فقال الإخشيدي ببرود: باسمي أنا ...
فأحس محجوب ارتياحا وسأله: وكم إيجار الشقة؟ - عشرة جنيهات!
فابتسم محجوب قائلا: ما يعادل ماهيتي تقريبا ... - سيؤديها البك، كما سيؤدي عنك أجر الطاهية ... وغير ذلك ...
ودارا معا في الشقة دورة استكشافية، وكانت على صغرها آية في جمال البناء ونفاسة الأثاث، فتولته الدهشة، وأدرك أنه يرى كثيرا من قطع الأثاث لأول مرة، ولم يدر لها أسماء. كانت الشقة مكونة من ثلاث حجرات وصالة؛ فعلى يمين الداخل تقع حجرة الاستقبال، وهي تفتح على دهليز يؤدي إلى صالة معدة للجلوس، وبها جهاز الراديو، وعلى جانبها الأيمن بابان؛ أحدهما لحجرة النوم، والآخر لحجرة السفرة، ولحجرتي النوم والسفرة شرفة طويلة واحدة تطل على شارع ناجي. وذكر في موقفه بسرعة بيت القناطر، ودار الطلبة، وحجرة السطح بعمارة شارع جركس. أدرك في موقفه ذاك أن الحقائق قد تفوق الأحلام سحرا وجمالا. والواقع أن مادة الأحلام مستمدة في العادة من محسوسات الحالم ومدركاته، وها هو ذا يرى أدوات ترف لأول مرة في حياته، لم تكن من محسوساته ولا من مدركاته! الفرق بين هذا البيت وبيت القناطر هو الفرق بين إحسان وجامعة الأعقاب، كلتاهما امرأة، أجل، ولكن شتان بين هذه وتلك. ونسي في تلك اللحظة ما كان يقوله لنفسه دائما من أنه لا يوجد ثمة فرق بين امرأة وامرأة، وأن إحسان وتحية وجامعة الأعقاب كلهن سواء! ...
وقال له الإخشيدي وهو يودعه: غدا مساء تجد عروسك في انتظارك!
وذهب الرجل والشاب يرمقه شزرا.
وعند أصيل اليوم الثاني انطلق إلى الجيزة، وذكر في الحال علي طه، ترى في أي موقع يقيم؟ كان يعلم أنه في الجيزة، ولكنه جهل عنوانه، فهل ما يزال الشاب مقيما على عهده واهتماماته بالفتاة؟ أيدعوه هواه إلى ربوعها، وهل نما إليه خبر زواجها؟ أيمكن أن يلتقي به وهي متأبطة ذراعه؟ ساوره قلق، وإن كان لا يبالي شيئا، بل ود في تلك اللحظة لو يلقاه علي ويعلم كل شيء، ومضى إلى بيت عم شحاتة تركي، فوجد الأسرة في انتظاره - ما عدا إحسان - فأيقن أن تعليمات الإخشيدي سبقته إلى آله الكرام. وكان الجميع - عم شحاتة وزوجه والأبناء الستة الصغار - يرفلون في الثياب الجديدة الناطقة بكرم قاسم بك وحدبه، وسلم وسلموا بحرارة، فقبله عم شحاتة في جبينه، وقبل يد حماته، وداعب الصغار، وقبل أصغرهم في خديه. وفي جلسته أنعم نظره في الوجوه تتطلع إليه، فأقر لتوه بأن بيت عروسه حافل بالحسن؛ أبوها حسن القسمات، وأمها حسناء، وإخوتها لآلئ منثورة. وقال لنفسه إن الجمال سلاح نافع حقا في يد الفقير. واستفاض الحديث، وساهم فيه الشاب كما ينبغي وإن ود لو يغادر البيت في أقرب وقت، وتكلم عم شحاتة عن دار الطلبة، وعن الطالب محجوب عبد الدايم المهذب المجتهد، وكيف أنه لم يكن من عملائه لأنه لا يدخن، وكيف أنه - عم شحاتة - يحترم الطلبة الذين لا يدخنون وإن (وقد ضحك عند ذاك) لم ينتفع