القاهرة في أوائل يونيو سنة 1929
القروية الحسناء
للكاتب الروسي الشهير أ. بوشكين
في إحدى ولاياتنا المتباعدة تقع أملاك إيفان بيتروفتش بيريستوف، الذي خدم في سني شبابه في فرقة الحرس الملكي واعتزل الخدمة في أوائل عام 1797 وسافر إلى قريته ولم يبرحها بعد ذلك، وقد تزوج بفتاة حسيبة فقيرة ماتت في خلال الولادة أثناء وجوده في حقل مجاور للقرية، وقد خففت إدارة أعماله حزنه العميق وكانت له سلوى في محنته هذه، ثم شاد منزلا وضع رسمه بنفسه بما يوافق معيشته، وأنشأ معملا للجوخ ونظم إيراداته، وغدا يعد نفسه أعقل وأنبل رجل في تلك الناحية، ولم يعارضه أحد من جيرانه الذين كانوا يستضيفونه مع عائلاتهم وكلابهم. وكان في أيام الأسبوع يرتدي بذلة من القطيفة، وفي أيام الآحاد والأعياد يرتدي حلة رسمية من جوخ معمله، وكان يكتب نفقاته في دفتر خاص، ولم يقرأ غير جريدة الوقائع الرسمية. ومجمل القول أن الأهالي كانوا يحبونه ولكنهم يصفونه بالكبرياء، وكانت العلاقات متوترة بينه وبين أحد جيرانه غريغوري إيفانوفتش مورومسكي وهو سيدوروسي قح وذو مقام محترم، بذر معظم ما يملكه في موسكو، وترمل في أثناء ذلك فسافر إلى آخر قرية بقيت له واستمر في لهوه وقصفه ولكن على نسق جديد؛ أنشأ حديقة إنكليزية أنفق عليها كل ما بقي من دخله، وكان سياس إصطبله يرتدون ملابس السياس الإنكليز، وعهد إلى سيدة إنكليزية تربية ابنته والعناية بها، وكان يستغل حقوله على الطريقة الإنكليزية.
ولكن القمح الروسي لا ينمو ولا يترعرع على طريقة غير روسية، ومع أنه بالغ في الاقتصاد في نفقاته العامة فإن وارداته لم تزد، وقد استطاع أن يستدين مبالغ مختلفة من أهل القرية الذين يحترمونه ويقولون عنه: إنه ليس بالأخرق؛ لأنه أول مزارع في تلك الجهات استطاع رهن أرضه في المصرف الزراعي، وهو أمر يدل على المهارة والجرأة في ذلك العهد لصعوبة المعاملة وشدة شروطها. ومن الذين كانوا يتصدون لانتقاده والتعريض بذمه جاره بيريستوف الذي كان يحسده في إدارة شئون حقوله، ولم يكن يستطيع التكلم باطمئنان عن تكلنز جاره، وإذا زاره ضيف وأراه أملاكه يقول له متهكما وعلى ثغره ابتسامة شريرة: أنى لنا إدارة كإدارة جارنا غريغوري إيفانوفتش، وما لنا وقيادة نفسنا إلى الخراب والإفلاس على الطريقة الإنكليزية. إننا بسيرنا على الطريقة الروسية نكون على الأقل ممتلئي البطون، وكانت هذه المغامز والسخريات تبلغ آذان غريغوري مضافا إليها زيادات وذيول، فيحرق الأرم غيظا ويشابه رجال الصحافة الذين يخرجهم أقل انتقاد يوجه إليهم عن حد العقل، ويوجه إلى خصمه أنواع السباب والشتائم مسميا إياه دبا وقرويا.
هكذا كانت العلاقات بين الجارين المزارعين عندما وصل إلى القرية ابن بيريستوف الذي كان يتلقى علومه في الجامعة وعازما على الانتظام في سلك الجندية، غير أن أباه لم يوافقه على فكرته، وكان الغلام لا يرى في نفسه ميلا للخدمة الملكية، وعليه فإن الأب والابن اختلفا في الفكرة وتمسك كل برأيه، وقرر الشاب واسمه أليكسي أن يعيش في القرية سيدا وأسدل شاربيه لكل حادث.
أليكسي شاب بهي الطلعة، ذو قامة معتدلة، ولو دخل الجندية وارتدى حلتها الأنيقة الجميلة، وامتطى صهوة جواد مطهم لجاءت صورته فتنة للناظرين والناظرات، ولكنه سيقضي عمره منحنيا فوق أوراق مكتب والده. وعندما يمتطي جواده ويخرج للصيد ويجري به في مقدمة الجميع كان الناظرون إليه يقولون بصراحة: إنه لا يصلح أن يكون رئيس مكتب ذا جدارة، إن الأوانس الفاتنات كن يلقين عليه نظرات إعجاب ولم يضبطن أنفسهن عن مسارقته النظر ومشاغلته، ولكنه لم يكن يوجه إليهن التفاتا ولم يشعر بتلك النظرات الحادة الموجهة إليه، فحسبت الأوانس أن عدم شعوره ومشاطرته إياهن النظرات ناجم عن حب ملأ فؤاده فتمكن فيه ولم يدع محلا لآخر.
إن أولئك القراء الذين لم يسبق لهم أن عاشوا في القرى لا يستطيعون أن يتصوروا الأوانس القرويات، وما هن عليه من جمال خلاب، إنهن بعيشتهن في الهواء الطلق تحت ظلال أشجار التفاح في حدائقهن الخاصة وهن لا يعلمن شيئا من أحوال الدنيا إلا ما يطالعنه من الكتب، فالخلوة والحرية والمطالعة تغرس فيهن منذ نعومة أظفارهن الشعور العالي وعواطف الحب والغرام، وينمو فيهن ذلك مع نموهن، تلك الصفات التي لا أثر لها بين أوانس وفاتنات المدن المشردات الأفكار، ففي القرى قرع الجرس يعتبر من الحوادث الهامة، وسفرة إلى أقرب مدينة تسجل في تاريخ الحياة، وزيارة ضيف يبقى أثرها إلى أمد بعيد.
ومعلوم أن لكل إنسان ملء الحرية في استغراب بعض عاداتهن وما يصدر عنهن من الأمور المستهجنة، ولكن انتقاد مراقبهن السطحي لا يستطيع استئصال جوهر مواهبهن السامية وأهمها: سمو أخلاقهن واستقلالهن الذاتي
Individualité
অজানা পৃষ্ঠা