وتحدث الناس وقتئذ إلى أن المشرع يعتزم إلغاء الوقف الأهلي، ليمنع عبث العابثين بأحكام الشرع في الميراث والوصية. ورأى القضاة فيما سمعوا متنفسا لهم، فأجلوا دعوى عمر ثم أجلوها، حتى صدر قانون بإلغاء الوقف الأهلي. وعند ذلك أصدروا حكمهم، باعتبار ما آل من الوقوف إلى عبده عاكف تركة تقسم بين أولاده جميعا، وترثه فيها زوجته. أصدروا هذا الحكم وكانوا يودون لو استطاعوا حرمان هذا العاق أمه من كل التركة، لكن الحكم الأول بثبوت نسبه جعل ذلك مستحيلا.
واغتبطت هيفاء بهذا الحكم، واطمأنت به على مستقبل بناتها، لكنها بقيت حاقدة على هذا الابن، الذي نسي كل برها وحنانها، وحاول أن يستأثر دون أخواته بوقف حرم ما أحل الله، ونقض ما أثبت كتاب الله!
ولم تكن هيفاء تأبى حين يجري حديث حياتها مع عمر أن تقول: «إني أكرهه، ولكن العرق دساس!»
عرق من؟! وهل كرهت أم ابنها من أجل بناتها؟! أم «إن من ... وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم.»
يد القدر
كانت هند في العشرين من سنها، حين زوجها أبوها من موظف صغير في الدرجة السابعة الكتابية، ولم تعرف هند زوجها عباس فضل، حتى اجتمعت معه تحت سقف واحد، ومع ذلك اغتبطت بهذا الزواج وفاضت بها المسرة؛ لأن الزواج في نظرها غاية كل فتاة، كما أن الموت غاية كل حي، ولأن أمها توفيت، قبل عدة سنوات، فتزوج أبوها وأنجب من زوجته الثانية بنين وبنات، اختصهم بكل عطفه ... ولم يأب على زوجته أن تتخذ هند معاونة لها في خدمة البيت، تطهو طعامه، وتتولى نظافته، وترعى أخواتها الأطفال، وتنفق ليلها ونهارها في تنفيذ أوامر زوج أبيها.
وكم تمنت اليوم الذي تهب فيه نفسها لخدمة بيتها هي، لا لخدمة زوج أبيها وعيالها؛ لذا رأت في زواجها منقذا لها من هذه الحياة الشاقة التي كانت تحياها، دون أن تجد من العطف والحنان، ما يعوضها عن قسوتها وشدتها.
وأعطت هند زوجها كل قلبها، منذ اليوم الأول، ولم يكن ذلك لأنه وقع من نفسها ساعة رأته فعشقته لأول نظرة، بل لأنها رأت فيه يد القدر، التي انتشلتها من بأسائها، وفتحت به أمامها باب الأمل فيما يسمونه السعادة.
ولم يزعجها أن كان عباس موظفا صغيرا، وأن مرتبه الضئيل كان لا يكاد يكفيها العيش الخشن؛ فالصغير يكبر، وضيق العيش طارئ يزول بالجد والاجتهاد. فإذا هي جعلت من نفسها ومن بيتها جنة نعيم لهذا الموظف الصغير، فسيمكنه هذا من الجد في عمله، ومن إرضاء رؤسائه، ومن الترقي درجة بعد درجة. ويومئذ ينفرج الضيق وتعيش في بيتها أكثر رخاء مما كانت في بيت أبيها، بل إن هذا الرخاء المادي، الذي تعتقده اليوم فلا تجده، لأيسر شأنا عندها من طمأنينتها في قلب زوجها.
وبادلها زوجها منذ اشتركا في الحياة، حبا بحب، وإخلاصا بإخلاص، وكيف لا يفعل وقد أتاحت له بمرتبه الضئيل ألوانا من النعمة لم يكن يحلم بمثلها قبل زواجه، وجعلت من بيته سكنا هانئا، يغنيه بعد الفراغ من عمله عن كل ما سواه؟
অজানা পৃষ্ঠা