فنحن ندعوه للمبارزة معنا والله ينصر المحق منا، ولا أظنك تحسب أننا غير كفء لمبارزة مركيز.» ولما قال ذلك طرح قفازه في وسط النادي، فقال ملك فرنسا: «أنا لا أسلم أن ملكا ينازل مركيزا، لا سيما وأنت أيها الملك سيفنا وترسنا.» وقال سفير البنادقة: «وأنا لا أسلم لملك إنكلترا بمبارزة أحد قبلما يدفع لنا الخمسين ألف دينار التي استدانها منا فحسبنا أننا خاطرنا بأموالنا وأبحنا له أن يبارز الأعداء.» وقال أرل سلسبري: «وأنا لا أدع أخي يبارز هذا المركيز، فاسترد قفازك أيها الأخ وأنا أرمي قفازي مكانه.» وحينئذ نهض المركيز وقال: «أيها الأمراء والأشراف، ليكن معلوما عندكم أنني لا أرتضي بمبارزة الملك ريكارد؛ لأننا قد اخترناه قائدا لنا، ولكن إذا كانت ذمته تطاوعه على طلبي إلى المبارزة فلا أراني ملوما إذا أجبته إلى ذلك، فأنا مستعد أن أبارز أيا كان من أخيه فنازلا.» فقال رئيس أساقفة صور: «أصاب المركيز فيما قال؛ لأنه إذا انتهى الأمر على هذه الصورة لا يمس شرف أحد.» فقال ملك فرنسا: «نعم، إذا أصر الملك ريكارد على شكواه.» فقال الملك ريكارد: «قد ادعيت على هذا المركيز أنه سرق علمي في جنح الدجى وأنا واثق بصدق دعواي وسأعين من يبارزه.» ثم التفت إلى أخيه وقال له: «أما أنت يا وليم فلا تجرد سيفك بدون إذننا.»
فلما رأى ملك فرنسا أن الأمر تم على هذه الصورة قال: «إذن أنا أحكم أن تفصل هذه الدعوة بالمبارزة بين هذا المركيز والفارس الذي يعينه الملك ريكارد، وأعين اليوم الخامس من هذا اليوم لهذه المبارزة، ولكن لا أعلم أين نعين مكان ميدان المبارزة؛ لأنني لا أريد أن يكون بقرب المعسكر خوفا من أمر يحدث.» فقال ريكارد: «أنا أرى أن نطلب من السلطان صلاح الدين أن يعين لنا مكانا عنده، ولا أظنه إلا مجيبا طلبنا.» فقال الملك فيليب: «ليكن كما قلت، وسنرسل ونخبر صلاح الدين بذلك، ولو لم يحسن بنا أن نطلع أعداءنا على ما بيننا من الاختلاف. والآن أفض هذا المحفل وأطلب منكم جميعا أن لا تقلقوا لهذا الأمر، ولا تقلقوا به أفكار جنودكم، بل تطلبوا من الله تعالى أن يقضي بين المتخاصمين بما يشاء.» فصرخ الجميع: «آمين.» وحينئذ أسر رئيس الهيكليين إلى المركيز قائلا: «أمستعد أنت للمبارزة؟» فقال: «نعم، ولا أخاف أحدا إلا ريكارد وحده.» فقال الرئيس: «إن هذا الكلب قد نفعنا في تفريق كلمة هؤلاء الناس أكثر من كل دسائسك ومن خنجر الخارجي، فإني أرى فيليب مسرورا والدوق يكاد يطير فرحا وهو يدنو منا.» ولما اقترب منهما قال له الرئيس: «قد ثغرنا أسوار أورشليم.» فضحك وقال: «نعم، وعما قليل يعود كل منا إلى بلاده إن شاء الله، ولكن ليبق ذلك سرا بيننا. وأنت أيها المركيز كان الأجدر بك أن تنازل ريكارد؛ لأنك أمهر منه بالرمح، وأنا لم أتأخر عن منازلته إلا لأن مصلحة الجهاد تمنع من منازلة أميرين مالكين.»