باستقامتهم، وقال إنه لم يحيي حفلا لعرس ابنته؛ لأن الزوج الطيب هو الفرح الحقيقي، وإنه لم يدع أحدا من أقربائه وآله - وهم ريفيون - حتى لا يجشمهم مشقة السفر. وغلب على ظن محجوب أن الرجل يكذب كما يكذب المولعون بالفخر الزائف، ولكنه ذكر والديه بامتعاض، وقال إنه طير نبأ زواجه إلى والديه، ولولا أن أباه، وهو مزارع ذو شأن بالقناطر، وهو مريض، لشهد يومه وباركه بنفسه. وتحدثت أم إحسان عن أبنائها، وعن إحسان خاصة، وأدرك محجوب من حديث حماته، من لهجتها، وحركات رقبتها وحاجبيها وعينيها، أنها امرأة ذات دلال وأنوثة ودعابة ومكر - وكان يجهل تاريخها بشارع محمد علي - وقد سألته عن وظيفته، واقترحت عليه أن تقرأ كفه، وتنبأت له بذرية صالحة ومركز حكومي ممتاز. وكان محجوب يتكلم ويستمع، ويسترق النظر إلى باب الحجرة الموارب، وعيناه تتساءلان: «حتام الانتظار؟» وأخيرا جاءت إحسان، جاءت في ثوب العرس الأبيض الشفاف، وقد عقصت شعرها وجعلته على هيئة عمامة، فتجلى سواده اللامع، وأكسب بشرتها صفاء، وجاء في صحبتها نسوة أربع - قيل إنهن قريبات أمها - ولكنه لم يلق بالا إلى أحد. جذب حسنها عينيه فأطاح باستهتاره المعهود، حتى تمشت شرارة الكهرباء في صدره، وقرض على أسنانه، والتقت عيناهما وهما يسلمان، فامتلأ بالسحر الجاري في لحظيهما، وشعر بأنه ثمل يترنح، وعاودته ذكريات عذابه القديم، ومآسي شهوته المضطرمة، فلم يصدق - على استهانته وجسارته - أنها صارت ملكا له، أو حتى ملكا له على المشاع كما يقولون، وذكر الشريك، وكيف سبقه، فتألم، وعاود النظر إلى الجسد البض الذي يشف عنه فستان العرس الأبيض وما يزداد إلا تألما. وكان عم شحاتة قد هيأ للحاضرين عشاء فاخرا كلفه ثمنا غاليا، فدعاهم إلى المائدة، ونهضوا تسبقهم ضجة الصبيان. وكانت أم إحسان على مرحها مستاءة في أعماقها، وكانت تود من كل قلبها أن تحتفل بيوم إحسان السعيد، وأن تجعل منه يوم سرور للحي جميعا، ولكن الإخشيدي صارحها بأن محجوب أعجز من أن يحقق لها رغبتها، وكانت تعلم أن زوجها أعجز من زوج كريمتها، فطوت نفسها على رغبتها الحانقة، وقد أكلوا مريئا، وعادوا إلى جلستهم هانئين، ولم يكن يوجد ثمة داع إلى بقاء العروسين، فنهضا يودعان الحاضرين. وجيء بتاكسي حملت إليه ثياب العروس في حقيبة كبيرة، وأخذ محجوب إحسان من يدها وسار بها وسط نصف دائرة من المودعين، وهبط السلم على مهل، وكأن أم إحسان قد نفد صبرها، فأطلقت زغرودة رنت بين الحيطان رنينا نفاذا، خفق له فؤاد الفتى، وارتج جفناه، وتلقت النسوة تلك الزغرودة كما يتلقى الجنود علامة الهجوم، فأطلقن الزغاريد تتجاوب أصداؤها، ويشتد صفيرها المتقطع، يهتز له صدور الحسان. واحتوى التاكسي العروسين، وقد نسيا في شدو الزغاريد نفسيهما، فابتسما في بشاشة وحياء، وظلا ينظران إلى الواقفات بالباب حتى جاوزت السيارة دار الطلبة إلى شارع رشاد باشا.
