ما فيك من لذة وشقاء!

كانت المخالب توقع بالجسم الأذى،

لكن قبلة الشفتين كانت لي هناء. •••

وأنشد البلبل: «يا أبا الهول يا جميل!

أيها الحب بما لك من عطف رحيم!

لماذا تمزج أليم العذاب

بكل ما فيك من لذة ونعيم؟ •••

اتل علي يا أبا الهول يا جميل:

هذا اللغز المجيب ما معناه؟

فقد مرت علي ألوف الأعوام محاولا

وما عرفت من هذا السر مغزاه!»

وهذه قصيدة أخرى:

أطبق الليل جفني،

وختم الليل على شفتي،

وسكن مني الرأس والقلب،

في هذا اللحد من فراشي، •••

لست أدري كم طال بي نومي؟

لست أدري كم لفني النعاس؟

لكني استيقظت إذ سمعت

نقرا على باب لحدي: ••• «هنريش! استيقظ من نعاسك

ها هنا نهار ضوءه سرمدي،

إن الموتى كلهم بعثوا

وأقبل على الجمع نعيم أبدي.» •••

حبيبتي لا أستطيع نهوضا

لقد كف مني البصر،

لقد بكت عيناي حتى كفتا،

وغاب من عيني ضوء النظر. ••• «هنريش! سألثم منك عينيك

فينزاح عن عينيك الظلام،

ستراك إلى الأملاك شاخصا

وإلى رب السماء ذي الجلال.» •••

حبيبتي لا أستطيع نهوضا

فما يزال القلب يدمى،

لا يزال يدمى حيث جرحته

بلفظ منك حده كالسهم. ••• «هنريش! سأمر بحنون راحتي

على مكان قلبك الجريح،

فيشفى الجرح من قلبك،

ستشفي راحتي قلبك الجريح.» •••

حبيبتي لا أستطيع نهوضا،

إن رأسي جريح مثل قلبي،

وأنا الذي جرحت رأسي بنفسي؛

إذ سلبوك مني فسلبت لبي. ••• «هنريش! بحلقات شعري

سأشفي منك الجراح،

وأرد لك ما فقدت من دم؛

فإذا رأسك ليس فيه جراح.» •••

أخذت ترجو في رقة وعطف،

فما استطعت لها عنادا،

وكان النهوض أمنيتي

لأمضي إلى من علقت بها فؤادا، •••

وعندئذ انفتحت مني الجروح،

وتصبب منها دمي؛

تصبب من رأسي وصدري،

ثم صحوت من نومي. (ب) القصة (1) فردريش دي لامت فوكيه

Friedrich de la Motte Fouqué (1777-1843م)

كان «فوكيه» أغزر أدباء القصة إنتاجا وأقربهم إلى قلوب القراء في ألمانيا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. وقد توجه بحبه للقديم نحو القرون الوسطى وما كان شائعا فيها من أخلاق الفرسان، وأوشك أن يكون «فوكيه» للألمان ما كان «وولتر سكت» للإنجليز، لولا أنه كان يعوزه ما وهب الله زميله الإنجليزي من حاسة مرهفة في فهم حقائق التاريخ ومن فكاهة مهذبة رقيقة، وكان يعوزه كذلك القدرة على جعل الحوادث الساذجة التي يسوقها في قصصه عن حياة العصور الوسطى نابضة بالحياة وثيقة الصلة بمشاعر القارئ. لهذا كله جاء بناؤه الأدبي في قصصه أقرب شبها بشيء سماوي ملائكي منه بوصف للحياة في دنيانا هذه، وجاءت حكاياته مما يشبع خيال الأطفال ولا يعجب خيال الرجال الذين يزنون خيالهم بشيء من التماسك المنطقي؛ فلا عجب أن أقبل عليه جمهور القراء فترة ثم أخذوا ينفضون عنه حين خاب رجاؤهم في أن يجدوا في قصصه ما يريدون. وأهم ما يستحق الذكر من إنتاجه قصة صغيرة عنوانها «أندين»

28

تروي عن جنية لم يكن لها روح ثم خلقت لنفسها روحا بما عانته من أحزان، ثم اتخذت لنفسها حبيبا من فارس إنسانا من لحم ودم، وهي قصة تضرب على وتر الحكايات الشعبية والأغاني الشعبية، وتلك هي علاقة الأدب الابتداعي فيها، لكنها على كل حال تعد من أدب الأطفال، وهي في هذا الباب لا تدنو من مجموعة «قصص للأطفال والأسرة» التي أخرجها الشقيقان «جرم» والتي حدثناك عنها فيما سلف.

ويجدر بنا أن نذكر هنا على سبيل المقارنة أديبا آخر أسلفنا الحديث عنه، هو «تيك» الذي كان عندئذ يكتب أقاصيص قصارا يتوخى فيها ما يشبه الواقع، إذ لم يركن في أقصوصته إلى غرابة الحوادث كما فعل «فوكيه» بل جعل ركيزته حكمة الحوار الذي يديره بين الأشخاص؛ فقد كان يقدم لقارئه شخصين أو مجموعة أشخاص لكل منهم خلقه الذي يميزه من سواه، ثم يتركهم ليناقش بعضهم بعضا في موضوع يختاره لهم من الفن أو الأدب أو الموسيقى أو الفلسفة؛ لأن الذي كان يهتم له «تيك» من الطبيعة الإنسانية هي كيف يفكر الإنسان، لا كيف يسلك أو يتصرف في الظروف المختلفة. ولم يكن الحوار الذي يديره بين الأشخاص عبارات قصيرة على هيئة السؤال والجواب، أو على صورة ما يجري في الحياة من سمر، بل كان في معظمه عرضا طويلا لفكرة يتقدم بها شخص ليرد عليه شخص آخر بعرض طويل لفكرة أخرى أو لنقد الفكرة التي سمعها من زميله. فإن لم تكن أقاصيص «تيك» صورة لحياة عصرها، فهي بلا شك صورة لتفكير أهل ذلك العصر. ولم يلجأ «تيك» في تلك الأقاصيص إلى العناصر الخارقة لما هو مألوف، كالجن والملائكة وما إلى ذلك، على خلاف الاتجاه العام الذي كان سائدا بين أدباء القصة في عصره؛ إذ كان من عناصر الأدب الابتداعي إحياء خرافات العهد القديم، لا لذاتها، بل لأنهم إذ أرادوا إحياء الأغاني الشعبية أو الحكايات الشعبية، لم يكن لهم محيص عن إحياء ما انطوت عليه تلك الأغاني والحكايات من خرافات ومن التحدث عن المخلوقات الخارقة للمألوف. (2) أدلبرت فون شاميسو

Adelbert vou Chamisso (1781-1838م)

كان الاتجاه العام إذن بين أدباء الابتداع أن يحيوا الأغاني الشعبية والحكايات الشعبية، فكان لا بد لهم أن يحيوا ما تنطوي عليه تلك الأغاني والحكايات من خرافات وأعاجيب ثم نشأ عن ذلك شيء آخر، أن يحاول الأديب أن يخلق بخياله صورا شبيهة بتلك الخرافات والأعاجيب التي كانت تتضمنها الأغاني الشعبية والحكايات الشعبية. ومن هؤلاء الذين ابتكروا مثل هذه الصور «شاميسو» في قصته «بطرس شلمل»

29

التي روى فيها عن شاب فقير باع ظله للشيطان بمبلغ كبير من المال، ثم تبين له أنه إنما كان الخاسر في هذه الصفقة. في هذه القصة خيال بديع، وفيها معالجة للحوادث المستحيلة الوقوع على نحو يخيل للقارئ أنها من الجائز المعقول، لأن تفصيلات الحوادث ومجراها مما يساير الواقع، فلا يجد القارئ تنافرا بين ما يقرأ وبين ما يقبله العقل. (3) أرنست تيودور هوفمان

Ernest Theodor Hoffmann (1776-1822م)

كان «هوفمان» مثل زميله «شاميسو» ممن يضفي خياله على المستحيل مسحة واقعية من صدق التصوير في مجرى الحوادث وتفصيلاتها. وهو فوق براعته الأدبية موسيقي موهوب ورسام نابغ، كأنما وهبه الله إحساسا لاقطا لكل ضروب الجمال من مرئي ومسموع. ومن خصائص «هوفمان» في أدبه أنه كان يختار لموضوعاته ما يثير الرعب في نفس القارئ - وبمثل هذه الخاصة يتميز أدب إدجر ألن بو - فهو يكتب عن الجن والأشباح والأماكن «المسكونة» بالعفاريت، وعن السحر والعرافة والجولان النومي وتخليط المحموم وهواجسه، وعن الإجرام ودوافعه والجنون بدرجاته وما إلى ذلك.

ومن أهم إنتاجه قصة «إكسير الشيطان»

30

التي يستحيل على قارئ أن يقرأها دون أن ينتابه الرعب ، مهما يكن له من رجحان العقل الذي يدرك به تمام الإدراك أن ما يقرؤه خيال لا وجود له، وذلك لصدق الوصف فيما يختص بالتفصيلات، وإن يكن الموضوع كله من الخوارق المستحيلة الوقوع. وهي تحكي عن راهب أغراه الشيطان بإكسيره فضل طريق الصواب ولاقي الأهوال والصعاب، ثم هداه الله إلى حب صحيح أنقذه مما هو فيه، فعاد إلى رشده عودة النادم التائب. وله كذلك «صور من الليل»

31

تجري على نمطه من وصف المفزعات، وهو نمط من الكتابة برع فيه حتى لم يكن أحد يستطيع في هذا الباب أن يجاريه. (4) بتينا فون آرنم

Bettina von Arnim (1785-1859م)

نختم حديثنا عن القصة الألمانية في عصر الابتداع بهذه المرأة التي أخرجت آية أدبية حين أخرجت «رسائل جيته إلى طفلة»

32

وهي زوجة «آرنم» الذي حدثناك عنه شريكا ل «برنتانو» في إخراج مجموعات الأغاني الشعبية، وهي أخت «برنتانو» هذا الذي شاركه زوجها في إخراج تلك الأغاني الشعبية؛ وحسبنا أن نقول عن كتابها «رسائل جيته إلى طفلة» إن «إمرسن» أحبه حبا جعله يقول ذات يوم إنه ليس بحاجة إلى قراءة أي شيء آخر بعد قراءته لهذا الكتاب.

عاشت «بتينا» حياة فيها الحياة بكل معانيها؛ حياة تتأثر بكل ما يسر وما يحزن مما يقع حولها، وعرفت مشاهير الرجال في عصرها، فعرفت «جيته» والتقت به مرات عدة، بل جاءها منه بضع رسائل عبر فيها عن شعور جميل نحوها، وعرفت أم «جيته» وأخذت عنها مذكرات وحكايات، ومن هذه المذكرات والحكايات التي لقفتها من شفتي أم أديب ألمانيا الأكبر ، أنشأت هذا الكتاب تمجيدا للرجل الذي ملك عليها أحلامها وهي في عهد الشباب. ولم تكن «بتينا» لتجهل ما قد يفسر به الناس هذه الرسائل التي تخيلت أن «جيته» بعث بها إليها، لكنها لم تأبه لهذا، موقنة أنها ستصادف فهما صحيحا عند من ينزعون بعقولهم نزعة الخير، وإلى هؤلاء كانت تريد بأدبها، وليفسر أصحاب السوء رسائلها كيف شاء لهم شرهم؛ فهذه الرسائل مذكرات لم تصدر عن «جيته» حقيقة بل هي خيال امرأة موهوبة صورت بقلمها ما كان جائزا أن يكون. ولو أطلقت على كتابها «رسائل شاعر إلى امرأة» لكان أدنى إلى الصواب، لأنها في هذه الرسائل تصورت الشاعر في «جيته» وتصورت «المرأة» في نفسها، وأدارت الرسائل بين هذين الطرفين. وهي حين رمزت إلى نفسها ب «طفلة» في عنوان الكتاب، أرادت أن تعبر عن إحساسها إزاء هذا الجبار، فهي بالقياس إليه طفلة إلى جوار عملاق. وقد مجدت في بطلها «جيته» المحب؛ مجدت فيه الرجل يعيش بما يمليه عليه الشعور والدافع الفطري، لأنها هي نفسها عاشت حياتها وفق إملاء شعورها ودوافعها الفطرية، وليس من اليسير أن تعيش في مجتمع مثل هذه الحياة.

الفصل الثاني: النصف الثاني من القرن التاسع عشر

اضطرب الفكر في ألمانيا في الفترة التي تملأ الثلث الأوسط من القرن التاسع عشر، واضطربت السياسة؛ فاضطرب الأدب، ولم تكن له وجهة معينة نستطيع أن نصف بها تلك الفترة من تاريخ آدابهم، فالأدباء عندئذ أغراضهم شتى ووجهاتهم مختلفات، ومع ذلك فإن جاز لنا أن نغلب غرضا على سائر الأغراض ووجهة على سائر الوجهات، كان لنا أن نقول إن الاتجاه نحو الواقعية هو الغالب. وربما كان من نتائج ذلك أن أصبحت السيادة في دولة الأدب للقصة بعد أن كانت في الثلث الأول من القرن للقصيدة الغنائية.

وإنه لمن الحوادث التي تستحق في هذا الصدد أن تذكر، لما فيها من درس وعبرة، حادثة كان لها أثر قوي في الحركة الأدبية في ألمانيا إبان القرن التاسع عشر؛ وتلك هي أن جماعة من الكتاب أطلقوا على أنفسهم «ألمانيا الفتاة» وأرادوا أن يستخدموا أقلامهم في نشر مبادئ الديمقراطية التي بشرت بها الثورة الفرنسية، فأصدر أولو الأمر عام 1835م قانونا يحرم نشر ما يكتبه أفراد هذه المدرسة الأدبية. وكان من بين هؤلاء الأفراد «هيني» فكان بالطبع لذلك القانون أثره العكسي، وبدأ من لم يكن قد سمع بأعضاء «ألمانيا الفتاة» يبحث في الخفاء عما يكتبه هؤلاء الأعضاء؛ وبهذا اكتسبت تلك الجماعة الأدبية شهرة لم تكن تتناسب مع مكانتهم في الأدب، لأنهم كانوا في حقيقة أمرهم صحفيين يجيدون الكتابة للصحف، وقد لا تكون الكتابة الصحفية أدبا رفيعا. ومهما يكن من أمر فقد اضطربت الخواطر حول هؤلاء الكتاب؛ فمن الناس من يسعى جهده أن يقرأ لهم، ومن الناس من نفذت دعوة أولى الأمر إلى نفوسهم، واختلط في عقولهم الأمر، فأصبحوا يقرنون أسماء هؤلاء الكتاب بالدعوة إلى الإباحية والإلحاد والانغماس في شهوات الجسد. ألم يدع هؤلاء الكتاب إلى الأخذ بالديمقراطية الفرنسية؟ وماذا عسى أن تعني الديمقراطية الفرنسية غير هذه الأشياء؟!

والواقع هو أن تلك الطائفة من الأدباء، التي لقيت العنت من رجعية القيود التي فرضها «مترنخ»، لم تكن مدرسة أدبية بمعنى الكلمة الدقيق؛ إذ لم يكن أعضاؤها ذوي فكر واحد وعقيدة واحدة، وإن اتفقوا جميعا على ضرورة الإصلاح، فقد تجد منهم المعتدل الذي يرضيه قسط ضئيل من الحرية، وقد تجد منهم من لم يكن يرضيه شيء دون الانقلاب الشامل الذي يكتب السيادة السياسية للشعب على سائر السلطات. وعلى كل حال فقد كثر إنتاج الأناشيد القومية التي تثير الحماسة في قلوب الناس، ومن بينها النشيد المشهور الذي أنشأه «هوفمان فون فالرزليبن»

1 «ألمانيا، ألمانيا فوق الجميع»؛ فجاءت تلك الأناشيد بمثابة إعلان الحرب بين الشعب وأمرائه. (1) فردناند فرايلجرات

Ferdinand Freiligrath (1810-1876م)

وكان «فرايلجرات» من الشعراء الذين خدموا قضية الشعب بما أنشدوا من شعر، وقد نشر بادئ ذي بدء طائفة من القصائد استوقفت أنظار القراء لما كان فيها من خيال بديع وإثارة قوية للشعور، فقد أخذ ينشد شعره عن الغابة والصحراء وما فيها من وحوش ضارية وأقوام همج. والغاية التي كان يرمي إليها من كل ما كتب هي الثورة على كل ضروب الاستسلام والخنوع والجمود العقلي. ثم صدر له بعد ذلك مجموعات من الشعر لا يضارعها في حلاوة النغم إلا القليل من الشعر الألماني. ومن عجيب أمر «فرايلجرات» أنه أول الأمر لم يكن يعتقد أن الشاعر يجوز له أن يدمج نفسه في تيار السياسة، لأن الفن ينبغي أن يكون أرفع من هذه المعارك الأرضية. لكنه لم يلبث أن قرر أن واجبه يدعوه في إلحاح إلى الوقوف إلى جانب الشعب في جهاده ضد أمرائه؛ فلماذا يسافر بخياله إلى الغابات القصية والصحراوات البعيدة ليرى الحقيقة خشنة عارية وليبحث عما يثير الشعور من وحشية وافتراس؟ ها هنا تحت سمعه وبصره ما هو أمر وأفظع، وقد عقد رجاءه على ثورة عنيفة يقوم بها الشعب لينتقل بها من استبداد الأمراء إلى النظام الجمهوري. وعلى هذا الوتر أخذ يعزف أشعاره، لكن أشعاره التي عزفها لم تنته بأمته حيث أراد لها، بل طوحت به إلى المنفى مع سائر من رفعوا أصواتهم بالحرية المنشودة، وكان منفاه لندن التي مكث فيها حتى صدر العفو عنه، وهنالك شغل نفسه بترجمات رائعة إلى الشعر الألماني لبعض آيات الأدب الفرنسي والإنجليزي والأمريكي، لأن عبقريته المبدعة كانت قد احترقت بحرارة جهاده في سبيل قضية خاسرة. (2) عمانوئيل جايبل

Eamnuel Geibel (1815-1884م)

وهذا شاعر آخر ناصر الحركة الألمانية، لكنه ناصرها على نحو آخر، فلم يدع إلى ثورة ولا إلى قتال، إنما دعا الأحزاب المختلفة إلى سلام ووئام لأن رجاءه الواحد كان الوحدة الألمانية. وقد حدث له أن دعاه السفير اليوناني في أثينا ليكون لابنه معلما، فانشرح صدرا لهذه الفرصة التي سنحت ليشهد أثينا بعينيه، وهنالك أنشد بعض قصائده الجياد، أنشدها للشعر في ذاته، لا لكي تكون أداة سياسية، ثم نشرها بعد عودته، فأقبل الناس عليها؛ لأن نفوسهم كانت قد سئمت أن ترى قيثارة الشعر وسيلة تخدم أغراض السياسة. ولما أصدر ديوانه «أغاني يونيو» لم يشك عندئذ شاك أن «جايبل» قد استحق إمارة الشعر في ألمانيا، ودعاه ملك بافاريا حيث لبث الشاعر عشيرا له في مدينة «ميونخ» أعواما عدة، كان خلالها على رأس مدرسة أدبية تنادي بوجوب أن يكون الفن للفن لا لأي شيء آخر؛ وحاضر في الجامعة في موضوع الشعر وأصوله على أساس مذهبه ذاك. وإنك لتقرأ ما شئت من قصائده التي تملأ عدة مجلدات؛ فلا ترى إلا جمالا فنيا لم يقصد به إلا الجمال الشعري نفسه، لكنه جمال مرهف رقيق عمل فيه إزميل الفنان حتى بالغ وغالى؛ فذهبت عنه الصلابة والقوة ومتانة البناء. (3) جوزيف فكتور فون شفل

Josef Victor von Scheffel (1826-1886م) «شفل» شاعر وقصصي تميز أدبه بفكاهته. وإنه لمن أبرع ألوان البراعة في الأديب أن يكون قلق النفس ساخطا ناقما متشائما، ولكنه إذا ما كتب، كتم في نفسه هذا كله ليتفكه ويسخر على نحو يخيل معه لقارئه أن الرجل ذو نفس مرحة قد فرغت من همومها، وأخذت تضحك لنفسها ولغيرها، ومن هذا القبيل كان «شفل» يؤنس القارئ بأدبه ويثير الغبطة في نفسه، ويحمله معه في انزلاق سهل حتى النهاية، ولهذه الصفة في أدبه بات محببا إلى القراء. وكانت قصيدته الروائية «نافخ البوق في ساكنجن» أوسع أثر من نوعها انتشارا بين القراء طوال القرن التاسع عشر كله، وكانت تتخللها أغان سرعان ما أصبحت على كل لسان، وهي في فنها تتبع أصول الأدب الابتداعي، على أنها أقل قيمة من آيته «إكهارد»

2

التي لم يقبل القراء في ألمانيا في ذلك القرن على قصة تاريخية بمثل ما أقبلوا على هذه القصة. وهو في هذه القصة يصور ديرا في القرن العاشر كان مصدر ضوء في عهود أطبق فيها الظلام، واتخذ بطله فيها راهبا تخيل أنه مغرم بامرأة تحررت على النحو الحديث وأجرى الرسائل بينهما. على أن همه في القصة كان إجادة تصوير الحياة في القرن العاشر الذي درس الحياة فيه دراسة دقيقة متقنة، وهو في مجرى قصته كلما عرض حقيقة عن الحياة في ذلك القرن أحال القارئ إلى المرجع الذي استقى منه تلك الحقيقة، فأكسب ذلك قصته مسحة علمية فوق مسحتها الأدبية. وتراه في قصته هذه يستخدم لونين مختلفين من اللغة والتعبير، فآنا تراه يستعمل الألفاظ القديمة وطرائق التعبير العتيقة، وآنا تراه يكتب باللغة الشائعة في عصره، وذلك لأن قصته بطبيعتها تحاول أن تربط الصلة بين رجل عاش في القرن العاشر وامرأة عاشت في العصر الحديث. وبعد، فهي قصة لو قرأها مؤرخ لألقى بها جانبا لأنها تخلط حوادث عصرين مختلفين دون مراعاة للأمانة التاريخية، لكن «شفل» لم يقصد بها إلى المؤرخين، إنما قصد بها إلى القارئ العادي، الذي سيستمتع بقراءتها وسيفتر فمه في النهاية عن ابتسامة من يقول: ما أشبه الإنسان في عصر وإن تقدم، به في عهد وإن تأخر! ما أشد الشبه بيننا اليوم وبين أجدادنا الذين عاشوا في القرن العاشر! (4) جوتفريد كلر

Gottfried Keller (1819-1890م)

لكن ما لنا وللقرن العاشر الآن؟ إن هذا الحاضر الراهن الواقع ينادي حملة الأقلام وأصحاب المواهب. هكذا كانت دعوة من أطلقوا على أنفسهم «ألمانيا الفتاة» لقد لبث الأدب القصصي ما يقرب من نصف قرن وهو يشغل نفسه بالحكايات تروي لنا عن الغريب والشاذ والخارق للمألوف، أو تروي لنا خيالا يتتبع خطو «جيته» في قصته «ولهلم مايستر» وفي كلتا الحالتين لم يكن المحكي عنه هو الواقع، فكنت تقرأ القصة فتصادف أشخاصا يرحلون من مكان إلى مكان وهم يحلمون أو يتفلسفون، لكنهم لم يكونوا في حياتهم أشخاصا من لحم ودم يعيشون عيشة الحاضر الواقع؛ فالوهم الذي تسلط على الأدب الابتداعي من أوله إلى آخره هو أن الواقع ليس فيه جمال ولا يصلح موضوعا للأدب!

وبدأت محاولات أدبية تقاوم هذه النزعة الخيالية وتحاول أن توجه التيار نحو واقعية تعنى بالحاضر الملموس. وعلى رأس هذا الفريق، بل على رأس الأدب القصصي الألماني إبان القرن التاسع عشر بغير استثناء، كان «كلر» وهو سويسري ولد في «زيورخ» وكانت وجهته الأولى أن يتعلم فن التصوير، ولبث في «ميونخ» عامين في مدرسة الفنون ليتلقى أصول هذا الفن، لكنه أدرك عندئذ أنه أخطأ الاختيار لأن طبيعته لم تكن تميل به هذا الميل، وإذن فليبدأ حياته من جديد ؛ هنا التحق بجامعة هيدلبرج حيث ظل عامين، وبجامعة برلين حيث أقام خمس سنين، وهنالك أكمل قصته ذات الأجزاء الأربعة التي تعد آية آياته، والتي يروي فيها قصة حياته، وهي قصة «هنري الناشئ»

3 - فظروف الحياة تطوح بشاب من «زيورخ» اسمه «هنري لي» - يرمز به إلى نفسه - إلى حياة تشبه في جملتها وبعض تفصيلاتها حياة الكاتب نفسه؟ ويذهب «هنري لي» هذا إلى «ميونخ» ليدرس الفن، وهكذا أخذ «كلر» يقص لنا في شخص «هنري لي» اعتراكه مع الحياة وأحلامه، ما تحقق منها وما لم يتحقق، حتى إذا ما بلغ من العمر سنا عرف فيها أنه أخطأ الطريق الصواب الذي يتفق وطبيعته عاد إلى وطنه ومات مغمورا مجهولا. ولا يفوت الكاتب بالطبع أن يدرس في قصته هنا وهناك ذكريات طفولته وشبابه. على أن القصة في مجموعها صورة جلية لحياة القرن التاسع عشر في نصوع وصدق كاد أن يبلغ بالكاتب ما يصح أن يسمى اعترافا يصرح فيه بدخيلة نفسه التي يطويها غيره من الناس.

وللكاتب كذلك «أهل سلدفيلا»

4

وهي مجموعة قصص قصار، كما أن له غير هذه المجموعة مجموعات أخرى من الأقاصيص؛ فهو في هذا الفن الأدبي إمام، فلو عرفت أن الأدب الألماني من أكثر الآداب خصوبة في فن الأقصوصة، وأن «كلر» في ألمانيا زعيم هذا الفن، عرفت من عساه أن يكون. والعجيب أن جمهور القراء كاد ألا يعيره التفاتا حتى دنا من ختام حياته، مع أنك لو استعرضت اليوم ما كتب عن أدبه من المؤلفات لرأيتها تملأ مكتبة بأسرها.

كان «كلر» رجلا له روح شاعر، وعينا عالم، ومزاج فنان، يحب الحياة في شتى أوضاعها. ولعل خير ما فيه فكاهته. وهو أديب يكتب ليعلم، على نحو ما كان «جيته» يكتب أدبه، فرسالته في الحياة، هي أن يدرس حياة بني وطنه السويسريين وطبائعهم، ثم يصف تلك الحياة وهذه الطبائع وصفا يرمي إلى غرض، هو رفع الشعب من حيث مثله العليا في الحياة؛ وإذن فلا بد له لكي تأتي دراسته تامة كاملة أن يكون دقيق الملاحظة فيما يقع حوله من حقائق، لا يفرق فيها بين جميل وقبيح؛ فلا ينبغي له أن يقف وقفة الثائر الغاضب الذي لا تقع عيناه إلا على الجوانب السوداء من الحياة، ثم لا ينبغي له أن يقف موقف صاحب المزاج الرقيق المدلل الذي لا ينتقي مما حوله إلا الجميل الناصع، بل يجب أن يأخذ هذا وذاك لأن من هذا وذاك تتألف الحياة. إنه لا يريد أن يقدم للناس دواء يجرعونه ليشفوا من مرض ألم بهم، بل طعاما سائغا يأكلونه ليغذي أبدانهم وأرواحهم. (5) فرتز رويتر

Fritz Reuter (1810-1874م)

أراد «كلر» إذن أن يصور الواقع في أدبه، وأراد أن يصور بني وطنه من السويسريين بصفة خاصة، لكنه مع ذلك لم يرد أن يحصر نفسه في سويسرا بمعنى أن يجعل صورته قاصرة على خصائص السويسريين ولهجتهم في الحديث دون أن ينفذ خلال الخاص إلى العام، أي دون أن ينفذ خلال من يصورهم من السويسريين إلى تصوير ألمانيا بصفة عامة، بل أراد أن ينسج أدبه على منوال «جيته» و«شلر» في أن تكون غايته القصوى هي تسجيل الخلق الألماني عامة والحياة الألمانية عامة باللغة الألمانية لا بلهجة منها دون سائر اللهجات.

ولا كذلك كان «رويتر» الذي يشارك زميله «كلر» في الاتجاه الواقعي، لكنه يختلف عنه في تفسير الواقعية؛ إذ أراد أن يصور فئة خاصة من بني وطنه وبلهجة هذه الفئة الخاصة، فإن شئت له مثيلا من الأدب الإنجليزي، فهو «دكنز» ولذلك يقال عن «رويتر» إنه «دكنز الألماني». كان «رويتر» من سنه يزيد على الأربعين، وكان مدمنا على الشراب محطما، ليس له رجاء أن يبني لنفسه مجدا أو حياة اجتماعية فيها شيء من بريق الأمل والبهجة. كان «رويتر» ذلك كله حين ظفر بأول نجاح أدبي في حياته، وذلك حين أصدر كتابا فيه صور أدبية تشيع فيها الفكاهة، أنشأها بلهجة قومه في إقليمه الخاص من ألمانيا، إقليم «مكلنبرج». ولقد كان له من ذكريات ماضيه معين دافق يستمد منه القول في غير عسر؛ كان وهو شاب في عامه الثالث والعشرين طالبا في جامعة «يينا»، يلبس ما يدل على أنه ينتمي إلى حزب سياسي معين، ويكفي هذا اتهاما ليحكم عليه بالموت، ثم يرحمه الحاكم ويجعل الحكم ثلاثين عاما يقضيها المسكين في غيابة السجن، ولكنه يقضي من الثلاثين سبعا ويصدر عنه العفو. لكنها كانت سبعة أعوام لقي فيها ما حطم رجاءه في حياته، فلم تكن لديه الهمة عندئذ أن يشمر لصعاب الحياة يحدوه الأمل؛ فأسلم نفسه إلى الشراب يأسا، لكنها الزوجة الطيبة دائما تنفخ في زوجها المتهافت ما يعيد الصلابة إلى بنائه المتداعي، هي الزوجة التي شجعت زوجها أن يمضي في إنشائه الأدبي لأنه ممتاز، وأن يصدر للناس كتابا فيه مجموعة من الأغاني والقصص القصار مكتوبة بلهجة قومه، وهي لهجة كانت واسعة الانتشار في شمال ألمانيا، وكانت تلك خطوة أولى سرعان ما تلاها قصص طويلة كتبت له مجده الأدبي، فقد أخرج قصة «من حياتي في السجن» وقصة «من حياتي في المزرعة» قص في الأولى قصته وهو سجين في غير مرارة الناقم، وقص في الثانية - وهي آيته - قصة حياته بعد خروجه من السجن، في مزرعة في إقليمه، وها هنا وصف قومه وحياتهم بلهجتهم الخاصة، ولعله أراد أن يجعل لهذه اللهجة قيمة أدبية، كالمصري الذي يكتب قصة بالمصرية العامية - مثلا - محاولا أن يجعل من هذه العامية لغة صالحة للتعبير الجميل.

كان «رويتر» أديبا موهوبا في كتابة القصة، لكن موضع موهبته الخاصة هي الحكاية القصيرة والرواية عن حادثة تبعث على التفكه؛ ولهذا ترى قصصه الطوال - إذا استثنيت «من حياتي في المزرعة» - عبارة عن سلسلة من حكايات قصيرة وحوادث تروى لما فيها من دعابة. وقد كان كما ذكرنا إقليميا في أدبه، ولذلك استمد أشخاص قصصه من أهل إقليمه، وكتب بلهجة إقليمه، ثم إذا ما تفكه تفكه، على نحو ما يفعل أهل ذلك الإقليم وهو يشبه «دكنز» في أنه حين يصور شخصا يبالغ في صفة واحدة من صفات هذا الشخص دون سائر صفاته، كأنه يرسم له رسما «كاريكاتوريا» وإن يكن في ذلك أقل مبالغة من «دكنز» لأنه كان أقرب منه إلى الواقعية التي تستمد من الحياة. ويكفي لتقدير «رويتر» أن نقول إنه إذ صور «مكلنبرج» صنع ما لم يستطع أن يصنعه أديب آخر في ألمانيا لإقليم آخر. (6) جستاف فريتاج

Gustav Freytag (1816-1895م) «كلر» و«رويتر» كانا خير من كتب القصة في ألمانيا في القرن التاسع عشر، لكن ذلك لا يقتضي حتما أن يكونا أوسع أدباء القصة شهرة عند جمهور القراء، فلجمهور القراء حكم ربما اختلف عن حكم النقاد فيما بعد. وجمهور القراء في ألمانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان يؤثر أن يطالع لكاتبين آخرين، هما «فريتاج» و«سبيلهاجن».

وأول ما أريد ل «فريتاج» أن يدرس ليكون أستاذا متخصصا في العلم، ودرس أديبنا الآثار، وخصص له منصب في جامعة «برسلو»، لكنه لم يلبث أن ترك حياة العلم الجامعي ليجول في عالم الأدب والصحافة، وكان قد أصدر بالفعل بعض المسرحيات التي أهمها «الصحفيون»

5

وهي بغير شك من أروع الملاهي التي تصادفك في أدب ألمانيا إبان القرن التاسع عشر، وهي - على الرغم من معالجتها لأمور سياسية كانت تتعلق بعصرها، ومن وصفها لمنافسة نشبت بين صحيفتين إذ ذاك - لا تزال ملهاة يراها النظارة في المسرح فتملؤهم غبطة وسرورا، وهذا يكفي وحده دليلا على جودة فنها في حبك المواقف التي تثير الضحك بحكم تكوينها، وفي إدارة الحديث بين الأشخاص.

على أن مجده الأدبي إنما ينبني على آيتين أخريين، أما أولاهما فقصة «ما له وعليه»

6

التي أراد بها أن يصور ألمانيا العاملة، فقد سئم هذه الدعوات النظرية التي أنفق أعضاء «ألمانيا الفتاة» جهدهم في نشرها، وجعل رسالته في هذه القصة استحثاث الطبقة الوسطى أن تنفض عن نفسها غبار التراخي والكسل، وأن تؤمن بقدسية العمل. فلا هو مما يسئم ولا هو مما ينزل بقدر العاملين. هو في هذه القصة يحاول أن يقنع قارئه أن رجلا عاملا من الطبقة الوسطى خير من شريف كسلان من أهل الطبقة العليا. وأما قصته الأخرى فهي «المخطوط المفقود»

7

وقد أراد أن يصور بهذه القصة حياة عالم جامعي، تبدأ القصة بأن أستاذا يفتقد مخطوطا فلا يجده، ويظل يبحث عنه بحثا أدى به إلى إهمال زوجته، ويحب الزوجة أمير، وأخيرا ترزق الزوجة من زوجها ولدا يعوض على الوالد الأستاذ مخطوطه المفقود. (7) فريدريش سبيلهاجن

Friedrich Spielhagen (1829-1911م)

لم يكن «سبيلهاجن» مثل زميله «فريتاج» عدوا ل «ألمانيا الفتاة» وما كانت تروج له من الآراء النظرية، بل كان متأثرا بها وبآرائها تلك، فلم تكن القصة في يديه إلا مناقشة آراء! إذ هو يختار أشخاصه بحيث يمثل كل منهم مذهبا فكريا معينا، ويدافع عنه، وبهذا جاءت قصصه تعليمية إلى حد كبير، أو قل لم تكن القصة عنده فنا مقصودا لذاته، بل قصد بها أن تكون أداة لنشر فكرة أو أفكار معينة يريد لقرائه أن يعتنقوها. ومن أهم قصصه «غمار الناس»

8

التي كان يرمي بها إلى إصلاح الطبقات العاملة ومحاربة أصحاب رءوس المال. وتنتهي القصة نهاية مفجعة؛ فقد أراد الكاتب لأمر ما أن يجعل أمله في إصلاح المجتمع لا يتحقق، ويموت بطله في مبارزة. وله كذلك قصة «المطرقة والسندان»

9

وقصة «طوفان العاصفة»

10

ربط فيها علاقة بين الأزمات المالية التي اجتاحت ألمانيا بعد الحرب الفرنسية الألمانية وبين عاصفة عنيفة هبت على بحر البلطيق.

عاش «سبيلهاجن» حتى عمر، وجاء الجيل الجديد فوجده يكتب على أساس عتيق، فلم يرض عما يكتبه. (8) ريتشارد فاجنر

Richard Wagnenr (1813-1883م)

شهدت الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر نصرا عظيما تحرزه ألمانيا على عدوتها فرنسا؛ فشهدت نتيجة لهذا النصر أمة ألمانية تتحد أجزاؤها. فإن كان لأديب أن يكتب فإما أن يكتب ليعبر عن الروح القومي الجديد، وإما أن يكتب على غير هذا الأساس فلا يجد لكتابته قارئا. وكان «فاجنر» أول أديب يغذي في قومه هذا العنصر الجديد.

ولد «فاجنر» في ليبزج، وأبدى منذ نعومة أظفاره بوادر تنم عن موهبة في الموسيقى، ثم لم يكد يفصح عن نفسه حتى أحب المسرح وأدبه. وقرن الموسيقى بالمسرح؛ فجاء إنتاجه مؤلفا من هذين العنصرين على نحو يستحيل معه أن تتحدث عن أدبه بغير موسيقاه. إنه شاعر بدأ بشعره عهدا جديدا في الأدب الألماني ، هو شاعر خلق لشعره صورة فنية لم يسبقه إليها شاعر آخر، وإنها لصورة فنية تتبلور فيها خصائص الألمان دون سائر الشعوب، ولعلها أهم ما أضافه الألمان إلى تراث العالم في الفنون، لكنه على عظمته الخالدة، لن يجد المكان الذي هو جدير به هنا في هذا الكتاب، لأن الشاعر فيه - كما قلنا - جزء لا يتجزأ من الموسيقى، ولأن «فاجنر» بغير موسيقاه ليس من «فاجنر» في قليل أو كثير. اقرأه أدبا خالصا بعيدا عن الآلات الموسيقية التي تعزفه، فلن تجد في أكثر شعره ما يستحق أن يخلد . إن «فاجنر» على حقيقته يجد مكانته الصحيحة في كتاب يؤرخ للموسيقى لا في كتاب يؤرخ للأدب؛ هو من أسرة «موزار» و«بيتهوفن» لا من أسرة «جيته» و«شلر»، وإذن فلا يسعنا ها هنا إلا أن نشير إلى عظمته دون أن نذكر شيئا عن رسالته.

القسم الرابع

الأدب الروسي في القرن التاسع عشر

لم نذكر شيئا عن الأدب الروسي في الأجزاء الماضية، ونحن إذ نبدأ لك قصته من أوائل القرن التاسع عشر، لا يفوتنا أن نذكر شيئين: الأول هو أن الأدب الروسي لم يبدأ في أول القرن التاسع عشر بدءا جاء بعد عدم وخلاء، إنما سبقت ذلك البدء خطوات كانت جديرة بالذكر لولا ما تحتمه طبيعة هذا الكتاب. والشيء الثاني هو أن النهضة في الروسيا لم تبدأ مع النهضة في سائر الأقطار الأوروبية، أي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بل تأخرت ما يزيد على قرنين، وتستطيع أن تقول إن نهضتها الأدبية الحقة لم تثمر إلا في بداية القرن التاسع عشر، وأما قبل ذلك فكان عصرا تصاغ فيه اللغة وتنشد فيه الملاحم. وإنها لظاهرة تستوقف الباحثين أحيانا: لماذا تلكأت الروسيا في الطريق دون سائر الأمم الأوروبية؟ لماذا شهد الجانب الغربي من أوروبا من أشعلوا له منار العلم ووسعوا له أفق المعرفة من أمثال ديكارت وجاليليو ونيوتن وكولمبس، على حين لبثت الروسيا بعد ذلك قرونا في ظلمة الجهل والتخريف؟ ومما يقال تعليلا لهذه الظاهرة أن أهل الروسيا خلال تلك القرون الحالكة من تاريخها كانوا يحيون حياة تشبع الحس؛ فكان حتما أن يتأخر الفكر. ومهما يكن من أمر هذه الظاهرة وتعليلها، فنحن إنما يعنينا من الأدب الروسي ما كان حيا ناهضا، وهذا الأدب الحي الناهض - بعد استثناءات قليلة - قد ظهر مع بداية القرن التاسع عشر.

ولا نحسب القارئ - إذ نذكر له بداية القرن التاسع عشر - إلا ذاكرا ما أسلفناه له عن هذه الفترة الأدبية في إنجلترا وفرنسا وألمانيا؛ فقد ذكرنا له في هذه الحالات كلها أنه كان أدبا ابتداعيا عرف بخصائص معينة حاولنا تلخيصها في أول هذا الكتاب، لكن الأدب الروسي في هذه الفترة نفسها لم يسر في الطريق عينها ولم يتسم بالخصائص التي تميزت بها الآداب الأوروبية عندئذ، إلا خاصة واحدة، لعلها كانت في الأدب الروسي أبرز وأوضح منها في سائر الآداب الأوروبية، وهي الثورة على الماضي وجهاد الأدباء في سبيل التحرر من أوضاع القديم. ومما يستلفت النظر في هذا الصدد أن عناصر التجديد وعناصر التقليد أخذت في الروسيا وضعا مقلوبا بالنسبة لما حدث في سائر الأقطار الأوروبية؛ ففي هذه الأقطار كان الثائرون من الشعب وكان الجامدون من الطبقات العليا، وهذا ترتيب معقول، لأن الطبقات العليا هي التي كان يهمها أن تظل الأمور على وضعها الذي مكن لهم من العلو والارتفاع، أما في الروسيا فكان دعاة التجديد من العلية وكان الجامدون من غمار الشعب.

الأدب الروسي في القرن التاسع عشر

(1) إسكندر بوشكين

Alexander Pouchkine (1799-1837م)

حين بدأ «بوشكين» يقرض الشعر في بلاده، كانت أوروبا الغربية تضطرب وتموج بأعقاب الثورة الفرنسية وبالدعوة ينطلق صوتها من كل ناحية بالحرية، فلا يصل إلى الروسيا من تلك الصرخات الداوية إلا أصداء خافتة؛ فلعلها كانت في شغل عن تيار الحوادث تستجمع من أعماق ماضيها المظلم ما عسى أن يصادفه العبقري من عناصر وخيوط، فيصوغها وينسجها على نحو يصور لبلاده وللعالم أجمع شخصية جديدة وفكرا جديدا وشعورا جديدا تتسم به الروسيا فتتفرد به دون سائر الأقطار. وقد كان «بوشكين» من الألى صاغوا هذه الشخصية الجديدة وهي لم تزل في دور نشأتها. ولئن كان «بوشكين» يمثل شخصية بلاده وسماتها، فلا ينبغي أن يتخذ القارئ من ذلك دليلا على أنه لم يكن شاعرا إنسانيا يعلو بأدبه عن ظروف الزمان والمكان، ويتجه بقلمه وشعوره نحو الإنسان أنى كان وكائنا من كان؛ إذ ليس ثمة من تناقض بين الوجهين، فقد ينظر الأديب إلى الإنسانية كلها خلال أمته وحدها، بل خلال أسرة واحدة أو فرد واحد.

تتصل حياة شاعرنا «بوشكين» بنتاجه الأدبي اتصالا بحيث لا يمكن التحدث عن جانب منهما دون جانب؛ فقد عاش الشاعر كل سطر جرى به قلمه، فجاءت آثاره أقوى ما تكون الآثار الأدبية دليلا على شخصية الكاتب ومزاجه وعناصر تكوينه، فهو روسي تجري في عروقه دماء أفريقية تحدرت إليه من جده لأمه وهو زنجي كان في حاشية بطرس الأكبر، وأما أبوه فقد كان رجلا من الأشراف في عهد «كاترين الثانية» وكان له ما للأشراف من حاشية رقيقة ومعرفة منوعة عن أشياء معينة لا بد لرجل الطبقة الرفيعة من الإلمام بها، وكان متأثرا على وجه أخص بآراء فولتير، وبالثقافة الفرنسية عامة، فأعد لابنه من المعلمين من ثقفوه على النحو الذي أحبه أبوه، وقام هؤلاء المعلمون بواجبهم على خير وجه، حتى إن تلميذهم - في رجولته - كتب في رسالة لصديق يقول: «سأكتب لك بلغة أوروبا (أي الفرنسية) لأني أعرف بدخائلها مني بلغة بلادي.»

كان «بوشكين» وهو طالب أميل إلى الأدب منه إلى مواصلة درسه، فبينما تراه ينشر القصائد التي تصادف الاعجاب، ترى أساتذته لا يبشرون ذويه بمستقبل زاهر. ولم يكد يغادر معهده حتى ساهم بنشاطه في جماعة أدبية سياسية؛ ينشئ القصيدة ويتلوها على زملائه - وكان منهم الناقدون الذين يعتد برأيهم - فيدهش الزملاء لما يرونه في إنشاء الفتى من طابع جديد. وما هو إلا أن نشر الشاعر قصيدة كلها إفك وفحش حتى كادت تودي به إلى مطارح النفي في سيبيريا، لولا أن توسط له شاعر كانت له مكانته إذ ذاك، هو «كرمزين»

1

فاستبدلت الأقاليم الجنوبية بسيبيريا. وشاء الله أن يكون هذا النفي للشاعر خيرا وبركة، لأنه استبدل برفقة الشر في بطرسبرج رفيقين كان لهما أبلغ الأثر في نتاجه الأدبي، وهما جبال القوقاز أولا والشاعر الإنجليزي «بيرن» ثانيا؛ فقد أنشأ في منفاه قصائد نمت عن مبلغ نبوغه من ناحية، وأضفت على خطايا ماضيه ظلا من العفو من ناحية أخرى. فمن وحي القوقاز و«بيرن» استمد الشاعر قصائده «سجين القوقاز» و«ينبوع باكتشسارى» و«الغجر» والأجزاء الأولى من آيته الكبرى «يوجين أونيجين»

2

فهو في قصائده تلك استمد مناظره من القوقاز وطرائق التعبير من «بيرن»؛ «سجين القوقاز» شبيهة بقصيدة «بيرن» «تشايلد هارلد» لولا أنها تزيد عليها في غزارة العاطفة؛ و«ينبوع باكتشسارى» وصف للصراع يقوم بين نظامين اجتماعيين، نظام الزوجات العدة اللائي يكن للرجل «حريما»، ونظام الزوجة الواحدة التي ينشئ الرجل بناء أسرته على أساس حبها. وفي قصيدة «الغجر» يصور الشاعر بطله بحيث يجعله يفر من أوضاع المجتمع فرارا، لأنها تقوم كلها على الجمود والخداع، وبطله هذا هو في الحقيقة صورة صادقة ل «بيرن» الذي اهتدى الشاعر بهديه، ولكنا يجب هنا أن نذكر أن «بوشكين» لم يتأثر ب «بيرن» إلا من حيث ظاهره، أعني أنه حاكى «بيرن» في شذوذه وفي إسرافه في فرديته التي تحدى بها تقاليد المجتمع وأوضاعه، لكنه لم يتغلغل إلى أعماق الشاعر الإنجليزي ليتقمص روحه.

طرد «بوشكين» من مدينة بطرسبرج لأنه - كما أسلفنا - لم يراع الأوضاع الخلقية في إحدى قصائده، وها هو ذا يقترف جرما اجتماعيا آخر وهو في منفاه من الإقليم الجنوبي من روسيا، وذلك أن رحالة إنجليزيا صادفه في مدينة أودسا، وعرفه بشيء من شعر «شلي» الشاعر الإنجليزي، فما هو إلا أن قرأ «بوشكين» قصيدة شلي «برومثيوس الطليق» حتى تأثر بما فيها من نزعة تميل إلى الإلحاد، ثم بالغ في ذلك وأسرف، حتى لم يتورع عن إعلان إلحاده، فلم يدر أولو الأمر ما يصنعون به سوى أن أرسلوه إلى أبيه في قرية صغيرة نائية ليكون مسئولا عنه، وشدد الوالد من ناحيته الرقابة على ولده المتمرد؛ فكان يطالع خطاباته ويمنعه من زيارة أصدقائه. لكن الشاعر الثائر حطم من هذه القيود بعض الشيء، وأخذ يخالط الأصدقاء، ويتصل بالأدباء، ومضى في إنشاء كبرى آياته «يوجين أونيجين».

تتألف قصيدة «يوجين أونيجين» من سبعة آلاف بيت، تدور كلها حول موضوع تافه تعجب كيف استطاع الشاعر أن يجعل منه آية رائعة، فأونيجين أراد العزلة في مكان ريفي، حيث عرف فتاة اسمها «تاتيانا»، لم يبدأها بالحب، بل أراد أن ينظر إليها من عليائه نظرة يخالطها ازدراء، فهاجمته هي بخطاب أعلنته فيه بحبها له، لكنه يجيبها نافرا بقوله إنه لم يكن الرجل الصالح لحبها، ويفترقان، وتنسلخ أعوام، ويجتمعان مرة أخرى، حيث يجد الرجل نفسه في حضرة أميرة جميلة، إلى جانبها زوجها، ومن حولها الحاشية والمعجبون، ويدرك الرجل أن الأميرة هي فتاته الأولى «تاتيانا»، فيكتب لها هو بحبه هذه المرة بدل أن تكتب له، فتجيبه على نحو شبيه بما أجابها به في المرة الأولى «لا أستطيع أن أهبك نفسي، لقد أحببتك وما أزال أحبك، لكنني متزوجة ولزام علي أن أصون عهد الزواج.» هذه هي القصة، وهي - كما ترى - من البساطة بحيث يستحيل على شاعر فرنسي أو إنجليزي أو ألماني أن يتخذ منها موضوعا لما يشبه الملحمة الطويلة، لكن شاعرنا روسي وما لا يصلح هناك يصلح هنا، ففي هذه البساطة شيء من صميم الروح الروسي، ولا عجب أن ترى بعض السهول في تلك البلاد لم يغدق عليها الله كثيرا من أنعمه، ومع ذلك ينظر أهلها إليها فإذا هي في أعينهم جنة فيحاء. ولعل أبرز ما يستوقف النظر من هذه الآية الأدبية، صورة «أونيجين»؛ فهو نمط لشخص لا يمكن أن تراه إلا في الروسيا، لسبب بسيط جدا، وهو أنه روسي صميم؛ هو صورة للروسي من الأشراف الذي وضعته حياته بين جماعة من الناس حيث لا يعرف لنفسه صناعة يمارسها، فإذا هو أخرج من هذه البيئة كانت حيرته أشد وأصعب، هو رجل من الأشراف الذين كان عليهم بحكم موضعهم من المجتمع أن يخدموا القيصر، فإذا أنت حررتهم من هذه العبودية للقيصر لم يعرفوا ماذا يصنعون بهذه الحرية التي ظفروا بها، مثلهم في ذلك مثل الزنجي الذي لم يصب شيئا من مدنية أو علم، أهديت إليه مذياعا له قيمته عند من يعرف كيف يستخدمه. هو رجل روسي من طبقة الأشراف يدرك تمام الإدراك أنه يحيا حياة فارغة عقيمة، ولكنه في الوقت نفسه لا يدري كيف سبيل الخلاص مما أراد له المجتمع أن يكون، فترى «أونيجين» - على يدي «بوشكين» - يحاول محاولات عدة، فيجيد البداية ثم يعجز دائما عن بلوغ النهاية في أي عمل يبدؤه، وهو دائما في موقف من يرتقب حدوث شيء يغير له الحياة، لكن شيئا لا يحدث، وتمضي حياته على هذا النحو عاما بعد عام، حتى إذا ما بلغ مرحلة متأخرة بعض الشيء من عمره، ورأى عبث الحياة التي يحياها، صمم أن يحب كما يحب سائر عباد الله، لكن الحياة تجيبه في نغمة الهازئ: «لقد فات أوانك، انظر إلى وجهك، لقد تجعد إهابه.» وقل كذلك عن شخصية «أونيجين» إنها تصور الروسي إذا تحضر وباعدت الحضارة بينه وبين غمار الناس من بني وطنه، فتراه يتيه بفكره بين المذاهب النظرية، فآنا يلوذ بالاشتراكية أو الشيوعية، وآنا لا يجد الخلاص إلا في الفوضى التي تهدم كل أركان المجتمع؛ كل ذلك سعيا وراء مثل أعلى يلتمسه ولا يراه. والحقيقة أن شخصية «أونيجين» فيها هذا كله وأكثر، لأن «بوشكين» عرف كيف يصوره بحيث يستوعب به الحياة الروسية في شتى أصولها وعناصرها؛ ما خفي منها وما ظهر.

وكذلك «تاتيانا» التي أحبت «أونيجين» يتمثل في شخصها صورة المرأة الروسية من حيث قوة العزم الذي يساير الرقة والرشاقة في غير تناقض بين الصفتين، وكذلك هي تصور المرأة الروسية في إخلاصها لواجبها، وهي خلة ورثتها المرأة الروسية على تعاقب الأجيال؛ إذ كانت الحرب تدعو الرجال إلى ميدان القتال فيقع عبء الأسرة عليها. وهنا نحب أن نلاحظ للقارئ أن «بوشكين» استعار كثيرا جدا في تصويره لشخصية «تاتيانا» من «روسو» في كتابه «هلويز الجديدة»، بل إن كثيرا من الأجزاء لا يزيد على ترجمة صريحة من هذا الكتاب، ومع ذلك لم تنقص قيمة الأثر الأدبي بهذا النقل، لأن الأديب عرف كيف يستفيد من العناصر المستعارة في تصوير شيء جديد.

على أننا إذ نزعم أن «بوشكين» قد صور الحياة الروسية في «يوجين أونيجين» إنما نريد بصفة خاصة جانبا معينا؛ هو جانب الحياة كما رآها «أونيجين» أي كما كانت تبدو للرجل من طبقة الأشراف، الذي كانت الحياة عنده تعني أن يخطر مختالا في الشوارع الكبرى، وأن يتناول غداءه أو عشاءه في المطاعم الفاخرة، وأن يقضي مساءه في مسرح أو مرقص ، وكان الشعور الرقيق عنده يعني أن يحسد موج البحر على ما ينعم به من سعادة وهو يلطم قدمي مرأة حسناء. فلئن عدت قصيدة «يوجين أونيجين» بمثابة الموسوعة التي تصور كل ما في الحياة الروسية، فلا بد أن نذكر أن الحياة الروسية في صميمها إذ ذاك - أعني حياة الأشراف - كان قوامها طعاما وشرابا ورقصا وذهابا إلى مسارح التمثيل وضيقا بالحياة وحبا للنساء على سبيل التسلية في أوقات الفراغ، ثم تألما لما لا بد أن ينتهي إليه هذا النوع من الغرام العابث أو ذلك اللون من الضيق بالحياة الذي أساسه التعطل عن أداء عمل مفيد. تلك كانت الحياة في طبقة الأشراف، وإلى هذه الطبقة اتجه «بوشكين» بعينيه تلاحظان، وبقلمه يسجل.

كان «بوشكين» أول أمره معنيا بالحياة الروسية، يريد أن يصورها في أدبه ليصلحها؛ لكنه عاد فأدرك أنه إنما ينفق مجهوده عبثا، «فلقد أراد لي الشيطان أن أولد في هذه البلاد بما وهبني الله من نبوغ ومن قلب.» هكذا قال عن نفسه، حين اعتزم أن يأوي إلى حظيرة الأدب للأدب ذاته، فدرس «جيته» ثم درس «شيكسبير» إلى جانب دراسته للشاعر الروسي الذي سبقه إلى الوجود وعاصره بعض الحين «كرمزين» وأخذ في عزلته - حيث كان لا يزال في منفاه من الإقليم الجنوبي من روسيا - يعوض لنفسه نقص دراسته، وفي هذا الوقت نفسه، أخذت مربية عجوز في دار أبيه، تقص عليه شيئا من الأساطير الشعبية. ومضى «بوشكين» في إنتاجه الأدبي متأثرا بهذا كله، فكتب «بورس جودونوف»

3

الذي صور في شخصه رجلا جمع ثلاثا من شخصيات شيكسبير، هم «رتشرد الثالث» و«ماكبث» و«هنري الرابع»، وكذلك كتب رواية عن رجل من الأشراف، أسماها «الكونت نولين»

4

استلفتت الأنظار في بطرسبرج، وبلغ أمرها القيصر؛ وما هي إلا فترة قصيرة تمضي بعد ذلك، حتى يأتي رجال الشرطة فيحملون الأديب في عربة إلى «بطرسبرج» ليمثل بين يدي القيصر، وهنالك تاب واستغفر، فعفا عنه القيصر، وأذن له أن يقيم في بطرسبرج إذا شاء، فانغمس أديبنا في حياة المتعة الجسدية وذهب عنه الوحي الشعري، إلا قليلا. (2) ميخائيل ليرمونتوف

Michael Lermontov (1811-1841م)

وهذا شاعر آخر، كان لجبال القوقاز وللشاعر الإنجليزي «بيرن» أكبر الأثر في حياته وإنتاجه، كما كان لهما أكبر الأثر في حياة «بوشكين»، وهو كذلك من أسرة نبيلة، ترجع أصولها إلى اسكتلندة. وقد تعهدت تربيته مربية ألمانية ومعلم فرنسي جعل منه رجلا يعبد نابليون ويحكم على الأدب بالذوق الفرنسي، لكنه مع ذلك لم يستطع أن يباعد بينه وبين الأساطير الشعبية الروسية التي رأى الشاعر فيها جمالا لم يعدله شيء في الأدب الفرنسي كله، ثم هو كذلك - مثل «بوشكين» - لم يفلح في دراسته وطرد من الجامعة، ليلتحق بالجيش عامين عاش خلالهما كما يعيش سائر الضباط، لولا أنه «أضاف إلى خمره شيئا من الشعر» وله في هذه الفترة بعض الآثار الأدبية، من بينها صورة شرقية أطلق عليها «الحاج أبرق»

5

كان متأثرا فيها بشعر «بيرن».

