النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام
النبوة والأنبياء في اليهودية والمسيحية والإسلام
প্রকাশক
مكتبة وهبة
সংস্করণের সংখ্যা
-
জনগুলি
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ . "الأعراف: ٤٣".
أما بعد.. فهذا هو الجزء الثاني من سلسلة "دراسة في الأديان". وموضوعه: "النبوة والإنبياء" يصدر عقب فترة وجيزة من صدور الجزء الأول وموضوعه: "الوحي والملائكة". لقد كانت خاتمة ذلك الجزء الأول تقول:
"هذا ... وبعد أن عرضنا ركيزتين من ركائز الإيمان هما: الملائكة والوحي، ورأينا كيف تآلفت فيهما اليهودية والمسيحية والإسلام. فإن ما ينتظرنا هو عرض الركيزة الثالثة التي تجمع هذا وذاك. ثم تزيد عليه بما يحقق أمن الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة. ألا وهي: النبوة والأنبياء. والتي أرجو أن تكون هي الجزء الثاني من هذه السلسلة".
والحق أن الجزأين متكاملان فبالإضافة لكونهما الأساس المشترك لقاعدة "الإيمان" نجد أن "النبوة" ترتبط بـ "الوحي" ارتباطًا تامًا، فلا نبوة بغير الوحي، وكذلك يرتبط الوحي بـ "الملائكة" فجميعها حلقات متصلة لا تقبل الفصل.
وإذا كان الجزء الثالث من هذه السلسلة، وموضعه: "المسيح -في مصادر العقائد المسيحية" قد صدر سابقًا لجزأيها الأول والثاني بأكثر من عام، فمرد ذلك إلى ظروف خارجة عن الإرادة ومسائل إجرائية اقتضت ذلك الوضع الذي خشيت معه ألا أتمكن من إصدار الجزأين الأول والثاني، مما دفعني إلى إصدار الجزء الثالث دون ترقيم. بعد أن استنفد من الجهد والعناية المركزة الشيء الكثير.
1 / 3
وفي هذا الكتاب: "النبوة والأنبياء"، نجد حديثًا عن مفهوم النبوة ومظاهر التنبؤ وحقيقة الأنبياء وشيئًا من سلوكهم وأحوالهم، مع بيان الملامح المشتركة بينهم والخصائص المميزة لكل منهم.
لقد جرى التركيز على دراسة "النبوة في بني إسرائيل" باعتبارهم طائفة تكاثر فيها الأنبياء. وربطت بوجودهم أثناء حياتهم وبالأسفار التي حملت أسماءهم بعد وفاتهم.
إن "إسرائيل" لم تزدحم بالأنبياء الحقيقيين قدر ازدحامها بالأنبياء المحترفين الذين ازدادوا فيها زيادة مخيفة جعلت الجيل الواحد يشهد أكثر من ٤٥٠ من ذلك الصنف الضليل. لقد ربط أولئك المحترفون أنفسهم بأهل الضلال من حكام إسرائيل –وما كان لهم من وسيلة للتعيش سوى ذلك- فأفسد ذلك شعبهم وعجل بنهاية دولتهم رغم جهاد الأنبياء الحقيقيين ضدهم لإنقاذ تلك الأوضاع المتردية ومحاولة الإفلات من سوء المصير المرتقب.
فمن المعلوم أن محاولة خلق أول كيان سياسي "لإسرائيل" بدأت على عهد ساول "١٠٢٠-١٠٠٠ ق. م"، وانتهت "بكفاح مرير مع الفلسطينيين الذين أغاروا مرة على المملكة "الوليدة" في قوة كبيرة، ووقعت المعركة الفاصلة على منحدرات جبل جلبوع حيث لقى شاول وثلاثة من أبنائه حتفهم"١.
ولقد خلف داود شاول "١٠٠٠-٩٦٥ ق. م" ثم "ورث سليمان داود" "٩٦٥-٩٢٦ ق. م".
يقول جيمس باركس: "لقد كانت المملكة التي أقامها داود قصيرة العمر، فقد انقسمت بمجرد موت ابنه سليمان إلى قسمين: أحدهما المملكة الجنوبية أو ممكلة يهوذا "وكانت قليلة العدد تضم سبطين فقط هما يهوذا وبنيامين وعاشت من ٩٢٦ إلى ٥٨٦ ق. م"، وقد اتخذت أورشليم التي استولى عليها داود من اليبوسيين عاصمة لها، وانتسب إليه اليهود فيما بعد.
_________
١ أطلس إسرائيل الحديث - ١٩٦٨ "مرجع إسرائيلي حكومي".
