ما عنيت أمة بتدوين دينها وحفظه ولغتها وضوابطها، عناية المسلمين بدينهم ولغتهم، فكان من أمر حفظة الكتاب العزيز ما اشتهر في كل مصر وعصر، ولا يزال في البلاد أثر من آثار تلك العناية، أما الأحاديث فقد عنوا بها قديما وجمعوا أشتاتها، وبينوا صالحها من موضوعها، وضعيفها من قويها، مما يدركه كل من كان له إلمام بالمراجعة ونظر في كتب القوم. لم يكن العلم في القرون الأولى للإسلام بالإرث ، ولا بالمظاهر، ولا بالوساطات والشفاعات، بل كان بالاستحقاق وكد القرائح، يسير على قوانين بقيود وروابط؛ ولذلك لم يكن ينال لقب حافظ من لم يحفظ ألوفا من الأحاديث بأسانيدها، فقد كانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به، أو ليس له إلا مجرد رواية، ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه، والعالم على من يعلم المتن والإسناد جميعا، والفقيه على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد، والحافظ على من يعرف الإسناد ولا يعرف المتن، والراوي على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد، وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى. والمحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة، هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق، ودار على الشيوخ، وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد، كان في أول درجات المحدثين، وكان السلف يستمعون فيقرءون، فيرحلون، فيفسرون ويحفظون، فيعملون قال بعضهم:
إن الذي يروي ولكنه
يجهل ما يروي وما يكتب
كصخرة تنبع أمواهها
تسقي الأراضي وهي لا تشرب
سأل تقي الدين السبكي الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز له أن يطلق عليه الحافظ، قال: يرجع إلى أهل العرف، فقلت: وأين أهل العرف قليل جدا، قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم، أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب، فقلت له: هذا عزيز في هذا الزمان، أدركت أنت أحدا كذلك فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، قال فتح الدين بن سيد الناس: وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل في الحديث رواية ودراية، وجمع رواة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه ، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيخ شيوخه، طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من علل طبقته أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ. وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث من الإملاء، فذلك بحسب أزمنتهم.
وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، قيل له وما يدريك قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. وقال الحاكم في المدخل: كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث، سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر، وهذا الفتى - يعني أبا زرعة - قد حفظ سبعمائة ألف حديث. قال البيهقي: أراد ما صح من الأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين. وقال غيره: سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل يحنث قال: لا، ثم قال: أحفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة قل هو الله أحد، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث، وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان يحفظ مائة وأربعين ألفا في التفسير والقرآن، وكان إسحاق بن راهويه يملي سبعين ألف حديث حفظا. وأسند ابن عدي عن ابن شبرمة عن الشعبي قال: ما كتبت سوادا في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، فحدثت بهذا الحديث إسحاق بن راهويه فقال: تعجب من هذا، قلت: نعم، قال: ما كنت لأسمع شيئا إلا حفظته، وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث، أو قال: أكثر من سبعين ألف حديث في كتبي. وأسند عن أبي داود الخفاف قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفا أسردها. وأسند الخطيب عن محمد بن يحيى بن خالد قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف ضرورة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي لداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع: كان يحدثكم إسماعيل بن عباس هذه الأحاديث بحفظه قال: نعم ما رأيت معه كتابا قط، قال له: لقد كان حافظا كم كان يحفظ؟ قال: شيئا كثيرا، قال: أكان يحفظ عشرة آلاف؟ قال: عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف، فقد كان أبي هذا كان مثل وكيع. وقال يزيد بن هارون: أحفظ خمسة وعشرين ألف حديث. وقال الآجري: كان عبد الله بن معاذ العنبري يحفظ عشرة آلاف حديث.