كان «ليرمونتوف» متشائما في نظرته إلى الحياة، وعبر عن تشاؤمه هذا في خير إنتاجه الأدبي «الشيطان»، ولعل مصدر ضيقه بحياته عقدة النقص التي استولت عليه ولونت وجهة نظره، والتي نشأت عن قبح تكوينه الجسمي وربكته كلما وجد نفسه في جماعة من الناس، حتى إنه كثيرا ما كان ينعقد لسانه ويرتج عليه القول؛ فأدت به عقدة النقص هذه إلى الشعور بالمرارة النفسية والحقد على سائر الناس والنفور من المجتمع، كما أدت إلى نتيجة طبيعية أخرى وهي أن يمقته الناس. كان إذا ما تعقب امرأة بغزله وعاطفته، فإنما يصنع ذلك ليهجرها في اللحظة التي تستجيب لغزله وعاطفته، فكأنما هو يحب ليكره، أو كأنه أراد بذلك أن ينتقم من عدوه الإنسان. نقول إن هذه النظرة السوداء وجدت سبيلها إلى التعبير في قصيدة «الشيطان» التي أنشأها وهو في منفاه بجبال القوقاز، فقد زاد الشبه بين حياته وحياة «بوشكين» بنفيه إلى القوقاز عقابا له على قصيدة أنشأها في بطرسبرج، وأثارت غضب أولي الأمر؛ فاتخذ من مناظر الطبيعة في القوقاز بطانة لقصيدته كما فعل من قبله «بوشكين»، والفرق بينهما في ذلك هو أن «بوشكين» كاد أن يصف المناظر وصف العالم الجغرافي الذي يتحرى دقة الوصف، أما «ليرمونتوف» فلا يعنى بدقة التفصيلات بقدر ما يعنى بإخراج الطبيعة في صورة كائن حي يكاد يهتز بفعل العاطفة كما يهتز بفعلها الإنسان. ومما يلاحظ على تصويره للشيطان أنه أخرجه في صورة تختلف كل الاختلاف عن الشيطان في قصيدة «ملتن» الفردوس المفقود، كما تختلف عن الشيطان على يدي «بيرن»، فشيطان «ملتن» و«بيرن» يعذب الإنسان، ولكنه يعلو به في معركته نحو الحرية والمعرفة، أما شيطان «ليرمونتوف» فعلى الرغم من أنه يعلن أنه «أمير العرفان والحرية» فهو لا يصنع شيئا يبرر به هذه التسمية، بل هو يؤسس ملكه في نطاق الشهوات الإنسانية واللذائذ الحسية أكثر مما يقيمه في دائرة الطموح الفكري.

عاد «ليرمونتوف» من منفاه في القوقاز إلى بطرسبرج ومعه قصيدتان؛ «الشيطان» و«أغنية عن إيفان» التي رسم فيها صورة «إيفان الفظيع» أحد قياصرة الروسيا في القرن السادس عشر، كما صورته الأساطير والأشعار التي قيلت فيه، فيقدم لنا الشاعر في هذه القصيدة صورة لمبارزة حضرها القيصر بين تاجر من موسكو ورجل من رفقاء القيصر انتهك حرمة زوجة التاجر، وضرب التاجر عدوه في المبارزة ضربة أردته قتيلا، فجيء به إلى القيصر: - ألم تكن ضربتك له عن عمد؟ - نعم أيها القيصر، قتلته بإرادتي، ولن أنبئك لماذا قتلته، لكني سأبوح بالدافع أمام الله وحده. - لقد أحسنت صنعا، أيها الصديق، أيها المصارع الجريء، أيها التاجر ابن التاجر؛ لقد أحسنت صنعا إذ أجبتني بما يرضي منك الضمير، وسأغدق من مالي على زوجتك وبنيك الأيتام، وسأبيح لإخوتك أن يتنقلوا بتجارتهم في طول البلاد وعرضها، وإنها لملك فسيح الأرجاء، دون أن يدفعوا عن ذلك ضريبة، أما أنت يا صديقي، فاذهب إلى المشنقة، واستصحب معك إليها رأسك الثائر، وسآمر بحد الفأس أن يسن، وبالجلاد أن يرتدي خير ثيابه وأحسن زينته، وبالناقوس الكبير أن يدق، ليعلم أهل موسكو جميعا أنك أنت كذلك كنت موضع رحمتي.

وهكذا مضى الشاعر في قصته المنظومة، فجاء فيها بوصف وحوار وتصوير بلغ الغاية من القوة والإجادة في بساطة لا تكلف فيها ولا تصنع.

وله كذلك مجموعة من قصص نثرية أطلق عليها «بطل زماننا»، قيل إنه يصور نفسه فيها إذ يروي قصة حياته، والحقيقة أنه صور زمانه في شخص من خياله، مستفيدا في ذلك طبعا بتجاربه؛ وهو في هذا الكتاب متأثر بكتاب الشاعر الفرنسي «ميسيه» «اعترافات ابن العصر»، ولو أنه كانت تعوزه بعض صفات «ميسيه» كالصراحة التي لا تخشى من إعلان الحق، والدقة المرهفة التي لا تفوتها ألطف الخواطر والمشاعر. (3) نقولا جوجول

Nicholas Gogol (1809-1852م)

نشأ هذا القصصي النابغ حين كانت تكتنف الروسيا رجعية قاتلة، ولم تكن الروسيا في تلك الرجعية بمعزل عن سائر الأقطار الأوروبية، بل هي روح عامة شملت القارة كلها عقب الثورة الفرنسية وحروب نابليون. وما ظنك بدولة تعلن رسميا أنها ستحمل أساس دستورها طغيانا صارما ورقابة على اللسان والقلم؟ وما هي إلا أن تلبي الصحافة هذه الدعوة، بل ما هو إلا أن يصغي المجتمع كله صاغرا لهذا الصوت الرجعي الذي يناديه؛ فسار الأدب والشرطة يدا في يد صديقين تآزرا على قتل التجديد والثورة على القديم، وكأنما تسابق الأدباء أيهم يكون أشد جمودا وأكثر استسلاما. ولقد نقد ناقد كاتبا من الكتاب إذ ذاك بأنه كان يكتب ما يؤمر به، فأجابه الكاتب بقوله: «لو أمرت غدا أن تكون صناعتي توليد النساء لصدعت بالأمر.» ونهضت جماعة أدبية رجعية تدعو إلى إعادة المجد القديم لاتخاذه مثلا أعلى للحياة الحاضرة، فكان ذلك في الحقيقة ستارا يخفي وراءه جمودا يريد أن يقلم أظافر الحرية الفردية ويقص جناحيها، وإذا أنت منعت الحرية الفردية عن السير إلى الأمام فقد طمست مبادئ الحضارة الإنسانية التي لا حضارة بغيرها.

في هذا الجو الفكري ولد «جوجول» لأب مزارع يملك أرضه التي يفلحها، ولم يكد ينخرط في سلك معهده الدراسي حتى بدت عليه بوادر الأدب القصصي والروائي قوية ناصعة، فنشر في مجلة المعهد قصة تسلسلت حلقاتها في أعداد متتابعة، ثم نشر في هذه المجلة أيضا مأساة لم يكن فيها قوي الأصالة والابتكار. وكل من القصة والمأساة تأثر فيهما بالأدب الألماني، على الرغم من أنه ما فتئ يعلن لإخوانه مقته «للرياضة، واللغتين اليونانية واللاتينية، والألمان». فقد كره الألمان كراهة بثها فيما بعد في تصويره لشخص في إحدى قصصه أطلق عليه «شلر» وخلع عليه ما كان يعتقد أنه يصور الخلق الألماني، وأهم جوانبه التقتير من ناحية والإسراف في النظام من ناحية أخرى، فجعل «شلر» في القصة يجدع أنفه ليوفر ثمن النشوق الذي اعتاد أن يتنشقه، ثم جعله يبالغ في تنظيم حياته فلا يضع الفلفل في طعامه إلا بعد وزن وتقدير وحساب.

ترك الجامعة وله من عمره ثمانية عشر عاما، مصمما أن يؤدي لأمته عملا جليلا يخلد به؛ فهو في تلك السن الباكرة أدرك أنه عبقري وأن الناس أساءوا إلى عبقريته ولم يقدروها قدرها. وقد كانت تستولي عليه خلتان رئيسيتان أخذتا تضخمان في نفسه حتى أصبحتا قوام شخصيته كلها، الأولى زهد فيما يقبل عليه الناس من أسباب المتعة، والثانية رغبة قوية في القوة والسيطرة، بهذه الروح أخذ سمته نحو بطرسبرج، حيث استخدم في إحدى وظائف الدولة الصغيرة، ثم لم يلبث أن تركها بعد أن ملأ جعبته من أنماط الشخصيات التي صادفها في دواوين الحكومة؛ الشخصيات التي تنتفخ أوداجها بأبهة المنصب! واضطرب أمره حينا، فآنا يعتزم التمثيل، وآنا يرتحل ويسافر، وتارة يخلد في داره ليكتب شعرا في حبه الفاشل، متوهما أن أيدي القراء ستتلقفه من نافذات المكاتب، وإذا به يعرض في نافذات المكاتب حينا لا تمتد إليه يد واحدة بالشراء، فيجمعه ليشعل فيه النار في غرفة استأجرها لذلك.

هذه الصدمات وأشباهها كثيرة الحدوث لمن يبدأ حياته الأدبية من الشباب، لكنها قليلا ما تنتهي إلى مثل ما انتهت إليه عند «جوجول»، فقد أدى به الأمر إلى إخراج آية أدبية هي «أمسية في مزرعة دكانكا»، نشرها وعمره اثنان وعشرون عاما، فنزلت في المحيط الأدبي نزول الصاعقة، فما شهد الأدب الروسي شيئا كهذه من قبل. صور فيها «أوكرانيا» وجعل هذه البلاد تحيا وتتحرك، جعلها تنعكس على مرآته دقيقة الملامح جذابة المحيا في آن معا، جعلها تدوي بأصداء الضحك والغناء، ولكن أديبنا في تصويره لأوكرانيا في هذا الكتاب كانت تغلب عليه عاطفة الشاعر حينا بعد حين، فيبعد بخياله عن الواقع. ولعل أهم ما يؤخذ عليها من نقص هو أنها جاءت صورة كلها بهجة ومرح، وخلت مما لا بد منه؛ إذ خلت من الدموع والبكاء.

وعقب الأديب على كتاب «الأمسية» بكتاب آخر أطلق عليه «ميرجرد»

6

فما إن قرأه الشاعر «بوشكين» حتى حملته النشوة أن يضم الأديب معانقا، فها هنا أكمل «جوجول» وجه النقص في كتابه الماضي، وذلك أنه لم ينس - حين هز أشخاصه بالضحك - أن يمازج ضحكاتهم بشيء من دمع الحزين ونغمة من تهكم الساخر.

ولما بلغ «جوجول» من عمره مرحلة بين عاميه الخامس والعشرين والسادس والعشرين أخرج مجموعة أخرى من القصص، تكاد تتخذ كلها صورة واحدة وطابعا واحدا، وتختلف في ملامحها وسماتها عن قصصه السابقة، فجاءت هذه المجموعة الجديدة بمثابة النموذج الذي ستحتذيه القصة الروسية فيما بعد. وأهم هذه المجموعة قصة «أصحاب الأراضي الزراعية في العهد القديم» وقصة «الدثار» التي قال عنها أديب معاصر ل «جوجول»: «إن «جوجول» بقصته «الدثار» قدم إلينا المعين الذي نستقي كلنا منه.» في هذه القصص نقل أمين عن الحياة الواقعة، فيها تصوير لا يغفل أدق الدقائق مما عسى أن يراه الرائي أو يسمعه السامع، وفيها ما يوصف بأنه «فكاهة روسية» مع أنه في صميمه شبيه جدا بما عهدناه في أرفع آيات الأدب الإنجليزي من فكاهة، ففيها من ذلك - كالذي تجده في «دكنز» - مزيج متعادل من السخرية وحسن النية، مزيج متعادل من الحقد على الإنسان والعطف عليه، من التهكم بالواقع والدعوة إلى ما ينبغي أن يكون. إن التعميم في الأحكام كثيرا ما يؤدي إلى أفحش الخطأ، لكنه أيضا قد يساعد أحيانا على حسن الفهم ودقة التصور. ورجاء أن نصل بالقارئ إلى مثل هذا الفهم الحسن والتصور الدقيق، نجازف فنقول على وجه التعميم، إن أساس الأدب الساخر في الروسيا - كما هو في إنجلترا - الضحك خلال الدموع، أساسه التفكه ببساطة الإنسان وسذاجته تفكها يشعرك دائما أن وراءه عطفا، كما تضحك من براءة الطفل وسذاجته ضحكا بطانته مثل هذا العطف. أما في الأدب الفرنسي فأساس الأدب الساخر مقت الإنسان لغفلته، كأنما يريد الأديب أن يحطم رأس الشخص الذي يتناوله ليسخر منه.

وأصدر «جوجول» بعد قصته «الدثار» رواية «المفتش» فكانت بداية للمسرحية في الأدب الروسي الحديث، كما كانت «الدثار» بداية للقصة بمعناها الحديث؛ وقد أوحى له بموضوع الرواية حادث وقع لزميله الشاعر «بوشكين» إذ استوقفه إبان رحلة من رحلاته مفتش يمثل الحكومة، مع أن رحلة «بوشكين» كانت علمية خالصة يحاول فيها أن يجمع مادة لكتاب كان يؤلفه في التاريخ. هذه الحادثة وأشباهها أثارت في نفس الأديب سخطه على فساد الأداة الحكومية؛ فكتب رواية «المفتش» يعرض فيها هذا الفساد، وموضوعها غاية في البساطة: شاب رقيع في بطرسبرج أراد السفر إلى أهله في الريف ليقضي بعض الوقت، فنفد ماله في الطريق وهو في قرية صغيرة، فأوشك أن يتعرض لخطر السجن لعجزه عن دفع ما كان عليه أن يدفعه من أجور، لولا أن غفلة الموظفين في تلك القرية أوهمتهم أن هذا الشاب مفتش جاء من قبل الإدارة العليا ليفحص أعمالهم ويستخرج أخطاءهم! من هذا الموضوع أنشأ «جوجول» آية فنية، سخر فيها بموظفي الحكومة إذ ذاك أمر سخرية، ورسم في أشخاصها أنماط الموظفين على اختلاف صورهم. وفي قوة استوقفت الأنظار جميعا عرض صورة الطغيان والغرور اللذين وجدهما سائدين في الأداة الحكومية كلها على نحو لم يكن يتخيل أنه بلغ من الفداحة ما بلغ. ولم يكن في هجومه ونقده وسخريته مداهنا ولا مراوغا، إنما وضع خنجره في صميم الداء. والعجب أن من تلقى طعنة خنجره لم يصح صيحة الألم، وإنما ضحك من نفسه وقبل الأمر كله على سبيل التسرية عن النفس في وقت الفراغ! فأذن القيصر «نقولا» بتمثيل الرواية، وحضر أول عرضها على المسرح، وكان في طليعة المصفقين إعجابا! أما أن يفكر أحد في تغيير الأمور تغييرا يزيل عنها ما يثير الضحك وما يبعث على السخرية، فذلك ما لم يقع.

على أن آية آياته هي قصة «أرواح الموتى» التي قال عنها هو إنها «قصيدة من الشعر»، والحق إنها لكذلك لو قست الشعر بغزارة الشعور. وحسبك أن تعرف الفكرة الأساسية التي تدور حولها القصة لتفزع من الفساد الذي ضرب أطنابه، ولتتصور كيف عسى أن يكون أديب قصصي مثل «جوجول» قد تأثر وكتب؛ فبطل القصة «تشيتشيكوف»

7

كان موظفا بالجمارك، واقترف جرائم كثيرة في التهريب، ففصل عن وظيفته؛ وعندئذ فكر في طريقة يجمع بها المال، فرسم لنفسه الخطة الآتية: لكل مالك عدد من العبيد، وتجري القواعد بأن يحصى عدد هؤلاء العبيد على فترات، وكل ما يهم الحكومة أن تعلمه هو أن عدد العبيد عند المالك المعين لم يتغير، فإن مات منهم أحد بلغ المالك عنه، ولكن للمالك الحق في أن يتصرف في عبيده بالبيع أو الرهن، لأن ممثل الحكومة لا يهمه إلا أسماء في قائمة، أما «الأرواح» التي وراء هذه الأسماء، فليست بذات خطر. هنا فكر «تشيتشيكوف» أن يشتري «أرواح الموتى» من أصحاب الأرض بثمن أرخص؛ بمعنى أنه لو مات من العبيد أحد، فالمالك لا ينبئ أحدا عن موته، ويبيع اسمه لهذا المحتال على أنه حي، ويذهب صاحبنا إلى المصارف فيرهن هذه الأسماء على اعتبار أنها تدل على أحياء، والحقيقة أنها أسماء لأموات، لأن العبرة دائما في المصارف والحكومة وما إليها من هيئات هي بقوائم الأسماء. وبهذا استطاع المحتال أن يجمع مالا كثيرا، لأنه سيدفع - مثلا - عن كل ميت خمسة جنيهات بدل خمسين، فإذا ما رهنه للمصرف، أوهم رجاله أنه إنما يرهن لهم شخصا حيا، فيأخذ عن رهنه ما يقرب من ثمنه وهو حي! هذه هي الفكرة الرئيسية التي اتخذها القصصي إطارا لتصوير الفساد في كافة جوانب الأداة الحكومية في بلاده.

كانت رواية «المفتش» وقصة «أرواح الموتى» بمثابة التحقيق الجنائي الذي يكشف عن المجرم، حتى إذا ما ثبت شخصه للقضاة أنزلوا به العقاب. كشف «جوجول» عن فظائع بلاده، فكان كشفه أساسا لثورة تنشأ فيما بعد بغيتها الإصلاح. (4) إيفان تورجنيف

Ivan Tourguéniev (1818-1883م) «تورجنيف» سليل أسرة من نبلاء الريف في الروسيا ، بدت فيه بوادر النبوغ في الأدب وهو لم يزل طالبا؛ فقد أطلع أستاذه على مسرحية منظومة أنشأها، عرف فيها أستاذه أن الأديب الناشئ يقلد «بيرن» الشاعر الإنجليزي، لكنه أدرك كذلك أن الفتى يبشر بمستقبل في الأدب له خطره. ثم ما لبث الطالب «تورجنيف» أن أطلع أستاذه مرة أخرى على قصائد نظمها، وقرأها الأستاذ فلم يشك عندئذ أن بذور الأصالة والابتكار أخذت طريقها إلى النمو، ونشر لطالبه قصائده تلك في مجلة أدبية. ولم يمض طويل وقت بعد ذلك حتى رحل «تورجنيف» إلى برلين ليستأنف دراسته، وهناك خلع رداء الشرق إلى الأبد، واستبدل به دثارا غربيا لم يفارقه حتى ختم الحياة. فلما عاد إلى موسكو كان يقاوم ما وسعته قوته كل عوامل الجمود التي تجعل الروسيا شيئا يختلف في روحه عن الغرب، فحارب في سبيل ذلك جمعية أدبية كانت تدعو إذ ذاك إلى الاستمساك بالتقاليد القومية، ولم يسغ قط روح القيصرية التي اشتملت البلاد ولونتها بصبغة خاصة. ولكن أين الرجاء لرجل واحد يقاوم حركة واسعة النطاق وموجة فكرية تطغى على البلاد بأسرها؟ إنه رجل واحد لم تعترف له الصحف الأدبية بعد بأنه من أصحاب القلم. لكن ما أكثر ما تجد المصادفة في خدمة النبوغ! هذا هو «تورجنيف» يرسل قصة إلى مجلة أدبية عنوانها «خور وكالينيتش» ولا يجد رئيس التحرير ما يملأ به صحيفته، فيدس هذه القصة التي جاءته من مجهول، ولا يعجبه العنوان ، فيضيف إليه من عنده عنوانا آخر «صور بريشة صياد»، فتصادف القصة إعجابا منقطع النظير، وتصبح فيما بعد بداية الحلقات المتتابعة التي تعرف بهذا العنوان الأخير، والتي طارت بذكر الكاتب في الآفاق، وضمنت له المجد والخلود.

هذا النجاح الأدبي الذي لقيه «تورجنيف» لم يغير وجهة نظره حتى يحببه بعض الشيء في الوسط الاجتماعي في بلاده، بل ظل الأديب نافرا يؤذيه كل ما تقع عليه عيناه، وبلغ به النفور حدا لم يطق معه أن يواصل العيش في الروسيا، فغادرها معتزما ألا يعود، وألقى عصاه في باريس حيث أخذ يتابع «الصور» التي تبلور فيها تفرده دون الأدباء ونبوغه في فن الأدب. ولو شئت لفنه وصفا موجزا، فهو فن المصور الذي يرسم بريشته الإنسان والطبيعة التي تحيط به في وحدة متسقة لا ينبو فيها جانب دون الآخر، كأنما خلقت تلك البطانة الطبيعية مجالا لهذا الإنسان، أو خلق هذا الإنسان ليعيش في هذا المحيط الطبيعي. ولعل «تورجنيف» أن يكون أول أديب روسي أدرك أن الفلاح الروسي شيء أكثر من أن يكون موضوعا للإشفاق، وأنه كائن حي له شعوره وتفكيره، وإن تكن له طريقته الخاصة التي ينطبع بها إذا ما شعر أو فكر. وهكذا أراد الله للأديب الذي نفر من بلاده أن يكون أقدر من يصور بلاده، فاستطاع بهذا التصوير البارع أن يكون عاملا قويا من عوامل الانقلاب التي انتهت بقومه إلى شيء من الإصلاح. وقد يكون مما يفيد قارئنا العربي أن نذكر له هنا أن «تورجنيف» حين أراد أن يعالج داء الاستعباد الذي تفشى في الروسيا، لم يذكر الاستعباد بكلمة واحدة! بل كانت طريقته أن يرسم صورتي رجلين فلاحين هما «خور» و«كالينيتش» لاذا بالفرار من وضعهما الاجتماعي الذي كان يقضي عليهما أن يكونا من العمال العبيد في المزارع، أما الأول ففر إلى مستنقع بعيد وخلص من الخدمة الإجبارية بدفعه غرامة تنجيه من ذلك الإجبار، وأما الثاني فخلص من فلاحة الأرض بالتحاقه بطائفة الخدم الذين يعاونون سيدهم في الصيد. وقد جعل «تورجنيف» «خور» يصور الرجل الواقعي، وجعل «كالينيتش» يصور الرجل الخيالي الحالم، لكن كليهما طيب القلب حسن السريرة. فمن صورتي هذين الرجلين يستطيع القارئ أن يستنتج لنفسه كم كان الاستعباد في فلاحة الأرض يستطيع أن يغير منهما لو كانا ليخضعا له! فإن لم تجدهما الآن يتصفان بما تعهده في عمال الأرض الزراعية من غلظة وحوشية وهمجية وخشونة أخلاق، فاعلم أن ذلك مرده إلى نجاتهما مما يخلق في الناس هذه الخلال، وهو الاستعباد الزراعي.

عاد «تورجنيف» في زيارة قصيرة إلى الروسيا، وكتب مقالا في موت زميله في الأدب «جوجول» كان من أثره أن زج في السجن شهرا ولم يطلق سراحه إلا بشفاعة الشفعاء، وبعدئذ استقر في مدينة «بادن بادن» وأخذ إنتاجه الأدبي يسيل من قلمه دفاقا لا ينقطع، وتكاد كل قصصه التي أخرجها في فترة تقرب من عشر سنوات تصور نمطا واحدا من الناس، هو نمط الرجل من النبلاء الذي يكمل نشأة وتربية ثم لا يعمل عملا، مثل هذا الرجل تراه مصورا في «يوميات رجل زاد عن الحاجة» و«فاوست» و«رودين» و«آسيا» و«منزل السادة» وغيرها؛ فأبطال هذه القصص جميعا رجال من سادة الروس، أكملوا دراستهم خارج البلاد الروسية، وأصبحوا ذوي ثقافة وتهذيب لكنهم لم يصلحوا لشيء سوى مغازلة النساء، وحتى هذه المغازلة لا ينبغي أن تذهب بهم إلى حد العاطفة العنيفة، لأن مثل هذه العاطفة تنطوي على جد لم يألفوه، وأس الداء في هؤلاء الرجال جميعا هو أنهم رجال دربت فهم العقول ولم تدرب الإرادة، فأصبحت الفكرة عندهم تطغى على العمل، يفكرون تفكيرا سليما جيدا، لكنهم يعجزون عن التنفيذ.

ولما بلغ الكاتب عامه الثاني بعد الأربعين، تغير اتجاهه الأدبي نوعا ما؛ إذ جرفته حركة قوية كانت تنادي بضرورة أن ينفق الأدباء جهدهم في دراسة المشكلات الاجتماعية. ولبى «تورجنيف» النداء بأن أخذ ينشئ القصة بعدئذ على هذا الأساس، فأنشأ في هذا الباب ثلاث قصص: «على وشك الانقلاب» أخذ فيها يبحث عن نمط الرجل الذي تريده البلاد في عهدها الجديد، بعد أن عرض في قصصه السالفة ألوانا من الرجال لا يصلحون لشيء مما ينفع البلاد؛ لأنهم أعجز إرادة عن النمط المنشود، فنحن اليوم نريد رجالا يعملون. لكنه لم يكد في هذه القصة يجد ضالته، لأنه إذ اهتدى إلى البطل الذي يصوره نموذجا لرجل العمل، إنما اهتدى إلى رجل يستعين على بلوغ غايته بامرأة من ذوي قرباه، ومع هذه الاستعانة بسواه، لم يستطع في النهاية أن يحقق مناه! ثم قصة «الآباء والأبناء» التي أحدثت رجة هائلة في زمانها، وفيها صور شخصية «بازاروف» الفوضوي - وهو أول فوضوي في تاريخ الروسيا - فجمع في شخصه عناصر فكرية وشعورية كانت تضطرب بها البلاد عندئذ، لكنها لم تكن قد وجدت طريقها إلى عالم الواقع بعد، فأخرجها «تورجنيف» في هذا الرجل الذي خلقه بقلمه. ويجعل أديبنا من بطله «بازاروف» - الذي في شخصه تتمثل روسيا الثائرة حين كانت ثورتها في عصر التكوين - رجلا غاية في الذكاء، لكنه الذكاء النظري، الذي يظهر أوضح ما يظهر في بلاغة اللفظ، يجعل منه رجلا يحتقر الفنون ويزدري النساء ولا يؤمن بنظام الأسرة، بل ولا يفهم معنى لكلمة «الشرف»، وهو إذا ما أحب فلا يحب عن عاطفة المؤمن بما يصنع، بل يحب وفي أعماق نفسه سخرية بالحب، ويصادق وفي أعماق نفسه استهانة بالصداقة، ويقال له حب الأبوين وعطفهما على الأبناء فلا يفهم من هذا إلا هراء في هراء. ويجعل أديبنا منه رجلا مليئا بالمتناقضات؛ فتراه يقاتل ويبارز ويعرض حياته للخطر، فإن سألته: فيم القتال والمبارزة! ما عرف لهما سببا داعيا، وفي الوقت الذي تراه فيه يستخف بالشرف والحب والصداقة والأبوة تراه يقابل شخصا لأول مرة فلا يلبث أن يضحي بنفسه في سبيله. ولعل «تورجنيف» في هذا كله كان يصور نفسه، فيصور قومه في غضون صورة نفسه.

وللكاتب كذلك من هذا الضرب الاجتماعي من القصص - عدا قصتي «على وشك الانقلاب» و«الآباء والأبناء» - قصة «الدخان» التي صور فيها الجمود والتجديد وقد تلاقيا وجها لوجه، لكنه هنا جاءنا بشخصيات بعيدة بعض الشيء عن الواقع - ذلك إذا استثنينا شخص امرأة تدعى «أيرين» تعد صورتها آية في تحليل المرأة ونوازعها ودوافعها - وإنما جاء بعده عن الواقع من بعده عن بلاده أمدا لم يعد بعده قادرا على فهم ما انتهى إليه الناس من تغير وتطور.

ولا بد لنا قبل أن نختم القول في قصصه أن نذكر له قصة عظيمة أخرى هي قصة «التربة العذراء» التي عاد فيها إلى محاولة تصوير الرجل الذي تحتاج إليه الروسيا لتنهض من فسادها. وبعدئذ أخذت أيامه تدنو من ختامها، وأخذ المرض يهد بنيته حتى أصيب بأفدح العلل، وها هنا استولت عليه روح تصوفية عبر عنها في قصتين هما «أنشودة الحب الظافر» و«كلاري ملتتش».

لو لم يكن «تورجنيف» مبتكرا مبدعا لما عددناه بين عمالقة الأدب، لكن ابتكاره هذا لا يعني استقلاله عن المؤثرات، بل إن الابتكار في الأدب قل أن يعني ذلك كائنا من كان الأديب؛ فقد تستطيع أن تحلل «تورجنيف» إلى عناصر كونته، فمن الأدب الإنجليزي «ثاكري» و«دكنز» لهما فيه أثر عميق، ومن الأدب الفرنسي «جورج سان» و«فكتور هيجو» ومن الفلاسفة الألمان «شوبنهاور» كل هؤلاء لهم يد طولى في تكوينه الأدبي. (5) فيودور ميخايلوفتش دستويفسكي

Fiodor Mikhailovitch Dostoièvski (1822-1881م)

ولد «دستويفسكي» لأب جراح، وشهد ضوء الحياة أول ما شهده بين جدران المستشفى الذي كان يعمل فيه أبوه. وكانت طفولته عليلة يتعاودها المرض آنا بعد آن، ولكنه مع ذلك استطاع أن يظفر بنجاح متفوق في مدرسة المهندسين، لكن المهندس الناشئ غلبه الأدب فانصرف إليه، لأن الهندسة جاءته عن طريق الدرس، أما الأدب فطريقه إليه الطبع الأصيل.

وبدأت حياته الأدبية بداية لا تخلو من فكاهة ومن عبرة في آن معا؛ فقد كتب قصة كانت باكورة إنتاجه، قصة «الفقراء»، وساقه صديق ناشئ في الأدب مثله إلى أديب من شيوخ الأدب إذ ذاك يقوم على تحرير مجلة أدبية، هو «نكراسوف»، وقدم الصديق صديقه «دستويفسكي» إلى الأديب الشيخ، فاستقبله الأديب الشيخ بنظرة باردة، ولم يدر ناشئنا ماذا يصنع، فقذف بمخطوط قصته قذفا، وخرج مسرعا يتلفت يمنة ويسرة خشية أن تراه أعين الرقباء كأنه لص أتى أمرا إدا، وقصد من فوره إلى جماعة من أصدقائه الشبان، فأخذت جماعتهم تقرأ شيئا من أدب «جوجول» حتى انسلخ الليل كله، وعاد «دستويفسكي» إلى داره مع فلق الفجر، ولم يحس رغبة في النوم، فجلس إلى نافذته يسرح البصر، وما هو إلا طارق يدق جرس الباب، فيفتح له وهو دهش لهذا الطارق المبكر، فيجد نفسه محتضنا بين ذراعي صاحب المجلة الأدبية «نكراسوف»، فقد شاءت المصادفة أن يزور الأديب الشيخ صديقا ناقدا، ويذكر له أن شابا لم يره من قبل قذف أمامه قصة لتنشر، وقرأ الصديقان معا قصة «الفقراء» فأخذتهما بسحرها ، حتى أنفقا الليل كله في قراءتها. ولما أصبح الصبح، لم يطق «نكراسوف» صبرا على هذا الكشف الجديد، وذهب إلى أصدقائه النقاد، يطرق عليهم الأبواب قائلا: جئت لأعلن عن «جوجول» جديد ظهر اليوم في أفق الأدب!

وفعل التشجيع في أديبنا الناشئ فعل السحر، فأخذ يعمل في نشاط متصل عنيف لا يعرف الراحة والهدوء، فعرض صحته للخطر من جهة، وتعجل الإنتاج من جهة أخرى، حتى أصبحت سرعة الإنتاج علامة تميزه وتنتقص من أدبه، فإذا عرفت أنه كان يكتب عشر قصص في آن واحد، عرفت بأية سرعة كان ينتج، وبأي مجهود كان يعمل، لكن هذا التيار الدافق وقف ذات يوم فجأة حين أطبقت عليه مغاليق السجن في بطرسبرج.

اتهم «دستويفسكي» مع جماعة من زملائه بالعمل على الثورة، وزجوا في السجن ثمانية أشهر، ثم جيء بهم إلى ميدان في قلب المدينة، حيث أقيمت المشنقة انتظارا لرقابهم وخلعت عنهم ملابسهم إلا أقلها، في جو كانت حرارته إحدى وعشرين درجة تحت الصفر، وقرئ عليهم ما قضي به في أمرهم، وإذا هو الموت. لم يكد يصدق «دستويفسكي» ما سمعته أذناه، لا بد أن يكون حلما ما سمع، إنه لم تنقض إلا أيام قلائل منذ وضع أساسا لأثر أدبي جديد اعتزم إنشاءه، وأطلع عليه أحد الزملاء في السجن، وتلفت إلى من وقف بجواره وسأله دهشا: أصحيح ما يعلنون؟ أصحيح أننا قادمون على الموت؟ ولم يجب المسئول بغير إشارة من أصبعه وهو صامت إلى عربة قريبة، طرح عليها غطاء، وبدا كأنما تحت الغطاء شيء كالتوابيت! وهبط من أعلن حكم الموت من منصته، وصعد القسيس يحمل الصليب، ويطلب من «المجرمين» أن يبوحوا له بما يريدون أن يبثوه من اعتراف، ولم يفعل ذلك سوى واحد منهم، واكتفى الباقون بتقبيل الصليب «لقد شرعوا السيوف فوق رءوسنا، وألبسونا قمصان من يقضى فيهم بالموت، وربطونا ثلاثة ثلاثة، وكنت ثالث الثلاثة في الصف الأول، فعلمت أنه لم يبق من حياتي إلا دقائق معدودة، ذكرتك عندئذ وذكرت أطفالك (هذا خطاب كتبه دستويفسكي فيما بعد إلى أخيه ) وحاولت أن أقبل زميلي في الصف قبلة الوداع، ثم ما هي إلا أن نفخت ثلة من الجند في أبواقها نفخة، وإذا بالأغلال فكت عن أجسادنا، وأعادونا إلى منصة المشنقة، حيث أعلن معلن أن جلالة القيصر قد عفا.» فقد استبدل القيصر بحكم الموت سجنا يكون فيه العمل الشاق. والعربة التي كان يظن أنها تحمل التوابيت لأجسادهم كانت تحتوي على بذلات يلبسها من يصدر عليه مثل هذا الحكم. وألبسوا هذه البذلات وسيقوا إلى السجن، حيث قضوا سنوات أربعا، أطلق سراحهم بعدها، وعاد أديبنا إلى الحياة من جديد، ولكن كيف؟ عاد من سجنه أسلم بدنا وأهدأ عصبا وأكثر في عقله اتزانا!

استأنف «دستويفسكي» حياته الأدبية، فأخرج قصة «المستذل والجريح»، وعقب عليها ب «ذكريات دار الموتى» وهو يعني بدار الموتى سجنه الذي قضى فيه أربعة أعوام، تقرأ فيه وصف الحياة في ذلك المكان كما شهدها الكاتب، فتنتفض من هولها رعبا. ومما يستحق الذكر هنا أن «البؤساء» - لفكتور هيجو - صدر في نفس الوقت الذي صدر فيه «ذكريات دار الموتى»، وقد لا نعدو الحق إن قلنا إن «دستويفسكي» قد بلغ في كتابه ما لم يبلغه «هيجو» من حيث بساطة التعبير وصدق التصوير، كان «دستويفسكي» سجينا سياسيا، لكنه لم تكن هنالك تفرقة بين سجين لسبب سياسي وسجين أجرم على نحو آخر. وقد لا يكون في ذلك شيء يثير العجب، لكن العجيب حقا أن «دستويفسكي» وقد رأى نفسه فردا من جماعة مجرمة، لم يدر في خلده قط أنه في وضع خاطئ، كما أنه لم يدر في خلد أحد من زملائه في السجن - نعني مجرمي القانون - أن هذا السجين السياسي يقع في منزلة فوق منزلة سائر المجرمين؛ فلئن اعتدى المجرم على قانون من قوانين الدولة فقد اعتدى السجين السياسي على قانون آخر. لهذا لم يحاول «دستويفسكي» في كتابه هذا أن يخلع على نفسه ثوبا من الشرف ليميز به نفسه عن سواه، إنما الذي حاوله، وحاوله بعنف وقوة، هو أن ينظر إلى المجرم - كائنا ما كان إجرامه - نظرة غيظ وحنق ، فليست الجريمة خطأ، إنما هي ضرب من الجد العاثر. لقد أحس «دستويفسكي» العطف على زملائه في الإجرام، وأعجب ببعضهم إعجابا شديدا، فقد يكونون غلاظ الظاهر، لكن في بعضهم صفات طيبة، ما في ذلك من شك.

وبعدئذ، اكتنفت حياة الكاتب صعاب، من بينها ضيق مالي نتج عن انغماسه في القمار أوقعه في دين لم ينقذه منه بعض الشيء إلا قصة عظيمة صادفت نجاحا عظيما، هي قصة «الجريمة والعقاب» وطريقته فيها - بل طريقته في قصصه جميعا على وجه الإجمال - هي ألا يحدد لك صفات أشخاصه تحديدا مرتبا، بل هو يسرد لك دقائق حياتهم بالترتيب الذي تقع به في الحياة، لا بالترتيب المنطقي الذي يسبغه عليها عقل الكاتب، ويتركك تستخلص لنفسك هذه الصورة من تلك الدقائق المبعثرة في أنحاء القصة هنا وهناك؟ خذ مثلا لذلك، ترى المجرم في هذه القصة يعتزم قتل امرأة عجوز، تراه يعتزم ذلك منذ الصفحة الثانية من القصة، ثم تتكاثر عليك الحوادث وتنعرج به الدقائق هنا وهناك، حتى إذا ما بلغت نهاية القصة، وجدت هذا المجرم ينشر مقالة في مجلة يحاول فيها أن يشرح نظرية تبرر مثل تلك الجريمة. لو كان الكاتب يرتب الحوادث ترتيبا منطقيا لذكر لك نبأ هذه المقالة بعد ذكره للجريمة، لكنه لم يعبأ بتباعد الحوادث بين الحقيقتين في قصته، ما دامت تباعد بينهما في الحياة. مثل هذه الطريقة في كتابة القصة من شأنها أن تقتل بعض الشوق في نفس القارئ، وأن تشعره بمجهود عقلي، لأنه يحاول أن يربط الحوادث المتناثرة بعضها ببعض، وقد يستطيع ذلك وقد لا يستطيع، كما هي الحال في الحياة الواقعة، بعضنا قادر على ربط الحوادث بعضها ببعض وإن باعدت بينها الأيام، على حين يعجز بعضنا عن ذلك، والكاتب هنا لا يعيننا على مثل هذا الربط.

والفن القصصي عند «دستويفسكي» له خاصة أخرى، لعلها تميز القصة الروسية كلها، بل لعلها تميز الفن الروسي كله بما في ذلك فن العمارة، وهي أن يتركب الكل من مجموعات تكاد كل مجموعة منها أن تكون كلا مستقلا، فالكنيسة التي تبنى على الطراز الروسي - مثلا - تتألف من عدة أجنحة، يوشك كل جناح منها أن يكون كنيسة قائمة بذاتها، والقصة الروسية تتألف من مجموعة من القصص، لا يصلها إلا خيط رفيع جدا يمكن قطعه والاكتفاء بأي جزء على حدة كأنه قصة وحده، هكذا كان فن «دستويفسكي» في قصة «الجريمة والعقاب».

لكن هذه خصائص عامة إلى حد ما في الأدب الروسي كله، أما ما يميز «دستويفسكي» في إنشائه الأدبي - من حيث طريقة الأداء - فهو السرعة في الإنتاج، وقد كان بين الدوافع إليها ضيقه المالي الذي كاد يلازمه، على الرغم من كثرة مكسبه. ولما وجد أن سرعته في الكتابة أبطأ مما أراد، استخدم فتاة تكتب الاختزال، لينتج في اليوم الواحد أضعاف ما كان ينتجه - وقد أصبحت هذه الفتاة زوجة ثانية له بعد وفاة زوجته الأولى - وهذا الإنتاج الغزير المتلاحق هو ما كان يطمح إليه، ففضلا عن ضرورته المادية، كان يطمح ألا تنقطع صلته أبدا بجمهور قرائه، وأن يظل سلطانه على عقولهم متصلا دائما، لكن هذه السرعة لا بد أن تؤدي إلى نتائجها الطبيعية من إهمال في السبك الفني، حتى لو كان الفنان هو «دستويفسكي».

وترى هذا الإهمال واضحا في قصص جاءت بعد «الجريمة والعقاب» - لكنها مع ذلك من آيات الأدب العالمي الخالدة - هي قصص «الأبله» و«الفكرة المتسلطة» و«الإخوان كارامازوف». في قصة «الأبله» يبين أن من يرتكب الشر لعلة في تكوينه العصبي قد يكون أعلى فكرا وأسمى خلقا من سواه ممن لا يرتكبون شرا مثل شره، ثم هو في هذه القصة أيضا يعالج ظواهر الجنون على أنها ظواهر عادية لا شذوذ فيها، تراها شائعة بين الناس، والاختلاف هو في الدرجة وحدها. وفي «الفكرة المتسلطة» حاول الكاتب أن يتعقب العوامل التي من شأنها أن تقوي حركة «الفوضوية» أو إن شئت فقل الثورة الفكرية التي أدت إلى الشيوعية، هذه العوامل الدافعة يستحيل في رأيه أن يكون أساسها الآراء المهوشة الغامضة الهزيلة التي تتسلط على من أفقدتهم الحماسة اتزان عقولهم، كما يستحيل كذلك أن يكون أساسها أحزابا سياسية تهافت بنيانها وشطحت في خيال وأوهام، بل لا بد للانقلاب الاجتماعي من جماعة قويت فيهم العزائم وتحددت في رءوسهم الأفكار وصلبت عندهم الإرادة، وأما قصته «الإخوان كارامازوف» فهي أشبه بواجهة عظيمة لبناء أعظم، لكن البناء ليس له وجود، وذلك أن الأديب أراد بادئ ذي بدء أن يجعل قصته هذه ذات خمسة أجزاء، ثم قرر أن تكون من جزأين، ثم لم يكتب من الجزأين إلا جزءا واحدا، هو هذه القصة، لكنه جزء مؤلف من أربعة مجلدات ضخام حاول الكاتب فيها أن يصور الحركة الفكرية في منتصف القرن التاسع عشر، بما تضمنته من آراء ثورية وانقلاب في وجهة النظر، في الأخوين الكبيرين «ديمتري» و«إيفان» جسد الكاتب جانبين من جوانب عصر الانقلاب الفكري المشار إليه؛ جانبين من جوانب الضعف، ف «ديمتري» يمثل صاحب الإرادة الضعيفة والأخلاق المنحلة، و«إيفان» يمثل صاحب العقل الضعيف والفكر المتدهور، وأما ثالث الإخوة «اليوشا» فيمثل الرجل الروسي اتزن فيه العقل والإرادة معا، فهو رجل سليم القوى معافى الغرائز والميول، يحب ويؤمن ويرق ويكرم، ويقال في التعليق على هذه القصة إن «دستويفسكي» أراد أن يمثل بالأخوين الكبيرين «ديمتري» و«إيفان» لروسيا وقد أخذت عناصر المدنية من الغرب ولم تهضمها بعد فانحلت خلقا، ثم روسيا وقد اكتنفها الجهل فضعفت فكرا، ثم أراد أن يمثل بالأخ الثالث «اليوشا» روسيا المستقبل حين تتسق في حياتها عناصر المدنية الغربية مع مقومات التثقيف والتعليم. ومهما يكن من أمر هذه القصة العظيمة الخالدة، فهي ثروة زاخرة بدقة التحليل وصواب الرأي وصدق النظر، هي قاموس شامل لكل معاني النفس البشرية، وآلة موسيقية تجمعت في أوتارها كل نغمة من نغمات القلب الإنساني، ثم هي وثيقة ناصعة أثبت فيها الكاتب حياة الروسيا المعاصرة، ما خفي منها وما ظهر، الروسيا في أخلاقها وتفكيرها وحياتها الاجتماعية على وجه الإطلاق، وهي في بعض مواضعها بلغت في روعة الأسلوب وبلاغة التعبير ما لم يبلغه أديب روسي آخر؛ فمثلا في موضع منها يصف المناقشات البيزنطية الفارغة التي يحاول فيها المتناقشون أن يشققوا الشعرة كما يقولون، والتي كانت سائدة في العصور الوسطى، ولا تزال سائدة في كل وسط يشبه في عقليته وتفكيره عقلية تلك العصور وتفكيرها، في هذا الموضع يصور الأديب رجلا من رجال «محاكم التفتيش» التي شاع أمرها في أوروبا منذ قرون، وخصوصا في إسبانيا، والتي كانت تحرق الأبرياء حرقا بحجة الزيغ عن الدين والخروج على العقيدة السليمة والإيمان الصحيح، وفي هذا الموضع نرى المسيح قد عاد إلى الأرض، عاد في مكان من المدينة نصبت فيه محكمة التفتيش أدوات النار التي سيلقى فيها بمن زاغ - في رأيها - عن الدين، وعرف جمهور الناس أنه المسيح فاجتمعوا حوله زرافات زرافات، لكن رئيس محكمة التفتيش أمر بالقبض عليه وأرسله إلى السجن، ثم ذهب إليه في سجنه وأخذ يعنفه على أنه وضع لأتباعه مبدأ يستحيل تطبيقه: «لقد عرض عليك الشيطان أن يحول الصخر خبزا فأبيت أن تتقبل منه ما عرض، ثم زعمت أنك مستطيع أن تحكم قلوب الناس بالحب دون سواه! انظر إلى أي نهاية أدت هذه المبادئ بالناس وبنا معهم، إنهم يعرضون عن الحب ويصيحون في طلب الخبز!

إننا إذا ما أعطيناهم ما يريدون من خبز، استطعنا أن نصفدهم بالأغلال بعد ذلك عن رضى منهم؛ سآمر غدا برميك في النار!»

يحتل «دستويفسكي» من الأدب الروسي مكانة رفيعة، فلا يرتفع عليه في ذلك الأدب إلا رجل واحد، هو «تولستوي». (6) ليو نيكولا فيتش تولستوي

Leo Nicolaievitch Tolstoi (1828-1910م)

نقدم لك الآن في «تولستوي» عملاقا في الأدب العالمي، كثيرا ما شبه بسنديانة ضخمة من حولها كلأ، لأن كل من حوله من الأدباء كانوا بالقياس إليه حشائش صغيرة إلى جانب هذه الشجرة التي سمق فرعها في السماء، ومن هؤلاء؟ «دستويفسكي» وأضرابه! وهذه مبالغة بغير شك، لكنها مبالغة تصور لك مكانة «تولستوي» في الأدب الروسي خاصة، وفي الأدب العالمي بصفة عامة.

و«تولستوي» و«دستويفسكي» اللذان تعاصرا حينا، كانا يختلفان اختلافا بينا، لكنه اختلاف الضدين يكمل أحدهما الآخر؛ ف «دستويفسكي» من الشعب، أخذ يجاهد عشرين عاما حتى تهيأ له شيء من السعة واليسر، و«تولستوي» من العلية، ولد في بحبوحة الرزق التي يولد فيها الأغنياء. «دستويفسكي» كانت تعنيه الحياة في المدينة، و«تولستوي» تعنيه الحياة في الريف. «دستويفسكي» يؤثر أن يعيش حياة غزيرة بأحاسيس المتع واللذائذ كلما استطاع إلى مثل هذه الحياة سبيلا، لأن هذه الحياة المليئة كانت عنده أفضل من حياة التزمت التي تقضي على معنى الحياة، وأما «تولستوي» فشد على نفسه رباط الأخلاق شدا انتهى به إلى التصوف، وإلى ترك ثروته وأسرته ليعيش عيش الرهبان في صومعة وحده بعيدا عن صخب الحياة. وهما كذلك يختلفان في الفن الأدبي اختلافهما في وجهة النظر إلى الحياة، فعبقرية «دستويفسكي» تبدو ظاهرة في سوق الحديث بين أشخاص قصته، وعبقرية «تولستوي» تبدو في الكشف عن سريرة نفسه. «دستويفسكي» يعجبه الشاذ، و«تولستوي» لا يقع إلا على المألوف، لكنه يجعل المألوف واضحا بارزا حتى ليحسب قارئه نفسه بين أصدقائه وأفراد أسرته حين يقرأ له قصة من قصصه. «دستويفسكي» كانت تتألف نفسه من عناصر متباينة في آن معا، أي أن العناصر المختلفة كانت في نفسه جنبا إلى جنب تصطرع، فلذائذ جسده ونوازع عقله ودوافع روحه كلها تقع من نفسه في تجاور، فقد يدعوه الجسد إلى ما تأباه الروح، وقد تدفعه الروح إلى ما لا يقره العقل، وهكذا. أما «تولستوي» فقد جاءت عنده هذه العناصر واحدة بعد الأخرى، لكل عصر سادت فيه وامتنعت سائر العناصر؛ فهو يبدأ حياته معنيا بشهوات جسده، ثم هو يعقب على ذلك بعهد يلقي فيه بزمامه إلى عقله، ثم تنتهي حياته بفتره يكون فيها من سمو الروح ما يضعه في صف الأولياء!

ولعل أبرز ما يأخذ العين من «تولستوي» هذه الهوة السحيقة التي تفصل بين فنه وعقله، فهو بفنه رجل يختلف أشد الاختلاف عنه وهو محتكم إلى عقله، «تولستوي» الفنان يستمد قوته من التسليم للحياة وغرائزها تسليما جعله يمرح في كل ظواهر الحياة من نبات وحيوان ومن غرائز وشهوات، مرح الطفل الذي لا يفسده الشك والتفكير، بل مرح الهمجي الذي لم تباعد المدنية العقلية بينه وبين الطبيعة حتى أصبح كأنه جزء من الطبيعة، يكاد يكون واحدا مما حوله من شجر وحيوان. وحيثما كتب «تولستوي» وهو في مثل هذه النشوة بالحياة، ارتفع إلى ذروة الفن، لكن عقله أخذ يقض له هذا المضجع الوثير؛ أخذ يوحي له بأن «معنى الحياة» أسمى من الحياة نفسها، وما «معنى الحياة» هذا؟ هو الأخلاق التي ترتفع بالإنسان إلى مستوى أعلى من الحياة لمجرد الحياة. وبين «تولستوي» الفنان الذي كان يعبد الحياة عبادة الوثني لظواهر الطبيعة، و«تولستوي» الأخلاقي الذي لا يريد أن يحيا كما تحيا الشجرة أو البقرة، تقع الهوة السحيقة التي جعلت منه شخصين، أما الشخص الأول فامتدت حياته إلى سن الخمسين، وأما الشخص الثاني فتولى الزمام بعد ذلك حتى وافته المنية في سن الثانية والثمانين.

أول أثر أدبي أنشأه «تولستوي» كتابه «طفولة وفتوة وشباب» يروي فيه عن حياته، فكشف هذا الأثر الأدبي الأول عن قوة الأديب وقدرته على أن يجعل من توافه الأشياء أمورا لها دلالاتها القوية، تملؤها الحياة؛ وذلك لأنه كان يصب نفسه في كل شيء يكتب عنه مهما تفه، فكان يكسبه الحياة من حياته. ومما يستوقف النظر في هذا الكتاب أن «تولستوي» كان كثيرا ما يصور الشخصية كلها بوصف جزء واحد من العلامات الجسدية المميزة للشخص الذي يصفه، فحركات الأصابع في هذا الرجل حين يتحدث، يصفها لك فإذا أنت ترى نفسك بهذا وحده قد بلغت صميم الشخص الموصوف. هذه الخاصة التي تميز فن «تولستوي» ستلازمه في كل إنتاجه، وستبدو على أتمها حين ينشئ آيتيه الخالدتين «الحرب والسلم» و«آنا كارنينا»، فمثلا قد وصف زوج «آنا» - وهو من الطبقة الأرستقراطية المتعجرفة - وصفه بأذنيه الكبيرتين وأصابعه التي تطقطق فأصبح وصفه هذا يجري مجرى الأمثال للرجل من هذا الطراز. ثم حدث ما شئت في قدرة هذا الأديب العبقري على التغلغل إلى بواطن النفس البشرية، فيرى علائق الإنسان بالإنسان، علائق الرجل بالمرأة، علائق الفرد بالمجتمع، علائق الإنسان بالطبيعة، يرى كل هذا في جلاء ووضوح كأنه يقرأ في كتاب مفتوح. في «قصة الحرب والسلم» التي قد تعد أعظم قصة في آداب العالم بغير استثناء، أراد أن يصور بلاده الروسيا في فترة من فترات تاريخها، هي التي غزاها أثناءها نابليون في أوائل القرن التاسع عشر، لكنه لم يرد أن يصور هذه الفترة من التاريخ تصويرا يجعل القصة جزءا من التاريخ، بل أراد أن ينظر خلال الخاص إلى العام، خلال فترة واحدة وشعب واحد إلى الزمان كله وشعوب الأرض أجمعين. لقد تخير هذه الفترة من تاريخ بلاده ليتخذ منها رقعة يصور عليها الحياة الإنسانية على إطلاقها من قيود الزمان والمكان، ولكن ذلك كله لا ينفي أنها كذلك قصة تصور الروسيا في فترة من أهم فترات تاريخها تصويرا دقيقا بارعا. اقرأ قصة «الحرب والسلم» لتصادف جمهرة من الناس يحيون ويتحركون، لكل شخصيته الفريدة الفذة التي تجعله كائنا حيا، اقرأها لتحيا مع أشخاصها وهم يكبرون من الطفولة إلى الشباب؛ سترى فيها أنصع الصور للحياة في الجيش، والحياة في القصر، والحياة في عاصمتي الروسيا موسكو وبطرسبرج، والحياة في بيوت أغنياء الريف وأكواخ فقرائه. اقرأها لتشهد الحياة في صورة أقوى من الحياة في الواقع! وتدور حوادث القصة حول حياة أسرتين من الأسر الغنية - هما في الواقع أسرتا أبيه وأمه - وهو في تصويره للأفراد، جعل هؤلاء الأفراد ظواهر لقوة دافعة خفية، هي قوة الشعب في مجموعه، وها هنا تجد أساسا من أسس فلسفته ، ف «تولستوي» لا يريد للفرد أن يكون فردا قائما إزاء الجماعة، بل يريده أن ينغمس في الجماعة انغماسا، الفردية عنده ضرب من ضروب الصراع والحرب، صراع بين الفرد والمجتمع من جهة، وصراع بين الفرد والفرد من جهة أخرى، كل يسعى إلى القوة والسيطرة وزيادة الثروة والنفوذ، ولئن كانت المدنية الإنسانية قائمة على أساس هذه الفردية. فقد أدار «تولستوي» ظهره لهذه المدنية ودعا إلى ما دعا إليه «روسو» من قبل؛ إلى العودة إلى حياة الفطرة والطبيعة حيث لا انقسام ولا خصام، وحيث لا ترى إلا فلاحا يفلح أرضه ويحب جاره؟ في هذه القصة يقدم لك «تولستوي» فلاحا هو «كاراتايف» كما يقدم لك «نابليون» ويقنعك أن الأول أعظم من الثاني، لأن الأول عظيم في ذاته، وأما الثاني فألعوبة في أيدي الظروف!

هذه المقارنة بين الحياة الفطرية الساذجة وبين حياة المدنية المعقدة، يوضحها الكاتب أيضا في قصته «آنا كارنينا»، التي أنشأها على أساس من مذهب «روسو»، فهو يبين لك أسرة ريفية سعيدة بحياتها البسيطة، وأسرة أخرى قامت لا على الأساس الشرعي للزوج، بل على أساس مصطنع من إباحية وحرية زائفة، فترى «كارنينا» الزانية تتزوج من رجل أغرم بحبها، فانتهت حياتهما بعقوبة طبيعية كانا جديرين بها، ومما يذكر بهذه المناسبة أن «تولستوي» جعل عقاب «كارنينا» أشد وأقسى، فجريمتها في عين الرجل الأخلاقي أفدح من جريمة زوجها. لكن «تولستوي» إلى جانب نزعته الأخلاقية فنان، وهو إذا ما تملكه الفن انتشى بالجمال كائنا ما كان، ولهذا تراه يفتن في تصوير «آنا» ووصف جمالها، حتى أخرجها صورة رائعة بارعة. ومن لفتات «تولستوي» البارعة في هذه القصة أنه جعل رجلا عالي الثقافة (يقصد نفسه) يهتدي بفلاح ساذج في فهم الإنجيل، بل في فهم الحياة؛ ليدل بذلك على أن فهم الحياة والدين لا يريد علما بقدر ما يحتاج إلى قلب صاف وبصيرة سليمة.

وأخيرا جاء دور التدين والتصوف من حياة «تولستوي»! إن هذه المدنية الفاسدة لا خلاص منها بغير الفرار إلى حياة الزهد والتقشف والعزلة! لقد أخذ في هذه المرحلة يكتب الرسائل واحدة في إثر واحدة، كلها تعبر عن إيمانه بالدين والحياة الروحية: «عقيدتي» «ماذا ينبغي أن نصنع إذن؟» «ملكوت الله هو في دخيلة نفسك» «العبودية في عصرنا» «ما هو الدين؟» وغيرها وغيرها. لقد زهد في حياة المتعة الجسدية حتى أصبحت له هذه المتعة شبحا مخيفا يخشى أن يعود إليه فينال منه ويسيطر عليه، وكتب «كروتزر ساناتا» التي أراد فيها أن يحمل الأزواج على الامتناع عن العلاقة الجنسية! ثم كتب آخر قصصه الكبرى؛ قصة «البعث» التي جعل فيها فتاة متعلمة مهذبة كانت في سيبريا سجينة سياسية، جعلها تلتقي مع امرأة كانت في ماضيها عاهرة فاجرة، وتصادق المرأتان على النفور من الصلة الجنسية الدنسة، الأولى لأنها لم تمارسها على اعتبار أنها حط من الكرامة الإنسانية، والثانية لأنها أوغلت في ممارستها فانتهت إلى الزهد فيها والتحقير منها لأنها مصدر أهوال ومصائب، بل لأنها داعية إلى التدهور والانحطاط.

هذه النزعة الخلقية الشديدة التي استولت عليه، لونت نظره إلى الأدب كله؛ فلا أدب عنده الآن إلا ما رمى إلى إصلاح الأخلاق؟ ليس شيكسبير بالأديب، لأنه لم يرد بأدبه إلى إصلاح الأخلاق، بل ليس ما كتبه هو نفسه فيما مضى بأدب لأنه خلا من ذلك الغرض الشريف، وهكذا قل في كل ضروب الجمال: لا جمال في أثر فني إلا إذا كان أساس هذا الأثر الفني أولا وقبل كل شيء تقويم الأخلاق، بهذا الرأي نادى في كتابه «ما هو الفن؟».

