75

ذلك كله غير مستحيل، إلا أننا حريون أن نذكر أن ضوابط السلم في العالم قد بلغت في عصرنا هذا ما لم تبلغه قط في عصور التاريخ القريبة أو البعيدة، وإننا في عصر لا تؤمن فيه غوائل الحروب على المنهزمين والمنتصرين، ولا يسهل فيه الهجوم على الحرب قبل استنفاد كل حيلة من حيل التوفيق أو حيل التأجيل والإمهال.

فالقوى بين المعسكرين متكافئة متوازنة مهما يكن من الفارق بينها، فهو فارق لا يغري بالطمع في الغلبة على ثقة من عوارض الحرب ونكساتها المجهولة.

وقد كانت شرور الحرب فيما مضى تنتهي بنهايتها، وتتلوها الغنيمة المضمونة لمن يفوز بالغلبة فيها، وليست الغنيمة اليوم مضمونة للظافر المتغلب، بل لعله يبوء من الغلبة بالخسارة والتعويض للأمم التي أصابتها الهزيمة الفادحة، وعلى قدر فداحة الهزيمة يكون سوء الحالة بين الشعوب التي تبتلى بجرائرها، ويكون العبء الثقيل على كواهل الظافرين المسئولين عن تلك الجرائر، الخائفين على أنفسهم من عقابيلها، وأولها انهدام القواعد التي يقوم عليها بناء المجتمع عندهم سواء منها ما قام على الديمقراطية أو على الشيوعية.

ومن ضوابط السلم في عصرنا أن الهجوم على الحرب عسير على ولاة الأمر في الأمم الدستورية، وغير يسير على ولاة الأمر في الأمم التي تخضع للحكم المطلق على صورة من صوره السافرة أو المقنعة. فليس في هذه الأمم أو تلك رئيس واحد يملك أن يعلن الحرب وأن يقض على زمامها وهو آمن على بقاء ذلك الزمام في يديه إلى النهاية، ولا بد من النظر إلى عامل جديد في هذا العصر لم يكن له شأن خطير في حروب الأزمنة الغابرة، ونعني به شأن المحايدين الذين يرجحون إحدى الكفتين بالتزام الحيدة أو بالسماح لأحد الفريقين بمعونة التموين وتيسير المواصلات، ونقل الأخبار والمعلومات، فلم يكن للمحايدين مثل هذا الشأن في حروب الأزمنة الغابرة، وليس من المستطاع في حرب عالمية إغفال شأنهم كبارا وصغارا في بقعة من بقاع الكرة الأرضية، وليس من اليسير إقناعهم ولا انتزاع معونتهم على الرغم منهم، فإذا تيسر لولاة الأمر في دولة كبيرة أن يقنعوا المعارضين لهم في بلادهم، فليس إقناع المعارضين لهم في خارج بلادهم بالأمر اليسير.

وقد نرى غدا أن وبال الأسلحة الجديدة هي صمام الأمان ومفتاح الأمل في اجتناب الحرب العالمية، فإن تعذر اجتناب الحرب فربما اتفق الرأي على اجتناب الأسلحة الجائحة من قذائف الذرة والصواريخ الموجهة وما إليها، ويصح القياس في هذا الأمل على أسلحة معروفة تمكن المقاتلون من اجتنابها وهي أفتك وأقرب إلى متناول الجميع من أسلحة الذرة والصواريخ، وتلك هي الأسلحة المكروبية.

فالأمم التي تقدر على صناعة أسلحة المكروبات والجراثيم أكثر من الأمم التي تخترع الأسلحة الذرية والصاروخية، ونفقات الأسلحة التي تنشر عدوى الطواعين والأوبئة أقل من نفقات شق الذرة وتوجيه الصاروخ، والكوارث التي تلحقها بالأعداء أشد من كوارث القذائف المرهوبة من كل سلاح جديد، وقد أصبحت صناعة الأسلحة المكروبية في طاقة عشرات من الأمم قبل إتقان الطيران، وقبل التمكن من إصابة المرمى البعيد بالمدفع والبندقية، فإن تلويث الأنهار والأمواه - بل تلويث الأجواء - في البلاد المعادية لم يكن عسيرا على أمة لديها معامل التحليل والتركيب، وإن لم تكن لديها مصانع التسليح، وفي وسع شرذمة من الجواسيس أن تندس في أطراف البلد المقصود فتنشر فيه الوباء وتعطل فيه كل وسيلة من وسائل القتال والاستعداد وكل وسيلة من وسائل التموين والعلاج، ولم يحدث حتى اليوم أن أحدا في مأزق من مآزق الهزيمة التي تهون كل شيء على اليائس المستميت قد أغراه اليأس باستخدام هذا السلاح، فلا نغلو في التفاؤل إذا علقنا الرجاء بحكمة الشعوب الإنسانية أن تتجنب خطر الذرة، كما تجنبت خطر الجراثيم.

والذرة المنشقة - بعد - ليست بالكلمة الأخيرة في علم المخترعين بأسرار الإشعاع وحركات الأثير، فقد يعلمون بعد حين ما يجهلونه الآن من حركات الأمواج الأثيرية دفعا وطردا، وسرعة وبطئا فلا يستعصي عليهم أن يقابلوا الموجات المندفعة من شق الذرة بموجات تصدرها وتلغيها، ولا يعسر عليهم أن يهيئوا منطقة من الجو لتعديل الموجات الشعاعية، وتوجيهها إلى الأعلى أو إلى الأسفل أو إلى الوجهة التي تتحول بها من الحركة الضارة إلى الحركة السليمة، وإنه لحلم من أحلام العلم لو تحقق لكان في مخترعات الصناعة عصمة من بوائقها الجائحة، ولم يوكل رجاء الناس كله إلى عصمة الضمائر والأخلاق.

وسيتحقق هذا الحلم في بقية هذا القرن العشرين أو يظل من أحلال العلم والإنسانية زمنا يعلمه الله، ولكن مسير العالم من التضامن إلى التعاون لا يتوقف عليه، فإذا اشتبكت علاقات التضامن غاية اشتباكها، فالتعاون بين الشعوب العالمية كائن لا محالة ضرورة واختيارا في حقبة من المستقبل القريب لا تطول بعد نهاية القرن العشرين.

الفصل الثامن

أفريقيا وآسيا

অজানা পৃষ্ঠা