1 / 4
والثانية المملكة الشمالية أو مملكة إسرائيل "وتضم الأسباط العشرة الآخرين وعاشت من ٩٢٦ إلى ٧٢١ ق. م"، وقد صارت السامرة عاصمة لها وانتسب إليها السامريون.
ولقد كان من النادر وجود صفاء بين هاتين الولايتين الصغيرتين، بل كانتا غالبًا في عداء سافر. وعلى أية حال فقد استطاعتا البقاء فترة من الزمن لسبب واحد فقط وهو أن أيا من الإمبراطوريات القديمة "المصرية والآشورية" لم ترغب في مد حدودها على حسابها"١.
وأخيرًا جاء الطوفان البشري من الآشوريين الذين اجتاحوا مملكة الشمال ووضعوا نهايتها عام ٧٢١ ق. م وسبوا كل شبعها إلى آشور حيث ذابوا في غيرهم من الشعوب وانقطع خبرهم من التاريخ.
بعد ذلك جاء البابليون واكتسحوا مملكة الجنوب ودمروا أورشليم وأحرقوا الهيكل عام ٥٨٦ ق. م وسبوا شعبها إلى بابل.
وفي مملكة الشمال ظهر الأنبياء إلياس واليشع وعاموس. كما ظهر في مملكة الجنوب أشعياء وميخا وأرميا، وفي السبي البابلي وجد حزقيال ودانيال.
وبجانب هؤلاء وغيرهم من رجال الله، ظهر أنبياء كذبة محترفون.
كذلك –جرى التركيز على دراسة "النبوة في بني إسرائيل" لسبب آخر جوهري غير كثرة الأنبياء فيهم –وهو أن أنبياء الله إليهم يعتبرون عنصرًا رئيسيًا من عناصر الإيمان التي يشترك فيه اليهود والمسيحيون والمسلمون.
لكن النبوة في "بني إسرائيل" ليست إلا حلقة من سلسلة النبوة في العالم.
_________
James pars: AHistory of the Jewish Peple. Penguin Books. ١٩٦٤. pp. ١٠،١١.
1 / 5
"فالحق" يقول: ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ﴾ ١، ويقول -سبحانه: ﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى﴾ ٢.
من أجل ذلك سوف نتشرف بالحديث عن كبار الأنبياء من أولي العزم من الرسل، أولئك الذين جعلهم الله أئمة يقتدى بهم. وتتردد ذكراهم العطرة بين اليهود والمسيحيين والمسلمين.
ولقد دأبت على الاستشهاد بنصوص الكتب المقدسة، بل وتكرر الاستشهاد ببعض النصوص -ولا حرج- فقد يذكر النص لبيان أحد الجوانب، كما يذكر نفس النص مرة أخرى لبيان جانب آخر، وفي هذه الحالة لا داعي لبيان موقعه من الكتب المقدسة اكتفاء بما سبقت الإشارة إليه. وذلك بالإضافة إلى هدف آخر حرصت عليه في كل كتبي التي تتحدث في مثل هذه الموضوعات وهو تعريف أصحاب العقائد المختلفة ما لدى الآخرين من نصوص مقدسة.
وإذا بقي ما يقال فهو كلمة شكر تقدم إلى وداد صالح -الزوجة الصالحة- التي هيأت البيئة الصالحة للبحث والدراسة. وتحملت في سبيل ذلك من المشاق الشيء الكثير، راضية شجاعة وخاصة في الشدائد والأزمات.
أثابها الله بأكثر مما هي أهل له..
وأخيرًا.. نختتم مقدمة كتاب "النبوة والأنبياء" بقول الحق الذي لا ريب فيه:
﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ ٣.
_________
١ الزخرف: ٦.
٢ المؤمنون: ٤٤.
٣ البقرة: ١٣٦.
1 / 6
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا، أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا، وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ ١.
أحمد عبد الوهاب
_________
١ النساء ١٥٠-١٥٢.
1 / 7
الفصل الأول: مدخل لدراسة النبوة والنبيين:
دين الله واحد، ما في ذلك شك..
ومحال أن يرسل الله رسلًا ويتخذ أنبياء، ثم يقوم أي منهم بالدعوة إلى غير دين الحق.. دين التوحيد الخالص الذي لا شبهة فيه.
فالمنطق يقضي بألا نجد ديانات سماوية متعددة، بل نجد دينًا سماويًا واحدًا جاء به الأنبياء والمرسلون عبر القرون والأزمان.
ويمكن البرهنة على أن دين البشرية الأولى كان واحدًا في شكله، توحيديا في موضعه، ويقوم أساسًا على إسلام الوجه وتطويع القلب لله، ومن هذه البراهين:
١- يؤمن أتباع الديانات السماوية الثلاث -اليهودية والمسيحية والإسلام- بأن آدم هو أب البشرية كلها، وهو صنعة الله المباشرة، وأول المؤمنين من البشر؛ فالعقيدة الحقة التي كان عليها آدم هي التوحيد الخالص. تلك حقيقة أولية تتفق عليها الكتب المقدسة.