لكن الأخلاقي فنان كذلك - كما أسلفنا لك القول - فقد كانت تتعاوره فترات من الفن خلال تلك الفترة الأخلاقية، فيخرج للناس قصصا روائع. وأين المفر من سلطان الفن لهذا الفنان الأعظم؟ هذا الذي شخصت إليه الأبصار في أنحاء العالم كله في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، على أنه أديب العالم الأكبر، فليكن ما شاء لنفسه أن يكون من أخلاقي ومن راهب متدين، فسيظل أبد الدهر خالدا في تاريخ الأدب بين جبابرة القلم. (7) أنطون تشيكوف

Anton Chekhov (1860-1904م)

كان «تشيكوف» هو حلقة الاتصال بين العصر الزاهر الذي شهد «جوجول» و«ترجنيف» و«دستويفسكي» و«تولستوي» وبين الموجة الحديثة التي سيكون موضع الحديث عنها فصلا سنعده للأدب الروسي في القرن العشرين. بدأ إنشاءه الأدبي حين كان طالبا يدرس الطب في موسكو، وأول ما كتب من القصص كان ينطبع بالفكاهة الساخرة التي تجعله صالحا للمجلات الهازلة، ثم جمعت هذه القصص في مجموعة أطلق عليها «قصص منوعة»، وبعدئذ طرأ على أدبه تحول مفاجئ، ظهر أول ما ظهر في مسرحيته «إيفانوف» كما ظهر في مجموعة قصصه الثانية التي أسماها «أشخاص عليهم كآبة» فهو في هذه المجموعة القصصية وفي تلك المسرحية عبر عما أحسه إحساسا قويا من ركود الحياة في الروسيا إبان العقد الثامن من القرن التاسع عشر، كما عبر عنه فيما بعد في عدة قصص أخرى من بينها «قصة مملة» و«حياتي» و«عنبر رقم 6» و«المبارزة» و«ثلاث سنوات» وغيرها. في «قصة مملة» ترى شخصيتين؛ شخصية أستاذ كهل كان قد ارتفع إلى أوج الشهرة العلمية، وشخصية فتاة من ذوي قرباه، كلاهما يحس تفاهة الحياة إحساسا ينتقل إلى القارئ بالعدوى، كلاهما لا يجد في الحياة ما هو جدير بالأمل والعمل، وتنتهي القصة بهذين الكئيبين لا يجدان لضيقهما بالحياة دواء. وفي «حياتي» كذلك قصة شاب استنار وتثقف، ثم ألقت به الأيام في مدينة ريفية ميتة لا تفتح أمامه بابا من أبواب الرجاء والبشر بالحياة. وفي «عنبر رقم 6» قصة طبيب عالي الثقافة أيضا، يعمل في مستشفى الأمراض العقلية في بلد ريفي، وقد اتصلت روابط الود بينه وبين أحد مرضاه، واتصل بينهما الحديث في شتى الموضوعات، حتى ظن بالطبيب الخبل، فأرغمه مساعده على أن يعامل معاملة المرضى مجنونا كسائر المجانين وحل محله في رئاسة المستشفى. هكذا أخذ «أنطون تشيكوف» يبث شكواه من ركود الحياة وتفاهة شأنها، ولهذا تخير معظم مناظره من الريف الذي يخلو مما تنطبع به المدن من حركة قد ينخدع بها الرائي ويظنها حركة الحياة، ولكن «تشيكوف» رغم هذه النظرة السوداء، لم يكن متشائما بالمستقبل.

كان رجال القصة قبل «تشيكوف» يذهبون في أدبهم القصصي مذهبا واقعيا، فجاء هو مخالفا لما سار عليه أسلافه. فلئن كان هؤلاء الأسلاف يعنون بحبك الحوادث، فإنه اتخذ لنفسه أسلوبا آخر، مؤداه أن يؤلف القصة من نتف متناثرة وحوادث يقطفها من تيار الحياة، يقطفها من هنا وهناك، ولا يجمعها في قصة واحدة إلا الروح التي تسود القصة، لا العلاقة بين الحوادث نفسها. فإذا أردت لفنه هذا عنوانا يدل عليه، كان ذلك العنوان هو أنه «فن تأثري» أساسه ما تترك القصة في نفس قارئها من أثر، بغض النظر عن طريقة تكوين القصة ومادتها. وبعبارة أخرى كانت قصة «تشيكوف» تقوم على الإيحاء لا على الإنباء، فهو يذكر الحادثة المعينة بالأسلوب المعين الذي من شأنه أن يوحي للقارئ ضروبا من الفكر والخيال، ولكي يكون هذا الإيحاء أقوى وأفعل، كان لزاما عليه أن يعنى بأسلوبه وعبارته، لأن اللفظ هنا له أهميته الكبرى، فتراه يحاول أن يجعل لغته ذات وزن وإيقاع.

لم يكن «تشيكوف» من الفحولة بحيث يوضع في منزلة واحدة مع «دستويفسكي» و«تولستوي»، لكنه في القصة القصيرة علم يعترف له العالم كله بقدرته في هذا المجال، فهو في الروسيا شبيه جدا ب «موباسان» في فرنسا، وهو أيضا - مثل موباسان - لم تمهله الحياة أكثر من أربعة وأربعين عاما.

القسم الخامس

الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر

لعلك تعلم أن القرن السابع عشر في إنجلترا كانت قد طغت عليه موجة من التزمت الديني، كان من آثارها ثورة «كرمول» وقتل الملك شارل الأول. ثم ذهبت عن إنجلترا هذه الموجة لتطغى في مكانها موجة مضادة في القرن الثامن عشر؛ موجة تغلب عليها السخرية من الجمود الديني، وإذن فلم يبق في البلاد (إنجلترا) متسع لأعقاب أولئك المتزمتين وكان لا بد لهم من الرحيل إلى بلاد أخرى؛ فرحل كثير منهم إلى أمريكا، وهناك أشاعوا شيئا من روحهم الدينية التي كانت الظروف القائمة في إنجلترا تضطرهم إلى كبتها وكتمانها؛ ولهذا نشأ في تلك البلاد الأمريكية طائفة من الأدباء تعبر عن هذه الروح. ومن بين هؤلاء في القرن التاسع عشر «إمرسن» و«هوتورن» و«لونجفلو» ممن سيأتي ذكرهم بعد، وليس معنى ذلك بالطبع أن كل من حمل القلم في أمريكا في القرن التاسع عشر، كتب مستوحيا روح التزمت الديني والأخلاقي، بل هناك من أدباء العصر المذكور من لا تجد أثرا لمثل هذه الروح في أدبهم، مثل «إدجر ألن بو» و«ويتمان». وفيما يلي عرض مختصر لهؤلاء الأدباء جميعا على اختلاف نزعاتهم.

الأدب الأمريكي في القرن التاسع عشر

(1) رالف وولد إمرسن

Ralph Waldo Emerson (1803-1882م)

ولد في «بوستن» وفي عامه الرابع عشر دخل جامعة «هارفرد»، لكنه فقير لا يملك ما يعينه على سد نفقات عيشه ودرسه، فكان لا يترفع عن العمل كائنا ما كان ليكسب ما يريد من دريهمات، مثال ذلك أنه كان أحيانا يعمل مناولا (جرسونا) في ساعات فراغه، فلما بلغ الخامسة والعشرين نصب قسيسا، لكنه لم يلبث في منصبه ذاك سوى ثلاثة أعوام ثم استقال لأنه أحس في ضميره لذعة؛ إذ كان قسيسا لفرع من فروع العقيدة المسيحية، لا تتفق تمام الاتفاق مع عقيدته، وعندئذ سافر إلى إنجلترا حيث قابل من الأدباء «كولردج» و«وردزورث» و«كارلايل». من ذلك الحين أخذت مجموعات مقالاته الأدبية تصدر واحدة في إثر واحدة، ومن أهمها كتابه عن «الخلق الإنجليزي»،

1

على أنه إلى جانب جولاته الموفقة في أدب المقالة، كان شاعرا مجيدا، أحب من الشعراء «شيكسبير» و«دانتي» و«كولردج»، ولم يبهره شيء في سفر «شلي» وقليلا جدا ما كان يقرأ القصص، فكلما حاول أن يقرأ «سيرفانتيز» أو«سكت» أو «جين أوستن» أو «دكنز» - وهم من أعلام الأعلام في الأدب القصصي في العالم أجمع - أخذه الملل ولم يستطع أن يمضي في قراءته.

كان «إمرسن» - كما أسلفنا لك القول - من المتزمتين في الدين والأخلاق، وبهذه الروح كتب ما كتب، وإن القارئ الحديث ليقرؤه اليوم، فيظن أنه كاتب سبح في الهواء ليخاطب ناسا فوق السحاب ولم يقصد بأدبه إلى هؤلاء البشر فوق هذه الأرض، شبهه «ماثيو آرنلد» الناقد الإنجليزي بالإمبراطور الفيلسوف «مرقص أورليوس» وحسبك هذا لتعلم كثيرا عن «إمرسن » ورأيه في الفضيلة والحياة الفاضلة، فما الفضيلة عنده بالأمر الهين، وما الحياة الفاضلة في رأيه إلا طريق ضيق وعر يتطلب من السائر فيه مجهودا، ولأنه يتطلب هذا المجهود كانت له قيمته.

كان «إمرسن» لا يمجد شيئا تمجيده لروح الإنسانية، وهو حين كتب في تمجيدها لم يكن معبرا في حقيقة الأمر عن مذهب ديني بعينه أو عقيدة بذاتها، إنما كان بمثابة الصوت الذي لا يكاد ينتسب إلى فرد معين أو يصدر عن جسد معلوم؛ هو في كتابته بمثابة من يعلن لا بمثابة من يؤيد أقواله بالحجة والدليل، ومع تمجيده هذا لروح الإنسان، لم يقل ما هي تلك الروح، ولعله أدرك وآمن أنها «من أمر ربي»: «إن من نسميه عادة بالإنسان؛ الإنسان الذي يأكل ويشرب ويزرع ويحسب، ليس بمثل هذه الجوانب من حياته يمثل نفسه، بل إنه - على نقيض ذلك - يبدي ما لا يمثل نفسه. إننا لا نحترم الإنسان بسبب هذه الأشياء، أما الروح التي إن هو إلا أداة لها، فنحن نجثو لها احتراما إذا ما أبداها الإنسان في فعله. إن الروح إذا ما تنفست خلال عقله فهي العبقرية، وإذا ما تنفست خلال فعله فهي الفضيلة، وإذا ما فاضت في ثنايا عاطفته فهي الحب ... والغاية من كل إصلاح - في هذا الجانب من الحياة أو ذاك - إنما هي أن تأذن للروح أن تلتمس طريقها إلى الظهور خلالنا، أو بعبارة أخرى الغاية من الإصلاح هي أن نتعلم كيف نطيع الروح.»

الروح عند «إمرسن» خير منبر نرتقيه لنعبر عن سر وجودنا ومعناه، هي الحلقة الحقيقية التي تصلنا بالله؛ فلن تبدو الروح في فكر أو عمل إلا كان الإنسان المفكر أو العامل متصلا بالله صلة قوية مكينة «إن أكثر الناس سذاجة، إذا ما عبد الله بما يبديه في شخصه من تماسك خلقي، إنما يصبح جزءا من الله ... إن فكرة الإله إذا ما أشرقت على الإنسان كانت محببة إليه، مريحة لنفسه؛ تعمر له المكان الخلاء، وتمحو من حياته وصمات أخطائه وخيبة رجائه ... إن الإنسان إذا ما مجد الروح وأدرك أنها - كما يقول القدماء - ذات بهاء لا ينفد ... فلن تعود حياته بعدئذ كالثوب المرقع المهلهل، بل سيحيا حياة تمسك أطرافها وحدة إلهية.»

بمثل هذه النغمة الدينية الخلقية التصوفية كان يكتب «إمرسن» لا يحد من أفقه شعائر مذهب معين ولا عقيدة بذاتها. (2) ناثانيل هوثورن

Nathaniel Hawthorne (1804-1864م)

وهذا كاتب آخر، صدر فيما كتب عن روح دينية أخلاقية، كما صنع «إمرسن». كتب لأمه ولم يزل صبيا يانعا في المدرسة «لست أريد أن أكون طبيبا لأعيش على أمراض الآخرين، ولا قسيسا لأعيش على خطايا الآخرين، ولا محاميا لأعيش على اختصام الآخرين؛ لذلك لست أرى لي طريقا سوى أن أكون كاتبا.» لكن الكتابة - للأسف - سرعان ما بينت للشاب «هوثورن» حين بدأ يكتب أنها لا تصلح موردا للرزق، إلا إذا كان الكاتب معروفا مشهورا؛ فاشتغل في مناصب سياسية حينا، حتى ظفر بالشهرة المطلوبة للأديب إذا أراد أن يكسب قوته عن طريق أدبه، وإنما ظفر بتلك الشهرة حين أخرج كتابه المشهور «الحرف القرمزي»

2

الذي جعل فيه بطل القصة وبطلتها يسلكان سلوكا فيه خرق قليل لقواعد الأخلاق كما يفهمها المتدين المتزمت، فينصب عليهما العقاب جزاء وفاقا بما فعلا؟ وله كذلك «البيت ذو الأسقف السبعة»

3

وهي قصة عبر فيها الكاتب عن عقيدته بأن جناية الآباء تنحدر إلى الأبناء، ثم له أيضا قصة «تمثال من المرمر»

4

التي كتبها بعد جولة في ربوع أوروبا، وحاول فيها أن يجد ما يرضي نفسه من تحديد الفضيلة والرذيلة، وهو الموضوع الذي شغل ذهنه زمنا طويلا بحكم نزعته الدينية والأخلاقية، ولكنه فيما يظهر ترك المشكلة بغير تحديد.

ولكننا إذا ما وصفنا «هوثورن» بأنه متزمت في الدين، فينبغي أن نضيف إلى هذا الوصف أنه أخذ من ذلك التزمت الديني رصانته دون تخريفه، وكان من مذهبه أن الضمير الإنساني خير هاد في الحياة الخلقية، فقد آمن بصدق ضميره إيمانا لم يرض شعوره الديني والأخلاق فحسب، بل وجد فيه كذلك ما يقنع عقله. (3) هنري وادزورت لونجفلو

Henry Wadsworth Longfellow (1807-1882م)

وهذا شاعر، كان كزميليه الناثرين «إمرسن» و«هوثورن» ينشئ أدبه مدفوعا بالنزعة الدينية، فمن مذهبه أن الفن لا يخلق للفن كما يقولون، إنما الفن وسيلة لغاية، والغاية التي من أجلها كان «لونجفلو» يقرض الشعر هي بث الأخلاق الفاضلة في نفوس قارئيه، الأخلاق الفاضلة كما يفهمها معتنق مذهبه الديني الذي ينزع إلى التقشف وعدم الاسترسال في الشهوة.

كان «لونجفلو» زميل «هوثورن» في الجامعة، إلا أنه لم يكد يفرغ من دراسته الجامعية حتى سافر إلى أوروبا حيث أقام ثلاثة أعوام، يدرس في ألمانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وعاد إلى وطنه أمريكا ثم إلى أوروبا في رحلة ثانية ثم إلى وطنه مرة أخرى، وهنا عين أستاذا في جامعة «هارفرد » حيث ظل في كرسي الأستاذية ثمانية عشر عاما.

كان شاعرنا طيب القلب بحيث تبدو طيبة قلبه في صورة السذاجة التي لا تعرف تعقيد الحياة والالتواء في التفكير وفي معاملة الناس؛ ولذلك مضت أعوام حياته مطردة متشابهة ليس فيها حوادث ضخام ولا انقلابات مفاجئة، وربما كانت أبرز حادثة في حياته كلها موت زوجته الثانية محروقة بعد أن ماتت زوجته الأولى إبان رحلته الثانية في أوروبا. كان يقرض الشعر ليعلم قارئه قبل أن يمتعه، فإذا ما قرأت شعره راعتك فيه قوة الإيمان:

ليس هناك موت! وما يبدو موتا إن هو إلا انتقال،

هذه الحياة المعدودة الأنفاس

إن هي إلا ضاحية من حياة الخلود

التي أطلقنا على مدخلها اسم «الموت».

ولهذه البساطة في خلقه وهذا الإيمان القوي في نفسه، ظفر شعره بإعجاب الكثرة الغالبة ممن يضعون قوة الإيمان فوق كل اعتبار آخر. ومن أشعاره ما له ذيوع بين الناس لا يكاد يدانيه في ذلك شاعر آخر، ومن أشهر شعره دورانا على الألسنة هذه الأبيات:

حيوات عظماء الرجال تذكير لنا

إنا نستطيع السمو بحياتنا فوق القنن،

حتى إذا ما رحلنا تركنا خلفنا

آثار أقدام على رمال الزمن؛ •••

آثار أقدام ربما رآها بعدنا آخر

أخ لنا، تحطمت به السفين وهو وحيد

إذ هو بحر الحياة يمخر،

فبعد يأس يعود إليه الرجاء وهو بعيد؛ •••

فلننهض إذن ولنكن عاملين

بعزم لا ينثني أمام القدر،

فما ننفك منتجين وما ننفك مجاهدين،

وليكن جهادنا جهاد الذي صبر. (4) إدجر ألن بو

Edgar allan Poe (1809-1849م)

ولد «بو» في مدينة «بوستن» لأبوين يشتغلان بالتمثيل، حدث لهما أن افترقا، فأوصت الأم بأبنائها الثلاثة من تولى تنشيئهم. وكان أن اختار أديبنا «بو» وهو لم يزل من عمره في عامه الثاني تاجر غني تعهد برعايته، وجاء به متبنيه إلى إنجلترا مدى خمسة أعوام - بين سنته السادسة وسنته الحادية عشرة - فتلقى تعليمه الأول في إنجلترا، ثم دخل جامعة «فرجينيا» وعمره سبعة عشر عاما، حيث تعلم شيئين أثرا في حياته المقبلة كلها، تعلم الآداب القديمة من أساتذته، وتعلم المقامرة من بعض زملائه. وتراكم عليه الدين نتيجة لهذه المقامرة، ورفض متبنيه ذات مرة أن يدفع عنه هذا الدين؛ فتركه «بو» وذهب إلى مسقط رأسه «بوستن»، لكنه لم يلبث أن استأنف صلة الود مع متبنيه، والتحق بالمدرسة الحربية، مع أنه كان أبعد إنسان عن النظام الحربي، فلم يطق قط ما فرض عليه من نظام هناك، ولم يسعه سوى أن يهمل واجباته إهمالا اضطر أولي الأمر إلى طرده، فجاء هذا عاملا جديدا من عوامل الشقاق بينه وبين متبنيه، ثم جاء آخر العوامل في ذلك الشقاق حين تزوج التاجر من سيدة أخرى بعد موت زوجته الأولى، فلم توافق هذه الزوجة الجديدة على أن يقيم «بو» معهما في المنزل، لأنه - في رأيها - مصدر شغب لم ينقطع.

يحتل «بو» في الأدب مكانا فريدا، لتفرده في خصائصه، فهو منشئ «القصة البوليسية» وهو - فوق ذلك - من جعل من الحوادث المفزعة موضوعا للفن الأدبي على نحو لا يجاريه فيه أديب آخر. وهو في رواية القصة يتبع أسلوبين مختلفين أتم الاختلاف، أما أحدهما فهو أن يخلق جوا من الفزع الذي ترتعد له فرائص القارئ، بحيث يحس هذا القارئ وكأنه في كابوس مخيف، وللكاتب في ذلك فن عجيب، إذ تراه يثير فيك الخوف شيئا فشيئا، كأنما هو يحرك فيك عصبا بعد عصب، حتى إذا ما أحاط بك الوهم من كل جانب فاجأك مثلا بأن الشخص الذي حكى لك عنه أنه قتل أو أحرق، لا يزال حيا، هو الذي تسمع خطواته سائرا أمام باب غرفتك! ومن خير ما تقرؤه له نموذجا لهذا الضرب من أدبه قصة «انهيار بيت أشر».

5

وأما ثاني الأسلوبين فهو أن يلتزم الكاتب الصدق والواقع؛ وخصوصا فيما كتب من «قصص بوليسية» حيث أبدى براعة ليس بعدها مزيد لمستزيد في حبكة العقدة، فترى الحوادث متساوقة مترابطة تأخذ عليك انتباهك، فتظل تقرأ وتقرأ ولم يعد لديك وعي بالزمن ومروره حتى تفرغ من تلاوة القصة؛ ومن أمثلة هذا النوع قصة «الجرائم في شارع مورج»

6

التي جعل فيها القاتل قردا، وقصة «الخطاب المسروق »

7

التي دارت حوادثها على أن خطابا سرق مع أن الخطاب موضوع في مكان ظاهر من المكان الخاص بالخطابات. وغيرها.

و«إدجر ألن بو» شاعر فوق أنه قصاص؛ تراه في شعره - كما هو في قصته - يحلم ويتيه في خيال عجيب، خذ مثلا من شعره قصيدة «أرض الأحلام»:

في طريق مظلم موحش

لا يسكنه إلا الشياطين،

وبينها شيطان يسمي «الليل»

على عرش أسود جلس وتربع؛

وصلت هذه الأرض منذ قريب؛ •••

وديان بغير قاع وغمر من الماء ليس له حدود،

وشقوق في الصخر وكهوف وغابات

يستحيل على عين أن تتبين شكلها؛

لما تساقط منها من قطرات الندى،

والجبال سامقة شامخا وراء شامخ،

موغلة في بحار ليس لها شطآن،

بحار تعلو بصدرها في قلق،

جياشة بموجها في سماء من لهب،

وبحيرات ساح ماؤها إلى غير نهاية،

مياهها موحشة - موحشة وميتة -

مياهها ساكنة؛ ساكنة وباردة

بما تدلى فوقها من سوسن كأنه رقائق الثلج،

إزاء البحيرات التي هكذا امتدت

بمياهها الموحشة، الموحشة الميتة،

بمياهها الكئيبة، الكئيبة الباردة،

بما تدلى فوقها من سوسن كأنه رقائق الثلج،

إزاء الجبال، وقرب النهر

الذي غمغم في صوت خفيض، غمغم منذ الأزل،

إزاء الغابات الشهباء، وجوار المستنقع

الذي سكنه الضفدع والورل،

جوار البرك الآسنة

حيث تسكن الغيلان،

في بقاع هي من بقاع الأرض أبشعها،

وفي مغاور هي من كهوف الأرض أتعسها،

هنالك بهت الرحالة إذ هو في الطريق،

وعاودته ذكريات عهد غبر،

ذكريات لفت كل واحدة منها نفسها في ثوب،

ومضت كأنها الأشباح متنهدة فازعة،

مضت إلى جوار الرحالة واحدة بعد أخرى،

هي أشباح أصدقاء أسلمناهم منذ عهد بعيد،

أسلمناهم في أسى للأرض، وللسماء.

ومات «بو» ميتة يحوطها الغموض؛ فإنه يروى أن حادثة وقعت له أثناء السفر، فبقي في مدينة «بلتيمور» أياما بسببها. وحدث أنه شرب ذات مساء حتى غاب عنه صوابه، ثم تصادف أنها كانت ليلة انتخاب، فتفكه به رجال الأحزاب المختلفة إذ وجدوه هائما على وجهه في الطرقات لا يعي، وأخذوه إلى أحد عشر مركزا انتخابيا في المدينة ليدلي بصوته فيها جميعا، ثم خلفوه ملقى على مقعد في الطريق حتى صادفه من كان يعرفه، ونقله إلى المستشفى. وقد اعترف الطبيب الذي عالجه، اعترف بعد خمس وعشرين سنة! بأنه حين تلقى «بو» مريضا لم يجد فيه أثرا من آثار الخمر؛ وإذن فماذا كانت علته، وكيف مات؟ أراد القدر لهذا الرجل الذي عاش حياة يكتنفها الغموض أن يموت كذلك في جو من الغموض. (5) وولت ويتمان

Walt Whitman (1819-1892م)

أبوه فلاح ونجار، وأجداده خليط من إنجليز وهولنديين، بعضهم كان يشتغل بالفلاحة وبعضهم بالملاحة، فورث عنهم الشاعر حب الماء وحب الهواء، فليس أحب لديه من البحر ومن مكان هواؤه طليق. لم يكد يشب حتى أخذ يكسب قوته بعمله، فكان أول أمره حاجبا يرسله مخدومه لقضاء التوافه من الأمور، ثم اشتغل بعد ذلك طابعا، فمعلما، فصحفيا، وأخيرا شغل نفسه بتجارة العقار إلى جانب اشتغاله بالصحافة. ولما أن بلغ عامه السادس والثلاثين نشر ديوانه الذي أطلق عليه «حشائش»

8

والذي قال عنه «إمرسن» حين صدوره «إنه أروع ما أنتجته أمريكا حتى اليوم في فطنته وحكمته.» ثم نشبت الحرب الأهلية في أمريكا، واشتغل «ويتمان» بالتمريض في أحد المستشفيات، وأصدر خلال ذلك ديوانا آخر عن تجاربه في تلك الأعوام، أسماه «دقات الطبل»؛

9

فلما وضعت الحرب الأهلية أوزارها، استقر في واشنطن عاملا في إحدى وظائف الدولة، حتى أصابه الشلل وهو في الرابعة والخمسين، ومات بعد ذلك بنحو عشرين عاما. «ويتمان» من الشعراء الذين قضوا حياتهم كلها لا يغني في شعره إلا بخواطر نفسه، ففي كل سطر خطه قلمه يعبر الشاعر عن نفسه ويكشف عما يجيش فيها، فهو يقول عن شعره إذ يقدمه لقرائه: «ليس هذا كتابا؛ إذا ما لمس هذه الصحائف لامس فإنه إنما يلمس رجلا.»

وقد عاش «ويتمان» عيش الشاعر الحر الطليق من قيود الدنيا، فهو لا يعبأ من شئون الدنيا بما يعبأ به غيره فيخضع نفسه لأصفادها، وهو لا يستعبد نفسه للتقاليد التي تستعبد سواه عن ضيق في النظر أو ضعف في الرجولة وهزال في الشخصية، وهو لا يحب نفسه الحب الذي ينسيه كل شيء عداها والذي يجعله يتكالب على هذه وتلك من سفاسف الأشياء، وهو على الجملة مغتبط بالحياة لذاتها، راض بما تتضمنه الحياة من متعة يحسها كل ذي حس مرهف. إن «ويتمان» إذ أحب نفسه فإنما أحبها لأنه أحب الحياة، والحياة التي أحبها لم تكن الحياة المرهفة الناعمة التي يدميها لمس الحرير، لكنها الحياة الخشنة المجاهدة العاملة التي تسيل بالعرق، حياة العضلات المفتولة والجسم الصليب، وإنه إذا ما أحب نفسه لحبه للحياة، فكذلك أحب بالتبع سواه من أفراد الإنسان لأنهم كذلك أحياء. لقد أحب «ويتمان» إخوانه في الإنسانية حبا لا يكاد ينافسه فيه شاعر آخر، لا بل إنه أحب كل حي على وجه الأرض إنسانا كان أو حيوانا أو نباتا، حسبه أن الشيء حي ليقدسه لأن الحياة التي تسري فيه شيء مقدس؛ فهو بمثابة الرجل صاح بشعره في وجه العالم قائلا: إنه لا أمل للدنيا بغير الحب. وليس حبه للحياة وللإنسان قاصرا على ما يتمثل في الحياة والإنسان من عقل وروح، بل إنه ليحب كذلك هذا الجسد الحي نفسه لأنه جسد، لأنه غاية في ذاته لا لأنه أداة تخدم الروح التي تحل فيه، وهو في مجموعة من أشعاره أطلق عليها «أبناء آدم»

10

تراه يمجد لذائذ الجسم في صراحة قد يدهش لها الأخلاقي الذي لا يفهم وجهة نظر الشاعر. فشاعرنا ليس يدعو إلى مجون وانغماس في الشهوة حين يدعو إلى لذة الجسد، بل هو يمجد الحياة الشعرية الطبيعية التي لا شذوذ فيها، فلو أمعنت في شهوة الجسد فأنت شاذ، ولو أمعنت في حرمان الجسد فأنت شاذ كذلك، ولم يخلق جسدك لهذا أو ذاك، إنما خلق لحياة معتدلة، وفي هذا الاعتدال جمال وجلال.

ومن شعره:

إليك أيها الديمقراطية

تعالي، فسأجعل البلاد وحدة لا تنفصم عراها،

سأجعل أشرف من سطعت عليه الشمس من أمم البشر،

سأجعل البلاد إلهية في بهائها فاتنة بسحرها،

سأصنع كل هذا بحب الإنسان للإنسان،

بحب يدوم مدى الحياة بين الإنسان والإنسان، •••

سأبث الإخاء على شطآن الأنهار في أمريكا كأنه الشجر الكثيف،

وعلى شطآن البحيرات العظمى، وفي أرجاء السهول،

وسأجعل من المدائن وحدة، إذ تعانق كل مدينة أختها بالذراعين،

سأصنع كل هذا بحب الإنسان للإنسان،

بحب فيه معاني الرجولة بين الإنسان والإنسان.

هذه هبات مني إليك أيتها الديمقراطية، لأكون معينك يا معشوقتي،

في سبيلك، في سبيلك أنت أغني ما أغني من أناشيدي

ومن قصيدة له في رثاء الرئيس «لنكولن»:

أقبل أيها الموت الجميل المريح،

در بموجك حول الأرض، ثم أقبل، أقبل رصينا،

أقبل في النهار، أقبل في المساء، أقبل على الجميع، على كل فرد من الجميع،

أقبل عاجلا أو آجلا أيها الموت الرقيق، •••

لك هذا الكون الذي ليس لخضمه قاع!

لك هذا الكون لما فيه من حياة ومن غبطة، وما فيه من كائنات ومن علم،

ثم لله هذا الكون لما فيه من حب، حب جميل؛ لكن الثناء على الكون؛

الثناء، الثناء!

لما فيه من «موت» إذ يطوقنا بذراعيه، ويلفنا ببرده! •••

يا أمنا السوداء التي ما تنفك على مقربة منا سائرة في غير صوت، على قدمين طريتين؛

ألم يغن لك شاعر أغنية الترحيب الذي لا يشوبه اكتئاب؟

إذن فلأغنها لك، إني لأمجدك بما لست أمجد به شيئا آخر،

سأغني لك أغنية حتى إذا ما جئتني - وإنك لآتية - جئتني في غير ارتياب. •••

لك يا موت الليل الصامت تحت منثور النجوم

وشط المحيط، والموجة التي أعرفها بهمسها الأبح،

والروح إذ تعود إليك، يا أيهذا «الموت» الفسيح الذي قنع وجهه فأحكم القناع،

ثم لك الجسد إذ يثوي في حضنك معترفا لك بالجميل. •••

سأغنيك يا موت أغنية أرسلها من أعالي الشجر،

سأرسلها فوق الموج الصاعد الهابط، فوق متلاحق الحقول وفسيح السهول؛

فوق المدائن المزدحمة بآهليها، والطرق التي تموج بالسائرين،

سأرسل إليك أغنيتي، في نشوة، في نشوة، أيهذا «الموت». (6) هاريت بيتشر ستو

Harriet Beecher stowe (1811-1896م)

هذه سيدة نبغت في القصة، وكان موضع نبوغها قصة «مقصورة العم تم»

11

التي يكاد يستحيل أن تجد من لم يقرأها بين من يقرءون القصة، والتي كادت تترجم إلى لغات الأرض جميعا، والتي قرأتها عند صدورها القصصية الفرنسية «جورج سان» فامتدحتها وعرفت لها قدرها العظيم.

ولدت «هاريت» لأب قسيس، وبدرت فيها بوادر النبوغ وهي لم تزل في سن مبكرة؛ فهي في عامها الحادي عشر كتبت مقالا تجيب به عن هذا السؤال: هل يمكن أن نهتدي بظواهر الطبيعة في البرهنة على خلود الروح؟ ثم عقبت على هذه المقالة بمأساة منظومة. ولما كانت الفتاة في سن الحادية والعشرين، انتقل أبوها مصطحبا معه أسرته إلى بلد يدعى «سنسناتي» على الحدود بين الشمال والجنوب من الولايات المتحدة، فكانت هذه فرصة للأديبة أن ترى بعيني رأسها حالة العبيد في القسم الجنوبي، ولو أنها لم تر من ذلك إلا مثلا لا يوضح حالة العبيد في أبشع صورها، لكنها تحركت لما رأت. وتزوجت «هاريت» وهي في الخامسة والعشرين، وبعد زواجها بخمسة عشر عاما كتبت قصتها العظيمة الخالدة «مقصورة العم تم». وما يجدر ذكره لطرافته، أن الكاتبة بدأت قصتها بفصل عن موت «العم تم»، وقبل أن تمضي في إنشاء قصتها قرأت ذلك الفصل على أطفالها، فبكى الأطفال بكاء مرا لما سمعوا! مضت الأم تكتب قصة «العم تم» فصلا فصلا، وكلما فرغت من فصل نشرته؛ فلم تلفت قصتها الأنظار إبان نشرها على حلقات، لكنها لم تكد تجمع في كتاب حتى طار ذكرها في الآفاق، وعدت من فورها بين أعظم من أنشأ القصة من أدباء العالمين. وكتبت «هاريت» غير هذه القصة قصصا أخرى، لكنها لا تذكر إلا بها، ولم تخلد إلا بها، ولعلها لم تنبغ إلا بها. وماذا أنت قائل في قصة تكون بين العوامل التي حركت الناس إلى حرب أهلية محورها حالة العبيد في القسم الجنوبي من الولايات المتحدة؟ ماذا أنت قائل في قصة تصادف أشد إعجاب لدى كاتبة مثل «جورج سان»، وتقبل على قراءتها في شغف الملكة فيكتوريا؟ لا نريد أن الأدب تقاس عظمته بمن يقرءونه من ملوك الأرض وملكاته، ولكنا نريد أن الأثر الأدبي إذا ارتج بصداه العالم حتى بلغ الصدى آذان الرءوس المتوجة، فلا بد أن يكون أثرا أدبيا له مكانته. (7) هنري ديفد ثورو

Henry David Thoreau (1817-1862م) «ثورو» كاتب مزج نفسه بالحيوان مزجا، وكتب عن الحيوان كتابة الصديق عن أصدقائه. لقد عاش في الريف، وقضى شطرا عظيما من حياته في غابة مجاورة لقريته، ثم كتب عن الريف وعن الغابة، فجاءت كتابته شاهدا على ملاحظة دقيقة وحس مرهف وقلب نابض بالإنسانية الحية الرفيعة. ثم هو فوق ذلك رجل له فلسفته في الحياة ورأيه في الإنسان، وبهذه الفلسفة وهذا الرأي استحق «ثورو» أن يخلد بين قادة الفكر. إن كل كائن حي له عنده احترام، بل له توقير وتقديس، فالكائنات الحية كلها أفراد أسرة واحدة، هم زملاء في هذه الحياة، هم شركاء في الروح. وليس عجيبا - إذن - ما يروى عن «ثورو» أنه كان يذهب إلى الغابة فيطمئن له الحيوان ولا يبدي علامات الذعر التي يبديها عادة في حضرة الإنسان. إنه إذا حط على كتفه عصفور سمعته يقول: إن هذا العصفور على كتفي لأشرف لي من وسام ذهبي أزخرف به سترتي!

وينطوي «ثورو» على نفسه ليدرسها، فيجد في ذلك أيضا متعة لا تنقضي، لا بل يراه واجبا مفروضا على الإنسان أن يدرس روح الإنسان متمثلة في روحه هو، وعقل الإنسان مصورا في عقله هو. إن أفراد الإنسان جميعا نسخ من أصل واحد فأعجب العجب أن يكون عندك كتاب لم تقرأه، ثم تذهب إلى جارك لتستعير منه نسخة من الكتاب نفسه! كثير من الناس يدرسون الإنسان فيمن حولهم من الناس، تاركين نفوسهم، وفي نفوسهم الكفاية لو استطاعوا أن يبلغوا أغوارها. فأديبنا «ثورو» حين أراد أن يدرس الإنسان وعقله وروحه، أراد أن يدرس «هنري ديفد ثورو»؛ أراد أن يدرس نفسه.

أقام «ثورو» عامين في غابة «وولدن»

12

وسجل ملاحظاته عن الحيوان في كتاب هو الذي يعرف به في دولة الأدب، وأطلق على الكتاب اسم الغابة، وهو كتاب يعد بين أمهات الكتب في العالم. (8) وشنطن إيرفنج

Washington Irving (1783-1859م)

لئن قيل لك إن الأدب الأمريكي يتميز من سائر الآداب بخصيصة في فكاهته، فاعلم أن مبدع هذه الروح فيه هو «وشنطن إيرفنج» الذي يعرف بقصة قصيرة له تسمى «رب فان ونكل»

13

أظهر فيها كل نبوغه الأدبي، وقد تبعه كثيرون من أدباء أمريكا في فكاهته وفنه، لكنهم كانوا يجولون بتلك الفكاهة في محيط بلدهم بحيث تصادف الإعجاب عند مواطنيهم ولا تهز بالابتسام قارئا خارج أرضهم، أما «إيرفنج» فلمسته إنسانية عالمية يحسها قلب الإنسان أنى كان، ولقد قيل إن «سير وولتر سكت» قرأ قصة «إيرفنج» «رب فان ونكل» فأغرق في الضحك حتى كاد ينشق من الضحك جنباه.

وخلاصة هذه القصة القصيرة المشهورة أن «رب» ذهب إلى الجبل ذات يوم فالتقى في أحد الكهوف بجماعة من الشياطين تلعب وتشرب، وأذاقوه من خمرهم فنام عشرين سنة، حتى إذا ما عاد وجد وجه البلد قد تغير وأنكره الناس إلا رجلا واحدا. هذا هو الإطار الذي قص فيه الكاتب قصته، فصور وتفكه، وكان بديعا في تصويره، رائعا في فكاهته.

وقد بلغ «إيرفنج» قمة نجاحه الأدبي وهو في السادسة والعشرين من عمره، ثم أنفق بعد ذلك عشر سنوات في التجارة، انتهت بإفلاسه، فعاد إلى حظيرة الأدب معتزما ألا يهجرها إلى سواها، وأخرج «كتاب الصور»،

14

أخرجه منجما على أقسام، خلال عامين؛ وسرعان ما ذاع ذكره أيضا في أوروبا. وكأنما وضع «إيرفنج» بما أنشأه نموذجا لمن جاء بعده من الأدباء في أمريكا يحتذونه، فقد كانت الصورة الأدبية دائما واحدة عند الجميع: يصور الأديب شخصا له علاماته المميزة وقسماته الفريدة، ثم ينطقه بما يريد له أن ينطق في نقد هذا الجانب أو ذاك من جوانب الحياة، في نوع من الفكاهة خاص لا تكاد تخطئه لما فيه من تهكم لا يتوخى رقة اللمس ولا يبالي إن جاءت ضربته قاسية غليظة. (9) مارك توين

Mark Twain (1835-1910م)

هو أعظم الأدباء الناثرين في أمريكا في القرن التاسع عشر، تجمعت فيه كل خصائص النثر الأمريكي التي ظهرت في أسلافه من الأدباء، خصوصا روح الفكاهة، اسمه الحقيقي هو «صموئيل لانجهورن كلمنز

Samuel Langhorne Clemens » لكنه حين كان في عامه السابع عشر اشتغل ربانا لسفينة تجارية في نهر المسسبي، ومن عادة الربان أن يقيس عمق الماء بين آونة وأخرى، ويصيح لأحد البحارة قائلا - مثلا - «علم على واحد» «علم على اثنين» «علم على ثلاثة» وهكذا، ومن هذه الصيحات اشتق اسمه الذي اشتهر به، ف «مارك توين» معناها الحرفي «علم على اثنين».

نقول إن «مارك توين» أبرز في أدبه صفة التفكه التي عرف بها الأدباء الأمريكيون؛ التفكه الجاف يقوله رجل خبر الدنيا ولم ينعزل عن الحياة في برج من العاج، رجل خبر الحياة كما يحياها الناس فيلمح فيها ما يثير الابتسام، فلا يمتنع عن الضحك من غفلة الناس وغفلته معهم، وقد استعاد بذاكرته كل تجاربه في صدر حياته، فاستمدها كثيرا من مادة أدبه، وأضاف إليها ما خلقه خياله. ومن أول إنتاجه «أمريكي في بلاط الملك أرثر»

15

والملك أرثر - كما علمت في الجزء الأول من هذا الكتاب - ملك أسطوري في العصور الوسطى، كانت تنسج حول شخصيته القصص عن فرسان تلك العصور وشهامتهم في القتال دفاعا عن الضعفاء ومن إليهم ممن يحتاج إلى معونتهم، فتخيل «مارك توين» أن أمريكيا حديثا، بعقلية الأمريكي ونظراته وآرائه، قد عاش في بلاط الملك أرثر وفرسانه، ثم اتخذها الكاتب فرصة ليزيل عن ذلك العهد ما نسج حوله من أوهام جعلته يبدو عهدا لامعا براقا، وهو في حقيقته عصر تعس وشقاء.

على أن شهرته ترتكز على كتابين غير هذا، هما «الضفدعة الوثابة»

16

و«السذج في الخارج »

17

وهما كذلك مزيج من حقائق الحياة وخيال الكاتب. على أن الحقائق نفسها كانت تمط بخياله حتى تبدو على صورة مثيرة للضحك، خذ مثالا لذلك أنه حين كان في مدينة دلهي بالهند دخل غرفته قردان، هذه حقيقة، فلما سجلها في أدبه، سجلها على هذه الصورة: «ولما استيقظت من نومي وجدت أحد القردين أمام المرآة يسوي شعره بالفرجون، ووجدت الآخر قد أمسك بكراسة مذكراتي يقرأ فيها صفحة فكاهية، لكنه يبكي لقراءتها؛ فلم يعنني القرد الذي يسوي شعره بالفرجون، لكن سلوك القرد الثاني أساء إلى نفسي أيما إساءة، ولا أزال حتى اليوم أشعر بأثر تلك الإساءة.»

وللكاتب كذلك «تم سوير» و«هكلبري فن» وفي كل منها يصور صبيا له مميزاته الخاصة التي تجعله فردا له سماته وقسماته. وهاتان الصورتان من أهم ما يذكر في آداب العالم إذا ما ذكرت صور الغلمان التي خلقها خيال الأدباء، وقد استمد الكاتب شخصية «هكلبري» من غلام في الواقع كان يتيما وتشرد في الطرق والغابات. وقد حكى «مارك توين» كثيرا جدا من تجاربه الشخصية وهو في غلومته إذ قص لنا عن حياة «هكلبري»، وأما الصبي الآخر الذي صوره نعني «تم سوير» فقد جاء في الحقيقة مؤلفا من ثلاثة جوانب استمدها الأديب من ثلاثة غلمان، وجمعها هو بخياله في شخصية واحدة، وهنا كذلك سجل «مارك توين» كثيرا من تجاربه وتجارب زملائه في المدرسة في مثل هذه السن.

القسم السادس

الأدب العربي في القرن التاسع عشر

في رأيي أن كل أدب كغدير الماء، إذا لم تمده من حين لآخر بماء جديد تعفن وأنتن، وكالأسرة الكبيرة إذا ظل أفرادها يتزاوجون فيما بينهم هزلوا وذبلوا وشاعت فيهم الأمراض ما لم يتزاوجوا من غيرهم. وله عمر كعمر الفرد: صبا، فشباب، فكهولة، فشيخوخة، ولكنه يمثل الدور ثانية في بنيه ولا يكون ذلك إلا بالتزاوج.

هذا في نظري تاريخ كل أدب؛ شرقي أو غربي. فإن نحن نظرنا إلى الأدب العربي وجدنا أن الأدب الجاهلي وامتداده في العصر الإسلامي بدأ يركد، حتى امتزجت الأمة العربية بغيرها من الفرس والروم والهند وغيرهم، وامتزجت الثقافة العربية بالثقافة الفارسية وبالثقافة الهندية وبالثقافة اليونانية، فبدأ الأدب العربي يحيا حياة جديدة ظهر أثرها في مثل الجاحظ وتأليفه في العصر الإسلامي.

وقد يبدو غريبا أن أقول إن الأدب العربي قد ركد قبيل هذا الامتزاج مع ما عرف عنه من جزالة اللفظ وجودة السبك وفصاحة اللسان، ولكن مظهر الركود في نظري كان قلة المعاني الجديدة، وتكرار المعاني القديمة، واقتصار الأدب على الأقوال المأثورة، في الموضوعات الموروثة، حتى طلع الجاحظ وأمثاله بموضوعات جديدة ومعان جديدة وأساليب جديدة، فكان هذا هو التجديد الذي أتى به الامتزاج الجديد، ونشأ عنه العودة إلى الشباب بعد الشيخوخة.

ثم صار هذا الجديد قديما، وركد ماء الغدير لما انقطع المدد وأصبح الشباب هرما؛ ذلك أن الشرق بعد الحروب الصليبية أغلق على نفسه وضعف اتصاله بالغرب ولم يكد يعلم شيئا مما يجري في أوروبا. نعم كان هناك قناصل للدول وتجار أجانب ولكن هؤلاء كانوا يعيشون في شبه عزلة، ولا تشعر الشعوب الشرقية بهم وخاصة من الناحية الثقافية، ولما بدأ الغرب في القرن الخامس عشر والسادس عشر يضع أساس نهضته في العلوم والفنون والسياسة والاجتماع والاقتصاد وغير ذلك مما غير وجه حياته تغييرا تاما لم يصل إلى الشرق شيء منها ولم يشعر بها، واستمر في دائرته المغلقة يقلد حياة الشرق الأولى من غير روح، ويعيش على الثقافة القديمة بعد أن صارت تماثيل.

في الغرب كان بدء النهضة والثورة على القديم، وبناء أسس جديدة لحياة جديدة، وتحكيم العقل فيما يعرض من مشاكل، وتحرير العواطف من كثير من القيود، ووضع كل قضية موضع البحث والتجربة. وفي الشرق كان الجمود وظلم الحكام مع الاستكانة من الشعب، وترف الأمراء مع فقر الشعب؛ كان الشرق والغرب يسيران متحاذيين ولكن اختلف فيما بعد اتجاههما، فسار الغرب إلى الأمام وسار الشرق إلى الوراء، وتنبه الغرب فطالب حكامه الظالمين بتحقيق العدل، واستنام الشرق على الظلم راميا عبئه على القدر.

وأصاب الأدب من ذلك ما أصاب سائر مناحي الحياة، فقد كان من أكبر أسباب النهضة الأدبية الأوروبية التفاتهم إلى وجوب الاستمتاع بالحياة الدنيا ونعيمها، بعد أن كان المثل الأعلى هو الزهد والانقطاع للحياة الأخرى، وعلى هذا الاتجاه سار الأدب يقوم الحياة الدنيا ونعيمها تقويما كبيرا في القصص وسائر أنواع الأدب. ثم من المظاهر الجديدة التي كانت عندهم في الأدب ثورتهم على الفوارق بين الطبقات، فبعد أن كانت الروايات إنما تتعرض لوصف الحياة الأرستقراطية فإذا عرضت لحياة الطبقة الوسطى أو الدنيا فلإضحاك الطبقة العليا؛ ثار الأدباء على هذه الأوضاع وصار كوخ الفلاح موضوعا للأدب كبلاط الملوك، واستمدت المآسي والملاهي موضوعاتها من الحياة المألوفة عند أوساط الناس وفقرائهم.

ومظهر آخر في الأدب الغربي هو استنزال الأدب إلى عالم الواقع، فالقطعة الأدبية صارت تقوم بمحصولها الفكري لا بجمالها الفني وحده، وعد من الأدب الرسائل السياسية والمقالات الاجتماعية.

وفي الشرق كان الأدب حائرا بين الزلفى إلى الأغنياء والكبراء في المديح أو الترفع عن ذلك إلى الانصراف للحياة الأخرى بإنتاج الأدب الديني في المدائح النبوية وغيرها، أما الأدب الدنيوي الذي يصور حياة الشعوب ويعرض للمسائل الاجتماعية والسياسية ويفتح آفاقا جديدة فلم يكن إلا في القليل النادر؛ ولذلك أنتجت النهضة الأوروبية أدب شكسبير وراسين وجوته وأمثالهم، في حين أنتجت الحياة الشرقية أدبا يعنى بأنواع البديع كابن حجة الحموي، أو أدبا يعنى بمدح الأمراء كالأرتقيات لصفي الدين الحلي، أو أدبا يعنى بالناحية الدينية كالهمزية والبردة للبوصيري. أما الأدب الذي يمثل الشعب في بؤسه والحكام في ظلمهم أو الذي ينفخ في الأمة روح الثورة على الظالمين، أو الأدب الذي يدعو إلى أن يتبوأ الشعب مكانته فقلما نظفر به إذا استثنينا ابن خلدون، وقليلا من أمثاله.

ومع هذا كله كانت مصر بعد سقوط بغداد في يد التتار أقوى الضعفاء أو أصحى السكارى. •••

وقد صورنا الأدب العربي إلى آخر القرن الثامن عشر راكدا في شعره ونثره، وسائر فنونه، وكان أهم سبب في هذا الضعف هو ضعف الحياة الاجتماعية؛ لأن الأدب مرتبط أشد الارتباط بالحياة؛ فإذا ساءت الحياة الاقتصادية والسياسية ولم ينعم بالحياة إلا الأغنياء، وغرق الشعب كله في البؤس، وعومل معاملة الأنعام؛ كسد الأدب وأصبح طرفة من الطرف التي تقدم للملوك والأمراء، كالجوهرة الكريمة أو القطعة من الصناعة الفنية، فإذا دبت الحياة في الأمة، وشعرت بنفسها، وقومت العدل والحرية تقويما صالحا، واستاءت من الظلم، ورفعت صوتها لمحاربته، وطالبت بتحقيق العدل، وقومت مشاعرها في الحب والكره، والعدل والظلم، وقدرت تقديرا صحيحا موقف الحاكم من المحكوم والمحكوم من الحاكم، حيي الأدب، وتجدد في موضوعاته وأساليبه.

وهكذا كان تاريخ الأدب في كل عصر؛ تخمد الحياة الاجتماعية فيخمد، وتحيا فيحيا.

نعم قد تركد الحياة الاجتماعية ولكن ترزق الأمة بأديب كبير، أو فيلسوف كبير، يشعر بما لا يشعر به قومه، ويتجه اتجاها صحيحا حيث يتجه سائر شعبه اتجاها خطأ، فيرفع صوته بالدعوة الصحيحة، وبإيقاظ الشعور القومي، وينادي بالتوجيه جهة غير التي يتجه إليها شعبه، ويتعرض في دعوته هذه إلى الاضطهاد والتسفيه بل والقتل أحيانا، ولكن تحيا فكرته ودعوته، ويتسلمهما خلف له يزيدهما اشتعالا؛ حتى يعما الشعب ويحولا اتجاهه من اتجاه فاسد إلى اتجاه صحيح، ومع الأسف لم يوجد مثل هؤلاء الأفراد الأفذاذ في الشرق في العصور الأخيرة التي أرخنا لها من قبل، وإن وجدوا فصوت أفراد لم يخلفوا مدارس، وأخمدت أنفاسهم وحركاتهم في أسرع وقت ممكن، أو ضاعت دعوتهم في تقاليد الشعب وحالته السيئة التي كان عليها.

ولعل سبب ذلك أن الشرق قد توالى عليه من المظالم ما أفقد الشعب روحه، وأن الحياة في الشرق ورفق الجو الطبيعي وتلطيف العاطفة الدينية لهذه المساوئ بكثرة الأوقاف والإحسان وما إلى ذلك جعل الحصول على القوت الضروري في الشرق أيسر تناولا مما هو في الغرب؛ فكان إذا ارتفعت الدعوة باستثارة الشعور بالظلم على يد أحد المصلحين في الغرب وجدت لها استجابة من الشعب أكثر مما تجد لها في الشرق.

ثم إن الشرق قد توالت عليه محن خارجية من قديم أكثر مما أصاب الغرب فقد ظل أمدا طويلا منكوبا بالغزو الاستعماري؛ مما حرم الأمم عزة استقلالها، وطمأنينة استقرارها، فالظلم الواقع على الشعوب الشرقية لم يكن من حكامها الذين هم منها فقط، بل أسوأ من ذلك ما كان من خارجها، ولم يصب الغرب بمثل هذه المصيبة الطويلة. والاستقلال في السياسة يولد الاستقلال في الفكر، والاستقلال في الأدب، وتكوين الشخصيات في سائر أنواع العلوم والفنون. وفقدان الاستقلال السياسي كفيل بضياع أنواع الاستقلال المختلفة علمية كانت أو فنية أو أدبية. •••

وعلى كل فقد ظلت الحياة الأدبية على نحو ما وصفنا إلى أن كانت النهضة الحديثة للشرق قبيل مستهل القرن التاسع عشر.

وترجع أسباب النهضة إلى عوامل مختلفة أهمها:

احتكاك الشرق بالغرب

فالغرب لما قوي سياسيا وفنيا وحربيا اتجه إلى احتلال الشرق واستعماره واستغلاله، وساعد على طمعه في هذا سوء حال المملكة العثمانية، وقد كان الشرق جاهلا كل الجهل بما يجري في الغرب من أساليب سياسية في الحكم وأساليب حربية في الحرب، وعلم وأدب وفن في الحياة الفكرية، على حين كان الغرب عالما بكل ما في الشرق علما واسعا بما يبث من عيون يمدون أممهم بتفاصيل ما يجري في الشرق، ويؤلفون الكتب في آثاره وعاداته وتقاليده، ويضعون التقارير في قواته الحربية، على حين لا يذهب من الشرق إلى الغرب إلا القليل النادر ولمناسبات قوية كسفر إبراهيم بك الكبير؛ أخذه الإنجليز ليقيم في بلادهم فيؤمن بعظمتهم، ثم يتخذونه عونا لهم بمصر في سياستهم، فأقام في إنكلترا نحوا من خمس سنوات، ولكن لم يكن لهذه الحادثة وأمثالها من أثر علمي أو أدبي أو فني؛ فلم يشعر الشرق إذن بقوة الغرب ولم يستفد منها إلا بعد أن فاجأه بالغزو.

شعرت مصر بذلك حين دهمتها الحملة الفرنسية؛ إذ أقبل نابليون سنة 1798م يفتح الإسكندرية، وينتقل منها إلى فتح غيرها من البلاد المصرية في سهولة ويسر. ولم يكن حكم الفرنسيين لمصر حكما صالحا يبعث فيها النهضة إلا ما كان عن طريق غير مباشر من اتصال المصريين بهم ووقوفهم على بعض نواحي تقدمهم واطلاعهم على مخترعاتهم وعلى نتائج بحوث علمائهم.

ولما جاء محمد علي قوى هذا الاتصال بين الشرق والغرب ؛ فقد اتخذ إخصائيين من الأوروبيين في نواحي الحياة المختلفة وكان الشعب أكثر إقبالا على الاستفادة منهم، لأن الغرب، وخصوصا الفرنسيين، لم يكونوا حينئذ حكاما مكروهين كما كانوا في أيام حملتهم، بل كانوا موظفين مجلوبين لحكومة مصرية وشعب مصري، فاستعان بهم محمد علي في تنظيم الجيش، وفي إنشاء المدارس، وفي أساليب الحكم إلى غير ذلك من نواحي الحياة.

وقد كانت مهمة محمد علي أولا تقوية الجيش وتنظيمه، ولكن هذا الجيش تطلب مطالب في نواحي الحياة الأخرى، فلا بد للجيش مثلا من أطباء؛ فافتتح مدرسة الطب وأشرف عليها علماء من الفرنسيين، غير أن هذا التعليم الطبي باللغة الأجنبية استلزم معربين يعربون للطلبة ما لا يفهمونه من الأساتذة الفرنسيين؛ فكان بدء حركة الترجمة وبدء وضع المصطلحات العلمية باللغة العربية.

ووجد محمد علي أن نقل الأساتذة من فرنسا وغيرها إلى مصر لا يغني الغناء المطلوب، فبدأ يبعث البعوث من المصريين إلى أوروبا.

وأول ما كان ذلك في سنة 1813م، ثم ظل يوالي البعوث بعد ذلك حتى سنة 1826م حيث كان عدد البعثات أكثر من أربعين طالبا، هؤلاء الطلبة رأوا أوروبا على حقيقتها، ولم يقتصروا في تزودهم على العلوم والفنون والآداب، بل أضافوا إلى ذلك ما قد يكون أبعد أثرا وهو دراستهم الحياة الاجتماعية فيها، وتأثرهم بها، فعرفوا أساليب معيشة القوم، وأدركوا أسباب نهوضهم، ورأوا ما يستمتعون به من حرية، وكيف يتعلم النساء والرجال منهم على السواء، وكيف يرقون بالشعوب في الحياة المادية والمعنوية، إلى غير ذلك مما رأوا وعرفوا، فلما عادوا إلى مصر عادوا يحملون مشاعل من نور.

وتجلى ذلك في إقبالهم على الترجمة والتأليف والدعوة إلى الإصلاح وإن كانت دعوة هادئة لينة، وفي كثير من الأحيان متسترة، كالذي نقرؤه في ثنايا مؤلفات رفاعة الطهطاوي من تحبيذ تعليم النساء، وإنشاء المدارس لهن، والعناية بثقافة الشعوب وصحتها، ورفع مستواها الاجتماعي.

كل هذا رفع من مستوى الثقافة، وكل هذا كان له أثره في الأدب بوجه خاص؛ لأن الأدب معان وأساليب، فإذا تثقف نخبة من شبان الشعب ، وملئوا نفوسهم بالمعاني والأفكار والآراء، وقطروها إلى الشعب بأي وسيلة كانت، إما بالتأليف أو الترجمة أو الخطب، أو المحادثة أو السمر؛ كان ذلك كله نواة لنهضة أدبية يرجى خيرها بعد قليل.

واستتبعت حركة استجلاب الأساتذة الأوروبيين على اختلاف أنواعهم إلى مصر، وإيفاد البعوث المصرية إلى أوروبا ثم عودتهم منها حركة قوية في التأليف والترجمة؛ فقد رأينا أثر ذلك واضحا في كثرة ما ترجم وما ألف، وبدأ ذلك بالطب لما كان من حاجة الجيش للطب، ثم توالت الترجمات والتآليف في الفنون الأخرى.

