ألا ما أجمل وجه هذا الشيخ وأصفاه! آه يا بني! ستعيش بلا ريب زمنا آخر طويلا، ولكن لن تتاح لك كثيرا فرصة رؤية مثل هذه الروائع! وأما ما تراه اليوم، فالحرس الوطني بريش الدجاج المغموس في اللون الأحمر، وتن تن تن ... إلى اليمين ... إلى اليسار ... انتباه ... مكانك سر! وأما الأماكن المقدسة ... يا للخجل!»
وكان الناظر تلهث أنفاسه ووجهه محتقن؛ فاستسلمت إلى الصمت، والآن ها هو دهيلز الكنيسة وها هي الشياطين التي تبلغ أظافرها ثلاثة أضعاف أصابعها طولا، والرجال ذوو الشعر الأشعث، والملائكة النحاف الطوال، وفوق الجميع الرب نفسه وسط السحب محاطا بقوس قزح.
ولم يعد الناظر يسيطر على نفسه، ووضع يديه فارتدت أكمامه حتى كتفيه، واستأنف بصوت حاد: «انظر كيف تتشبث الشياطين بكفة الميزان التي وضع فيها الأتقياء ولكن عبثا؛ لأن هذه الكفة سترتفع دائما إلى أعلى، فالعمل الطيب يستطيع أن يرجح شيطانين بل أكثر، وأنت تدرك أن هؤلاء - وأشار بأصبعه إلى صف من الرجال العراة البيض كالجليد الذين اتخذوا سبيلهم نحو الجنة - إن هؤلاء كانوا الطيبين المحسنين الذين لم يطمعوا في مال غيرهم، ولم يتمردوا ولم يسرقوا، ولم يتفوهوا عبثا باسم الرب، ولم يشدوا وثاقا غليظا على كيس نقودهم لكي يحكموا تاجه كما يحدث اليوم.»
وخفض الحاج رأسه وجمع ذيل معطفه، بينما ابتسم الآخران من جديد، وكأن ابتسامتهما الماكرة تريد أن تقول هذه المرة أيضا: إن ناظرنا يجيد الحديث هيا! ... استسلم، لا تحاول أن تقاومه إذا كنت لا تريد أن تسحق ترابا.
واسترسل الناظر يقول: «وها هم الأغنياء الأشرار الذين سيشوون في نار جهنم، وأكياسهم على أكتافهم، وقد ناءوا تحت ثقل ذهبهم وفضتهم.
وسعل الحاج وشد ظلة قلنسوته فوق عينيه، وأدار ظهره إلى لوحة يوم الحساب، وهو يصيح مهددا بقبضة يده الأغنياء الأشرار السائرين في سكون إلى الجحيم: «اجمعوا كنوزا في السماء! ... اجمعوا كنوزا في السماء، فإنه لمن السهل أن يمر جبل من سم الخياط عن أن يدخل غني في ملكوت السموات.»
وظل الناظر هكذا موجها قبضته نحو الحائط، بينما عرى الآخران رأسيهما، ورسما علامة الصليب، وهما يتمتمان: «أيها الرب ! ... إن قدرتك ورحمتك لا حدود لهما.»
وانسحب المعلم الحاج متسللا في هدوء وبطء واختفى، واستأنف الناظر قائلا: «لقد انسحب الحاج ... انسحب ناجيا بنفسه، فهو لا يحب أن يسمع مثل هذا الحديث، وهو لا يضع قط درهما في صندوق الكنيسة «الناظر لديه منها الكثير في الصندوق»، وذلك بالرغم من أن لديه في بيته أكواما من القطع الذهبية ذات الرنين، وهو يدفن في كل حين تحت الأرض قدورا مليئة بالأصفر الرنان، ومع ذلك فليس له في دنياه إلا بنت أخت آواها عندما سافر للحج لكي تحرس بيته الحقير، وهو لا يساهم قط في زواج فتاة أو تطهير بئر، ولا يدفع شيئا لتجميل المذبح الذي يتلقى أمامه الزيت المقدس، آه ... يا له من شقي!»
واشتعلت المناقشة بعد ذلك فورا كأنها اللهب. - الحاج يدفع ... هذا محال؟ وتساءل الناظر: لكأنكم لم تروه قط، وهو يستلل إلى الحانات ومحال البقالة! فهو يدخل ويلتقط خلسة زيتونة يحملها إلى فمه، ويدسها بين أضراسه، ويمضغها في هدوء، ما ثمن هذا الزيتون يا سيدي العزيز فلان؟ - كذا. - هذا ثمن غال ... غال جدا في الوقت الحاضر، فالحياة صعبة، ثم ينصرف ويدخل إلى الدكان المواجه، حيث يختلس قليلا من الكفيار، ويدسه بسرعة في فمه، ثم ... هم ... هم ... ويمضغه في أناة. - كم ثمن هذه البويضات السمكية؟ - كذا ... - هذا الثمن غال ... غال جدا ... والحياة صعبة ... ثم ينصرف ويدخل عند تاجر اللحوم المملحة في الناصية. - أرني قليلا من بضاعتك يا أخي ... وأنت تعرف أنني لم أعد أضع قدمي في دكان فلان.
ويأخذ شريحة من اللحم ويزدردها. - كم الثمن؟ - بالنقود. - كم؟ - كذا. - لقد أصبحت أثمانك لا تطاق والحياة صعبة.
অজানা পৃষ্ঠা