فترة خاطفة تبدو لعين الحالم خطوة أولى في طريق بلا نهاية. خطوة تمهيد ليس إلا، ثم تتلوها المدرسة، والمراهقة، والشباب، والنضج، والشيخوخة، الحياة بكل أبعادها المتاحة. لكن مهلا .. هي فترة قصيرة ولكنها تحمل أجنة احتمالات لا تعد. تشهد مولد الأسئلة الخالدة، والحب، والجنس، والصداقة، والقيم، والحياة، والموت، في رحاب ذي الجلال. ألحان أساسية تنمو وتتنوع مع العمر، تتلقى من البحر الثري أمواجا متدافعة، وآفاقا مترامية. توزعنا الأهواء والتأملات، الحلم والأفعال، الانكماش والاندفاع، ولا نتخلى عن الرغبة الأبدية في الاهتداء إلى مصباح يضيء لنا طريق المصير.
دخان الظلام
رأيتني في رحلة مرحة من رحلات الزمان الأول. يبدو أن اليوم من أيام الشتاء اللطيفة؛ فالسماء صافية والشمس حانية. توافدنا على الميدان كما تواعدنا رغم الموت الذي فرق بيننا، بأيدينا حقائب صغيرة من الخوص المجدول الملون ملأى بالأطعمة والأشربة. زقزقت حناجرنا بالضحكات، وعبرنا حدود الميدان الشرقية المفضية إلى الخلاء، وعيون المياه وراحة النخيل والحناء. كالعادة يمضي النهار بصحبة الطعام، والشراب، والسمر، والطرب حتى ينهكنا السرور، ثم نعود بالحقائب الخاوية إلى الميدان عند الأصيل. الآن الشمس تنحدر نحو الأفق، ولفحات من البرودة تهب، ولكن في دماثة وعذوبة. تبادلنا تحيات الوداع، وتفرق الأحباب بين الطرقات المفضية إلى بيوتهم. تمهلت بعض الوقت مطمئنا إلى قرب بيتي من الميدان. وجدت نفسي شبه وحيد لندرة العابرين آخر النهار. واتجهت نحو طريقي التي تصب في الميدان كسائر الطرق. سرت وأنا في غاية من الشبع والرضا بين صفين من الأسواق والوكالات والورش، للبيع والشراء والصناعات والحرف، فيه تختلط أصوات العملاء بأزيز المواقد ودق المطارق. لا يسكت ضجيجه أو تتلاشى حركته إلا بعد هبوط الليل، وذهاب الحافلات، واستقرار النقود في الخزائن. هو الشارع الذي حلمت فيه بالنضج والعمل، وأسعدني كثيرا التجول في جنباته. ولما شارفت نهايته دهمني منظر سد من الأحجار أغلق مخرجه بإحكام. ذهلت وغضبت، وتساءلت متى قام هذا السد؟ ومن الذي أقامه؟ ولأي غاية صنعه؟ وتلفت حولي فلمحت عند زاوية السد اليمنى شخصا يجلس وراء مكتب خال إلا من تليفون. ولما استقر بصري عليه تسمرت في مكاني من هول ما رأيت. طالعني وجه غليظ بصورة تتحدى أي خيال، وفي موضع الأنف ينطلق خرطوم قصير على هيئة خرطوم الفيل، تحت عين واحدة غائرة تستقر في منتصف الجبين. تراجعت فزعا وأنا أتساءل: أهو إنسان أم حيوان؟ وأي نوع من الحيوان يكون؟ وأرى الناس منهمكين في شئونهم لا يعيرونه التفاتا، فملكتني الحيرة، وداخلني خوف من المكان كله. وطويت حيرتي في صدري وانحصر تفكيري في النجاة بنفسي من هذا الشارع الذي توهمت خطأ أنه سبيلي إلى بيتي. وجدتني مرة أخرى في الميدان فصادفني عابر سبيل، فاعترضت طريقه مستغيثا به. أشرت إلى الطريق المسدود وسألته: ماذا يجري في هذا الطريق؟
ولكنه حدجني بحنق لاعتراضي سبيله، وهتف بي: عن إذنك، لا وقت عندي للكلام الفارغ!