وكانت حركة التأليف والترجمة في مستهل حياتها محوطة بمصاعب كبيرة، من ذلك العثور على المصطلحات العربية تقابل المصطلحات الغربية وتحسن التعبير عنها، وقد بذلوا في ذلك جهدا مشكورا بالرجوع إلى الكتب القديمة ككتب ابن سينا وغيره في الطب، يستخرجون مصطلحاتها، وكتب الفقه القديمة يستخرجون تعبيراتها الفقهية ... هذا إلى صعوبة في تطويع الأسلوب العربي السائد إذ ذاك إلى أسلوب ميسر سهل خال من السجع وغيره ليتفق وما يتطلبه العلم من أسلوب صاف واضح.

والذي يقرأ هذه الكتب يحس هذه الصعوبة، ويلمس هذا الجهد الذي لقيه المؤلفون والمترجمون، وما صادفوا من تعثر أحيانا وتغلب على الصعاب أحيانا أخرى، ولكن هذه الحركة كانت على كل هذا، بدءا لنوع من الثقافة جديد يعد بحق دعامة النهضة، ويوشك أن يكون له أثره في الثمرة المرتقبة. •••

وهذا الاحتكاك سواء من طريق استيفاد الأساتذة الأوروبيين إلى مصر أو من طريق بعث البعوث المصرية إلى أوروبا كان له أثره الخطير الذي ظل يعمل عمله في حياة الشرق إلى الآن، فقد كان هؤلاء وهؤلاء نقلة للمدنية الغربية في منهج بحثها وتعاليمها وطريقة حياتها وأسس حضارتها.

عرض ذلك على المصريين عرضا قويا وبخاصة الخاصة منهم؛ فالأساتذة الأوروبيون يدرسون على منهاجهم الذي تعلموه في أوروبا، ويعيشون في مصر العيشة الاجتماعية التي كانوا يعيشونها في أوروبا، وينقلون نظم الإدارة والتعليم والصناعة التي شهدوها في بلادهم، ويتحدثون الأحاديث المختلفة عن الحضارة الأوروبية، وكذلك يفعل أعضاء البعثة من المصريين الذين سافروا ودرسوا ثم رجعوا. وأثر هؤلاء أقوى لأنهم من صميم البلاد وأقدر على عرض ما شاهدوا وتأثروا.

كل هذا جعل في جو مصر نوعا جديدا من الحياة ومن التفكير لم يكن معروفا، وبجانب ذلك كان هناك طبقة أخرى من مثقفي الأزهر والمعاهد الدينية الأخرى يحيون حياة قديمة وعلى نمطهم القديم وعلى تفكيرهم المألوف وقلما يصل إليهم شيء من الثقافة الغربية؛ فكان هناك احتكاك آخر من جنس آخر، هو احتكاك بين العقلية القديمة والعقلية الحديثة، والعلم القديم والعلم الحديث، والأدب القديم والأدب الحديث، والفنون والصناعات القديمة والفنون والصناعات الحديثة، وبعبارة أخرى كان هناك احتكاك في الأمة الواحدة بين طائفتين ومدنيتين وعقليتين كالاحتكاك الذي وصفناه بين الشرق والغرب. وأثر ذلك فيما نحن بصدده الآن من وجود أساس لمدنيتين وعقليتين ظلتا تعملان جنبا إلى جنب وتؤثر كل منهما في الأخرى أثرا يضعف ويقوى بالأحداث إلى يومنا هذا. •••

ثم حدث احتكاك من نوع آخر، فقد كان الاحتكاك السابق سلميا هادئا أيام محمد علي ومن بعده، يستعين فيه الشرق بالغرب متى شاء وكيف شاء، وكانت الاستفادة بالتعلم والتعليم والترجمة والاقتباس والتقليد، ولكن جاء بعد ذلك فتح قناة السويس والتنازع عليها والاستفادة منها واختلاف أطماع الدول في استغلالها وتسابق الإنكليز والفرنسيين إلى بسط نفوذهما عليها، وأعقب ذلك تدخلهم في شئون البلاد؛ فكان من هذا بدء شعور المصريين بالخوف من سوء المصير وغليان البلاد، ودعوة القادة إلى الحذر واليقظة حتى لا تقع البلاد فريسة في يد الأجانب.

وكان على رأس هذه الدعوة السيد جمال الدين الأفغاني وأتباعه. ثم كان في الربع الأخير من القرن التاسع عشر أن وقعت الواقعة باحتلال الإنكليز لمصر فكان احتكاكا من نوع آخر: بسطوا سلطانهم ووجهوا أساليب التعليم ومناهجه والحياة الاقتصادية والسياسية وفقا لمنفعتهم هم.

وقد كان ذلك احتكاكا مكروها، على عكس الاحتكاك الأول، ومع هذا فقد أثر في استمرار نقل المدنية الغربية إلى مصر وتعليم كثير من أبناء البلاد اللغة الإنكليزية يطلعون بها على العلوم والآداب والفنون الإنكليزية وإرسال بعثات إلى إنكلترا للدراسة فيها.

ونشأ عن ذلك كراهة المصريين للحكم الأجنبي وشعورهم بعزتهم التي امتهنت وقوتهم التي ضاعت، وفقدان كرامتهم بفقدان استقلالهم، واطلاع كثير من تثقفوا الثقافة الأجنبية حتى الإنجليزية على ما بذل الأوروبيون في المحافظة على استقلالهم وشعورهم بوطنيتهم؛ فأوحى إليهم ذلك أن يحاربوا الاحتلال، ويطلبوا الاستقلال، ويسلكوا في ذلك السبل التي سلكها الأوروبيون أنفسهم؛ فنشأ في البلاد نوع من الأدب السياسي تجلى في الصحف وفي الشعر وفي الخطابة مثله أولا جمال الدين الأفغاني، ثم عبد الله نديم ثم مصطفى كامل، وشعر به أولا البارودي ثم صبري وشوقي وحافظ.

وهكذا كان للاحتكاك بنوعيه أثر بليغ واضح في الأدب على اختلاف أشكاله.

وكان من أثر هذا الاحتكاك: (1)

الطباعة والصحافة ، أما الطباعة فمع أنها اخترعت في القرن الخامس عشر الميلادي وعرفتها الآستانة في منتصف القرن السادس عشر، فإن مصر لم تعرفها إلا على يد الحملة الفرنسية ولم تستفد منها فائدة تذكر إلا سنة 1821م حيث أنشأ محمد علي المطبعة الأهلية التي عرفت باسم مطبعة بولاق، ثم تتابع إنشاء المطابع.

وكان للطباعة أثر كبير في نشر الثقافة؛ فقد اعتاد الناس قبلها أن ينسخوا الكتب بأيديهم، وهذا يجعلها نادرة ويجعل الانتفاع بها محصورا في دائرة ضيقة ولا يستطيع اقتناءها إلا الموسرون، فكان طلبة العلم ينسخون الكتب بأيديهم أو يستعيرونها من المكاتب على صعوبة في ذلك، فلما انتشرت الطباعة وتقدمت، كثر عدد ما يطبع ورخص ثمنه وأصبح في متناول عدد كبير من الناس.

وقد بدأت المطابع تطبع الكتب التي تخدم الجيش والإدارة الحكومية، ثم توسعت فطبعت الكتب الدينية والأدبية والتاريخية وغيرها؛ مما زاد في نشر الثقافة، وكان لذلك أثره في الحركة الأدبية.

وكان لتأسيس الطباعة وتقدمها فضل في الصحافة وتقدمها، وقد أنشئت الصحافة في مصر في عهد محمد علي أيضا بإنشاء «الوقائع المصرية» وكانت جريدة رسمية تنشر الأخبار الحكومية، ثم كان لها قسم أدبي لنشر المقالات الأدبية والاجتماعية، ثم تقدمت الصحافة وكثرت الصحف ونالت حقوقها من الحرية على مر الزمان تنشر فيها آراء المفكرين والسياسيين وتنصر الأحزاب المختلفة والنزعات المختلفة، وتحمل الأخبار بجانب المقالات السياسية والمقالات الأدبية؛ فكانت بذلك مصدرا من أكبر المصادر لنشر الأفكار السياسية والاجتماعية والأدبية بين طبقات الشعوب، وكانت عاملا من عوامل النهضة الفكرية، كما كانت سببا قيما في رقي النثر العربي وتحريره مما كان يتعثر فيه من سجع وأنواع بديع ونحو ذلك؛ إذ كانت الصحافة تتطلب أسلوبا سريعا سهلا حارا متدفقا.

وبجانب الصحافة كانت المجلات وكان أول ما أنشئ في مصر مجلة «اليعسوب» وهي مجلة طيبة أنشأها محمد علي البقلي سنة 1865م ثم تتابعت المجلات الأدبية كمجلة «روضة المدارس» التي أنشئت لطلبة المدارس سنة 1870م وكان يحرر فيها كثير من رجال العلم والأدب، كرفاعة بك وعلي مبارك باشا والشيخ حسين المرصفي وعبد الله باشا فكري وغيرهم، كما كانت تنشر في آخر كل عدد صفحات من كتاب قيم.

وكانت من أهم المجلات الأدبية التي صدرت مجلة «نزهة الأفكار» التي أصدرها إبراهيم بك المويلحي ومحمد بك عثمان جلال سنة 1869م، وكان طابعها الظاهر عليها الطابع الأدبي البحت. وهكذا تعاونت المجلات والجرائد على تغذية الشعب بالأفكار والآراء العلمية والأدبية، وكانت كلها مدارس يتزعمها شيوخ الأدب والعالم في مصر ويتتلمذ فيها الناشئون الناشدون للأدب. (2)

وتبع إنشاء المطابع وتنبه الأفكار والرغبة في الازدياد في العلم أن اتجه جمع من المثقفين نحو إحياء الكتب العربية القديمة في مختلف العلوم والفنون ونهض بأعباء ذلك جماعة في الشرق وجماعة في الغرب. ففي الشرق نشرت المطابع المصرية كثيرا من الكتب القديمة العربية القيمة من لغوية وأدبية وتاريخية وفلسفية أمثال القاموس المحيط وتاريخ ابن خلدون والعقد الفريد، وكثيرا من دواوين الشعراء وغيرها، وكانت هذه الكتب مجهولة عند أكثر الناس لا يعرفها إلا الخاصة.

وفي الغرب جد المستشرقون في نشر كثير من الكتب القيمة فنشطت حركة الاستشراق، وهي حركة قديمة بدأت في القرن العاشر الميلادي وتقدمت على مر العصور وبلغت ذروتها في القرن التاسع عشر.

وكان من أهم ما قام به المستشرقون طبع الكتب العربية القديمة طبعا فنيا، فهم يجمعون نسخ الكتاب الذي يراد طبعه من مكاتب العالم ويقابلون بعضها ببعض ويختارون أصحها ويشيرون إلى ما اختلف من نصوصها ويضبطون أعلامها ويضعون الفهارس لها، وكثيرا ما يعلقون عليها أو يقدمون لها مقدمات قيمة في تحليلها وإن كان أكثر هذه المقدمات بلغة أجنبية.

ولعل أهم من يمثل هذا الجهد في القرن التاسع عشر البارون سلفستر دي ساسي الفرنسي المتوفى سنة 1838م فقد بذل جهدا كبيرا في هذا الباب إذ نشر كتاب كليلة ودمنه وألفية ابن مالك ومقامات الحريري ووضع شرحا على هذه المقامات لا يزال متداولا في أيدي الناس إلى اليوم، وكان نشره لها أول نشر، وألف كتاب الأنيس المفيد للطالب المستفيد جمع فيه كثيرا من المنتخبات في الأدب العربي والتاريخ، وكون مدرسة سارت على منهجه ونشرت الكتب القيمة أمثال كترمير الفرنسي المتوفى سنة 1857م وهو الذي نشر لأول مرة مقدمة ابن خلدون. ومن تلاميذه فرايتاج الألماني المتوفى سنة 1861م وهو الذي نشر لأول مرة أيضا كتاب الحماسة لأبي تمام مع شرح التبريزي عليه، كما نشر أمثال الميداني وفاكهة الخلفاء ورحلة البغدادي، إلى كثير غيرهم من المستشرقين نشروا من الكتب الشيء الكثير.

وقد وصلت هذه الكتب إلى الشرق وانتفع أهله بها وأعادوا طبعها ونشرها واستفادوا منها.

كل هذا - سواء ما نشر منه في الشرق أو ما نشره المستشرقون في الغرب - كان له أثر بعيد المدى في النهضة الأدبية، فقد وجد فيه المتأدبون ينبوعا لا ينضب يستمدون منه أدبهم ويقلدونه في أسلوبهم، ويتكثرون منه في علمهم وثقافتهم.

وكانت كل هذه الآثار محجوبة عن القراء إلا العدد القليل النادر، وكانت كل هذه الكتب طرفا من أعز الطرف تحفظ في خزائن الملوك أو في المساجد؛ فأصبحت بفضل المطابع وجد العلماء في النشر سهلة المنال كثيرة الانتشار بعيدة الأثر.

ثم كان لهذا الاحتكاك أثر في إنشاء المدارس على نمط حديث تقلد فيه المدارس الأوروبية في مناهج التعليم ومواد الدراسة. وقد كان التعليم في مصر قبل محمد علي محصورا في الأزهر في القاهرة، والكتاتيب المنبثة فيما حول القاهرة من المدن والأرياف.

فلما جاء محمد علي شعر بحاجته إلى إنشاء جيش منظم على الأساليب العسكرية الحديثة وهو نفس الشعور الذي شعرت به تركيا قبل ذلك قبيل القرن الثامن عشر، ووضعت له خططا غرضها التنظيم ثم عاقها عن إتمامها قوة الإنكشارية ومعاكستها للتجديد. ولكن محمد علي تمكن من السير في هذه السبيل وجرى خلفاؤه على الاستمرار فيها. واستتبع تنظيم الجيش تنظيم ما يلزمه من فنون أخرى من طب وهندسة وغير ذلك.

وعلى كل حال فقد نتج عن هذه تأسيس مدارس مدنية انقسمت إلى ثلاثة أنواع: ابتدائية وتجهيزية وخاصة. وكان من المدارس الخاصة مدرسة الطب والهندسة والطب البيطري والفنون والصناعات والزراعة والألسن، وكان لهذه الأخيرة (مدرسة الألسن) فضل كبير في نشر الثقافة الغربية في الفنون المختلفة بما كان من جهد رفاعة بك الطهطاوي وتلاميذه.

وكان عدد المدارس الابتدائية المؤسسة على النمط الحديث نحو خمسين مدرسة، ولما كثر التعليم المدني وجد محمد علي الحاجة ماسة إلى إنشاء «ديوان المدارس» يقوم بما تقوم به اليوم وزارة المعارف وقد أنشئ سنة 1839م.

واستمر هذا النظام يسير في عصور من بعده مع ما عاناه من الضعف والقلة في عهد عباس الأول وسعيد، حتى جاء اسماعيل فأعاد المدارس على اختلاف طبقاتها وزاد عليها في فنون التعليم المختلفة وأنشأ مدرسة الإدارة التي سميت بعد «مدرسة الحقوق» ومدرسة للمعلمين ومدرسة للفنون والصناعات سميت بعد «مدرسة الصنائع».

وقد كان أمام أولي الرأي في الأمة طريقتان: أن يحولوا المدارس القائمة كالأزهر ونحوه إلى مدارس تصطبغ بالصبغة المدنية وأن يأخذوها بذلك، غير أنهم كما يظهر آثروا إرضاء الرأي العام ببقاء هذه المعاهد على نمطها الخاص من غير تغيير، وآثروا الطريقة الأخرى وهي إنشاء المدارس المدنية بجانب المعاهد الدينية، مع أنهم في أول الأمر اختاروا كثيرا من أعضاء البعثات من الأزهر، كأنما ينوون الطريقة الأولى، ولكنهم حين عادوا درسوا في المدارس المدنية لا في المعاهد الدينية.

ونتج عن ذلك أن كان في البلاد نمطان من الثقافة: نمط أزهري يسير عليه الأزهر وتحتذيه المساجد الكبيرة في المدن ، وتأخذ به المساجد الكبرى في الشرق، وفي هذه كلها كانت تدرس العلوم الدينية من تفسير وفقه وحديث وشيء قليل من الحساب للمواريث، ومن الهيئة لمواقيت الصلاة، في كتب من نتاج المتأخرين ويعنى فيها بتفهم العبارات وإثارة الاعتراضات وكثرة المناقشات، أكثر مما يعنى فيها بروح الفكرة، وجوهر الموضوع، وحتى كتب البلاغة التي كانت تدرس لم تكن تعلم البلاغة لأنها لم تكن جيدة التعبير، ولا قوية الأسلوب، ولا تساعد على إخراج البليغ، بل تخرج رجلا فاهما لبعض العبارات مجادلا فيها.

على أن من الحق أن نقول إن هذا النمط يعلم الصبر على القراءة والإمعان في الفهم، والتدقيق في التعبير، كما أنه رمز أو منبع للحياة الروحية التي لا بد منها بجانب الحياة المادية. أما النمط المدني فكان يجري وراء النمط الغربي؛ تختار فيه أقرب الأساليب للتعلم ويعنى فيه بالموضوع أكثر مما يعنى باللفظ، ويستمد معارفه ومناهجه من الغرب فيما وصل إليه.

وقد نشأ عن هذا الاختلاف اختلاف في عقلية المتعلمين واختلاف في طرق التفكير وتحصيل المعرفة وتمثلها، باعد بين الطائفتين وكون منهما وحدتين في الأمة، على حين أن الغرب في نهضته وحد في أساليب البحث والتعليم حتى في المعاهد الدينية؛ إذ كانت نهضته من نفسه ونهضتنا مجلوبة من غيرنا.

ولما كانت المدارس المدنية مضطرة إلى تعليم اللغة العربية والثقافة العربية بجانب العلوم المدنية والثقافة الغربية اضطر المصلحون أن يعالجوا مشكلة تعليم الثقافة العربية كي تسير المدرسة الواحدة على نمط واحد أو متقارب. وقد ظهرت هذه المحاولة في عمل علي باشا مبارك ومن حوله كعبد الله باشا فكري والشيخ حسين المرصفي وأمثالهما، فألف علي باشا مبارك كتبا لتعليم القراءة والكتابة على نمط حديث، وألف عبد الله باشا فكري كتابا في المطالعة، وألف الشيخ حسين المرصفي كتابا في العلوم العربية وآدابها، وألف غيرهم كتبا في تقريب النحو، كما أنشأ علي باشا مبارك في عهد إسماعيل مدرسة دار العلوم لتكون أداة الصلة بين النمطين يتخرج فيها معلم اللغة العربية والثقافة العربية في المدارس المدنية.

وهذا أيضا كان له أثر أدبي؛ فقد نشأ أدباء يتثقفون الثقافة الغربية وشيئا من الثقافة العربية ويستمدون أكثر وحيهم وأفكارهم وخواطرهم مما تمليه الثقافة الغربية والأدب الغربي، وبجانبهم مثقفون لم يطلعوا إلا على الثقافة العربية يستمدون منها كذلك وحيهم وخواطرهم وأفكارهم؛ مما جعل في الأمة مدرستين مختلفتين في إنتاج الأدب العربي لا تزال أعلامهما واضحة إلى اليوم وإن تقاربتا بعض الشيء على مر الزمن. •••

ولا بد من الإشارة إلى ما كان لهذه النهضة من إنشاء دار الكتب المصرية في عهد إسماعيل؛ فقد كانت الكتب القيمة مبعثرة في المساجد والمكتبات الخاصة، عرضة للسرقة والتلف والإهمال حتى تسرب منها كثير إلى خارج البلاد، وبيع كثير منها بأبخس الأثمان للبقالين والفرانين، فأنقذ علي باشا مبارك هذا الموقف بإنشاء هذه المكتبة العامة سنة 1870م وجمع فيها كل الكتب التي عثر عليها في المساجد وغيرها، وأضاف إليها مجموعة مما طبع في مطبعة بولاق، كما أضيف إليها كثير من كتب حسن باشا المنسترلي، وسميت دار الكتب هذه في أول عهدها «الكتبخانة الخديوية»، وفتحت أبوابها لمن أراد أن ينهل من العلم؛ فكانت مدرسة قيمة بجانب المدارس الأخرى ومصدرا من مصادر الثقافة وخاصة الثقافة العربية، وأصبح من الميسور على كل راغب في المطالعة والدرس أن يجد طلبته في هذه الدار. •••

هكذا كانت الحال في مصر، أما سوريا ولبنان فقد كان لهما شأن آخر؛ إذ كانتا أكثر تبعية للدولة العثمانية وظلتا خاضعتين لها ولأنظمتها بعد استقلال مصر نوعا من الاستقلال، وإن كان لبنان يتمتع ببعض الميزات لوضعه الخاص وتاريخه الخاص.

وكانت الدولة العثمانية لا تهتم كثيرا بالثقافة ونشرها في غير عاصمتها، ومع هذا فقد كانت سورية أسبق من مصر في استخدام الطباعة تبعا لسبق الدولة العثمانية في هذا الباب؛ فقد صنعت الحروف العربية في حلب في أوائل القرن الثامن عشر. ووجد في سورية ولبنان عامل خاص كان سببا في نهضتهما العلمية، ذلك هو وجود العنصر المسيحي فيهما بكثرة؛ إذ حمل كثيرا من دول أوروبا وأمريكا على إرسال بعوث علمية للتبشير والتعليم فأنشأت هذه البعوث المدارس، وكونت رجال التعليم، وافتتحت المكتبات، وأدارت المطابع، ولم تكتف بالتعليم الديني الذي هو غرضها الأول، بل علمت، بجانبه، العلوم الحديثة من طب وطبيعة وكيمياء ورياضة، فأقبل الطلبة عليها من مسيحيين ومسلمين، فلما تخرج من هذه المدارس متخرجوها أخذوا هم ينشئون المدارس في القرى والمدن؛ ينشرون الثقافة بين أبناء البلاد.

وشجعت حركة التعليم هذه على إيفاد بعوث إلى أوروبا للتثقف فيها كالبعوث التي أرسلها محمد علي.

وكما تزود المثقفون من العلوم الغربية التفتوا إلى دراسة اللغة العربية وأدبها سواء في المدارس أو في المطالعة الخاصة، وخير من قام بالجمع بين الثقافتين المدرسون في المدارس الذين اضطروا إلى تعليم المواد الحديثة باللغة العربية فشعروا بحاجتهم الشديدة إلى دراسة اللغة العربية وآدابها.

وربما كان من الفروق الواضحة، بين مصر من نحو، وسورية ولبنان من نحو آخر، أن الثقافة في مصر بدأت قوية في الناحية العلمية ثم اتجهت بعد إلى الناحية الأدبية، على حين أن الثقافة في سورية ولبنان اتجهت إلى الناحية الأدبية ثم إلى الناحية العلمية. كما كان من الفروق الواضحة أن النهضة المصرية كانت أول ما بدأت ثم استمرت على يد الحكومة، على حين أن الثقافة في سورية ولبنان كانت على يد البعوث الأوروبية وقادة الثقافة من أهل البلاد.

وكانت أسس النهضة في سورية ولبنان هي بعينها أسس النهضة في مصر من مدارس وطباعة وصحافة وبعوث، وإحياء الكتب العربية القديمة.

وعاصر الأمير بشير الشهابي الكبير محمد علي وكان مركزه في بيت الدين في لبنان مركزا لحركة أدبية لها أثرها. فقد قرب الشعراء والكتاب وأجال في مجالسه المناظرات ومنحهم المنح؛ فتفتحت أذهانهم وتدفقت أقلامهم، وكان من رجاله الأدباء الشيخ ناصيف اليازجي، وبطرس كرامة، ونقولا الترك.

وكثير من هؤلاء المثقفين في سورية ولبنان ضاقوا ذرعا بالاستبداد وخنق الحرية التي كانوا يشعرون بها في بلادهم فرحلوا إلى مصر وساهموا في نهضتها وخاصة النهضة الصحفية. •••

أما العراق فكان لسوء الحظ أقل نهضة وأطول ركودا؛ إذ لم يجد من الاستقلال عن الدولة العثمانية ما وجدت مصر عند محمد علي وذريته، ولم يكن له الوفرة الكثيرة في سكانه من النصارى مثل ما للشام ولبنان؛ حتى يتجه إليه المبشرون، وكانت الدولة العثمانية تعده منفى للمغضوب عليهم. ومن تثقف من أبنائه فثقافة عسكرية في الآستانة. لذلك كله تأخرت نهضته إلى عهد فيصل؛ فالحركة العلمية والأدبية فيه كانت مقصورة على النمط القديم تدرس في معاهده الشيعية والسنية من دين ولغة وأدب وفلسفة، والنابغ منهم مصبوغ بهذه الصبغة، كأسرة الألوسيين التي نبغ منها عدد من العلماء شاركوا في مختلف أنواع الثقافة العربية على النمط القديم، وأبرزهم في ذلك في النصف الأول من القرن التاسع عشر الشهاب الألوسي (1217-1270ه/1802-1854م) فقد كان له مقام كبير في التفسير والإفتاء، وله كتاب التفسير المشهور، وكتاب كشف الطرة شرح فيه درة الغواص للحريري، وله مقامات وشعر قليل. وخلفه ابنه في النصف الثاني من هذا القرن (1857-1924م) ومن أشهر تآليفه بلوغ الأرب في أحوال العرب، وقد قدمه إلى مؤتمر المستشرقين في استكهولم، وله كتاب أخبار بغداد وتراجم بعض علمائها في القرن الثالث عشر، وكتاب أمثال العوام في مدينة السلام.

وعلى الجملة فلم يساير العراق الشام ومصر في العلوم الحديثة والنهضة المدنية وإن سايرهما بعض الشيء في الإنتاج الأدبي في مواد الثقافة العربية.

فنون الأدب

(أ) الشعر

كان الشعر قبل النهضة الحديثة، وفي أوائلها، بادي الضعف، شديد الهزال؛ وربما كان ضعفه وهزاله أظهر من ضعف النثر وهزاله؛ لأن الشعر فن جميل يعتمد على الجمال أكثر مما يعتمد على الحقائق، فإما أن يكون جميلا وإما أن يكون عدمه خيرا من وجوده. أما النثر فقد يكون وسطا ويكون مع ذلك مقبولا.

وقد كان الشعر في أول هذه الفترة التي نؤرخها يجري على سنن الأقدمين من حصر نفسه في الغزل والمديح والهجاء وشيء من الوصف، ولكنه يختلف عن شعر الأقدمين في أنه حفظ الشكل وفقد الروح.

وربما مثل هذا الدور السيد إسماعيل الخشاب (المتوفى 1815م) والشيخ حسن العطار (المتوفى 1834م) والسيد علي الدرويش (المتوفى 1853م) في مصر، ونقولا الترك (المتوفى 1828م) وبطرس كرامة (المتوفى 1851م) في لبنان، والشيخ أمين الجندي (المتوفى 1841م) في سورية.

فهؤلاء الشعراء كانوا، في الأغلب، شعراء للأمراء يهنئونهم بالأعياد، أو يؤرخون حادثة من أحداثهم، كبناء قصر، أو ولادة مولود، أو موت عزيز عليهم، أو نحو ذلك.

وقد يشعرون لأنفسهم أو لأصدقائهم وهو ما يسمى بالإخوانيات، وشعرهم في هذا، كذلك، مصنوع لا مطبوع.

فقد يكون شيخ من شيوخ الدين لم يقع قط في أسر عشق ثم يتغزل، لا يقصد من غزله إلا أن يحاكي ضربا من ضروب الشعر الذي جرى عليه القدماء، حتى لقد يتغزل في غلام، أو يصف الخمر، وهو آمن، لأن الناس قد ثبت في أذهانهم أن الشعراء يقولون ما لا يفعلون.

وقد ظل الشعر على هذا الحال حتى في أول عصر النهضة ، لأن النهضة في أول أمرها لم تكن نهضة شعرية وإنما كانت نهضة علمية وثقافية، واحتاج الشعر إلى زمن حتى يتأثر بها أو يدركها.

ولنضرب لذلك أمثلة، فيقول الخشاب متغزلا:

يا شقيق البدر نورا وسنا

وأخا الغصن إذا ما انعطفا

بأبي منك جبينا مشرقا

لو بدا للنيرين انكسفا

بغيتي منك رضاب ورضا

وعلى الدنيا ومن فيها العفا

ويقول العطار:

أفلا رثيت لعاشق لعبت به

أيدي المنون ونازعته خطوبه

أنت النعيم له، ومن عجب تعذ

به وتمرضه وأنت طبيبه

ويقول السيد علي الدرويش يمدح محمد علي باشا ويؤرخ مجيء الجراد وموت البقر:

يا صاح ما هذا الخبر؟

قالوا الجراد هنا ظهر

قلت الجراد فقال إي

تدري الجراد إذا ابتدر؟

قلت استعذ بالله قا

ل وهل من المقضي مفر؟

ما كان قط بخاطر

في خاطري هذا الخبر •••

جاء الجراد كأنه

يتلو على البقر السور

أو أن أرواح البها

ئم ألبست تلك الصور •••

فترى الجراد على الجر

يد مكللا مثل الثمر

رقش تراها إنها

نار تلظت بالشجر

لواحة للأرض لا

تبقي النبات ولا تذر

وصغيرة في حجمها

لكنها إحدى الكبر

الأرض كانت جنة

فالآن ترمى بالشرر •••

دقوا الطبول لرقصه

في الزرع لما أن زمر

وغزوا على ذا المعتدي

فمضى هزيما وانكسر

وكذا الخديوي عادة

لم يغز إلا وانتصر •••

هل للخديوي مشبه

في همة أو في سير

هل قبله رد الجرا

د سواه فيما قد غبر

ويختمها مؤرخا بقوله:

أرخته وصل الجراد

لمصر في عام البقر

1259م

ويقول الشيخ شهاب في قصيدة تكتب على جامع القلعة:

فدع قصر غمدان وأهرام هرمس

وإيوان كسرى إن أردت لتهتدي

ودع إرما ذات العماد ونحوها

وعرشا لبلقيس كصرح ممرد

ودع أموي الشام وانزل بمصرنا

وبادر إلى هذا بإيماء مرشد

فلو عددت في الكون بدء بدائع

لكان به ختم لذاك التعدد

كأن الليالي الوالدات عجائبا

أصبن بعقم بعد هذا التجدد

ويقول بطرس كرامة يصف ينبوع الصفا وإجراء مائه إلى بيت الدين على عهد الأمير بشير الشهابي:

صاح قد وافى الصفا يروي الظمأ

بشراب كوثري ألعس

وأفاض الشهد في روض الحما

لجلا الغم وبرء الأنفس

ويقول في وصف باقة زهر أهداها له الأمير بشير:

وباقة زهر من مليك منحتها

معطرة الأرواح مثل ثنائه

فأبيضها يحكي جميل خصاله

وأصفرها يحكى نضار عطائه

وأزرقها عين تشاهد فضله

وأحمرها يحكى دماء عدائه

ويقول الشيخ أمين الجندي يصف الربيع والربوة في دمشق:

يا حبذا الربوة من دمشق

بالفضل حازت قصبات السبق

كم أطلعت بها يد الربيع

من كل معنى زائد بديع

وفككت أنامل النسيم

أزرار زهر الرند والشميم

وسقطت خواتم الأزهار

من فنن الأغصان كالدراري

والتف سيف البرق في أوراق

مذ شام خيل الريح في سباق

ما بكت السماء بالغمام

إلا وصار الزهر في ابتسام

وهكذا كان أغلب الموضوعات التي يجري فيها الشعر هي التأريخ لدار أو مسجد، أو التهنئة بمولود، أو الشكر على هدية، أو رثاء فقيد، أو قصيدة لصديق في عارض حدث والرد عليها من صديقه، أو تشطير أبيات أو تخميسها أو تسبيعها.

أما شعر القلب فقلما تعثر عليه، وأما شعر يعرض لوصف الحياة الاجتماعية أو بؤس الشعب أو صرخة من ظلم أو مناداة بعدل فغير موجود، لأن السلطات لم يكن صدرها يتسع لذلك، والشعراء أنفسهم ليس لهم من الثقافة العالية، ولا من المركز الاجتماعي، ما يؤهلهم لعشق الحرية أو التغني بجمال الطبيعة أو نحو ذلك مما خاض فيه الشعر من بعد.

حتى إذا كانت النهضة، وتقدمنا بعض الشيء، بدأ المطلعون على الآداب الغربية يتأثرون بها، ويقتبسون منها، ومن أمثلة ذلك محمد عثمان جلال المولود سنة 1829م فقد درس بعض اللغات الأوروبية في مدرسة الألسن، وتدرج في الوظائف إلى أن كان قاضيا، وقد ترجم عن الفرنسية رواية بول وفرجيني، كما ترجم قصص لافونتين شعرا بتصرف، ونشرها في كتاب اسمه «العيون اليواقظ في الأمثال والمواعظ».

وكان جلال شاعرا مطبوعا خفيف الروح، وربما وضع من شعره عند من أرخوا الشعر ونهضته أنه كان سهل الأسلوب متدفقه، لا يكثر من التأنق والتجمل، وكثيرا ما جنح إلى العامية يقول فيها شعره.

ومن أمثلة ما ترجمه في العيون اليواقظ قصة شجرة البلوط والسنديانة:

حكاية عن شجر البلوط

نقلتها عن شيخنا السيوطي

قال إلى سنبلة من فول

ليتك في العلو تحكي طولي

ليتك لو غرست تحت رجلي

وكنت فارقت الحمى من أجلي

وكنت في أمن من العواصف

قالت له ما مسني من تلف

إني وإن كنت نحيف القامة

وفي الهوى لا أملك استقامة

فإن ما عندي من اللدونة

وقت الرياح يوجب المرونة

وأنثني تيها على أمثالي

وبالرياح قط لا أبالي

وبينما الاثنان في تنازع

إذ نفخت منافخ الزعازع

واغبرت الآفاق والبطاح

وجلجلت في الشجر الرياح

وقد أصابت قامة البلوط

ونزلت به إلى الهبوط

وسنبل الفول يميل تارة

وينثني أخرى مع الأمارة

ولم يصبه من أذى ولا ضرر

وربما كان الهلاك في الكبر

وقد تأثر الشعر بعوامل النهضة التي ذكرناها من قبل وإن تأخر تأثره عن تأثر النثر؛ فقد كانت الحاجة إلى النثر أقوى؛ فنشر دواوين الشعراء الأقدمين مكن ناشئة الشعراء آنذاك من الاطلاع على شعر الفحول من متقدمي الشعراء بعد أن كانوا لا يطلعون إلا على شعراء زمانهم أو ما قرب من زمانهم، والاطلاع على شعر الفرنجة مكن بعضهم من الاقتباس منه والتأثر به. وتغير البيئة الاجتماعية نفسها، على أثر الاحتكاك بالأجانب، غير من الشعر؛ لأن كل أدب سواء كان شعرا أو نثرا أو قصة يتأثر بالبيئة إلى حد كبير.

ومع هذا كله فلم يكن تقدم الشعر طفرة وإنما كان تدرجا؛ فقد تنقل من محافظين إلى مخضرمين إلى أحرار مجددين ... فمثلا كان يغلب على الشعر العربي المديح ونحوه من الأغراض التقليدية، غير أن شأنه أخذ يضعف شيئا فشيئا بحلول الحياة الديمقراطية محل الحياة الأرستقراطية، وتقويم الشعوب أكثر من تقويم الأمراء، ولم يخلص منه دفعة واحدة فوجد شعراء مخضرمون يقولون في المديح مثل ما يقول الأقدمون، وحتى في المخضرمين نرى أثر ذلك في التخفف من الغلو، والانصراف عن المبالغة، وغلبة القصد والاعتدال.

كما قلت العناية بالهجاء لأن المدنية ورقيها، ورقة الذوق تأنف من الهجاء الفاحش، ولا تسمح إلا بالهجاء بالإيماء.

واستمر الغزل محتفظا بمركزه في الشعر الجديد كما كان في الشعر القديم لأنه ينبع من عاطفة ملازمة للإنسان في بداوته وحضارته واختلاف حالاته الاجتماعية، فإن تغير في شيء فميله إلى التعبير الصادق عن طبيعة الشاعر ودقته في تصوير عاطفته، وقد كان أكثره مصنوعا يصدر عمن لا يعشق.

وكذلك ما كان من رقي الشعر في الطبيعة وجمالها، فقد كان يفهم من هذا النوع أنه عبارة عن جهد الشاعر في أن يجد للنظر تشبيها وكفى، فبدأ يتحول إلى محاولة للشاعر أن يشرب المنظر الطبيعي ويرتوي به أو يحتضنه. ثم يبث ذلك كله مشاعر في شعره، أو أن يفنى الشاعر في هذا المنظر الجميل ويصف فناءه.

ثم خلقت المدنية والظروف الاجتماعية الشعر السياسي والاجتماعي. نعم كان هناك شعر سياسي في العصور الأولى كالذي نراه في شعراء الزبيريين والأمويين من أمثال عبد الله بن قيس الرقيات وجرير والفرزدق والأخطل، ولكن كانت له صبغة خاصة لا تتصل بالشعوب وحرياتها، إنما يتجه إلى الانتصار للقادة ومن بيدهم زمام الأمور. فلما نشأت المدنية واحتك الشرق بالغرب وطمحت أوروبا في استعمار الأمم الشرقية تيقظ الوعي القومي يدافع عن هذا الطمع، حتى إذا كان الاحتلال وجدت النزعة إلى الاستقلال، فكان الشعراء يمثلون دورهم في هذا الباب، وكان الشعر السياسي بهذا المعنى.

وكذلك كان الشأن في الشعر الاجتماعي، فقد أخذ الشعراء يحسون آلام الشعوب وعللها وآفاتها، مثل قولهم في تحرير المرأة وتربية الأطفال ومضار القمار والاعتزاز باللغة العربية ونحو ذلك.

كما كان من أثر تقليد الشرق للغرب اتجاه الشعراء إلى الشعر التمثيلي تقليدا لما عند الأوروبيين، كما فعل الشيخ خليل اليازجي المتوفى 1889م، إذ ألف قصة المروءة والوفاء في نحو ألف بيت نظمها حول قصة حنظلة الطائي مع النعمان.

هذا من ناحية الموضوع، أما من ناحية الأسلوب والأوزان والقوافي فقد كانت روح المحافظة أشد مما كانت في الموضوع، فحوفظ على الأوزان والقوافي إلا في القليل النادر، وأكثر ما يظهر الميل إلى الأوزان القصيرة ، ونشوء القصيدة التي لا تلتزم قافية واحدة بل تتعدد قوافيها في المقطوعات المختلفة، وقد حاول بعضهم تقليد الشعر الفرنجي بإنشاد الشعر المرسل، ولكنها كانت حركة لم يكتب لها الانتشار.

ورقي الأسلوب من ناحية جزالته وتأثره بشعر الفحول من القدماء ورغبة الشعراء عن الإفراط في أنواع البديع وميلهم إلى قربه من أذهان الناس بوضوحه وجماله البسيط. •••

وربما كان البارودي أول ناهض بالشعر العربي، وساعدته ظروفه الخاصة على هذا النضج الشعري؛ فهو من عنصر أرستقراطي ينحدر من أصل شركسي وينتسب إلى المماليك، وتربى تربية عسكرية، فقد تعلم في المدرسة الحربية وخرج منها ضابطا وترقى في رتب الجيش ورأس حملة في حرب تركيا مع الروس، وفي ثورة كريت، وتولى نظارة الأوقاف ثم رياسة النظار قبيل الثورة العرابية، وله ثقافة تركية وفارسية اطلع فيها على آداب اللغتين ونظم فيهما، ورأى الدنيا بأشكالها وألوانها، فعاش عيشة الترف كما يعيش شبان الأغنياء في مصر، وجلس مجالس اللهو والشراب وتعرض للغزل، وأحب ولها، واتصل بالوظائف الحكومية في عهد إسماعيل فمكنه ذلك من دراسة الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر، ورحل إلى الآستانة وأوروبا ورأى مدنيتهما فاستفاد منها، وشارك في الثورة العرابية واكتوى بنارها .

كل هذا صادف طبيعة شعرية تستغل كل ما يعرض لها من أحداث، فجعل منه شاعرا ممتازا.

وأهم ميزة له أنه صادق في شعره يعبر عما رأى وسمع وأحس.

وكل هذا يفسر ما غلب على شعره من إكثار من الفخر، صدى لعلو حسبه ونسبه ومناصبه.

رزقه الله أول أمره بمربين من الأدباء كالشيخ حسين المرصفي، حببوا إليه شعر الفحول الأقدمين، فتشرب منه ومزجه بنفسه وحفظ منه الكثير، واكتفى بأن تنطبع الصيغ والأساليب ووجوه الإعراب والقوافي والأوزان في نفسه من غير تعلم للنحو والقواعد والعروض والمصطلحات ... ثم بدأ يحاكي بعضها ويعارضها، خرجت محاكاته ومعارضاته قوية حسنة السبك، متينة الأسلوب، لا تقل شأنا عن القصائد التي يعارضها.

عارض أبا نواس في قصيدته:

أجارة بيتينا أبوك غيور

وميسور ما يرجى لديك عسير

بقصيدته:

أبى الشوق إلا أن يحن ضمير

وكل مشوق بالحنين جدير

والشريف الرضي في قصيدته:

لغير العلى مني القلى والتجنب

ولولا العلى ما كنت في الحب أرغب

بقصيدته:

سواي بتحنان الأغاريد يطرب

وغيري باللذات يلهو ويلعب

وأبا فراس في قصيدته:

أراك عصي الدمع شيمتك الصبر

أما للهوى نهي عليك ولا أمر

بقصيدته:

طربت وعادتني المخيلة والسكر

وأصبحت لا يلوي بشيمتي الزجر

ثم شعر لنفسه فيما يشعر به من فخر بالآباء، وفخر بنفسه، واعتزاز بقوته. ووصف معامع الحروب كما رآها، والحياة الاجتماعية كما أحاطت به، وألاعيب السياسة كما اكتوى بنارها ... ولما نفي إلى جزيرة سرنديب وصف حنينه إلى وطنه، وما كان يعتوره من شعور بألم الغربة وشعور بالرجولة التي يجب أن تتحمل الآلام في شجاعة، إلى غير ذلك مما كان فيه صادق الوصف، مرهف الحس، جزل اللفظ، قوى الأسلوب.

وقد مات بعد أن رجع من منفاه سنة 1904م.

وتظهر ميزات البارودي إذا نحن قسناه بشعراء عصره أمثال محمود صفوت الساعاتي (المتوفى سنة 1880م) فقد كان أكثر شعره في مدح أشراف مكة والحجاز، على حين أن البارودي لم يمدح إلا قليلا، وكان مديحه على هامش شعره لا في الصميم من شعره.

ثم كان صادقا في التعبير عن نفسه في أدوار حياته، فإذا لها أو أحب، وصف ما يشعر به في لهوه وحبه، وإذا حارب برع في وصف الجيوش والمعارك، وإذا أحاطت به أحداث الثورة وصف ما رأى، وإذا نفي قال في طمأنينته وجزعه.

وهو في بعض الأحيان يعرض للشئون الاجتماعية، مثل وصف اضطراب الحالة في مصر من تدخل الأجانب، وفي لوم قومه على التراخي في رفع الظلم والعدوان عنهم، وفي بؤس الشعب من ظلم حكامه.

ثم إن البارودي قد نقل بشعره المثل الأعلى من نظر في الشعراء في العصور المظلمة المتأخرة إلى نظر في الشعر العربي في أزهى عصوره العباسية، فكان في كل ذلك مجددا إلى درجة ما.

هذا إلى اختراعه أحيانا لبعض أوزان الشعر كقصيدته:

لوى جيده وانصرف

ما ضره لو عطف

وقصيدته الأخرى:

املأ القدح

واعص من نصح

وكلتاهما مما نسج عليه شوقي في قصيدته:

حف كأسها الحبب

فهي فضة ذهب

وقصيدته:

مال واحتجب

وادعى الطرب

وإن حاول بعضهم أن يخرج القصيدتين على الأوزان القديمة.

ومن أمثلة شعره في الفخر قصيدة طويلة، منها:

سواي بتحنان الأغاريد يطرب

وغيري باللذات يلهو ويعجب

وما أنا من تأسر الخمر لبه

ويملك سمعيه اليراع المثقب

ولكن أخو هم إذا ما ترجحت

به سورة نحو العلا، راح يدأب

نفى النوم عن عينيه نفس أبية

لها بين أطراف الأسنة مطلب

ومن تكن العلياء همة نفسه

فكل الذي يلقاه فيها محبب

إذا أنا لم أعط المكارم حقها

فلا عزني خال ولا ضمني أب •••

خلقت عيوفا لا أرى لابن حرة

علي يدا أغضي لها حين يغضب

فلست لأمر لم يكن متوقعا

ولست على شيء مضى أتعتب

أسير على نهج يرى الناس غيره

لكل امرئ فيما يحاول مذهب

وإني إذا ما الشك أظلم ليله

وأمست به الأحلام حيرى تشعب

صدعت حفافي طرتيه بكوكب

من الرأي لا يخفى عليه المغيب

ومن شعره يصف الحرب:

ولما تداعى القوم واشتبك القنا

ودارت، كما تهوى، على قطبها، الحرب

وزين للناس الفرار من الردى

وماجت صدور الخيل والتهب الضرب

ودارت بنا الأرض الفضاء كأننا

سقينا بكأس لا يفيق لها شرب

صبرت لها حتى تجلت سماؤها

وإني صبور إن ألم بي الخطب

وقوله يصف الفراق:

محا البين ما أبقت عيون المها مني

وشبت ولم أقض اللبانة من سني

عناء ويأس واشتياق وغربة

ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبن

فإن أك فارقت الديار فلي بها

فؤاد أضلته عيون المها عني

بعثت به يوم النوى إثر لحظة

فأوقعه المقدار في شرك الحسن

فهل من فتى في الدهر يجمع بيننا

فليس كلانا عن أخيه بمستغن •••

ولما وقفنا للوداع وأسبلت

مدامعنا فوق الترائب كالمزن

أهبت بصبري أن يعود فعزني

وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن

وما هي إلا خطرة ثم أقلعت

بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن

فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى!

وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن!

وما كنت جربت النوى قبل هذه

فلما دهتني كدت أقضي من الحزن

ولكنني راجعت حلمي وردني

إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن

ولولا بنيات وشيب عواطل

لما قرعت نفسي على فائت سني

وقال يحن إلى مصر وهو في منفاه:

ردوا علي الصبا من عصري الخالي

وهل يعود سواد اللمة البالي؟

لم يدر من بات مسرورا بلذته

أني بنار الأسى من هجره صالي

يا غاضبين علينا، هل إلى عدة

بالوصل يوم أناغي فيه إقبالي؟

غبتم فأظلم يومي بعد فرقتكم

وساء صنع الليالي بعد إجمالي

فاليوم لا رسني طوع القياد، ولا

قلبي إلى زهرة الدنيا بميال

أبيت منفردا في رأس شاهقة

مثل القطامي فوق المربأ العالي

وقال يصف الناس من حوله:

إني امرؤ ملك الوداد قيادتي

وجرى على صدق العهود وفائي

لكنني غرض لأسهم حاسد

وارى الجوانح من لهيب عدائي

من غير ما ذنب جنيت وإنما

بغض الفضيلة شيمة الجهلاء

تعست مقارنة اللئيم فإنها

شرق النفوس ومحنة الكرماء

أنا في زمان غادر، ومعاشر

يتلونون تلون الحرباء

أعداء غيب ليس يسلم صاحب

منهم، وإخوة محضر ورخاء

وأشد ما يلقى الفتى في دهره

فقد الكرام وصحبة اللؤماء

شقي ابن آدم في الزمان بعقله

إن الفضيلة آفة العقلاء

وقال يلوم ويحرض:

لكننا غرض للشر في زمن

أهل العقول به في طاعة الخمل

قامت به من رجال السوء طائفة

أدهى على النفس من بؤس على ثكل

من كل وغد يكاد الدست يدفعه

بغضا ويلفظه الديوان من ملل

ذلت بهم مصر بعد العز واضطربت

قواعد الملك حتى ظل في خلل

وأصبحت دولة «الفسطاط» خاضعة

بعد الإباء، وكانت زهرة الدول

فما لكم لا تعاف الضيم أنفسكم

ولا تزول غواشيكم من الكسل

فبادروا الأمر قبل الفوت وانتزعوا

شكالة الريث فالدنيا مع العجل

وطالبوا بحقوق أصبحت غرضا

لكل منتزع سهما ومختتل

عيش الفتى في فناء الذل منقصة

والموت في العز فخر السادة النبل

وكان في هذا العصر من الشعراء شعراء عاشوا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وامتدت حياتهم المباركة إلى القرن العشرين وامتازوا ببعض المزايا الشعرية.

فحفني ناصف مثلا (المتوفى 1919م) له شعر سهل اللفظ سهل الأسلوب يمتاز بالفكاهة الحلوة في الحوادث التي عرضت له كشكواه من «قنا» حينما نقل إليها إذ يقول:

رقيتني حسا ومعنى

فلصنعك الشكر المثنى

وجعلت رأس الحاسدين

بمصر من قدمي أدنى

أسكنتني في بقعة

فيها غدوت أعز شأنا

أرد المشارع سابقا

والسبق عند الورد أهنا

وأزور آثار الملوك

وكنت قبل بها معنى

بلد إذا حلت به

قدماك قلت حللت حصنا

قالوا شخصت إلى قنا

يا مرحبا بقنا و«إسنا»

قالوا: قنا حر فقل

ت وهل يرد الحر قنا

سر الحياة حرارة

لولاه ما طير تغنى

كلا ولا زهر تبس

م لا ولا غصن تثنى

ها قد أمنت البرد وال

برداء والقلب اطمأنا

ووقيت أمراض الرطو

بة واسترق الريح وهنا

ألقى الهواء فلا أها

ب لقاءه: ظهرا وبطنا

وأنام غير مدثر

شيئا إذا ما الليل جنا

قد خفت النفقات إذ

لا أشتري صوفا وقطنا

وفرت من ثمن الوقود

النصف أو نصفا وثمنا

فالشمس تكفل راحتي

فكأنها أمي وأحنى

فإذا بدت لي حاجة

في الغسل ألقى الماء سخنا

أو رمت طبخا أو علا

ج الخبز ألقى الجو فرنا

سكنى القرى تدع السفي

ه موكلا بالمال مضنى

أي الملاهي فيه يص

رف ماله ومتى وأنى

عش في القرى رأسا ولا

تسكن مع الأذناب مدنا

ودع الجزيرة والمها

والجسر والظبي الأعنا

واسل الأغاني والغوا

ني واسأل الرحمن عدنا

ومثل إسماعيل باشا صبري المولود سنة 1854م والمتوفى سنة 1923م، ويمتاز بثقافته الواسعة؛ إذ درس القانون في مصر وفرنسا، ورقي في المناصب الحكومية إلى أن عين وكيلا للحقانية. وقد شعر فيما شعر فيه أسلافه من مديح وتهان وتقريظ، وسلك في ذلك مسلك الشعراء الذين قبله والشعراء المعاصرين له، فممدوحه: قد سفر فلاح منه هلال سعود، وبدا فكان غرة الوجود، وهو بحر مستعذب الورد، يعم كل الناس بالرفد.

ويحلي شعره بالتورية والجناس، ويختمه بالتأريخ فيقول:

فيا «مالكي » «نعمان» خدك «شافعي»

لدى «حنبلي» العذل إذ قام بالعذر

ويقول:

فاهنأ بنجلك إن السعد أرخه «لبيب دام لك المحفوظ محمود»

أما الناحية التي نبغ فيها فهي مقطوعاته القصيرة يجري فيها ذوب قلمه ويمزج فيها دم نفسه بمعناه ولفظه، يغني فيها لنفسه، ويقصد بها إلى بث لوعته، وتخفيف كربته. وقد كان في هذا يتحرى أن ينقد شعره قبل أن ينقده الناس، يطيل إجالة المعنى في نفسه، ويتريث في نظمه، ويتمهل في صوغه، يغوص على المعاني كالغواص على اللآلي، ثم لا يقتنع بأية لؤلؤة ولا يرضى بها إلا أن تكون غاية القصد وواسطة العقد، ويرى أن شعره كعرضه يحرص أن يطيب نشرهما، ويخلد في الصحائف ذكرهما. ويقول في ذلك:

شعر الفتى عرضه الثاني فأحر به

ألا يشوه بالأقذار والوضر

فانقد كلامك قبل الناقدين تخط

ثاني النفيسين من لغو ومن هذر

وهذه المقطوعات التي عني بها يتجلى فيها صدق العاطفة حتى ليبكي السامع لبكاه، ويأنف لأنفته، كما يمتاز بدقة المعني ورقته حتى كأنه مناغاة أطيار، أو مناغمة أوتار. ويصغي إليه السامع في دعة وسكون لا في ضوضاء وجلبة، ولهذا كثيرا ما تغنى به المغنون، وأعجب به السامعون؛ من مثل قوله:

أقصر فؤادي فما الذكري بنافعة

ولا بشافعة في رد ما كانا

سلا الفؤاد الذي شاطرته زمنا

حمل الصبابة فاخفق وحدك الآنا

هلا أخذت لهذا اليوم أهبته

من قبل أن تصبح الأشواق أشجانا

لهفي عليك قضيت العمر مقتحما

في الوصل نارا وفي الهجران نيرانا

وقوله:

يا مقر الغزال قد صح عندي

اليوم أني اقتحمت منك عرينا

رابني فيك ما أرى من عيون

بات يغري بها السواد عيونا

وضلوع جاءتك وهي خوال

ثم عادت ملأى هوى وشجونا

ما الذي يبتغي غزالك مني

بعد كوني عبدا له أن أكونا

كلما قلت: قد أبل فؤادي

ساورته الذكرى فجن جنونا

وقوله:

يا راحة القلب يا شغل الفؤاد صلي

متيما أنت في الحالتين دنياه

زيني الندي وسبلي في جوانبه

لطفا يعم رعايا اللطف رياه

ريحانة أنت في صحراء مجدبة

من الرياحين حيانا بها الله

إن غاب ساقي الصلا أو صد، لا حرج

هذا جمالك يغنينا محياه

وقوله:

أبثك ما بي فإن ترحمي

رحمت أخا لوعة مات حبا

وأشكو النوى ما أمر النوى

على هائم إن دعا الشوق لبا

وأخشى عليك هبوب النسيم

وإن هو من جانب الروض هبا

وأستغفر الله من برهة

من العمر لم تلقني فيك صبا

تعالي نجدد زمان الهناء

وننهب لياليه الغر نهبا

تعالي أذق بك طعم السلام

وحسبي وحسبك ما كان حربا

وربما كان من الظواهر التي تلفت النظر ظهور أديبات شاعرات بجانب الشعراء، قد ثقفن كما يثقف الرجال، وشعرن كما يشعر الرجال.

ومن أبرز هؤلاء، عائشة التيمورية المولودة في القاهرة 1840م والمتوفاة في أوائل القرن العشرين 1902م. نشأت في بيت من بيوت الفضل والأدب، وثقفت اللغات العربية والتركية والفارسية، ونظمت الشعر بها، ولها ديوان شعري أسمته حلية الطراز، وكتاب نثري أسمته نتائج الأحوال، ومن شعرها قولها:

بيد العفاف أصون عز حجابي

وبهمتي أسمو على أترابي

وبفكرة وقادة، وقريحة

نقادة، قد كملت آدابي

فجعلت مرآتي جبين دفاتر

وجعلت من نقش المداد خضابي

ما عاقني خجلي عن العليا ولا

سدل الخمار بلمتي ونقابي

عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت

صعب السباق مطامح الركاب

ومن هؤلاء وردة اليازجي (1838-1924م) وهي ابنة الشيخ ناصيف، ولدت في لبنان وأفادت من أبيها فنون الأدب، ومات عنها زوجها فانتقلت إلى مصر، حيث أخذت تنشر نظمها ونثرها، ولها ديوان مطبوع معروف.

وليس في شعرهما وأمثالهما جديد، وإنما الجدة فيه أنه شعر نساء. •••

ثم انتقل الشعر خطوة جديدة بعد ذلك تتجلى في تحوله إلى النظر إلى الشعوب، والإكثار من موضوعات الوطنيات والقوميات والاجتماعيات؛ من مثل طلب الاستقلال، ومحاربة الاستعمار والمستعمرين، والعطف على المظلومين والمنكوبين.

وقد بدأ هذا التحول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ونما في القرن العشرين، وشعر فيه من عاشوا في هذين القرنين أمثال شوقي وحافظ وخليل مطران وولي الدين يكن والزهاوي والرصافي.

وتبع ذلك رقي منزلة الشعر؛ فبعد أن كان ينظر إليه كما ينظر إلى الضارب بالدف يتغنى بالمدائح، أصبح ينظر إليه على أنه فنان ماهر يخدم الهيئة الاجتماعية ويبين عنها. وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام عن القرن العشرين إن شاء الله.

وقد ظهر التجديد في الشعر أيضا في التعرض للموضوعات الجديدة كالقول في المخترعات الحديثة من مثل القول في القطار والطائرة والمنطاد والكهرباء، وكالقول في مظاهر الحياة الاجتماعية الجديدة كتحرير المرأة وغيرها، ومن أمثلة ذلك قول نجيب الحداد (المتوفى 1899م) في القمار:

قد اختصروا التجارة من قريب

فعدم في الدقيقة أو يسار

كأن وجوههم ندما وحزنا

كساها لون صفرته النضار

فبينا تبصر الوجنات وردا

إذا هي في خسارتهم بهار

عصائب لا يود المرء فيها

أخاه، ولا يراعي الجار جار

يلاحظ بعضهم بعضا بعين

يكاد يضيء أسودها الشرار

فكم غضبوا على الأيام ظلما

وكم حنقوا على الدنيا وثاروا!

وكم تركوا النساء تبيت تشكو

وتسعدها الأصيبية الصغار!

