ومن غريب الأمر أن ما يسميه الناس اضطهادا للفلسفة في ظل الإسلام أو المسيحية لم يحدث إلا من قوم كان جهلهم بالإسلام والمسيحية أكثر من علمهم بهما، وكان تعصبهم للمنافع والأطماع أشد من تعصبهم للدين. ماذا نقول! بل من غريب الأمر أن اضطهاد الفلسفة هذا لم يحدث في ظل الإسلام والمسيحية وحدهما، بل حدث في ظل الوثنية أيضا ولنفس الأسباب التي أحدثته عند المسلمين والمسيحيين، وهي الجهل من ناحية، والمطامع والمنافع من ناحية أخرى. ولقد يكون من الحق على الذين يذكرون اضطهاد ابن رشد عند المسلمين، وتحريق من حرقوا عند المسيحيين، ألا ينسوا مقتل سقراط، وهرب أرسطاطاليس عند الوثنيين، وألا ينسوا أن هؤلاء الفلاسفة جميعا إنما نكبوا في أيام فتنة ومحنة وجهل وانحطاط في السياسة والأخلاق.
استقرت قيادة الفكر للإسلام والمسيحية طوال القرون الوسطى، ولكن الله كان قد أراد أن تسترد الفلسفة والسياسة قيادة الفكر مرة أخرى؛ وقدر للإسلام والمسيحية أن يدعا قيادة الفكر بعدما استأثرا بها هذه القرون الطوال.
لست في حاجة إلى أن أفصل لك تاريخ النهضة الأوربية الحديثة، ولا ما كان من استكشاف الكتب الفلسفية والآثار الأدبية والفنية التي تركها اليونان والرومان، فأنت تعرف هذا مثل ما أعرفه؛ ولكني أحب أن تفكر معي قليلا في هذه الآثار اليونانية والرومانية، التي كان كل شيء في القرن الأول للمسيح يدل على أنها قد أخفقت وأصبحت لا تصلح قواما للحياة العامة: ما بالها في القرن الخامس عشر والسادس عشر قد أخذت تفتن الناس عن أنفسهم وديانتهم وأخلاقهم وميولهم؟ وما بالها قد أخذت تستأثر بقلوب الناس، حتى إنهم ليعرضوا أنفسهم في سبيلها لمثل ما كان يتعرض له المسيحيون في محاربتها من سجن وموت، ومن ألوان التنكيل والتمثيل؟ بل ما بالها قد أخذت تثمر في هذا العصر الحديث ما لم تستطع أن تثمره في العصر القديم؟ لقد كانت الفلسفة اليونانية قد انتهت إلى الشك في العصر القديم، وعجزت عن إصلاح النظام السياسي والاجتماعي حتى سئمها الناس، وزهدوا فيها. ولكن الناس لم يكادوا يدرسونها في العصر الحديث حتى فتحت أمامهم أبواب الأمل والعمل، ومكنتهم من استحداث العلم وتغيير نظم الحياة، وانتهت بهم إلى ما هم فيه الآن من رقي. ما بالها أخفقت قديما وفازت حديثا؟ قل في تعليل ذلك ما شئت فقد تصيب وقد تخطئ، ولكن مصيب من غير شك إن لاحظت معي أن هؤلاء الفلاسفة من اليونان، كانوا أرقى من الأجيال التي عاشوا فيها، وكانوا قد سبقوا هذه الأجيال إلى حيث لم تستطع أن تدركهم. ولم يكن بد من أن تنتظر فلسفتهم قرونا طوالا، حتى يتم نضوج العقل الإنساني فيحسن إساغتها واستثمارها. وهذا هو الذي كان: لم تكد تظهر هذه الفلسفة وتشيع بين المحدثين حتى آتت ثمرها طيبا منتجا؛ وإذا هي توجد نفرا من الفلاسفة والساسة تولوا قيادة الفكر حتى انتهوا به إلى الثورة الفرنسية، ثم إلى ما نحن فيه الآن.
العصر الحديث
أما العصر الحديث، فيجب أن يتغير مذهبنا في البحث؛ لأن موضوع هذا البحث نفسه قد تغير، ولأن الظروف التي تحيط بالعقل الإنساني قد تغيرت تغيرا عظيما، وظهرت فروق كثيرة بينها وبين تلك الظروف التي كانت تحيط بهذا العقل أثناء العصور القديمة والقرون الوسطى.
