وفي ساعة الأذان، انتشر النبأ في القرية، فإذا الزغاريد تنطلق من كل جوانبها، ثم إذا بامرأة تهجم على جثة القتيل تعضها بأسنانها ولا يمنعها أحد. تلك زوج أحد الذين حكم عليهم بالإعدام وشنقوا. وشفت المرأة غليلها، ورجعت إلى دارها، وكأن لم يرها أحد، وكأنما احتفظت بتقاليد أسرتها وتقاليد القرية، فلم تخرج من دارها وكأن حادثا لم يقع، وكأن قتيلا لم ترو دماؤه الأرض!
وفي منتصف، الليل، وبعد الحادث بساعات معدودة، تولت النيابة تحقيقه.
وفي البكرة من صبح الغد، جاء المفتش الإنجليزي، الذي زار الثري الوجيه في السجن، فأدت زيارته بالرجل إلى أن يكون شاهد ملك، جاء يحضر التحقيق، ويبدي من العناية بوصوله إلى نتيجة ما يدل على أن البريطانيين لا ينسون من يخدمونهم. لكن أهل القرية كلهم، كانوا - على لسان رجل واحد - يقررون أنهم لا يعرفون عن هذا الحادث شيئا، ولا يعرفون كيف وقع!
وسئل الحارسان، فقررا أنهما كانا في حجرتهما داخل الدار، اقتناعا منهما بأن الثري الوجيه لا يبقى خارجها في مثل هذه الساعة، وأنهما خرجا حين سمعا إطلاق الأعيرة النارية، فلم يريا غير الماشية، ومن ورائها أصحابها في عودتهم إلى مساكنهم، وأنهما سألا الفلاحين العائدين من عملهم، فذكروا أنهم لا يعرفون الفاعلين، لأنهم كانوا ملثمين، ولأنهم فروا وأسلحتهم في أيديهم، فلم يكن في مقدور أحد أن يتعقبهم فيفقد حياته!
واستمر التحقيق أسابيع، وأوقف عمدة البلدة، لاقتناع المحقق بأنه يعرف الفاعلين، لكن المحقق كان يعلم كذلك أن هذا الإيقاف لن يؤدي إلى نتيجة. فلو أن العمدة أرشد إلى أحد، لتعرض لما تعرض له الثري الوجيه شاهد الملك، ولكان مصيره المحتوم أن يلحق به، وكذلك انتهى التحقيق إلى غير نتيجة!
وشعر أبناء شاهد الملك وأهله بأن الناس ينظرون إليهم شذرا، ويصمونهم بما كانوا يصمون به أباهم ... بأنهم خانوا وطنهم، وخانوا أبناء بلدتهم، ومديريتهم، وشعروا لذلك بأنهم سيجدون غاية المشقة في أن يتعاملوا مع هؤلاء الناس، فرأوا الانتقال من المديرية كلها إلى مديرية غيرها، مطمئنين إلى أن ما ورثوه يكفل لهم العيش الحر، في بيئة لا تنظر إليهم بعين العداوة التي ينظر بها إليهم أهل القرية التي ولدوا وولد آباؤهم بها، وعاشوا وعاش آباؤهم فيها!
وأشار عليهم أحد معارفهم بأن الخير في أن يتركوا المديريات كلها إلى العاصمة، فالمدن الكبيرة كالبحر الزاخر لا يعرف بعض أهلها بعضا، إلا أن تكون بينهم معاملة، ولا يعرف بعضهم بعضا إلا في حدود هذه المعاملة!
واطمأن أهل شاهد الملك إلى هذه المشورة، وانتقلوا إلى العاصمة، فلما استقر مقامهم، فكروا في أن يبيعوا أملاكهم بالقرية التي نزحوا منها، وأن يقطعوا كل صلتهم بها. ولم يكن بيع هذه الأملاك يسيرا، فقد تظاهر أهل القرية بمقاطعة هؤلاء الذين ورثوا شاهد الملك، حتى اضطروهم إلى التسامح في البيع، والنزول عما يكاد يعدل ربع الثمن. هنالك ابتاعوا الأرض وما عليها، واتجه المهاجرون من أصحابها، بعد أن قبضوا ثمنها، إلى ناحية أخرى من نواحي الكسب في العاصمة!
والآن وقد انقضى على هذه القضية ما يزيد على خمس وثلاثين سنة، فقد تناسى أهل القرية حديث شاهد الملك؛ لأنهم اعتبروا هذا الحديث وصمة عار لقريتهم، فلم يعد أحد يذكره!
وابتلعت العاصمة العظيمة هذه الأسرة في لجتها، وأبدل أفرادها أسماءهم حتى لا يعيرهم أحد بأن أباهم كان شاهد ملك أمام محكمة أجنبية، وفي قضية كان الجناة مدفوعين فيها بعاطفة سامية وطنية!
অজানা পৃষ্ঠা