تبيت على الطوى ترجو وتخشى

بوارقها السهاد والانتظار

فبئست عيشة الزوجات حزن

وتسهيد وهجر وافتقار

وبئست خلة الفتيان هم

وأتعاب وخسران وعار

وكقوله في وصف القطار:

تخل عن التشبيب بالبيض والسمر

ودع عنك تشبيه المحاسن بالبدر

وعج بي إلى طرق الحديد ووصفها ال

جديد ودع ما مر من قدم الدهر

ففيها يروق الوصف وهي حقائق

وفيها يحق النعت لا مذهب الشعر

وعنها يصح القول إن قيل بارق

يشق الفلا لا عن جواد ولا مهر

فطير بلا جنح، وطود بلا بقا

وبرق بلا جو وهاد بلا فكر

بلى هي طير، والبخار جناحه

وطود إذا شبهت بالطود ما يسري

وبرق ولكن الدخان سحابه

وهاد له لب توقد عن جمر

يسير فما يدرى لسرعة سيره

أتجرى لديه الأرض أم فوقها يجري

وللريح حوليه حفيف، كأنه

حفيف جناح الصقر حن إلى الوكر

إذا ثار ثارت فوقه راية من الد

خان لتنبي أنه ملك القفر

تمزقها الأرياح حنقا كأنها

تحاول في تمزيقها الأخذ بالثأر

ومن مظاهر التجديد التي حدثت ما كان من أثر هجرة جماعة من السوريين واللبنانيين إلى القارة الجديدة وتشربهم من مناهل الحياة الاجتماعية، وتثقفهم بالثقافة الحديثة، فأتوا في الشعر بجديد، وكان على رأسهم جبران خليل جبران المولود في لبنان 1883م والمتوفى في نيويورك 1931م، وتظهر هذه الجدة في سعة الخيال، ومحاولة خلق الشعر المرسل، والتأثر بالأساليب الغربية، كما تظهر من ناحية أخرى في الإشادة بالحرية والثورة على ضعف الإنسانية الغربية.

ولم تنم هذه الحركة وتنضج إلا في القرن العشرين، ومن ثم نرجئ تأريخها إلى ما بعد. (ب) النثر

كان حظ النثر في الرقي خيرا من حظ الشعر لأن المثقفين من الناثرين ثقافة عربية كانوا أكثر عددا من المثقفين من الشعراء، وذلك طبيعي. ولأن حاجة الأمة إلى الناثرين أكثر من حاجتها إلى الشعراء فالنثر ضروري والشعر كمالي؛ فقد استخدم النثر في الصحافة وفي تأليف الكتب وفي تبادل الرسائل وفي الدعوة إلى الإصلاح وفي الخطابة وفي الترجمة الأدبية والحركة العلمية، وقد تعاونت هذه كلها على تقدم النثر وصقله حتى وفق أن يخطو هذه الخطوة الواسعة.

وكذلك استطاع النثر بعد قليل من ظهور عوامل النهضة أن يتحرر من القيود الثقيلة التي كان يتقيد بها؛ تحرر من السجع فانطلق وتدفق، وكان للصحافة أكبر الأثر في ذلك لأن الأسلوب الصحفي يحتاج إلى السرعة والانطلاق، كما تحرر من المحسنات البديعية الأخرى، ومن تكرار الجمل المملة في المعنى الواحد، وتخلص بالتدريج من المقدمات الطويلة التي كان يتكلفها الكاتب أمام الموضوع، كما اتجه الكتاب تدريجيا إلى تقويم المعاني كما قوموا الألفاظ، بعد أن كانت المعاني في المرتبة الثانية والألفاظ في المرتبة الأولى.

وتقدم النثر فوق ذلك من ناحية القصد في المقال إلى معنى واحد محدد يولده الكاتب ويستوفيه بعد أن كان الكاتب يقدم على الكتابة وليس له معنى محدود، بل يتبعثر هنا وهناك من غير قصد ومن غير غرض.

ونما كما نمت فكرة التحليل وكان يغلب على الأدب فكرة التركيب، كل هذا كان أثرا من أثر الصلة بالثقافة الأجنبية والاطلاع عليها والاستفادة منها وهضمها وتقليدها.

كما تأثر النثر من ناحية الأسلوب؛ فتسرب إليه أنماط من الأساليب الأجنبية واستعمال صيغ لم تكن تعرف في اللغة العربية.

وكما كان للثقافة الأجنبية أثر ظاهر في كل ذلك، كان أيضا للرجوع إلى الكتب العربية القديمة ذات الأسلوب الجيد المرسل، أمثال كتب ابن المقفع والجاحظ وغيرها، أثر عند بعض الكتاب في جزالة اللفظ وحسن السبك والاقتراب من نماذج النثر العربي الأصيل.

كما كان للبيئة وأحداثها وما تداول عليها من ظلم ومكافحة للظلم، واحتلال ومناهضة الاحتلال ومطالبة بالاستقلال، وسوء حالة اجتماعية ورغبة في الإصلاح، أثر في صبغ النثر بأصباغ جديدة فكثرت الكتابة في الموضوعات السياسية والاجتماعية، وأن يدب دبيب الحرارة والحماسية في هذه الموضوعات فيكسبها قوة من حيث المعنى ومن حيث الأسلوب ومن حيث الأدب أيضا.

وكان من عوامل التقدم في هذا الباب اطلاع نخبة من المثقفين على ما كتب في مثل هذه الموضوعات في اللغات الأجنبية والتأثر بها، والاقتباس منها، وإبرازها في شكل يتفق والذوق الشرقي والأحاسيس الشرقية.

ونضح التقدم في دراسة العلوم من طبيعة وكيمياء وقانون وطب وهندسة وفلك وغير ذلك على النثر العربي، والنثر عادة أكثر تأثرا بهذا من الشعر لقرب النثر من الحقائق، وقرب الشعر من الخيال، فكان من أثر ذلك ميل النثر إلى الدقة في التعبير، والمنطق في التحرير، والصحة في المنهج، واستخدام كثير من القضايا العلمية في الأدب.

وعلى كل حال فقد تأثر النثر العربي في هذا القرن بمؤثرين كبيرين: الثقافة العربية وأظهر ما كان أثرها في المعاني والموضوعات، وتسرب بعض الأساليب من الثقافة العربية القديمة وأظهر ما كان أثرها في الجزالة وحسن السبك وبعض العبارات أيضا.

وهناك من الكتاب الأول من تأثر بالعامل الأول أكبر أثر، ومنهم من تأثر بالعامل الثاني أكبر أثر، ولم تخل طائفة من الطائفتين من التأثر بالأخرى إلى مدى قريب أو بعيد.

ثم عامل ثالث وهو ما كانت توحي به البيئة الاجتماعية ومطالبها.

وتتضح نهضة النثر وتقدمه إذا نحن قارنا بين النتاج الأدبي في أول القرن التاسع عشر من مثل الكتاب الذي جمع فيه إنشاء الشيخ حسن العطار (المتوفى 1250ه/1835م) المسمى «إنشاء العطار»؛ وبين هذا النتاج الأدبي في أواخر القرن التاسع عشر من مثل ما كان ينشره إبراهيم المويلحي (المتوفى 1906م) في مجلة «المصباح» وكتابه «ما هنالك».

يقول الشيخ حسن العطار في رسالة إلى أحد إخوانه:

أما بعد، فإن أحسن وشي رقمته الأقلام، وأبهى زهر تفتحت عنه الأكمام، عاطر سلام يفوح بعبير المحبة نفحه، ويشرق في سماء الطروس صبحه؛ سلام كزهر الروض أو نفحة الصبا، أو الراح تجلى في يد الرشأ الألمى؛ سلام عاطر الأردان، تحمله الصبا سارية على الرند والبان، إلى مقام حضرة المخلص الوداد، الذي هو عندي بمنزلة العين والفؤاد، صاحب الأخلاق الحميدة، حلية الزمان الذي حلى بها معصمه وجيده ...

ويقول إبراهيم المويلحي في كتابه «ما هنالك» ينقد موكب الخليفة العثماني في صلاة الجمعة (المقالة العاشرة):

ما قيصر في موكب انتصاره، ولا الإسكندر في يوم افتخاره، أستغفر الله بل ما سعد قادما من القادسية، ولا المعتصم قافلا من عمورية؛ أملأ للقلوب مهابة ولا للعيون بهاء من رؤية جلالة السلطان يوم الجمعة في موكبه.

في يوم الجمعة قبل الظهر بساعتين ترد العساكر رجالا وفرسانا من أطراف الآستانة عشرة آلاف أو يزيدون، فينتظرون في طريق السراي السلطانية صدور الإرادة السنية بتعيين المسجد. فإذا صدرت اجتمعت العساكر صفوفا مضاعفة بعضها وراء بعض. وفي هذه الأثناء تتسابق مركبات المشيرين والوزراء والمشايخ والأجانب من السفراء وغيرهم، فيجلس السفراء ومن كان معهم من علية قومهم الوافدين على الآستانة في قاعة الجيب الهمايوني المطلة على تلك الساحة التي لا يسمع السامع فيها قيلا ولا صهيلا إلا صليل الأسياف وترديد الأنفاس هيبة وإجلالا، وانتظارا واستقبالا لإشراق نور الحضرة السلطانية. فإذا حان وقت الصلاة أشرقت المركبة السلطانية المذهبة كالشمس ضياء من مطلع السراي، والمشيرون وكبار رجال (المابين) حافون من حول المركبة مشاة خشع الأبصار ترهقهم ذلة من جلالة تلك العظمة الإمامية، وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الزمان وقياصرة الرومان كبرا وجبروتا، وكلهم في أمواج الملابس الذهبية يسبحون، وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف الأبصار وتأخذ بالألباب، والنيشان عنوان كتبته الدولة ووضعته على صدر حامله شهادة منها للناس ببيان ما هو مكنون وراءه من فضائل الغيرة والحمية، فإذا اختلف المكتوب على الصدر عن المكنون في القلب، كانت كبائع يغش الناس بوضعه على زجاجة الخل عنوان ماء الورد ... أما المراقبة والمحافظة على المسجد من جهاته الست فلا يقدر على وصفها واصف، ولا يدخل المسجد مصل إلا إذا فتشه المراقبون تفتيش اللص سرق فص خاتم. وإن الخطيب ليتجنب في خطبته كل آية وكل حديث فيه ترغيب في العدل أو تنفير من الظلم أو إيحاء إلى موعظة من نهي عن منكر أو أمر بمعروف. ولا يدور في تلك الخطبة من كل جمعة إلا حديث واحد اختاروه لبعده عن كل تأويل وهو «إن الله جميل يحب الجمال.» فإذا جاء عيد الأضحى استبدلوه بحديث آخر وهو قوله «سمنوا ضحاياكم.» وهكذا في مساجد الآستانة لا يخطب الخطباء إلا بهذين الحديثين.

وقد قطع النثر هذه المسافة كلها على خطوات. ولعل الذي يمثل الخطوة الأولى رفاعة رافع الطهطاوي؛ فقد كان من أكبر عوامل النهضة العلمية والأدبية في مصر، سافر إلى فرنسا سنة 1826م ، وعكف على دراسة اللغة الفرنسية، ولما عاد سنة 1831م تولى ترجمة الكتب الهندسية والفنون العسكرية، ثم ترجم جغرافيا «ملطبرون» وأكبر أثر له في خدمة النهضة ما قام به في مدرسة الألسن من تعليم كثير من الطلبة الترجمة إلى اللغة العربية، فقدم هو وتلاميذه للآداب العربية بمعناها الواسع كتبا قيمة في مختلف العلوم كانت دعامة من الدعائم التي قامت عليها الحركة العلمية. وكان حركة دائمة في التأليف والترجمة والتدريس، ألف رحلته إلى فرنسا وسماها «خلاصة الإبريز والديوان النفيس» وفيها نظرات اجتماعية صادقة. كما ألف كتاب «المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر» وكتاب «المرشد الأمين في تربية البنات والبنين» ويعد بحق الخطوة الأولى في الدعوة إلى تعليم البنات، تلتها الخطوة الثانية التي خطاها قاسم أمين في كتابه «تحرير المرأة».

وألف كتابا في تقريب النحو سماه «التحفة المكتبية» وكتابا سماه «مباهج الألباب» بحث فيه في آداب العصر وعلومه، فكان خطوة جديدة في الابتكار في التأليف، وشرح «لامية العرب» وألف «نهاية الإيجاز» في السيرة النبوية، إلى غير ذلك من الكتب في مختلف فروع الثقافة.

هذا إلى عمله الدائب في الإشراف على ما يترجمه تلاميذه وإصلاحه، وإرشادهم إلى المنهج القويم في الترجمة.

فله الفضل على النهضة الحديثة في تقديم ذخيرة قيمة من الفكر الأوروبي، وتأثره بالثقافة الفرنسية وهضمها، وإخراجها في تآليف تتصل بالإصلاح الاجتماعي في مصر.

والحق أنه أغنى الفكر العربي أكثر مما أغنى الأسلوب الأدبي؛ فقد كان يغلب عليه أثر العصر الماضي في حبه للسجع والبديع، وسائر ما قيد به النثر القديم. ولكنه تحرر من ذلك في الترجمة بطبيعة الحال. وكان انتقاله في الأسلوب انتقالا بطيئا بحكم التطور. تحلل من بعض القيود وحافظ على بعضها، ولم يتدفق ولم ينطلق لأن الطبيعة أبت عليه الطفرة.

وقد مات رفاعة الطهطاوي في عام 1873م بعد أن خدم النهضة طول حياته خدمة لا تقدر.

ومن أمثلة نثره هذه القطعة في حب الوطن:

إن حب الوطن من الإيمان، ومن طبع الأحرار إحراز الحنين إلى الأوطان. ومولد الإنسان على الدوام محبوب، ومنشؤه مألوف له ومرغوب، ولأرضك حرمة وطنها، كما لوالدتك حق لبنها. والكريم لا يجفو أرضا بها قوابله، ولا ينسى دارا فيها قبائله. فإني وإن ألبستني المحروسة نعما، ورفعت لي بين أمثالي علما، وكانت أم الوطن العام، وولية الآلاء والإنعام، وأحبها حبا جما، لأنها ولية النعمي، وقضيت فيها الأربعين مجاورا «كرام السجايا والبحور الطواميا» فلا زلت أتشوق إلى وطني الخصوصي وأتشوف، وأتطلع إلى أخباره السارة وأتعرف، ولا أساوي بطهطا الخصبة سواها، في القيام بالحقوق وإكرام مثواها.

منازل لست أهوى غيرها سقيت

حيا يعم، وخصت بالتحيات

وأمنحها زمنا بعد زمن الزيارة، وأجدد فيها من هبات الحكومة العمارة، وأبذل في محبتها النفيس لتحصيل الأراضي للزرع والغرس، وأفتخر بها كما افتخر عصام بالنفس، وأنشد قول الحافظ كمال الدين الإدفوى:

أحن إلى أرض الصعيد وأهله

ويزداد وجدي حين تبدو قبابها

وتذكرها في ظلمة الليل مهجتي

فتجري دموعا إذ يزيد التهابها

وربما تجلت الخطوة الثانية في رقي النثر في كتابات عبد الله باشا فكري والشيخ ناصيف اليازجي. أما عبد الله فكرى فقد كان، بحق، خليفة رفاعة الطهطاوي، لا من حيث الترجمة؛ فقد كان لا يعرف إلا العربية والتركية، ولكن من ناحية أنه كان مركز الحركة الفكرية في عصره. اتصل بالتعليم حتى كان ناظر (وزير) المعارف المصرية، وكان اليد اليمنى لعلي باشا مبارك في تآليفه وأعماله العلمية. وله رحلة وصف فيها سفره إلى أوروبا لحضور مؤتمر المستشرقين الذي عقد في استكهولم سنة 1888م، ولم يتمها، ولكن أتمها ابنه من بعده، ونشرها سنة 1892م، كما أنه ألف كتبا مدرسية مثل «الفصول الفكرية» نقل بها التأليف المدرسي خطوة جديدة. والناظر في كتابه «الآثار الفكرية» يرى أنه يتأرجح بين الأسلوب القديم في بعض الموضوعات والأسلوب العصري في بعضها. وهذا شأنه أيضا في الموضوعات التي اختار الكتابة فيها، وهو إلى القديم أقرب في أسلوبه، وإلى الحديث أقرب في موضوعاته. ولعل ذلك ناشئ من أنه نشأ نشأة أزهرية، وتأدب بآداب العربية القديمة، ولم يكن له إلى جانب ذلك ثقافة أوروبية راسخة ، وإنما نال هذه الزعامة الأدبية في عصره باستعداده الطبيعي الجيد وباتصاله بالأوساط الراقية التي كان يتشرب منها أفكاره الجديدة ويعمل فيها فكره فينميها ويولدها.

وقد مات عبد الله فكري سنة 1889م بعد أن أثر في النهضة الحديثة أثرا بالغا.

من نماذجه في الكتابة قوله في كتاب إلى أحد أصحابه ينقد سيرة بعض المشتغلين بالعلم وطرائقهم في تعلمه، وقصورهم عن الإفادة منه (الآثار الفكرية، ص207).

وسألت عن فلان وفلان، وهيان بن بيان، ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتظاهر بشعار فضله، ولو كان العلم بلحى تعظم وتطول، وشوارب تحف وتستأصل ... ثم بتشدق في الكلام، وتباله في المرام ... ثم بقول الإنسان حضرت درس فلان وسمعت من لفظه باللسان، وقضيت في العلم كذا وكذا سنة من الزمان، فهم أعلم من أقلته الغبراء، وأفقه من أظلته الخضراء، وإن كان للعلم غير هذه الآلات، فما لهم سوى هذه الحالات ... وعلامة ما بيننا وبينهم أن يؤمر أحدهم برقعة تكتب لحاجة معهودة، ويمتحن بكتاب غير هذه الكتب المعدودة ... وقد مررت بالأمس على أحدهم في الدرس، يقرأ القطر لابن هشام، ويلحن لحن العوام، ومررت بآخر يدرس الكافي في علمى العروض والقوافي، يقرر قوله.

قف على دارهم وابكين

بين أطلالها والدمن

فلا وربك ما أقام له وزنا، ولا عرف له معنى، مع سهولة مبناه، وظهور معناه ... وقد كانت هذه العرب تتكلم بهذه اللغة العلمية على الفطرة الأصلية، إلى أن اختلطت أنسابهم وتقطعت أسبابهم ... وخيف أن تذهب هذه اللغة المنيفة، التي هي مدار الشريعة الشريفة ... فقيض الله لحفظها الأئمة الأعلام، هداة الأنام؛ فصنفوا تلك الفنون العديدة، وألفوا هذه الكتب المفيدة، لتسهيل الأرب من لغة العرب. واستمر العمل على ذلك إلى أن خلف هذا الخلف الملوم، فظنوا تلك الوسائل مقاصد ليس بعدها غاية لقاصد، وحسبوا هذه الكتب تقصد لذاتها، ويكتفى بالتعبد بكلماتها، فوقفوا عندها ولم يتجاوزوها لما بعدها، واتخذوا الأدب وراءهم ظهريا، وجعلوا النظم والنثر شيئا فريا! وما ينفع الإعراب من لا يعرب عن المرام، وماذا يعمل بالصرف من لا يتصرف في أساليب الكلام، وماذا يغني العروض عن قوم لا يشعرون، والمعاني والبيان عن قوم لا ينظمون ولا ينثرون ...

أما الشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871م) فقد عاش في بيروت وغلب عليه الأدب وتأثر بما اطلع عليه من العلوم الغربية وأنماط التعليم الجديدة، وأكثر من قراءة الآداب العربية والاطلاع عليها، وقلدها، وأخرج من ذلك كله نتاجا فيه مسحة من القديم ومسحة من الجديد. فقد كتب مقامات كثيرة سميت «مجمع البحرين» حذا فيها حذو مقامات الحريري. كما عني بتأليف كتب لتلاميذ المدارس نحا فيها نحوا جديدا يقربها إلى الأذهان من مثل كتابه «فصل الخطاب في الصرف والنحو» و«الجمان في علم البيان» و«نقطة الدائرة» في العروض، إلى كتب أخرى. وهو، وإن تأثر بالقديم في أسلوبه فقد تأثر تأثرا شديدا بالميل إلى الوضوح والسهولة في نثره وشعره.

يقول في إحدى مقاماته يفاضل بين العلم والمال «المقامة الأربعون: الجدلية» حدثنا سهيل بن عباد قال: أصابتني وعكة شديدة، مدة مديدة، فانعكفت على توفية العلاج، وتنقية الأعفاج،

1

من الأمشاج؛

2

فلما أمنت مس العرواء ... دعاني الملال إلى النزاهة، حتى دخلت يوما إلى حديقة جميلة، ذات خميلة، قد رتعت بها عصابة جليلة. وإذا رجل عليه رداء، مثل اللواء، وعلى رأسه عمامة مثل الغمامة، وهو قد أقبل على شيخ أدرد،

3

وقد التثم حتى صار كالأمرد، فقال قد علمت أيها الشيخ أن المال زينة الحياة الدنيا، وعليه نموت ونحيا، فإنه يقضي لبانة الأولى بالمسرة، ويسهل طريق الأخرى بالمبرة، وعليه مدار العيش، ونظام الجيش، وبه قيام الممالك، وتمهيد المسالك، ودفع المهالك، وهو قاضي الحاجات، ورافع الدرجات، ومستعبد السادات وخارق العادات ... ولولاه لتعطلت الأعمال، وحانت الآجال، وانقرضت القرون والأجيال.

فانبرى له الشيخ كأويس وقال: لا أفلحت ما غب غبيس.

4

ويك، إن المرء بالعلم إنسان لا بالمال، وهو المرقاة إلى درجات الكمال، وبه تعلم الحقائق، وتدرك الدقائق، ويعرف المخلوق حق الخالق، وعليه ينفق الطريف والتالد، وصاحبه ينال الذكر الخالد، فكم من الملوك والأغنياء الذين كانت مفاتيحهم تنوء بالعصبة الأقوياء، وقد درس ذكرهم وبقي ذكر العلماء! وحسبك أن العلم لا يناله إلا أفاضل الرجال، ونجى صاحبه من الأهوال. فلما سمع القوم ما دار بين الرجلين، قالوا للشيخ نري صاحبك قد أخد طريق العنصلين

5

وإنا لنراه من الأغنياء والأغبياء، فإنه لا يعرف منزلة العلم والعلماء. فاستشاط الرجل غضبا، وقال عش رجبا تر عجبا، كيف يتأتى المراء بين اثنين، وقد وضح الصبح لذي عينين ... تبا لعلمك أيها الشيخ الناهل، الذي بنوه كاليتامى وزوجته كالعاهل،

6

وماذا ترى علمك إذا كنت تشتهي فومة من الشذام.

7

أتأكل القضيم

8

إذا طويت، وتلبس القرطاس إذا عريت، كان للعلم دولة عند أنماط الكرام، الذين عندهم لكل مقال مقام، وأما في هذا الزمان فإن المال هو الرهص

9

الذي يبنى عليه، والركن الذي لا يلتفت إلا إليه، فهم يحرمون الأديب، ولا يحترمون اللبيب، ويصرمون الفقيه، ولا يكرمون النبيه ... فخفضن عنك ما أنت فيه، ولا تتخلق بأخلاق السفيه. ثم أنشد:

قد عرف الشيخ علوم الورى

لكن هذا العلم

10

لم يدره

فليته أدرك هذا ولم

يدرك بواقي العلم في عمره

فانكفأ الشيخ بذلة الخائب، وقال مع الخواطئ سهم صائب. فأنف القوم من ذلك الشجار، وشعروا بما مسهم من نار الشنار، فنفحه كل واحد بدينار ... قال سهيل: وكان الزحام قد حال بيني وبينهما، فلا أملك أن أتبين عينهما، فرصدتهما ارتقابا حتى لقيتهما نقابا. وإذا هما شيخنا الميمون وغلامه رجب، فكدت أصفق من العجب. فأمرني الشيخ بالقعود، وقال انتظرنا إلى أن نعود. فكنت كمنتظر القارظين،

11

ولم أظفر لهما بأثر ولا عين. •••

وربما مثل الخطوة الثالثة من خطى النثر الشيخ محمد عبده (1853-1905م)، في إنتاجه العلمي والأدبي الأخير من مثل مقالاته التي كانت تنشر في مجلة «المنار»، وفي رده على «هانوتو». وفي كتابه «الإسلام والنصرانية» كما يمثل هذه الخطوة أيضا أديب إسحاق.

أما الشيخ محمد عبده فكتاباته متأثرة بنزعته القوية نحو «الإصلاح الديني»، وقد تجلت فيه هذه النزعة منذ أن كان طالبا في الأزهر، وقويت على أثر اتصاله بالشيخ حسن الطويل أولا ثم بجمال الدين الأفغاني ثانيا، ولما اتصل بجمال الدين وجدت عنده النزعة السياسية والوطنية بمعناها الواسع الذي يشمل العالم الإسلامي كله.

والناظر في أسلوبه يرى أنه متأثر بالقديم في أول أمره حين كان ينشر مقالاته في الوقائع والأهرام، فلما نفي إثر حوادث عرابي باشا وجاء بيروت اتصل بالكتب الأدبية ونشرها بعد أن شرحها مثل مقامات بديع الزمان الهمذاني ونهج البلاغة، ويظهر أن نهج البلاغة أثر فيه أثرا كبيرا، وطبع في ذهنه أساليب قوية جزلة. ثم لما اتصل بجمال الدين الأفغاني وحرر معه مجلة العروة الوثقي تدفق أسلوبه كما تقتضيه الكتابة الصحفية، وتحرر من السجع تحررا واسعا. ولما عاد إلى مصر بدأ يتعلم الفرنسية ويقرأ كتبها ويطلع على ثقافتها وطريقة معالجتها للموضوعات، كما اطلع من كتب البلاغة القديمة على كتابي «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» وعني بنشرهما - وهما كتابان لهما أسلوب جزل وتعبير قوي وإرشاد إلى مواقع الحسن في الكلام وتربية الذوق الأدبي - كل هذا أثر في أسلوبه، وجعل له خاصة القوة والوضوح والتدفق، حتى لتحس وأنت تقرأ أسلوبه القديم وأسلوبه الجديد، أنك تقرأ لكاتبين مختلفين تمام الاختلاف.

وعلى الجملة فقد نقل الشيخ محمد عبده النثر في أيامه نقلة جديدة بكتاباته من ناحية، وبهذه المدرسة التي كونها من طلبته من ناحية أخرى، فقد كان هؤلاء الطلبة يأخذون عنه وعن كتبه ومقالاته ويقلدونه ويتشربون روحه وأسلوبه وأدبه.

وقد مات الشيخ محمد عبده في عام 1905م.

ومن أمثلة نثره هذه المقتطفات من رده على «هانوتو»:

إن كان المسلمون اليوم ينتفعون بشيء، ويعتبرون بمثال، لم يكن أنفع لهم من الاعتبار بما جاء في كلام مسيو هانوتو؛ فقد أرشدهم إلى عيوب فيهم لا يسعهم إنكارها، وهداهم إلى مقاصد لطلاب الاستعمار في ديارهم قد شهدوا بالعيان آثارها، وصرح لهم بأن الاعتماد على العدالة في معاملة الدول ضرب من الخيال، وعقد الآمال بإنصاف الأمم تلمس للمحال، وما على المهتم بحماية ذماره، وطالب الطهر من عاره، إلا أن يدركهم ويعمل عملهم، ليبلغ من الحول حولهم، فيفوقهم في القوة، أو يكون مثلهم فيتعاوض في المنافع معهم معاوضة المالك مع الملك، لا أن يتسلى بالأعاليل، ويلهو بالأضاليل، ويقنع بالأماني، ويكتفي من العمل بالصوت الجهوري واللفظ الطلي، وهو من روح قائله خلي، حتى إذا دهموه وهو في غفلته، وأخذوه في نومه أو يقظته، بسط يده يلتمس الرحمة منهم، ويرقب أن يفيض عليه سيب العدل عنهم، فهذا عمل الجاهل الأحمق، وهو بالذلة والاستعباد أحق.

وهي نصيحة يجب على المسلم قبولها من أجنبي منه، وكان يجب عليه من قبل أن يقبلها من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال لخالد بن الوليد حين أرسله لحرب اليمامة «حاربهم بمثل ما يحاربونك به، السيف بالسيف والرمح بالرمح.»

ولا يخفى أن كل نزاع فهو حرب، وكل منافسة فيما هو عماد الحياة فهي جلاد، وكل عمل يأتيه أحد المتنافسين للظفر بمنافسه فهو جهاد، وكل وسيلة تظفره بطلبته فهي سلاح، وكل تجاذب أو تدافع بينهما فهو كفاح، وكل منفعة حفظها أو استخلصها منه فهي غنيمة، وكل انخذال عن حق أو تفويت لمصلحة فهو هزيمة.

فالظافر في ميدان المنافسة من كان رأيه أسد، وقوته أشد، وسلاحه أحد، فإذا قربت القوتان من التكافؤ أمكن بمصالح المتنافسين أن تتفق، وسهل على كل منهما أن يرتفق، وإلا استحال الاتفاق، واستبد القوى بالارتفاق، بل صعب على الضعيف أن ينال حق البقاء، سنة الله في عالم الأحياء.

وقد فصل مسيو هانوتو ما أجمله بعض أساتذتنا في قوله «العدل تكافؤ القوى».

صرح مسيو هانوتو بأن أوروبا بعد أن كانت لا تشتغل إلا بما يجري فيها اندفعت إلى الاستعمار، ولا يردها عنه إلا قوة الأمم التي تريد الاستعمار فيها، وضرب المثل باليابان فإنها بما ارتقت في المدنية قد آذنت أوروبا بقوتها، وحملتها على الإقرار بمكانتها، وهو قول حق كان على المسلم أن يعرفه من قرون، وله في كتابه المنزل خير هاد وأرشد مرشد، وكان يكفيه منه آية

وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ... ... وقد تألفت قوى الأمم الأوروبية من عناصر هي العلم والأدب والتجارة والصناعة والعدل والدين والسلاح. وذكرت الدين في جملة عناصر القوة لأن مسيو هانوتو لا ينكر أن أوروبا تعتمد على الدين في سياسة الاستعمار، وأن المرسلين والجمعيات الدينية من أهم الوسائل لديها في إعداد الشعوب إلى قبول سلطانها عند سنوح الفرص لسوقه إليها وتهيئة نفوس الأمم لاحتمال ما ينقض به ذلك السلطان متى أظلهم، وفي فتح المغالق التي لا يستطيع السلاح وحده أن يفتحها، وتمهيد السبل التي لا يمكن لساعد الجندي وحده أن يمهدها.

أما أديب إسحاق، فقد كان دمشقي الأصل، ولد بها سنة 1856م، وانتقل إلى بيروت ومصر، واتصل بجمال الدين الأفغاني، وحرر في الصحف. وبعد مجيئه مصر واتصاله بالسيد جمال الدين، أنشأ جريدة «مصر»، فلفت إليه الأنظار وقدر الأدباء أسلوبه تقديرا حسنا، وخافت الحكومة من تأثيرها فأقفلتها، فذهب إلى باريس وأصدرها هناك وسماها «مصر القاهرة»، وقد مات شابا في التاسعة والعشرين من عمره (1885م) وكان في كتابته نصير الشورى والحكم النيابي، والمدافعة عن حقوق الشعب.

وإذا كان أسلوب الشيخ محمد عبده متأثرا بالأدب العربي القديم في أزهى عصوره، ودعوته إلى الإصلاح مصبوغة بالصبغة الدينية فإن أديب إسحق المعاصر له كان متأثرا بالتعاليم الأوروبية الجديدة، داعيا إلى تقليد الأوروبيين في نظم الحكم، وكان أسلوبه أيضا متأثرا بالأدب الأوروبي، حارا كشبابه، ملتهبا من وطنيته. وقد جمعت طائفة من مقالاته في كتاب اسمه «الدرر».

ومن أمثلة نثره قوله يهاجم الاستبداد: «لقد عرف الناس الآن شرور الاستبداد، وترفعت نفوسهم بالعلم عن الرضا به، وصار الأمر شورى عند جميع الدول المتمدنة إلا الروسيا، وذلك إن صحت تسمية الدولة المستبدة مطلقا بدولة متمدنة. إن ثورة فرنسا برزت إلى عالم الفعل عام 1789م وصدمت قوة الاستبداد فزلزلتها، ودفعت سطوة التقليد فضعضعتها، ورفعت عن العيون نقابها، وعن النفوس حجابها، فآنست من جانبها نور الحرية، وخلعت جلابيب الرق والعبودية، فتصدى لها أعوان الرق وأنصار العبودية وما آلوا في قتالها جهدا، فلقيتهم وهي ترى الموت في الحرية حياة، والحياة في الرق موتا، فلم يبلغوا منها قصدا، ورسخت في عالم الوجود قدمها، وأدهشت الدنيا بشدة حولها ...»

ومن ذلك هذه المحاورة التي دارت بينه وبين رياض باشا حول الحكم النيابي: «زرت رياض باشا على عهد الوزارة الأجنبية في ديوان الداخلية، فقابلته خارجا من الغرفة فجلسنا على مقعد الباب، فقال: كيف ترون الحال؟ قلت رأي الوزير أوسع. قال: وما الذي يبلغكم من أخبار الريف؟ قلت: إن الناس أملوا كثيرا ولم ينالوا شيئا فأوشكوا أن يعودوا إلى اليأس بعد الرجاء، والوزير يعلم أن النكسة شر من الداء. فقال بازدراء: فليرجعوا إلى حالة الخسف، ويعانوا عذاب الظلم. قلت: إنهم لا يرومون ذلك، ولكن يرومون نيل الحرية وتأييد الكلمة الوطنية. فقال متهكما: ألا يرجون مجلس النواب؟ قلت: لا بدع أن يطلب الشيء من معدنه. فقال: أي معدن في مثل هذا المجلس؟ وكيف يرجى له البقاء، وليس في مصر من يعلم شيئا من أحوال السياسة الدولية ليصلح أن يكون نائبا. قلت: إن صح هذا الرأي فلا يقضى بحرمان البلاد من نعمة الشورى، فإن النواب المصريين يستطيعون النظر في أمورهم الداخلية وأحوالهم الزراعية وما يترتب عليه نفع البلاد ليستجلبوه، وما ينشأ عنه الضرر ليجتنبوه، وهم بذلك أحق من غيرهم، فإن صاحب البيت بالذي فيه أدرى. فهمهم بكلام لا يفهم، وانصرفت.» •••

وقد يصح أن نقسم النثر الأدبي إلى نوعين ظاهرين: نثر اجتماعي ونثر فني.

فالنثر الاجتماعي يشمل النثر السياسي ومقالات الصحف السياسية والاجتماعية والكتب المؤلفة في ذلك.

وهذا القسم كان أكثر تحررا من السجع وأنواع البديع وسائر المحسنات لأنه يعتمد بطبيعته على مخاطبة جماهير المثقفين واستثارة مشاعرهم وتغذية عقولهم؛ ولذلك كان له الفضل الأكبر في تحول أسلوب الكتابة من كتابة مقيدة إلى كتابة مرسلة.

وقد بدأ هذا في أول النهضة من تحرير بعض المقالات في الوقائع المصرية وفي تأليف بعض الكتب التي ألفها أعضاء البعثات من مثل رفاعة الطهطاوي ومدرسته مما كانوا يعرضون من صور اجتماعية طبعها في نفوسهم ما رأوا أثناء بعثتهم في أوروبا.

ثم قوي هذا النوع من الكتابة على أثر تبرم البلاد من التدخل الأجنبي في عهد إسماعيل، ثم قوي واشتد على أثر الاحتلال الإنجليزي والمطالبة بالاستقلال وشعور نخبة من المفكرين بسوء الحالة الاجتماعية والدعوة إلى الإصلاح.

ومن أعلام الكتاب في هذا الباب السيد جمال الدين الأفغاني المتوفى سنة 1897م فقد شهد حركة التدخل الأجنبي في عهد إسماعيل، وأثار الشعور الوطني ليصرخ في وجه الظلم، ولكن لم يكن قوي الأسلوب الكتابي؛ إذ كانت تغلب عليه العجمة، غير أنه كان نارا تلتهب يحمس كل من اتصل به، ويؤثر بحديثه وبروحه في مجالسه وتلاميذه، ويدفع كل من له قدرة على الكتابة أن يكتب وأن يجيد الكتابة فخلق مدرسة قوية الروح قوية الأسلوب.

ربما كان هذا ممثلا خير تمثيل فيما أنشأه في باريس بعد نفيه من مجلة «العروة الوثقي» إذ كان هو روح المجلة والشيخ محمد عبده قلمها وأسلوبها.

وكان من كتاب هذا النوع من النثر الاجتماعي عبد الله نديم وكان له أثر كبير في كتاباته السياسية والاجتماعية أيام ثورة عرابي، وبعدها بما كان يخرج من مجلات ذات أسلوب قوي جذاب يؤثر في الخاصة والعامة، على حين أن السيد جمال الدين وتلميذه الشيخ محمد عبده كانا يؤثران في الخاصة؛ ذلك لأن السيد عبد الله نديم كان يعرض للمسائل السياسية والاجتماعية فيخاطب الخاصة باللغة الفصحى في أسلوب قريب المنال، ثم كان يخاطب العامة باللغة العامية أحيانا، ويقسم مجلته «الأستاذ» إلى قسمين تبعا لهذا الغرض.

وبعد الاحتلال وجدت نزعتان مختلفتان في السياسية والاجتماع: نزعة تميل إلى الإصلاح التدريجي والميل إلى الحكومة المستبدة العادلة والتدرج بالأمة حتى تنتج أفرادا ممتازين في الخلق والثقافة؛ وإذ ذاك يمكن تكوين حكومة شورية، وكان على رأس هذا الحزب رياض باشا ويناصره من الكتاب الشيخ محمد عبده. وحزب يرى الإسراع في تنفيذ النظام النيابي وأنه هو الذي يكون الرجال ويسير بهم نحو الكمال، وكان على رأس هذا الحزب شريف باشا ويناصره من الكتاب أديب إسحق وغيره. كما وجدت فيما بعد أحزاب أخرى لها نزعاتها المختلفة ولكل نزعة كتابها وأدباؤها.

وكان هذا كله نعمة على الأدب السياسي والاجتماعي؛ إذ أجرى أقلام الكتاب وألهب عواطفهم وجعل كتاباتهم حارة متدفقة ، فتوفر طائفة منهم على دراسة الحياة الاجتماعية؛ ينقدون حالة المجتمع ويدعون إلى الإصلاح من مثل مقالات النديم والشيخ محمد عبده والمويلحي وقاسم أمين، ثم جاء الشيخ علي يوسف ومصطفى كامل وأمثالهما، فتقدما في صحفهما ونتاجهما بالكتابة الاجتماعية والسياسية خطوات إلى الأمام.

وقد كان الشيخ علي يوسف أكبر صحفي مصري، أسس في جريدته «المؤيد» مدرسة وطنية إسلامية، سدت حاجة المصريين إلى جريدة وطنية تناهض الاحتلال، وإسلامية تغذي العواطف الإسلامية وتستجيب لها في سائر الأقطار العربية، وحازت جريدته من الشهرة والنفوذ والسعة ما لم تحزه جريدة أخرى في عصره، والتف حولها كثير من الكتاب يغذونها بأقلامهم ومشاعرهم.

وقد مات سنة 1913م بعد أن خدم بقلمه الأدب والعاطفة الوطنية والشعور الإسلامي خدمة كبرى.

وكان له أسلوب سيال متدفق قوي، يتحين فرص الأزمات الدينية والسياسية فيجري فيها قلمه بالروائع، فهو بحق قد نقل الأسلوب العربي العصري الحديث نقلة جديدة.

ومن أمثلة نثره هذه القطعة كتبها تحت عنوان «لا تعصب في مصر»: «قالوا: إن المصريين متعصبون تعصبا دينيا، ومعنى هذا أنهم يكرهون المخالفين لهم في الدين كراهة عمياء، يعتدون عليهم بروح البغضاء المتناهية، كلما سنحت لهم فرصة الافتراس أو استفزهم صائح.

في البلاد من قديم الزمان أديان مختلفة يتجاور أهلوها في المنازل، ويتشاركون في المرافق، ويتنافسون في الأعمال، فلم تكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة. ولو كانت في فطرة المسلمين أو في فطرة الفريقين للاشت الأكثرية الأقلية في عصور مضت وخصوصا في عصور كانت الجهالة فيها سائدة، وكان بعض الحكام من المماليك وغيرهم يبذرون بذور البغضاء بين الفريقين لا لخدمة دينية إسلامية، ولكن لأعراض شتى منشؤها الشهوات والمطامع. ولكن التواريخ تدل على أن الفريقين عاشا على الوئام والسلام في كل الظروف أو أكثرها.

وفد على القطر المصري منذ أول عهد المرحوم محمد علي باشا الكبير وفود من كل الطوائف والأجناس ... كان منهم الموظفون في كل مصلحة، حتى تولى نوبار باشا رئاسة النظار في مصر، وكان قائمقام خديوي، ورئيس الاحتفال بموكب المحمل الشريف، فهل يوجد في أمة غير الأمة المصرية المسلمة مثل هذا التساهل؛ فيرأس احتفالا دينيا مسيحيا مسلم أو غير مسيحي؟

وكان من علمائهم الأساتذة والمعلمون ونظار المدارس والمكتشفون، فهل الأمة التي تربي أبناءها على أيدي الأساتذة من غير دينها تعد متعصبة؟ وكان التجار على ما يحبون من الرحب والسعة وحسن القبول، فضربوا في البلاد بمتاجرهم من غث وسمين، وجيد ورديء، وخالص ومغشوش، حتى صارت مصر من أوسع أسواق متاجر أوروبا ومعاملها التي وجدت إقبالا من الأمة هائلا.

وهؤلاء بعض الأجانب يقيمون الأكواخ الصغيرة الحقيرة لبيع الخمور الرديئة في كل قرية من قرى القطر، مهما سحقت وقل عددها ... حتى يكون الصعلوك منهم في بضع سنوات صاحب القرية ومزارعها ومداين أهلها وسيدهم، فهل هؤلاء هم المتعصبون الذين يخشى من شرهم في وادي النيل على الأوروبيين؟!»

ولما زاد ضغط السلطان عبد الحميد، وضيق على الناس حريتهم، ورماهم بالظلم وسوء الإدارة، وأخذهم بالظنة والشدة، كان من الطبيعي أن ينهض الأحرار لمقاومة الطغيان فكان من ذلك كتاب ينشرون المقالات القوية في هذا الظلم ويتعرضون للسجن والنفي والقتل.

وعلى الجملة فقد كان من نتيجة هذا وجود حركة فكرية وأدبية في البلاد العربية المحكومة بالدولة العثمانية، وفرار كثير من الكتاب إلى مصر، يدرعون بها ويهاجمون السلطان عبد الحميد ونظامه الاستبدادي بمقالات أو كتب أدبية في غاية من القوة والحرارة كما فعل الشيخ ناصيف اليازجي في بيروت، وكما فعل إبراهيم المويلحي في مصر في كتابه «ما هنالك» الذي نقد فيه الحكم التركي دون أن يصرح باسمه، وكما فعل السيد عبد الرحمن الكواكبي في كتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» وكما فعل ولي الدين يكن بعد ذلك في أوائل القرن العشرين.

أما النثر الفني، ونعني به النثر الذي يقصد فيه إلى الصياغة والجمال والموسيقى والإمتاع الفني أكثر مما يقصد فيه إلى نقل الأفكار، وتقرير الحقائق؛ فقد كان رقيه أقل وخطواته أضيق، ولم يتحرر من سجعه وبديعه طوال القرن التاسع عشر إلا قليلا، وكان أكثر ما يتجلى في الإخوانيات، والمساجلات الأدبية، والتقدمة لموضوع اجتماعي، ونحو ذلك.

وكثيرا ما يكون للأديب لونان: لون يتأنق فيه ويتقيد بالقيود الرسمية ويتصنع فيه ويتكلف ويعمل ذهنه وخياله للعثور على نوع من أنواع البديع، أو فقرتين يؤلف بينهما سجعة، ويحتذي فيه حذو الأقدمين من الكتاب أمثال بديع الزمان والحريري، ولون يترسل فيه ويتحرر من القيود إذا عرض لموضوع اجتماعي أو سياسي كما فعل محمد المويلحي في حديث عيسى بن هشام، وكما نرى في كثير من المقالات التي كتبت في هذا العصر.

وقد قل هذا الأدب بطغيان الأدب الاجتماعي والسياسي عليه وبحكم أن الناس رأوه ضربا من ضروب الكمال ورأوا المقالات السياسية والاجتماعية حاجة من حاجات الغذاء العقلي والعاطفي.

ويعد عبد الله باشا فكري مثلا من أدباء النثر الفني في بعض مقالاته وخاصة إخوانياته ومداعباته. ومن هذه الأمثلة ما كان من المساجلات بين الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري وشكيب أرسلان. كما أن من هذا النوع المقامات التي قلد فيها الأقدمون مثل مقامات الشيخ ناصيف اليازجي «مجمع البحرين».

ومما يلاحظ أن النثر السياسي والاجتماعي كان أكثر تأثرا في ترسله ومعانيه بالأدب الغربي وإن اتخذ موضوعاته من البيئة الشرقية. أما الأدب الفني فأكثر تأثرا بالأدب العربي القديم في أسلوبه وقيوده.

وهناك أديبان كبيران امتازا بناحيتهما الأدبية الفنية كما امتازا بناحيتهما اللغوية وبسعة الاطلاع وقوة النقد؛ فأثرا في الأدب العربي في القرن التاسع عشر أثرا كبيرا، وهما أحمد فارس الشدياق، وإبراهيم اليازجي.

فأما أحمد فارس الشدياق فقد كان لبناني الأصل: كان نصرانيا، واتصل بباي تونس فأسلم، ورحل إلى أوروبا، واستفاد من رحلته فيها، وكان واسع الاطلاع في اللغة؛ يدل على ذلك كتبه: الساق على الساق فيما هو الفارياق، والجاسوس على القاموس، وسر الليال في القلب والإبدال.

وخدم الصحافة بإنشائه جريدة الجوائب في الآستانة باللغة العربية، كما كان له فضل كبير في اختيار مصطلحات لكلمات أجنبية لا تزال تستعمل إلى اليوم.

وأنشأ بجانب جريدة الجوائب مطبعة كان لها الفضل أيضا في نشر كتب عربية قيمة من الكتب الأدبية القديمة التي عثر عليها في مكاتب الآستانة.

ويعد الشدياق بحق من أعلام الأدب بما كتب من مقالات أدبية وبما نقد من أحوال اجتماعية، وبما نبه إليه من أخطاء لغوية، وبما نشر من كتب قيمة.

ولم يتحرر الشدياق في أسلوبه من قيود العصر القديم من التزام السجع أحيانا، وتكلف أنواع البديع أحيانا، ولكنه كان غزير المعاني، واسع الأفق، تعرض لموضوعات قلما تعرض لها من قبله؛ من وصف لمشاهد اجتماعية في البلاد الشرقية والغربية، مع الفكاهة الحلوة والنقد اللاذع، وإن كان يؤخذ عليه فيها التبذل أحيانا إلى ما يترفع عنه الأديب العف.

وأسلوبه أميل إلى الإطناب، مملوء بالفكاهة، كثير المترادفات، عنيف في النقد.

وقد مات في عام 1887م بعد أن عمر طويلا، وبعد أن أغنى اللغة العربية، بما بعث من كلمات، وخلق من مصطلحات، ونشر من كتب، وأحيا من نقد.

ومن أمثلة نثره القطعة التالية تصف مصر (الساق على الساق، الفصل السابع، 203): «بلد الخير ومعدن الفضل والكرم، أهلها ذوو لطف وأدب وإحسان إلى الغريب، وفي كلامهم من الرقة ما يغني الحزين عن التطريب، إذا حيوك فقد أحيوك، وإن سلموا عليك فقد سلموك، وإن زاروك زادوك شوقا إلى رؤيتهم، وإن زرتهم فسحوا لك صدورهم فضلا عن مجالسهم. أما علماؤها فإن مدحهم قد انتشر في الآفاق، وفات فخر من سواهم وفاق، بهم من لين الجانب ورقة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في إطرائه ... وكلهم فصيح اللهجة، بين الكلام، سريع الجواب، حلو المفاكهة والمطارحة، وأكثرهم يميل إلى هذا النوع الذي يسمونه الأنفاط، وكأنه المحارزة، وهي مفاكهة تشبه السباب وهو أشبه بالأحاجي، فإن لم يكن قد تدرب فيه لا يمكنه أن يفهم منه شيئا وإن يكن شاعرا. وكلهم يحب السماع واللهو والخلاعة وغناؤهم أشجى ما يكون فلا يمكن لمن ألفه أن يطرب بغيره، وكذلك آلاتهم فإنها تكاد تنطق عن العازف بها، وأعظمها عندهم هو العود، وقل اعتناؤهم بالناي، ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات، غير أني أذم من غنائهم شيئا واحدا، وهو تكرير لفظة واحدة من بيت أو موال، مرارا متعددة حتى يفقد السامع لذة معنى الكلام، ولكن أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن، وبعكس ذلك طريقة أهل تونس فإن غناءهم أشبه بالترتيل، وهم يزعمون أنها كانت طريقة العرب في الأندلس ...»

وربما خلفه في بابه إبراهيم اليازجي وهو لبناني الأصل عاش من سنة 1847-1906م وهو ابن الشيخ ناصيف اليازجي الأديب المشهور الذي تقدم ذكره. مال إلى الصحافة أول أمره فكتب في جريدة الصباح في بيروت، وعلم البيان وآداب اللغة العربية في إحدى مدارسها، ثم تحول إلى مصر، وأنشأ بها مجلة البيان.

وكان مثقفا ثقافة واسعة في اللغة العربية والفرنسية وكان يعرف العبرية والسريانية.

وعرف بكثرة التحري والتدقيق فيما يكتب ويبحث، لا يرضى أن يخرج شيئا للناس من آثاره حتى يطيل النظر فيه ويجيل يده في إصلاحه وتعديله مرارا؛ ولذلك قل إنتاجه إذا قيس بمجهوده ومدة اشتغاله.

وقد شارك أحمد فارس الشدياق في كثير من صفاته من اتساع في معرفة اللغة العربية وآدابها ونقد للتعبيرات والأساليب الشائعة في زمنهما وتوجيه الكتاب والأدباء إلى أن يتقنوا ما ينشئون، ويجودوا ما يكتبون، كما اشترك بوضع كثير من المصطلحات اللغوية.

وقد شاء القدر أن يتساجل الرجلان، حين نقد أحمد فارس الشدياق أباه الشيخ ناصيف اليازجي عقب وفاته، فاضطر إبراهيم للدفاع عن أبيه، وقد كان أحمد فارس الشدياق إذ ذاك نيف على السبعين، وكان إبراهيم اليازجي شابا، ولعل هذا هو ما وجهه إلى التزود من اللغة وحذوه حذو أحمد فارس الشدياق في الميل إلى النقد مع كثرة البحث وسعة الاطلاع.

وأخرج اليازجي كتبا تتجلى فيها مواهبه واتجاهاته، فله كتاب لغة الجرائد نقد فيه الأساليب والألفاظ التي يكثر استعمالها في الجرائد والمجلات مما لا يتفق وفصيح اللغة.

وله «نجعة الرائد في المترادف والمتوارد» أخرج منه جزأين وبقي الثالث بناه على الإنسان وصفاته، وما يتصل به، يذكر في كل فصل الجمل المختارة والألفاظ المنتقاة التي تستعمل في المعنى الواحد على نحو أوسع مما فعل صاحب الألفاظ الكتابية، وما فعله الحصري في فصول من كتاب «زهر الآداب».

كما نشر نقدا له على محيط المحيط للبستاني. وألف شرحا جميلا لديوان المتنبي كان بدأه أبوه من قبله بتعليقات على الأبيات، وهو شرح تتجلى فيه مواهب اليازجي من دقة وتركيز، وأداء للمعنى من غير إكثار.

وهو كسائر كتاب عصره لم يتحرر من السجع في كتاباته الأدبية، أما مقالاته في البحوث اللغوية ونحوها فقد تحرر فيها من السجع غالبا لطبيعة الموضوع.

وهو يميل إلى تقليد الأقدمين في تحريه لرصانة العبارة، وحسن السبك، والدقة في اختيار اللفظ، ويتحد مع الشدياق في ميله إلى الإطناب في مقالاته النقدية وإن لم يبلغ في ذلك مبلغه، ويخالفه في غلبة الجد عليه، وقلة الفكاهة والمزاح.

ومن أمثلة مقالاته هذه القطعة التي كتبها عن «الجرائد في القطر المصري» في مفتتح السنة الأولى من مجلته الضياء (1898-1899م): «من ورد الديار المصرية في هذه الأيام ورأى أن في القاهرة وحدها ما ينيف على خمسين جريدة بين يومية وأسبوعية وشهرية، ثم قابل بين حالها اليوم وما كانت عليه من زهاء عشرين سنة حين لم يكن فيها إلا جريدة واحدة هي الجريدة الرسمية، تبين المسافة التي جازها هذا القطر في هذه المدة اليسيرة وما حدث في نفوس أهله من النهضة الأدبية ...

بيد أنك إذا تفقدت تلك الجرائد وجدت أكثرها بعيدا عن المنزع الذي تقتضيه حالة القطر غير متلق تلك النهضة بما يرفع الأمة من كبوتها؛ لأن أكثرها لا خطة لها إلا أحاديث السياسة ومزاعم أربابها، تتلو على القراء في هذا القطر ما يتحدث به في مجالس لندرا وبرلين وما يتخرص به سياسيو باريز وبطرسبرج ... مما لا يهم المصري في حالته الحاضرة الوقوف على شيء منه، فضلا عن أن هذه المباحث إنما هي من غايات المدنية لا من مبادئها، وإنما تتلقاها الأمة بعد أن تستوفي قسطها من ضروريات العلم وتستعد لفهم ما يلقى إليها من ذلك بعد معرفة المقدمات التي تفيد تصوره. ويا ليت شعري ما الذي يقع في ذهن العامي من مكاشفته بأسرار الممالك، وهو لم يسمع من أمر تلك الممالك إلا بأسمائها ولم يقف على شيء من تواريخها وسائر أحوالها، وكيف يستطيع أن يتمثل وقائع حرب بين أمتين وهو لا يعلم موقع بلادهما من الأرض؟!

ثم على تسليم أن ذلك كله سائغ وأن المقصود به الفئة المتنورة من الأمة وهي أقل من القليل فما الداعي إلى وجود عشرات من الجرائد تكرر الخبر الواحد مع وحدة المشتركين في أكثرها؟! وكثيرا ما يكون ذلك الخبر بالعبارة الواحدة لأنه في جميعهن معرب عن جرائد الأجانب حتى ما يتعلق بسياسة القطر نفسه. وهذه أخبار النظارات وهي بين ظهراني كتابنا لا يكادون يتعلقون بالنبأ التافه منها إلا استراقا واستشفافا من وراء حجاب. وهذه أخبار مواقع السودان وهي متصلة بمصر وفيها جيش مصر وأموالها تتناولها جرائدنا عن جرائد إنكلترا وغيرها فلا تصل إلا بعد أن تقطع البر وتخوض البحر وتأتيها عن طريق هو أبعد من السودان بمراحل.

ثم أين نصيب العامي من تلك الجرائد وعليه أكثر رواجها؟ وهل يكتفي منها بما تسرده بعد ذلك من خبر زفاف أو نعي وما يقع من قتل أو سرقة، وما يتوخاه الكاتب أو المكاتب من إطراء بعض ذوي الشأن لغرض في النفس أو الوشاية ببعض المستخدمين، أو ما أولع به بعض تلك الجرائد من نفث سموم التعصب والشقاق؟ أين الكلام فيا ينمي ثروة البلاد؟ ومتى رأينا فيها حضا على إحياء الصنائع؟ ثم أين الفصول المطولة في تهذيب أخلاق العامة وإصلاح آدابها؟!

ومعلوم أن الجرائد تثبت تأثيرا في نفوس قرائها، لأنها الجليس الدائم والعشير الملازم، يقرؤها الرجل في ناديه، ويأنس بها في خلوته، ويختلف عليها في أوقات فراغه، ويتكرر عليه حديثها في كل يوم، حتى تنطبع حروفها في مخيلته، وترتسم ألفاظها على أسلة لسانه؛ فإذا تكلم نطق بما تتلو عليه، وإذا تناجت خواطره لم يمر بها إلا ما تلقن من أقوالها، إلى أن تنتقش خطتها في صفحة اعتقاده ويسترسل إليها برأيه وهواه، ولا سيما إذا لم يسبق إليه من العلم ما يزاحم آراءها ، ولم يكن بين يديه ما ينصرف إلى تلاوته دونها بحيث تكون هي المورد الوحيد الذي تستمد منه بصيرته، فإن ما يرد عليه منها يمتزج بأجزاء نفسه ويرسخ فيه رسوخ طباعه حتى يصير من الضروريات التي لا تقبل الزوال ولا تعترضها الشبهات.» •••

وإلى جانب هذا ولد فن الخطابة في هذا القرن وارتقى، وقد كانت الخطابة قبل ذلك ميتة أو شبه ميتة؛ لفقدان الحرية، وخمود الوعي القومي. والخطابة السياسية لا تنهض إلا بهذين العنصرين: قدر من الحرية يستطيع به الخطيب أن يعبر عن آرائه، ويقظة شعور تدفعه للتفريج عن نفسه بالقول، ومجاوبة للسامعين في هذا الشعور.

وقد كانت الحرية مخنوقة لا يستطيع قائل أن يقول وإلا تعرض للسجن والنفي والموت، وكان الشعور القومي قد جمد إلى درجة بعيدة فلا يفكر مفكر إلا في نفسه، وكيف يعيش، وكيف يتقي الشر، أما التفكير في الوطن فمنزلة لم يبلغها.

قال الشيخ محمد عبده: «إن أهالي قبل سنة 1893م كانوا يرون شئونهم العامة بل والخاصة ملكا لحاكمهم الأعلى ومن يستنيبه عنه في تدبير أمورهم يتصرف فيها حسب إرادته، ويعتقدون أن سعادتهم وشقاءهم موكولان إلى أمانته وعدله أو خيانته وظلمه، ولا يرى أحد منهم لنفسه رأيا يحق له أن يبديه في إدارة بلاده أو إرادة يتقدم بها إلى عمل من الأعمال يرى فيه صلاحا لأمته، ولا يعلمون من علاقة بينهم وبين الحكومة سوى أنهم مصرفون فيما تكلفهم الحكومة به وتضربهم عليه، وكانوا في غاية البعد عن معرفة ما عليه الأمم الأخرى سواء كانت إسلامية أو أوروبية، ومع كثرة من ذهب منهم إلى أوروبا وتعلم فيها من عهد محمد علي باشا الكبير إلى ذلك التاريخ، وذهاب العدد الكثير منهم إلى ما جاورهم من البلاد الإسلامية أيام محمد علي باشا وإبراهيم باشا؛ لم يشعر الأهالي بشيء من ثمرات تلك الأسفار.»

