في كل ما تناوله الحديث من أحزان رومية ومسراتها، تفردت الملكة الصغيرة بالرأي الفرد، والحكم القاطع، والمقال الفصل، والحكمة البالغة، والموعظة الحسنة.
ما كان لرجل من هؤلاء الأفذاذ أن يتصور أن هذه المرأة التي ما حضرت مجلسهم إلا لتضفي عليه من جمالها، وتسبغ عليه من دلالها، وتصبغه بصبغة الطراوة التي يأنس فيها المكدودون المجهدون راحة تشمل العقل وتغمر القلب، ستكون في حلقتهم الفيصل الذي يدلي بالرأي؛ فلا يخطئ مقاتل المصاعب والمشكلات.
وأية من مظاهر الطبيعة تكون بألباب هؤلاء الجلاوزة أشد أخذا، من أن يشهدوا نقاش الفاتنة المصرية مع المؤرخ العظيم «سالوست»، وكانت قد درست كتبه وأحاطت بمذهبه في علم النفس، فأخذت تعصر المؤرخ الفيلسوف عصرا، وتشدد عليه الخناق تشديدا؟
لقد كانت نقودها على ما كتب «سالوست» مربكة فائضة بالأسئلة المسكتة؛ تلك التي لن تجد من جواب لها، أبلغ من السكوت عليها.
وكان من مفاخر الخطيب المفوه «أسينيوس فوليون» أن يلقي إليها بأصول خطبه، لينال حظوة نقدها، ثم بأشعاره التهكمية التي كان يصوغها على لسان راع، منحيا بها على الأوهام التي شاعت بين أهل رومية في زمانه.
وما كلمها من رجل، أديب أو شاعر، حكيم أو مشرع، فيلسوف أو كاتب، إلا وآنس في براهينها قوة العقل المتدفق الفياض، والعظمة القائمة على العبقرية، تهبها الطبيعة بغير حساب، لمن تشاء من أبناء الفناء؛ من أبناء الطين والتراب.
كان في رومية عالم من علماء الآثار اسمه «أتيكوس»، استرعت أعماله ومكتشفاته انتباه كليوبطرا، فكانت تقبل عليه إقبال المحب للعلم الهائم بالمعرفة، وتقضي ساعات طوال تفحص عن جمال الفن في قطعة من النسيج الفارسي، أو تحفة من العاج صقلها عامل صيني صبور، أو نقش بارز نقل إلى رومية من معبد «إفسوس»، عامة ذا، إن دل على شيء، فإنما يدل على متجه عقلي سمي إلى غايات الفن العليا، وتطلع إلى الاستعلاء على ما بلغ أهل الأرض جميعا من مراقي الأدب والفنون.
ومن ذا الذي لا يؤخذ إخذة العجب والانبهار، إذا ما رأى تلك الفتاة الصغيرة تفيض بوحي العلم على خريطة السماء، وقد تجمع من حولها علماء رومية في ندوة علمية ليصلحوا التقويم الروماني؛ أو يستمعون إلى كلامها فيما انتاب وضع الدب الأكبر وكوكبة ذات الكرسي، وكوكبة الجبار، من تغير الوضع حول النجم القطبي؟
لقد كانت في كل شيء بمثابة الظاهرة الخارقة في تجانس الطبيعة، كانت من تلكم المخلوقات التي كثيرا ما يقع عليهم اختيار الآلهة، ليكونوا في الأرض، مثلا لهم وبرهانا عليهم. •••
حدث في تلك الفترة أن قدم لها شاب جميل الطلعة، قوي الأصلاب، ذائع الصيت، فائض القوة، عقلا وبدنا، كان ذلك الشاب قد هبط رومية قافلا إليها من إسپانيا، وعلى رأسه أكاليل الغار التي كان من حقه أن يتوج بها، جزاء ما أبلى في مواقع «مندا»، ومن ورائه أثقال من الأسلاب، كان قد اعتلى ذروة المجد؛ فنبه ذكره، وعلا صيته، حتى عقد المجد من فوق هامته تاجا من العظمة والفخار، أما قوامه المعتدل، وعضلاته المجدولة جدل الحديد الصلب، وضحكته «الباكوسية» التي كانت تشيع في كل قسمات وجهه الوسيم، وتفانيه في البذخ والإسراف، وصورته الأخاذة بقامته المديدة، واتساق تركيبه الجسماني، فكانت صورة مما تخيل الرومان من «هركوليس» الجد الأول لذلك الشاب، المملوء فذاذة وقدرة.
অজানা পৃষ্ঠা