الفصل الخامس والعشرون
وبعد يومين اجتمع الملك فيليب بالملك ريكارد وأثنى على همته وإقدامه، ثم أخبره أنه عازم على الرجوع إلى بلاده، وأراه لائحة من دوق النمسا وغيره من الأمراء يعلنون فيها عزمهم على ترك الجهاد، وينسبون ذلك إلى ما رأوه في الملك ريكارد من الاستبداد والحدة، فحزن ريكارد حزنا شديدا ولم يتمالك عن البكاء، ولكن سبق السيف العذل. ولما عاد إلى خيامه وجد أن السلطان صلاح الدين قد بعث إليه رسولا يخبره أنه عين مكان المبارزة في غور الأردن بقرب درة القفر، وأنه ينتظر قدوم ريكارد وخصمه إلى هناك، وجرى الاتفاق على أن يركب الملك ريكارد وأخوه أرل سلسبري الملقب بالسيف الطويل ومعهم مائة فارس، ويركب المركيز ودوق النمسا ورئيس الهيكليين ومعهم مائة فارس إلى غور الأردن، ويسير كل فريق في طريق ويلاقيهم الملك صلاح الدين بخمسمائة فارس فيتبارز المركيز والفارس الذي يعينه الملك ريكارد.
فركب الملك ريكارد بفرسانه وأخذ معه زوجته وابنة عمه الأميرة جوليا، وجدوا المسير إلى أن صاروا على مقربة من درة القفر، وقبل أن ينكشف لهم المكان رأوا فارسا على أكمة من الآكام يترصد قدومهم، فلما رآهم أطلق العنان لجواده فعدا به كالبرق، وكان البارون ده فو راكبا بجانب الملك فقال له: «ألا تسمح لي يا مولاي أن أتقدم وأرى ما وراء هذه الآكام؟ لأن أمر هذا الفارس قد رابني وما أدرانا أن صلاح الدين لا يغدر بنا في هذا القفر.» فقال: «كلا، وتقدمك لا يدفع مكروها ولا يغني فتيلا.» وبعد قليل أشرفوا على المكان المعد لنزولهم، فرأوا فيه خياما مضروبة وفرسانا واقفين بجانب خيولهم، ثم رأوهم اجتمعوا وركبوا وأطلقوا الأعنة، فارتفع العثير حتى حجبهم عن الأبصار.
ولم يكن إلا القليل حتى رأوهم حولهم يلعبون برماحهم ألعابا تحير العقول، ويرمونهم بالسهام، فوقع سهم على هودج الملكة فصرخت صرخة عظيمة، وسمع الملك صراخها ونادى برجاله: «كونوا على حذر.» وكان هودج الأميرة جوليا بالقرب منه، فقبضت على سهم من السهام وقالت له: «انظر أيها الملك إن سهامهم لا رءوس لها!» فأقسم وقال: «لقد غلبتنا كلنا. فانظروا يا رجالي، إن السهام بلا رءوس والرماح بلا سنان فسيروا الهوينا لئلا يروا اضطرابنا فيضحكوا بنا.»
ولما اقتربوا من المحلة اجتمع هؤلاء الفرسان في صف واحد وساروا وراء فرسان الملك ريكارد، ثم خرج للقائهم كتيبة أخرى من الفرسان بالأسلحة المذهبة والخيول المطهمة، وكلهم في عنفوان الشباب، فلما التقوا بفرسان الملك ريكارد اصطفوا صفين، فاجتاز بينهم هو وفرسانه، وكان قد سار في مقدمتهم؛ لأنه علم أن السلطان قد خرج لاستقباله، ولم يكن إلا القليل حتى التقى هذان الملكان العظيمان، فترجلا وتصافحا، وكان السلطان لابسا أثوابا عاطلة من الزينة والزخرفة، وإنما كان في عمامته ريشة فيها الجوهرة الشهيرة المسماة بحر النور، وفي يده خاتم يساوي كل جواهر ريكارد وفي قبضة خنجره جوهرة نادرة المثال، ولما ترجلا ترجلت كل الفرسان ومشوا في خدمتهما.