فلما أنشأ إسماعيل باشا مجلس الشورى في سنة 1283ه بدأ الناس يشعرون بشيء من الحرية وإن كان شعورا ضعيفا يساوره خوف وتردد، حتى إذا تدخل الأجانب في مصر على أثر سوء الحالة المالية أخذ الناس يتذمرون، وأخذ وعيهم القومي في التكون، وساعد على ذلك شعور الخديوي إسماعيل باشا نفسه بضرورة إبداء الناس آراءهم وتذمرهم، وإذ ذاك ظهر جمال الدين الأفغاني فكان أول خطيب من نوعه: يبلور شعور الناس ويستحثهم للعمل، وكسب الحقوق، ورفع الظلم، والمطالبة بالعدل، فكان يجلس وحوله الناس في المقهى أو في بيت من بيوت الخاصة، ويتحدث حديثا هو أشبه ما يكون بخطابة في جمع صغير، وأحيانا يخطب في الجماهير. وقد سمعه من حدث عنه أنه كان يخطب سنة 1878م في العامة ويقول لهم ما معناه: «إنكم معشر المصريين قد نشأتم في الاستعباد، وربيتم في حجر الاستبداد، وتوالت عليكم قرون منذ زمن الملوك الرعاة إلى اليوم وأنتم تحملون عبء نير الفاتحين، وتئنون من وطأة الغزاة الظالمين، تسومكم حكوماتكم الحيف والجور، وتنزل بكم الخسف والذل، وأنتم صابرون بل راضون، وتستنزف قوام حياتكم - التي تجمعت بما يتحلب من عرق جباهكم - بالعصا والمقرعة والسوط وأنتم صامتون، فلو كان في عروقكم دم فيه كريات حيوية، وفي رءوسكم أعصاب تتأثر فتثير النخوة والحمية، لما رضيتم بهذا الذل وهذه المسكنة. تناوبتكم أيدي الرعاة، ثم اليونان والرومان والفرس، ثم العرب والأكراد والماليك، وكلهم يشق جلودكم بمبضع نهمه، وأنتم كالصخرة الملقاة في الفلاة لا حس لها ولا صوت.

انظروا أهرام مصر، وهياكل منفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة آبائكم، وعزة أجدادكم. هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، عيشوا كباقي الأم أحرارا سعداء.»

وقد ربى في مصر طبقة تقلده وتحاكيه.

ثم خلفه في النبوغ في الخطابة عبد الله نديم، كان خطيبا شعبيا، وكان زلق اللسان، عارفا بنفسية الجماهير، قديرا على التأثير. بدأ حياته الخطابية مذ كان يعلم الإنشاء والأدب في مدرسة الجمعية الخيرية في الإسكندرية، فكان يعلم تلاميذ المدرسة الخطابة. ثم كان يخطب في المحافل، وقد كثرت في أول عهد توفيق سنة 1882م حينما أعلن الدستور، فسرت في النفوس هزة فرح، وأمل الناس أن الحكم النيابي سيصلح كل مفاسد الماضي، فكان عبد الله نديم يخطب في الجماهير. من ذلك مثلا أن جمعية المقاصد أقامت حفلة للاحتفال بهذا الدستور فافتتحها عبد الله نديم، وتلاه إبراهيم اللقاني فبين الفرق بين عهد الاستبداد وعهد الشورى، فأعقبه النديم في الكلام في هذا الموضوع، ثم قام الشاب مصطفى ماهر (الذي صار مصطفى باشا ماهر فيما بعد)، فتكلم في الحث على الاجتهاد في العلوم والفنون، وأثار الأغنياء حول فكرة إنشاء بنك أهلي يحمى الأهالي من استغلال المرابين، وختم ذلك بالدعوة إلى الألفة والاتحاد، فقام النديم بعده يخطب في هذا الموضوع أيضا، ثم قام الشيخ محمد عبده فبين مزايا الحكم النيابي، وطالب أن يكون النواب من المتعلمين، وحث على تعميم التعليم، وعلى احترام حرية القول والكتابة، وسن القوانين المبينة لحقوق الأفراد، فأعقبه عبد الله نديم يخطب في هذا الموضوع أيضا. ثم قام فتح الله أفندي صبري (وهو فتحي باشا زغلول فيما بعد)، فخطب في الحث على الاتحاد والثبات.

ثم لما كانت الثورة العرابية، تحولت خطب عبد الله نديم إلى التحريض على الثورة وتأييد عرابي، فكان يخطب في كل مجتمع: في الأزهر وطلبته، والجيش وجنوده، وفي حفلات الأفراح، حتى كان إذا سئل محمد عثمان المغني أين تعني الليلة؟ قال في بيت فلان مع عبد الله النديم.

كان عبد الله نديم إذن لسان الأمة في عهده بخطبه إذا خطب، وبقلمه في الصحافة إذا كتب.

ثم خلفه مصطفى كامل (المتوفى سنة 1908م)، فكان الخطيب البارع في مناهضة الاحتلال الإنكليزي فدعا إلى مصر وحريتها، يخطب في مصر بالعربية، وفي فرنسا بالفرنسية، ويتنقل في البلاد يثير الحمية، ويشعل نار الوطنية، ويبعث في النفوس الشعور بالكرامة القومية.

وكان مصطفى كامل حلو الصوت، جيد النبرات، متدفق البيان، فأثر في النفوس أثرا بالغا.

ثم كان لتنظيم القضاء في مصر، وإنشاء المحاكم الأهلية، ونظام المرافعات، أثر كبير في نهضة الخطابة القضائية، بل والسياسية أيضا. فنظام القضاء أعلى من شأن المحاماة؛ ولهذا نشأ محامون بارعون في المرافعة، وكان منهم خطباء قضائيون في المنزلة الأولى مثل إبراهيم اللقاني، وعمر لطفي ، وإبراهيم الهلباوي وغيرهم. كما أن كثيرا من هؤلاء المحامين اشتغلوا بالحركة السياسية فكانوا خطباء سياسيين بجانب أنهم خطباء قضائيون. (ج) القصة

لم يكن ينظر إلى القصص في أول هذا القرن على أنه أدب رفيع إلا ما كان من المقامات وأمثالها، حتى إن ألف ليلة وليلة وقصة عنترة وأمثالهما من القصص الأخرى كان يرى فيها الأدباء أنها أدب شعبي وضيع، ولم تقدر ألف ليلة وليلة في الأدب العربي إلا بعد أن قدرها الأوروبيون. وإنما علا شأن القصة بعد أن احتك الشرق بالغرب ورأى المتأدبون أنها تحل في الأدب الغربي أعلى منزلة؛ ولذلك بدأ الأدباء في هذا القرن يترجمون عن الأدب الغربي بعض القصص كما فعل محمد عثمان جلال في مصر إذ ترجم أربع روايات فرنسية عن راسين ونشرها في كتاب سماه «الروايات المفيدة في علم التراجيدة» وترجم أربع روايات أخرى عن موليير في كتاب سماه «الأربع روايات من نخب التياترويات» وكما ترجم قصص لافونتين في العيون اليواقظ.

وكذلك ترجم اللبنانيون عن الإنجليزية والفرنسية بعض الروايات، ومن أشهرهم في ذلك سليم البستاني، ونقولا رزق الله، ونقولا الحداد.

وكانت الخطوة الثانية هي تأليف الروايات على نسق ما يفعله الغربيون، وربما كان أول قصة مصرية منشأة هي قصة «علم الدين» لعلي باشا مبارك؛ ألفها في أربعة أجزاء وهو ناظر للمعارف، فحشد جمعا كبيرا من المدرسين ووضع خطتها وهي أن يحصروا أهم مظاهر المدنية الحديثة كالسكك الحديدية والبريد والملاحة والتياترو والبورصة والبنوك ووسائل الإضاءة إلى غير ذلك، ثم يكتبوا في هذه الموضوعات ما يجب أن يعلمه الإنسان المثقف، كما جمع فيها ما وصل إليه العمل في البحر وعجائبه، والبراكين والذهب والأحجار، والصناعة والفلاحة وأشهر النباتات وما يستخرج منها إلخ.

وكذلك الشأن في الموضوعات الأوروبية كعادات الأوروبيين في مأكلهم وملبسهم، وعادات المصريين في ذلك.

ثم عادات أدبية كالميسر والأزلام والأنصاب عند العرب، ومعنى المعلقات وتاريخ القهوة والحشيش.

فلما فرغوا من ذلك صبها في قالب قصة تدخل فيها هذه الموضوعات، وعاونه في صياغتها عبد الله باشا فكري .

وجعل بطل القصة شيخا من الأزهر اسمه الشيخ علم الدين. وقد وصف فيها حياة الشيخ الأولى وكيف تعلم في الكتاب، وتلقى العلم في الأزهر، وأخيرا حضر رجل إنجليزي من المستشرقين إلى القاهرة فالتقى بالشيخ علم الدين ودرس العربية عليه، ثم عرض الإنجليزي على أستاذه أن يسافر إلى بلاد الإنجليز ففعل بعد تردد، وسافر الشيخ إلى إنكلترا، وكان كلما مر على شيء في مصر سأله الإنجليزي عنه فيشرحه له، ثم كلما مر الشيخ بعد ذلك على شيء في إنكلترا شرحه الإنجليزي للشيخ.

وقد ألفت القصة حوالي 1879م وطبعت 1882م.

وكانت ضعيفة الحبكة الروائية، قلل من الروابط فيها ما كدسه من العلوم والمعارف، وفاتته الدقة أحيانا في وصف الشخصيات وتحليلها، فهي على كل حال من أوائل القصص المصرية التي خطت الطريق للقصة من بعدها.

وكان قد ساد في أوروبا القصص التاريخي، فقلد كتاب العرب هذا النمط القصصي، وألف سليم البستاني طائفة منها مثل زنوبيا وبدور، وجاء بعده جرجي زيدان فألف كثيرا منها مثل عذراء قريش، وغادة كربلاء، وفتاة غسان، والعباسة أخت الرشيد، والمملوك الشارد. وقد غلب عليها الناحية التاريخية، وطغت فيها على الناحية الفنية.

وإلى جانب القصص التاريخي وضعت قصص أخرى كانت تهدف إلى الحث على الفضيلة وتجنب الرذيلة كقصة سليم البستاني في «الهيام في جنان الشام» وقصة نقولا الحداد «الصديق المجهول» وأمثالها.

وبجانب ذلك كانت الروايات التمثيلية فكان لها نصيب في إحياء فن القصص، وبدءوا كذلك بتمثيل روايات إفرنجية بعد تعريبها، كما فعل «مارون النقاش» من تمثيل رواية البخيل (موليير).

وفي عهد الخديوي إسماعيل بنيت دار الأوبرا الملكية 1869م ومثلت فيها للمرة الأولى فرقة فرنسية، فكان هذا لافتا لأنظار بعض الأدباء أن يعنوا بالتمثيل العربي على نمط التمثيل الأوروبي. فجاء إلى مصر من لبنان سليم نقاش وأديب إسحق ومعهما فرقة لبنانية مثلت في الإسكندرية 1876م، وبعد ذلك مثل يوسف خياط في الأوبرا رواية «المظلوم» واشتهر بعد ذلك أبو خليل أحمد القباني الدمشقي الأصل، مثل أول أمره في سورية، ثم انتقل إلى مصر.

وتتابع التمثيل بعد ذلك، ولكنه كان ضعيفا، فاترا، لا يعدو أن يكون خطوة تقدم بها القرقوز وخيال الظل، وكان من أهم أسباب ضعفه أن الجمهور المسلم لم يكن إلى ذلك الوقت قد استساغ أن تظهر المرأة على المسرح، حتى كان إلى عهد قريب يمثل الفتى دور الفتاة. وإنما أخذ التمثيل يرقى بعض الشيء في أوائل القرن العشرين. (د) حركة الترجمة والتأليف والنشر

كانت اللغة العربية إلى أوائل القرن التاسع عشر لا تعرف شيئا مما يجري في أوروبا من «العلوم» التي أنتجتها النهضة الأوروبية كالطب والطبيعة والكيمياء والرياضيات. فلما جاء محمد علي باشا أسس نهضته أول الأمر على الجيش وإصلاحه وتنظيمه واحتاج الجيش إلى أطباء، واحتاج الطب إلى طبيعة وكيمياء، كما احتاج الجيش أيضا إلى أبنية واحتاجت الأبنية إلى مهندسين، واحتاج المهندسون إلى رياضة؛ فنشأ عن ذلك كله الاهتمام بهذه العلوم الطبية والطبيعية والكيماوية والهندسية والرياضية ولم يكن من أهل البلاد أحد يعرفها، فاضطر محمد علي إلى استدعاء العدد الكثير من الأساتذة الأوروبيين، وخاصة الفرنسيين، يعلمون أبناء البلاد، وأبناء البلاد لا يعرفون شيئا من اللغات الأجنبية . ولم ينتظر محمد على حتى يعود المبعوثون من المصريين، فاستعان ببعض من يعرف اللغة الفرنسية من السوريين والمغاربة وجعلهم واسطة بين الأساتذة الأوروبيين والطلبة المصريين، فكان الأساتذة يختارون الكتب الإفرنجية، أو يؤلفونها ويعرضونها على لجنة لدراستها وإقرارها إن كانت صالحة؛ فكانت كتب الطب مثلا تعرض على لجنة من أساتذة المدرسة الطبية تسمى «أرباب المشورة الطبية» فإذا أقرتها نقلت إلى العربية على يد المترجمين. وهؤلاء المترجمون قد يكونون ضعفاء في اللغة العربية فيعهدون إلى عالم أزهري يتولى تصحيحها، وقد يشركون في التنقيح والتصحيح اثنين؛ أحدهما عالم باللغة الأجنبية والآخر عالم باللغة العربية ليتعاونا في تجويد الكتاب وإتقانه.

وانتقلت البلاد نقلة ثانية بتأسيس مدرسة الألسن، وكان طلبتها يجيدون اللغتين فيترجمون ويتولى رفاعة بك تصحيح ما ترجموا، وبذلك أخرج هؤلاء وهؤلاء كتبا قيمة كانت أساس النهضة في العلوم الحديثة، وأعادوا نفس الطريقة التي اتبعت في العصر العباسي حين نقل العرب علوم اليونان وغيرهم إلى العربية. كما كان التاريخ يعيد نفسه من أن حركة الترجمة تبدأ أولا في العلوم المجهولة ثم يتبعها التأليف، فقد بدأ العائدون من البعثة والمتخرجون في المدارس المصرية وفي مدرسة الألسن يؤلفون في الطب وغيره من هذه العلوم. ومن الطريف في ذلك أنهم كانوا يسمون الكتب العلمية على نمط ما سميت به في العصور الوسطى فيسمون الكتاب مثلا «غرر النجاح في أعمال الجراح» أو «أحسن الأغراض في التشخيص ومعالجة الأمراض» أو «السراج الوهاج في التشخيص والعلاج» أو «الآيات الباهرة في النجوم الزاهرة» وهو في الفلك لإسماعيل باشا الفلكي، وهكذا.

وهذه العلوم وإن كانت لا تمت كثيرا إلى اللغة العربية وآدابها فهي تؤثر في النهضة الأدبية من ناحيتين: ناحية أن هذه العلوم ترقي الأذهان وتوسع الأفكار، وقد علمتنا التجارب أن النهضة إذا حدثت في جانب من جوانب العلوم أثرت سريعا في الجوانب الأخرى من العلوم والفنون. أضف إلى ذلك أن الأدب يعتمد في إنتاجه على كل شيء، والأديب يجب أن يختزن في ذهنه كثيرا من شتى أنواع الحياة والعلوم، ولا بد أن يأتي عليه يوم يخرجها من مخزنه ليصوغها في فنه وأدبه. هذا إلى أن رقي العلوم ولو كانت طبية أو طبيعية ترقي العقل وتجعله أبعد عن التخريف، والأدب مملوء بالتخريف إن كان منتجه خرافيا، ومثقف عاقل إن كان منتجه مثقفا عاقلا.

على أن الأدب نفسه خضع لهذا القانون فبدأ كثير من عارفي اللغات الأوروبية يترجمون كثيرا من أحسن ما قرءوا فيها؛ فترجم سليمان البستاني إلياذة هوميروس إلى العربية شعرا فكان عملا جليلا وضع تحت أنظار العرب ذخيرة من الذخائر التي تعد مصدر وحي لأدباء الفرنج، وقدمها بمقدمة طويلة قيمة نظر فيها إلى الأدب العربي نظرة عميقة على ضوء الإلياذة.

وكما ترجموا في هذا القرن أيضا كثيرا من الروايات الإنجليزية والفرنسية والروايات من مثل روايات شكسبير وموليير ودوماس وشاتوبريان ولافونتين وراسين وكورني. وحلت هذه الروايات عند القراء المثقفين المركز الذي كان تحتله قصص عنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن وغيرها. وكانت ترجمتها أساسا لما ألف في هذا اللون من الأدب بعد ذلك. (1) التأليف في اللغة والأدب

شملت هذه النهضة التأليف في اللغة والأدب وما يتصل بهما من تأليف في وسائلهما من نحو وصرف وعروض وبلاغة. ففي مطلع هذا القرن التاسع عشر كتب الشيخ حسن العطار (المتوفى 1834م) مجموعة من إنشائه سميت «إنشاء العطار»، وكتب الشيخ حسن قويدر الخليلي (المتوفى 1845م) كتابه «نيل الأرب في نظم مثلثات العرب» ذكر فيه الألفاظ التي وردت بالحركات الثلاث مع شرح كل شكل من أشكالها، وقد طبع الكتاب في مصر وترجم إلى اللغة الإيطالية، كما ألف رسالة «الأغلال والسلاسل في مجنون اسمه عاقل» سخر فيها من تصرفات رجل سخيف اسمه عاقل انتحل قصيدة لغيره ونسبها لنفسه.

وفي سورية كان من أبرز المؤلفين الشيخ ناصيف اليازجي فقد كتب «مجمع البحرين» كما ألف كتبا خطا فيها خطوة جديدة في تعليم النحو والصرف والعروض والقوافي والبيان فألف «فصل الخطاب في النحو والصرف» و«نقطة الدائرة في العروض» و«الجمان في علم البيان»، وألف أحمد فارس الشدياق (المتوفى 1887م) كثيرا من كتب اللغة، كالجاسوس على القاموس نقد فيه قاموس الفيروزآبادي، و«سر الليال في القلب والإبدال»، كما ألف في النحو والصرف «غنية الطالب».

واشتهر في مصر من مؤلفي الكتب الأدبية الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري (المتوفى 1888م) وهو عالم أزهري اتصل بالخديوي إسماعيل واختاره إماما للمعية ومفتيا له، وشارك في الشعر والأدب واللغة، وامتاز بها وأكثر من التأليف فيها؛ ألف كتاب «سعود المطالع» في مجلدين جمع فيه كثيرا من العلوم والفنون وبناه على شرح لغز في اسم الخديوي إسماعيل، وله «الفواكه» في الأدب و«الدورق» في اللغة، وله مكاتبات ورسائل دارت بينه وبين الشيخ إبراهيم الأحدب.

وكان الشيخ حسين المرصفي (المتوفى 1889م) من عيون المؤلفين، وهو عالم من علماء الأزهر، وكان كفيفا، وتزعم الحركة الأدبية في مصر، وكان من أبرز تلاميذه محمود سامي البارودي، وتولى التدريس في دار العلوم فكان له أكبر الفضل على الأوائل من خريجيها، وقد اجتهد في تعلم اللغة الفرنسية واستفاد منها وألف كتابا قيما يعد خطوة جديدة في التأليف في علوم اللغة العربية وهو «الوسيلة الأدبية في العلوم العربية»، عني فيه عناية خاصة بعلم الأدب، كما كان من أثر معرفته بالفرنسية أن وضع كتابا سماه «الكلم الثمان» شرح فيه معنى الأمة والوطن والحكومة والعدل والظلم والسياسية والحرية والتربية.

وكان من أشهر المؤلفين في اللغة والأدب الشيخ إبراهيم اليازجي، وقد عرضنا لترجمته وتآليفه فيما سبق، ومن تآليفه الأدبية واللغوية شرحه لديوان المتنبي وكتابه نجعة الرائد ولغة الجرائد.

ووجدت في سورية حركة قيمة في تأليف المعاجم على نمط قريب التناول اتبع فيه أسلوب «المصباح المنير» من ترتيب الكلمات حسب أوائلها وإفراد كل معنى في أول السطر، وكان من أوائل من ألف في ذلك بطرس البستاني (المتوفى سنة 1883م) في معجمه «محيط المحيط» في جزأين كبيرين، أدخل فيه بعض المصطلحات العلمية والألفاظ المولدة وبعض الألفاظ العامية مع التنبيه عليها، وقام بعمل آخر أجل شأنا وهو دائرة المعارف مرتبة على حسب الحروف الأبجدية في العلم والأدب والتاريخ والجغرافية وسائر العلوم على نمط دوائر المعارف الأجنبية ، وقد أتم في حياته منها ستة مجلدات كبيرة، وأتم السابع والثامن منها ابنه سليم، وتولى أبناؤه الباقون التاسع والعاشر والحادي عشر بمساعدة ابن عمهم سليمان البستاني ووصلوا فيها إلى مادة «عثمانية».

واشتهر من مؤلفي اللغة العربية رجل هندي هو صديق حسن خان (المتوفى 1889م) عاش في الهند وتزوج ملكة بهو بال وجمع حوله كثيرا من العلماء واشتغل معهم في تأليف كتب كثيرة في الدين واللغة والأدب والبلاغة وغيرها، ومن أشهرها البلغة في أصول اللغة، ولقطة العجلان في اللغة أيضا، وله موسوعة قيمة تسمى أبجد العلوم، ذكر فيها كل علم عربي وقدم له بمقدمة في تاريخه، ثم ذكر أسماء أشهر الكتب التي ألفت فيه والتعريف به.

ولسنا ننسى رجلا ممتازا مستشرقا عاش في لبنان وكان له أثر في النهضة العلمية والأدبية وهو «كرنيليوس فانديك» هولندي الأصل، أمريكي النشأة، تعلم العلوم الطبية والرياضية في أمريكا، ثم رحل إلى بيروت سنة 1840م وأخذ في دراسة اللغة العربية حتى أتقنها، وصحب بطرس البستاني، وعني بالتأليف فأغنى المكتبة العربية التي تعد بحق خطوة في التأليف على النمط الحديث في موضوعاته المختلفة سواء كانت علمية أو أدبية وإن كان أكثرها علميا. وأشهر هذه التآليف النقش على الحجر في تسعة أجزاء، كل جزء في علم من العلوم كالفلسفة الطبيعية والكيمياء والجغرافيا الطبيعية والفلك والجيولوجيا ... إلخ. وله كتاب لطيف اسمه «المرآة الوضية في الكرة الأرضية» جمع فيه بين الجغرافية والتاريخ و«محاسن القبة الزرقاء» في الفلك.

وعلى الجملة فقد ألفت في اللغة والأدب كتب كثيرة في القرن التاسع عشر تلونت بلون النهضة وتأثرت بالكتب الإفرنجية من حيث النظام والترتيب والتقريب إلى الأذهان سواء في ذلك لغتها وأسلوبها أو وضعها، كما اتجهت العناية الكبرى في كثير من هذه الكتب إلى طلبة المدارس وأمثالها في تبسيط العلوم العربية كالنحو والصرف وعلوم البلاغة فاختير لها أقرب التعبيرات وأسهلها، وتجنبت فيها الحواشي وما لا ينبني عليه عمل. وكان أكبر الفضل في ذلك لرفاعة الطهطاوي ومدرسته، وعلي مبارك ومدرسته في مصر، وناصيف اليازجي وبطرس البستاني وفانديك ومدارسهم في لبنان. (2) التأليف في التاريخ والجغرافية والرحلات

ويتصل بعلوم الأدب التاريخ والرحلات. وقد طلع القرن التاسع عشر وأهم مؤرخ فيه عبد الرحمن الجبرتي (المتوفى سنة 1825م)، كان من علماء الأزهر ولكنه كان ممتازا بميله إلى الفلك والاشتغال به على النمط المألوف في العصور الوسطى، كما امتاز بميله إلى التاريخ وقد وضع كتابه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» أرخ فيه القرن الثاني عشر والثالث عشر للهجرة، ذاكرا أهم الأحداث اليومية التي عاصرها وشاهدها أو سمع بها، وترجم فيه لعلماء زمانه وأعيانه. ويعد الكتاب من أهم المصادر التي تؤرخ الحملة الفرنسية على مصر وأوائل حكم محمد علي باشا. والمؤلف وإن كان ممتازا في تحريه للحقائق وبذله الجهد العظيم في الوقوف على دقائقها ودقة وصفها وصدقها والتنبه إلى الحديث عن كل ما يتصل بالشعب وعدم الاقتصار على حوادث الحروب وما يجري في القصور ... إلا أنه يؤخذ عليه السذاجة في طريقة التأليف، وعدم النظرة الشاملة والتعمق في الأسباب والنتائج كما هي ميزة التأليف الحديث في التاريخ، كما يؤخذ عليه ضعف أسلوبه الأدبي وتأثره بأساليب عصره التي هي أقرب إلى العامية.

وقد أثر بعد ذلك في التأليف التاريخي الاطلاع على كتب المؤرخين من الإفرنج وترجمة بعضها. فقد ترجم رفاعة الطهطاوي مثلا كتاب «قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر»، وترجم غيره كتاب «أسباب قيام دولة الرومان وانحطاطها» في فلسفة التاريخ، وكتاب «روح الشرائع» لمونتسكيو، وكتاب «تاريخ شارلمان» و«تاريخ شارلكان» وتاريخ «فرنسا العام» إلى غير ذلك، فهذه الكتب أطلعت كتاب العرب على لون جديد من ألوان الكتابة والتأليف وجعلتهم يؤلفون على نمط متأثر بالنمط العربي والغربي معا، فألف مثلا سليم النقاش البيروتي (المتوفى 1884م) كتاب «مصر للمصريين» في تسعة أجزاء أرخ فيه حوادث الثورة العرابية وقسمه إلى ثلاثة أقسام: قسم في تاريخ الأسرة الخديوية إلى خروج الخديوي إسماعيل من مصر، وقسم في ولاية الخديوي توفيق إلى انقضاء الحوادث العرابية ونتائجها، والقسم الأخير في وصف محاكمات العرابيين وصور محاضرها الرسمية.

كما ألف محمد بيرم التونسي (المتوفى 1889م) كتابه «صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار». والمؤلف تونسي الأصل، سافر إلى أوروبا مرارا وفارق تونس على أثر احتلال فرنسا لها، وضمن كتابه وصف رحلاته في أوروبا ومصر والشام والحجاز وغيرها، والحياة الاجتماعية في هذه البلاد وصفا قيما.

ومن أهم الكتب الجغرافية التاريخية الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك (المتوفى 1893م) وصف فيها مصر وبلادها وخططها ومدارسها وشوارعها وجوامعها وقراها في عشرين جزءا وكان إذا ذكر بلدا ترجم لأشهر علمائه. وقد خصص الجزء الثامن عشر للنيل ومقاييسه وارتفاعاته من قديم الزمان إلى أيامه، والجزء التاسع عشر للترع والخلجان، والجزء العشرين للنقود الإسلامية وتاريخها. وقد جمع فيه في كثير من المواضع ما ذكره مؤرخو العرب مثل المقريزي، ومؤرخو الفرنج مثل كاترمير.

وأخيرا جاء جورجي زيدان فنحا بالتاريخ نحوا جديدا اتبع فيه أسلوب الفرنج في جمع النصوص وبحثها والاستنتاج منها ودراسة الأسباب والنتائج.

وبجانب هذا كان هناك مؤرخون يجرون على النمط القديم في التأريخ أمثال أحمد بن زيني دحلان المكي (المتوفى 1886م) فقد ألف كتبا كثيرة في التاريخ على النمط القديم مع تبسيطها وتقريبها إلى الأذهان، ألفها كلها في مكة، وأظهرها «الفتوحات الإسلامية» و«تاريخ الدول الإسلامية» وضعه في جداول، تدل على الروح الحديثة التي سرت في التأليف، وكتاب «خلاصة الكلام في أمراء البلد الحرام» وكتاب «الفتح المبين في فضائل الخلفاء الراشدين».

وكذلك فعل السلاوي المراكشي (المتوفى سنة 1897م) في كتاب قيم سماه «الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى» استند فيه على ما كتبه المؤرخون الأندلسيون وغيرهم في تاريخ المغرب؛ فجاء أحسن مجموعة في بابها.

وكما عنوا بالتاريخ عنوا كذلك بالرحلات، وتابعوا في ذلك ما كان لأسلافهم من مثل ابن جبير وابن بطوطة، من ذلك رحلة شهاب الدين الألوسي (المتوفى 1854م) وصف فيها رحلته إلى الآستانة وسماها «رحلة الشمول في الذهاب إلى استانبول»، ورحلة إبراهيم النجار اللبناني (المتوفى 1863م) التي وصف فيها سفره إلى أوروبا والآستانة وسماها «المصباح الساري». ورحلة رفاعة الطهطاوي (المتوفى 1873م) التي وصف فيها رحلته إلى فرنسا وسماها «خلاصة الإبريز والديوان النفيس». ورحلات أحمد فارس الشدياق، وقد رحل إلى مالطة فألف كتاب «الواسطة إلى أخبار مالطة» ورحل إلى أوروبا فألف كتابه «كشف المخبا عن فنون أوروبا». ورحلة عبد الله باشا فكري (المتوفى 1889م) التي وصف فيها ما شاهده في رحلته إلى أوروبا وسماها «إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا» وكانت الحكومة المصرية انتدبته سنة 1888م لرئاسة الوفد المصري لمؤتمر المستشرقين في استوكهلم، وقد بدأ في إعدادها بعد رحلته ولكنه لم يتمها، فأتمها ابنه أمين باشا فكري، وكان قد رحل معه، ونشرها سنة 1892م.

وإلى جانب الترجمة والتأليف نشطت حركة نشر الكتب العربية القديمة وطبعها، وتأسست جمعيات علمية للقيام على اختيار الكتب الصالحة ونشرها، فقد أسست مثلا جمعية المعارف بمصر ويرأسها محمد عارف باشا، وأنشأت مطبعة لنشر كتبها وجعلتها شركة مساهمة، ونشرت من الكتب أسد الغابة لابن الأثير ، وألف باء، وتاج العروس وغير ذلك من الكتب القيمة. وتأسست شركة طبع الكتب العربية سنة 1898م في مصر أيضا وكان من أعضائها أحمد تيمور باشا وحسن باشا عاصم وعلي بك بهجت، وقد نشرت كتاب الوجيز في فقه الإمام الشافعي، وسيرة السلطان صلاح الدين، وفتوح البلدان للبلاذري، والإحاطة في أخبار غرناطة، إلى غير ذلك. وفي الآستانة أسس أحمد فارس الشدياق مطبعة الجوائب، وقام بنشر كثير من الكتب الأدبية القيمة مثل الموازنة بين أبي تمام والبحتري، ونسيم الصبا للحلبي، وديوان البحتري وغيرها. كما قام كثير من الأفراد بطبع الكتب القديمة في مطبعة بولاق وغيرها من المطابع. ومثل ما حدث في مصر حدث في غيرها من الأقطار العربية فنشرت الكتب الكثيرة في بيروت وحلب ودمشق والآستانة ومكة وإيران والهند وغيرها من عواصم وأقطار البلدان العربية والإسلامية.

ثم نظمت المكتبات العمومية في مصر وسهلت وجوه الانتفاع بها؛ فأسست المكتبة الخديوية سنة 1870م، وجمع فيها ما كان مفرقا في المساجد معرضا للتلف والضياع. وأعد عند إنشائها مكان لإلقاء المحاضرات، ومكان للمراجعة في أوقات معينة. كما أسست المكتبة الأزهرية ونظمت سنة 1879م، وأسست مكتبة البلدية في الإسكندرية سنة 1892م إلى غير ذلك من المكاتب العامة. وحدث في الأقطار العربية الأخرى ما حدث في مصر فنظمت المكتبة الظاهرية في دمشق، وكان أشار بتكوينها مدحت باشا على أثر مجيئه الشام واليا عليها 1878م كما أنشئت ونظمت مكاتب كثيرة في حلب وبيروت والعراق. •••

كل هذا النتاج من شعر ونثر وقصص، وكل هذه الحركات من ترجمة وتأليف ونشر ذابت في العالم العربي فعملت في ترقية عقله وإرهاف ذوقه، ونقلته نقلة كبيرة يشعر الباحث بعظمها إذا قارن بين حالة الأمة العربية في أوائل القرن التاسع عشر وحالتها في أواخره؛ فالبصيص الضئيل من النور الذي كان في أوله صار شعلة كبيرة متوهجة في آخره. وكان هذا القرن قرنا مباركا عظيم الفائدة بسبب عوامل النهضة التي شرحناها. فالقرن التاسع عشر إذا قيس بالخمسة القرون أو الستة السابقة عليها كان أعظم منها فائدة وأكبر نفعا، فقد قطع في التقدم شوطا وكان له من أثر الثورة الفكرية والذوقية ما لم يكن لتلك القرون قبله. ومع هذا فإن البذور التي بذرت فيه نمت وتحولت إلى شجيرات صغيرة ولم يظهر نموها الكبير ولم تؤت من الثمار الناضجة إلا في القرن العشرين، وهذا ما سنؤرخه بعد إن شاء الله.

القسم السابع

الأدب الفارسي في القرن التاسع عشر

الفصل الأول: عصر النهضة

بعد أن انتهى حكم الصفويين في إيران قامت دولتا الأفشاريين والزند وظلتا تحكمان زهاء سبعين عاما. ولم يكن للأدب شأن يذكر في عهد هاتين الدولتين. وفي أواخر القرن الثامن عشر (1796م) استطاع محمد أغا القاجاري، أول ملوك القاجاريين أن يلي عرش بلاده موحدة، فبدأت البلاد تستعيد مجدها الغابر، وانتعشت الآداب والفنون. ولم يطل عهد محمد شاه أغا في الحكم؛ فقد مات بعد سنة تقريبا من تنصيبه ملكا، ولو أنه في الواقع كان الحاكم الحقيقي لإيران منذ وفاة كريم خان. وقد خلفه ابن أخيه «فتح علي شاه»، وقد سمي باسم جده الذي كان ينافس نادر شاه أيام الصفويين، والذي رأى نادر أن يتخلص منه كي يخلو له الجو بعد القضاء على السلطان الصفوي الضعيف؛ فقتله. وكان عهد «فتح علي شاه» قلقا، فإن روسيا وتركيا طمعتا في بلاده بعد أن مات زعيم الدولة محمد أغا، فاضطر «فتح علي» إلى محاربتهما، ولم يكن موفقا. فعقد الصلح معهما بمعاهدات خاسرة. وكان الإنجليز والفرنسيون يتطلعون إلى إيران ويتنافسون في الحصول على «المركز الممتاز» بها، فبعث كل منهما البعثات إلى البلاط، تقربا وزلفى، لعل الفرصة تواتي للتمكن والسيطرة. واكفهر الجو السياسي بعد مقتل رئيس البعثة الروسية وأعضائها؛ فإن الشعب كان ساخطا على الروس أشد السخط، فانتهز فرصة وجود البعثة في بلاده فثار وقتل أفرادها واضطر الملك إلى الاعتذار. ولم يكد الملك يستريح من الحروب والكروب السياسية حتى فوجئ بموت ولده «عباس ميرزا»، ساعده الأيمن في الحرب، والأمير الذي أدخل «المطبعة» في إيران ورعى الشعراء ونشر المؤلفات. ولم يحتمل السلطان فجيعة ولده فمات بعده بسنة واحدة تاركا العرش لحفيده محمد شاه بن عباس ميرزا الذي اضطر إلى الاستعانة بالإنجليز والروس ليقضي على منافسيه في العرش؛ عمه وأخيه. فهو مدين بعرشه إلى مجهود قائد إنجليزي وجماعة من الروس. ولكنه مع ذلك لم يتهاون في حقوق بلاده وحارب الإنجليز وقت حصار هراة ولو أنه اضطر إلى الصلح معهم، وقد تميز عهده بحادثين، أولهما ثورة الإسماعيليين، والثاني ظهور الباب (1844م).

وخلفه ابنه ناصر الدين شاه، أظهر ملوك القاجاريين، ويمتاز عهده الطويل (1848-1896م) بكثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية والعلمية والأدبية، وكان السلطان نفسه شاعرا يجيد فهم الآداب، وقد تعلم اللغة الفرنسية من طفولته فأجادها وقال بها الشعر، وأحب أوروبا حبا شديدا فرحل إليها ثلاث مرات. وكان شديد الثقة في مستشاريه من أهل الغرب وكان لمشورتهم أثر كبير في نهضة إيران. وقد اضطر في بدء ولايته إلى مواجهة «البابية» وكان خطرهم قد تزايد وبدءوا يقاومون جند الدولة في بعض الجهات، كما بدأت دعوتهم في الانتشار وحمل التعصب بعض البابية على محاولة قتل الشاه ففشلوا؛ فأدى ذلك إلى جمع قوى الدولة للقضاء على هذا المذهب وأهله. وبعد أن استراح من البابية التفت إلى الإصلاح الداخلي وكان أبرز أعماله الإصلاحية إنشاء الجامعة في إيران (دار الفنون) وجلب الأساتذة الأجانب للتعليم فيها، وإيفاد صفوة الشباب الإيراني إلى أوروبا، إلى فرنسا خاصة، لتلقي سائر أنواع العلم في جامعاتها. وكثرت في عهده الصحف، سواء ما ينشر منها في إيران نفسها أو في الخارج ويرسل سرا أو جهرا إلى إيران. وأدخل التلغراف فأدى إلى كثير من الإصلاح في إدارة الدولة، كما ساعد على اطلاع الناس على أخبار أمم العالم باستغلاله في الصحافة. وكانت رحلات الشاه إلى أوروبا، يصحبه جماعة من أهل العلم والأدب، من أسباب تعريف الغرب بإيران، كما أن الشاه نفسه ومن سافروا معه كانوا رسل المدنية الغربية إلى بلادهم. وقد أدى هذا الاتصال إلى إيقاظ الإيرانيين فبدأ شعورهم بالوعي القومي يظهر، وأخذوا ينتقدون الشاه وحكومته في طريقة الحكم الذي لا يقوم على الشورى ، كما بدءوا يظهرون التذمر من هذه الامتيازات التي تمنح للشركات الأجنبية لاستغلال منابع الثروة في إيران مع عدم المبالاة بصالح الشعب الإيراني نفسه. وكان للصحافة والجامعة أبعد الأثر في تنوير الأذهان لهذه الأفكار الجديدة.

أما الصحافة فقد ظهرت بعد إدخال «المطبعة» إلى إيران، وقد دخلت أول مرة أيام «فتح علي شاه»، فقد أوفد ابنه عباس ميرزا بعض الفرس إلى روسيا، سنة 1824م، كي يتعلموا فن الطباعة وليحضروا من آلاتها ما تفتتح به المطبعة في بلاده. وكانت أول مطبعة في تبريز التي اشتهرت باسم «باصمه خانه» أي دار الطباعة. ولم تلبث المطبعة أن انتقلت إلى طهران حيث رعاها معتمد الدولة ميرزا عبد الوهاب الذي قام بنشر مجموعة من الكتب اشتهرت باسم «مطبوعات معتمد الدولة»، ومن ثم انتشرت المطبعة في كثير من مدن إيران مثل شيراز وأصفهان.

وإذا كان القرآن الكريم قد حظي بالأسبقية في الطبع المتقن، فإن الكتب الأخرى، وخاصة كتب التاريخ لقيت من العناية الشيء الكثير، وكذلك بدأت التراجم من اللغات الأجنبية إلى اللغة الإيرانية، ومن أقدم ما طبع منها تاريخ بطرس الأكبر، وشارل الثاني ملك السويد، والإسكندر الأكبر، وقد أمر بترجمتها ونشرها عباس ميرزا. كذلك طبعت كتب أدبية لسعدي والفردوسي وناصر خسرو وألوري وغيرهم.

وبجانب هذه الكتب الأدبية ظهرت مؤلفات سياسية كان لها أبلغ الأثر في توجيه الناس نحو الاستقلال الحقيقي الذي تبدو فيه حرية الفرد مكفولة لا تخضع لغير سلطان الحق، منها كتاب «يك كلمة» أي كلمة واحدة تناول فيه مؤلفه يوسف التبريزي حقوق الإنسان وقارنها بما جاء في القرآن والحديث والقانون الروماني.

ومنها «آزادي جه جيز است» (ما هي الحرية) لطالبيوف.

ولكي يستعين المثقفون باللغة الفرنسية ويتزودوا بما كتب بها ظهر القاموس الفرنسي، والمحادثة الفرنسية الإيرانية، والأفعال الفرنسية باللغة الإيرانية. •••

وقد أدت هذه الحركة الثقافية التي نتجت عن «المطبعة» إلى التطور الفكري والتنبه إلى الإفادة من الغرب وحضارته، فبدأت الحكومة تفكر في إصدار «الجريدة» التي أخذت ترقى وفق ارتقاء الأفكار. وكذلك بدأ الأهالي ينشئون لأنفسهم جريدة على نمط الجريدة الحكومية ومن ثم بدأت الجرائد تكثر وتنتشر.

ولم تكن فكرة «الجريدة» مألوفة في إيران قبل عهد ناصر الدين شاه، إنما شاع فيها وريقات صغيرة يتداولها رجال الدولة الرسميون ويكتبها «وقائع نگار». وفي السنة التالية من ولاية ناصر الدين شاه (1849م) ظهرت الجرائد في إيران بأمر وإشراف «أمير النظام»، ثم بدأ الأهالي والحكام ينشرون جرائد خاصة بهم.

وحينما أنشئت دار الفنون - الجامعة - بدأت الدوريات العلمية في الظهور، فنشرت الجامعة «روزنامه علميه دولت عليه إيران» وهي خاصة بأبحاث أساتذة الجامعة، كما ظهرت المجلة العلمية «روزنامه علمي» سنة 1876م.

على أن السير السريع نحو التمدن لم يكن يلقى روحا سمحا من الحكومية؛ فقد كانت النظم القديمة التي سارت عليها الحكومات المتوالية في إيران تخاف من انتشار الآراء الحرة عن طريق الصحافة، ولم تتح الحرية بعض الشيء إلا في أواخر عهد ناصر الدين شاه حين كان الشعور القومي يفيض بمعاني الحرية والحق والمساواة، وكانت أصداء هذه الأفكار الجديدة تتجاوب في الشرق الإسلامي كله، وخاصة في تركيا وإيران ومصر. واضطر كثير من الفرس الأحرار إلى الهرب من بلادهم حيث لم تكن حرية القول مكفولة، وأقاموا في أوروبا أو تركيا أو مصر أو الهند، وهناك أصدروا الجرائد بلغتهم الإيرانية وسطروا بها كل ما تجيش به صدورهم، وما تطمح إليه نفوسهم من الحرية والأماني نحو وطنهم وأهله. وقد تحمل أصحاب هذه المجالات من الأزمات والإرهاق ما يتحمله الأحرار في سبيل الواجب الذي لا يعدله شيء من ناعم العيش وترف الحياة، مثلهم في ذلك مثل سائر الأحرار في مصر وتركيا حينذاك. وكان دخول بعض هذه المجالات إلى إيران محرما، إنما كانت ترسل خفية إلى الناس.

وقد أصدر ميرزا ملكم خان (نظام الدولة) مجلة في لندن اسمها «قانون» سنة 1890م كان يحررها بالفارسية بنفسه في أسلوب سهل يحبب القراءة إلى من يطلع عليها، وقد بث فيها أفكاره الإصلاحية فلاقت نجاحا كبيرا في إيران، وبفضل هذه المجلة دخلت اللغة الفارسية عدة مصطلحات جديدة مثل القانون بالمعنى الحديث والتنظيمات وأصول الإدارة وغيرها. وقد ترددت هذه الألفاظ كثيرا في كتابات الناس وعلى ألسنتهم، كما تأثرت أفكارهم بما تنطوي عليه من المعاني. وكانت هذه المجلة لسهولة أسلوبها أروج المجلات الإيرانية وأقوى الجرائد على بعث اليقظة في إيران في القرن التاسع عشر؛ فقد أحيت في نفوس الناس من الأفكار السياسية ما لم يكن من اليسير بثه بينهم في إيران نفسها، كما كان لها أثر أدبي إذ أخذ الكتاب يقلدون أسلوبها السهل الذي لا عوج فيه.

وفي الوقت الذي بدأت المطبعة تخرج الآثار الأدبية والعلمية المختلفة ظهرت أيضا الجامعة (دار الفنون) فقد أنشأها ناصر الدين شاه سنة 1851م في طهران، وكانت تلقى بها دروس بالفارسية واللغات الأجنبية المختلفة، يلقيها جماعة من علماء الفرس ولفيف من الأساتذة الأجانب، يعلمون الشبان الإيرانيين الطب قديمه وحديثه والرياضة والتاريخ والجغرافية وغيرها من فروع العلم.

1

الفصل الثاني: الحياة الأدبية

يقول شبلي في كتابه شعر العجم (ج3، ص189) إن الشعر الإيراني الذي بدأ برودكي قد انتهى بشعر صائب وإن قا آني، أعظم شعراء القرن التاسع عشر، ومعاصريه لم يفعلوا شيئا غير تقليد الشعراء المتقدمين وخاصة فروخي ومنوجهري. ويري رضا قولي خان أن الشعر الإيراني لبث زمنا طويلا في حالة تدهور، وأنه بلغ الغاية في هذا التدهور قبيل قيام الدولة القاجارية. وإن الشعراء القاجاريين، وخاصة الأول منهم، قد قلدوا الشعراء الفرس العظام ممن ظهروا قبل سقوط الخلافة العباسية؛ فظهرت أشعار قلد فيها شعر خاقاني وفروخي ومنوجهري والفردوسي وسعدي ونظامي وناصر خسرو وغيرهم. أما عن الشعراء المتأخرين، أي بعد سقوط بغداد، فلم يقلدوهم؛ لأنهم لم يعجبوا بأشعارهم، مثل جامي وعرفي وصائب، كذلك لم يقلدوا «حافظ» وإن قدروه كل التقدير وأعجبوا به كل الإعجاب وحفظوا شعره وتمثلوا به؛ لأن له طريقة خاصة في الشعر عزت على التقليد.

والواقع أن تقليد الشعراء العظام لم يكن بدعا، فإن الإيرانيين بوجه عام يحبون شعراءهم، يحفظون جيد شعرهم ويرتلون مختاراته، ويكثر الشعراء منهم بوجه خاص من حفظ الشعر وتلاوة الرائع منه.

وقد نصح نظامي عروضي وهو من أوائل من كتبوا باللغة الإيرانية عن فن الشعر، نصح من يطمح في أن يكون شاعرا بأن يحفظ في صباه عشرين ألف بيت من أشعار المتقدمين، وأن يذكر عشرة آلاف كلمة من آثار المتأخرين، وأن يداوم على قراءة دواوين عظماء الشعراء وإنما يتوافر لهذا الطموح أدواته حين تستقر الحكومة في الدولة ويطمئن الناس إلى حياتهم ومعاشهم ويرون في القائمين بأمرهم من يشجع أهل الفن والعلم فيزدهر الأدب وتحيا العلوم ويظهر الشعراء ويقبلون على استذكار جيد الشعر مما قال المتقدمون كي تنمو ملكتهم ويصلوا إلى الدرجة التي يبتغون بلوغها، كما يظهر العلماء ويتناولون شتى فنون العلم بالبحث والتأليف والنشر. وهكذا كان الحال أيام القاجاريين، فقد استقرت أمور إيران بعد اضطراب دام أكثر من سبعين عاما، وولي الأمر جماعة من الأمراء أحبوا الشعر وكان بعضهم ينظمه، فشجعوا الشعراء وقربوهم وولوهم بعض الوظائف الهامة وخلعوا عليهم من ألقاب الإمارة والملك ما حبب إليهم الطموح لبلوغ الغاية فيه. وليس عجبا أن يقلد هؤلاء الشعراء من تقدمهم من عظماء الناظمين؛ فإن فنون الشعر لم تتغير عند قيام الدولة القاجارية فلم يكن بد من أن يكون الجديد ترديدا للقديم من حيث الموضوع.

ولكن الذي يلفت النظر ويدعو إلى التوقف قبل التسليم بقول شبلي ورضا تسليما مطلقا، هو أن عظماء الشعراء في عهد القاجاريين كانوا يقلدون تقليدا مقصودا واضحا وأنهم نبغوا في هذا التقليد وأبدعوا. لم يكن قصدهم من التقليد أن ينسجوا على منوال من يقلدون فحسب، إنما قصدوا إلى إحياء الآثار الأدبية الرائعة التي انتقلت من إيران إلى الهند والتي لم يعبأ الأمراء المتعاقبون بإحيائها في إيران حتى كانت الدولة القاجارية. وهم قلدوا الشعراء العظام وأبدعوا، حتى فاقوهم في بعض الأحيان. ف «فصبا» عندما ألف كتابه «شاهنشاهنامه» على نسق شاهنامة الفردوسي قصد إلى إحياء أدب الفردوسي قصدا ولكنه نبغ في تقليده للفردوسي حتى كان الحديث، في نظر بعض النقاد، خيرا من القديم. وقا آني حين يقلد كلستان سعدي فيؤلف على نسقه كتابه «بريشان» - خواطر - يرى أنه وإن كان يقلد كتاب سعدي إلا أنه «لم يأخذ كلمة واحدة من سعدي أو غيره إنما كان الكتاب كله من صنعه وليست فيه عارية وأنه خاص به فكل ما فيه من قوله وحده.» وإذن فتقليد الشعراء القاجاريين لم يكن عجزا منهم عن التجديد، إنما قصدوا إلى التقليد قصدا لأن أساس دراستهم هو الرجوع إلى استذكار القديم ولأن الفنون الشعرية لم تتغير، ولكنهم لم يقتصروا على التقليد بل إن جديدهم فاق القديم عند بعض النقاد.

على أن الشعراء في القرن التاسع عشر لم يقتصروا على التقليد؛ فإن الحياة في إيران قد تطورت، وتفتحت للشعر والكتابة موضوعات جديدة، واتسعت فنون الشعر فوسعت من المواضيع ما ترتب على تطور البلاد نحو المدنية الغربية. لم تكن الحياة الإيرانية تعرف شيئا عن أوروبا وما فيها من نظم سياسية واجتماعية واقتصادية، وما كان فيها من موضوعات الأدب، شعرا ونثرا وقصصا، وما فيها من جامعات ومدارس. وقد عرف الإيرانيون كل هذا في القرن التاسع عشر، فقد أخذت دول أوروبا تتقرب من الملوك في إيران، فأوفدت البعثات المختلفة إليها، وكثر استعانة الملوك بالمستشارين من أهل الغرب، وتعلم كثير من الإيرانيين اللغتين الفرنسية والإنجليزية، وكان ناصر الدين شاه نفسه يجيد الفرنسية ويقول بها الشعر كما قلنا. وظهرت «المطبعة» فنقلت إلى الناس كثيرا من الكتب في التاريخ والأدب والفقه الإسلامي ونشرت بينهم القرآن، ثم نقلت إليهم تراجم الكتب الأدبية في أوروبا وأذربيجان، فقرءوا لفولتير

Voltaire

تواريخ بطرس الأكبر، وشارل الثاني عشر ملك السويد، والإسكندر، وقرءوا لإسكندر دوما

Alexandre Dumas

الفرسان الثلاثة، والكونت مونت كريستو، والملكة مرجت، ولويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر، وقرءوا لموليير

Molière

الطبيب بالقوة

Le Médecin malgré lui

والنفور

Le Misanthrope

والحمار

L’Ane . وقرءوا تراجم لقصص كتب في أذربيجان باللهجة الأذرية، سنذكر منه قصة الكيماوي في القصص. كل هذا عدا ما ذاع بينهم من تراجم الكتب العلمية والتاريخية. وكثرت الرحلات إلى أوروبا، وقد ارتحل ناصر الدين شاه ثلاث مرات إليها، وكان بصحبته جماعة من ذوي الرأي والشعراء والكتاب. وأوفدت البعثات العلمية بكثرة، وإلى فرنسا خاصة؛ أدى هذا كله إلى صبغ الحياة الإيرانية بصبغة خاصة جديدة، وقد أخذ الناس يجمعون بين ما يستطيعون تطبيقه من الجديد الذي رأوه أو سمعوا به في الخارج وبين القديم الذي لا يستطيعون إلى تبديله سبيلا، وكذلك وجد الأدباء، شعراء وكتابا، موضوعات جديدة للشعر والكتابة.

فحديث الشعراء عن الحرية، وحق الشعب في أن يشارك في إدارة الدولة، والمناداة بأن الناس سواسية قد خلقهم الله أحرارا لا سيد ولا مسود، وبأن الأمر شورى بينهم ليس من حق رجل واحد أن ينفرد به؛ هذا وأمثاله لم يكن يتاح لرجال الأدب أن يتحدثوا عنه في العهود السابقة على القاجاريين، فهو تجديد في موضوع الشعر الإيراني وليس تقليدا للمتقدمين من شعراء إيران.

والشاعر الذي يتحدث عن باريس وأنوارها ويعجبه مبدأ المساواة والإخاء بين الناس ويدخل الحوانيت فلا يرى غير السعر المحدد، مثل هذا الشاعر مجدد وليس مقلدا ولو أن تجديده لا يعدو ذكر أوضاع أعجبته في الغرب فنظمها لأناس يؤثرون الشعر على النثر.

وكذلك دخلت اللغة الإيرانية ألفاظ من اللغات الأجنبية، الفرنسية خاصة، وظلت مستعملة بها حتى الآن. ولا شك أن هذه الألفاظ الأجنبية بمدلولاتها الجديدة قد أدخلت على الأدب الإيراني لونا جديدا. وظاهرة أخرى امتاز بها الشعر الايراني في القرن التاسع عشر هي ظهور «الشعر الفدائي» عند البابية.

ومن هذا نرى أن القول بأن الشعر أيام القاجاريين كان قاصرا على تقليد فحول شعراء إيران قبل سقوط بغداد صحيح إلى حد ما، ولكن القائلين بهذا الرأي لم يأبهوا بما جد على الشعر من التطور نتيجة لتطور الحياة في إيران نفسها وما استتبع هذا التطور من مظاهر التحديد.

وسأتحدث عن الشعر فالكتابة ثم القصص، بادئا الحديث أشهر شعراء القرن التاسع، وهو الشاعر قا آني. (أ) الشعر (1) قا آني

وهو أشهر شعراء القرن التاسع عشر ومن أعظم شعراء إيران، مثله كمثل حافظ وسعدي وفردوسي، تجري أشعاره على الألسن ويحفظ له كثير من الإيرانيين. مال منذ صباه إلى تحصيل العلم والأدب ونال منهما ما تمنى، وكان أبوه ميرزا محمد علي الملقب «بگلبشن» شاعرا أيضا؛ فورث الولد حب الشعر عن أبيه وأخذ ينظم ويجيد حتى بلغ القمة. قال فيه رضا قولي خان، وكان معاصرا له «وقد أمضيت بصحبته سنوات وسمعت منه جيد الشعر، والحق أنه شاعر فاضل وكاتب كامل.» التحق ميرزا حبيب بخدمة حاكم خراسان ميرزا حسن علي شجاع السلطنة، فغير هذا الحاكم اسمه وسماه باسم ولده «أوكتا قا آن» فأصبح معروفا بقا آني. وقد صحب هذا الأمير زمنا في خراسان وكرمان وهو الذي قدمه إلى «فتح علي شاه».

وانتقل بعد ذلك إلى طهران حيث ذاع صيته واتصل ببلاط محمد شاه وناصر الدين شاه.

وقد سار هذا الشاعر على النهج الذي بينا في التقليد ولكنه استطاع أن يصبغ شعره بصبغة خاصة وقد أفاد من إجادته الفرنسية واطلاعه على آدابها، وقد امتاز في القصيد والغزل على السواء، وكذلك في المسمط والترجيع بند. وقد قال رضا زاده شفق في كتابه تاريخ أدبيات إيران (ص386) «إن حلاوة العبارة في شعره كثيرة، والمعاني الفلسفية والخلقية قليلة.»

وله ديوان كبير يبلغ سبعة عشر ألف بيت، كما أن له كتاب «بريشان» - خواطر - نحا فيه منحى سعدي في الگلستان.

وكان يبدأ أشعاره بالوصف الذي أجاده وأبدع فيه، ومن ذلك قوله في الربيع، مسمط:

ها هي سحابة الربيع قد عادت فعلت الجبل، وها هو السيل يجرف الصخر من عل،

وها هي الطيور تهيج من كل فج، فتسمع اليمام وأبو المليح، والصلصل والحجل والبلبل والببغاء والطاووس والبط والسرخاب والزرزور،

أهو البنفسج رسول أرديبهشت؟

1

إنه ينمو في الحدائق أكثر من كل الزهور،

وترى الجداول كالجنان من أريجه، كأن ربك قد خط بالمسك على خده: «كن يا ذا الشذى بشير الربيع.»

وعيون النرجس في الحديقة وسنانة، وطرة السنبل في الحديقة ملأتها التجاعيد،

وكان الماء متجمدا كأنه الفضة، فصار كالزئبق، كأنه حين هب نسيم الربيع ملئ الرعب فذاب.

وفجأة ولى فرارا في منتصف الليل.

وقا آني كما قلت شاعر مقلد وهو عظيم في تقليده، قلد أنوري في قصيدته المشهورة التي قال فيها:

إذا لم تكن شئون الدنيا موكولة إلى القضا

فكيف تجري الأمور على غير ما نرضى.

فقال:

إذا كانت الدنيا بأيدي القدر

فلم نخضع لما به الشاه أمر؟

وهو يقلده أيضا في قصيدته التي مطلعها:

أحقيقة ما أرى أم حلم يا ربي

إني أرفل في النعيم بعد طول عذابي.

فيقول:

أرى في اليقظة ما لا يرى أحد في المنام

فإني في وقت واحد مستريح معنى.