ونحاني جانبا ومضى. وبدوري لم أعد أفكر إلا في العودة إلى بيتي مؤجلا أي شيء إلى حينه. لا شك أن الرحلة أدارت رأسي؛ فلعل طريقي هو التالي. أية دهشة ستدرك الأصدقاء عندما أروي لهم ما رأيت. وفي الحال ولجت مدخل الطريق الثاني. إنه أضيق من الأول، لم أستدل بملمح من ملامحه على أنه حقا طريقي، ولكني لم أعدل عن السير لارتيابي الطارئ في سلامة ذاكرتي. وهو شبه خال أيضا. أجل، تقوم على جانبيه مقاه صغيرة متباعدة، ولكن لا يكاد يرى أحد في ساحته. وسطعت من مقاهيه روائح غريبة نافذة ومؤثرة، وتراءى الجالسون وكأنهم لا يسمعون، ولا يرون، ولا يشغلهم شاغل، أو يربطهم بالحياة رابط. أوسعت الخطى هربا من قلق زاحف. ولما دنوت من النهاية تسمرت قدماي للمرة الثانية. سرت الرعدة في أوصالي، ولم أصدق عيني. إنها حوقة من الهياكل العظمية، ترقص رقصة جماعية شعبية. إنه الموت يرقص أمام عيني بلا موسيقي تصاحبه. عدت جريا قبل أن يغمى علي. ماذا جرى للدنيا؟ وكيف أعثر في هذا الضياع على شرطي لأستنجد به؟ لأذهبن إلى قسم الشرطة قبل ذهابي إلى بيتي إذا تخلصت من ورطتي الخانقة. ولم يخل الميدان من عابر أو عابرين، ولكني تذكرت الدرس القاسي الذي تلقيته على يد الرجل الأول، بالإضافة إلى أنني لم أعد أثق في شيء. لم يعد لي من هدف أهم من الرجوع إلى بيتي. وهذا هو الطريق الثالث فلأجربه وأمري لله . إنه على أي حال طريق حي تتردد فيه أنفاس العشرات من البشر. ربما يكون طريقي الذي ضللته. منه تترامي نداءات الباعة على كل ما يؤكل أو يشرب. الزبائن يقبلون خفافا ويذهبون محملين بالقراطيس والأكياس واللفائف. سرت مسرعا يشدني شيء من الأمل، ولكن ماذا أرى يا ربي؟ من الزبائن من يذهب وهو يجفف دموعه، أو من يتلوى كالملسوع صارخا، أو من يرمي بجمرة دست في قرطاسه، ثم يمص أصابعه ليبترد، تألمت وتشاءمت ولكني لم أتوقف. لم أتوقف حتى رأيت في نهاية الطريق بياع لحمة رأس يرص على طبليته مجموعة من الرءوس الآدمية. ندت عني صرخة فزع. انتبه البياع إلي وراح يحملق في رأسي. ارتعدت أوصالي ووليت هاربا لا ألوي على شيء حتى وجدتني في الميدان. رباه! .. هل جننت؟ .. لم يبق إلا الطريق الرابع وهو الأخير، فما الحيلة إذا خانني الحظ فيه أيضا؟ وهتفت بصوت جهير: ماذا حدث للدنيا؟
وإذا بصوت غاضب يصيح بي: أفزعتني لا سامحك الله!
ونظرت نحو الرجل معتذرا، وأومأت إلى الطريق الأخير قائلا في توسل: لا تؤاخذني، إني مرهق وفي حاجة إلى رفيق.
فنظر إلي بارتياب وقال: آسف، فتوكل على الله.
وابتعد عني وهو يتلفت في حذر. لم يبق إلا أن أجرب حظي. المغيب يهبط ولا راد له. والطريق ليس بطريقي، ولكن بحسبه أن يوصلني إلى العمران. وهو شارع كبير ومثير، ويتسم بالفخامة والرونق. ويمكن أن تسميه بشارع المقاهي الفاخرة. وأسماء مقاهيه المرسومة بالمصابيح الكهربائية تنطق بالصراحة والصدق والتحدي. مقهى النشالين، مقهي النصابين، مقهى القوادين، مقهي الرشوة الوحيد. لأول مرة أبتسم. ليكن من أمرها ما يكون. المهم أن أرجع إلى بيتي، ولتذهب المقاهي بمن فيها وقحتها المعلنة بلا حياء إلى الجحيم. مضيت في خطى تدفعها اللهفة والأمل. ولأول مرة أرى في نهاية الشارع ما يطمئن القلب، ويسكن الخاطر. رأيت قوة من رجال الأمن تحت قيادة رجل مهيب. لم يساورني شك في أني بصدد هجمة حازمة هدفها التأديب والتطهير. وصحت في جذل: ليحفظكم الله، هل علمتم بما يجري في الطرقات الأخرى؟
ولكني تلقيت وابلا من نظرات باردة جافة منذرة بالويل والشر. وخيل إلي في ذهولي المباغت أن ثمة تحفزا لإلقاء القبض علي. وداخلني شك في هويتهم، فوليت الأدبار جريا بغير توقف غير غافل عن أنه لم يبق لي منفذ جديد للخلاص. وبلغت الميدان والظلام ينتشر. غرقت في مستنقع الحيرة ولا طوق نجاة معي. وليس الميدان خاليا فيما بدا، ولكن شغلت جنباته أشباح وفيرة، وملأت جوه همهمات غامضة، ثم ندت عنها هتافات غاية في التضارب والتناقض غاضبة متوعدة، متحفزة للقتال في الظلام البهيم. استشعرت الخطر، وما من سلاح معي سوى حقيبتي الخاوية. من أين جاء هؤلاء جميعا؟ وماذا يرومون؟ أهم أصدقاء أم أعداء؟ من الخلاء وفدوا أم من الشوارع الوحشية المعربدة؟ وتخلل الهتاف أصوات من نوع آخر؛ أغاني خليعة، وأناشيد دينية، وموسيقى عسكرية. وضاق صدري ضيقا فأوشكت أن أختنق. وركبني شعور بالضياع والخسران والقنوط. من شدة غيظي، وجهت بجامع قبضتي ضربة إلى أم رأسي. •••
অজানা পৃষ্ঠা