ثم سارا جنبا لجنب في اتجاه موقف القطار، وكانت أخبار الإخشيدي انقطعت عن محجوب فترة يسيرة، فسأله: ألا تزال يا أستاذ سكرتيرا لقاسم بك فهمي؟
فلاحت شبه ابتسامة في عيني الإخشيدي، وقال: أنا مرشح الآن لوظيفة مدير مكتبه. المذكرة في المستخدمين.
فقال بسرور ظاهر لا ظل له في نفسه: مبارك ... مبارك يا أستاذ!
فرفع الرجل حاجبيه بزهو، وقال باقتضاب: درجة خامسة.
فهتف محجوب: مبارك ... مبارك، العقبى للرابعة.
فقال الإخشيدي متفلسفا: بلدنا منهوب مسلوب، مسئولياته بيد الضعفاء الأغبياء، ومهما نرتق فلن نزال دون ما نستحق!
فأمن محجوب على قوله قائلا: صدقت يا أستاذ.
ثم استأذن الإخشيدي واتجه نحو عربة الدرجة الأولى، وأتبعه الشاب عينيه حتى اختفى، ثم سار إلى الدرجة الثالثة تعلو وجهه الكآبة والأحلام، واتخذ مجلسه من العربة ورأسه لا يني عن التفكير، والإخشيدي لا يبرح خياله. منذ عامين كان الإخشيدي طالب ليسانس مثله - محجوب - الآن، ولعله كان مثله أيضا يكفر بالمبادئ، ولكن دون جلبة أو ضوضاء، وربما كانا لا يختلفان اختلافا جوهريا في شيء فهما في الذكاء سواء، وهما في الأخلاق- أو عدم الأخلاق - سواء. ولكنهما جد مختلفين في الأعصاب: فسالم الإخشيدي يزن كلامه وزنا دقيقا، ولم يعرف عنه أنه مس مبدأ من المبادئ أو خلقا من الأخلاق بكلمة سوء، أما محجوب فعلى حذره سخر من كل شيء. ومما يذكره محجوب ولا ينساه أن صاحبه عرف آخر عهده بالكلية كزعيم خطير من زعماء الطلبة، وكان من أبطال لجان المقاطعة وموزعي المنشورات ضد الدستور الجديد. ومما يذكره ولا ينساه كذلك أن الإخشيدي دعي يوما لمقابلة الوزير، فذاعت عن المقابلة الأقاويل، وتوقع كثيرون أن يقع اضطهاد أو بغي، ولكن الفتى انقلب فجأة وبغير تدرج، انسحب من ميدان السياسة كله، وتوقف نشاطه الذي لم يكن يعرف الحدود، ولم يعد يرى إلا في حجرات المحاضرات، ولكن إذا واجهه أحد بسؤال عن سر انقلابه أجابه ببروده المعهود: «ميدان الجهاد الحقيقي للطلبة: العلم!» ثم حصل على الليسانس، وعين - قبل أوائل الطلبة - سكرتيرا لقاسم بك فهمي، وكان واسطته الوزير نفسه، بل وضع في السادسة - وهي وقتذاك فردوس مفقود - وها هو يرشح للخامسة قبل أن يمضي على تعيينه سنتان، وبعد أن استقال بمدة كبيرة الوزير الذي عينه؛ مما يدل على أنه حاز ثقة قاسم بك نفسه، وأنه يسير قدما. يا له من مثال يحتذى! يا له من رجل يستحق من الإعجاب قدر ما يستوجب من الحسد! ... لكم يبدو عليه جاه المنصب وإقبال الحياة! ... ماذا يضيره إذا احتقره مأمون رضوان أو علي طه؟! ... طظ ...
وكان القطار يطوي الأرض طيا، والبرودة تنفذ إلى الداخل على الرغم من إحكام غلق النوافذ، ولكنه لم يشعر بالبرودة تماما إلا حين كف عن التفكير، فزرر الجاكتة واعتدل في جلسته. سرعان ما عاد إلى تذكر أبيه المريض، فأدرك أنه يغرق في الأحلام متغافلا عن الهاوية تحت قدميه. وعاد إلى وجومه مرسلا نظرة حزينة كئيبة، حتى وقف القطار في القناطر، فأخذ لفافته وغادره، ثم ترك المحطة إلى الطريق العام، وألقى على المدينة نظرة شاملة، وهتف: «يا قناطر يا بلدنا ... وزعي الحظ بين أبنائك بالعدل!»
7
অজানা পৃষ্ঠা