وهو يقلد منوجهري فيقول على غراره:

الوقت طرب واليوم خمر والفصل ربيع، والروح نشوى والقلب خال والحبيب قريب ونسيم السحر عبق، إنه يخرج من مجمرة الورد المستعر، وكأن أرض الحديقة مرآة، لما يجري فيها من ماء.

أرجع البصر تر كوكبة من السرو والسوري،

2

وما سمعت ستنعم بنغم الصلصل والزرزور.

ماذا يشبه السوري؟ إنه كبيضة من ماس؛ بيضة ملئت من عود القمار.

3

وهو يقلد أيضا حين يتحدث عن الربيع حديث منوجهري فيقول:

هل الربيع وصوت البلبل في البستان يشجينا

وهذا الطير الموله، تغريده من المروج يجيء.

حتى لنقول من كثرة ما تسمع من تغريد التدرج والصلصل والدراج والزرزور:

إنها أمسكت الأرغول ووقفت تغني فوق أغصان وأوراق الزهور.

إن رائحة الزهر تتأرج من الحديقة فتحيى الروح

ويهفو القلب حين يصدح الطير فوق الغصن وينوح.

نغم العندليب وصوت الزرزور وتأوه القمري

مرة من الورد وأخرى من السرو ومن الصنوبر حينا يجيء.

وترى البعض يمسك الشقائق كأنها الأقداح،

والبعض يهيم بالورد فمنه رائحة الحبيب تجيء.

يرى أحدهم المرج فيقول مرحبا، غير ملتفت،

ويشم البعض السمن،

4

ويحار من صنع الذي خلق،

يطأ أحدهم الشقائق فقد أخذت من الخمر اللون،

ويرى آخر الورد فيأخذه الوجد، بخ بخ، منه رائحة الحبيب تجيء.

واحد يتمرغ على السندس، وآخر يرقص على الشقائق،

واحد يفقد الوعي، والآخر إليه الصواب يجيء.

شاع في كل ناحية نغم الأرغول والجنك والناي

وصدى البربط والطنبور والقار من كل فج يجيء.

واستمع إليه وقد أبصر الربيع فحار في تصويره فقال:

في الحق لا أحد يدري من أين نجمت

كل هذه النقوش والصور في فصل الربيع؟

إن العقول تحار كيف تنمو هذه الأزهار الجميلة

من هذه التربة القاتمة البوار؟

من هذا المصور الماهر الذي أبدع هذه الصور

بغير علة أو آلة ولم يقلد في صنعه أحدا؟

كيف لا تسأل من أين ظهرت هذه التماثيل؟

كيف لا تبحث من أين ظهرت هذه التصاوير؟

من عشق من اصفر لون الخيري

5

في الحديقة؟

والشقائق من حب من احترقت في البستان؟

ويمضي قا آني على هذا النحو واصفا خضرة الرياحين وحمرة الشقائق البرية ثم يقول:

والريح لا عنبر فيها، كيف تفوح بالعنبر؟

والسحاب لا جوهر فيه، كيف ينثر الجوهر ...

وقد شارك قا آني شعراء إيران في بكائهم الحسين، ولكنه يبكيه بطريقته الخاصة فيجعل رثاءه في صورة أسئلة وأجوبة، ويروي قصة الحسين. وقد رأيت أن أنقلها لطرافة أسلوبها. يقول:

ماذا يهطل؟ الدم؟ من أين؟ العين! كيف؟ ليل نهار! لماذا؟

من الغم. أي غم؟ غم سلطان كربلاء.

ما اسمه؟ حسين. من نسل من؟ من علي.

من أمه؟ فاطمة. من جده؟ المصطفى.

كيف حدث؟ استشهد. أين؟ في دشت مارية.

6

متى؟ عاشر محرم. سرا؟ كلا بل على الملأ.

أقتل ليلا؟ لا، نهارا. أي وقت؟ وقت الظهر.

أقطعوا رأسه من عنقه؟ كلا كلا، من القفا.

أقتل مرتويا؟ كلا. ألم يعطه أحد الماء؟ أعطاه.

من؟ شمر. من أي عين؟ من عين الفناء.

أظلم الشهيد؟ بلى. أأجرم ! كلا.

ماذا كان يعمل؟ الهداية. ومن حبيبه؟ الله.

من الذي ظلمه؟ يزيد. من يزيد هذا؟

من أبناء هند. من أي زوج؟ من نطفة الزنا.

أأقدم على هذه الفعلة بنفسه؟ كلا، بل أرسل كتابا.

لمن؟ إلى ابن مرجانة الذي لا يعرف أبوه.

أكان ابن زياد ابن مرجانة؟ نعم.

ألم يرجع عن قولة يزيد؟ لا.

أقتل هذا اللعين الحسين بيده؟

لا، إنه سير الجيش نحو كربلاء.

من كان أمير الجيش؟ عمر بن سعد.

أمزق ابن فاطمة العزيز؟ لا، شمر الذي لا يستحي.

ألم يستح الخنجر من قطع رقبته؟

استحى. فلماذا قطع؟ سبق القضاء بما قضى.

لماذا؟ كي يكون شفيعا للناس .

ما شرط شفاعته؟ النوح والبكاء.

أقتل معه أحد أبنائه؟ بلى، ولدان.

ومن الآخرون؟ تسعة إخوة. ومن الآخرون؟ الأقرباء.

ألم يكن له ولد آخر؟ نعم. ومن هو؟

السجاد. من هو؟ هو الذي ابتلي بالغم والبلاء.

أبقي في كربلاء أبيه؟ لا، بل ذهب للشام.

بالعز والوقار؟ لا، بالذل والعناء.

وحده؟ لا، مع سيدات الحرم. وما أسماؤهن؟

زينب وسكينة وفاطمة وكلثوم البائسة.

أمن كساء يستر جسده؟ بلى، غبار الطريق.

أمن عمامة على رأسه؟ نعم، عصي الأشقياء.

أكان مريضا؟ بلى. فماذا كان الدواء؟ دمع عينه.

بعد الدواء ماذا كان الغذاء؟ دم قلبه.

أكان له رفيق؟ بلى الأطفال الذين فقدوا أباهم.

ومن الآخرون؟ الحمى التي لم تبارحه.

ماذا بقي هناك من زينة النساء؟ شيئان.

طوق الظلم في الرقاب، وخلخال الغم في الأرجل.

أيقترف هذا الظلم كافر؟ كلا. مجوسي أو يهودي؟ كلا.

هندوسي؟ كلا. عابد صنم؟ كلا. يا ويلتاه من هذا الجفاء!

أينظم قا آني هذه الأشعار؟ بلى.

ماذا يريد؟ الرحمة. ممن؟ من الحق. متى؟ وقت الجزاء.

ولم يكن قا آني بعيدا عما يجري في البلاد من خطوب، فهو معاصر للبابية متأثر بها، وقد أعجبته مبادئ الباب في أول ظهوره، وظن أن المهدي «المنتظر» قد ظهر، وأن على الناس أن يتجهوا إليه، وأن الدولة نفسها قد تميل إليه وتؤيده، فقال قصيدة يحبذ فيها المذهب الجديد بادئا بقوله:

إن قدوة الإنس والجن قد ظهر

وإمام هذا وذاك المنتظر.

ولكنه لم يلبث أن رأى الدولة جادة في محاربة المذهب، وأن الباب نفسه قتل، فيعدل عن تأييد البابية. ورأى ثلاثة منهم قد اعتدوا على السلطان ناصر الدين فأسرع إلى قلمه يصف الحادث الشنيع وقد قال في هذا:

لقد خرج كسرى آخر شوال يصطاد،

السماء في عنانه والشمس في الركاب.

ففجأه ثلاثة رجال من كمين،

وصوبوا النار على كسرى مالك الرقاب.

وهو في قصيدة أخرى يتغنى بهذا الحادث ويدعو الناس إلى أن يجعلوا منه عيدا كعيد الأضحى:

عيدوا آخر شوال منذ اليوم،

وادعوا خدم الملك من كل حي،

نادوا الحبيب ودعوا الزاهد،

ومروا الخازن ببذل العطاء.

ألا أيها الساقي أدر الكئوس.

ألا أيها العازف أطرب،

وخل أهل الغناء يغنون.

سموه عيد قربان الملك،

واذبحوا أعداءه ذبح الخراف

في طريق الملك المظفر.

ولم يكن هذا التحول من بابي يمدح الباب ويشيد بمذهبه إلى عدو للمذهب ينظم الشعر في مدح قاتل الباب وعدو المذهب الذي أخرج رؤساءه من إيران وعذب أتباعه تعذيبا؛ لم يكن هذا عجيبا من قا آني؛ فإن المعاني الأخلاقية كما قال رضا قولي، لم تكن تظفر بعناية كبيرة من هذا الشاعر. وقد حدث أن كان يمدح الوزير حاجي ميرزا أقاسي الذي وزر لمحمد شاه بعد مقتل وزيره الكاتب الأديب القائمقام «أبي القاسم» والذي أقصي عن السلطة بعد ولاية ناصر الدين شاه. فحين أبعد هذا الوزير وولي مكانه ميرزا تقي خان، قال قا آني يمدح الوزير الجديد:

لقد ذهب الظالم الشقي، وجاء العادل التقي، الذي يفخر به المؤمنون الأتقياء. •••

ولقا آني قصيدة مشهورة تصور الحديث بين شيخ وطفل ألكنين، وقد رأيت أن أكتبها بنصها ليرى القارئ كيف استطاع الشاعر أن ينظم الحديث كما جرى بينهما:

پيركي لال سحرگاه بطفلي الكن

ميشنودم كه بدين نوع همي راند سخن «ك اي ز زلفت ص - ص - صبحم ش - ش - شام تاريك،

واي زچهرت ش - ش - شامم ص - ص - صبح روشن!

ت - ت - ترياقيم، وازش - ش - شهد ل - لبت

ص - ص - صبروت - ت - تايم ر - ر - رفت ازت - ت - تن».

طفل گفتا: «م - م - من را تو - تقليد م مكن!

گ - گ - گم شوز برم، ا ي ك - ك - كمتراززن

م - مي خواهم م - م - مشتى ب - ك كلت ب - زنم

كه بيفتدم - م - مغزت م - ميان - د - دهان؟»

پبرگفتا: «و - و - والله كه معلوم است اين

كه كه زا دم من بيچاره ز مادر الكن!

ه - ه - هفتاد وهشتاد وسي سال - است فزون

گ - گ - گنگ ول - ل - لا ا ب - ب - خلاق زمن!»

طفلي گفتا. «خ - خدارا ص - ص - صد بارش - شكر ،

كه ب - رستم بجهان از م - ل - لال وم محن!

م - م - من هم ج - ج گنگم م - م - مثل - ت - ت - تو:

ت - ت - توهم ج - ج گنگي م - م - مثل - م - م - من!»

والقصيدة تمثل حديثا جرى بين طفل وشيخ وقت السحر، وكانا ألكنين. فقال الشيخ: يا من صار صبحي ليلا بهيما من زلفك، ومن جمال وجهك أضاء ليلي كالصبح إذا تبلج. أنت ترياقي ومن شهد شفتيك يزول الصبر والحمى عن جسدي. فقال الطفل غاضبا: لا تقلدني، واذهب عني يا أقل من امرأة! أتريد أن أضربك بقبضتي ضربة توقع مخك وسط فمك؟ فقال الشيخ: والله إن أمي ولدتني ألكن، ولقد مضى والله أكثر من ثمانين سنة وأنا ألكن. فقال الطفل: شكرا لله مائة مرة إذ أنجاني من الملال والمحن، فإني ألكن مثلك وأنت مثلي ألكن ... •••

وكما قلد قا آني عظماء الشعراء في شعره فكذلك قلد سعدي في كلستان، فكتب كتابه المسمى «بريشان» ضمنه ثلاث عشرة ومائة حكاية وثلاثا وثلاثين نصيحة «ميكيافيلية» للملوك. وقد نفى عن كتابه شبهة التقليد، فقال إنه كله من عنده. (2) مجمر

وشاعر آخر من مشاهير شعراء القرن التاسع عشر الذين امتازوا بطابع خاص هو مجمر الأصفهاني «سيد حسين الطباطبائي». وقد نجح هذا الشاعر في أن يحظى برضاء «فتح علي شاه» وإعجابه حين قدمه إليه «منشي الممالك» ميرزا عبد الوهاب. وقد مات مجمر شابا، ويقول رضا قولي خان: «إنه لو طال عمره للقي نجاحا عظيما.» وقد خلع ناصر الدين شاه عليه لقب مجتهد الشعراء. ومن أشعاره الطريفة قوله في الألغاز. قال في لغز الريح:

من هذا الرسول المبارك المقدم السعيد الجناب،

الذي يجري آناء الليل وأطراف النهار ويسارع السنين والأشهر،

في ذيله النافجة وفي عبه العبير،

في جيبه العنبر وفي كمه المسك الأذفر،

سيار بلا قدم أو رأس، مجنون بلا عقل أو وعي،

عاشق لا بيت ولا مأوى، هائم لا أكل ولا منام،

لا يدري أحد أي عشق أفقده القرار،

ولا درى أحد أي هجر أورثه العثار،

يخرج منه الماء خروج قلب العاشق من زلف الحبيب،

تارة في السلاسل، وتارة في العذاب،

تارة يميت الأرض، وطورا يحييها،

كالقوى في الهرم، والطبيعة في الشباب؟

وله في لغز القلم:

أنا سحابة تمطر الجوهر على حديقة ورد النفس الناطقة؛

أمطر السكر، أنثر العنبر

مثل شفة الحبيب وزلف الرفيق،

وأنا المعبر عن طبع «الدستور»،

7

وأمر السلطان

حين أنثر الدر، وأمطر الجوهر؟

وقد امتاز مجمر بقصائده في مدح السلطان والأمراء وكان يقلد فيها مدائح السابقين. (3) أسرة وصال

ومن المشاهدات التي تشاهد في أدب القرن التاسع عشر أن تجد الأسرة وقد حافظت على إمارة الشعر فيها، فتجد الوالد وأبناءه وكلهم شاعر مجيد، مع أن منهم من لا يتخذ الأدب وقول الشعر صناعة بل يشتغل بالطب مثلا فلا يلهيه الطب عن قول الشعر والنبوغ فيه. وتجد من الأسرة الواحدة من يقول الشعر فيقلد الأقدمين من الشعراء ويسير سيرتهم، ومنهم من يرتحل إلى أوروبا فيصف أشياء لم يعرفها الناس في إيران ويدخل اللغة ألفاظا أجنبية ليست منها. حقيقة إن وصف هذه الأشياء لا يخرج القول عن أن يكون وصفا، والوصف غرض من أغراض الشعر المعروفة لدى الفرس، ولكن الأفكار الجديدة التي يصورها الشاعر والألفاظ الجديدة التي يستعيرها للدلالة على معان ليست موجودة في بلاده؛ كل هذا يكسب وصفه جدة تميزه وتجعل له طابعا خاصا.

وخير مثال لهذه الأسر التي تسلسل فيها الشعر وحافظ أفرادها على ما كسبوا من ألقاب أسرتا «وصال» و«صبا».

كان وصال (ميرزا شفيع الشيرازي المشهور بميرزا كوجك) من أشهر شعراء القاجاريين. وقد اهتم به رضا قولي خان فتحدث عنه في ثلاثة من كتبه، كما عني به بسمل في كتابه «تذكرة دلكشا» وقال عنه إنه كان صاحب فن، يجيد الخط والعزف، ويقول جيد الشعر، ولكنه كان سريع الغضب، وإنه كان مخلصا لأصدقائه، ويجمل القول فيه فيقول «كان عديم المثال.» كذلك رضا قولي خان يرى فيه مثل رأي صاحبه، وكلاهما كان صديقا لوصال، ويقول رضا إنه كان شديد التأثر إلى حد أنه غضب حين أراد السلطان أن يبدي إعجابه به، فقال له إنك أسرفت في الكمال. وقد كتب ديوانا بلغت أبياته نحو اثني عشر ألف بيت معظمه في الغزل الذي يعتبر الفن الذي آثر النظم فيه فبز وأبدع. وقد أجاد في المثنوي أيضا ويشهد بذلك كتابه «بزم وصال»، وقد أتم «فرهاد وشيرين» التي بدأها «وحشي». ويقول بعض النقاد إن التكملة خير من الأصل. ثم إنه اشتغل بالترجمة فنقل إلى الإيرانية كتاب «أطواق الذهب» للزمخشري.

ومن أشعاره التي يقلد فيها منوجهري قوله في وصف الزلزال:

إن هذا البلد، من كثرة هزات الزلازل، قد تقطعت منه المفاصل.

وارتفع من شقوق الأرض بخار نتن كرائحة السحر من بئر بابل.

وقضي على رسوم هذه الديار فدرست كما تمحى من النفوس الفضائل.

وترى وجوه الغيد تحت الثرى، فليس يقال إن الطين دون الشمس حائل.

ومن أبياته التي حوت معنى لطيفا قوله:

تنبه فلا تغضب منك أي قلب؛ فلكل قلب إلى الله طريق.

وقوله:

فاض دمعي حتى غرقت به، والنار تكويني؛

عجبا لحالي، كيف الحريق وأنا في الدمع غريق؟

وكان لوصال أبناء يقولون الشعر، وقد اشتهر منهم وقار وداوري ويزداني وهمت وحكيم وميراز أبو القاسم فرهنگ وقد تحدث أحدهم عن الخمر، وآخر عن رحلة صيد للسلطان وثالث تناول الفنون الشعرية كما تناولها من سبقه من الشعراء، ولكن الأخير منهم تحدث يصف باريس مستعملا في هذا الوصف ألفاظا فرنسية، متناولا ما رآه في هذا البلد الجميل المتلألئ الذي فاض بالجمال وظهرت به المدنية الغربية في أحسن مظهر لها بين مدن أوروبا، والذي استهوى ولا يزال يستهوي الكثيرين من أهل الفكر. على أن باريس كانت جديدة حينذاك بالنسبة لإيران كل الجدة، فإن الرحلات إلى الغرب لم تكن قد كثرت بعد، وإذا كانت البعثات العلمية قد بدأت توفد في ذلك الحين إلى باريس فإن الشباب المبعوث كان منهمكا في العلم دائبا على التحصيل في المعاهد المختلفة وفي المكتبات الكثيرة التي تلحق هذه المؤسسات العلمية. أما الأديب الذي كان يبحث عن المعاني الحقة للمدنية فقد بهره ما رأى وآثر أن يجعل هذا في قالب شعري. فكانت قصيدته التي نتحدث عنها. إنه معجب بسكان هذه المدينة الأحرار الذين تلمس الحرية عندهم في كل ما يشعرون ويفعلون، إنهم جميعا سادة فلا سيد ولا مسود، ستقرأ ما شئت أن تقرأ بغير حظر أو قيد وستتنقل ما شئت التنقل بلا رقيب أو حسيب، وستحس حريتك التي خلقت بها وليس لبشر عليك سلطان، فإنك حر بين قوم أحرار. وستجد كلا في عمله دائبا عليه يجني منه ما يعيش به كريما، وترى دولة ترعى هؤلاء الذين يكسبون قوتهم بأيديهم، فهي توفر لهم سبل العمل وتحميهم من صاحب هذا العمل؛ فتراهم جميعا يعملون وليس بينهم من لا يجد عملا أو من يبحث عن قوت.

وشوارع باريس جميلة قد زينتها الأشجار فبدت كأنها حديقة إرم، ففي كل ناحية ترى السرو والصنوبر، وتراها قد تلألأت بالنور، فإن الحكومة لم تتوان عن إضاءتها، فأكثرت المشاعل والمصابيح والشموع، وقد كثرت فيها البساتين التي امتلأت بخمائل الزهور؛ فأينما سرت ترى الورد والنسرين وترى في كل طرف الورد والزهار حتى أصبحت باريس من كثرة ما فيها من الورد والعطر ورائحة الريحان كأنها «مجمع عطور». ويدخل الشاعر الحوانيت ليشتري ما يريد فإذا به لا يجد من يناقشه الأسعار، إنه يشتري بثمن واحد لا خلاف عليه، وهو مطمئن لهذا الثمن الذي يدفع، فلا كذب ولا تحايل. إنهم قوم يقولون الصدق ويخلصون في العمل، فإن الصدق عندهم شعار.

وهم على دين واحد، عيسويون، وقد أخذوا عن المسيح خلقه، فهم يتحلون بخير الخلق، فهم صادقون، وكل منهم يؤثر صاحبه على نفسه؛ ولذلك ساد الأمن في المدينة بغير سلطان، وصلح الناس من غير قوامة الإنسان على أخيه الإنسان. وهم متضامنون متآزرون، الأمر بينهم شورى فإذا تمت كلمة أيدوها وعملوا بها، فلا تنافر ولا تخاذل، إذا قاموا فليس من قاعد، وإذا عزموا فلا مثبط لهم.

ويعجبه انتشار العلم فيهم ورقي هذا العلم الذي ذلل لهم كل صعب، وكشف لهم عن كل سر.

والحقيقة أن دراسة هذه القصيدة لا تقف عند حد سرد وقائع أعجب بها الشاعر فعددها واحدة واحدة، وإنما قصد الشاعر إلى ذكر المظاهر التي تنقص بلاده، فهو حين يشيد بالحرية الشخصية وكرامة الفرد في المجتمع إنما يقصد المطالبة بالعمل بهذا المبدأ في بلاده حيث سلطة الحاكم مطلقة لا قيد لها من دستور أو قانون. وهو حين يتحدث عن العمال وتيسير العمل إنما يقصد واجب الحكومة الإيرانية في أن تشجع الصناعة وتعمل على توفير العمل للعمال حتى لا يكون بينهم متعطل، وأن تحمي هؤلاء العمال من أصحاب العمل فتكفل لهم من الأجر ما يهيئ لهم أسباب العيش الكريم. وكذلك يقصد العناية بطهران كما عنيت الحكومة الفرنسية بباريس؛ فتقيم فيها الحدائق الغناء، وتغرس في شوارعها الأشجار، وتشيد بها المدارس وتنشر دور العلم. وهو حين يتحدث عن الشورى وإجماع الأمر على ما يقرره نواب الأمة إنما يقصد ما كان ينادي به المستنيرون من الإيرانيين في ذلك الزمان. فقد التمس جمال الدين الأفغاني من ناصر الدين شاه أن يسمح بمشاركة الشعب في الحكومة عن طريق مجلس نيابي، ولكن صوت السيد قد ضاع سدى؛ فلم تكن العقلية الحاكمة تقيم لمثل هذه الآراء وزنها الواجب، واضطر إلى الهجرة كثير من أحرار الفرس كي يتاح لهم النداء بهذا الرأي في الخارج، وكذلك أخذ الشعراء والكتاب يكتبون تصريحا وتلميحا ، وفق ما يقتضيه الحال، ومن هذا ما كتبه فرهنگ عن الشورى التي سادت الحكومة في فرنسا.

هذه أمثلة من الأفكار التي بثها الشاعر في قصيدته الطويلة تبين الاتجاه الجديد الذي سار فيه الأدباء في ذلك الوقت، وهو الاتجاه الذي أدى في أوائل القرن العشرين إلى ثورة انتهت بمنح الإيرانيين دستورا يتيح للشعب أن يشارك بعض المشاركة في توجيه الحكومة. (4) أسرة صبا

وأسرة أخرى نبغ فيها الشعراء واحدا بعد آخر هي أسرة صبا، ملك الشعراء. واسمه «فتح علي» كاسم جد القاجاريين وكاسم ثاني ملوكهم. وقد تحدث عنه رضا قولي خان، وكان من المعجبين به فقال إنه لم يدانه شاعر في إيران طوال سبعة قرون. وهو الذي يؤثر بعض النقاد كتابه «شاهنشاه نامه» على شاهنامة الفردوسي نفسها. وكما قلد الفردوسي في شاهنامته فكذلك قلد كتب سير الملوك التي أخذ عنها الفردوسي وغيره من المؤرخين المسلمين الذين كتبوا عن إيران، وهي الكتب المعروفة باسم «خداي نامها» أي كتب الملوك؛ فألف صبا كتابا على مثال هذه الكتب سماه «خداوند نامه» أي كتاب الملك، وجعله على وزن الشاهنامه. وله أيضا «عبرت نامه» و«گلشن صبا» ثم له ديوان شعر. وقد شارك هذا الشاعر في الحكومة فكان عاملا على قم وكاشان، ولكنه قصر الجهد آخر الأمر على خدمة مولاه فتح علي شاه الذي لقبه بملك الشعراء. •••

وكان لهذا الشاعر ولد هو حسين خان الملقب بعندليب، وكان شاعرا مجيدا خلف والده كملك للشعراء أيام فتح علي شاه ثم ظل محافظا على لقبه حتى عهد ناصر الدين. •••

ثم أنجب ولدا سماه محمودا وقد صار ملك الشعراء أيضا في زمن ناصر الدين شاه. وهكذا حافظ ثلاثة من أسرة واحدة على هذا اللقب. (5) محمود خان ملك الشعراء

كان يجيد الشعر ويسير سيرة الأول فيه. وهو مع نبوغه في الشعر لم يكن يقتصر عليه بل تبحر في علوم الحكمة والحديث والتفسير والأدب، كما أجاد صناعة الخط والنقش والترصيع، وقد قربه ناصر الدين شاه وخلع عليه اللقب الذي حمله أبوه وجده من قبل.

وهذه الأبيات من شعره في حلول النوروز وهلول الربيع دليل على قدرته في النظم على نهج المتقدمين وما له من الذوق الجميل والقريحة الصافية. يقول:

تعال معي، لحظة يا حبيبي في الحديقة

وقت السحر، حين يغرد القمري؛

إني ذاهب إليها غدا

حين يبتسم السوري.

8

من ناحية ترى الأرض زرقاء مما تفتح من بنفسج،

ومن ناحية تراها بيضاء من زهر النفل.

9

الرعد ينحب والسندس بالنحيب يطرب،

ويبكي السحاب والمرج من البكاء يضحك،

حيثما تسير تجد الشقائق البرية،

وترى الشمعة الوضاءة علت القدح الأخضر،

وجانب الجدول مليء بالشقائق والمرزنجوش،

10

فاسترح وأقم مخيمك يا حبيبي بجانب الجدول.

وتوسل بالفرح في موسم الزهر،

وخلص النفس من الحزن والغم.

فالحزن فاكهة مرة لا تقربها،

واجتث شجرته التي تثمره من أساسها،

ولا تفكر في الليلة الحبلى؛

فلا يعلم أحد ماذا تلد غدا. (6) ثنائي

وما دمنا بصدد الشعر فإني ذاكر كلمة عن أحد كبار الكتاب في إيران في القرن التاسع عشر؛ فقد قال الشعر أيضا باسم ثنائي، وكان مجيدا فيه إجادته في النثر، إلا أن شهرته في الأخير أبعد وأمكن، هذا هو الشاعر الكاتب ميرزا أبو القاسم القائمقام، الذي كان وزيرا لفتح علي شاه، مدبرا لسياسته مسطرا لكتبه للملوك، والذي أدبر حظه أيام محمد شاه فعزل ثم قتل.

ويمتاز هذا الشاعر بمعرفة الحالة السياسية في البلاد التي كان وزيرها، فهو يبغض الروس والإنجليز لأنه يعرف خبيث نواياهم وقد رأى الروس يهزمون جيوش بلاده أيام فتح علي شاه، ورأى نفسه مضطرا أن يكتب معتذرا إلى قيصر الروس لأن بعثته قد قتلت على بكرة أبيها في إيران، وقد كتب ينبه قومه إلى أن لا يأس مع الحياة، فإن الحرب كر وفر، وإذا كان الروس قد غلبوا اليوم فإنهم غدا سوف يغلبون. قال:

إن الزمان تارة يعز وتارة يذل،

وللفلك الدوار كثير من هذه اللعبات.

إذا أقبل فكثيرا ما يخطئ المكان والزمان،

وإذا أدبر فطالما آلم وأهان.

إنه يعطف أحيانا على ضباط الروس.

11

وأحيانا يسقي ضباط إيران النصر بالكئوس .

يريد حينا أن يكون الجيش بيد ذئب مفترس،

ويدع البلاد طورا في يد مجرب يسوس.

يسوق على تبريز، مرة، جيشا يريق الدم من بطرسبورج،

ويسير أحيانا جيشا جرارا من خراسان إلى تفليس. (7) أدب البابية

وقبل أن أختم الحديث عن الشعر الفارسي في القرن التاسع عشر أشير إلى أدب البابية. والبابيون هم أتباع المذهب الذي ابتدعه ميرزا علي محمد الذي اشتهر بالباب.

معنى كلمة الباب: ظهر في إيران أيام محمد شاه سنة 1844م رجل اسمه ميرزا علي محمد ولقب نفسه «بالباب»، وإليه نسبت الجماعة فقيل لهم «البابية». وقد قصد بهذه التسمية أنه هو الباب الذي يدخل منه المؤمنون لمعرفة الإمام الثاني عشر. وينسب الشيعة إلى النبي

صلى الله عليه وسلم

أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها.» فكما أن عليا هو الباب لمدينة العلم التي هي محمد

صلى الله عليه وسلم

فكذلك ميرزا علي محمد هو «الباب» لمدينة العلم التي هي الإمام. ولم يكن هذا الرجل أول من تسمى «بالباب» بهذا المعنى، فقد سبقه إليه في الإسلام الشلمغاني الذي قتله الخليفة الراضي بتهمة التسمي «بالباب» والقول بالتناسخ، وكذلك تسمى به أبو القاسم الذي عده أتباعه واحدا من «الأبواب» المؤدية لمعرفة صاحب الزمان، ويذكر الاسم كثيرا عند الباطنية.

وكان ميرزا علي محمد طفلا يتيما تعهده خاله وكان تاجرا، فعلمه القراءة والكتابة وبعض قواعد الحساب. وقد كان به انحراف عصبي منذ طفولته فكان يعتكف في بيت خاله وينقطع إلى رياضة نفسه حتى ضعف وهزل وتعرض لنوبات شديدة كان يفقد فيها الوعي، فرأى خاله أن خير وسيلة لشفاء هذا «الولي» أن يرحله إلى كربلاء ليحضر دروس السيد كاظم تلميذ الشيخ أحمد الأحسائي صاحب مذهب «الشيخية». وهناك توفر الشاب على الدرس والتحصيل ومارس رياضة النفس، ودأب على المجادلة فلم يصبر الناس على جدله، فتركهم وسافر إلى شيراز حيث أعلن أنه «الباب».

وإذا تصفحنا تاريخ إيران نجد أن ميرزا علي محمد ليس أول من خرج على دين الدولة، فمن قبل عمل الساسانيون الأول على جمع الكلمة في إيران فوحدوا إقليمها واتخذوا من الأوستا دينا واحدا لها. فلم يمض على ذلك كثير حتى ظهر ماني بقواعد جديدة جمعت بين دين زردشت الذي جمع في الأوستا وبين أصول الدين المسيحي وأخذ يبشر بمذهبه واستطاع أن يقنع عددا كبيرا من الأشراف به؛ حتى إن سابور خليفة أردشير كان بين مصدق له ومكذب، إلى أن خشيت الفتنة من دعوته فقتلوه. ومن بعده ظهر مزدك الذي دعا إلى الإصلاح على أساس دين جديد جمع فيه بين قواعد الأوستا وبين النظام الاجتماعي المثالي الذي يقوم على المساواة بين الناس. وقد لقيت فتنة مزدك من نفوس العامة استعدادا كبيرا فأخذ كل يفسر الدين الجديد حسب هواه، وانتهى أمر الرجل بقتله، أما أتباعه فقد تشتتوا وسكنوا الجبال والأطراف البعيدة وظلوا على معتقداتهم حتى دخل الإسلام إيران فظهر من هؤلاء خارجون عليه من أمثال سنباد.

وقامت الدولة الصفوية ورأى الشاه إسماعيل أن يتخذ مذهب الشيعة الاثني عشرية مذهبا رسميا للدولة، كي يخلص من التبعية الروحية للخليفة العثماني، وقد حفزه على هذا عامل السياسة وشجعته عليه دول أوروبا، فلما آل أمر إيران إلى نادر شاه بدأ اضطهاد المذهب الشيعي والتفكير في العودة إلى المذهب السني بل ذهب إلى التفكير في خلق دين جديد للدولة.

وقبل مائة سنة من مقتل نادر شاه ظهر «الباب» في إيران بمذهب جديد، مزج فيه ما تعلم - وكان علمه ضئيلا - من قواعد الأديان المشهورة، الإسلام والنصرانية واليهودية والمجوسية وجعل لنفسه كتابا سماه «البيان» وخرج على دين الدولة داعيا الناس إلى دينه. ولم يتح للباب أن يتصل بالناس ويدعوهم بنفسه فإنه كان - حتى قتل سنة 1850م - سجينا معظم الوقت. فأخذ يؤلف الكتب المذهبية وهو سجين، بينما أخذ أتباعه يدعون له ولمذهبه في حماسة وقوة، حتى استطاعوا القيام بثورات مسلحة وأحرجوا الحكومة. وقد أخذ أتباعه يزدادون، وساعد على ذلك أن من الشيعة من يرى أن للإمام المهدي «أربعة أبواب» يتصل بواسطتهم بأتباعه المؤمنين أثناء «الغيبة الصغرى». وقد نادى «الشيخية»، وقد تعلم «الباب» على إمامهم، بوجود «واسطة » بين الإمام المستور وأتباعه في كل زمان.

على أن ميرزا علي محمد لم يقنع بما ذهب إليه من أنه واسطة بين المؤمنين وإمامهم، بل ذهب أبعد من هذا (بالاتر رفت) فسمى نفسه «النقطة العليا» أو «نقطة البيان» أو «النقطة الأولى» ثم «القائم» و«شجرة الحقيقة» و«ذات الحروف السبعة» - حروف علي محمد - ثم «حضرة الأعلى» وغير هذا من الأسماء. وازداد أصحابه غلوا فتسمى بعضهم ب «الله» وسموه هو «خالق الآلهة» (خدا آفرين). وحين أدرك علي محمد أنه أخطأ إذ حسب نفسه «الباب» وأنه أعلى قدرا من أن يكون «بابا» أصبح لقب الباب ولا حامل له فخلعه على أخلص أتباعه الملا حسين بشرويه، فسماه البابية «جناب الباب» وسماه بعضهم «جناب باب الباب».

ولما ازداد غلو «البابية» وخشيت فتنتها رأى ناصر الدين شاه أن يقتل «الباب» فقتلوه سنة 1850م. وخلفه ميرزا يحيى الذي هرب إلى بغداد وسمى نفسه «صبح الأزل» ولكنه لم يكن قويا واضطره أخوه حسين الملقب «ببهاء الدولة» إلى الاعتكاف والصمت وانفرد هو برياسة المذهب وأصبح أقوى رجل فيه. وفي سنة 1863م ادعى بهاء الله أنه هو الذي «يظهره الله» ودعا البابيين كافة ليستجيبوا له فاستجابت كثرتهم. ولكن صبح الأزل وصحبه عصوا، ومن ذلك الوقت انقسمت البابية إلى فرقتين: «الأزلية» أو «البيانية»

12

و«البهائية» نسبة إلى بهاء الله. وكان الأخوان قد انتقلا من بغداد إلى إستنبول ثم إلى أدرنة (أرض السر) وهناك حدث الانقسام فنفت الحكومة العثمانية صبح الأزل إلى قبرص حيث مات سنة 1912م، ونفت بهاء الله وأتباعه إلى عكا حيث مات سنة 1892م فخلفه ابنه «عباس أفندي» الذي استطاع أن يكسب للمذهب أنصارا في أوروبا وأمريكا. •••

والذي يهمنا في هذا الحديث هو أدب البابية لا دينها؛ ولذا فإنا نترك موضوع الدين للأدب فنتحدث عن شاعرة من شعراء البابية. (8) قرة العين

كانت قبلة الأنظار وموضوع الحديث لدى الناس، فقد كان لها من الجمال والكمال وعلو الهمة وسلامة المنطق والقدرة على الحديث والإبداع في الشعر ثم الحماسة التي لا توصف للمذهب البابي ما جعل الناس ينظرون إليها ويعجبون بها ويشفقون عليها. سمع بها ناصر الدين شاه كما سمع بها الناس فأعجبه ذكرها، وراق له أن يستمع لها، فطلب أن يلقاها في الوقت الذي اشتد فيه طغيان البابية وسددت الدولة قواها للقضاء على حركتهم، واقتادت جماعة منهم إلى طهران لتقتلهم جهارا حتى يكون مقتلهم للناس عظة وعبرة، فأتوا بها إلى الشاه من محبسها، فدخلت عليه غير هيابة ولا وجلة، مؤمنة برسالتها، معتزة بما تعتقد أنه الحق، فحدثته واستمع إليها وطال استماعه. فلم يقو الشاه الذي أمر بقتل البابية قتلا وتعذيبهم عذابا لم يره أحد، إلا أن ينظر إلى وزرائه وقد أحاطوا به ليأمرهم ألا يقتلوا هذه السيدة التي سحرته ببيانها وثباتها وحلو حديثها:

لقد أعجبتني؛ دعوها تعيش.

ولكن السياسة هي السياسة وقد اقتضى الأمر أن تقتل قرة العين، فلم يكن من الحكمة أن يخلي سبيلها، وهي أخطر الدعاة على الدولة ودينها، في الوقت الذي يقتل فيه من ليس له في الدعوة مثل شأنها، فقادوها إلى الجلاد وأمروه أن يلقي بها حية في النار، حتى تلقى بعض ما لقيه أصحابها من العذاب. وينظر الجلاد إليها فلا يقوى على أن يطعم هذه السيدة الفذة النار، ولكنه لا يجد مفرا من أن ينفذ فيها حكم القضاة، فإنه لا يملك غير التنفيذ، ويحاول إلقاءها حية فلا تطاوعه يداه، ويراها تعينه في شجاعة وجلد وعزة على ما لا يستطيع أن يقدم عليه، فيتراجع ويفكر ويدبر في لحظة لا سعة فيها لتدبير أو تفكير، ثم ينقض الرجل، وقد فقد وعيه، على السيدة الجميلة التي امتلأ قلبه شفقة ورحمة عليها فيخنقها بيديه حتى لا تتعذب في النار وحتى تصلاها جثة هامدة قد خلت من هذا الروح المتوثب الذي لم يكن يعرف غير القوة فيما يعتقد أنه الحق والذي أقدم على جلاده رافع الرأس، متزن الخطى، ثابت الجنان. •••

نشأت هذه السيدة في بيئة دينية، فأبوها من رجال الدين وعمها من أشد شيوخ الدين حمية ومن أكثرهم سخطا على الشيخية والبابية، ولكنها وجدت في عم ثالث لها ما شجعها على المضي في درس علوم الدين متجهة نحو المذهب الشيخي الذي كان هذا العم يميل إليه. ولم ير أبوها بدا من أن يهيئ لها وسائل التحصيل، فقد كان لها من الذكاء والاجتهاد ما لم يتح للسيدات في ذلك العهد، فأرسلها إلى كربلاء حيث كانت مدرسة الشيخية وعلى رأسها السيد كاظم تلميذ الشيخ أحمد الأحسائي. وكان السيد كاظم يحاضر تلاميذه ويبين لهم صدق ما ذهب إليه شيخه من وجود «واسطة» بين الإمام والمؤمنين في كل زمان، مضيفا إلى هذا أن «الواسطة» سيظهر قريبا، وأن ظهوره موقوت بموت السيد كاظم نفسه. وكان من بين الحضور شاب متحمس يتطلع إلى أستاذه في اقتناع وإيمان. ومن وراء ستار جلست الفتاة التي رحلت من قزوين لكي تستمع إلى درس السيد وكلها آذان مصغية واعية لما يقول. أما الشاب فهو السيد حسين بشرويه (الذي لقبه صاحب الدعوة بالباب فيما بعد، والذي يسمى في كتب البابية جناب الباب أو جناب باب الباب) وأما الفتاة فهي زرين تاج التي اشتهرت فيما بعد ب «قرة العين» أو جناب الطاهرة والتي كان يسميها «الباب» فاطمة في بعض كتبه.

ومات السيد كاظم وسافر تلميذه بشرويه إلى شيراز لعله يلقى «الواسطة» المنتظر، وكتبت إليه قرة العين أن يبشرها باسم «صاحب الظهور» وأن يحدثها عنه إذا هو لقيه. واتصل بشرويه ب «الباب» وأطلعه على خطاب الفتاة التي تنشد وجوده وتنتظر «ظهوره»، فأعجب بها وراقه ما رأى من كتابتها فجعلها من بين الحروف «الحية» الثمانية عشر التي تكون «الوحدة الأولى» من المذهب البابي. وكتب بشرويه إليها ينبئها بظهور «الباب» وبما بلغت من منزلة عنده. فآمنت بما سمعت وأصبحت من أشد دعاة البابية حماسة.

وكانت قرة العين في ذلك الوقت تجلس في مسجد كربلاء من وراء ستار قد تجمع التلاميذ أمامه فكانت تتحدث إليهم حديث الأستاذ الراحل، ولكنها زادت عليه أن نقلت إليهم بشرى ظهور «الواسطة» وأنه «الباب» في شيراز. وأخذت تدعو إليه والناس يستمعون إليها ويتكاثر عددهم يوما بعد يوم. ويخاف الوالي من ظهور الفتنة في كربلاء ويحاول أن يقبض على قرة العين ولكنها تهرب إلى بغداد فتسرع إلى بيت المفتي وتوضح له مذهبها وتجادل عن رأيها تريد أن تدخل الرجل فيه، وأن تظفر بالسماح لها بأن تلقي دروسها وتبث دعايتها في المسجد. ولكن مفتي بغداد يخاف الفتنة كما خافها والي كربلاء فيبصر الحكومة العثمانية بمغبة ما تدعو إليه فيأمر الوالي بإبعادها فتخرج إلى كرمانشاه. وكانت في رحلتها تدعو الناس، كلما استطاعت التحدث إليهم، إلى الدين الجديد، ودخل الكثيرون فيه. ولكن بعضهم أشفق على الدين من دعاية سيدة محجبة؛ فإن هذا عمل الرجال، فلم يكن الإيرانيون قد ألفوا أن تقوم في وسطهم سيدة تدعوهم إلى مثل هذه الدعوة، فكتبوا إلى «الباب» مستنكرين من قرة العين ظهورها أمامهم وتحدثها إليهم بصوت عال. فبعث الباب إليهم كتابا مثنيا على جهادها مزكيا إياها مسبغا عليها لقب «جناب الطاهرة» فندم الشاكون على ما شكوا. ومن ذلك الوقت ازدادت نظرة البابيين إليها علوا وأصبحت السيدة الأولى في المذهب.

وبلغت همدان فلم تقنع، كما يفعل سائر الدعاة، بدعوة الناس. إنما رأت أن تقنع الشاه نفسه بالدين الجديد كي تدخله فيه. وكان يجلس على العرش حينذاك محمد شاه، وكان ساخطا على من يتحدث في الخروج عن مذهب الدولة الرسمي أشد السخط، فإنه لم يكن قد استراح بعد من إخماد حركة الإسماعيلية، وكان يحاول أن يقضي على فتنة البابية التي بدأت في الظهور، وسمع أبوها بما تقصد إليه فخاف عليها أن يقتلها الشاه إذا هي حدثته بمثل ما عزمت فبعث جماعة من أتباعه إلى همدان ليحملوها إلى بيتها في قزوين.

هناك يزوجها أبوها من ابن عمها المجتهد الذي لا يألو جهدا في محاربة البابية. وكان الولد كأبيه من أشد الناس سخطا على بدعة «الباب» ومن يدعو إليه. فلم يكن زواج قرة العين موفقا ولم يدم طويلا، واضطرت أن تهجر بيت زوجها وأن تعود إلى بيت أبيها الذي ود لو شغلها البيت والولد عما هي فيه من حماسة للدعوة البابية. والحكومة في ذلك الوقت ترقب حركات قرة العين وتلاحظ ما يكون من أمرها بعد الزواج فلما عادت إلى أبيها اشتدت الرقابة عليها وأوجست الحكومة منها خيفة. ويزداد موقف السيدة سوءا بمقتل عمها المجتهد فقد قتله جماعة من البابية الذين دخلوا الدين الجديد بدعوة منها وهي في طريقها إلى بلدها، فتتطلع الأنظار إليها، وتتناقل الألسن اتهامها بالاشتراك مع قتلة عمها، ويثور الشيعة، ويلقبون القتيل «بالشهيد الثالث»، وتقبض الحكومة على قرة العين، ولكن تثبت براءتها من دم عمها فيطلق سراحها، ولو وجد حاكم قزوين شبهة يستند إليها للإيقاع بها لما تردد. أما الجناة فقد سيقوا إلى طهران فكانوا أول قتلى البابية.

وتغادر قرة العين قزوين، حيث لا يحلو العيش بعد الذي كان، وتسافر إلى خراسان وتلقى «الباب» في بدشت فتزداد به ولوعا. وبعد قليل يقبض على «الباب» ويقتل، وترحل هي من بلد إلى بلد حتى تحمل مقبوضا عليها إلى طهران، فتحبس في بيت حاكم المدينة، ولكنها كانت تقابل من تشاء من الناس. ويأمر السلطان بأن يراها فيتحدث إليها ويعز عليه قتلها فيقول دعوها تعيش، ولكنها تقتل بعد حين.

وكانت قرة العين، إلى جانب نشاطها في الدعوة البابية، شاعرة يتناقل البابيون أشعارها ويروونها في إعجاب وإكبار. ولو أن الناقد لا يستطيع أن يغفل القصص الكثير الذي حيك حول هذه السيدة وما جاء في هذا القصص من شعر ينسب إليها. ولها ديوان صغير مطبوع. وكانت تبدأ أشعارها باللغة العربية ثم تكملها بالفارسية والعربية الغريبة معا ومن ذلك قولها:

لمعات وجهك أشرقت وشعاع طلعتك اعتلى،

13

لم لا تقول «ألست بربكم» فإنك، بلى بلى.

إن صدى «ألست» ليحيي على الأرض دوي ما نلقى من البلاء،

لقد أقمت على باب قلبي خيمة لجيش الغم وخدم البلاء؛

كفاني عشق هذا الجميل الذي حين صلت عليه البلاء

قابله نشيطا مقهقها قائلا «أنا الشهيد بكربلاء».

إنه حين سمع نواح موتي أعد لي عدتي وجهازي «فمشى إلي مهرولا وبكى علي مجلجلا».

ماذا لو أضأت قلة «طور» قلبي بنار الحيرة ، «فسككته ودككته متدكدكا متزلزلا»

14

إن صدى «الصفير المهيمن» يبلغ أقدام مائدة عشقه من خيل الملائكة

وإنه ليصيح: الصلاة أيتها الفرقة البائسة.

أتستطيع صدفة من سمك الحيرة، مثلك، أن تأمل الغناء في بحر الوجود،

ألا فاجلس «كطاهرة» واستمع الحوت يردد «لا».

ومن أشعارها: «جذبات شوقك ألجمت بسلاسل الغم والبلاء.»

من حطمت قلوبهم من عشقك وفدوك بالروح ولاء

إذا حلا لحبيبي أن يقتلني وأنا بريئة «لقد استقام بسيفه فلقد رضيت بما رضي»

لقد زارني هذا الجميل في فراشي وقت السحر «وإذا رأيت جماله طلع الصباح كأنما»

إن زلفه المسكي هو الذي يذكي نافجة ختن ،

وإن سحر عينيه حطم الدين الذي حاربه الكفار عبثا.

يا من غفلت عن الخمر والحب من أجل العابد الزاهد

ما حيلتي معك؟ وأنت ترى في خلوص نية الأصفياء، الكافر الجاحد.

إنك لا تعنى بغير زلف حبيبك وحصانك والسرج المعرق،

ولقد قضيت العمر منكرا «المطلق» غير مبال بالفقير والمسكين.

ليكن لك ملك الإسكندر وجاهه ولي طريق القلندري (الدرويش) ورسمه.

فاغتنم ذلك ما حلا لك، أما أنا فهذا يكفيني ولو ساء.

واهجر منزل «نحن وأنا» واختر لك وطنا في فلك الفناء. «فإذا فعلت بمثل ذا فلقد بلغت بما تشاء.» (ب) النثر

أما النثر فقد أخذ طابعا جديدا في سهولته ووضوحه وانتقاء الألفاظ التي تعبر عن المعنى المقصود بغير تكلف أو التواء. ولا شك أن الكتاب الذين استخدموا الجرائد لنشر ما يكتبون قد أخذوا عن كتاب الغرب من فرنسيين وإنجليز أسلوبهم السهل وأفكارهم الجديدة عن الحرية وحق الشعب في أن يحكم نفسه وأن تكون الحكومة منه وأن يكون مصدر السلطات. وقد شاعت هذه الآراء في كتابات الجرائد التي كانت تصدر في خارج إيران باللغة الفارسية.

ومن أبرز الكتاب في هذا القرن الذي نتحدث عنه رضا قولي خان الذي كان أول مدير للجامعة، والقائمقام الذي تحدثت عنه بين الشعراء باسم ثنائي. (1) رضا قولي خان

هو أحد أفراد آل كمال أبناء الشاعر الشيخ كمال خجندي الذي عاصر «حافظ الشيرازي» والمتوفى سنة 1389ه في تبريز التي اتخذها مقاما لأسرته.

وكان جده إسماعيل كمال بك كبير أعيان جارده كلاته من نواحي هزار جريب، وكان يدين بالولاء للقاجاريين فقتله زكي خان الزندي لأنه لم يخضع له. وقد روى رضا قولي خان حادث مقتل جده غدرا وخيانة في كتابه سفارة خوارزم (سفارتنامه خوارزم) (ص133-134، طبعة بولاق) فقال: «وكان أهالي هذه الولاية (جارده كلاته) ميالين إلى الأسرة العلية العالية القاجارية منذ خرج بها السلطان محمد حسن خان (كشورستان) بن فتح علي خان القاجاري القوانلوي. ولما ولي كريم خان سلطنة إيران رفض أهالي جارده كلاته الخضوع لقواده لأنهم أحبوا القاجاريين وأخلصوا لهم، وكان من جملتهم جدي محمد إسماعيل بك المشهور بإسماعيل كمال الذي كان رئيس الرؤساء لهذه الجماعة، فلم يذعن لزكي خان، ابن عم كريم خان الوكيل (وكيل خدمت) فأخذ زكي خان يضيق عليهم حتى تجمع واحد وأربعون من رؤسائهم في جهة محكمة وأخذوا يذودون عن أنفسهم فبعث إليهم رسالة وأقسم على القرآن المجيد قائلا: تعالوا عندي فإني لن أقتل منكم أحدا. فخدعهم هذا القسم واطمأنوا وخرجوا من الحصن. فأطلق زكي خان سراح واحد منهم، تبريرا لقسمه، وأمر بقتل الأربعين وأن تبنى من جماجمهم منارة تخلد ذكر هذه الواقعة. فطالب جدي إسماعيل أن يجعل رأسه فوق الرءوس جميعا لأنه كبير القوم. فعمل زكي خان بوصيته. ولا تزال المنارة باقية حتى اليوم. فلما سمع «الوكيل» بهذا غضب ...»

والتحق محمد هادي خان - ابن إسماعيل - بخدمة جعفر قولي خان قاجار، فلما مات الأمير التحق بخدمة أغا محمد شاه وصار خازنه وكاتم أسراره. وفي سنة 1800م بينما كان محمد هادي يحج إلى مشهد أتاه نبأ مولد ابن له فعاد إلى خراسان مسرعا وسمى المولود رضا تيمنا باسم الإمام الذي كان يزور مشهده. وولي فتح علي شاه العرش فجعل محمد هادي ملتزما للخراج في فارس، ولكن الأجل لم يمهله فتوفي تاركا وراءه ولده سنة 1802م. وانتقل الطفل اليتيم إلى طهران ثم إلى مازندران حيث عني به بعض أقاربه في بارفروش، وشب الطفل فرحل إلى فارس حيث أخذ يتلقى العلم على مرب فاضل هو محمد مهدي خان شهنه. فلما أتم الدرس التحق بوظيفة في شيراز مستظلا بنفوذ والي خراسان الذي كان يرعاه ويشجعه. وكان رضا ينفق وقت فراغه في القراءة والكتابة وقرض الشعر، وقد اتخذ لنفسه لقب شاكر ثم جعله «هدايت» فيما بعد.

وجاء فتح علي شاه إلى شيراز فقدم إليه رضا فأحسن استقباله، وكان يعرف ما لآبائه من طيب الصلات بالبيت القاجاري، وأنعم عليه بلقب أمير الشعراء وأمره بأن يحضر إلى البلاط في طهران، ولكن المرض يحول دون ذهاب الشاب الطموح إلى العاصمة. ويموت فتح علي شاه ويليه على العرش حفيده محمد شاه، فيثور عليه والي خراسان وأخوه، وكان رضا قولي خان يعمل عندهما، ويخمد السلطان الثورة وتتوثق الصلة بين رضا والوالي الجديد.

وتتاح الفرصة لرضا من جديد؛ فإن شهرته تسبقه إلى طهران وقد أوفد إليها في عمل ديواني، فرحب به الوزير حاجي ميرزا آقاسي وقدمه للسلطان الذي سر به وبما له من وافر الذكاء وواسع العلم وأدب الحديث؛ فأمره بالإقامة في طهران ونصبه رائدا لابنه عباس ميرزا نائب السلطنة (سمي باسم جده)، وأجزل له العطاء وخلع عليه إقطاعات من ماله الخاص، ولقبه بلالا باشي (الرائد). ويموت السلطان عام 1848م فلا تكون الظروف مواتية للأمير الذي يربيه؛ ويضطر عباس ميرزا إلى الهرب من طهران، ويلي الحكم ناصر الدين شاه، فيعتكف رضا ويقبع في داره منكبا على قرض الشعر والكتابة والتأليف، ولكن عزلته لا تطول؛ فإن السلطان الجديد يعفو عنه ويراه خير من يوفد سفيرا إلى خيوه عام 1851م. وحينما عاد من سفارته عين مساعدا لوزير المعارف ومديرا لدار الفنون، فظل في منصبه هذا زهاء خمس عشرة سنة، عين بعدها رائدا لولي العهد مظفر الدين وكان حاكما على أذربيجان. وبعد سنوات من الالتحاق بهذا الأمير استأذن رضا في العودة إلى طهران فأذن له، وهناك مرض ومات بين يدي أبنائه في 30 يونيو 1871م.

أعماله العلمية

ولرضا قولي خان آثار علمية وأدبية كثيرة، منها ما هو نشر ومنها ما هو تأليف، ثم هناك الأشعار والرسائل:

المؤلفات (1) «نژاد نامه پادشاهان إيراني نژاد» تناول فيه الملوك الإيرانيين الذين حكموا إيران، وقد جعله في ثمانية عشر فصلا، ولخص في الخاتمة أهم حوادث التاريخ الإسلامي منذ حياة النبي عليه الصلاة والسلام حتى العصر الذي كتب فيه الكتاب. ثم ذكر المراجع التي أخذ عنها والتي ذكرها في حواشيه. (2) «فهرست التواريخ» وقد قدمه لناصر الدين شاه قبل سفره إلى خيوه. وقد طبع جزء منه في طهران. (3) «أجمل التواريخ» وهو كتاب مدرسي ألفه لولي العهد الأمير مظفر الدين لخص فيه أحوال الملوك ابتداء من البيشداديين حتى ناصر الدين شاه. (4) «سفارتنامه خوارزم» وهو من أحسن ما كتب بالنثر الفارسي وسنتحدث عنه على حدة. (5) «تتمة روضة الصفا»، وكان ميرخوند قد ألف روضة الصفا مؤرخا لإيران وما حولها، فرأى رضا قولي خان أن يتم هذا الكتاب فأضاف الجزء السابع وكان غير معروف، وقد جاء في أسطره الأولى ما يدل على أنه من تأليف ميرخوند وموضوعه تاريخ أبي الغازي سلطان حسين ميرزا وأبنائه وذلك حتى سنة 1552م. وكان رضا معجبا بهذا الكتاب فأتم حوادثه حتى بداية عهد ناصر الدين شاه، ورجع في كتابة هذه التتمة إلى مراجع لم تكن معروفة، منها تاريخ عبد الغفار القزويني، وروضة الطاهرين لطاهر محمد السبزواري، وتاريخ الصفوية لميرزا صادق الأصفهاني خازن مكتبة الشاه عباس. ورجع في كلامه عن عهد الزند والسنوات الأولى من عهد فتح علي شاه إلى كتاب ميرزا صادق. ومن ناحية أخرى كان في متناول يده وهو يكتب تاريخ إيران الحديث منذ بداية القرن التاسع عشر الوثائق الرسمية التي تبين صلة إيران ببعض دول أوروبا وآسيا حينذاك. وقد سطر النص الكامل لبعض هذه الوثائق وعلق عليها. وهذا الكتاب الذي صيغ في أسلوب سهل رقيق يمد القارئ بمعلومات واسعة عن الجغرافية والتراجم والآداب. وقد قدمه لناصر الدين شاه في عشرة أجزاء، سبعة لميرخوند وثلاثة من تأليفه، وقد طبع في مجلدين كبيرين بين سنتي 1853-1856م في طهران. (6) «رياض العارفين» في تراجم الشعراء المتصوفة، وقد ذكر نبذا منه في سفارتنامه خوارزم. (7) «مجمع الفصحا » وهو من أهم مؤلفات رضا. وأهميته الخاصة ترجع إلى روايته للنصوص الشعرية وللتفصيلات الكثيرة التي أفادها من مؤلفات تاريخية وكتب تراجم من الأهمية بمكان كبير. ويحوي الكتاب مقدمة في تاريخ الشعر الإيراني الذي لم يندثر بعد الفتح العربي، بل ظهرت بوادره في خراسان وبلغ درجة لا بأس بها أيام الخليفة المأمون. ويقول إنه حدث في سنة 198ه/813م أن قدم السيد أبو العباس المروزي إلى الخليفة قصيدة من الشعر الفارسي بها كلمات عربية فأعجب بها الخليفة وأمر للشاعر بصلة ألف دينار. ويتحدث رضا عن الشعر الفارسي أيام الطاهريين والصفاريين والسامانيين والغزنويين والديلميين ثم السلاجقة، وقد جعله أربعة أركان: الأول في الشعراء من الملوك والأمراء وخص صفحاته الأولى بأشعار ناصر الدين شاه، والثاني في الشعراء من سنة 173ه/789م حتى 800ه/1397م، والثالث في الشعراء المتوسطين، والرابع في الشعراء المعاصرين. وامتاز الكتاب برجوع صاحبه إلى كتب نادرة وبمعلومات لم يسبقه إليها أحد.