ومن الطبيعي أن تكون هذه هي عقيدة الأجيال اللاحقة له من أبنائه. فإذا حدث خلاف بين البشر وظهرت فيهم عقائد مختلفات -وكما هو حادث الآن- فمرد ذلك ومصدره إلى طغيان الإنسان ومحاولاته التدخل في دين الله بغيًا على الحق بغير حق. وبذلك يكون نتاج اختلاف البشرية الأولى عقائد فاسدة، وأفكارا منحرفة كلها بعيدة عن الحق إلا عقيدة التوحيد الخالص.
٢- أثبتت أبحاث العالم الألماني الدكتور ميللر -الذي كانت له اليد الطولى في حل رموز السنسكريتية بالهند: "أن الناس كانوا في أقدم عهودهم على التوحيد الخالص، وأن الوثنية عرضت عليهم بفعل رؤسائهم الدينيين".١.
_________
١ من مقدمة "تفصيل آيات القرآن الحكيم" وضعه بالفرنسية: جول لابوم -نقله إلى العربية: محمد فؤاد عبد الباقي.
1 / 11
٣- وفي دراسة عن عقائد القبائل الوثنية في إقريقيا وجد "أن فكرة الله الأعلى، تكاد تكون موجودة لدى جميع القبائل، بل إن مفهوم الذات الإلهية الكلية الحضور، والذاتية الاكتفاء والشاملة القدرة، نجده بين كثير من القبائل كالزولو بجنوب إفريقيا والبايراوندا والاشانتي بساحل العاج، والآكان بغانا، واليروبابنيجيريا والبوكونجو بأنجولا، والنجومية بالكونغو، ومن اليسير إعطاء أمثلة كثيرة غير ما سبق لولا ضيق المقام.
على أننا يجب ألا يفوتنا هنا أن نذكر أن لدى الأقزام وهم أقدم سلالات إفريقيا، كائنا أعلى يطلقون عليه اسم مونجو.. وإلى هذا الكائن الأعلى يعزو الأقزام أيضًا خلق جميع الأشياء وأنها ترجع إليه.
كما أن هناك أسطورة من قبائل لشاجا بتنزانيا تروي أن الله قد غضب من أعمال البشر فأهلكهم فيما عدا قلة. وجلي مدى التشابه بين هذه الأسطورة وقصة سيدنا نوح ... ويروي البامبوتي والتشاجا والميروكيف أن الرب حرم أكل ثمار شجرة معينة على الإنسان، وكيف أنه حينما عصى الإنسان الأمر وأكل منها جاء الموت إلى الأرض.. وجميع الأديان الإفريقية التقليدية تعتقد فيما وراء الموت بشكل أو بآخر، كما تعتقد أن المتوفى تستمر حياته في عالم الأرواح.
ومفاهيم الخير والشر موجودة أيضًا في هذه الديانات بل لعلها عميقة الجذور فيها إلى حد لا يتصوره الكثيرون.. وتعتقد قبائل التوركانا من كينيا مثلًا أن الله -مع أنه يشفي من المرض- قد يصيب به أولئك الذين يغشون المحارم ويخالفون الطقوس الهامة"١.
وخلاصة القول الفصل في هذا المقام هو ما قرره القرآن الكريم إجمالًا في سورة يونس -المكية- إذ يقول:
_________
١ الرب والله وجوجو "الأديان في إفريقية المعاصرة" -تأليف القس جاك مندلسون- ترجمة إبراهيم أسعد -ص١٠٨.
1 / 12
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا﴾ "يونس: ١٩".
ثم ما قرره تفصيلًا في سورة البقرة -المدنية- إذ يقول:
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ "البقرة: ٢١٣".
ومن هنا يتضح لنا حتمية الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين طالما كانت دعوتهم إلى الله الواحد الأحد خالق السموات والأرض وخالق البشر من أبيهم آدم.
ولما كان أنبياء العهد القديم -أو بالحري الذين ورد ذكرهم في أسفار العهد القديم- يمثلون الأساس المشترك الذي تقوم عليه عقائد اليهود والمسيحيين والمسلمون، كان من اللازم أن نركز على ما يذكره العهد القديم في موضوع النبوة والنبيين.
الصورة العامة لأنبياء العهد القديم:
لقد أولى الكثير من العلماء موضوع الأنبياء في العهد القديم ما يستحقه من دراسة وتمحيص، ومن أمثلة لبعض الدراسات الجادة في هذا الموضوع، ما قام به إريك ويليام هيتون١ في كتابه "أنبياء العهد القديم".