كانت قيادة الفكر للشعر، أو للفلسفة، أو للسياسة، أو للدين، وكان من الغريب أو من النادر أن تشترك هذه الأشياء اشتراكا ظاهرا في توجيه شعب من الشعوب أو عصر من العصور، وإنما كانت حياة الأمم المتحضرة في هذه العصور تصطبغ صبغة ظاهرة جلية: هي الصبغة الأدبية، أو الفلسفية، أو السياسية، أو الدينية؛ أما في هذا العصر الحديث، فأنت تضيع وقتك وقوتك إن حاولت أن تجد لشعب من الشعوب أو قرن من القرون صبغة واحدة تستأثر وتشتمل على جميع أطرافه؛ وإنما أنت مضطر حين تبحث عن قيادة الفكر أثناء العصر الحديث إلى أن توزعها بين أمور مختلفة؛ لأن ظروف الحياة نفسها قد وزعتها بين هذه الأمور؛ فلم تستأثر الفلسفة. ولم يستأثر الشعر، ولم تستأثر السياسة، ولم يستأثر الدين، بقيادة الفكر في فصل من فصول هذه القصص التي يكونها العصر الحديث، وإنما اشتركت هذه الأمور كلها في قيادة الفكر، وإن شئت التحقيق والدنو من الإصابة، فقل إن هذه الأمور كلها قد تنافست، واشتد بينها النزاع في قيادة الفكر، فقهر بعضها بعضا، وأخذ كل منها بنصيب من توجيه العقل الإنساني والتأثير في الحياة والشعوب. وآية ذلك أنك تنظر في أي وقت من أوقات هذا العصر الحديث، فإذا أنت أمام فلسفة تجاهد لتسيطر على الحياة، وسياسة تجاهد لتصوغ الحياة كما تحب، ودين يناضل ليحتفظ بمكانته سلطانه، وأدب يجد ليكون له التفوق والفوز، ولكل واحد من هذه الأشياء زعماؤه وممثلوه والداعون إليه والذائدون عنه، حتى في الأوقات التي يخيل إليك فيها أن أمرا من هذه الأمور قد ظهر تفوقه واستأثر بالفوز والغلبة، فقد يخيل إليك أن عصر الثورة الفرنسية - مثلا - كان عصر سياسة ليس غير؛ ولكن فكر قليلا وأتقن درس هذا العصر، تجده عصر سياسة وعصر حرب، وعصر علم، وعصر فلسفة، وعصر تشريع، بل عصر دين أيضا؛ وتجد كل هذه الأمور تزدحم وتتنافس وتستبق إلى قيادة الفكر تريد أن تستأثر بها وتسيطر عليها.
قد يكون من الحق أن نلتمس العلة لهذه الظاهرة الجديدة التي وزعت قيادة الفكر بين طائفتين من المؤثرات ولم تقصرها على مؤثر واحد، كما كان الأمر في العصور الأولى. ولعلنا لا نتكلف كثيرا من العناء في التماس العلة لهذه الظاهرة، فقد نلاحظ أن المطبعة اخترعت في هذا العصر، وأنها أثرت فيها آثارا لا سبيل إلى تقديرها؛ فأذاعت كتب القدماء والمحدثين، ومضت في هذه الإذاعة لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية، ولا تستطيع القوانين والنظم المختلفة أن تقيدها. فبينما كانت تذيع في هذا البلد الكتب الدينية، كانت تذيع في ذلك البلد الكتب الفلسفية، وكانت تذيع في بلد آخر كتبا أدبية وعلمية وفنية، وبينما كان القانون يضيق عليها في هذا البلد فلا يبيح لها إذاعة كل شيء كان القانون يرخص لها في ذلك البلد فيتركها تذيع ما تشاء. وكان الكاتب أو العالم أو الفيلسوف لا يظفر بانتشار كتبه في العصور الأولى إلا إذا ظفر بشيء من الشهرة، وبعد الصيت يرغب الناس في آثاره؛ ولم يكن الظفر بهذه الشهرة سهلا ولا يسيرا. أما الآن فقد يسرت المطبعة على كل ذي رأي أن يذيع رأيه ويناضل عنه، وعلى كل باحث أن ينشر ثمرات بحثه بين الناس. ولم تكد تظهر المطبعة، وتأخذ فيما أخذت فيه من النشر والإذاعة، حتى ظهرت آثار ذلك قوية في حياة العصر الجديد، فكثرت الآراء واختلفت، أو قل ظهرت كثرة الآراء واختلافها، واستطاعت أن تجاهد وتختصم وتتنافس في قوة وسرعة لم يكن للناس بهما عهد من قبل.
ومن هنا استطاعت كل هذه الأمور التي ذكرناها آنفا، وهي الفلسفة والأدب والسياسة والدين والعلم، أن تظهر وتلتمس حقها في الوجود وتظفر بهذا الحق. ومن هنا لم يكن العصر الحديث مصطبغا بصبغة واحدة ظاهرة كالعصور التي سبقته، ومن هنا لم يكن من الحق ولا من الصواب أن تبحث في هذا العصر عن قيادة واحدة للفكر، أو عن نوع واحد من قيادة الفكر؛ إنما أنت مضطر إلى أن تبحث عن قيادات للفكر، وعن أنواع من قادة الفكر.
وخذ القرن السابع عشر مثلا، والتمس فيه المؤثر في قيادة الفكر، فلن تستطيع أن تقول إنه كان عصر فلسفة خالصة، أو عصر سياسة خالصة، أو عصر أدب خالص، أو عصر دين خالص، وإنما كان عصر هذه الأشياء جميعا، بل هناك ظاهرة أخرى ليست أقل من هذه الظاهرة خطرا، وهي تمثل الاختلاف العنيف بين العصر الحديث والعصور التي سبقته، ولا سيما العصر القديم.
فقد كانت قيادة الفكر في العصور الأولى لأمر من هذه الأمور التي أشرنا إليها، وكانت في الوقت نفسه لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب.
অজানা পৃষ্ঠা