قَانون التَّأويْل
للإمَام القَاضِي أبي بَكر محمَّد بن عَبْد اللهِ بن العَرَبي المعَافِري الإشبيلي
(المتوفى سنة ٥٤٣)
دراسة وتحقيق
محمّد السّليماني
دار القبلة للثقافة الإسلاميَّة
جَدّة
مؤسَسَة عُلوم القرآن
بيروت
অজানা পৃষ্ঠা
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (٧)﴾ [آل عمران: ٧].
1 / 2
قانون التأويل
1 / 3
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م
دار القبلة للثقافة الإسلامية
المملكة العربية السعودية - جَدّة - ص ب: ١٠٩٣٣ - ت: ٦٧١٠٠٠٠ - تلكس: ٢١٤٤٣
مؤسَسَة عُلوم القُرآن
سورَيا - دمَشق - شَارع مسلم البَارُودي - بناء خولي وصَلَاحي - ص ب ٤٦٢٠ - ت ٢٢٥٨٧٧ - بَيروت - ص ب ٥٢٨١/ ١٣
1 / 4
الإهدَاء
إلى والدي الكريم فضيلة الشيخ الحسين السليماني أهدي هذه الثمرة.
ابنكم محمد
1 / 5
مقدّمة فضيلة الأستاذ الدكتور سليمان دنيا
الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين، أحمده على عظيم نعمائه، وجميل بلائه، وأستكفيه نوائب الزمان ونوازل الحدثان، وأرغب إليه في التوفيق والعصمة، وأبرأ إليه من الحول والقوة، واخلص القول بأن لا إله إلاَّ الله شهادة الموحد المستبصر، غير المتوقف المتحير، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدًا عبده الأمين على وحيه، ورسوله الصادع بأمره ونهيه، المؤيد بِجَوَامِع الكَلِم، المبين للناس ما نزل إليهم بلسان عربي مبين، فيه واضح يعرفه السامعون، وغامض لا يعقله إلا العالمون، وصل اللهم على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آله المتبعين لسنته، وأصحابه المبينين لشريعته، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن هذا الكتاب القيم باكورة عمل جليل يقوم به ابني وتلميذي الأستاذ محمد السليماني، لِإحياء تراث أكبر فقيه ومتكلم عرفته الأندلس، ومن المعلوم أن كنوز التراث الِإسلامي قد طمرتها حوادث الدهر وصروف الأيام وعوادي الزمن، فهي اليوم من مودعات خزائن الكتب العامة والخاصة في الشرق والغرب، وأصبحت في جملة الدفائن، اللهم إلا كتبًا يسيرة حققت تحقيقًا علميًا جيدًا، هي جلّ ما أخرج إلينا من رشح ذلك المعين المتدفق، وما أقلَّه ثَمَدًا لا يقطع غُلَّة صادٍ، ولا يعيد بِلَّة منطِق.
1 / 7
وإننا اليوم بحاجة ماسّة إلى إحياء ما درس من معالم ثقافتنا، وتبيان ما طمس من آثارها. والكشف عن منابع الحق فيها، نستخرج منها ذكريات العزة، وصفحات المجد، وآيات الفخار.
وقد كان لتلميذي محمد -وهو الخبير بنوادر الكتب والمخطوطات- في تَخَيُّر هذا الكتاب الذي أقدم على نشره وتحقيقه، منهج معين وقصد مرسوم، ولم يكن اختيارًا جاء عفو الخاطر أو ولّدته اللّمحة الخاطفة. وإنما كان اختيارًا أنتجته الأناة والتروي، وأملته مصلحة الأمة، وفرضته اعتبارات الصحوة الِإسلامية المباركة.
وقد قدم لنا الأستاذ محمد بمقدمة لقانون التأويل فيها من صدق العرض واستواء القصد وبلوغ الهدف ما يكشف عن حقيقة الكتاب وضرورته للمكتبة الِإسلامية، وأشهد لهذه المقدمة بأنها استقصت من أخبار ابن العربي كثيرًا، وتلك يد لمحمد على التراث الِإسلامي، وهي أخرى على التاريخ، ولو قد يسّر الله لكل عالم من علماء أمتنا الِإسلامية باحثًا ذا جلد وصبر ومعرفة وأمانة في الاطلاع ودقة في التحري كما يسر الله لابن العربي، لما أضلت الأمة الإِسلامية مسجد علمائها ومفكريها، فجزاه الله عن العلم كل خير.
