مُقَدّمَة
الْحَمد لله المبديء المعيد الفعال لما يُرِيد ذِي الْعَرْش الْمجِيد والبطش الشَّديد الْهَادِي صفوة العبيد إِلَى الْمنْهَج الرشيد والمسلك السديد
1 / 49
الْمُنعم عَلَيْهِم بعد شَهَادَة التَّوْحِيد بحراسة عقائدهم عَن ظلمات التشكيك والترديد السالك بهم إِلَى اتِّبَاع رَسُوله الْمُصْطَفى واقتفاء آثَار صَحبه الأكرمين الْمُكرمين بالتأييد والتسديد المتجلي لَهُم فِي ذَاته وأفعاله بمحاسن أَوْصَافه الَّتِي لَا يُدْرِكهَا إِلَّا من ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد الْمُعَرّف إيَّاهُم أَنه فِي ذَاته وَاحِد لَا شريك لَهُ فَرد لَا مثيل لَهُ صَمد لَا ضد لَهُ مُنْفَرد لَا ند لَهُ وَأَنه وَاحِد قديم لَا أول لَهُ أزلي لَا بداية لَهُ مُسْتَمر الْوُجُود لَا آخر لَهُ أبدي لَا نِهَايَة لَهُ قيوم لَا انْقِطَاع
1 / 50
لَهُ دَائِم لَا انصرام لَهُ لم يزل مَوْصُوفا بنعوت الْجلَال لَا يقْضى عَلَيْهِ بالانقضاء والانفصال بتصرم الآباد وانقراض الْآجَال بل هُوَ الأول وَالْآخر وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم
التَّنْزِيه
وَأَنه لَيْسَ بجسم مُصَور وَلَا جَوْهَر مَحْدُود مُقَدّر وَأَنه لَا يماثل الْأَجْسَام لَا فِي التَّقْدِير وَلَا فِي قبُول الانقسام وَأَنه لَيْسَ بجوهر وَلَا تحله الْجَوَاهِر وَلَا بِعرْض وَلَا تحله الْأَعْرَاض بل لَا يماثل مَوْجُودا وَلَا يماثله
1 / 51
مَوْجُود لَيْسَ كمثله شَيْء وَلَا هُوَ مثل شَيْء وَأَنه لَا يحده الْمِقْدَار وَلَا تحويه الأقطار وَلَا تحيط بِهِ الْجِهَات وَلَا تكتنفه الأرضون وَلَا السَّمَوَات وَأَنه مستوي على الْعَرْش على الْوَجْه الَّذِي قَالَه وبالمعنى الَّذِي أَرَادَهُ اسْتِوَاء منزهًا عَن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لَا يحملهُ الْعَرْش بل الْعَرْش وَحَمَلته محمولون بلطف قدرته ومقهورون فِي قَبضته وَهُوَ فَوق الْعَرْش وَالسَّمَاء وَفَوق كل شَيْء إِلَى تخوم الثرى فوقية لَا تزيده قربًا إِلَى الْعَرْش وَالسَّمَاء كَمَا لَا تزيده بعدا عَن الأَرْض وَالثَّرَى بل هُوَ رفيع الدَّرَجَات عَن الْعَرْش وَالسَّمَاء كَمَا أَنه رفيع الدَّرَجَات عَن الأَرْض وَالثَّرَى وَهُوَ مَعَ ذَلِك قريب
1 / 52
من كل مَوْجُود وَهُوَ أقرب إِلَى العَبْد من حَبل الوريد وَهُوَ على كل شَيْء شَهِيد إِذا لَا يماثل قربه قرب الْأَجْسَام كَمَا لَا تماثل ذَاته ذَات الْأَجْسَام وَأَنه لَا يحل فِي شَيْء وَلَا يحل فِيهِ شَيْء تَعَالَى عَن أَن يحويه مَكَان كَمَا تقدس عَن أَن يحده زمَان بل كَانَ قبل أَن خلق الزَّمَان وَالْمَكَان وَهُوَ الْآن على مَا عَلَيْهِ كَانَ وَأَنه بَائِن عَن خلقه بصفاته لَيْسَ فِي ذَاته سواهُ وَلَا فِي سواهُ ذَاته وَأَنه مقدس عَن التَّغْيِير والانتقال لَا تحله الْحَوَادِث وَلَا تعتريه الْعَوَارِض بل لَا يزَال فِي نعوت جَلَاله منزهًا عَن الزَّوَال وَفِي صِفَات كَمَاله مستغنيًا عَن زِيَادَة الاستكمال وَأَنه فِي ذَاته مَعْلُوم الْوُجُود بالعقول مرئي الذَّات بالأبصار
