واغتبط الدكتور مرزوق بما بدا من عدم تحفظ محدثته، كما اغتبط بتربيتها وثقافتها، وخيل إليه أنها توافق مطلبه، وتكون خير زوج له. وكذلك فكر في خطبتها إلى أهلها، مؤمنا بأنهم لن يترددوا في قبوله. وهل يتردد أحد في قبول جراح ناجح خطيبا لابنته؟
وخاطب الدكتور مرزوق أخا الفتاة بالتليفون، ثم التقى به وحدثه في خطبة أخته لنفسه، فأجابه الفتى بأن الأمر في ذلك لأمه، وأنه سيفضي إليها بما ذكره الدكتور له.
وكانت «جنان » - أم سوسن - سيدة حصيفة عاقلة، لا تزيد سنها على الأربعين إلا قليلا. وكانت تفوق ابنتها جمالا ورقة، وإن لم تخف ملامحها سنها، رغم رشاقة جسمها، واعتدال قوامها.
فلما سمعت حديث ابنها عن خطبة أخته، افتر ثغرها عن ابتسامة الرضا. وقد كان زواج سوسن أهم ما يشغلها، وكانت تدعو لها دائما بالخير والتوفيق، ثم كانت تعلم أن الدكتور مرزوق من الأطباء اللامعين في مصر، وأن الله أراد بخطبته ابنتها لنفسه أن يعوض الأسرة كلها خير عوض عن فقد زوجها في عز فتوته.
وتحدثت «جنان» إلى ابنتها في هذا الأمر فيما بينهما، وتذكرت سوسن هذا الطبيب الذي كان يقف عندها، ويتحدث إليها، ويبتاع معروضاتها. فقالت لأمها: لكنه يا أماه من زملاء أبي، ومن أصدقائه. وأنا أريد إذا غادرتك وتركت هذا البيت أن أتركه إلى بيت زوجي، لا إلى بيت عمي!
وقالت أمها: لقد كان زميلا لأبيك حقا، لأنهما من مهنة الطب معا، لكنه يصغر أباك في سنه. وفارق السن يا ابنتي تعوضه أمور كثيرة: يعوضه المركز الاجتماعي، والمكانة في المهنة، وتعوضه الثروة. وأنا لا أعرف الدكتور مرزوق شخصيا، ولكني أسمع عنه كل ثناء. ولا أحسبك ترفضين خطيبا كهذا، لأنك رأيته في حفلة خيرية، فلم يترك في نفسك من الأثر ما يحببه إليك. فكثيرون نراهم فلا يعجبوننا لأول نظرة، فإذا عرفناهم على حقيقتهم، تغير رأينا فيهم. وأنا سأطلب إلى أخيك أن يدعو الدكتور ليحضر إلينا، فإذا لقيته وتحدثت معه على أنه خاطبك، نظرت إليه بعين غير العين التي نظرت بها إليه حين كنت تريدين أن تبيعيه معروضات الجمعية. ولا بأس بعد ذلك بأن يكون لك رأي، فأنا لا أكرهك، ولن أكرهك على غير ما تحبين.
وجاء الدكتور مرزوق للموعد الذي ضربته «جنان»، فألفاها وابنها في انتظاره. فلما تناول القهوة، قال إنه جاء خاطبا. وكانت جنان منذ حضر تنظر إليه من رأسه إلى قدمه بعين فاحصة مدققة، وتستمع إلى كلماته، وتزنها كلمة كلمة، والحق أنه أعجبها قواما وهنداما وكلاما. فلما خطب إليها ابنتها، قالت له: مرحبا بك يا دكتور، أنا أعلم أنك كنت من أصفياء المرحوم زوجي، ولن أعز عليك ابنته، على أنك تعلم أن للفيتات اليوم رأيهن، وستحضر سوسن عما قليل وتتحدثان. وقد ذكرت لي أنك رأيتها في حفلة خيرية، وأنكما تحدثتما، لكنها قالت إنك لست الوحيد الذي حدثها، وإنها لم تفطن قط إلى أن حديثك يمكن أن ينتهي بخطبتها. فإذا جاءت أتحت لكما فرصة الحديث فيما بينكما. والله يهديكما ويوفقكما. فكل ما أرجوه لك ولها الخير والسعادة. •••
لم يكن مرزوق يحسب «جنانا» لها من الثقافة مثل حظ ابنتها، فلما تحدثت إليه، وأخذت وأعطت معه، شعر بأن البنت سر أمها، وأن ما أعجبه من سوسن إنما ورثته من هذه الأم، التي لا تزال تتمتع بحظ من الشباب غير قليل.
وجاءت سوسن بعد برهة، فانسحب أخوها من المجلس، ثم انسحبت أمها، بعد أن تبادلت وإياها بعض الحديث، على أن تعود إليهما بعد قليل. فلما عادت، استأذن مرزرق وانصرف. وسألت الأم ابنتها رأيها فيه، فقالت: لا أستطيع أن أبدي رأيا بعد، فلقد كنت أشعر طول الوقت بأني أحدث رجلا في مقام أبي. هو ولا ريب عاقل رزين، لكن فارق السن بيني وبينه يجعلني أتردد أشد التردد. فإذا لم يكن بد من أن أبدي رأيا الآن، فالرأي أن تعتذري إليه بأن فارق السن يحول دون امتزاجنا، وأن تقفلي هذا الباب.
قالت أمها: «أتحسبين يا صغيرتي أن أمرا خطيرا كالزواج يبت فيه الإنسان بمثل هذه الخفة؟! إن هذا الدكتور هو أول بختك، ومن رفضت أول بختها فقلما يكون من بعده خيرا منه. فأنصح لك يا حبيبتي ألا تقضي في الأمر بهذه السرعة، وسأدعو الدكتور لزيارتنا مرة أخرى. فهو في نظري خاطب لا يرفض، والخاطبون من طرازه قليل.»
অজানা পৃষ্ঠা