فقال البارون ده فو: «وماذا أفعل إذا أنكر الدوق أنه سرق العلم أو أنه يعلم من سرقه؟» فأجابه الملك: «قل له إننا نثبت ذلك في ميدان النزال ونفوض إليه أن يختار المكان والزمان والأسلحة.» ولكن قبل أن يخرج ده فو اعترضه الناسك وقال: «إنني باسم الله تعالى وباسم الحبر الأقدس رئيس الكنيسة على الأرض أحرم هذا العمل ولا أجيز لأميرين من أمراء النصارى قد تعاهدا على المحبة والإخاء أن يتقاضيا إلى السيف، فارجع أيها الملك عن عزمك، واعلم أن حياتك في خطر، وقد دنا الموت منك، وبعد الموت الدينونة!» فقال له الملك: «أيها الأب المحترم، أنتم معشر خدمة الدين تغتاظون إذا تعدينا على حقوقكم الدينية، فأعطوا ما لقيصر لقيصر ولا تتعدوا على حقوقنا.» فقال الناسك: «من أنا حتى أتعدى على حقوق الملوك؟! ولكنني أتوسل إليك على ركبتي أن ترحم بلادك وترحم النصرانية كلها.» قال ذلك وركع أمامه على ركبتيه، فأنهضه الملك بيديه وقال له: «لا يليق أن تركع أمام المخلوق بهاتين الركبتين اللتين تركع بهما أمام الخالق، ومن هو هذا الدوق حتى أخاف على بلادي من أجله؟!» فقال الناسك: «نظرت في أبراج السماء ورقبت مطالع الكواكب، فعلمت منها أن منيتك قد حانت، وأن العدو ظمآن لشرب دمك!»
فتأفف الملك من هذا الكلام، وقال: ««تخرصا وأحاديثا ملفقة» وخرافات يعتقد بها عبدة الأصنام، وما عهدي بالنصارى يرعونها سمعا، فما أظنك إلا مهولا.» فقال الناسك: «ما أنا من أهل التهويل، وقد أبقى لي الله عقلا لأخدم به هذا الجهاد، فاسألني عن أمره ترني من أحكم الحكماء، واسألني عن غيره ترني كأحد المجانين.»
فتأمل الملك في الأمر قليلا، ثم قال: «لا أرب لي بإيقاع الخلاف بين هذه الجنود، ولكن بم يعوضون عما وقع بي من الإهانة؟» فأجابه الناسك قائلا: «هذا الذي أتيت لأجله مرسلا من مجمع الأمراء الذي التأم الآن بأمر ملك فرنسا، فقد اتفقت آراؤهم على رد علم إنكلترا إلى الأكمة التي كان عليها، وعقاب كل من اشترك في سرقته وإطعام لحمه لغربان السماء ووحوش البرية.»
فقال الملك: «وماذا يفعلون بدوق النمسا وهو المتهم بهذا الفعل؟» فأجاب الناسك: «قد أجمعوا على أن يبرر نفسه بما يرتئيه بطريرك أورشليم.» فتهلل وجه ريكارد وقال: «هذا حسبي أيها الأب المحترم.» ثم جعل يتهكم على الدوق فانتهره الناسك، وقال له: «لا يليق بالملوك أن يغتاب بعضهم بعضا، وإني لآسف جدا أن سيف النصرانية وعزها المشهود له بالحكمة والدراية، وهو في ساعة الرضى يصير كالأسد الكاسر في ساعة الغيظ، الله يعلم ضعف البشر وهو راض عنك، وقد أجل موتك إلى حين، ولكنك ستموت قتلا وتذهب بلا عقب ولا يندبك أحد من شعبك؛ لأنك أفنيتهم بالحروب ولم تهتم براحتهم ورفاهتهم.»
فقال ريكارد: «ربما أموت بلا عقب، ولكن لا أموت بلا شهرة ولا بلا زوجة تبل تراب قبري بالدموع، وهذا حسبي من الدنيا وبه أمتاز عليك.» فتأوه الناسك وقال: «هل تخفى علي محبة الشهرة ولذة الحب؟! اعلم أيها الملك أني لست دونك حسبا ونسبا؛ فإني أنا ألبرك مرتمار سليل لوزينيان وكدفراي.»
1
فقال ريكارد: «أأنت ألبرك مرتمار الذي ذاعت شهرته في الأقطار، فكيف سقطت من أوج مجدك واحتجبت عن الأبصار؟» فقال الناسك: «أنا هو ذلك الكوكب الساقط، وسأميط لك الستار عن ماضي حياتي، لعلي أنزع منك هذا العتو وأجعلك تتواضع أمام إلهك وكنيستك: إنني كنت شريف النسب قوي الذراع سديد الرأي، وكان أشرف فتيات هذه البلاد وأعلاهن نسبا يتسابقن إلى ضفر أكاليل الفخار لرأسي، ولكنني أحببت فتاة فقيرة لا حسب لها ولا نسب، فلما علم أبوها بذلك لم ير لها ملجأ غير الدير، فربطها بنذور الرهبنة. وكنت غائبا في إحدى الغارات فرجعت ومعي غنائم لا تقدر ولكنني لم أجد حبيبتي حيث تركتها! فخلعت عدة الحرب والجلاد ولبست ثوب الرهبنة، ولم يطل علي الأمر حتى ارتفع مقامي بين الرهبان واشتهرت بالفضائل كما اشتهرت بالبسالة، ثم عينت معرفا لدير من أديرة الراهبات فرأيت حبيبتي بينهن، ووسوس إلي الشيطان فجئت أمرا فريا، فقتلت نفسها لتنجو من العار، فدفنتها في الكهف الذي أنا فيه؛ ومن ثم إلى الآن أقمع جسدي وأعذبه، ولم يبق لي الله من العقل إلا ما أميز به تعاستي وشقاء حالي وأحض به المسيحيين على الجهاد، فلا تشفق علي ولا ترث لحالي، بل اتعظ بأمري واعتبر بمثالي، فإنك الآن في أوج المجد، فاطرح عنك كبرياءك وترفك وحبك لسفك الدماء، وإلا هبطت إلى حضيض الذل.»
فاغتاظ ريكارد من هذا الكلام ولكنه تجلد وحوله إلى المزاح، وقال: «قد طرحت كبريائي ووهبتها لرؤساء الكنيسة، وترفي ووهبته لرهبانها، وحبي لسفك الدماء ووهبته للهيكليين.»
فقال الناسك: «إني أطلب من الله أن يفسح لك في الأجل سنة أخرى لترى فساد ظنونك وتتضع أمام كنيسته.» ثم صرخ صرخة شديدة وخرج من الخيمة، وأقام ريكارد بعد خروجه يتأمل في كلامه وفيما أنبأه به من دنو أجله وموته بلا عقب، ثم قال في نفسه: «إن هذا الناسك يراقب النجوم ويعرف حوادث الغيب والاستقبال، فليتني سألته عن سارق العلم لعله يعرف من هو.» وحينئذ دخل البارون ده فو وقال: «إن رئيس أساقفة صور بالباب، وهو يطلب الدخول على الملك ليكلمه في قضية سرية.»
الفصل التاسع عشر
অজানা পৃষ্ঠা