فحملقت المرأة في وجهه مقطبة، وصاحت به: اخرس، اغرب عن وجهي، لست كاذبة، ولا يصح أن يرميني مخلوق بالكذب، إني أعرف ما أقول، ولا حياء في الحق، لم تكن الشركسية بالطعام المعروف في بيت السيد قبل أن تدخله زينب، وليس في ذلك ما يعيب أحدا أو ينتقصه، ولكنها الحقيقة. هاكم السيد فليكذبني إن كنت كاذبة، إن طواجن بيته مضرب الأمثال، ويليها الأرز المحشو، أما الشركسية فلم تقدم على مائدته قبل مجيء زينب، تكلم يا سي السيد، أنت وحدك الحكم.
قاوم السيد أحمد إغراء الضحك طيلة حديث المرأة. ثم قال بلهجة عنيفة: ليت ذنبها اقتصر على الكذب والادعاء الباطل من دون أن تضيف إليه سوء الأدب، هل شجعك على هذا السلوك السيئ ابتعادك عن قبضة يدي؟ إن يدي تمتد إلى حيث يجب أن تمتد بلا تردد، من المؤسف حقا أن يجد أب ابنته مستحقة للتأديب والعقاب بعد أن اكتمل نضجها، واستوت بين النساء زوجة وأما.
واستطرد ملوحا بيده: إني غاضب عليك، ووالله إنه ليؤلمني أن أرى وجهك أمامي.
أجهشت خديجة بالبكاء فجأة. جاء ذلك عن تأثير وتدبير معا، ولم يكن ثمة وسيلة أخرى للدفاع، ثم قالت بصوت متهدج تخنقه العبرات: أنا مظلومة، والله أنا مظلومة، إنها لا ترى وجهي حتى ترميني بكلمات قاسية، ولا تفتأ تقول لي: «لولاي لقضيت العمر عانسا!» وأنا لم أنلها بسوء أبدا، وكلهم شهود على ذلك.
لم تعدم الحركة التمثيلية - الصادقة الكاذبة - أثرا تركته في النفوس، قطب خليل شوكت حانقا، ونكس إبراهيم شوكت رأسه، والسيد نفسه ولو أن مظهره لم يعتوره تغيير إلا أن قلبه انقبض عند سماعه ما قيل عن العنوس كعهده من قديم، أما العجوز فجعلت تنظر إلى خديجة نظرات نافذة من تحت حاجبيها الأشيبين، وكأنما تقول لها: «مثلي دورك يا ماكرة، ولكنه لن يجوز علي!» ولما استشعرت في الجو عطفا على الممثلة قالت بتحد: هاكم عائشة أختها، إني أستحلفك بعينيك، أستحلفك بالقرآن الشريف إلا ما شهدت بما سمعت ورأيت، ألم ترمني أختك بالكذب في وجهي؟ ألم أصف نزاع الشركسية دون مبالغة أو تجاوز، تكلمي يا بنية، تكلمي، إن أختك ترميني الآن بالظلم بعد أن رمتني أمس بالكذب، تكلمي ليعلم السيد من الظالم ومن المعتدي.
روعت عائشة بجرها المباغت إلى حومة القضية التي ظنت أنها ستقف منها موقف المشاهد إلى النهاية، وشعرت بالخطر يحدق بها من كل جانب، فرددت عينيها الجميلتين بين زوجها وأخيه كالمستغيثة، فهم إبراهيم بالتدخل، ولكن السيد أحمد سبقه إلى الكلام، فخاطب عائشة قائلا: إن والدتنا تستشهد بك يا عائشة، فيجب أن تتكلمي.
فاضطربت عائشة حتى شحب لونها، ولكن شفتيها لم تتحركا إلا عند ازدراد ريقها، وغمضت عينيها فرارا من عيني أبيها، وأصرت على الصمت. قال خليل محتجا: لم أسمع من قبل أن أختا دعيت للشهادة على أختها!
فصاحت به أمه: ولم أسمع من قبل أن أبناء يتكتلون ضد أمهم كما تفعلون. (ثم ملتفتة إلى السيد) ولكن حسبي صمتها، إن صمت عائشة لي يا سي السيد.
ظنت عائشة أن عذابها قد انتهى عند هذا الحد، ولكنها ما تدري إلا وخديجة تقول لها برجاء وهي تجفف عينيها: تكلمي يا عائشة هل سمعتني أشتمها؟
لعنتها في سرها من صميم قلبها، وراح رأسها الذهبي يهتز اهتزازة عصبية، فهتفت العجوز: جاءنا الفرج، هي التي تطالب بالشهادة، لم يبق لك عذر يا شوشو، يا ربي إذا كنت ظالمة حقا كما تقول خديجة فلم لم أظلم عائشة؟ لم تسير الأمور بيني وبينها على خير حال! لم يا ربي؟ لم؟
অজানা পৃষ্ঠা