واحتل الأستاذ محجوب عبد الدائم - أو محجوب بك عبد الدائم من الآن فصاعدا - حجرة مدير مكتب الوزير. ووفد عليه كبار موظفي الوزارة مهنئين، فكان يوما عظيما ومجدا مشهودا. وهنأه البعض بالدرجة الرابعة «مقدما»، كأنها باتت أمرا مفروغا منه! أما سالم الإخشيدي فلم يهنئه، وأعلن بذلك عداوته صراحة، وقد ذاع خبر في الوزارة بأن الإخشيدي سينقل إلى الخارجية، وبأنه سيرقى هناك إلى الرابعة، فلم يغب عنه المصدر الذي خرج منه الخبر، ولكنه لم يستبعد صحته؛ لأنه كان يعلم بصلات الرجل بكبار رجال الدولة. وقد قال لنفسه: «الإخشيدي قوي بلا جدال، ولولا زوجي ما تغلبت عليه، ولكان اليوم في مكاني هذا ...» وداخله سرور، فإذا نقل الإخشيدي حقا خلا له الجو، وصار رجل الوزير الأول، كما صارت زوجه من قبل امرأة الوزير الأول. سر لذلك بلا ريب، بيد أن سروره لم يدم طويلا. عاد يفكر في غضب الإخشيدي وانتقامه، وفيما عسى أن ينجم عن هذا وذاك، وسرعان ما أدركته روح الاستهانة فاسترد مرحه، وجعل يقول لنفسه: إن الناس يحبون المظاهر ويخدعون بالرياء؛ فإذا اضطر للدفاع عن نفسه عاطاهم ما يشتهون من تظاهر ورياء، ولو بلغ به الأمر أن يشترك في جمعية الشبان المسلمين مثلا! فطظ في كل شيء إلا الناس، على الأقل في العلانية، ولكنه لم ينته عند ذاك من الإخشيدي وغضبه. خطر له خاطر أزعجه أيما إزعاج، وقد عجب كيف أنه لم يخطر له من قبل. الإخشيدي جار قديم من القناطر، ألا يجوز أن تبلغ به الرغبة في الانتقام أن يفشي سره بطريقة ما إلى والديه؟ ازدرد ريقه بصعوبة وقد علت وجهه صفرة باهتة، وجعل ينتف حاجبه متفكرا مغتما. ولبث متفكرا مغتما حتى كبر عليه أن يذهب سروره - يوم مجده - ضحية وساوس قد لا يكون لها أثر من الحقيقة، فنفخ مغيظا محنقا، وكور قبضته غاضبا، وقال لنفسه: قضي الأمر، وكان ما كان، فليكن ما يكون. وبعيد جدا أن يبلغ الإخشيدي حقيقة زواجه؛ فإنه هو أيضا يعرف عنه حقائق ليست دون زواجه خطورة، ثم إن الإخشيدي أحكم من أن يفشي سرا يتعرض به لغضب قاسم بك، ولكنه من ناحية أخرى ينبغي أن يتوقع أن يعلم أبوه بنبأ تعيينه، فيحسن به أن يدبر للرجل ما يقيم أوده ويصون كرامته ... وأراد أن يطرد همه، فبسط ورقة على مكتبه، ورسم رقم مرتبه الجديد: 25 جنيها؟ وثبت عليه عينيه الجاحظتين حتى ابتسمت أساريره. سيقبضه أول أكتوبر، وما أول أكتوبر ببعيد، فهل يمكن أن يتصور ذلك بائع الفول بميدان الجيزة؟ بل مأمون رضوان نفسه لن يزيد مرتبه بعد عودته من البعثة - بعد ثمانية أعوام - على مرتبه هذا! نجحت طظ نجاجا باهرا! وقد ارتاح لذلك ارتياحا عزاه عن كل ما لاقى من ألم ونصب وقلق وأحزان، وسر سرورا خالصا ببراءته من ذلك المرض الوهمي الخبيث الذي يسمونه الضمير أو الندم. حقا خاف أحيانا الناس، وعذبته الغيرة أحيانا أخرى، ولكن هذا شيء والندم شيء آخر. كان كفره بالقيم والمجتمع كاملا باهرا، وإنه ليؤمن بأنه سيظل قويا حرا، ما امتد به العمر، وأنه لن يلين أو يضعف إذا أقعده مرض أو رد إلى أرذل العمر. وما أجمل أن يستهين بالموت - إذا حضره الموت - وأن يرمق العدم بعين التسليم بالواقع دون فزع إلى قوة وهمية أو إله باطل. هذا هو انتصار العقل الحر على الغرائز العمياء والأوهام الباطلة! وتذكر قاسم بك فهمي والإخشيدي وعشرات ممن اتصل بهم في حياته الجديدة، كل أولئك يبدون كأنهم من مدرسته. كلا، إنه يرفض ذلك رفضا متعجرفا! أولئك يفعلون الشر وهم يعرفون أنه شر، ومنهم من يفعله وهو لا يميز الخير من الشر، ومنهم من لا يحمل نفسه مشقة التفكير بتاتا، ومنهم من يفعله وهو يؤمن بالخير. هو غير هؤلاء جميعا، إنه ينكر الخير والشر معا، ويكفر بالمجتمع الذي صنعهما، ويؤمن بنفسه فقط؛ يوجد لذيذ ومؤلم، ونافع وضار، أما خير وشر فمحض وهم باطل. ورب قائل يقول: «لو آمن كل بهذا لهلك الناس جميعا.» هذا حق لا جدال فيه، ولكنه ليس أحمق كي يدعو لرأيه هذا، إنه يحتفظ به لنفسه، وإذا قال تكلم غيره، فرزق أمثاله من الأحرار على الحمقى من المؤمنين! والمجتمع متسامح مع أمثاله إذا أحسنوا التخفي، فالمجتمع لا يعنيه إلا أن يحافظ على ذاته، ويعادي في ذلك حتى عشاقه الذين ينشدون له الكمال، أمثال علي طه ومأمون رضوان؛ فهو كالمرأة المغرورة إذا آنست من عاشق انتقادا نبذته؛ ولذلك فنصيب هؤلاء التعب والكفاح، وربما السجن!
