226

কাসর আল-শওক

قصر الشوق

জনগুলি

فقال أحمد عبد الجواد كالمحتج: أتريدني على ألا أبت في مسألة حتى أجمع كمال وياسين وأم كمال، ثم نأخذ الأصوات؟

فهأهأت زبيدة قائلة: لا تنس زنوبة من فضلك.

وقال إبراهيم الفار: إذا كانت الثورة هي سبب ما نعاني من أولادنا، فالله يسامح سعد باشا. وتواصل الشرب والسمر والغناء والمزاح، وتعالت الضجة، واختلطت الأصوات، وتقدم الليل غير عابئ بشيء، وكان ينظر إليها فيجدها تنظر إليه، أو تنظر إليه فتجده ينظر إليها، وقال لنفسه: إنه ليس في هذا الوجود إلا لذة واحدة، وأراد أن يفصح عن فكرته، ولكنه لم يفصح، إما لأن حماسه للإفصاح فتر، أو لأنه لم يستطع، ولكن كيف جاء هذا الفتور؟ وتساءل مرة أخرى: أتكون لذة ساعة أم معاشرة طويلة؟ ونزعت نفسه إلى التماس التسلية والعزاء، ولكن ثمة وش كأن أمواج النيل تهمس في أذنيه، ومع ذلك فمنتصف الحلقة السادسة في متناول اليد، سل الحكماء: كيف ينطوي العمر ونحن ندري دون أن ندري. - ماذا أسكتك كفى الله الشر؟ - أنا؟ شوية راحة.

أجل ما ألذ الراحة، ضجعة طويلة تقوم بعدها صحيحا، ما ألذ الصحة، ولكنهم يطاردونك ولا يدعون لك لحظة واحدة تنعم فيها بالسلام، وهذه النظرة أليست فاتنة، ولكن همسات الأمواج تعلو فكيف تسمع الغناء؟ - كلا، لن نتركه حتى يزف، ما رأيكم؟ الزفة ... الزفة! - قم يا جملي. - أنا؟ ... شوية راحة. - الزفة ... الزفة، كما حدث أول مرة في بيت الغورية. - ذلك عهد قديم. - نجدده، الزفة ... الزفة.

لا يرحمون، وذلك زمن خلا تحجبه عن عينيك ظلمات، ألا ما أكثف الظلام، وما أشد الوش! وما أغلظ النسيان! - انظروا! - ما له؟ - قليلا من الماء ... افتحوا النافذة. - يا لطيف يا رب. - خير ... خير، بل هذا المنديل بالماء البارد.

42

مضى أسبوع على «حادث» الأب، وكان الطبيب يزوره يوميا، وكانت الحال من الشدة بحيث لم يسمح لأحد بمقابلته، حتى الأبناء كانوا يتسللون إلى الحجرة على أطراف أصابعهم فيلقون بنظرة على الراقد متفحصين ما يكسو وجهه من ذبول واستسلام، ثم ينسحبون وفي الوجوه اكفهرار، وفي الصدور انقباض، يتبادلون النظرات ويتهربون منها في ذات الوقت. قال الطبيب: إنها أزمة ضغط، وحجم المريض فملأ طستا من دمه، دم أسود كما قالت خديجة في وصفه وجوارحها ترتعش، وكانت أمينة تعود من الحجرة بين الحين والحين كشبح يهيم على وجهه، على حين بدا كمال ذاهلا كأنما يتساءل: كيف تقع هذه الأمور الخطيرة في أقل من غمضة عين؟ وكيف استسلم الرجل الجبار واستكان؟ ثم يسترق نظرة إلى شبح أمه أو عيني خديجة الدامعتين، أو وجه عائشة الشاحب، ويتساءل مرة أخرى: ماذا يعني هذا كله؟ ووجد نفسه تنساق وهو لا يدري إلى تصور النهاية التي يخافها قلبه، تصور عالم لا يوجد فيه الأب، فضاق صدره وجزع قلبه. وتساءل في إشفاق: كيف يمكن أن تتحمل هذه النهاية أمه؟ إنها تبدو الآن كالمنتهية ولما يقع شيء، ثم وردت ذهنه ذكرى فهمي، فتساءل: أيمكن أن ينسى هذا كما نسي ذاك؟ وتراءت له الدنيا ظلمات فوق ظلمات.