ولقد عالج هيتون في دراسته عدة نقاط منها: لقظ النبي، الذي استخدم بكثرة في أسفار العهد القديم، ومدلول هذا اللفظ والأنبياء الحقيقيين والأنبياء المحترفين الكذابين الذين ازدحمت بهم إسرائيل وخاصة في القرنين الثامن
_________
١ أستاذ دراسات العهد القديم بجامعة أوكسفورد.
1 / 13
والسابع قبل الميلاد -ومظاهر النبوة ووسائل التنبؤ، وغير ذلك مما يتعلق بهذا الموضوع.
ورغم أن هيتون ركز في دراسته على أنبياء العهد القديم ابتداء من موسى ومن جاء بعده -وكان من الممكن أن يمدها لتشمل الأنبياء الغابرين الذين تذكرهم أسفار العهد القديم، خاصة وأن كتابه هذا إنما هو طبعة حديثة لنفس البحث الذي ظهر لأول مرة عام ١٩٤٩ تحت عنوان: "عبيده الأنبياء" فسوف نعرض لشيء من دراسة هيتون باعتبارها مدخلًا مناسبًا لدراسة "الأنبياء في العهد القديم" وذلك مع التعليق عليها وتطويرها بما يجعل حقيقة النبوة والنبيين في صورتها العامة أكثر وضوحًا.
لفظ النبي:
يقول هيتون: "لا يمضي الإنسان بعيدًا في قراءة أسفار الأنبياء دون أن تقابله فقرة كهذه:
"هكذا قال رب الجنود: لا تسمعوا لكلام الأنبياء الذين ينتبئون لكم، فإنهم يجعلونكم باطلًا يتكلمون برؤيا قلبهم لا عن فم الرب" "أرميًا ٢٣: ١٦".
إن مثل هذا التشهير بالأنبياء على لسان أحدهم، ليوقعنا في أشد الحيرة ما لم نعلم أن ألفاظًا مثل: نبيويتنبأ، لها معاني واسعة جدًا في أسفار العهد القديم.
إن الظاهرة المشتركة لكل الأنبياء في العالم القديم هو دعواهم أنهم كانوا يتكلمون بسلطان من إلههم، وكان النبي هو الشخص الذي تكلم بالنيابة عن إلهه.
ولقد استخدم لفظ النبي دون تحفظ حتى إنه أطلق على أولئك الذين تكلموا باسم آلهة الوثنيين، مثل: أنبياء البعل الأربعمائة والخمسين الذين استخدمتهم إيزابل، وأنبياء السواري الأربعمائة الذين جاهدهم إيليا فوق جبل الكرمل "الملوك الأول ١٨-١٩، الملوك الثاني ٣: ١٣، ١٠: ٩".
1 / 14
وأطلق لفظ النبي كذلك على أنبياء إسرائيل المحترفين الذين عاشوا في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد.
ولهذا فإن دارس أسفار العهد القديم يواجه ضرورة التمييز بين الأنواع المختلفة من الأنبياء، وأن يعرف الصفات التي تجمعهم غير لفظ النبي الذي وصفوا به، وادعاء كل منهم أنه يتكلم بسلطان إلهي.
ولا شك أن هذا العمل قد زادته صعوبة كتابات المؤلفين الذين تسلمنا منهم الأسفار العبرية، فبالإضافة إلى تقديم الأنبياء مع الروايات التاريخية كرجال يعلنون مواعظهم للشعب، فإن مؤلفي هذه الأسفار مسئولون إلى حد كبير عن إطلاق لقب النبي على رجال الله من أمثال: عاموس وهوشع وأشعياء وميخا، بالرغم من إمكانية التساؤل هنا عن مدى تقبلهم لهذا اللقب.
وتتوقف الإجابة على هذا التساؤال على مقدار فهمنا لقول عاموس، الذي لا يزال يثور جدل كثير حول تفسيره:
"فأجاب عاموس وقال لأمصيا: ليست أنا نبيًا ولا أنا ابن نبي، بل أنا راع وجاني جميز فأخذني الرب من وراء الضأن وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل" "عاموس ٧: ١٤-١٥".
ولقد افترض بعض العلماء أن عاموس لا يقدم هنا موعظة صريحة، ولكنه يسأل سؤالًا ساخطًا كما لو كان يقول: كيف تجرؤ على القول بأني لست نبيا حقًا لأني راعي غنم وجاني جميز؟ ألم تعلم أن الرب ناداني؟
على أن البعض الآخر من العلماء يفضل قراءة الفقرة السابقة في صيغة الماضي هكذا: أنا لم أكن نبيًا ولا ابن نبي ... وقال لي الرب: اذهب تنبأ لشعبي إسرائيل.