قال السبكي: لم تر عيناي أحفظ من أبي الحجاج المزي، وأبي عبد الله الذهبي والوالد، وغالب ظني أن المزي يفوقهما في العلل والمتون والجرح والتعديل، مع مشاركة كل منهم لصاحبه فيما يتميز به عليه المشاركة البالغة سمعت شيخنا الذهبي يقول: ما رأيت أحدا في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي، وبلغني عنه أنه قال ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد، والدمياطي، وابن تيمية والمزي، فالأول أعرفهم بالعلل وفقه الحديث، والثاني بالأنساب، والثالث بالمتون، والرابع بأسماء الرجال، وكان الدمياطي يقول: ما رأى شيخنا أحفظ من زكي الدين عبد العظيم، وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي بن المفضل، ولا رأى ابن المفضل أحفظ من الحافظ عبد الغني ، ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني إلا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر، ولا رأى ابن عساكر والمديني أحفظ من أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي، ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفاضل محمد بن طاهر المقدسي، ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر بن ماكولا، ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبي بكر الخطيب، ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم، وأبو نعيم ما رأى أحفظ من الدارقطني، وأبي عبد الله بن منده ومعهما الحاكم، وكان ابن منده يقول: ما رأيت أحفظ من أبي إسحاق بن حمزة الأصبهاني، وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحيى بن زهير الشقيري، وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي، وأما الدارقطني فما رأى أحفظ من نفسه. وأما الحاكم فما رأى أحفظ من الدارقطني، بل وكان يقول الحاكم: ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر بن الجعابي، وما رأى الثلاثة أحفظ من أبي العباس بن عقدة، ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي، ولا رأى النسائي مثل إسحاق بن راهويه، ولا رأى أبو زرعة مثل أبي بكر بن أبي شيبة، وما رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة، وما رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري، ولا رأى البخاري فيما ذكر مثل علي بن المديني، ولا رأى أيضا أبو زرعة، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، مثل أحمد بن حنبل، ولا مثل يحيى بن معين وابن راهويه، ولا رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطان، ولا رأى هو مثل سفيان ومالك وشعبة، ولا رأوا مثل أيوب السختياني، نعم، ولا رأى مالك مثل الزهري، ولا رأى الزهري مثل أبي المسيب، ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة، ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين، ولا رأى مثل أبي هريرة، نعم، ولا رأى الثوري مثل منصور، ولا رأى منصور مثل إبراهيم، ولا رأى إبراهيم مثل علقمة كابن مسعود.
هذا كان مبلغ القوم في حفظ الحديث وروايته على كثرة المتشابه فيه، وتوفر الأسانيد والرواة، بحيث لو أراد أحد لهذا العهد أن يحفظ شيئا مما كانوا يحفظونه، لاختار استظهار اللغة الصينية واستسهلها أكثر؛ وذلك لضعف الحافظة من هذا المعنى وانقطاع سند هذه العلوم الجليلة إلا قليلا.
كان الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون من أعيان حفاظ الإسلام، قال ابن عساكر: إنه أحفظ شيخ لقيه، وشيوخ ابن عساكر زهاء ألف ومائتي شيخ، وكان الفقيه أعلم الدين القمني، يحفظ ما سمعه من مرة واحدة، وكان الشافعي من أحفظ أهل دهره، قضى عشرين سنة في تعلم الأدب والتاريخ، وقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه، ويروى أنه نظر في كتاب لأبي حنيفة، فما كان من الغد إلا أن غدا راويا له مستظهرا إياه بجملته. وابن دريد صاحب المقصورة من علماء اللغة كان آية من آيات الله في اتساع صدره للرواية، تقرأ عليه دواوين العرب، فيسارع إلى إملائها من محفوظه، وقيل: إن أحمد بن حنبل إمام المحدثين كان يحفظ ألف ألف حديث، قال سعيد بن جبير من أعلام التابعين: قرأت القرآن في ركعة في البيت الحرام، وقال إسماعيل بن عبد الملك: كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره هكذا أبدا، ولا عجب وهو الذي قال فيه أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه.
অজানা পৃষ্ঠা