فغمغمت أمينة دون أن ترفع رأسها عن عملها: علينا أن نقدم مائدة شهية.
فابتسمت أم حنفي، وهي تومئ بذقنها إلى سيدتها، قائلة: البركة في المعلمة.
ثم غرست يديها في الجرة مرة أخرى، وعادت إلى ملاكمة العجين. - وددت لو قنعنا بتوزيع الثريد على فقراء الحسين.
فقالت أم حنفي بلهجة معاتبة: لن يكون بيننا غريب.
فتمتمت أمينة بصوت لم يخل من ضيق: ولكنها وليمة وضجة على أي حال، فؤاد بن جميل الحمزاوي نال البكالوريا أيضا، ولا من رأى ولا من سمع.
ولكن أم حنفي أصرت على المعاتبة، قائلة: ما هي إلا فرصة نجتمع فيها بمن نحب.
كيف تكون مسرة دون تأنيب أو توجس خيفة؟! قديما استخبرت السنين فأجابت بأن تاريخ ابتدائية هذا سيوافق تاريخ ليسانس ذاك، حفل لم يجئ، ونذر لم يوف. 19 ... 20 ... 21 ... 22 ... 23 ... 24 ... شباب العمر اليافع الذي حرمت من احتضان ينعه، من قسمة التراب كان، يا انصداع القلب الذي يسمونه الحسرة! - ستفرح ست عائشة بالبقلاوة، وتذكر أيام زمان يا ستي.
ستفرح عائشة وأم عائشة ستفرح أيضا، نهار وليل، وشبع وجوع، ويقظة ونوم، وكأن شيئا لم يكن. سلي الزعيم الذي زعم بأنك لن تعيشي بعده يوما واحدا، عشت لتحلفي بتربته، إذا زلزل القلب فليس معناه أن تزلزل الدنيا، كأنه نسي منسي حتى تزار المقابر، كنت ملء العين والنفس يا بني، ثم لا يذكرونك إلا في المواسم، أين أنتم يا هؤلاء؟ كل مشغول بشواغله، إلا أنت يا خديجة قلب أمك وروحها حتى وصيتك يوما بالصبر، لم تكن كذلك عائشة، مهلا! لا ينبغي أن أكون ظالمة، حزنت حزنها كما ينبغي، كمال لا لوم عليه، رفقا بالقلوب الغضة، بات الأول والأخير، شاب شعرك وصرت كالخيال، هكذا تقول أم حنفي، لا كانت الصحة ولا كان الشباب، تقاربين الخمسين وهو لم يتم العشرين، حبل ووحم، وولادة ورضاعة، وحب وآمال، ثم لا شيء، ترى هل خلا من الأفكار رأس سيدي؟ دعيه وشأنه، ليس حزن الرجال كحزن النساء. هكذا قولك يا أمي جعل الله الجنة مثواك، يحز في نفسي يا أمي أنه عاد إلى سيرته، كأن فهمي لم يمت، وكأن ذكراه قد تبخرت، بل يلومني كلما لج بي الحزن، أليس هو أباه كما أنا أمه؟ ... يا أمينة يا مسكينة ... لا تفتحي صدرك لهذه الأفكار ... لو صح أن نحكم على القلوب بقلب الأم لبدت القلوب أحجارا ... إنه رجل وليس حزن الرجال كحزن النساء ... لو استسلم الرجال للأحزان لناءت بها كواهلهم المثقلة بالأعباء، عليك إذا أنست منه حزنا أن تسري عنه، إنه ركنك يا ابنتي المسكينة. غاب ذلك الصوت الحنون، وصادف فقده قلوبا مترعة بالحزن فلم يكد يبكيه أحد، وشهد شاهد حكمتها ليلة عاد في أخريات الليل ثملا، ثم ارتمى على الكنبة مجهشا في البكاء، وتمنيت ليلتئذ له السلامة ولو بالنسيان الأبدي، أنت نفسك ألا تنسين أحيانا؟ ثمة ما هو أفظع من ذلك، هو تمتعك بالحياة وحرصك عليها. هذه هي الدنيا، هكذا يقولون. فترددين ما يقولون وتؤمنين به. كيف جاز لك - يوما - بعد هذا أن تحنقي على ياسين برأه ومواصلته مألوف الحياة! مهلا، الإيمان والصبر ... سلمي إلى الله، فكل ما جاءك من عنده. «أم فهمي» إلى الأبد ، سوف أظل ما حييت أمك يا بني وتظل ابني.