وبناء على وجهة النظر الأخيرة فإن عاموس يدعي أن وضعه الجديد كنبي يقوم على أساس نداء إلهي، وليس بناء على اختيار مهنة أو وظيفة.
1 / 15
ونصل الآن إلى نتيجة هي: أن أي محاولة لتمييز الأنبياء الحقيقين بناء على التعريف النظري المجرد للنبوة، إنما هو عمل مقضي عليه بالفشل. ذلك أن تعريف النبوة -كغيره من تعاريف بعض الكلمات المذكورة في العهد القديم مثل عقيدة وكاهن- لن يقودنا على أحسن الفروض إلا إلى ربط النبوة بمظاهر خاريجية عرفها الناس في حياتهم العادية. ولا شك أن مظاهر النبوة الخارجية -وما كان من سلوك الأنبياء وانفعالاتهم وأفعالهم لهي أقل ما نعتمد عليه في معرفة حقيقة أنبياء الله الكبار الذين نشغل أنفسنا بدراستهم.
ونذكر على سبيل المثال الأعمال الرمزية والحركات التمثيلية التي كانت في مظهرها تصرفات عادية مارسها كل من الأنبياء الحقيقين والأنبياء الوثنيين على السواء.. ومنها نبوءة حزقيال على أورشليم:
"وأنت يا آدم فخذ لنفسك لبنة وضعها أمامك وارسم عليها مدينة أورشليم، واجعل عليها حصارًا وابن عليها برجًا وأقم عليها مترسة واجعل عليها مجانق حولها.
وخذ أنت لنفسك صاجًا من حديد وانصبه سورًا من حديد بينك وبين المدينة وثبت وجهك عليها فتكون في حصار وتحاصرها. تلك آية لبيت إسرائيل".
"حزقيال: ٤: ١-٣"١.
ومن الواضح أنه لا يوجد معيار حقيقي لتمييز حقيقة الظواهر التي اقترنت بكل من الأنبياء الحقيقيين والأنبياء الكذابين. ويتبين ذلك مما نقرأه في سفر التثنية٢:
_________
١ انظر أيضًا: الملوك الأول ١١: ٢٩-٣١، أشعياء ٢٠، أرميًا ١٣: ١-١١، ١٩: ١-١٥، ٢٧: ١-٢٨، ٤٣: ٨-٢٣، حزقيال ٤: ٨، ٥: ١-٤، ١٢: ٣-١٦، ١٧-٢٠، ٢١: ٨-١٧، ٣٧: ١٥-٢٨.
٢ انظر أيضًا: أرميا ٢٨، تثنية ١٨: ٢٠-٢٢.
1 / 16
"إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة. ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلًا: لنذهب وراء آلهة آخرى لم تعرفها ونعبدها، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" "تثنية ١٣: ١-٣"١.
لقد لمس هيتون كبد الحقيقة حين بين هنا -بناء على دراسته وفهمه لأسفار العهد القديم- أن أي محاولة لربط النبوة الحقيقية بحدوث خوارق وظواهر غير عادية أو بصيغة أخرى بمعجزات مادية هو في الواقع وهم وظنون لا تغني عن الحق شيئًا في هذا المقام.
وأن النبوة الحقة لا يمكن الحكم عليها إلا بصدق العقيدة التي تقوم على التوحيد الخالص وطهر السلوك والبذل وغير ذلك من جميع الصفات الكريمة.
الأنبياء الحقيقيون والأنبياء المحترفون:
"لقد عمل الأنبياء المحترفون في بني إسرائيل ذيولًا للدوائر الحكومية، فقد حصلوا على وظائف رسمية في الدولة لأنهم خلعوا هالة القداسة على مشاريع الحزب الحاكم٢ ولقد كان شغلهم الشاغل أن يخبروا مواطنيهم الأشياء الحلوة التي يودون سماعها -وهذه سماها حزقيال: عرافة ملقة٣- وأن يؤكدوا لهم بحكم وظيفتهم أن كل شيء في الحديقة جميل، وأن يبشروهم بالسلام، بينما كانت الدولة في الواقع على وشك الانهيار الأخلاقي والسياسي٤.
_________
١ EW. Heaton: The Old Testament Prophets، pp. ٣٤-٣٥.
٢ الملوك الأول ٢٠: ١٣-١٥، ٢٢: ٦، الملوك الثاني ٢٣: ٢، نحميا ٦: ١٠-١٤، ٩: ٣٢.
٣ أشعياء ٣٠: ١٠ أرميا ٢: ٨، ٥: ٣١، حزقيال ١٢: ٢٤، ١٣: ٦-٧.
