قال رفيقي الأديب البغدادي، ونحن نمشي في تلك السوق المسقوفة ذات الدكاكين الدكن والجواهر الثمينة: إن المياه في الشتاء تجري فيها كالساقية، فتستمر الأشغال مع ذلك ولا أحد يبالي. وقد يكون هناك يومئذ الرجل الذي يحمل دكانه في عبه، وهو جالس - كما رأيته - على الأرض وظهره إلى الحائط، وأمامه منديل مفروش وميزان صغير. قد يكون هذا التاجر بالحي هناك في اليوم الماطر، إلى جانب الساقية، وهو ينتظر الرزق من كرم ربه.
في سوق الصفارين (تصوير الدورادو).
أتقول، أيها القارئ: إن ما شاهدناه في سوق الصاغة أو سوق الصفارين، لا يستغرب في مدينة شرقية قديمة كبغداد، تعال إذن! ليس في أحياء الفقراء بلندن أو نيويورك أو بمباي، على ازدحامها، وقذارتها، وظلماتها، وفساد الهواء، وفظاعة الحياة فيها، ما يفوق ما ستشاهده في الخان الذي نسير إليه.
هو خان تلكيف وهو من أوقاف بغداد. بناء مربع، ذو طابقين وصحن كبير مكشوف، حوله صفوف من الحجرات الصغيرة المظلمة، الشبيهة بالأكواخ. وفي كل كوخ عائلة لا تقل عن ثلاثة أنفس وقد تتجاوز الستة. وفي الصحن مرابط للدواب، فيلعب الأولاد بين حوافرها وبين الحمالين والمكارين، ويتلقنون منهم اللغة التي أسمعتك نموذجات منها، من فم البائعة والشحاذ.
كان مستشار الأوقاف يومئذ الرفيق الدليل، فسارعت النساء إليه شاكيات متظلمات. وما شكون الازدحام والمقاذر، وما شكون صياح المكارين وروائح المرابط، ولا شكون دخان الجيران والأوساخ التي تلقى في الإيوان؛ إنما لفتن نظر المستشار إلى جدار يتداعى أو إلى باب لا قفل له ولا مزلاج، أو إلى قسطل ماء مسدود أو مكسور، أو إلى سقف تتساقط أخشابه. وجاءت إحدى النساء تحمل ثلاث آجرات، وتقول: إنها سقطت على أولادها وهم نيام، ثم كشفت رأس أحدهم ترينا الجرح فيه.
وكنا، ونحن نمشي في الإيوان، نرى النساء أمام أكواخهن يقمن بأشغالهن البيتية: يغسلن الثياب، يشببن النار، يخبزن، يطبخن، يرضعن أطفالهن. ومنهن من كن يمشطن صغارهن فيقع القمل في أحضانهن، وعلى الأرض حولهن. وهناك في وسط الصحن «مزين» يحلق رأس أحد الرجال، وينثر الشعر وما فيه من «المتحركات» بين أرجل الصبيان، وهم يلعبون، ويغنون، ويصيحون، ويفحشون في ألفاظهم.
إن مدخل الخان كمدخل القلاع عميق مظلم، وإلى جانبيه بضعة خروق لا يتجاوز الواحد عشر أقدام عرضا، ومثلها طولا، ومثلها علوا. هي كذلك للسكن. وقد استوقفتنا امرأة هناك، جاءت تحمل طفلا على صدرها وتقول للمستشار، وهي تومئ إلى أحد تلك المآوي، إن أجرته ثماني روبيات كل شهر، وهي لا تستطيع أن تدفع أكثر من خمس، وترجوه أن يأمر بالتخفيض. فوعدها خيرا. •••
قلت: خان تلكيف من الأوقاف. والوقف في التعريفات هو «حبس العين على ملك الواقف والتصدق بمنفعته». ومن أجدر بالصدقة يا ترى من هؤلاء البؤساء. ولكن للأوقاف إدارة هي على ما يظهر مثل إدارة الشركات المالية. لا روح لها، ولا قلب، ولا عين غير تلك التي ترى الأرقام، وتعد الأموال. ومن هذه الأموال ما هو مخصص بالمساجد فلا يصرف في غير سبيلها. وفي المساجد من فضل ربك ما لا يجده البائس الفقير في بيته، أو في حيه، أو مدينته. المساجد هي الملجأ اليقين، والميناء الأمين، ملجأ الأتقياء والأغنياء والأشقياء والمتشردين. وميناء كل ذي وزر ثقيل وأمل دفين. فالحمد لله أن في بغداد أوقافا يحبس بعض ريعها، وإن كان من دم الفقراء، على هذه الأماكن المقدسة التي هي لجميع المؤمنين.
وكان المؤذن في مأذنة جامع الحيدر خانة يؤذن الظهر، وكانت قباب الجامع في شمس الظهيرة تشع وتتلألأ، فيبدو الأصفر خلال زرقتها كالذهب على طبق من اللازورد. وكانت مياه الشاذروان في صحن الجامع تتناثر كالفضة. وكانت الرحبات الهادئة والظلال الناعمة تبدو من الباب كأنها من لدن الرحمن، وهي تلوح للمارين أن ادخلوا آمنين.
دخلنا فإذا نحن في الصحن المبارك، والهواء فيه نقي كالنور وكل ما فيه منعش كالهواء. مكان رحب نظيف شريف هو للغني والفقير على السواء. وهناك ما هو فوق ذلك في المكرمات. هناك داخل الصحن، في الجامع تحت القبة اللازوردية، عين السكينة وروح السلام. هناك البحر الإلهي الذي تغرق فيه - ولو إلى حين - دنيا الهموم والأحزان البشرية.
অজানা পৃষ্ঠা