وكتاب "قانون التأويل" هو للقاضي أبي بكر بن العربي، ويعد هذا الإِمام في طليعة العلماء الذين أخذوا من كل فن بسهم وافر، ولم يقف بنفسه عند حد المعرفة والتعليم، بل اقتحم ميدان التأليف الموفّق، فكان من نخبة الكتّاب المجيدين، بل من أغزرهم مادة، وأطولهم باعًا، وأمضاهم سليقة، وأحضرهم بيانًا، متبحر في الفقه وأصوله، بصير بعلم الكلام، خبير بمشكلاته، متصرف في دقائقه.
وقد كَبُرَ ابن العربي في عيني، ووقع في نفسي موقعًا جليلًا، منذ أن قرأت كتابه النفيس "العواصم من القواصم" الذي رد فيه على الفلاسفة وغلاة الصوفية والجهلة من المؤرخين، فكان لكتابه هذا المزية الظاهرة والغرة
1 / 8
الواضحة في الفكر الإِسلامي، ولو كان لي من الأمر شيء لأمرت أن يطبع هذا الكتاب ويوزع مجانًا ليكون في يد كل مسلم يحب الله ورسوله.
ومن حِكَمِ الله ﷾ أن وهب لسلفنا ﵃ بعامة وابن العربي بخاصة قدرة نفسية عجيبة يجعلون بها العلم خفيفًا محمله، لا يعيا به معانيه ومزاوله، بل يتنقل بين فنونه في شوق ولهفة لا نجدها حين نزاول تصانيفنا الحديثة، وكتاب "قانون التأويل" من جملة هذه الكتابات اللطيفة التي تمتاز بالعلم الغزير، والبيان الأصيل، الذي يشوق القلوب، ويستولي على الأفئدة، ويملأ النفوس بالِإعجاب. فقد لجأ هذا الِإمام العظيم إلى إقامة ميزان عدل صحيح كما عرفه من دينه الحنيف، خدمة للعلم وطلابه، يتحصنون به -إذا ما حصلوه على وجهه- عن الخطأ في الفهم، كلما خاضوا في تفسير النصوص الشرعية، أو تعاطوا تأويلها.
ولا شك أن طالب العلم إذا أغفل مثل هذه الموازين الحقة، والقوانين المضبوطة، لم يكد يسلم من هجنة التقصير وسوء التأويل.
وهذا الكتاب قد يعتقد القارئ الكريم في أول الأمر وبادىء الظن أنه يكفي ويغني. حتى إذا نظر فيه الناظر، وجد الأمر على خلاف ما حسبه، والحق أن هذا الكتاب عبارة عن قوانين منهجية تفتح للقارىء الطريق ليسلكه، وتضع له القاعدة ليبني عليها، وتستحثه لإعمال النظر، والمبالغة في الفحص، والِإغراق في البحث، والِإمعان في التنقيب، وحقيق بمن يقرأ "قانون التأويل" أن يعود إلى كتب ابن العربي بعامة فيستنبئها التفصيل والشرح.
وفي الختام أقول:
طلب مني ابني محمد أن أكتب له هذه الكلمة، وقد تضاءلت القوة، أو زالت، وحل محلّها الضعف والعجز، وتلاشى الأمل، وحل محلّه الشعور بدنو الأجل وقرب الرحيل. والله يشهد -ولا أظن مؤمنًا يُشْهِدُ الله على أمر هو كاذب فيه- أنني أترقب الموت في كل لحظة، وأرجو لقاءه في كل حين،
1 / 9
لأدفن بجوار نبيه سيدنا وشفيعنا محمد ﵌.
إنني إن نظرت إلى ما مضى من عمري، وجدتُني قد غرقت في خضم الحياة، ولم أتنبه لِإدراك حقيقة المصير الذي أنا صائر إليه، فلم أعد نفسي له، ولم آخذ له أهبته.
وإن نظرت إلى حاضري، وجدتُني أعجز من أن أنهض بعبء الحاضر، فضلًا عن أن أتدارك معه تقصير الماضي.