1 / 53
نعْمَة مِنْهُ ولطفًا بالأبرار فِي دَار الْقَرار وإتمامًا مِنْهُ للنعيم بِالنّظرِ إِلَى وَجهه الْكَرِيم
الْحَيَاة وَالْقُدْرَة
وَأَنه تَعَالَى حَيّ قَادر جَبَّار قاهر لَا يَعْتَرِيه قُصُور وَلَا عجز وَلَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم وَلَا يُعَارضهُ فنَاء وَلَا موت وَأَنه ذُو الْملك والملكوت والعزة والجبروت لَهُ السُّلْطَان والقهر والخلق وَالْأَمر وَالسَّمَوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ وَالْخَلَائِق مقهورون فِي قَبضته وَأَنه الْمُنْفَرد بالخلق والاختراع المتوحد
1 / 54
بالإيجاد والإبداع خلق الْخلق وأعمالهم وَقدر أَرْزَاقهم وآجالهم لَا يشذ عَن قَبضته مَقْدُور وَلَا يعزب عَن قدرته تصاريف الْأُمُور لَا تحصى مقدوراته وَلَا تتناهى معلوماته
الْعلم
وَأَنه عَالم بِجَمِيعِ المعلومات مُحِيط بِمَا يجْرِي من تخوم الْأَرْضين إِلَى أَعلَى السَّمَوَات وَأَنه عَالم لَا يعزب عَن علمه مِثْقَال ذرة فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء بل
1 / 55
يعلم دَبِيب النملة السَّوْدَاء على الصَّخْرَة الصماء فِي اللَّيْلَة الظلماء وَيدْرك حَرَكَة الذَّر فِي جو الْهَوَاء وَيعلم السِّرّ وأخفى ويطلع على هواجس الضمائر وحركات الخواطر وخفيات السرائر بِعلم قديم أزلي لم يزل مَوْصُوفا بِهِ فِي أزل الآزال لَا بِعلم متجدد حَاصِل فِي ذَاته بالحلول والانتقال
الإرداة
وَأَنه تَعَالَى مُرِيد للكائنات مُدبر للحادثات فَلَا يجْرِي فِي الْملك والملكوت قَلِيل أَو كثير صَغِير أَو كَبِير خير أَو شَرّ نفع أَو ضرّ إِيمَان أَو كفر عرفان أَو نكر فوز أَو خسران زِيَادَة أَو نُقْصَان طَاعَة أَو عصيان إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقدره وحكمته ومشيئته فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن لَا يخرج عَن
1 / 56
مَشِيئَته لفتة نَاظر وَلَا فلتة خاطر بل هُوَ المبديء المعيد الفعال لما يُرِيد لَا راد لأَمره وَلَا معقب لقضائه وَلَا مهرب لعبد عَن مَعْصِيَته إِلَّا بتوفيقه وَرَحمته وَلَا قُوَّة لَهُ على طَاعَته إِلَّا بمشيئته وإرادته فَلَو اجْتمع الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَالشَّيَاطِين على أَن يحركوا فِي الْعَالم ذرة أَو يسكنوها دون إِرَادَته ومشيئته لعجزوا عَن ذَلِك وَأَن إِرَادَته قَائِمَة بِذَاتِهِ فِي جملَة صِفَاته لم يزل كَذَلِك مَوْصُوفا بهَا مرِيدا فِي أزله لوُجُود الْأَشْيَاء فِي أَوْقَاتهَا الَّتِي قدرهَا فَوجدت فِي أَوْقَاتهَا كَمَا أَرَادَهُ فِي أزله من غير تقدم وَلَا تَأَخّر بل وَقعت على وفْق علمه وإرادته من غير تبدل وَلَا تغير دبر الْأُمُور لَا بترتيب أفكار وَلَا تربص زمَان فَلذَلِك لم يشْغلهُ شَأْن عَن شَأْن
1 / 57
السّمع وَالْبَصَر
