أين حسين أين؟ - سوف أكتب له عنه بنفسي، هل رددت على رسالته الأخيرة؟ - نعم، رددت برسالة موجزة كرسالته.
له وحده أسهب وأفاض حتى سجل كل خاطرة، يا للسعادة التي خص بها وحده! لكن لا ينبغي أن يبوح بسر رسالته أن يثير غيرة مدربه. - كانت رسالته إلي موجزة أيضا فيما عدا الحديث الذي تعرفه ولا تحبه. - الفكر! (ثم وهو يضحك) ... ما حاجته إلى هذا هو الذي سيرث ثروة تملأ المحيط، ما سر ولعه بهذه الخزعبلات؟ التكلف أم الغرور أم الاثنان معا؟
جاء دور حسين ليمد تحت المطرقة، ترى ماذا تقول عني في غيابي؟ - لا تناقض بين الفكر والغنى كما تظن، لقد ازدهر الفكر في اليونان القديمة بفضل بعض السادة الذين لم يشغلهم طلب الرزق عن التفرغ للعلم. - صحتك يا أرسطو.
أفرغ بقية كأسه وترقب. ثم تساءل: هل مرت به حال كهذه من قبل؟ نافث الحرارة الوجدانية ينطلق في الدورة الدموية، يجرف في طريقه الفجوة التي تتجمع بها نفايات الأكدار، قمقم النفس يتفكك لحام أحزانه فتطير منه عصافير المسرات مترنمة، وهذا صدى نغمة مطربة، وهذه ذكرى أمل واعد، وذاك طيف بهجة عابرة، الخمر لعاب كله السعادة. - ما رأيك في كأسين أخريين؟ - عمرك أطول من عمري.
ضحك إسماعيل ضحكة عالية وهو يومئ إلى النادل بأصبعه. ثم قال بارتياح: أنت سريع الاعتراف بالجميل. - هذا من فضل ربي.
وجاء النادل بالكأسين والمزة. وأخذ الزبائن يفدون مطربشين ومقبعين ومعممين، فيستقبلهم النادل بمسح وجوه المناضد بالمناشف إذ كان الليل قد أقبل، وأضيئت المصابيح؛ فتألقت المرايا الملتصقة بالجدران مصورا على أسطحها قوارير الديوارس والجون ووكر، وترامت من الخارج ضحكات ملعلعة كالأذان غير أنها تدعو للفجور، وصوبت نحو منضدة الصديقين المراهقين نظرات إنكار متسامح باسم، ثم ورد من الطريق بائع جمبري صعيدي، فبائعة فول ذات ثنيتين ذهبيتين، وماسح أحذية، وصبي كبابجي هو في الوقت ذاته قواد كما دل ترحيب الجلوس به، وقارئ كف هندي، ثم لا تسمع هنا وهناك إلا «صحتك» وها ها، وفي مرآة تلي رأس كمال مباشرة نظر فرأى وجهه موردا، وبصره لامعا باسما، وفيما وراء صورته عكست المرآة منظر رجل عجوز وهو يرفع كأسه إلى فيه، ثم يتمضمض بحركة أرنبية، ويزدرد الشراب، ثم يقول لجليسه بصوت مسموع: «المضمضة بالويسكي سنة عن جد لي مات وهو يسكر!» فحول كمال وجهه عن المرآة، وقال لإسماعيل: نحن أسرة محافظة جدا، أنا أول ذائق للخمر فيها.
فهز إسماعيل منكبيه هازئا، ثم قال: كيف تحكم على ما ليس لك به علم؟ هل شاهدت شباب والدك؟ أما أبي فيتناول كأسا مع الغداء وأخرى مع العشاء، وقد أمسك عن الشراب في الخارج، أو هذا ما يدعيه أمام والدتي.
لعاب إله السعادة يتسرب إلى مملكة الروح، وهذا الانقلاب الغريب الذي حدث في لحظات لا تقدر البشرية على إدراكه في أجيال وأجيال، وهو في جملته يجود بمعنى باهر جديد لكلمة «السحر»، وأعجب شيء أنه لم يكن جديدا كل الجدة، فلعله طاف بالروح مرة، ولكن متى؟ وكيف؟ وأين؟ إنه موسيقى باطنية تعزفها الروح، وما الموسيقى المعهودة بالقياس إليها إلا كقشور التفاح بالقياس إلى لبابه، ترى ما سر السائل الذهبي الذي صنع هذه المعجزة في لحظات معدودات؟ لعله طهر مجرى الحياة من الزبد والرواسب، فانطلقت وثبة الحياة المكبوتة كما انطلقت أول مرة حرية مطلقة ونشوة خالصة، فهذا هو الشعور الطبيعي بوثبة الحياة إذا تحررت من ربقة الجسد، وأغلال المجتمع، وذكريات التاريخ، ومخاوف المستقبل، موسيقى رائقة نقية تقطر طربا، وتصدر عن طرب، مثلها طاف بروحي من قبل، ولكن متى؟ وكيف؟ وأين؟ آه، يا للذكرى، إنها الحب! يوم نادت: «يا كمال» أسكرتك وأنت لا تدري ما السكر، فقر بأنك سكير قديم، وأنك عربدت دهرا في طريق الهوى المخمور المعبد بالأزهار والرياحين، كان ذلك قبل أن يتحول قطر الندى الشفاف إلى وحل، فالخمر روح الحب إذا انجابت عنه بطانة الآلام، فحب تسكر أو اسكر تحب. - الحياة جميلة مهما قلت وأعدت. - ها ها، أنت الذي تقول وتعيد.