اللهم إني أضرع إليك ضراعة من برىء إليك من كل حول وقوة، وأستهديك في زمان قد ضاعت فيه معالم الهدى، وعمي على الناس طريقهم في غمرة الضلالة.
اللهم ثبت قدمي حيث تزلُّ الأقدام، وأنر بصيرتي حيث تعمى البصائر.
اللهم أنت ربي وأنا عبدك، لا أستشفع إليك إلا بك، ولا أخاف أحدًا غيرك، ولا أرضى ربًّا سواك، فاغفر لي.
اللهم تقبل عملي، واغفر زلتي، غير خال من عفوك، ولا محروم من إكرامك.
إلهي: لقد دنا الأجل، وحقك إني ما أخاف لقاءك، بل أكاد أتعجله شوقًا إليك.
اللهم شكرًا شكرًا: لقد كشفت لي عن حقيقة الدنيا، فرأيتها مشغلة الغافل، وسلوة الجاهل: الغافل عن مصيره، الجاهل بحقيقة نفسه، فاللهم زدني بها تبصرة، وعنها انصرافًا.
أنت أنت الله. هذا الكون العظيم، الذي عَلِمْنَا منه ما علمنا، وجهلنا منه ما جهلنا، صنعك، عرفناك به، فكيف يا إلهي يعرف هذا الكون من يجهلك؟ إنه يكاد ينطق بأن له إلهًا خلقه، ويصيح بالجاحدين والمنكرين أن تدبروا واعتبروا، فإن البعرة تدلّ على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير،
1 / 10
فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، حَوَتَا من المخلوقات ما يدهش العقول ويحير الألباب، ألا تدل على اللطيف الخبير؟.
سبحانك، سبحانك، أنت الحق وكل ما عداك باطل، أنت الباقي وكل ما عداك زائل، أنت القوي المتين بيدك الأمر كله، اللهم لا تعاملنا بما نحن أهله، وعاملنا بما أنت أهله من الصفح والإِحسان.
اللهم إني أبرأ إليك من كل حول وقوة، وأستعينك وأستهديك، وأعوذ برضاك من غضبك، فاغفر لي وارحمني وتب عليّ إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم إني قد رضيت بك ربًا، وبسيدنا محمد ﷺ نبيًا ورسولًا، وبكتابك هاديًا وإمامًا، وبسنة رسولك إيضاحًا وتبيانًا.
اللهم إني قد رضيت بذلك كلّ الرضى، ما أحسب أن الدنيا كلها تعدله.
اللهم اجعلنا وذريتنا وجميع المؤمنين بك وبرسولك موضع رضاك وعطفك وإحسانك وفضلك. إنك أكرم مسؤول، وخير مأمول، وصلّ اللهم على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله الأطهار، وصحابته الأخيار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
مكة المكرمة
في ١٤ رمضان ١٤٠٥ هـ
سليمان دنيا
اللائذ بكنف القوي الذي لا يقهر
1 / 11
مقدمة فضيلة الشيخ العلامة سيد سابق
الغاية من خلق الناس هي عبادة الله سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، ولن تتم هذه العبادة إلا بالعلم الذي تستنير به السبل وتتضح معالم الحق.
وأرقى أنواع العلوم وأزكاها العلم بالكتاب والسنة، ولا يضل من تمسك بهما، يستوي في ذلك نص واضح الدلالة، أو اجتهاد في نص صادر عن أهل الاجتهاد.
وعماد المجتهدين قوله سبحانه: ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾.
وأولوا الأمر هنا هم العلماء الذين بذلوا غاية جهدهم، فدرسوا وفهموا وحفظوا وقارنوا ورجحوا، وميزوا الصحيح من الضعيف وعرفوا كيف تستنبط الأحكام من مصادرها، حتى صاروا بجهودهم يأخذون ما شاؤوا لما شاؤوا من أحكام، وهدفهم الوصول إلى الحق. وقد أكد الِإمام البخاري في صحيحه أن المراد بالطائفة الظاهرة على الحق هم أهل العلم ...، وهم المنتصرون على من خالفهم وأهل العلم أقوياء بعلمهم وعملهم، ويراد بهم هنا المفسرون والمحدثون والفقهاء والخبراء بشؤون الحرب، من المسلمين، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
والِإمام أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي، أحد هؤلاء العلماء، وهو
1 / 13
من القمم الشامخة، وبصماته واضحة في علوم الدين والدنيا، فقد صنف في الحديث والفقه والأصول والتفسير والأدب والتاريخ، كان أبوه من علماء الوزراء، تخرج بالِإمام الغزالي، وانتفع به كثيرًا، وكان يعرف قدره، فهو الذي أطلق عليه عالم العلماء، كما أشار إلى ذلك في كتابه (قانون التأويل).