٤ أرميا ٦: ١٤، ١٤: ١٣-١٦، ٢٣: ١٧، ٢٧: ١٤-١٥، ٢٨: ٩، ميخا ٣: ٥، أشعياء ٩: ١٥، ٥٦: ٩-١٢، زكريا ١٣: ١-٦.
1 / 17
ولقد خلف لنا أحد المؤرخين العبرين قصة قصيرة ممتازة في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الملوك الأول -حيث تقرأ فيها كما أراد كاتبها، أن يبين لنا- الاختلاف البعيد بين أنبياء البلاط الملكي الطفيليين، وبين أنبياء الله الحقيقيين.
وفي الصقة نجد أن ميخا بن يملة تهو البطل الحقيقي أمام صدقيا نذل السلام.
فقد حدث أن استدعى صدقيا ومساعديه الأربعمائة نبي، للتوثيق على القرار النهائي لآخاب ملك إسرائيل -مستخدمهم- ويهوشافاط ملك يهوذا للقيام بحملة عسكرية ضد السوريين. ولقد عملت الترتيبات التي تجعل ألاعيبهم تتفق ومرامى آخب:
"كان ملك إسرائيل "آخاب" ويهوشافاط ملك يهوذا جالسين كل واحد على كرسيه لابسين ثيابهما في ساحة عند مدخل باب السامرة وجميع الأنبياء يتنبئون أمامهما، وعمل صدقيا بن كنعنة لنفسه قرني حديد وقال: هكذا قال الرب، بهذه تنطح الأراميين حتى يفنوا. وتنبأ جميع الأنبياء هكذا قائلين: اصعد إلى راموت جلعاد وأفلح فيدفعها الرب ليد الملك".
"الملوك الأول ٢٢: ١٠-١٢".
ولم يكن يهوشافاط بالرجل الذي تقنعه هذه النبوءة رغم تأكيدات صدقيا، لذلك طلب أن يستفتى النبي ميخا -وبعد أن قوبل هذا الطلب بغضاضة، فإننا نقرأ الآتي:
"وأما الرسول الذي ذهب ليدعو ميخا فكلمه قائلًا: هو ذا كلام جميع الأنبياء بفم واحد خير للملك، فليكن كلامك مثل كلام واحد منهم وتكلم بخير.
فقال ميخا: حي هو الرب، إن ما يقوله لي الرب به أتكلم".
"الملوك الأول ٢٢: ١٣-١٤".
كذلك يظهر الفرق بين الأنبياء الحقيقيين والأنبياء المحترفين في القصة السوفسطائية التي ذكرت عن بلعام في سفر العدد.
1 / 18
فلقد استأجر بالاق -ملك موآب- عراف الوثنيين "بلعام" ليلعن شعب إسرائيل، وبعد ثلاث محاولات فاشلة نجد بلعام يتحول إلى نبي حقيقي:
"فأجاب بلعام وقال لعبيد بالاق: ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهبًا لا أقدر أن أتجاوز قول الرب إلهي لأعمل صغيرًا أو كبيرًا" "العدد ٢٢: ١٨".
ولا شك في أن كتبة القصص في أسفار العهد القديم قد كتبوها وهم على علم بمقدار الانحطاط الذي تردى إليه أنبياء إسرائيل المحترفون. وعلى سبيل المثال نجد أنه في زمن ميخا، قد عاش أنبياء لم يبيعوا فقط تنبؤاتهم السعيدة لهؤلاء الذين دفعوا لهم الثمن -بل إنهم قد أعلنوا الحرب كذلك على أولئك الذين قبضوا أيديهم عنهم١.
كذلك فإن حزقيال يذكرنا بنبية كانت تمارس السحر والعرافة من أجل "حفنة شعير ولأجل فتات من الخبز" "حزقيال ١٣: ١٩".
ومن المعلوم أن النبي المحترف كان له الحق في قبض أجرة نظر خدماته، وتنبؤاته في إسرائيل٢.
وبناء على ما سبق فإننا نستطيع أن نميز بالتقريب بين الأنواع المختلفة لأنبياء العهد القديم، وذلك بملاحظة ما إذا كانت خدماتهم منتظمة، أم أنهم كانوا يتكلمون بما وعاه وجدانهم، وتبعًا لنبضة الوحي التي تلقوها. ويشمل النوع الأول كل الأنبياء الذين جعلوا مقر قيادتهم في البلاط الملكي وهم الأنبياء المحترفون.
وأما النوع الثاني فإنه يختص بالأنبياء الحقيقيين الذين رغم صلاتهم الوثيقة بالملوك المتتابعين فإنهم بقوا دائمًا مستقلين غير مرتبطين بسلطة أو حزب"٣.