وَأَنه تَعَالَى سميع بَصِير يسمع وَيرى لَا يعزب عَن سَمعه مسموع وَإِن خَفِي وَلَا يغيب عَن رُؤْيَته مرئي وَإِن دق وَلَا يحجب سَمعه بُعد وَلَا يدْفع رُؤْيَته ظلام يرى من غير حدقة وأجفان وَيسمع من غير أَصْمِخَة وآذان كَمَا يعلم بِغَيْر قلب ويبطش بِغَيْر جارحة ويخلق بِغَيْر آلَة إِذْ لَا تشبه صِفَاته صِفَات الْخلق كَمَا لَا تشبه ذَاته ذَوَات الْخلق
الْكَلَام
وَأَنه تَعَالَى مُتَكَلم آمُر ناه وَاعد متوعد بِكَلَام أزلي قديم قَائِم بِذَاتِهِ
1 / 58
لَا يشبه كَلَام الْخلق فَلَيْسَ بِصَوْت يحدث من انسلال هَوَاء أَو اصطكاك أجرام وَلَا بِحرف يَنْقَطِع بإطباق شفة أَو تَحْرِيك لِسَان وَأَن الْقُرْآن والتوراة وَالْإِنْجِيل وَالزَّبُور كتبه الْمنزلَة على رسله ﵈ وَأَن الْقُرْآن مقروء بالألسنة مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف مَحْفُوظ فِي الْقُلُوب وَأَنه مَعَ ذَلِك قديم قَائِم بِذَات الله تَعَالَى لَا يقبل الِانْفِصَال والافتراق بالانتقال إِلَى الْقُلُوب والأوراق وَأَن مُوسَى ﷺ سمع كَلَام الله بِغَيْر صَوت وَلَا حرف كَمَا يرى الْأَبْرَار ذَات الله تَعَالَى فِي الْآخِرَة من غير جَوْهَر وَلَا عرض وَإِذا كَانَت لَهُ هَذِه الصِّفَات كَانَ حَيا عَالما قَادِرًا مرِيدا سميعًا بَصيرًا متكلمًا بِالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَة وَالْعلم والإرادة والسمع وَالْبَصَر وَالْكَلَام لَا بِمُجَرَّد الذَّات
1 / 59
الْأَفْعَال
وَأَنه ﷾ لَا مَوْجُود سواهُ إِلَّا هُوَ حَادث بِفِعْلِهِ وفائض من عدله على أحسن الْوُجُوه وأكملها وأتمها وأعدلها وَأَنه حَكِيم فِي أَفعاله عَادل فِي أقضيته لَا يُقَاس عدله بِعدْل الْعباد إِذْ العَبْد يتَصَوَّر مِنْهُ الظُّلم بتصرفه فِي ملك غَيره وَلَا يتَصَوَّر الظُّلم من الله تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يُصَادف لغيره ملكا حَتَّى يكون تصرفه فِيهِ ظلما فَكل مَا سواهُ من إنسٍ وجن ومَلَكٍ وَشَيْطَان وسماءٍ وَأَرْض وحيوانٍ ونبات وجماد وجوهرٍ وعَرَض ومدركٍ ومحسوس حادثٌ اخترعه بقدرته بعد الْعَدَم اختراعًا وأنشأه إنْشَاء بعد أَن لم يكن شَيْئا إِذْ كَانَ فِي الْأَزَل مَوْجُودا وَحده وَلم يكن مَعَه غَيره فأحدث الْخلق بعد ذَلِك إِظْهَارًا لقدرته وتحقيقًا لما سبق من إِرَادَته ولِمَا حق فِي الْأَزَل من كَلمته لَا
1 / 60
لافتقاره إِلَيْهِ وَحَاجته وَأَنه متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لَا عَن وجوب ومتطول بالإنعام والإصلاح لَا عَن لُزُوم فَلهُ الْفضل وَالْإِحْسَان وَالنعْمَة والامتنان إِذْ كَانَ قَادِرًا على أَن يصب على عباده أَنْوَاع الْعَذَاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب وَلَو فعل ذَلِك لَكَانَ مِنْهُ عدلا وَلم يكن مِنْهُ قبيحًا وَلَا ظلما وَأَنه ﷿ يثيب عبادَهُ الْمُؤمنِينَ على الطَّاعَات بِحكم الْكَرم والوعد لَا بِحكم الِاسْتِحْقَاق واللزوم لَهُ إِذْ لَا يجب عَلَيْهِ لأحد فعل وَلَا يتَصَوَّر مِنْهُ ظلم وَلَا يجب عَلَيْهِ حق وَأَن حَقه فِي الطَّاعَات وَجب على الْخلق بإيجابه على أَلْسِنَة أنبيائه ﵈ لَا بِمُجَرَّد الْعقل وَلكنه بعث الرُّسُل
1 / 61