ويكفي ابن العربي فخرًا أنه أستاذ القاضي عياض، وأبو بكر بن خير.
والقاضي عياض شيخ الإِسلام، حامل لواء العلوم الشرعية بيقظة وفهم، أبدع في كتابه (الشِّفَا في التعريف بحقوق المصطفى) إبداعًا فاق كل حدّ، وكتابه (مشارق الأنوار) الذي يقول عنه مؤلف (شجرة النور الزكية) "لو كتب بالذهب، ووزن بالجواهر لكان قليلًا".
أما أبو بكر محمد بن خير: فهو العلامة المحدَّث التقيّ الثقة المأمون، قال ابن العماد في شذرات الذهب عندما ترجم لابن العربي: "رحل إلى الشام وبغداد والحجاز ثم عاد إلى بغداد، ثم ذهب إلى مصر والإسكندرية، ثم عاد إلى الأندلس بعلم كثير".
وأضاف: "وابن العربي مفرط في الذكاء، عالم ناقد متبحر، قادر على نشر سائر علومه، مع الأدب وحسن المعاشرة، ولين الجانب".
وقال السيوطي في طبقات الحفاظ: "برع في الأدب، وكان ثاقب الذهن، كريم الشمائل، كما كان شديدًا في الحق، ينتصر للمظلوم، وقد بلغ رتبة الاجتهاد".
أجل: والواصلون درجة الاجتهاد قِلَّة، وأقل منهم من أعد نفسه بحيث لو كان وحده لاستغنى به الناس عن غيره.
وابن العربي واحد من هؤلاء الكبار، تبحّر في المذهب المالكي حتى صار فيه علمًا، وبه تبحر في سائر العلوم، فوعى الأصول، وأحكم الفروع وحفظ قضايا الصحابة والتابعين، مع دقة النظر في تخريج المسائل.
1 / 14
وقد اجتهد في نشر المذهب، وقرّبه إلى الناس تخريجًا واستدلالًا واستنباطًا.
وكأنَّي به قد وضع نصب عينيه جواب الِإمام أحمد ﵀ حيث سئل يكفي الرجل مائة ألف حديث حتى يفتي؟ قال: لا. ولما قيل له خمسمائة ألف حديث؟ قال: أرجو.
أدرك ابن العربي في حياته المبكرة أن العلم أساس الدين، وأن الدين يؤسس علي العقيدة والفقه، وعاش لذلك يفتي، وينشر علمه بين الناس أربعين عامًا.
وقد دفعه إلى ذلك، ما يتميز به من ذكاء القلب، وصدق الرأي والتمكن من الجواب، والثقة بالنفس، وكثرة الفضل.
من بديع ما قال:
ما من رجل يطلب الحديث، إلا كان على وجهه نضرة، لقول النبي ﷺ: "نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا" ودعاء الرسول مستجاب.
من مؤلفاته: "الإِنصاف في مسائل الخلاف" عشرون جزءًا، و"عارضة الأحوذي شرح جامع الترمذي"، ومعنى العارضة: القدرة على الكلام، والأحوذي: الجاد في الأمور المنتصر، الذي لا يفوته مطلب، وهكذا كان ابن العربي، وله كتاب "العواصم من القواصم" الذي سد فراغًا كبيرًا في المكتبة الِإسلامية، ومن أهم ما أنتج كتابه "أحكام القرآن"، والِإمام القرطبي نفسه مع إمامته يرجع إليه ويعتمد عليه، ولو لم يكن لابن العربي من جهد ومن ثمار إلاَّ تأليف كتاب تفسير القرآن الذي بلغ ثمانين مجلدًا لكفاه فخرًا، ولكن للأسف لم يُعْثَر له على أثر.