30
وأراد أن يتكلم، ولكنه لم يدر ماذا يقول، وكان كلما طال صمته طال حصره، فعدل عن رغبته وهو كظيم، وتفحصها بعناية، رآها تنظر إلى الطريق من النافذة، مولية إياه مؤخر رأسها. ولم يشك في أن أعينا كثيرة في الطريق ستنفس عليه هذا الحسن البديع الذي يستأثر به، وسر لذلك أيما سرور. ليت آل حمديس يرونه في جلسته هذه، وخصوصا تحية حمديس! ... وخطر له في تلك اللحظة - وقد اطمأن إلى أن تحية تكتمت فضيحته - أن يمضي يوما إلى زيارة قريبه العظيم ليقدم له عروسه كما جرت العادة، وداعب هذا الخاطر فؤاده حتى أسكره. وكانت لا تزال عاطفة رأسها إلى الخارج، فألقى بنظره الجائع إلى جسمها اللدن، فجرى على الجيد، فالمنكب، فالثدي الناهد، ثم الخاصرة الخميصة، وأخيرا الفخد اللفاء. وتنهد من أعماق صدره، وقال لنفسه: ما أشد جوعه، واضطرام دمه. ووقف التاكسي أمام عمارة شليخر، ونزل ونزلت مستندة إلى يده، وسارا إلى المصعد، ودخلا الشقة يتبعهما البواب بالحقيبة، ودلها على حجرة النوم، فتقدمت إليها وردت الباب! ووقف مترددا، ثم تراجع إلى مقعد في الصالة وارتمى عليه، لم يرتح أول وهلة لإغلاق الباب، وذكر باب السيارة في الهرم! ولكنه سرعان ما أقام العذر بالارتباك الذي يحدثه الموقف، بيد أنه لم ينج من مرارة طبعه الساخر، فقال لنفسه: يا له من حياء هو بالأبكار الساذجات أولى؟! ثم قطب وتساءل: ترى ماذا تخبئ له حياته الجديدة؟ أسعادة أم شقاء؟! إنه لا يطمع أن تنظر إليه كزوج بالمعنى المفهوم؛ لأنه هو نفسه لا يستطيع أن ينظر إليها هذه النظرة، وحتم أن تراه - في قرارة نفسها - قوادا، كما يراها - في قرارة نفسه - عاهرة. فهل يمكن أن يسعد قواد وعاهرة معا؟ هذه هي مسألته دون زيادة ولا نقصان. إنه لا يروم من حياته الزوجية معنى اجتماعيا، ولا ذرية صالحة، ولا احتراما متبادلا، كل ما يريده رغبة متبادلة، ميل يعادل ميله، شهوة بشهوة، وحسبه هذا من زواج هو وسيلة لا غاية. إنه يروم حبا بلا غيرة، يرد ماءها الحين بعد الحين، دون قلق أو فكر أو هم، وتوكله أولا وأخيرا على نفسه الجسور التي حطمت القيود ومزقت الأغلال. كان يفكر ونظره عالق بالباب المغلق، أينتظر حتى يفتح؟ وإذا ظل مغلقا، فهل يلبث مكانه حتى الصباح؟ ونهض قائما، ودنا من الباب ونقره بخفة، فلم يجبه صوت ولا حركة، فأدار الأكرة ودفعه. وجد الظلام يوشك أن يبتلع الحجرة إلا نورا خافتا آتيا من ناحية الشرفة، فأدرك أنها في الشرفة، تستجم، فمضى إليها في خطى رقيقة، ورآها جالسة في ناحية مسندة ذراعها إلى حافتها، ملقية بنظرها إلى الطريق. ولم تبد حركة لدخوله، فوقف ينعم فيها النظر على ضوء مصباح الشرفة، ثم قال: فعلت خيرا بدخولك الشرفة؛ فهذه الليلة من ليالي يوليو الحارة! فحولت رأسها إليه، وقالت بعد تردد: أجل هذه ليلة حارة ...
سر لمبادلتها إياه الحديث، فأتى بمقعد، وجلس عليه على كثب منها ، وألقى عليها نظرة، فراعته صورتها، وحرقه تكوين جسمها البديع المشتهى، وذكر أنه سيتمتع بهذا الجسد الفاتن هذه الليلة، بل هذه الساعة، فجن جنونه، وأسكرته هذه الحقيقة الماثلة بين يديه، كأنه يكتشفها لأول مرة. ولم تعد تحتمل عرامة نظرته فأطرقت، فمد يده إلى ذقنها، ورفع رأسها إليه، وهو يقول بصوت متهدج: دعيني أطالع وجهك الجميل ...
অজানা পৃষ্ঠা