وفي صباح أحد الأيام نهضت روزه باكرا إلى الحديقة، تستنشق من نسمات السحر ما ينعش فؤادها المضطرب، ويخفف عن صدرها أثقال الأشجان، وتستقبل بوجهها حبيبات الندى، أمل أن تلطف من قلبها نيران الشوق والقلق، ثم جلست على مقعد خشبي، وجعلت تلاعب بكفيها الصغيرين زهورا منتشرة حولها، كأنها جيش صغير خاضع لأحكام مليكته، فكانت تارة تجني بعضها وتقربه إلى أنفها، وطورا متنقلة على غير هدى، وأفكارها متجهة نحو عزيز تبحث عن أسباب انقلابه وهجره.
وإنها لكذلك إذ طرق سمعها وقع أقدام، فنظرت وإذا بأبيها مقبل وعلائم الكدر الشديد على وجهه، ووراءه عزيز منقبض الجبين منكس الطرف، وكلاهما مطرق على الأرض لا يلوي على شيء، إلى أن بلغا باب المنزل وتواريا عن عينيها.
فبهتت روزه لهذه المفاجأة التي لم تدر لها كنها، ولذلك الانقباض الذي لم تفهم له سببا، وطدت النفس على البقاء في الحديقة تنتظر خروجهما؛ لعلها تتمكن من الانفراد بعزيز فيطلعها على جلية الأمر، ويلطف ما بها من مر الهواجس، وبعد حين أقبل موزع البريد وبيده رزمة كتب وجرائد، بعضها معنون باسمها والبعض الآخر باسم أبيها، فأسرعت وانتقت منها ما يخصها من الرسائل والجرائد، وعادت إلى مكانها تقتل الوقت بتصفحها، بعد أن أرسلت ما كان لوالدها مع أحد الخدم.
فندعها وشأنها، ونسير بالقارئ في أثر الخادم إلى إحدى غرف القصر، وقد جعلها يوسف لأشغاله الخصوصية، فكان يصرف فيها أكثر أوقاته بعد خروجه من مصرفه، وهناك كان يوسف جالسا وأخذ هيئة الجد والاهتمام، وأمامه عزيز مطأطئ الرأس، ملتهب الصدغ، ينكت الأرض بطرف عصاه، بينما الآخر يطالع ما جاءه به البريد آنئذ، وبعد سكوت قليل رفع يوسف رأسه وخاطبه قائلا: لقد وعدتني يا عزيز بأن تكشف لي الغطاء عن القيمة المسروقة من مصرفي، وترشدني إلى السارق، فهات ما عندك من المعلومات بهذا الصدد، إذ قد صرنا بمعزل عن كل بشر، وأنا أثق بكل كلمة تخرج من فيك، لما أعهده بك من الصدق والاستقامة ، وإني لأبرئن ساحتك من كل شبهة وتهمة وإن تكن أمين صندوق، وبيدك مقاليد عملي، وأنت وحدك المسئول عن كل ما يحدث فيه من الخلل، إذ إنك أنت في عيني أرفع من أن تقدم على مثل هذه الخيانة التي تثبتها عليك قرائن الأحوال، فما عليك إلا أن تقول كلمة فتنفي بها عني الوساوس والهواجس.
ولما لم يحصل على جواب منه، نهض على قدميه وأخذ يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم قال له: قل لي بحقك من السارق؛ لينال جزاءه عاجلا، فقد سبقت وقلت لي إنك تعرفه وأنك مستعد لأن تبوح لي باسمه.
فنهض عزيز حينئذ، وتقدم نحوه بجرأة، وكشف صدره بهدوء، وقال له بصوت ثابت: خذ خنجرك، وأغمده في صدري، فإني أنا السارق الخائن.
ولو أن صاعقة انقضت على يوسف في تلك الساعة، لم يكن لها تأثير أعظم من تأثير تلك الكلمات على فؤاده، الذي كان مفعما بمحبة عزيز حتى تلك الساعة، وعلى الرغم من اعترافه بالجريمة، كان يحاول أن يوهم نفسه بأن ما يسمعه غير الحقيقة، أو أنه في حلم، وبعد قليل نظر إليه وقال له: ما هذا الذي أسمعه منك يا عزيز؟ وكيف أقدمت على هذه الفعلة الشنعاء؟ وما الذي دفعك إلى ارتكاب هذه الخيانة؟ أنت يا من اتخذتك بمنزلة ولدي، وائتمنتك دون سائر أقرانك على أشغالي وأموالي!
فلم ينبس عزيز ببنت شفة، ولكن التهاب وجنتيه واحتراق الدمع في مقلتيه كانا يترجمان عما تأجج في صدره من التأثر والانفعال، وبعد سكوت قليل قال له يوسف: إني أشفق عليك كثيرا، وآسف لكوني سلمت جميع أعمالي إليك، ووثقت بحسن خلالك، وجليل صفاتك حتى تمكنت من التصرف بأموالي على حسب رغبتك، فأنت خائن إذن، ولا بد أن تستوفي العدالة منك حقها، فاستعد للدفاع عن نفسك في مجلس لا يخفى فيه نور الحق ولا يموه الباطل. - ليس لي ما أدافع به عن نفسي، بل على العكس فإني أقر أمامك وأعترف بأني مجرم أثيم، قد خدعتك وسلبت خمسة آلاف جنيه من خزينتك، فذنبي عظيم أستحق عليه أعظم عقاب، والرحمة التي أرجوها منك هي ألا تسلمني ليد الحكومة، بل أن تقتص مني بيدك وتفرض علي ما تريد من العقاب فأقبله طائعا. - إني لم أكن قط آلة انتقام من الجانين، بل لي أن أطالب بحقي، وعليك أن تتحمل ما يفرضه عليك القضاء من الجزاء.
فصاح عزيز بصوت يفتت الأكباد: لا تكن يا سيدي قاسيا إلى هذا الحد، ولا تدع الجبن يتسلط على قلبك، فكما سرقت أموالك بيدي اقتلني بيدك، وارحمني من عذاب يعذب القتل دونه.
فلم يجبه يوسف، بل نهض مغضبا وسار نحو الباب تاركا عزيزا في حالة من الذل واليأس يقصر عنهما الوصف، وذهب إلى مخدعه، ففتح خزانة صغيرة في إحدى زواياه، وأخرج منها أوراقا تختص بأشغال مصرفه، وجعل يبحث فيها استعدادا لرفع دعواه على عزيز.
অজানা পৃষ্ঠা