ومن أهم مؤلفاته "قانون التأويل" وهو يتناول القواعد المنهجية لطلاب العلوم الشرعية، وكان هذا الكتاب دفينًا في خزائن المخطوطات حتى قيض
1 / 15
الله له ابننا الأستاذ الشيخ محمد السليماني فبعث الله هذا الكتاب على يديه، فتقدم به إلى جامعة أم القرى فحققه، وعلّق عليه وأضاف إليه إضافات، تظهر غامضه، وتجلِّي دقائقه، وخرج أحاديثه وقارن بين الروايات، فجاء الكتاب درّة فريدة، فجزاه الله عن دينه خير الجزاء، ونفع به الإِسلام والمسلمين.
سيد سابق
مكة المكرمة: ٢٨/ ٨/ ١٤٠٥ هـ.
انظر:
١ - تذكرة الحفاظ ٤/ ١٢٩٤.
٢ - فتح الباري ١٣/ ٢٩٣.
٣ - طبقات الحفاظ ٤٦٨.
٤ - شذرات الذهب ٤/ ١٤١.
٥ - الأعلام ١/ ٢٣٠.
٦ - شجرة النور الذكية ١٣٦، ١٤٠، ١٥٢.
1 / 16
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المحقق
الحمد لله المقدسة أسماؤه، السابغة آلاؤه، الواسعة رحمته، المنجِّية مغفرته. وصلّى الله على سيّدنا محمد النبي الأمِّيِّ الذي بلّغ الرسالة وأدى الأمانة، وترك في الناس ما لو تمسكوا به لم يضلوا بعده: كتاب الله، منه آيات محكمات هن أم الكتاب، وأُخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلاَّ الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يَذَّكَّرُ إلاَّ أولو الألباب.
أما بعد:
يعتبر أبو بكر بن العربي من أعلام العلماء الذين تعددت مواهبهم، وتنوعت شخصيتهم، على نسق يكاد يكون متّسقًا.
فهو الفقيه البصير الذي جانب التقليد والتزمّت والعكوف على ترديد كلمات بأعيانها.
وهو المحدَّث المستنير يُعْمِلُ عقلَهُ وفكره فيما يقرأ أو يسمع، ويغوص على المعاني الدِّقَاق المُسْتَكِنَّةِ في أطواء النص الحديثيّ.
وهو المفسِّر المقتدر الذي أعدّ العدّة لعمله في التفسير، من تضلُّع من لغة العرب وأشعارها وروائع نثرها الذي يمتاز بإيجاز اللفظ وثراء المعنى.
وهو الأديب الذي يغوص على المعنى، ويفتنّ في التعبير عنه، واستخراج العبرة من مطاويه.
1 / 17
وهو المؤرخ الذي يقارن بين الروايات، وَيمِيزُ حقَّهَا من باطلها، ولا يكتفي بإيرادها كما هو شأن الكثيرين.
وهو المثقف الواسعُ الثقافة الذي لا يَقْصرُ نَفْسَهُ على فن أو فنون معدودة، وإنما يطوف بأرجائها، ويقطِفُ من ثمارها، ما طاب له التَّطْواف والقِطاف.
وهو المتكلم الذي درس عيون كتب الكلام، ونظر فيها نظراتٍ فاحصةً مستقلةً، لا يعنيها إلاَّ كشف الحق، ودحضُ الباطل الذي ران على كثيرٍ من أبحاث السابقين، واختيارُ الرأي الناضج الذي لا يتعارض مع حقائق الِإسلام.
ولست أقول ذلك مسلمًا له جميع آرائه ومعتقداته، فهو مجتهد مكثر، ومن شأن الِإكثار أن يكون فيه عِثَار، ولكنه العِثَارُ الذي لا يكبُّهُ في الخطأ على وجهه، بل يقوم من عثرته سليمًا معافىً، غير متجانف لخطأٍ، وإنما يشدُّ أزْرَهُ ويقوي صُلْبَهُ حبُّه للحق وبغضه للزيف والباطل.
وغنيٌّ عن البيان أن المكثرين من التأليف تقع في مؤلفاتهم الهنات والهنات.
