ومرض «سليم» فانقطعت «سمية» لتمريضه. تركت محاضراتها في السوربون، وفي المعاهد الأخرى التي كانت تتردد عليها، وجعلت تقضي نهارها إلى جانبه، فإذا أظلم الليل، تركته إلى عناية صاحبة «البنسيون» الذي يقيم به، بعد أن توصيها في لهجة كلها الحنان والإشفاق، أن ترعاه إلى حين عودتها في الصباح. فلما أبل الشاب من مرضه، كانت عنايتها به قد وثقت ما بينهما من مودة، ونقلت هذه المودة خطوات إلى ناحية العاطفة الإنسانية السامية ... عاطفة الحب!
وإنهما ليسيران يوما في حديقة «اللوكسمبورج» إذ قال لها: اسمعي يا سمية. إنني أشعر بعد عنايتك بي أثناء مرضي أنني مدين لك بحياتي، فهل ترين ما يمنع من أن أجعل هذه الحياة في خدمتك إلى نهايتها، وذلك بأن نتزوج؟
وألقت الفتاة ببصرها إلى الأرض ولم تجب، فأردف: أرجو أن تفكري في الأمر ، وسأعود إلى الحديث معك عنه.
كان ذلك في آخر السنة الأولى، من سني الحرب العالمية الثانية، وكانت باريس قد أصبحت في سلطان الألمان، فكانت المراسلة بين مصر وفرنسا المحتلة منقطعة أو تكاد. فلم يكن يسيرا أن تراسل «سمية» أهلها لتستشيرهم فيما يعرضه «سليم» عليها. وأبى عليها ذكاؤها وكبرياؤها أن تخاطب أحدا من زملائها أو زميلاتها المصريين في أمر يعنيها ولا يعني غيرها. فقضت ليلها تفكر في عبارة سليم، الوجيزة، ثم ذكرت أول ما ذكرت، عهدا قطعته لأمها عشية سفرها من مصر: ألا تتزوج من أجنبي.
أوتستطيع وقد قطعت هذا العهد على نفسها أن تقبل خطبة سليم إياها؟ إنها تحبه كما يحبها، وتشعر بأنها ستنعم في هذا الزواج بسعادة لا ترجوها في زواج غيره ... لكنها حريصة على الوفاء بعهد قطعته لأعز الناس عليها وأحبهم إليها ... لأمها. فهل من سبيل إلى التحلل من هذا العهد؟ ألا لو أنها وجدت الوسيلة لذلك لما ترددت في الزواج من سليم!
وإنها لحيرى أمام هذا العهد المقدس؛ إذ سمعت صوت نفسها يناديها: لكن سليما ليس أجنبيا، إنه مسلم وأنا مسلمة، والدين يربط بيننا بوثاق لا يقل عن وثاق الوطن قوة. بل الدين هو وطننا الأكبر، وطننا الأقدس، وهو الرابطة السامية فوق كل رابطة. أليس يجيز الشرع أن أتزوج مسلما، أيا كان البلد الذي يعيش فيه، ويحرم علي أن أتزوج غير مسلم من أبناء الوطن الذي ترتسم حوله حدود أرض! فإذا أنا تزوجت سليما فلن أكون قد نقضت العهد الذي قطعته لأمي أو نكثت به، ولذلك لن تغضب هي يوم تعلم بهذا الزواج!
وتردد صوت نفسها في أعماق وجودها واستجابت له روحها، لكن ذكاءها المتوقد حرص على أن يقيم لهذا الصوت منطقا عقليا، حتى لا تتهم بأن تيار العاطفة جرفها، فالتمست في نداء نفسها وسيلة تحلها من عهدها!
ولم يعي ذكاؤها عن الاستجابة إلى نداء عاطفتها، فأرسى منطق هذا النداء على قواعد اطمأن لها وجدانها.
لقد كانت تشعر، إذ كانت بمصر، أنها أقرب إلى أهل دينها منها إلى غيرهم من أبناء وطنها، إلا ما ندر. وقد زارت الشام سنة مع أبيها، فشعرت نحو أهله المسلمين بالمودة والقربى؛ لأن دينهم دينها ولغتهم لغتها.
ودين سليم دينها، وهو يتكلم الفرنسية كما تتكلمها، فلهما لغة مشتركة ودين واحد. ولا ريب أن سليما يشعر نحو المسلمين الروس بما تشعر هي به نحو المسلمين المصريين، ويشعر نحو المسلمين غير الروس بمثل ما شعرت به نحو أهل الشام، فله إذن وطن أكبر، كما أن لها وطنا أكبر. وهذا الوطن مشترك بينهما، فليس أيهما إذن أجنبيا عن صاحبه، ولن تكون بقبولها الزواج منه قد نكثت بعهدها أو أخلت به!
অজানা পৃষ্ঠা