لقد كانت لأول نشأتها تحتاج إلى مهندس واحد يفهم تركيبها ويحسن إدارتها، ويعتمد في تنظيم عملها وإصلاح خللها على الذكاء والدراية العلمية، وقد يعاونه على إدارتها مساعدون قليلون - بل جد قليلين - يتعلمون مثل تعليمه ويفهمون مثل فهمه، ولا حاجة بعد المهندس ومساعديه إلى معونة غير المعونة اليدوية التي يتساوى فيها الذكاء والغباء، ويتكرر فيها العمل الواحد على أيدي المئات والألوف كما تتكرر أعمال الآلات.
إنسان واحد وألف آلة، ولا فرق في ذلك بين نوع ونوع من المكنات الضخام التي قامت عليها الصناعة الكبرى منذ أواسط القرن التاسع عشر، إلى العقود الأولى من القرن العشرين.
إن عهد هذه المكنة ينقضي في كل أمة من الأمم التي نهجت على سياسة التصنيع وذهبت تتدرج في تعميم الصناعة الكبرى، وسيصبح «الآدميون الآلات» نمطا عتيقا لا نفع له بعد شيوع التنويع في المكنات، وشيوع الأجهزة المختلفة في المكنة الواحدة، ولن تكون هناك سخرة آلية محصورة في فئة كبيرة من فئات العاملين في الصناعة، ولن تكون هناك قوة طاغية تعتمد على السخرة الآلية متى زالت هذه السخرة من قرارها.
وكلما انتشرت الصناعة لزم الذكاء في استخدام الآلات، وشاع استخدامها في المكتب والنادي والمتجر والبيت والديوان، ولم يبق عمل الذكاء مقصورا على المكنة الضخمة في المصانع الجماعية، وأصبحت الصناعة اليدوية المجردة من الخبرة العقلية والدراية الفنية شيئا نادرا يقل من يزاولونه ويرتضونه ويناط أداؤه بذوي القصور الطبيعي من الأغبياء وضعفاء العقول، وقد رأينا فيما تقدم من البحوث عن حالة التعليم في القرن المقبل أن علماء التربية سيحتاجون إلى جهد غير قليل لتدبير العمل الذي يوكل إلى هؤلاء القاصرين ضنا بالذكاء أن يبذل في أعمال تستغني عن الذكاء، وشعورا بالحاجة المزدادة إلى درجات من الفطنة تصلح لكل درجة من درجات الإنتاج وتسيير الآلات.
ولا يخفى أن تهيئة التعليم الصناعي الذي ينجب الخبراء المطلوبين في كل فرع من فروع الصناعة، لا يتأتى بغير مرحلة عامة من التعليم الأولي كفيلة على الأقل بمحو الأمية، وتزويد الناشئ المتعلم بقسط من المعرفة، يرتفع به عن تلك الآدمية الآلية التي تنساق مغمضة الأعين للدعاة المغررين والطغاة المستبدين.
ويصحب هذا في المجتمع الصناعي المتقدم نظام آخر يمنع التفاوت الواسع بين الطبقات ، فإن المساهمة في الشركات التي تملك معامل الصناعة الكبرى باب مفتوح لكل من يملك ثمن السهم والسهمين والأسهم القليلة التي لا يعجز عنها أصحاب الموارد المحدودة ممن يعيشون بالمرتبات والأجور.
فالمكنة الضخمة التي تشق المجتمعات، وتقطع الصلة بين طبقاتها تعود فتعقد هذه الصلة، وتملأ الفجوة بين كل طبقة، وما يليها ممن هم فوقها، ومن هم دونها في العلم والعمل والذكاء والمعيشة، ومن آثارها في مناح كثيرة أنها تقارب بين دواعي الاتصال والتعاون، وتباعد بين دواعي القطيعة والبغضاء، وتتقارب هذه الدواعي اضطرارا كما تتقارب اختيارا بما يناسبها من الآداب والأخلاق، فإذا امتنع التوازن في المجتمعات التي يسيطر عليها أصحاب الأموال أو يسيطر عليها أصحاب الأعمال اليدوية، فلا بد من التوازن في المجتمعات التي يملك فيها الأوساط سلاحا كسلاح الأغنياء المحتكرين للثروة أو سلاحا كسلاح العمال اليدويين القادرين على تعطيل الأعمال أو على التهديد بالإضراب، إذ يستطيع هؤلاء الأوساط أن يجردوا سلاحا كسلاح أصحاب الأموال؛ لأنهم يحتلون مراكز الإدارة الهندسية والاقتصادية، ويستطيعون أن يجردوا سلاحا كسلاح العمال اليدويين؛ لأنهم يملكون التعطيل ويملكون التهديد بالإضراب، وليس من اليسير أن يستبد أصحاب الأموال أو يستبد العمال اليدويون متى قامت في المجتمع طبقة وسطى بين الطبقتين لها صوت مسموع ووسيلة إلى إسماع صوتها وإثبات حقها ورفع الضغط عنها من أعلاها ومن أدناها، وأبعد ما يكون المجتمع عن استبداد العلية أو استبداد الجماهير إذ امتدت فيه طبقاته الوسطى امتدادا يتغلغل بها في الطبقتين ممن هم أعلى منها، ومن هم دونها، ويحاول من يريد التفرقة هنا أو هناك أن يضع الخط الفاصل حيث ينقطع الشبه بين الجانبين فيعييه الفصل الحاسم على وجه من الوجوه. •••
فتاريخ الإنسان الاجتماعي، أو تاريخ الإنسان في الحضارة ملازم إذن لتاريخ «الآلة» كل الملازمة: تطورها مقياس صادق لتواريخ الحضارات وللفوارق المحمودة - أو غير المحمودة - التي تمييز بعضها من بعض، وترتقي الآلة البسيطة إلى المكنة الضخمة فيكون ارتقاؤها في المجتمعات المتقدمة مظهرا عاما من مظاهر التوازن بين طوائفها ووسائل نفوذها واقتدارها على تبليغ صوتها وتقرير حقها، فإذا ظهرت الصناعة الكبرى في مجتمع لم يستوف تكوينه الاجتماعي، ولم تتوازن فيه القوى والمصالح فهي خليقة أن تتدارك هذا النقص وأن تخلق هذا التوازن مع الزمن وتخلق معه أسباب التعاون بين الطبقات، وأسباب التغلب على كل طغيان من إحداها على الأخرى. •••
إن أثر الآلة في حضارة الإنسان الاجتماعي لا يقل عن أثرها في ثقافة الإنسان الفرد أو في قياس الفارق بينه وبين الحيوان.
ولا يقل عن هذين الأثرين البارزين أثرها في حياته العالمية: حياة النوع الإنساني على تباعد أقطاره، وتفاوت أقوامه، وتنازع القوى بين حكوماته وشعوبه.
অজানা পৃষ্ঠা