وعلم ياسين بالحادث في اليوم التالي لوقوعه، فجاء إلى البيت لأول مرة مذ غادره عند زواجه من مريم، وقصد حجرة أبيه رأسا، فألقى عليه نظرة طويلة صامتة، ثم انسحب إلى الصالة مذهولا، فالتقى بأمينة فتصافحا بعد طول فراق، واشتد تأثره وهو يصافحها فامتلأت عيناه بالدموع. ولبث السيد راقدا، ولم يكن أول الأمر يتكلم أو يتحرك، فلما حجم دب فيه شيء من الحياة، فاستطاع أن ينطق بكلمة أو عبارة مقتضبة يفصح بها عما يريد، ولكنه في الوقت ذاته شعر بالألم فصدر عنه الأنين والتأوهات. ولما خفت حدة الآلام المرضية أخذ يضيق برقاده الإجباري الذي حرمه نعمة الحركة والنظافة، وقضى عليه بأن يأكل ويشرب ويفعل ما تعافه نفسه في مكان واحد هو فراشه. وكان نومه متقطعا، وكان ضجره متصلا، غير أن أول ما سأل عنه كان خاصا بكيفية إحضاره إلى البيت مغشيا عليه، وأجابته أمينة بأنه جيء به في حانطور مع صحبه محمد عفت وعلي عبد الرحيم وإبراهيم الفار، وأنهم حملوه برفق إلى فراشه، ثم أحضروا له الطبيب رغم تأخر الوقت. وسأل بعد ذلك باهتمام عن عواده فقالت له المرأة إنهم لا ينقطعون، ولكن الطبيب منع المقابلة إلى حين. وكان يردد بصوت خافت: «الأمر لله من قبل ومن بعد.» و«نسأل الله حسن الختام.» ولكن الحق أنه لم يستشعر اليأس. ولم يحس بدنو النهاية، ولم تضعف ثقته بالحياة التي يحبها رغم آلامه وخوفه، عاوده الأمل بمجرد عودة الوعي إليه، فلم يحدث أحدا بحديث الراحلين كأن يوصي، أو يودع، أو يعهد لمن يهمه الأمر بأسرار عمله وثروته. وعلى العكس من ذلك استدعى جميل الحمزاوي، وكلفه ببعض أعمال المبادلة التي لم يكن يعلم عنها شيئا ، كما أرسل كمال إلى خياطه البلدي بخان جعفر ليحضر ملابس جديدة كان عهد بها إليه، وليدفع ثمن خيطها، لم يكن يذكر الموت إلا بتلك العبارات يرددها كأنما يداري بها قسوة الأقدار، وعند ختام الأسبوع الأول صرح الطبيب بأن مريضه اجتاز المرحلة الدقيقة بسلام، وأنه لم يعد يلزمه إلا بعض الصبر كي يسترد صحته كاملة ويستأنف نشاطه، وأعاد الطبيب على مسمعه ما سبق أن حذره منه عند ارتفاع ضغطه أول مرة، فوعده بالطاعة وعاهد نفسه صادقا على الإقلاع عن الاستهتار بعدما تبين له من عواقبه الوخيمة التي أقنعته بأن الأمر جد لا هزل، وجعل يتعزى قائلا: إن الحياة السليمة مع شيء من الحرمان خير على أي حال من المرض.

هكذا مرت الأزمة بسلام، فاستردت الأسرة أنفاسها، ولهجت قلوبها بالشكر، وعند نهاية الأسبوع الثاني سمح للسيد بمقابلة عواده فكان يوما سعيدا، وكانت أسرته أول من احتفل بهذا اليوم، فزاره أبناؤه وأصهاره، وتحدثوا إليه لأول مرة منذ الرقاد، وقلب الرجل عينيه في وجوههم - ياسين، وخديجة، وعائشة، وإبراهيم شوكت، وخليل شوكت - وراح بلباقته - التي لم تخنه حتى في موقفه هذا - يسأل عن الأطفال: رضوان، وعبد المنعم، وأحمد، ونعيمة، وعثمان، ومحمد، فقالوا له: إنهم لم يجيئوا بهم حرصا على راحته، ودعوا له بطول العمر وتمام الصحة والعافية، ثم حدثوه عن حزنهم لما ألم به، وسرورهم بسلامته، تكلمت خديجة بصوت متهدج، وتركت عائشة على يده وهي تقبلها دمعة تغني عن كل بيان، أما ياسين فقال بزلاقة لسان: إنه مرض معه حين مرض، وبرئ معه حين من الله عليه بالشفاء، فتطلق وجه الرجل الشاحب بالبشر، وحدثهم طويلا عن قضاء الله ورحمته ولطفه، وأن على المؤمن أن يواجه مصيره بصبر وإيمان، متوكلا على الله وحده، وغادروا الحجرة إلى حجرة كمال - مخلين الصالة لمرور العواد المنتظر توافدهم - وهناك أقبل ياسين على أمينة، فشد على يدها وهو يقول: لم أحدثك بما في نفسي طيلة الأسبوعين الماضيين؛ لأن مرض بابا لم يترك لي عقلا أفكر به، أما الآن وقد أمر الله بالسلامة فأود أن أعتذر عن رجوعي إلى البيت دون استئذانك، الحق أنك استقبلتني بالعطف الذي عهدته منك في الأيام السعيدة الخالية، ولكن علي الآن أن أقدم فروض الاعتذار.

فتورد وجه أمينة وهي تقول بتأثر: ما فات فات يا ياسين، هذا بيتك تحل فيه أهلا وسهلا حين تشاء.

অজানা পৃষ্ঠা