طبع المقاتل على خد غريمه قبلة صافية فحل السلام على الأرض، وغرد البلبل فوق غصن ريان، فطرب العاشقون في أربعة أركان المعمورة، وطار طائر الأشواق من القاهرة إلى بروكسل مارا بباريس فاستقبل بالحنان والأناشيد، وغمس الحكيم شباة قلمه في مداد قلبه فسجل وحيا منزلا، ثم آوى المجرب إلى شيخوخته فألمت به ذكرى دامعة بعثت في صدره ربيعا مكتما، أما أسلاك الشعر الأسود المسدل على الجبين فكعبة يتجه إليها الثملون في حانات الوجد. - كتاب وكأس وحسناء وارمني في البحر. - ها ها، سيفسد الكتاب الكأس والحسناء والبحر. - لسنا متفقين في فهم معنى اللذة، تراها أنت لهوا وعبثا، وهي عندي الجد كل الجد، هذه النشوة الآسرة هي سر الحياة وغايتها العليا، وما الخمر إلا بشيرها والمثال المحسوس المتاح لها، وكما كانت الحدأة مقدمة لاختراع الطائرات، والسمكة تمهيدا لاختراع الغواصة، فالخمر ينبغي أن تكون رائد السعادة البشرية، والمسألة تتلخص في هذه الكلمة: كيف نجعل من الحياة نشوة دائمة كنشوة الخمر دون الالتجاء إلى الخمر؟ لن نجد الجواب في النضال والتعمير والقتال والسعي، فكل أولئك وسائل وليست بغايات، السعادة لن تتحقق حتى نفرغ من استغلال الوسائل كلها لنتمكن من أن نحيا حياة عقلية روحية خالصة لا يكدرها مكدر، هذه هي السعادة التي أعطتنا الخمر مثالها، كل عمل وسيلة إليها، أما هي فليست وسيلة لشيء. - الله يخرب بيتك. - لمه؟! - كان أملي أن أجدك في نشوتك محدثا طريفا لطيفا، ولكنك كالمريض يزيد مرضه بالخمر استفحالا، فيم تتحدث يا ترى إذا شربت الكأس الثالثة؟ - لن أشرب أكثر مما شربت، إني الآن سعيد، وفي وسعي أن أدعو أية امرأة تعجبني. - هلا انتظرت قليلا. - ولا دقيقة واحدة.
سار متأبطا ذراع صاحبه غير هياب ولا متردد، ينتظمه تيار من البشر يتلاطم مع تيار آخر قادم من الوجهة المضادة، في طريق ملتو ضاق برواده. كانت الرءوس تدور إلى اليمين تارة، وإلى اليسار أخرى، وعلى الجانبين بدت مضيفات الطريق قائمات وقاعدات يقلبن في وجوههن المقنعات بالزواق الفاقع أعين الترحيب والإغراء، ولا تمضي آونة حتى يمرق أحدهم من التيار إلى إحداهن فتتبعه إلى الداخل، وقد مسحت عن عينها نظرة الإغراء لتحل محلها نظرة الجد والعمل، وكانت المصابيح المركبة فوق أبواب البيوت والمقاهي تضيء الطريق بأنوار ساطعة انعقدت في أعاليها سحب الدخان المتطاير من بخور المجامر وتبغ الجوز والنارجيلات، أما الأصوات فقد تلاقت واختلطت في دوامة صاخبة دارت بها الضحكات، والهتافات، وصرير الأبواب، والنوافذ، وعزف البيانو، ومزيكة اليد، وتصفيق الأيدي الراقصة، وزعيق الشرطي، والشخير والنخير، وسعال الحشاشين، وصراخ السكارى، واستغاثات مجهولة، وقرع عصى، وغناء فردي وجماعي، وفوق الجميع لاحت السماء قريبة من أسطح البيوت البالية ترنو إلى الأرض بأعين لا تطرف. كل حسناء هنا في متناول اليد، تجود بحسنها وأسرارها نظير عشرة قروش لا غير، فمن كان يصدق هذا قبل أن يراه؟ وخاطب إسماعيل قائلا: هارون الرشيد يخطر في بهو الحريم.
অজানা পৃষ্ঠা