أشار إلينا أحد الأصدقاء أن نزيد القراء من سيرة أبي المظفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد أفراد الملة الإسلامية وأكبر أبطال القرون الغابرة، من كان يعلم أعداءه كيف تكون الرجولية كما كان قال إمبراطور الألمان الحالي، وأن نتوسع في وقائعه ما أمكن؛ لأن سيرته الشريفة جديرة بأن يتدارسها الملوك والسوقة، ويهتدي بهديها ابن القرن الحاضر والقرون الآتية، فهي مثال الحكمة، كلما كررت حلت، ومهما أطال الناظر بصره فيها زاد بصيرة، وماذا عسانا نقول فيمن جمع الفضائل النفسية، ورزق من الصبر والثبات وحب الموت حبا في إحياء الأمة، وخادنه من أسباب التوفيق ما لم يكتب لأحد، فخدم الإسلام والمسلمين بعقله وجهاده خدمة الخليفة الثاني، ونفعهم بسيرته كما نفع المأمون العباسي، وكان في زهده وشدته على قدم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز.
اجتمعت لصلاح الدين أرقى صفات تلزم الملوك والسلاطين، وأسمى أخلاق الزاهدين العالمين والكرماء المحسنين، وتربى تربية رشيدة لا يكاد ينشأ عليها ابن أرقى البيوت المالكة لعهدنا في بلاد الغرب مع ما لهم من المدارس الجامعة والمجامع والجمعيات، وأسباب تهذيب النفس، وتربية الملكات، وإثارة العقول.
فلاحت على وجهه مخايل السعادة، وأخذت النجابة منذ نشأته تقدمه من حالة إلى حالة كما قالوا، فنشأ في كنف أبيه في قلعة تكريت، وكان أبوه وعمه بها عمالا لحاكم تلك الديار، وكان أهله من دوبن بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة إيران وبلاد الكرج، وهم أكراد روادية وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد، وانتقلوا من هناك إلى تكريت، وفيها ولد صلاح الدين.
قال ابن خلكان: أخبرني بعض أهل بيتهم، وقد سألته هل تعرف متى خرجوا من تكريت فقال: سمعت جماعة من أهلنا يقولون: إنهم خرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين، فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال.
قلنا: تشاءموا بولادة صلاح الدين؛ وذلك لأنه صادف أنه أخرج والده من قلعة تكريت بأمر صاحبها بهروز ليلة ولادته. وذكر في الروضتين أن قد اجتمع مرة السلطان صلاح الدين ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة بمصر، وقد قعدا على طراحة واحدة والمجلس غاص بأرباب الدولتين يوم أراد نور الدين محمود بن زنكي أن تقطع خطبة المصريين، وتقام دعوة بني العباس، وعند الناس من الفرح والسرور ما قد أذهل العقول، فبينا الناس كذلك إذ تقدم كاتب نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين، فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ووالده نجم الدين، والتفت إلى نجم الدين، وقال له: يا مولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين ولد هذا السلطان، فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله، ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه، والتفت إلى الجماعة الذين حوله والقضاة والأمراء وقال: لكلام هذا النصراني حكاية عجيبة؛ وذلك أنني ليلة رزقت هذا الولد - يعني السلطان الملك الناصر - أمرني صاحب قلعة تكريت بالرحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي شيركوه - رحمه الله - وقتله النصراني، وكنت قد ألفت القلعة، وصارت لي كالوطن، فثقل علي الخروج منها، والتحول عنها إلى غيرها واغتممت لذلك، وفي ذلك الوقت جاءني البشير بولادته، فتشاءمت به، وتطيرت لما جرى علي، ولم أفرح به ولم أستبشر، وخرجنا من القلعة وأنا على طيرتي به لا أكاد أذكره ولا أسميه، وكان هذا النصراني معي كاتبا، فلما رأى ما نزل بي من كراهية الطفل والتشاؤم به استدعى مني أن آذن له في الكلام فأذنت له، فقال لي: يا مولاي! قد رأيت ما قد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي، وأي شيء له من الذنب، وبما استحق ذلك منك، وهو لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئا، وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر، ثم ما يدريك أن هذا الطفل يكون ملكا عظيم الصيت جليل المقدار، فعطفني كلامه عليه، وها قد أوقفني على ما كان قاله، فتعجب الجماعة من هذا الاتفاق، وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه.
ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته، وكذلك ولده صلاح الدين، ونور الدين هذا تركي الأصل، وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس ملك الشام ومصر، بحيث قوي على رد غارات الصليبيين ودفعهم عن الأرض المقدسة، فصلاح الدين يوسف ليس إذن من أصل وضيع، بل من أصل رفيع جدا، تعلم القدر الذي كان يتعلمه أبناء الكبراء، ونشأ نشأة دينية راقية، وأخذ حسن الخلق والعدل والشجاعة والكرم عن أبيه نجم الدين أيوب بن شاذي، وكان عدلا مرضيا، كثير الصلاة والصلات، غزير الصدقات والخيرات، يحب العلماء، ربي في الموصل، ونشأ شجاعا باسلا، وخدم السلطان محمد بن ملكشاه، فرأى منه أمانة وعقلا وسدادا وشهامة، فولاه قلعة تكريت، فقام في ولايتها أحسن قيام، وضبطها أكرم ضبط، وأجلى من أرضها المفسدين وقطاع الطريق وأهل العيث، حتى عمرت أرضها، وحسن حال أهلها، وأمنت سبلها، ثم أضيفت إليه ولايتها، وكان نجم الدين عظيما في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة، وكان لا يمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة، وكان لا يسمع عن أحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه ما يستعين به على صلاح حاله.
وكان أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أيوب في قلعة تكريت مع أخيه، وكان شجاعا باسلا مثل أخيه، فاتفق أن أسد الدين نزل من القلعة يوما لبعض شأنه، ثم عاد إليها، وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارص، وكان رجلا نصرانيا، فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعدا إلى القلعة، فعبث به بكلمة ممضة فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة، وكان مهيبا فلم يتجاسر أحد على معارضته في أمر النصراني، فبلغ بهروز صاحب قلعة تكريت ما جرى، وحضر عنده من خوفه من جرأة أسد الدين، وأنه ذو عشيرة كبيرة، وأن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا، وأنه ربما كان منهما أمر تخشى عاقبته، ويصعب استدراكه؛ فكتب إلى نجم الدين ينكر عليه ما جرى من أخيه، ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيره صحبة الكتاب، فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة، وقعد هو وأخوه عند عماد الدين زنكي بالموصل، فأكرمهما وأقطعهما الإقطاعات الحسنة، ثم اتصلا بنور الدين محمود بن زنكي إلى أن أرسل أسد الدين شيركوه إلى مصر ومعه ابن أخيه صلاح الدين، وبنور الدين تخرج صلاح الدين، فقد كان نور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير، وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، وسافر صلاح الدين إلى مصر وهو كاره للسفر، فجعله عمه أسد الدين شيركوه مقدم عسكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وكان صلاح الدين في السابعة والعشرين من عمره، فعرف أسد الدين حال مصر وكشف أحوالها والدولة الفاطمية فيها مشرفة على الزوال، وقد ضعفت جنديتها ودب الفشل والهرم في البيت العبيدي، وصارت خلافتهم ألعوبة في يد كل ذي قوة.
والسبب في دخول أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر أن الوزير شاور هرب من مصر، واستغاث في الشام بنور الدين من ضرغام بن عامر؛ لأنه قهره وأخذ مكانه في الوزارة، «ولما وصل أسد الدين شيركوه وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها، وقتلوا الضرغام، وحصل لشاور مقصوده، وعاد إلى منصبه، وتمهدت قواعده، واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه، واستنجد بالفرنج عليه وحصروه في بلبيس، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد، وعرف أحوالها، وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال»، طمع في الاستيلاء عليها، فبلغ شاورا أن نور الدين قد زين له الاستيلاء على مصر، وأن أسد الدين لا بد له من قصدها ثانية، فكاتب الإفرنج «وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد، ويمكنهم منها تمكينا كليا؛ ليعينوه على استئصال أعدائه، فبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم، فخافا على الديار المصرية أن يملكوها، ويملكوا بطريقها جميع البلاد؛ فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر، وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه، وكان توجههم من الشام في سنة 562.»
استولى أسد الدين على أزمة الوزارة، وقتل شاورا الوزير قبله بأمر الخليفة الفاطمي جريا على عادة أجداده في الوزراء، وذلك في ربيع الأول سنة 564، كان صلاح الدين «يباشر الأمور مقررا لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته»، ومات أسد الدين بعد شهرين وخمسة أيام من تولية الوزارة للعاضد الفاطمي، فتولاها صلاح الدين بعده «وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال، وملك قلوب الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه، فتاب عن الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد»، و«من حين استتب له الأمر ما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد، وغشى الناس من سحائب الإفضال والإنعام ما لم يؤرخ من تلك الأيام، وهذا كله وهو وزير متابع القوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة مارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين»، وهو يكرم كل وافد، ولا يخيب أحدا قصده.
بهذا الكرم والعقل دانت مصر لصلاح الدين ، وأصبح فيها الحاكم المتحكم واصطناع الفضلاء، وتقريب العقلاء والأفضال على العلماء والشعراء من آكد الطرق في بلوغ المقصود وتهيئة أسباب الملك.
অজানা পৃষ্ঠা