وَأظْهر صدقهم بالمعجزات الظَّاهِرَة فبلّغوا أمره وَنَهْيه ووعده ووعيده فَوَجَبَ على الْخلق تصديقهم فِيمَا جَاءُوا بِهِ
معنى الْكَلِمَة الثَّانِيَة وَهِي الشَّهَادَة للرسول بالرسالة
وَأَنه بعث النَّبِي الْأُمِّي الْقرشِي مُحَمَّدًا ﷺ برسالته إِلَى كَافَّة الْعَرَب والعجم وَالْجِنّ وَالْإِنْس فنسخ بِشَرِيعَتِهِ الشَّرَائِع إِلَّا مَا قَرَّرَهُ مِنْهَا وفضله على
1 / 62
سَائِر الْأَنْبِيَاء وَجعله سيد الْبشر وَمنع كَمَال الْإِيمَان بِشَهَادَة التَّوْحِيد وَهُوَ قَول لَا إِلَه إِلَّا الله مَا لم تقترن بهَا شَهَادَة الرَّسُول وَهُوَ قَوْلك مُحَمَّد رَسُول الله وألزم الْخلق تَصْدِيقه فِي جَمِيع مَا أخبر عَنهُ من أُمُور الدُّنْيَا وَالْآخر وَأَنه لَا يتَقَبَّل إيمانُ عبدٍ حَتَّى يُؤمن بِمَا أخبر بِهِ بعد الْمَوْت وأوله سُؤال مُنكر
1 / 63
وَنَكِير وهما شخصان مهيبان هائلان يقعدان العَبْد فِي قَبره سويا ذَا روح وجسد فيسألانه عَن التَّوْحِيد والرسالة ويقولان لَهُ من رَبك وَمَا دينك وَمن نبيك وهما فتانا الْقَبْر وسؤالهما أَو فتْنَة بعد الْمَوْت
1 / 64
وَأَن يُؤمن بِعَذَاب الْقَبْر وَأَنه حق وَحكمه عدل على الْجِسْم وَالروح على مَا يَشَاء وَأَن يُؤمن بالميزان ذِي الكفتين وَاللِّسَان وَصفته فِي العِظَمِ أَنه مثل طَبَقَات السَّمَوَات وَالْأَرْض توزن فِيهِ الْأَعْمَال بقدرة الله تَعَالَى والصنج يَوْمئِذٍ مَثَاقِيل الذَّر والخردل تَحْقِيقا لتَمام الْعدْل وتوضح صَحَائِف الْحَسَنَات فِي صُورَة حَسَنَة فِي كفة النُّور فيثقل بهَا الْمِيزَان على قدر درجاتها عِنْد الله
1 / 65
بِفضل الله وتطرح صَحَائِف السَّيِّئَات فِي صُورَة قبيحة فِي كفة الظلمَة فيخف بهَا الْمِيزَان بِعدْل الله
وَأَن يُؤمن بِأَن الصِّرَاط حق وَهُوَ جسر مَمْدُود على متن جَهَنَّم أحد من السَّيْف وأدق من الشعرة تزل عَلَيْهِ أَقْدَام الْكَافرين بِحكم الله سُبْحَانَهُ فَتَهْوِي بهم إِلَى النَّار وَتثبت عَلَيْهِ أَقْدَام الْمُؤمنِينَ بِفضل الله فيساقون إِلَى دَار الْقَرار
1 / 66
وَأَن يُؤمن بالحوض المورود حَوْض مُحَمَّد ﷺ يشرب مِنْهُ الْمُؤمنِينَ قبل دُخُول الْجنَّة وَبعد جَوَاز الصِّرَاط من شرب مِنْهُ شربة لم يظمأ بعْدهَا أبدا عرضه مسيرَة شهر مَاؤُهُ أَشد بَيَاضًا من اللَّبن وَأحلى من الْعَسَل حوله أَبَارِيق عَددهَا بِعَدَد نُجُوم السَّمَاء فِيهِ مِيزَابَانِ يصبَّانِ فِيهِ من الْكَوْثَر
وَأَن يُؤمن بِالْحِسَابِ تفَاوت النَّاس فِيهِ إِلَى مناقش فِي الْحساب وَإِلَى مسامح فِيهِ وَإِلَى من يدْخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب وهم المقربون فيسألُ
1 / 67
اللهُ تَعَالَى من يَشَاء من الْأَنْبِيَاء عَن تَبْلِيغ الرسَالَة وَمن شَاءَ من الْكفَّار عَن تَكْذِيب الْمُرْسلين وَيسْأل المبتدعة عَن السّنة وَيسْأل الْمُسلمين عَن الْأَعْمَال
وَأَن يُؤمن بِإِخْرَاج المُوَحِّدين من النَّار بعد الانتقام حَتَّى لَا يبْقى فِي جَهَنَّم موحد بِفضل الله تَعَالَى فَلَا يخلد فِي النَّار موحد
1 / 68