فعادت تقول بصوت أعلى من سابقه: قلت لك ورائي رجل غيور ...!
فاستطرد قائلا دون اكتراث: توفابيان، ما رأيك؟ إنه مكان لطيف وابن حلال، سأنادي هذا التاكسي.
فند عنها صوت احتجاج، ثم تساءلت في استياء وشى وجهها بغيره قائلة: «بالقوة؟» ثم نظرت في ساعتها بمعصمها - وقد كادت هذه الحركة الجديدة تضحكه - وقالت بلهجة الشارط: على ألا أتأخر، الساعة الآن السادسة، وينبغي أن أكون في البيت قبل الثامنة.
تساءل والتاكسي يطوي بهما الطريق: ترى هل لمحتهما عين ما بين التربيعة والموسكي؟ غير أنه هز كتفيه استهانة وهو يزحلق طربوشه المائل فوق حاجبه الأيمن إلى الوراء بمقبض منشته العاجية، ماذا يهمه؟ مريم وحيدة، وليس وراءها وحش مثل محمد عفت الذي قوض أول بيت زوجية بناه، وأما أبوه فرجل لبق، وهو يعلم أنه لم يعد الطفل الغرير الذي نكل به في فناء البيت القديم. وفي حديقة توفابيان جلسا حول مائدة متقابلين. كان المشرب غاصا بالنساء والرجال، والبيانو الميكانيكي يعزف مقطوعاته الرتيبة، على حين هفت رائحة الشواء مع نسيم الأصيل من ركن قصي. وأدرك من ارتباكها أنها تجلس في مكان عام لأول مرة فداخله سرور حريف، ثم أيقن في اللحظة التالية أن ما به حنينا حقا لا محض رغبة عابرة، وبدت له أيامها الغابرة أسعد الأيام كلها. وطلب قارورة كونياك، ثم طلب شواء، وجرى ماء الحياة في خديه، ثم خلع طربوشه فبدا شعره الأسود مفروقا من الوسط على جانبي الرأس كشعر أبيه، فما إن لمحته زنوبة حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة لم يفطن بطبيعة الحال إلى ما وراءها. كانت أول مرة يجالس فيها امرأة في حانة غير حانات وجه البركة، وكانت أول مغامرة له بعد زواجه الثاني مع استثناء إلمامة واحدة بدرب عبد الخالق. وربما كانت أول مرة كذلك يشرب فيها كونياك «راقيا» خارج البيت؛ إذ إنه لا يتناول الجيد منه إلا فيما يقتني من زجاجات في البيت للاستعمال «الشرعي» على حد تعبيره. ملأ الكأسين في زهو وارتياح، ثم رفع كأسه وهو يقول لها: صحة زنوبة مارتل.
فقالت بكبرياء خفيف الظل: إني أشرب الديوارس مع البك!
فقال متأففا: دعينا من سيرته، ربنا يقدرنا على جعله في خبر كان. - بعدك ... - سنرى، كلما شربنا كأسا تفتحت لنا أبواب وانحلت عقد.
ولإحساسهما بقصر الوقت المتاح تعجلا الشراب فامتلأ الكأسان وفرغا تباعا، وهكذا أخذ الكونياك يزغرد بلسانه الناري في معدتيهما فيرتفع زئبق النشوة في ترمومتر العروق، أما الأوراق الخضراء المتطلعة من الأصص وراء سور الحديقة الخشبية فافترت ثغورها عن بسمات متألقة. وأخيرا وجد البيانو آذانا متسامحة، والوجوه الحالمة والمعربدة تلاقت أعينها مرارا في أنس ومودة، وجو الأصيل سبح في موجات موسيقية صامتة، وبدا كل شيء طيبا وجميلا: أتعرف ماذا طفر إلى لساني أول ما رأيتك اليوم وأنت تحملق في المرأة كالمسعور؟ - أفندم؟ ... ولكن أفرغي كأسك أولا حتى أملأه.
وهي تتناول ريشة شواء: كدت أصيح بك: يا ابن الكلب!
وهو يضحك ضحكة ريانة: ولم لم تفعلي يا بنت القارحة؟ - أصلي لا أشتم إلا الأحباء، وكنت وقتها غريبا أو كالغريب. - والآن ماذا ترينني؟ - ابن ستين ... - يا سلام، الشتيمة تسكر أكثر من الخمر أحيانا، هذه الليلة المباركة ستتحدث عنها الجرائد غدا. - لم كفي الله الشر؟ ناوي تعمل حادثة؟ - الطف يا رب بي وبها.
وعند ذاك قالت في شيء من الاهتمام: لم تحدثني عن زوجك الجديدة ...!
অজানা পৃষ্ঠা