وقد تعلقت ببعض تلك الهنات، وكشفت عن منبع الحق، فيها بأسلوب لا يديل من جلالة صاحبها، وقديمًا قيل: "العظيم من عدت سقطاته" فلا بد والحالة هذه من هنة تغتفر، ومن تقصير يحتمل.
ومن عجيب الأمر أن ابن العربي هذا، لم يظفر بعناية الباحثين المحدثين، ولم يقم على نشر تراثه طائفة من ذوي الأقدار والأفهام الذين يحسنون قراءة نصوصه، ويدركون مرمى إشاراته، فكان انتفاع الناس بتراثه المطبوع انتفاعًا قاصرًا، لما امتلأ به من غلط وتصحيف وتحريف ومسخ.
وقد اطلعت -بفضل الله- على جلّ ما وصلنا من كتبه المخطوطة، وبعد طول تردّد وعمق تفكير، واستشارة كثير من أساتذتي العارفين الخلصاء
1 / 18
الأمناء على العلم والدين، وجدت في نفسي رغبة في تحقيق كتاب "قانون التأويل" بغية إخراجه للباحثين، والكشف عن شخصية أبي بكر بن العربي الكلامية التي ينبغي إبرازها والِإحاطة بها.
كما أن ثمة عوامل كثيرة شجعتني أن أمضي قُدُمًا في هذا العمل بعد أن كدت أحجم عما انتويت، خشية المزالق والعثرات التي لا أبرىء نفسي -مهما حذرت- أن أقع فيها، ومن هذه العوامل:
أولًا: أن ابن العربي يعتبر من أكبر علماء العقيدة بالأندلس، والدليل على صحة هذا الحكم، أن كتبه في هذا المجال، ظلت نافقة عند العلماء على اختلاف الأجيال والأعصار إلى يوم الناس هذا.
ثانيًا: أنه من الأوائل الذين تكلموا في علم الكلام على الطريقة الأشعرية، فنشر تراثه الكلامي، ودراسةُ أفكاره وآرائه، بما يفيد الباحثين جديدًا في معرفة التطور الفكري بالأندلس.
ثالثًا: أنه أسهم إسهامًا فعالًا في نقد آراء غلاة المتصوفة والباطنية، بأسلوب علميّ سديد، دلّ به على سَعَةِ علمه، وحصافة رأيه، ودقّة نظره، وعمق فكره.
إضافة إلى أن كتابه "قانون التأويل" هذا، يعتبر من الكتب النفيسة اللطيفة التي تمتاز بغزارة المادّة، وسداد المنهج، وحسن المنحى، وجزالة الأسلوب. فباستطاعة الباحث أن يدرك فوائدَهُ في يسر لا يَشُوبُهُ عسر، إذ بذل فيه مؤلفه -رحمة الله عليه- أقصى جُهْدَهُ من أجل تقريبه إلى الأفهام، فجاء -ولله الحمد- كما أراد، حَسَنَ الديباجة، مُحْكَمَ الوضع، متناسقَ التبويب، مُطَّرِدَ الفصول، لا انقطاع في سلسلة أغراضه، ولا تباين في لُحْمَةِ معانيه.
وقد جعلت هذه الدراسة في مقدمة وقسمين:
أما المقدمة، فقد تناولت فيها الأسباب التي حملتني على اختيار هذا الموضوع والخطة التي سرت عليها.
1 / 19
فأما القسم الأول: فيقع في خمسة فصول، تكلمت في الفصل الأول عن الحياة الفكرية في الأندلس، فبينت مراحلَ التطور الكلاميّ والفقهيّ والفلسفي، وما كانت عليه من أوضاع، وأهملت الكلام عن الناحية الاقتصادية والسياسية لعدم أهميتها في مثل دراستنا هذه.
وتكلمت في الفصل الثاني عن سيرة ابن العربي، فدرست نَشْأتَهُ وبدءَ عنايته بطلب العلم، ورحلتَهُ العلميةَ ونوعيةَ دراسته، وصلاتِهِ الشخصيةَ وأثرَهَا في تكوينه الفكري، ونشاطَهُ العلمي، ومناصبَهُ في القضاء والدولة.
وَعُنِيتُ في الفصل الثالث باستقصاء آثار ابنِ العربي المطبوعة والمخطوطة، وتكلمت عنها بإيجاز.
