قال المهلبي: وأعيان مدن الجفار العريش ورفح والورادة، والنخل في جميع الجفار كثير، وكذلك الكروم وشجر الرمان (أما نحن فلم نر كرما ولا رمانا ولا دكانا ولا خانا)، وأهلها بادية متحضرون، ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك وأخصاص فيها منهم كثير، ويزرعون في الرمل زرعا ضعيفا يؤدون فيه العشر، وكذلك يؤخذ من ثمارهم، ويقطع في وقت من السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المرغ (والمرغ هو الطير بالفارسية)، يصيدون فيه ما شاء الله، يأكلونه طريا، ويقتنونه مملوحا، ويقطع أيضا إليهم من بلد الروم على البحر في وقت من السنة جارح كثير، فيصيدون منه الشواهين والصقور والبواشق، وقل ما يقدرون على البازي، وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهة ما لبواشقهم، وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الحراس؛ لأنه لا يقدر أحد منهم يعدو على أحد؛ لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئا من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل، ثم قفا ذلك إلى مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه، وذكر بعضهم أنهم يعرفون أسر وطء الشاب من الشيخ، والأبيض من الأسود، والمرأة من الرجل، والعاتق من الثيب، فإن كان هذا حقا فهو من أعجب العجائب.
قلت: وبعض ما قاله هذا المؤرخ من الاستدلال بالأقدام على الأشخاص صحيح، والوطء يبقى أثره في الرمل أياما، وليس من الصعب أن يتأثر المرء هنا من استباح جنته، فإنه إذا علا نشزا من هذه الرمال، وهي عبارة عن تلعات ومنعرجات ومنفرجات وأحادير، لا يلبث أن يشاهد السائر من مسيرة ساعات. وفي اليوم العاشر اجتزنا بالعريش وهو من البحر الأبيض على نصف ساعة فالمسعوديات على الساحل، وفي الحادي عشر نمنا بالمزار، وفي الثاني عشر بالجنادل، وفي الثالث عشر بأبي العفين، وفي الرابع عشر مررنا بالقطية، وبتنا بعراص، وفي الخامس عشر بلغنا الإسماعيلية فالقاهرة.
هذا هو الطريق الذي كان يطرقه المصريون والشاميون منذ عرف التاريخ، وكثيرا ما كان بعضهم يؤثرونه على ركوب المراكب والسفن الشراعية، لما كان فيها من الأخطار أيام لم يكن البخار يسير مراكب البحار، قطعناه في أربعة عشر يوما، وكان أجدادنا يقطعونه في أربعة أيام على خيل البريد، ومن هذا الطريق سار عمرو بن العاص سنة 19 للهجرة لفتح مصر، فنزل العريش، ثم أتى الفرما، وبها على رواية البلاذري قوم مستعدون للقتال، فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم، ومضى إلى الفسطاط، والفرمى أو الفرماء كان حصنا على ضفة البحر، يحمل إليه ماء النيل في المراكب من تنيس، ويخزن أهله ماء المطر في الجباب، وكان بعض أهلها قبطا، وبعضهم من العرب، وقد ورد ذكرها كثيرا في شعر أهل القرون الأولى، وفي الفرما أرق الخليفة المأمون - رضي الله عنه - لما سار إلى مصر فبات فيها، وقد ذكر بغداد ونعيمها وقصورها فقال:
لليلك كان بالميدا
ن أقصر منه بالفرما
غريب في قرى مصر
يعاني الهم والسدما
والميدان من أحياء دار السلام، والسدم الهم مع الندم والحزن، ذكر المقريزي أن الدرب الذي يسلك فيه إلى مصر في القرن التاسع للهجرة، لم يحدث إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة عندما انقرضت الدولة الفاطمية، وفي المسالك والممالك أن الطريق من دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلا (كذا والميل بحسب اصطلاحهم ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، والإصبع أربع شعيرات ظهر واحدة إلى ظهر الأخرى، والشعيرة أربع شعيرات من ذنب بغل)، ثم إلى جاسم بلد أبي تمام الطائي أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى فيق أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال، ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلا، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا، والطريق من الرملة إلى أزدود (؟) اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم إلى الواردة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا ، ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس واحد وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا، فهذه ثلاثمائة وخمسة وستون ميلا تبلغ نحو سبعمائة كيلومتر.
وكان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي كانت تعرف ببلاد السباخ من الجوف، ويسلك من الفرما إلى أم العرب، وهي بلاد خراب على البحر فيما بين قطية والواردة، فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة، أغار بغدوين صاحب الشوبك على العريش، وهو يومئذ عامر، بطل السفر حينئذ من مصر إلى الشام، وصار يسلك على طريق البر مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فصار يسلك هذا الدرب على الرمل إلى أن ولي ملك مصر الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، فأنشأ مدينة الصالحية في سنة أربع وأربعين وستمائة، فلما ملك الظاهر بيبرس البندقداري رتب البريد في الطرقات، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها، فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين، ويتحكم في ممالكه بالعزل والولاية وهو مقيم بالقلعة، وأنفق في ذلك مالا عظيما حتى تم ترتيبه، وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة.
وما زال أمر البريد مستمرا فيما بين القاهرة ودمشق، يوجد بكل مركز من مراكزه عدة من الخيل المعدة للركوب، وتعرف بخيل البريد، وعندها عدة سواس، وللخيل رجال يعرفون بالسواقين، واحدهم سواق يركب مع من رسم بركوبه خيل البريد؛ ليسوق له فرسه، ويخدمه مدة مسيره، ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني، وتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته، وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطاني، قال صاحب الخطط: وكانت طريق الشام عامرة، يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره، ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زادا ولا ماء، فلما أخذ تيمورلنك دمشق وسبى أهلها، وحرقها في سنة ثلاث وثمانمائة خربت مراكز البريد، واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن عن إقامة البريد، فاختل بانقطاعه طريق الشام خللا فاحشا.
অজানা পৃষ্ঠা