طابت الحياة إذن، ثم ذكر أمرا فاستدرك قائلا: «إلا شيئا واحدا.» هي إحسان! أو هي تلك العاطفة المستبدة التي لا تقع بغير الحب. وأين الحب؟ الفتاة تشاركه آماله، وتحسن معاشرته، ولكنه يشعر بأنها تؤدي واجبا بإخلاص. إنها كالموظف الذي يحب الوظيفة دون عمله بالذات، أو هو لا يحبه ولا يكرهه. ارتبط مصيرها بمصيره، هي تحب الحياة كما يحبها، وتهوى الترف كما يهواه، ولكن ينقصه شيء كي يكمل هذا الامتزاج حقا، شيء يروعه افتقاده حتى في تلك الأويقات التي يبدوان فيها سعيدين ثملين، والشفة على الشفة، والصدر ملتصق بالصدر. وليس هذا بالشيء الذي يهون وإن قال عنه - في غمرة اليأس - طظ، بل إنه ليحدث في نفسه ثورة شبيهة بتلك الثورة التي أحدثها الجوع من قبل؛ ولذلك فكر جديا في أن يسطو كما يسطى عليه، بل عابثته فكرة اكتراء حجرة وتأثيثها استعدادا للطوارئ، ومن يدري؟ ... فلا يبعد أن يقصد إليها غدا أو بعد غد ذوو الحاجات، وكما أعطى ينبغي أن يأخذ! •••
وعند مساء ذلك اليوم - يوم مجده - وفد الأصدقاء على الشقة الأنيقة بعمارة شليخر ليقدموا التهاني لزوج مدير المكتب، وجرى الحديث في مرح وسرور، وقد اقترح البعض أن يحتفلوا جميعا بترقية محجوب. وقال أحدهم مخاطبا إحسان: في يوم الخميس القادم ينتصف الشهر العربي، ويتربع البدر في كبد السماء، وتمسي القناطر قبلة الواردين، فما رأيك في رحلة قمرية ... (وهنا لحظ عفت بطرف خفي واستدرك غامزا بعينيه) وعفت بك يملك يختا صغيرا جميلا ...؟!
وسر عفت سرورا كبيرا، وكان إعجابه بإحسان يزداد يوما بعد يوم.
وقال بسرعة دلت على حماسة للقبول: اليخت وصاحبه رهن أمركم!
وما سمع اسم القناطر حتى سرت في جسده قشعريرة باردة، وكان يعلم أن حماس الصحاب ليس لشخصه هو، فقال معترضا: هذه النزهة القمرية لا توافق جو سبتمبر الرطب البارد.
فضحك عفت وقد أشفق من أن تفلت من يده الفرصة السانحة، وقال: لا شك أن وظيفتك الكبيرة قد بثت في نفسك شيئا من الشيخوخة، فبت ترجف من الجو اللطيف ...!
وكان هذا «المدح في قالب الذم» جديرا بأن يلذ محجوب في ظروف أخرى، ولكنه لم يستطع أن يتذوقه في رعبه، وقال بحمية: الدنيا واسعة، اختاروا أي مكان تحبون، أما القناطر ...
واعترض عليه كثيرون فضاعت بقية كلامه، ولم يدر كيف يقنعهم ويحولهم عن رأيهم، ولبث حيال احتجاجهم مقهورا، بينما راح عفت يقول: ليس ثمة فائدة ترجى من الاعتراض، والأولى بك أن تصغي إلى ... سينتظر اليخت عند قصر النيل في الساعة التي تتفقون عليها ... أطعمة جافة لطيفة ... زجاجة ويسكي لكل ثلاثة ... دعوني أحصيكم ...
وعلا ضجيج الاستحسان، وشاركتهم إحسان سرورهم، وجعل محجوب يقلب عينيه في وجوههم حائرا وعلى شفتيه ابتسامة لا معنى لها. لن يجد من رحلة القناطر مهربا، سيقطع حدائقها ذهابا وإيابا في ضوء القمر. أليس من المحتمل أن يلقى أحدا من أهلها الذين يعرفونه؟ ... بلى، هذا محتمل، ويحسن به والحال كذلك ألا يبرح اليخت منتحلا عذرا. أجل لن يستطيع مقاومة العربيدين العنيدين، فليذهب إذا لم يكن من الذهاب بد، والحدائق على أية حال بعيدة عن المحطة، بعيدة عن البيت البائس الباهت ...
অজানা পৃষ্ঠা