تتابعت دقات العجن، ففتح السيد عينيه على نور الصباح الباكر، وراح يتمطى ويتثاءب بصوت مرتفع ممطوط، تصاعد كالتذمر أو الاحتجاج، ثم جلس في الفراش مستندا براحتيه على ساقيه الممدودتين، فبدا ظهره مقوسا وقد نضح أعلى الجلباب الأبيض بالعرق، وجعل يحرك رأسه يمنة ويسرة كأنما لينفض عنه وطأة الوخم، ثم انزلق إلى أرض الحجرة، ومضى متهاديا إلى الحمام إلى الدش البارد ... الدواء الوحيد الذي يغير عليه بدنه فيعيد إلى رأسه اتزانها وإلى نفسه اعتدالها، تجرد من ثيابه، ولما تعرض لرشاش الماء وردت ذهنه ذكرى الدعوة التي وجهت إليه أمس، فخفق فؤاده الذي تلقى الذكرى والإحساس المنعش بالماء البارد معا، علي عبد الرحيم قال: «نظرة إلى الوراء، إلى حبيبات زمان، لا يمكن أن تمضي الحياة هكذا إلى الأبد، إني أعرف الناس بك.» أيقدم على هذه الخطوة الأخيرة؟ خمس سنوات مضت وهو يأبى أن يخطوها. أكان تاب إلى الله توبة مؤمن مصاب؟ أم أضمر التوبة وخاف أن يجهر بها؟ أم أطلقها نية صادقة دون تورط في التوبة؟ لا يذكر، ولا يريد أن يذكر، ليس صغيرا من يدنو من الخامسة والخمسين. ولكن ما لفكره قد تقلقل وتزلزل؟ كحاله يوم دعي إلى السماع فلبى، هل يلبي النداء إلى حبيبات زمان بالمثل؟ متى يبعث الحزن ميتا؟ هل أمرنا الله أن نهلك أنفسنا وراء من نحبهم إذا ذهبوا؟ في عام الحداد والتقشف كاد الحزن يقتله قتلا، عام طويل لم يذق فيه شرابا، ولم يسمع نغما، ولم تند عن فيه ملحة حتى شابت شعيراته ... أجل، لم يتسلل الشيب إلى شعره إلا في ذلك العام، رغم أنه عاد إلى الشراب والسماع رحمة بالأصدقاء المقربين الذين انقطعوا عن اللذات إكراما لحزنه، كذب وصدق، عاد إلى الشراب لنفاد صبره ورحمة بالأصدقاء الثلاثة، لم يكونوا كالآخرين، وما على الآخرين من ملام، حزنوا لحزنك ثم جعلوا يراوحون بين مجلسك الجاف ومجالسهم الندية، فأي تثريب عليهم! بيد أن الثلاثة المحبين أبوا أن ينالوا من الحياة نصيبا أوفى مما ارتضيت لنفسك، وعدت رويدا إلى أشياء، إلا المرأة رأيتها كبيرة؛ فلم يلحوا عليك أول الأمر. لشد ما تأبيت وحزنت، لم يؤثر فيك رسول زبيدة، رددت أم مريم بوقار حزين حازم وأنت تكابد آلاما لا قبل لك بها، ظننت أنك لن تعود أبدا، وخاطبت نفسك المرة تلو المرة ... «أأعود إلى أحضان الغواني وفهمي في قبضة التراب؟» آه ... ما أحوجنا في ضعفنا وتعاستنا إلى الرحمة! فليداوم على الحزن من يضمن ألا يموت غدا، من قائل هذه الحكمة؟ واحد من اثنين: علي عبد الرحيم، أو إبراهيم الفار. محمد عفت بك لا يجود بالحكم، رفض رجائي، وزوج البنت من رجل غريب، ثم ضحك علي بالقبل، لا ينكر غضبه ويشفق من أن يطالعني به كما وقع قديما، لله هو أي وفاء وأي ود! أتذكر كيف امتزج دمعه بدمعك في القرافة؟ ولكنه القائل فيما بعد: «أخاف عليك الكبر إن لم تفعل ... تعال إلى العوامة.» ولما آنس ترددا قال: «لتكن زيارة بريئة ... لن يجردك أحد من ملابسك ويرميك على امرأة.» لم أحزن قليلا علم الله، بموته مات جزء جسيم مني، مات أملي الأول في الدنيا، من ذا يلومني على الصبر والعزاء؟ قلبي جريح وإن ضحك! ترى، كيف هن؟ ماذا فعل بهن الزمان في خمسة أعوام؟ خمسة أعوام طوال؟ •••
كان شخير ياسين أول ما تلقى كمال من عالم اليقظة، فلم يتمالك أن يناديه وهو إلى معاكسته أرغب منه إلى إيقاظه في ميعاده، ولاحقه بصوته غير متوان، حتى رد عليه الآخر بصوت كالنزع تشكيا وتذمرا، ثم تقلب بجسمه الضخم فطقطق الفراش فيما يشبه الأنين، والتوجع، ثم فتح عينين حمراوين وتأوه.
অজানা পৃষ্ঠা