على أن الرغبة في الإحاطة بكل شيء جعلته يتورط أحيانا في أخطاء كان يستطيع أن يتفاداها. وقد عاب عليه القزويني (محمد) في حواشي «جهار مقاله» عدة عيوب، منها أنه ذكر أن البهرامي الشاعر كان معاصرا لسبكتگين ولكنه حدد وفاته في سنة 500ه/1106م وهو سهو واضح لأن سبكتگين مات سنة 387ه/997م.

15

ومنها أنه غير في قصيدة للأزرقي، اسم طغانشاه بن محمد (ألب أرسلان) بطغانشاه بن مؤيد لتكون القصيدة في مدح هذا الأخير؛

16

ذلك لأن معظم المؤرخين يجهلون طغانشاه بن ألب أرسلان محمد بن جغري بيك الذي كان حاكما لخراسان أيام ألب أرسلان وهو الذي مدحه الأزرقي. ولم يعن كتاب التذاكر بتحقيق شخصية هذا الحاكم وظنوا أنه هو طغانشاه ابن مؤيد آي ابه (569-581ه/1173-1185م)، ومن هؤلاء رضا قولي خان الذي لم يكتف بالخلط بين الأميرين بل صحح الاسم كي يستقيم مدح الأزرقي مع ما ذهب إليه بغير تحقيق.

عندما تحدث عن عثمان المختاري الشاعر الذي مدح ملكا اسمه عضد الدولة لم يتحقق منه رضا خان فذهب إلى أنه عضد الدولة الديلمي الذي توفي سنة 372ه/982م أي ما يقرب من ثمانين ومائة سنة قبل وفاة المختاري، وقد وضع صاحب مجمع الفصحا اسم مغيث الدين فناخسرو، وهو اسم عضد الدولة الديلمي، مكان معين الدين بن خسرو الذي مدحه المختاري.

على أن هذه المآخذ لا تنتقص من قدر الكتاب والجهد الذي بذله المؤلف لإحياء الأدب الإيراني الإسلامي، من نشأته حتى الزمن الذي كتب فيه. وقد طبع الكتاب في جزأين في طهران سنة 1878م. (8) «فرهنگ أنجمن آراي ناصري» وهو آخر عمل علمي اشتغل به رضا، وكان قد قرأ قبل تأليف كتابيه مجمع الفصحا ورياض العارفين دواوين الشعراء القدماء والمحدثين، وأخذ منهم ما يقرب من مائة ألف بيت ذكرها في كتابيه، ورجع لكثير من المعاجم لفهم بعض هذه الأبيات فوجد في هذه المعاجم من النقص ما حمله على عمل معجمه هذا الذي رأى ألا يذكر فيه غير الكلمات الفارسية، ذاكرا معانيها مؤيدة بما يستشهد به من الشعر الموثوق به. وقد قدم لكتابه بذكر ما كان من عمل السابقين عليه في هذا المضمار. وبعد ذلك بحث عن الكلمات الفارسية المعربة أو التي أخذها العرب وعن المصطلحات الأجنبية التي دخلت اللغة، وما طرأ على الكلمات الفارسية والعربية من التغيير، ثم ذكر العبارات التي أساء فهمها علماء اللغة فعرفوها تعريفا ناقصا. وكتب فصلا مفصلا عن الأجرومية الفارسية. وقد قسم المعجم إلى قسمين الأول يتناول الأسماء والصفات والثاني شرح المصطلحات تشبيها ومجازا وأيد المعنى الذي ذهب إليه بأبيات مختارة من دواوين الشعراء المتقدمين.

الأشعار

وله أشعار كثيرة منها ديوانه، ويحوي أكثر من خمسين ألف بيت، ومن أشعاره بعض رسائل دينية مثل بحر الحقائق الذي قلد فيه سنائي، ومنهاج الهداية (هدايت نامه) وأنوار الولاية الذين قلد فيهما مخزن الأسرار لنظامي، ثم مفتاح الكنوز ومعراج البلاغة.

ونظم كتابا سماه «كلستان إرم» أو «بكتاش نامه» وهو نظم في أسلوب سهل يحكي قصة عشق بكتاش بن حارث لربيعة بنت كعب والنهاية الحزينة لهذين العاشقين.

النثر

وفي أثناء إقامته الطويلة في شيراز حصل على مخطوط قديم به جزء من أشعار منوجهري المتوفى سنة 420ه/1029م فجد في البحث عن بقية أشعار هذا الشاعر وهو في فارس وطهران وأعد للطبع ديوانه أو بالأحرى ألفين وثلاثمائة بيت من شعره. وقد طبع في طهران بعد وفاة رضا. كما نشر «قابوس نامه» للأمير عنصر المعالي كي كاوس بن اسفنديار.

والحقيقة أن إيران لم تشهد في الحقبة التي نتحدث عنها عالما أديبا خصص للبحث من الوقت والجهد مثل رضا قولي خان. وقد كان من التوفيق أن يكون على رأس أول جامعة أسست في إيران. فإن ثقافته الواسعة ورغبته في الإصلاح عن طريق الثقافة قد ساعدتاه على ألا يدخر وسعا في تشجيع الناشئين من الأدباء وبعث المتفوقين من الشبان إلى أوروبا للتعلم في جامعاتها.

سفارتنامه خوارزم

وإذا أردنا أن نتخذ مثلا للكتابة في القرن التاسع عشر نجد أن كتاب رضا قولي خان «سفارتنامه خوارزم» خير مثل على النثر الفني الفارسي حينذاك.

كانت خوارزم تابعة لإيران إلى حد ما، وكان ملوكها يبعثون الهدايا ويدينون بالولاء للملوك القاجاريين، وكان محمد أمين خان، والي خوارزم، قد أراد التقرب من محمد شاه القاجاري فبعث إليه بأمير من البيت المالك، كان التركمان قد أسروه، وأرسل معه رسولا من خيوه يحمل الهدايا وخطابا وديا للشاه حسب ما جرى به العرف بين البلدين. وسر محمد شاه لعودة قريبه الأسير، ورحب بالهدايا التي بعثها إليه والي خيوه وابتهج بخطابه إليه، ثم رد عليه ردا جميلا وخلع عليه لقب ملك خوارزم (خوارزمشاه). ومات محمد شاه وخلفه ناصر الدين شاه فلم يرسل ملك خوارزم سفيره مهنئا السلطان الجديد بولايته، ولكنه بعد قليل علم بمقتل حسن خان سالار أحد زعماء ثورة خراسان، فخشي أن يسترسل في غيه فيلقى ما لقي صاحبه، فبعث بضابطه آتانياز محرم يهدي ناصر الدين جياد الخيل والصقور. ورأى رجال السلطان أن الرسالة التي يحملها الرسول ليست معبرة عن صادق الولاء. ورأى الوزراء أن يوفدوا إلى خيوه سفيرا مثقفا ذا مركز ممتاز لكي يعبر لملكها عن استياء الحكومة الإيرانية من رسالته، ولكي يستميل هذا الملك إلى إيران ويعيد الصلة بينه وبين الشاه إلى ما كانت عليه من ولاء وود وينتهز فرصة وجوده فيعمل على إطلاق سراح الرعايا الإيرانيين الذين كان التركمان قد اختطفوهم من خراسان ومازندران وباعوهم كما يباع العبيد في خيوه.

واختارت الحكومة رضا قولي خان؛ وأعطوه ألفي تومان

17

لنفقات رحلته، وهدية للملك، بندقية وغدارتين على أن يقدمهما كهدية شخصية.

وأدى رضا قولي خان سفارته وعاد فرفع إلى ناصر الدين شاه تقريرا عنها هو هذا الكتاب الذي نتحدث عنه؛ سفارتنامه خوارزم.

وقد بدأ رضا كتابه بمدح السلطان ثم بين كيف استعد لرحلته وأقام خارج بيته لإعداد ما يحتاج إليه، وفقا للرسم عندهم إذا قصدوا رحلة بعيدة، ووصف مشاهد جبال البرز ودماوند والولاية التي سميت به إلى أن حدثنا عن لقائه لوالي خيوه خوارزمشاه؛ محمد أمين خان:

ذكر ملاقاة محمد أمين خان والحديث معه «وقد ترامى إلى سمع الخان ما طلبت عن أسرى الإيرانيين فبعث في طلب آنا نياز محرم، رسوله الذي عاد معي من دار الخلافة (طهران)، وكان في ذلك الوقت قائما على معاملات كهنه أوركنج. جاء إلى خيوه، وجعله ثالثنا، وأخذ يستوضحه ما أشكل عليه. وبعد عدة أيام من مجيء محرم بعث في طلبي محددا موعدا لم أخبر به، وكان العلماء والأمراء قد حضروا في أبهى زينة، وكنت مضطرب المزاج ولم يكن في وسعي أن أذهب إلى هذا الجمع الحافل، فاعتذرت بعلتي وقلت إنني لا أقدر على تلبية الدعوة فقد تجرعت مسهلا، وليس في طاقتي العبور فضلا عن الحضور.

فجاءني رسول آخر يقول إن خان الحضرة يعني خوارزمشاه ينتظر حضوركم، وإن أعيان المملكة يرمقون طريقكم. فقلت إني غير مستعد وقد كان عليكم إخباري بالأمس إذا كنتم تريدون دعوتي اليوم، ولو علمت لما تجرعت المسهل فإني اليوم أجدني غير قادر على الخروج وقد بدأت أشعر بأثر الدواء.

والخلاصة أن المجلس قد انفض، وأنهم حملوا عذري على الكبرياء و«التفرعن» والتجلل، ورموني بالجسارة وإساءة الأدب؛ لأن حكم الملك في هذه الولاية بمنزلة الوحي لا يخالف. ولكنهم سمحوا لي، حين يتحسن حالي ويصح مزاجي، أن ألتمس المقابلة.

وبعد بضعة أيام، وكان الخان في حديقة أنگور نيك المشهورة بانگريك،

18

التمست المقابلة وصحبت آتا نياز محرم. فلما دخلت حييت الخان فحياني. وبدأ يسأل باللغة التركية وكان معه ترجمان ديلمي لأنه تظاهر بعدم فهم الفارسية، فأنكرت معرفتي التركية لينقل الوسيط الحديث بيننا. فسألني عن أيام اعتكافي وكيف أمضيتها. فقلت: أمضيتها متراخيا محموما، ولم يكن لدي طبيب يداويني والمدينة التي ليس بها طبيب هي عند الحكماء بعيدة عن التمدن ولا تروق لهم. قال: فكيف برئت بعد سقم؟ قلت: بما دبرت لنفسي من دواء وافق قبول القضاء. قال: أفي إيران وطهران كثرة من الأطباء؟ قلت: نعم، في كل شارع ومحلة عيادات يطرقها أهل البلاد والغرباء فيصحون بعد مرض، ويتقاضى معظم أطباء هذه العيادات أجورهم من السلطان، ثم إن في كل فوج من أفواج الجيش القاهر طبيبا يصاحب الفوج في السفر والحضر، وهناك أطباء يعينهم الديوان الأعلى مهمتهم تسجيل أسماء الأطفال وإجراء ما يلزمهم لدفع مرض الجدري عنهم، حتى لا يصابوا بالعمى. فتعجب الخان من روايتي وتحير من انتظام الأمور في إيران. قلت: وأفواج الجيش مائة ألف لكل فوج طبيب، ومن هؤلاء الأطباء ميرزا علي نقي الذي كان طبيب فوج الأفشار، وهو اليوم في خيوه لا يجد لنفسه عملا.»

وهكذا استثار رضا قولي خان فضول خوارزمشاه فسأله عن أفواج جيش إيران، فأجابه السفير إجابة مفصلة حيرته. فقال الخان: لسنا بجاهلين أحوال إيران وسلاطين قاجار وقيزل باش، ونحن نعرف أحوال بلادكم أيام فتح علي شاه ومحمد شاه رحمهما الله. فأخذ رضا يبين له حالة الجيوش أيام هذين السلطانين وما هي عليه أيام ناصر الدين شاه من كثرة العدد والعدد الحديثة وحسن النظام والتناسق بين الضباط على مختلف رتبهم وبين الجند، إلى أن قال: «وقد علم رسولكم آتا نياز محرم بعض ما ذكرت ورأى ميدان المعسكر السلطاني الذي يحوي طابقين في كل طابق أربعمائة غرفة لسكن الجند، وأمام كل غرفة مدفعان مجهزان بأدواتهما من عرادات وبارود وذخيرة أخرى، فإذا كنت لا تعتقد في صحة ما أقول فسله يبين لك الصحيح من السقيم.» «وهناك اثنا عشر ألف رجل، على عدد الأئمة الكرام، يقيمون في معسكرهم بدار الخلافة ويتدربون صباح مساء، وينقدهم رجال القصر أجورهم كل شهر. ثم إنهم يسرحون بعد مدة ويحل محلهم غيرهم. أما هم فيعودون إلى بلادهم ويشتغلون بما يهيأ لهم من أعمال.»

وقد كان الخان يسمع حديث السفير «وهو يتفكر ويتدبر، وكان من فرط غيرته ونهاية حيرته يرفع يديه إلى صدره ويصيح ثلاث مرات «يا حافظ». لقد ألجأه الفزع والجزع إلى الله الحفيظ.» •••

ويرفع الخان رأسه ويسأل السفير عن عمر السلطان فيقول السفير إنه ولد في السادس من صفر سنة 1246ه/28 يوليو 1830م، فهو في الثانية والعشرين، وإن المنجمين قد تنبئوا بأنه سيحكم أربعين سنة محاطا «بالحشمة» والجلال. فيقول الخان إن السلطان إذن شاب جاهل. فيجيب السفير بأنه شاب كحظه السعيد وإنه ناضج الروح وله تجارب الشيخ الكامل، وإنه ليس جاهلا، كغيره من الملوك، فهو عالم بالفطرة وعقله هبة من الله. وهو من ناحية أخرى قد تحلى بالكمال صورة ومعنى وتخلى عن النقص ظاهرا وباطنا. وهو منذ ألقي إليه بعبء الملك قد صرف الهمة إلى الطاعة والعبادة فهو يتضرع إلى ربه ويخشع. وفي كل ليلة، بعد تلاوة الأوراد والأذكار، توقد في غرفته الشموع المنصوبة على عمد مطعمة بالجواهر، فليحترق بها أعداؤه كما يحرق الفراش حول النار، وتوضع أمامه كتب الأخبار والأحاديث ودفاتر القصص والتواريخ. فينفذ بصره إليها ويتأمل فيها، ويفيد من سير الأولين حكمة وعلما. وهو يشتغل بدراسة أحوال الأقاليم السبعة فهو يعرف عن ديار الفرنج والروم والروس والهند وتوران أكثر مما يعرف أهل هذه البلاد. وقد كان يدل سفيره قبل سفره على الطريق الذي يسلكه مبينا له المنازل التي فيها الماء الحلو والأخرى التي لا يشرب ماؤها، فلما اجتاز السفير الطريق رأى صحة حديث السلطان.

وكان الخان يتأثر بهذا الحديث ويصيح: التوبة التوبة، والحفيظ الحفيظ.

وبعد أن يتحدث رضا عن ناصر الدين شاه وبأنه أشرف ملوك الأرض طرا، وأنه أكثر أصالة ممن تقدمه من آل قاجار، لأنه ملكي النسب من ناحيتي أمه وأبيه، ينتقل الحديث إلى العداوة بين خوارزمشاه والسلطان.

قال ملك خيوه إنه بعث آتا نياز محرم سفيرا إلى طهران كي يحمل إلى السلطان إخلاصه وصداقته، وكذلك بعث السلطان رضا قولي إلى خوارزم سفيرا، وفي هذه الأثناء يرى خوارزمشاه جيوش إيران تسير نحو سرخس واستراباد وهذا لا يتفق والشعور بالصداقة بين حاكمين.

فأجاب رضا بأن سير هذا الجيش يهدف إلى إقرار الأمن عند الحدود وإلى رفع غائلة التركمان. «وهذه التعبئة لا تمس بلادك ولا من يخضع لك من القبائل.» وأما بلوغ النواب حسام السلطنة سرخس «فإنه واضح أن هذا البلد لا يدين لك بالولاء، مثله كمثل مرو، وأنهما أصبحا بؤرة للفتن، ولو عرف أن أهل سرخس من رعاياك لما سار إليهم أحد. ومن ناحية أخرى فإن هذه الحملة لم تسير بأمر وزراء إيران، إنما أقدم عليها حسام السلطنة بإلحاح خواقين خراسان. والدليل على أن الشاهنشاه لا يعرف أمر هذه الحملة أنكم حين عرضتم سحب جندكم إذا انسحب عسكر حسام السلطنة، قبل هذا أن ينسحب. ولو كان يستمد الأمر في هذه الغزوة من السلطان، «روحنا فداه»، لما تراجع بهذه السهولة.»

ثم يقول رضا: وحين سار حسام السلطنة نحو سرخس لم ينم أهل خوارزم ليلهم ... ولو لم يكن هناك مراعاة للمصافاة والصداقة من قبل السلطان «روحنا فداه» لدخل الجند سرخس بإشارة واحدة، ولجعلوا عاليها سافلها. ثم يحدث الخان عن الوضع السياسي لخوارزم فهي من ناحية عرضة لغارات أهالي بخارا ومرو وهراة، وهي من ناحية أخرى عرضة لغارات الروس. ثم ينبهه إلى أن حدود خوارزم قريبة من استراباد وبقية الحدود تلتقي عند دره كز وخراسان. وينصح الخان أن يتفكر فيما هو أجدى عليه. فمن الذي يستطيع عونه إذا أعوزه المدد؟ ويقول له إذا رأيت حكومة أجنبية تعرض عليك صداقتها فاعلم أنها تقدم إليك ما يتفق مع مصلحتها، والدولة التي هي أقرب إليك صديقة لأمير بخارا وهو عدوك، وأقرب دولة إلى بخارا تتودد إليك وهي لا ترجو غير مصلحتها وضرب المسلمين بعضهم ببعض. مصراع.

من أي طرف يكون القتل (قتل الكفار) فالفائدة للإسلام. «إن من بيده الأمر في بلدك لا يفكرون في واجبهم، ولا ينظرون إلى خير الدولة، وهم يبذرون بين المسلمين الشقاق والنفاق حتى أصبحوا في عين المسلمين لا يساوون حبة شعير. إن أهل إيران يسافرون إلى كل أمة، من ترك وروس وهند وفرنج، يذهبون ويعيشون أعزاء ويعودون بالعافية، إلا في بلادكم فإنهم ينهبون ويفتح رجالك أبواب الإيذاء والإجرام في وجوه أهل القبلة. وذلك مع أن لنا قرآنا واحدا وقبلة واحدة ورسولا واحدا وإلها واحدا، ولم يأت في آية أو حديث شيء مما تفعلون.»

فأجاب الخان بأن علماء الدين في بلده يقولون إن سب الشيخين (أبي بكر وعمر) كفر، وجزاء الكافر معلوم. وقد ابتدع أهل إيران البدع وسبوا أكابر الصحابة ولعنوهم، ولذا فهم، بفتوى المفتين في بخارا وخوارزم، روافض كفرة، فلزم أخذ أموالهم ونهبها ثم لزم أسرهم.

فأجاب رضا قولي:

إنني من رجال بلاط ملك إيران وأتحدث بلسان الدولة. إنما تكون الأسئلة والأجوبة في أمور الدين مع علماء المذهب، وليس لي دراية كبيرة بهذا البحث. فإذا كان المقصود تحقيق المذهب والبحث فيه لوجب بعث أحد القضاة أو المفتين. والواقع أن الحديث في هذا الموضوع قد دام سنوات وتبودلت فيه، بين الطرفين، الرسائل والمقالات والكتب والخطابات ولم ينتج هذا كله شيئا. مصراع.

هذا خيط بعيد الطرف.

وبعد أن تحدث رضا عن مذهب الفرس أيام الخلفاء وأنهم كانوا من أهل السنة والجماعة، وذكر الحرب بين علي ومعاوية ثم مقتل الحسين وقال إن هذا أوضح من الشمس، وبعد أن تحدث عن العباسيين وكيف اضطهدوا أئمة الهدى علنا وخفية قال: «وإذن فقد كان بين الخلفاء خلاف، ولم يكن العباسيون متفقين مع الأمويين في الرأي، ومع هذا فإن أهل السنة والجماعة قد اعترفوا بهم جميعا وبأنهم أولو الأمر وخلفاء الله ورسوله.

وأما السب والرفض فقد صدر أولا عن معاوية وبني أمية في حق حضرة أمير المؤمنين أسد الله الغالب، فقد سبوه ولعنوه من فوق المنابر سبعين سنة، حتى منع عمر بن عبد العزيز هذا السب. ثم كثرت المذاهب كما هو موضح في الملل والنحل. ظهر الخوارج والمعتزلة والأشعرية وطائفة الزيدية والإسماعيلية والأفطحية. ووجد الإمامية أن «الأمور خراب وأن البحار سراب» فعملوا بالحديث: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.» فركبوا سفينة الولاء لأهل البيت كي ينجوا من طوفان الخلاف.

أما قصة الرفض والسب فكانت في قديم الأيام وخاصة أيام الدولة الصفوية، فقد برزت وظهرت حتى حرمها نادر شاه الأفشاري فزالت هذه البدعة من بين المسلمين. وجاء من بعده السلاطين الألوارية (الزند) ولم يكن لديهم علم بما يدور، فغالى جهلاء العلماء في هذا الأمر. ومع ما كان يبديه حضرة الخاقان صاحب القرآن نور الله مرقده «فتح علي شاه» من حب علماء الدين وتشجيعهم فإنه منع بعض قواعد الرفض.

وجاء محمد شاه طاب ثراه فأمر أمرا نافذا بتحريمه.

وفي عهد هذا السلطان حامي الإسلام «ناصر الدين شاه» لا يجرؤ أحد أن يقول مثل هذا القول الواهي، وإذا أطلق أحد لسانه بالتشنيع على الخلفاء فإن رأسه يقطع.»

قال الخان وقد أعجبته سيرة آل قاجار في هذا الموضوع: «إذا كان الأمر كذلك فهو خير.»

ويسأل الخان فيقول: إن سبب عداوتنا لأهالي إيران هو اتهامنا لهم بالرفض والسب، فما سبب عداء القزلباش لنا؟ فأجاب رضا: إنه كما قيل لكم إن أغلب الإيرانيين رافضة فاتخذتموهم أعداء لكم فكذلك قيل لأهالي إيران إنكم وأهل ولايتكم لا تحبون أمير المؤمنين أسد الله الغالب علي بن أبي طالب وأولاده الأمجاد.

فقال الخان: نعوذ بالله أن نكره عليا، إنا نقره بأنه رابع الخلفاء وأعلمهم، ولو أخذوا بمشورته وعملوا برأيه لما نشب بينهم خلاف. وإن ذكر الخلافة والخلفاء مشروح بالتفصيل في روضة الصفا.

فانتهز السفير هذه الفرصة ليشرح المذهب الديني في إيران ومذاهب الغلاة التي بها وهي المذاهب التي لا يقرها أهل الرأي في الدولة، ولكنهم يغمضون العين عما تقول به لأنهم يستغلون غلو أهلها في التشيع لعلي وآله وبغضهم الشديد لأهل السنة فتتخذ الدولة منهم جنودها كلما دعا الأمر لقتال الترك أو التركمان السنيين، قال:

لقد ولدت في إقليم فارس وشببت فيه، وتنقلت في سواحله وبنادره وبها نحو ثلاثين ألف نفس على مذهب الشافعي، وكذلك يكثر أهل السنة والجماعة في لارستان وسائر أنحاء فارس، وهم يعيشون في سلم وهدوء تامين، وقد عشت بينهم على عقيدتي وما أحببت بحث موضوع المذاهب.

وفي إيران طائفة تسمى الإمامية، وهي على حق فيما تذهب إليه، ويفحم علماؤها علماء أهل السنة كلما تناظروا. وهم يقولون إن النبي، وهو في مرض الموت، طلب دواة وقرطاسا ليكتب وصيته حتى لا تضل الأمة من بعده، فمنعه عمر بن الخطاب منعا صريحا. وهذا أمر مشهور. ثم إنهم يقولون إذا كان عمر مخلصا لرسول الله

صلى الله عليه وسلم

فلماذا تركه ميتا وجرى إلى سقيفة بني ساعدة وأخذ يحمل الناس على اختياره خليفة؟ وأكثر من هذا فإن الخلافة إذا كانت بالوصية فإن الرسول

صلى الله عليه وسلم

قد أوصى بعلي من بعده في غدير خم، فلماذا لم يمكنوه منها؟ وإذا كانت بإجماع العامة فلماذا عدل أبو بكر عن الإجماع وأوصى بأن يكون عمر خليفة من بعده؟ وإذا كانت الوصية هي الوسيلة للخلافة فلماذا عدل عمر عن الوصية وعن الإجماع وأمر بالشورى في أمر من يولى بعده؟ وفي إيران مثل مشهور يقول باستحالة وجود جوين على سقف واحد؛ وهكذا تجد على هذا السقف أهواء كثيرة.

وطائفة الإمامية هذه ترى النجاة في حب الرسول وآله ويقولون بالأئمة الاثني عشر ويسيرون وفق آيات القرآن والحديث وفيهم زهاد وعباد وعلماء وفضلاء كثيرون.

فلما سمع الخان هذا البيان تفكر قليلا ثم قال: إنهم يعجبون بعلي.

قلت:

وفي إيران طائفة غلوا في الولاء لعلي وفضلوه على الخلفاء الثلاثة ويسمون بالمفضلية.

وطائفة أخرى جعلت عليا في مرتبة واحدة مع الرسول

صلى الله عليه وسلم

ولا تفرق بينهما إلا بما بين النبوة والولاية من فرق.

فقال الخان: إن اعتقادهم عجيب.

قلت:

وطائفة أخرى تجعل من علي إلها وتسميه موجد الكل.

فغضب خان خوارزم، وقال: نعوذ بالله من هذا الاعتقاد الفاسد، إن هذه الطائفة كافرة، فلماذا لا يقضي ملك الإسلام بقتلها.

قلت:

إنهم لا يجهرون بعقيدتهم وهم يوافقون المسلمين في الظاهر. ثم إن لهم أتباعا في سائر البلاد. وهم في إيران كثيرون فهم أكثر من مائة ألف أسرة وغالبهم يشتغل في الديوان وعند السلطان وبعضهم فرسان، ومنهم عشرون أو ثلاثون ألفا موظفون في الدولة، وآخرون يعملون في الجيش كمشاة. فكلما أشار السلطان ذو الجاه بأن تحارب هذه الطائفة أهل الروم (الترك) أو أهل بخارا أو التركمان، فإنهم يقدمون بشوق ما بعده شوق، وعداوة لا توصف، على حرب أهل السنة، لأنهم يرون في قتلهم ثوابا عظيما ويستحلون دماءهم، وذلك من غير أن ينقدهم السلطان أجرا أو يجري عليهم شيئا.

فثارت من ذلك أوهام الخان واضطرب خاطره فوضع يده على صدره في غير وعي وأخذ يكرر: التوبة التوبة والحفيظ الحفيظ، وقال:

لماذا لا يأمر سلطان إيران بإهلاك هؤلاء القوم وإبادتهم؟

قلت: إن قتل مائة ألف من رعاياه وخدمه ليس أمرا يسيرا. وهو يبعث في البلاد فتنة عظيمة. ثم قلت:

وفي إيران أناس على كل الملل، من النصارى واليهود والمجوس والهنود، ولهم في كل مدينة شوارعهم وبيوتهم ومعابدهم وكنائسهم، وهم يعملون بتعاليم أديانهم ويدفعون الجزية. ولهذا إذا سمعتم أن في إيران جماعة من الرافضة فاعلموا أن أهل إيران جميعا ليسوا من هذه الفرقة، ففي إيران كثير من كل الملل والنحل، بيت.

ليس في الطوق قتل الناس ولا في المكنة القضاء على العالم.

ثم أخذ الخان يسأل السفير عن مذهب الخوارج، واستطرد السفير فحدثه عن الخلفاء الإسماعيلية في مصر والمغرب ومحاربتهم للعباسيين ثم حدثه عن ملاحدة قوهستان وعن البابية والقضاء عليهم.

وقد انتهى هذا الحديث بإعجاب الخان بالسفير وود لو استطاع أن يبقيه في بلاطه لتفيد منه البلاد في أمور الدين والدنيا. ثم أخذ يسأله عن طرق خوارزم وعن الأولياء الذين زار قبورهم، وكان رضا يجيبه ويقرأ عليه بعض أشعار للشيخ نجم الدين كبرى الذي زار قبره. فقال الخان إنه لم يأت إلى خيوه سفير كهذا الرجل ... ثم شكره لأنه أزال ما علق بنفسه من سوء الظن بالمذهب الذي يتبعه الإيرانيون، وسأله أن يتحدث في بلاده بما يرفع الشبهة في أهل خوارزم «قل لهم إنا مسلمون نسير على جادة السنة والجماعة، وإن الغلو الذي هو من جملة البدع التي لا نفع فيها محرم في ولايتنا، وإنا لا نعاقب أو نقتل النفس بغير إجازة الشرع وفتوى القاضي، وإنا مخلصون لأمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ولأولاده.»

وانتقل الحديث بين الخان والسفير عن أسر الإيرانيين فتنصل الخان من تبعته ... ثم طلب السفير أن يعيد الخان هؤلاء الأسرى إلى إيران كهدية منه إلى السلطان. فإن الاصطبلات السلطانية مملوءة بأحسن الخيول النكية، وكذلك حوت خزائنه كل ما يشتهى، فإهداء رعاياه الأسرى خير ما يهدى إليه. وحين سأل الخان عن طريقة استرداد هؤلاء الأسرى ممن اشتروهم من الفلاحين (البخارا) أجابه السفير بأن يشتريهم بنقد من عنده وألا ينظر إلى نفع أو ضرر فإن السلطان قادر إذا أزم الخان أمر أن يعينه بعشرة آلاف أو عشرين أو ثلاثين ألفا من جنده، وأنه قادر على أن يخضع مدينة مرو وينزل له عنها «وكذلك طلبتم أن ينسحب النواب حسام السلطنة عن سرخس ففعل، وما هرع إليكم أهل سرخس إلا لخشيتهم جنود إيران.»

فاقتنع الخان بما قال السفير ووعد بأن يزداد صلة بآل قاجار؛ فقد جاملوه في سرخس. وأجاب السفير إلى طلبه. •••

وقد ذكر رضا قولي خان في كتابه ما لقيه في الطريق، فوصف المزارات التي زارها وذكر أشعار أصحابها إذا كانوا شعراء فمن ذلك وصفه لقبر الشيخ نجم الدين كبرى، ولقبر فخر الدين أبي عبد الله القرشي التميمي البكري، وقد ذكر بعض رباعيات لهما. وذكر كيفية تولية الخان عرش بلاده، فإنه حين يموت الخان يحضر القضاة والعلماء والأمراء والوزراء للتعزية ثم يختارون ابنه الأرشد ليلي العرش، فيظهر هذا الاجتناب والاستغناء فيلحون عليه حتى يقبل ما داموا مجمعين على اختياره وخاضعين لأمره حتى لو كان بالقتل. ثم يأتون ببساط أبيض ويضعونه في وسطه ثم يرفعونه وقد أمسكوا بأطرافه ويلقون الخان الجديد على العرش بقوة، فيقع على وجهه أو تسقط عمامته. وحينئذ يقطع كل منهم بسكين معه قطعة من هذا البساط ويأخذها معه.

ويتحدث عن الجيش وطريقة جمعه وصلة الخان بملازميه، ويقول إن الرقيق من الإيرانيين في خوارزم أكثر من أهلها، وقد رأى عند أحد الأزبكيين خمسين رقيقا من الإيرانيين. قال ولو وجد هؤلاء تأييدا من حكومة إيران لثاروا ضد سادتهم.

ويصف ما لقيه من مصاعب في الطريق: «وكنا نسمع في مسيرنا بثورة يموت

19

وقيامهم بثورة على حاكم استراباد، وشاع وتواتر أنهم ينتظروننا ليمنعونا من السفر ويأسرونا؛ ولذا رأيت من الحزم ألا أبعث أمامنا رسولا إلى بكلر بكي، فإن التركمان سيعلمون من ذلك يوم مجيئنا فيسرعون إلينا. وبعد أن اقتربنا من نهر إترك، حيث يسكن غالب التراكمة، وهم يعيشون على قطع الطريق والغارات، تناولنا العشاء ورأينا أنه لا يجدر بنا أن ننام. فلما انقضى من الليل ساعتان أو ثلاث عزمت على عبر نهر إترك مع رفاقي ومن صاحبوني في السفر، وذلك بغية الوصول إلى جرجان واستراباد. فلم نكد نسير في الطريق قليلا حتى ظهرت آثار سنابك الخيل كثيرة، فدلت على أنهم جاءوا من حولنا ومضوا. فبدا لكل منا ظن فقال ما أراد. وخطر لي من القرائن الخارجية والدلائل العقلية والسمعية المتواترة أن تراكمة إترك الثائرين قد خال لهم أن يأسروني، فوجب أن نسير في طريق غير مألوف من حول منازل هذه الطائفة. فلما بلغنا نهر إترك كانت ضوضاء أهل القافلة من بخارى وخيوقي (نسبة إلى خيوق أو خيوه) وكابلي وهدير الجمال وصهيل الخيل وغلغلة الحضور، كل هذا كان له في الجبل والنهر صدى أي صدى. وعلى أي حال فقد سرنا في الطريق الأيسر وكانت أرضه ملحة وولينا من هذا المكان المخوف ولو أن كل هذه المسالك خطرة مفزعة، متوكلين على الله، وقصدنا جرجان واستراباد .»

وكان قد عرف زعيم يموت، آتاباي قراخان، وتعرف عنده بالأمراء والقاضي فرأى أن ينزل عند واحد منهم، وكان يجهل ما يجري في استراباد. وفي هذه الأثناء قابله رجل فأنبأه بأن بكلر بكي قد قبض على قراخان وأن أمامهم ألفين من الثوار يسيرون لتخريب جسر نهر جرجان، «فبهت رسول الخان ومن معي وتحيروا جميعا. فقال أحدهم إن الأولى أن نسير في الطريق الأيسر لأنه غير مطروق فأمامنا فرسان سيلاقوننا، وإن دردي قولي خان قد ألقى خيامه هناك، وإنه سيسعد بورودنا مخيمه، وإذا ألجأتنا الضرورة فإنه يصحبنا وفرسانه إلى استراباد.

ولاحت لنا من بعيد خيام وسرادقات فاتجهنا نحوها وحثثنا السير إليها، عبثا، لقد ظننا السراب ماء والقطران كافورا عبقا، فبعثنا من لدنا رسولا يستطلع الخبر فعاد يخبرنا بأن الخيام ليست لدردي قولي خان ولكنها خيام يلقاي. وكان العرف عند التراكمة أن من يفد عليهم من عدوهم فهو آمن ولم يكن بد من التقدم نحوهم، بين اليأس والأمل، وترجلنا. فأحضروا لنا خبزا وأكرمونا. وكان من بينهم كثير من الأسرى، من أهل أردو (إيرانيين) ... وآثرنا الرحيل على المكث، ولما ابتعدنا مرحلتين أو ثلاثا وجدنا أنهم سرقوا بندقية محمد شريف باي في الفترة القصيرة التي توقفنا فيها عندهم، وأنهم أنبئوا الأعداء بأمرنا.»

وسار رضا قولي خان فرأى هذه القبيلة من ورائه تسير، تبغي سرقته وتدعي حراسته. وفجأة قام عليهم التركمان الأعداء وأرادوا أن يأسروه فقاتلهم ثم جمع أمره ورجاله واستعدوا للقتال من جديد، حتى إذا جن الليل تدبر موقفه فرأى القوم لم يناموا ليلتين وأن الطعام نفد وليس في جرارهم ماء، وأبصر فوجد أهل القافلة يتطلعون إليه وقد ترقرق الدمع في أعينهم وأنه هو سبب هذا البلاء كله فأخذ يفكر في أن يسلم نفسه أسيرا، ويكفي الله المؤمنين القتال. ولكنه كان قلقا، فإن الحكومة الإيرانية ستبحث عن سفيرها وتنقذه من الأسر كي تدفع الإهانة التي لحقتها بالعدوان عليه. ولكنه يخشى أهل السوء من الحكام، فمنهم من لم يكن راضيا بسفارته هذه؛ وإذن فقد تعدل الحكومة عن البحث عنه وتتركه يلقى ذل الأسر وهوان الرق بحجة أنه لم يكن موفقا في سفارته بل إنه زاد الأمور تعقيدا. أخذ يفكر في هذا كله وهو متعب مضنى، وقد جلس بين الجمال يتفكر ويتدبر ويترقب. وإذا بالقاضي الذي لقيه عند قراخان يحضر إليه ويعرض المساعدة، ويتصل أمره بزعماء القبائل وينقذ ومن معه ويبلغ استراباد. •••

وقد انتهى أمر خان خوارزم بالقتل وعاد من سلم من رجاله إلى خوارزم، أما رأس الخان فقد حمل إلى طهران. ويختم رضا قولي خان رسالته فيقول ناظما:

شاع النواح والأنين في خوارزم كلها.

وترددت الآهات والبكاء في كركانج.

إن تركستان تغط بالحسرات كأنها جيحون،

كلها، من بخارى حتى فرخار.

أناتهم «باردة» كرياح آذر (نوفمبر-ديسمبر)،

وعيونهم «مشبعة بالدمع» كسحاب آزار (مارس).

إنهم كالبوم في الخراب الشوم،

قد أضناهم فرط الألم.

وقد تذلل الصعب من هذا الأمر،

من تخت كسرى وتدبير الدستور.

20

القائمقام

وهو الشاعر الذي تحدثنا عنه في آخر فصل الشعر، والذي امتاز برسائله التي كتبها أثناء وزارته لفتح علي شاه، ومنها رسالته المشهورة التي بعث بها هذا السلطان إلى قيصر روسيا معتذرا عن قتل الإيرانيين البعثة السياسية الروسية في إيران، وقد بعث بهذه الرسالة مع ولي عهده عباس ميرزا نائب السلطنة. قال فيها:

وقد بينا في كتاب صادق، مرقوم ومعلوم، مفاجأة هذا الحادث، وأن أمناء الدولة لم يعرفوا من أمره شيئا. وثانيا فإنه لما بين هاتين الدولتين البالغتين السماء علوا، من الوحدة التامة والوفاق فقد أخذنا على عاتقنا أن نثأر لهذه البعثة فأوقعنا الجزاء على كل من لحقته أدنى شبهة من أهل هذا البلد في المشاركة في هذا الجرم القبيح والإثم الشنيع، بالزجر والحد والإخراج من البلد. وأخذنا محافظ المدينة وعمدتها بأنهما علما بالحادث متأخرين، ولأنهما لم يحكما الأمر في المدينة قبل وقوعه، فعاقبناهما بالعزل والتعزير. وأكثر من هذا فإنا عاقبنا ميرزا مسبح، مع ما بلغ في دين الإسلام من مرتبة «المجتهد»، وهو قدوة الخاصة والعامة، وذلك لأن أهل المدينة كانوا ملتفين حوله في المجلس وقت اغتيال البعثة. ولقد عملنا بما بين الدولتين من اتحاد فلم نعف أو نغمض العين ولم نقبل أي شفاعة أو وساطة من أجله. وإذ رأينا لزاما علينا أن ننبئ الأخ الطيب السيرة فقد حررنا هذا الكتاب معبرا عما نكنه من الصداقة، وتركنا التفصيل لولدنا المؤيد الموفق نائب السلطنة عباس ميرزا. آملين من أعتاب الله أن يسدد وداد هاتين الدولتين الأبديتي البناء، نحو الترقي والازدهار، وأن تتصل روابط الصداقة والإخاء بين الحضرتين وأن يتأكد بعث الرسل وتبادل الرسائل ويتضاعفا والعاقبة بالعافية.

وأكتفي بهذا القدر عن الكتابة وأنتقل إلى القصص. (2) القصص

وليس القصص جديدا في الأدب الفارسي، فمنذ زمن بعيد والإيرانيون يعنون بالعاشر من محرم ويذكرون فيه قصة الحسين ويبكون، ومنذ زمن بعيد أيضا والفرس يعنون بالتاريخ القصصي ويأخذون في هذا من كتب سابقة على الإسلام وهي كتب «خداوند نامه» أي سير الملوك، ونظم الشعراء قصصا مأخوذا عن اللغة اليونانية، مباشرة أو بالواسطة، كقصة سلامان وأبسال التي ذكرت في الجزء السابق من قصة الأدب، كما نظموا قصصا دينيا كيوسف وزليخة، هذا عدا الحكايات التي قصد بها ضرب المثل في الأخلاق.

ولكن القصص الإيراني في القرن التاسع عشر أخذ طابعا جديدا، فإن الأدبيات الفرنسية ومعظمها قصصي، قد نقل إلى اللغة الإيرانية، فقرأ الأدباء قصصا لموليير وفولتير وغيرهما، وأراد البعض أن يأخذ موضوعا اجتماعيا ويضع عنه قصة على المنوال الذي رآه عند أدباء أوروبا. ومن هذا القبيل ما نشر باللغة الإيرانية من قصص، وقد ظهرت هذه القصص أولا في أذربيجان، باللهجة الأذرية، ثم نقلت إلى الإيرانية ونشرت في طهران سنة 1874م، في مجلد يحوي سبعا منها.

ولست في حاجة إلى تلخيص كل هذه القصص. وحسبي أن أذكر فكرة عن واحدة منها لنرى طريقة التفكير والهدف الذي يرمي إليه الكاتب، وقد اخترت قصة الملا إبراهيم خليل الكيماوي.

وقد قصد مؤلف القصة، ميرزا فتح علي در بندي، إلى محاربة فكرة استخراج الذهب والفضة من النحاس، وكانت شائعة في إيران في ذلك الوقت، شيوعها في مصر وبلاد الشرق عامة. وكانت هذه الصناعة قائمة على الدجل والاستخفاف بعقول الناس وابتزاز أموالهم. فأخذ المؤلف الفكرة وجعل روايته في أربعة فصول:

قصة الكيماوي

1

يجري المنظر الأول في بيت الحاج كريم الصائغ، وقد دعا إلى بيته جماعة من أصدقائه ليتعارفوا إلى الشيخ صالح. وكان الحاضرون من الطبقة الوسطى في إيران، فمنهم من كان أبوه من رجال الدين «ملا» وأخذ عن أبيه وقار المظهر، ومنهم طبيب يعتمد على ضياع زوجه، ومنهم رجل من الملاك. فلما اجتمعوا دخل عليهم شاعر لم يكن رب الدار دعاه، هو الشاعر نوري، ولكنهم رحبوا به فدخل وجلس بينهم.

وأخذوا يتحدثون عن الملا إبراهيم الخليل وكيف يجعل النحاس فضة ويبدل فقر الناس غنى، ويضاعف لهم الثراء مرات. فأخذ كل منهم يتفكر في كيفية الحصول على أكبر قدر ممكن من النحاس، ليصيره الكيماوي بإكسيره فضة براقة.

وقال ابن الملا، الوقور، إنه يعرف رجلا يقرضهم من المال ما يشتهون ويتقاضى فائدة قدرها 12 في المائة واسمه الحاج رحيم، فاطمأن الجمع وأخذوا يتزايدون في القرض الذي يطلبون.

وفي هذه الأثناء يبلغ ضجر الشاعر أقصاه، فينبري فجأة إلى قراءة قصيدة كتبها في غزوة حدثت منذ ستين عاما. ويغضب الحاضرون، ويطلب المضيف من الشاعر أن يطوي الشعر فليس هذا أوانه، ويدافع الشاعر بشاعريته عن القصيدة، فيحدثه المضيف عن الكيمياء والإكسير والثراء فينكر الشاعر هذا القول ويرفع الصوت قائلا إن مهنة كل رجل هي إكسيره، وهي الوسيلة لعيشه. وأخذ يبين عيوب الحاج إبراهيم الخليل ويكشف عن خداعه. وعاب على الشيخ صالح قسمه بأنه رأى الكيماوي بعينيه وهو يصير النحاس ذهبا.

ويهزأ الحاضرون بقول الشاعر ويسأله كل منهم عن عجز الإكسير الذي له عن أن يهيئ له الحياة الهادئة.

أما الصائغ فيسأل الشاعر كيف ينكر وجود الإكسير الساحر، ويأخذ عليه قوله إن مهنة كل رجل هي إكسيره. قائلا إني صائغ وأعجز عن كسب ما يفي بنفقات بيتي اليومية فأين إكسيري؟

ويجيب الشاعر بأن الصائغ لم يتحر الأمانة في صناعته وأنه كان يبدل الذهب الذي يعهد إليه به بالنحاس والقصدير، فكشف الناس زيفه وولوا عنه، فكسد سوقه، ولو كان أمينا لأثرى من صناعته.

فيسأله الطبيب عن التضييق في رزقه؟

فيقول الشاعر: إنك تركت مهنتك وامتهنت ما ليس لك به علم. لقد كان أبوك حلاقا بارعا فجمع من صناعته ثروة، ولقد رباك ونشأك لتخلفه في مهنته ولكنك آثرت اتباع طريقة حلاقي تفليس، فاشتغلت بالطب ولا دراية لك به، فقتلت من الأنفس ما قتلت فانصرف الناس عنك. وها أنت نسيت حرفتك الأولى ولم تفلح في الحرفة الثانية.

وهنا يسرع الرجل الوقور ابن الملا ويقول لو صح قولك لكنت أنا «قارون»، وها أنت تراني لا أملك شروى نقير.

فيقول الشاعر: إن لك من صحتك وبنيانك ما يؤهلك لأن تكون مكاريا، ولكنك رأيت أباك «ملا» فاخترت أن تكون «ملا» مثله. ولقد كان أبوك مجدا في التحصيل قادرا على الإفادة من القراءة فكان من حقه أن يكون «ملا». أما أنت فتجهل كتابة اسمك فكيف تتعلم ثم تعلم. لقد حسبت كفاءة العلم كهذا الثوب من الفراء الذي ورثته عن أبيك، فلم تلق من الناس تقديرا، ولو عملت على كسب قوتك مما وهبك الله من بسطة في الجسم وقوة وعملت مكاريا لكسبت في حياتك ما يكفيك ويغنيك.

فانبرى صاحب الأملاك يسأله عما حال دون ثرائه.

فقال الشاعر: كان عليك أن تنمي ثروتك بمراعاة زرعك وحصادك، ولكنك قضيت وقتك في سخف الحديث، وإنك لتقدم على أمر فلا تتمه وتنصرف إلى سواه، تغتاب الناس وتثقل على الحكام بما تبذل من وساطة لحماية أهل السوء وإيذاء الأبرياء. وقد آل أمرك، لسوء سيرتك، إلى الحبس ثلاث سنوات، فبذلت من أموالك لتفك قيدك، أتريد أن تنفق من رأس مالك ثلاث سنوات وأن تزداد ثروتك وينمو دخلك! وها أنت تبحث عن الثراء عن طريق الاستدانة وتبديل النحاس. مثلك كمثل مشهدي الجبار؛ التاجر الذي دفعه حرصه على جمع المال، إلى أن يقرض الناس بالربا الفاحش ليصبح من ذوي الثراء، هيهات له اليوم أن يسترد ما قدم للناس.

وهنا يصيح الصائغ ويسأل الحاج نوري الشاعر، بأنه وقد بين عيوب الحاضرين جميعا وانصراف كل منهم عن الطريق السوي للعيش الهادئ الناعم، أن يبين لهم سر فقره وأنه إذا حصل على العشاء لا يجد ما يفطر به. فأين الإكسير والشاعرية في برجها لم تضل؟

فيقول الشاعر: إن شاعريتي هي إكسيري في الحياة. ولكنها كهذا الإكسير الذي تتحدثون عنه يلزمها المعدن الذي تتجلى عليه. والمعدن عندي هم الرجال الذين يستمعون إلى الشعر ويقدرونه ويكافئون الشاعر على إبداعه، فإذا كان الناس من أمثالكم فهل تريد لهذه الشاعرية أن تسد حاجتي وتسعدني كما سعد الشعراء من قبل؟

وصاح الجميع بالشاعر وطردوه فخرج وهو يطوي القصيدة، ويقول: إن قول الحق مر.

واتفق الحاضرون على تهيئة النقد النحاسي واقتراضه من الحاج رحيم والذهاب إلى الملا إبراهيم الخليل.

2

وينتقل المنظر الثاني إلى تل تبدو فيه الطبيعة وقد بلغت غاية الجمال، وهناك خيمتان، وعلى بعد قليل منهما كوخ من الخشب يرى في داخله موقد كبير، وبجانبه كور وسبائك نحاس متكتلة. وأمام الخيمتين خيمة ثالثة صغيرة. أما الخيم فواحدة لسكن الملا خليل إبراهيم، والثانية لمساعده الملا حميد، والثالثة للخادم الدرويش عباس، وقد امتلأت بالأدوات والعدد.

وكان الكيماوي يعلم بمجيء الجماعة في هذا اليوم فاتفق مع مساعده على أن يقابلهم وأن يخبرهم أن الفضة قد بيعت، وأن الدفعة التالية قد وعد بها جماعة أخرى، وأنه لا يقبل منهم نحاسا قبل ثلاثين يوما. فإذا طلبوا مقابلة الكيماوي فعلى المساعد أن يخبرهم أنه معتكف ثلاثة أيام يصلي فيها ويدعو ربه ولا يقابل أحدا.

ويحضر الجماعة في المساء فيخبرهم المساعد بما اتفق عليه مع الكيماوي، ولكنهم ينتظرون.

وفي هذه اللحظة يخرج الدرويش عباس من خيمته، وهو شاب في الثلاثين من عمره أصفر الوجه، يتدلى شعره على كتفيه، وقد أطلق لحيته وحلق شاربه، ولبس فوق رأسه طرطور الدراويش، وظهره مغطى بجلد نمر، وقد أمسك بإحدى يديه بوقا وتحت إبطه ديك أحمر الريش، وكان يصيح بصوت عال:

يا هو يا حق!

ثم سار بجوار الخيام وعلى مسافة قصيرة منها دق وتدا ثم نفخ في البوق ثلاث مرات فكان للصوت صدى بعيد تردد في الوادي الفسيح. ثم شد الديك إلى الوتد، وتلا بصوت عال ثلاثة أبيات من شعر سعدي. ثم نفخ في بوقه ثلاث مرات أخرى وخلع جلد النمر وطرحه على الأرض على عشر خطوات من الديك ثم جلس وأخذ يصيح في صوت رهيب: يا حق يا هو. ثم جلس على ركبتيه فوق الجلد.

ورأى الجماعة هذا المنظر وسمعوا الدرويش فوقفوا مشدوهين. فلما خيم السكون على المكان أخذوا يلحون في الأسئلة على المساعد. وسألوه عن الدرويش والديك فقص عليهم أمرهما وهو يضحك من جهلهم. إن هذا الحشيش الذي ترونه هو عنصر أساسي في الإكسير وهو لا يوجد في غير هذه التلال. ولا يعرفه أحد غير الملا إبراهيم الخليل، وهو ينمو أثناء صياح الديك، فواجب هذا الدرويش هو أن يأخذ الديك كل ليلة ثم يتلو المراسم ويربطه ثم يراقبه طول الليل ليبعد عنه الثعلب وابن آوى. فيتعجب الجماعة ويصيحون في نفس واحد الله أكبر والحمد لله.

3

والمنظر الثالث في خيمة الملا إبراهيم الخليل، وهو يجلس إلى القبلة وفي يده مسبحة بها ألف حبة، وهو يتمتم بالصلاة وأمامه مساعده وقد وضع يديه على صدره.

ويتحدث إليهم الكيماوي ويعتذر إليهم بما سبقه مساعده إليه، ويقول إن الإقبال على الفضة شديد وإن الناتج يباع مقدما، وإنه لم يخبر الملا حميد مساعده بصفقة عقدها مع اليهود لأنه يبغضهم، ولكنه قد وعدهم ووعد الحر دين عليه. وهنا يحاول الملا حميد أن يقاطعه مظهرا التحامل على اليهود، فيسكته الكيماوي الذي يبدأ في شرح كيفية استخراج الإكسير مؤكدا لهم أنها مسألة علمية بحتة وليست إلهاما يلهم أو وحيا يوحى، وأنه بشر، بشر مثلهم، لا يبغي غير صحبة الأتقياء ويطمح إلى تأدية صالح الأعمال، فيرضي ربه أولا ويتعمق في علم الكيمياء ثانيا.

ويتوسط الملا حميد، المساعد، لدى أستاذه بحجة أنهم مسلمون وأنه وعد اليهود ولا يستوي المسلم واليهودي، ويأبى عليه سيده هذا التعصب، ويؤكد أنه لا يعدل عن كلمته ولو أخذ مليونين مقابل الخلف ... ولكنه في نهاية الأمر يرى أمرا وسطا، ثم ينظر إلى الجماعة ويبدي عدم المبالاة بنقدهم ويقول أعطوه للملا حميد وعدوه له وعودوا بعد ثلاثين يوما ويستأذنهم كي يصلي صلاة الظهر.

وينصرف الجماعة بعد أن هدأت نفوسهم بالحل السعيد.

4

وتنقضي الأيام الثلاثون ويرى الملا إبراهيم الجماعة قادمة من بعيد في الصباح الباكر فيسرع إلى ارتداء ثوب أبيض ثم يشمر أكمامه ... ويخرج من مخيمه وينادي الملا حميد.

ويعد هذا الموقد وتشتعل النار وبجانبها أدوات المعمل والبوتقة فوق النار تفور، والملا إبراهيم منهمك في العمل بكل وعيه.

وأقبل الجماعة فحيوا بتحية الإسلام، فتجهم وجه الملا إبراهيم وصاح: لماذا لماذا؟ ماذا جاء بكم اليوم، يا للمصيبة، أي بلاء يصب فوق رأسي انصبابا، أجئتم لتفسدوا عملي، أجئتم لتضيعوا سدى جهدي من أجلكم، وا مصيبتاه! وا مصيبتاه!

ويتساءل الجماعة في دهشة: ماذا حدث؟ فيخبرهم الكيماوي بأنهم جاءوا في اللحظة التي يتفاعل فيها الجوهر فيخرج الإكسير، والشرط ألا يقرب أحد البوتقة قدر فرسخ، وإلا تحول الإكسير إلى غاز متصاعد لا خير فيه ولا جدوى.

وفي حسرة وخيبة أمل وسوء طالع يقول الجماعة إنهم أتوا في الموعد المضروب.

فيقول الملا إبراهيم إني قلت بعد ثلاثين يوما فالموعد غدا وليس اليوم، ثلاثين يوما كاملة. ويتساءلون. هل من مخرج من هذا المأزق؟ فيجيب بأن عليهم ألا يغادروا المكان وأن يصلحوا ما دبرته الصدفة السيئة، وذلك بأن ينتظروا الفترة التي يعد فيها الإكسير في البوتقة، على ألا يتخيلوا القرد أو صورة له أو شبيها به، وإلا فإن الإكسير الذي بذل شهرا كاملا في إعداده يصبح في لمح البصر هباء منثورا. فأجاب الجماعة بأن الأمر يسير التحقيق. ولكن الطبيب لا يقدر أن يبعد صورة القرد عن مخيلته فيصرح للكيماوي بما يرى فينهره هذا ثم يأمر مساعده بأن يشتد في نفخ الكور، وتتراءى صورة القرد أمام الجماعة فيصيحون بما صاح به زميلهم ... وبينما هم في حيرة وذهول من صورة القرد التي تقفز أمام أعينهم من شدة ما فكروا في إبعادها عن خواطرهم إذا بالملا إبراهيم يلقي بعض المواد في البوتقة فتنفجر ويخرج الإكسير فيدوي صوته دويا شديدا، ويرتمي المساعد إلى الوراء فزعا، أما الملا إبراهيم فيلقي بنفسه على الأرض ويضرب ركبتيه، ويلتفت إلى الجماعة ويدعو الله أن يخرب بيوتهم ثم ينهال عليهم شتما وسبا، وأخذت الجماعة تهدئ من ثورته، وأخيرا يأمرهم بالانصراف إلى القرية القريبة وبأن يحضروا في اليوم الواحد والثلاثين بعد اليوم وبأنه سيعطيهم فضة بدل ما تبقى من نحاسهم، وسيعطيهم مقابل الفوائد عن نقدهم المحجوز؛ فإن قليلا من الفضة لا يضيره شيئا وهو يفيد الجماعة فائدة جمة. وانصرف إلى مخيمة مطأطئ الرأس يقول لنفسه: نعم اذهبوا وانتظروا دعوتي ولعل الله أن يهيئ في هذه الفترة الوسيلة للخلاص منكم!

خاتمة

وكما كان في أول القرن التاسع عشر خير إيران فاتحدت ولاياتها وأتيح لها ملوك أقوياء واطمأنت نفوس الإيرانيين إلى الدولة الجديدة وأخذوا يعملون على إسعاد البلاد ويسيرونها نحو المجد والخير فإن نهاية هذا القرن كانت وبالا على إيران؛ إذ فقد القاجاريون ما كان لهم من قوة وقدرة على الحكم فعملوا على صيانة مراكزهم أكثر مما عملوا على صيانة البلاد نفسها من المستعمرين، وتطلع الناس إلى من يخلصهم من الشر الذي يهددهم شر تهديد. وفي الوقت الذي كانوا ينادون فيه بالحرية وبالمشاركة في الحكم؛ مما أدى إلى منحهم الدستور في أوائل القرن العشرين، كانوا يحسون بالحاجة إلى رجل من طراز آخر يحول دون الاستعمار ويدفع الغزاة عن إيران ويعيد إلى البلاد هيبتها ووحدتها. وقد فاض أدب هذه الفترة بهذه المعاني كلها فترى الشيباني يسخط على القاجاريين

1

وينقم عليهم سياستهم ويتمنى زوال دولتهم، وأحمد روحي وميرزا أغا خان الكرماني يطالبان بالإصلاح في شدة وعنف وقد قتلا عام 1896م، وقد قال الأخير قبيل قتله يستعيذ بالله أن تسقط إيران في يد الغزاة، فهو لا يريد أن يرى اليوم الأسود الذي تقع فيه هذه العروس في يد الشبان الروس أو الإنجليز. وكانت هذه الأفكار مقدمة لأدب القرن العشرين.

অজানা পৃষ্ঠা