كشف الغطاء
وكان قد مضى على أسرة حبيب أسبوع، وهم مقيمون في أحد فنادق بيروت، فصمموا على العودة إلى مصر، ولما كانت الليلة الأخيرة من وجودهم في بيروت تأخر عزيز عن الحضور، وكان من عادته أن يأتي الساعة الثامنة، فيتناول العشاء مع خطيبته ووالدها، فمضى الأجل المضروب، وأزف وقت النوم، وعزيز لم يحضر، فقلقت أفكار ماري وجفاها الرقاد، فتناولت كتابا، وجعلت تتلهى بقراءته عن الهواجس التي كانت تتردد في فكرها، بينما كان والدها جالسا متكئا يدخن وأفكاره متجهة نحو عزيز.
وإنهما لكذلك، إذ سمعا جلبة وغوغاء في ساحة المنزل، فأسرع حبيب وابنته يستطلعان الخبر، فوجدا صاحب النزل والخدم متألبين حول شيء ينظرون إليه، ففرقا الجمع، ونظرا فرأيا منظرا يفتت الأكباد، وتقشعر لهوله الأبدان، رأيا عزيزا مطروحا على الحضيض، لا يعي شيئا وثيابه ملطخة بالدماء.
وصاحت ماري عند ذلك صيحة مزعجة، وسقطت مغمى عليها، فأدخلها والدها إلى مخدعها، وأوقف لها من خادمات المنزل من يعتني بها، وأرسل فاستدعى الأطباء لمعالجة عزيز، فحضروا بعد ساعة، ودخلوا إلى الغرفة التي فيها الجريح، وكان حبيب واقفا بجانب سريره يعالج جرحه بالوسائط المعروفة لمنع سيل الدماء.
فاقترب الأطباء، وفحصوا الجريح، فرأوا أنه لم يزل هناك أمل بنجاته، فنزعوا ثيابه بخفة وحذر، فظهر صدره عاريا، وإلى الجانب الأيسر جرح بليغ يجري منه الدم.
فاقترب حبيب من الأطباء يستخبرهم عن حالة الجريح، فرأى أحد الأطباء ينزع من عنقه سلسلة ذهبية معلقا فيها ذخيرة ملطخة بالدم، فما كادت عين حبيب تقع على تلك الذخيرة حتى أخذته قشعريرة وعراه دهش عظيم، فأسرع وتناولها من يد الطبيب، ومسح الدماء المتكاثفة على ظاهرها، ثم نظر إليها، فجحظت مقلتاه وتعاظم دهشه؛ لأنه وجدها أشبه بالذخيرة التي أهداها إلى قرينته الأولى يوم زفافها إليه، فتأملها جيدا وفتحها فأبصر في داخلها صورة صغيرة تمثل هيئته حين كان شابا، فلم يعد لديه ريب في كونها الذخيرة نفسها التي كانت له، فاستغرب الأمر، واندفع يتفرس في ملامح عزيز، وهو يتمتم في سره قائلا: هل يمكن أن يكون هذا ولدي؟ ولكنه عاد فتذكر أنه رأى بعينه بقايا قرينته الأولى، وكانت لا تزال حاملا، فترجح لديه سبب آخر لوصول الذخيرة إلى الفتى عزيز.
وحينئذ كان الأطباء قد فرغوا من عملهم، فأشاروا إلى حبيب بوجوب الانتباه التام إلى الجريح، ثم أقبل رجال الضبط، ومعهم مدعي العموم، فأجروا التحقيق اللازم، وعلموا بعد البحث أن تلك الفعلة كانت بقصد سلب الجريح ما كان معه من نقود، كما كان يحصل أمثال ذلك في مدينة بيروت، فخرجوا غير مبالغين بالأمر، ولم يعرف بعد ذلك الضارب.
وأصاب عزيز حمى شديدة تلك الليلة دامت إلى الصباح، فكان يتفوه بكلمات متقطعة، يتخللها اسم روزه أحيانا.
وكانت ماري ساهرة عليه الليل بطوله، فلما سمعت اسم روزه يلفظ بين شفتيه داخلها الريب والغيرة، إذ لم تكن تعلم حتى الساعة بأن له سابق علاقة مع فتاة سواها.
وتكرر اسم روزه على لسان الجريح مع بعض ألفاظ دلالتها دلالة واضحة أن صاحبة الاسم ما زالت تتخايل له وتعذب مهجته، فهاجت بها الغيرة، وأخذت تفكر فيمن تكون تلك الفتاة التي تقاسمها قلب حبيبها، وأول ما خطرت في ذهنها صديقتها روزه، وللحال اتضح لها الأمر جليا، وتمثلت لها صديقتها لحظة الوداع بسائر حركاتها، وما بدا عليها من علائم التأثر والارتباك لدى ذكر عزيز، ففهمت معنى تلك النوب التي ادعت أنها تصيبها أحيانا، وأدركت السبب في كل ما أصاب صديقتها من حزن ومرض، غير أنه أشكل عليها معرفة السبب في افتراقهما ما داما متحابين.
অজানা পৃষ্ঠা