_________
١ ميخا ٣: ٥، ١١.
٢ صموئيل الأول ٩: ٥-١٠، الملوك الأول ١٤: ١-١٣، الملوك الثاني ٨: ٧-٨.
٣ المرجع السابق ص ٣٧-٣٩.
1 / 19
* مظاهر النبوة ووسائل التنبؤ في إسرائيل:
"من الواضح أن الأنبياء الذين عملوا كمستشارين محترفين للسلطات الحاكمة لا بد وأنهم قد كانوا على دراية ببعض الوسائل التي قد تمكنهم من اكتشاف مشيئة الله، وهي وسائل شديدة الشبه بوسائل الكهنة الوثنيين في أرض كنعان.
وربما كان من بعض هذه الوسائل، قراءة الطالع وإلقاء القرعة، وخير مثال لذلك ما كان من أمر شاول حين استخدم الأوريم، والثميم، للحصول على كلمة الله:
"وقال شاول للرب إله إسرائيل: لماذا لم تجب عبدك اليوم؟ إذا كان الذنب فيَّ أو في يوناثان ابني، يارب إله إسرائيل، أعط أوريم، ولكن إذا كان الذنب في شعبك إسرائيل، أعط ثميم، فأخذ يوناثان وشاول، أما الشعب فخرجوا".
إن أحدًا لا يعلم بالضبط ما هو الأوريم والثميم ولكن من المحتمل أنه كان حجارة مرقمة استخدمت للقرعة.
إن كثيرًا من الاتصالات الروحية المزيفة تفتننا حتى في هذه الأيام، تمامًا كما فعل أنبياء إسرائيل المحترفين الذين تفننوا في خداع معاصريهم في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد. ويسوق أشعياء تعليقًا مرًا على الأنبياء الذين: "ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر. الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر، ابتلعتهما الخمر، تاها من المسكر، ضلا في الرؤيا، قلقا في القضاء" "أشعياء ٢٨: ٧".
فقد كانت الخمر والمسكر إحدى الوسائل الممكنة لتلقي الإلهام.
كذلك عملت الموسيقى كعنصر إثارة استخدم في تملك الروح للنبي١.
ويعطي شاول هنا المثل الحي، فقد قال له صموئيل "النبي": "عند
_________
١ صموئيل الأول ١٦: ١٤-٢٣، ١٨: ١٠-١١، ١٩: ٩، الملوك الثاني ٣: ١٥.
1 / 20
مجيئك إلى هناك إلى المدينة أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من المرتفعة وأمامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبئون فيحل عليك روح الرب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر" "صموئيل الأول ١٠: ٥-٦".
من العجيب حقًا أن النبوة يمكن اعتبارها مرادفًا لنوع من اختلاف العقل أو الجنون".
"قد جعلك الرب كاهصا عوضًا عن يهوياداع الكاهن لتكونوا وكلاء في بيت الرب لكل رجل مجنون ومتنبئ" "أرميا ٢٩: ٢٦"١.
ومن المعلوم أنه كان في إسرائيل أنبياء لم يختلف سلوكهم في شيء عما كان يفعله أنبياء البعل من الهذيان والهوس حيث: "صرخوا بصوت عال وتقطعوا حسب عادتهم بالسيوف والرماح حتى سال منهم الدم. ولما جاز الظهر وتنبئوا إلى حين إصعاد التقدمة ولم يكن صوت ولا مجيب ولا مصغ" "الملوك الأول ١٨: ٢٨-٢٩".
لكن شيئًا من ذلك لم يحدث للأنبياء الحقيقيين الذين لم يستخدموا أية وسائل مصطنعة للإثارة، ولتهيئة أنفسهم لتلقي الإلهام.
ولقد كانوا قبل السبي البابلي يتجنبون استخدام ألفاظ مثل: روح الله، واستخدموا بدلًا من ذلك ألفاظًا أقل غموضًا مثل: يد الله"٢.
ولا يملك الإنسان نفسه من الدهشة والاستغراب حين يجد الأسفار المقدسة تعرض لنا أنبياء الله الحقيقيين، وقد امتزجت تصرفاتهم بالخبل والجنون واقترنت أعمالهم بالكثير مما هو شاذ وقبيح، ونجدهم قد فعلوا ذلك عندما غشيتهم حالة الوحي، وجاءتهم كلمة الله فاستجابوا لها، وقاموا بإخراجها مثلًا حيًا للناس.
_________
١ انظر أيضًا هوشع ٩: ٧، صموئيل الأول ١٩: ٢٣-٢٤، زكريا ١٣: ١-٦.
٢ المرجع السابق ص ٤٠-٤٢.