واقتصرت في الفصل الرابع على ذكر أهم شيوخه الذين أثروا في تكوين شخصيته العلمية، كما صنعت معجمًا لتلاميذه، ومعجمًا لما رواه عن شيوخه، وختمت هذا الفصل بذكر وفاته وأولاده.
وأما الفصل الخامس فكان موضوعه كتاب "قانون التأويل" نفسه، حيث درست أهم المسائل العقدية التي وردت به، لِإيماني بان مثل هذه الدراسة سوف توضح قيمة الكتاب، وتيسِّر لطلبة العلم الإِفادة منه إن شاء الله تعالى.
وأما القسم الثاني فأخلصته لتحقيق نص "قانون التأويل" وصدرته بمدخل للكتاب ذكرت فيه توثيق نسبته لمؤلفه، وبواعث تأليفه، وتحليل مختصر لمضمونه، ومصادره، ووصف مجمل للنسخ الخطية المعتمدة في التحقيق. ثم المنهج الذي اتبعته في التحقيق والتعليق.
هذا مجمل ما انتهيت إليه في هذه الدراسة، وأرجو أن أكون قد وفِّقت إلى ما ابتغيت، وتهديت إلى ما قصدت من إخراج هذا السفر القيم على النحو الذي يعمّ النفع به، وتلحقني به دعوة صالحة، ولا أماري أن بين هذا العمل وما ينبغي له بونًا بعيدًا، ولكن هذا ما اتسع له الوقت وأعان عليه
1 / 20
الجهد، وأرجو أن تكون الطبعة القادمة -إن قدّر ذلك- أوفى وأتم، وأقرب ما ينبغي في مثل هذا الصنيع.
ولا يسعني في ختام هذه الكلمة إلاَّ أن أذكر باعتزاز كبير أستاذي الجليل الدكتور سليمان دنيا -المشرف على هذا البحث والذي قوّم الكثير من أوده، وأتحفه بكلمة شائقة مؤثرة، أدرجتها في صدر هذا السفر، فشكرًا له على عطفه ولطفه، وجزاه الله عني خير الجزاء.
وأتوجه بالشكر الجزيل والثناء الحسن للأساتذة الأجلاء:
شيخي العلامة السيد سابق الذي تفضل بالِإشراف على هذه الرسالة حتى اكتملت، بعد أن تعذّر على أستاذي الدكتور سليمان دنيا الِإشراف من أجل مرضه -شفاه الله تعالى-.
والمحدث الناقد السيد أحمد صقر الذي كان يفيض علي من كنوز معلوماته، ومن نوادر كتبه ومخطوطاته، مما فتح لي آفاق البحث، وارتاد بي منازل العلم والتحقيق.
وصاحبنا إسحاق إدريس سكوته كان الله له.
والدكتور الشريف منصور العبدلي الذي أفادني كثيرًا بملاحظاته وتوجيهاته القيمة.
والدكتور الداعية الإِسلامي عبد السلام الهراس الذي أعارني نسخة "القانون" التي تقدم بها الأخ الأستاذ المصطفى بن عبد الله صغيري لنيل دبلوم الدراسات العليا بدار الحديث الحسنية بالمغرب.
ومعالي الدكتور مولاي أحمد العراقي الذي يسّر لي دخول المغرب الشقيق، والاستفادة من مكاتبه الخاصة والعامة.
ومعالي الدكتور محمد عبده يماني والأخ الأستاذ محمد أديب كاتبة
1 / 21
اللذان ساهما في إحياء هذا الأثر النفيس، غير ضنينين عليه بما يكفل له دقّة التحقيق وأناقة الإِخراج.
وأخيرًا أتقدم بأعمق الشكر وفائق الاحترام إلى أمناء مكتبات مكة المكرمة واسطنبول ومدريد والمغرب وإلى جميع الإِخوة والزملاء، وأخص منهم الأخ الكريم مولود التايهي، والله أسأل أن يجعل كلّ ما نأتيه ونقصده وننتحيه لوجهه خالصًا، وإلى رضاه ﷿ مؤديًا، ولثوابه مقتضيًا، وللزلفى عنده مواجبًا، بمنه وفضله ورحمته، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
محمد السليماني
مكة المكرمة في ٢٦ رمضان ١٤٠٥ هـ.
1 / 22