وترحب السلطان بالملك ريكارد وعين خياما مخصوصة لنزول الملكة برنغاريا ورفيقاتها، وأرسل الخصيان لحراستهن، ثم التفت فرأى سيف الملك ريكارد طويلا عريضا، فقال له: «لو لم أر لمعان هذا السيف في ميدان القتال ما صدقت أنه يمكن لإنسان أن يرفعه بيديه، فهل لك أن تريني فعلك به؟» فقال: «حبا وكرامة.» ثم تناول لتا من الحديد من أحد الحضور ووضعه على خشبة فقال له البارون ده فو بالإنكليزية: «انتبه يا مولاي إلى ما أنت فاعل، فإنك لم تسترد عافيتك بعد المرض، فلا تحاول ضرب هذا اللت؛ لئلا تشمت العدو بنا.» فانتهره ريكارد، ثم استل سيفه وضرب اللت فبراه بري القلم. فتعوذ السلطان من هول تلك الضربة، ونظر إلى يد الملك الضخمة وقابلها بيده النحيفة، فقال ده فو بالإنكليزية: «ألا تخجل أن تقابل يدك بيد الأسد؟!» فقال له الملك: «اخرس، فلعله يفهم ما تقول.» فقال السلطان: «إنني لا أستطيع أن أضرب بسيفك، ولكن أستطيع شيئا آخر ربما تحب أن تراه.» وأمر فأتي بوسادة محشوة بريش النعام. فقال للملك: «أتقدر أن تقطع هذه الوسادة قطعتين بسيفك؟» فقال الملك: «كلا، وأي سيف يقطع ما لا مقاومة له؟!» فقال: «انظر.» ثم استل سيفه وضرب الوسادة فقطعها شطرين، فتقدم البارون ده فو وأمسك الشطرين بيده وقال: «هذا هو السحر بعينه!» وكأن السلطان فهم مقاله فأخذ منديلا دقيق النسج جدا وبسطه على حد السيف، ثم رفع السيف وجره فقص المنديل قطعتين، فتعجب الملك من مهارته، وقال: «وجب علينا أن نخاف من مهارتكم كما تخافون من قوتنا.» ثم سأله عن الحكيم، وقال: «إني أحب أن أراه.» فأمر السلطان فأتوه بقلنسوة فوضعها على رأسه، فاندهش الملك لما رأى أن الحكيم الذي شفاه من مرضه هو السلطان صلاح الدين نفسه، ووقف البارون ده فو مبهوتا وقد جحظت عيناه وانفتح فمه فقال الملك: «إن هذا لمن أعجب ما رأته عيني وسمعت به أذني.» فقال السلطان: «وهذا شأن الدنيا والمرء بأصغريه.» فقال الملك: «أأنت الذي نجى ذلك الفارس وصبغه بالصبغ الأسود، وأرسله لكشف العلم؟! جازاك الله عني خيرا.» فقال السلطان: «نعم، والفارس مستعد ليمحو عار تهامله.» فقال الملك: «وهل أخبرته بنفسك؟ وهل علمت أن أنظاره طامحة إلى من أنت راغب فيها؟» فقال: «نعم، ولكن محبته هي السابقة وأظنها الثابتة، فلا يليق بي أن أنتقم منه على خيبة آمالي؛ إذ لا ناقة له في ذلك ولا جمل. وما من عاقل يلوم تلك الفتاة إذا أحبت بطلا من قومها واستخارته علي.» فشمخ الملك ريكارد بأنفه، وقال: «إن دمه لأحقر من أن يمتزج بدم بلنتجنت.» فقال السلطان: «هذا عندكم وأما نحن فنقول:
لا تقل أصلي وفصلي أبدا
إنما أصل الفتى ما قد حصل
অজানা পৃষ্ঠা