فصمت علي مبتسما، وسكت محجوب أن يورده لسانه عثرة جديدة، وشارفا دار الطلبة: بدت كالثكنة العسكرية، ببنائها الضخم ونوافذها العديدة الصغيرة، ورأيا في مقابلها - عند ناصية شارع العزبة - دار عم شحاتة تركي. كان الرجل واقفا أمام دكانه، كان في الخمسين، أبيض البشرة، حسن الوجه، فقال محجوب لنفسه ساخرا: «نعم الصهر!» ودخلا الدار الكبيرة؛ أسعد الناس وأشقاهم.
10
واجتمع الأصدقاء الثلاثة في حجرة مأمون رضوان، وكانت النافذة مغلقة، والمدفأة وسط الحجرة يعلوها غشاء من الرماد، وكان مأمون ينتقد خطبة الجمعة التي استمع إليها ظهرا، وجعل يقول: إن خطب الجمعة في حاجة ماسة إلى التجديد، وإنها بحالتها الراهنة دعوة صريحة للجهل والخرافة.
ولم تكن خطبة الجمعة مما يأبه له صاحباه، بيد أن علي طه قال: الحاجة ماسة حقا إلى وعاظ من نوع جديد، من كليتنا لا من الأزهر، يبينون للشعب أنه مسلوب الحقوق، ويدلونه على سبيل الخلاص ...
وكان من عادة محجوب عبد الدائم أن يشترك في أحاديث صاحبيه، لا عن إيمان برأي؛ فلم يكن له رأي يؤمن به، ولكن حبا في الجدل والسخرية، ولكنه شعر ذلك المساء - أكبر من ذي قبل - أنه من الشعب البائس الذي يعنيه علي، فأراد أن ينفس عن صدره المحزون بالكلام، ولم يكن الشعب شيئا يهمه، ولكنه لم يستطع أن يطرق همومه الخاصة إلا عن سبيله، فقال: جميل ... إن علتنا الفقر.
فقال علي طه بحماس: هو الحق، الفقر الذي يختنق في جوه الفاسد، العلم والصحة والفضيلة، إن من يرضى بحال الفلاح حيوان أو شيطان!
فقال محجوب في نفسه: أو عاقل مثلي على شرط أن يكون غنيا. ثم تساءل بصوت مسموع: عرفنا الداء، وهذا شيء ميسور، ولكن ما العلاج؟
فقال مأمون رضوان وهو يثبت طاقيته: الدين، الإسلام بلسم لجميع آلامنا ...
ومد علي طه ساقيه حتى كادتا تمسان المدفأة، وقال دون مبالاة لما قال صاحب الحجرة: الحكومة والبرلمان ...
فقال محجوب: الحكومة ... أي الأغنياء أو الأسر، والحكومة أسرة واحدة، الوزراء يعينون الوكلاء من الأقارب، الوكلاء يختارون المديرين من الأقارب، المديرون ينتخبون الرؤساء من الأقارب، الرؤساء يختارون الموظفين من الأقارب، حتى الخدم يختارون من خدم البيوت الكبيرة؛ فالحكومة أسرة واحدة، أو طبقة واحدة متعددة الأسر، وهي حقيقة بأن تضحي بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها. - والبرلمان؟
অজানা পৃষ্ঠা