1 / 21
فها هو شاول لا يتنبأ إلا بعد أن يتجرد من ملابسه ويتعرى بين الناس كعادة غيره من الأنبياء. وكأن العري هو إحدى وسائل استجلاب النبوة وقرين من قرائن حلول روح الله.
"فذهب "شاول" إلى هناك إلى نايوت في الرامة فكان عليه أيضًا روح الله فكان يذهب ويتنبأ حتى جاء إلى نايوت في الرامة، فخلع هو أيضًا ثيابه وتنبأ هو أيضًا أمام صموئيل وانطرح عريانًا ذلك النهار كله وكل الليل".
"صموئيل الأول ١٩: ٢٤".
وبالمثل سار أشعياء عريانًا بين الرجال والنساء، والأطفال بعورته الغليظة لمدة ثلاثة أعوام استجابة للوحي -كما يدعون:
"في ذلك الوقت تكلم الرب عن يد أشعياء بن آموص قائلًا: اذهب وحل المسح عن حقويك واخلع حذاءك عن رجليك، ففعل هكذا ومشى معرى وحافيًا.
فقال الرب: كما مشى عبدي أشعياء معرى وحافيًا ثلاث سنين آية وأعجوبة.
"أشعياء ٢٠: ٢-٤".
وقد كان الوحي إلى حزقيال أن يأكل من عجين الشعير لمدة ٣٩٠ يومًا وقد نجسه ببراز الإنسان، فيكون ذلك آية لبني إسرائيل:
"وخذ أنت لنفسك قمحًا وشعيرًا وفولًا وعدسًا ودخنًا وكرسنة وضعها في وعاء واحد واصنعها لنفسك خبزًا كعدد الأيام التي تتكئ فيها على جنبك ثلاث مائة يوم وتسعين يومًا تأكله.. وتأكل كعكًا من الشعير. على الخرء الذي يخرج من الإنسان تخبزه أمام عيونهم. وقال الرب: هكذا يأكل بنو إسرائيل خبزهم النجس بين الأمم الذين أطردهم إليهم. فقلت: آه يا سيد الرب ... ها نفسي لم تتنجس ومن صباي إلى الآن لم آكل ميتة أو فريسة ولا دخل فمي لحم نجس. فقال: انظر. قد جعلت لك خثى البقرة بدل خرء الإنسان".
"حزقيال ٤: ٩-١٥".
1 / 22
وما أمر هوشع بأقل عجبًا مما رأينا، فلقد كان أول حالات النبوة التي مارسها تحمل في طياتها إليه أمرًا إلهيًا بمعاشرة امرأة زانية تفرخ له أولاد زنى -هكذا يدعون:
"أول ما كلم الرب هوشع قال الرب لهوشع: اذهب خذ لنفسك امرأة زنى وأولاد زنى لأن الأرض قد زنت تاركة الرب. فذهب وأخذ جومر بنت دبلايم فحبلت وولدت له ابنًا ... ثم حبلت أيضًا وولدت بنتًا" "هوشع ١: ٢-٦".
واستمر هوشع يتردى في طريق الزانيات حيث كانت نبؤته التالية تفرض عليه عشق امرأة متزوجة برجل يحبها، لكنها تخونه وتزني بآخرين حتى يأتي هوشع ويخطفها من تحت رجلها:
"وقال الرب لي: اذهب أيضًا أحبب امرأة حبيبة صاحب وزانية كمحبة الرب لبني إسرائيل وهم ملتفتون إلى آلهة آخرى" "هوشع ٣: ١".
وبهذه التصرفات نجد هوشع قد هدم شريعة موسى وخالف أحكامها التي تفرض على الكاهن أن:
"يأخذ بامرأة عذراء. أما الأرملة والمطلقة والمدنسة والزانية فمن هؤلاء لا يأخذ بل يتخذ عذراء من قومه امرأة. ولا يدنس زرعه بين شعبه".
"لاويين ٢١: ١٣-١٥".
فما بال هؤلاء الأنبياء قد التصقت بأسمائهم تلك الغلالات الحالكة، وأدخلت على تنبؤاتهم مثل هذه الألاعيب؟
إن هذا يؤكد لنا ما سبق أن توصل إليه هيتون من أن كتبة الأسفار قد جعلوا سلوك أنبياء بني إسرائيل -حتى من عرفوا باسم الأنبياء الكبار أو الأنبياء الحقيقيين- لم يختلف كثيرًا في بعض المواقف عن سلوك معاصريهم من الأنبياء المحترفين.
1 / 23
الأنبياء أحباب الله:
يقول هيتون: "إن الصوت المنخفض الخفيف الذي سمعه إبليا -فوق جبل الوحي- يهيئ أذهاننا لفهم النبوة على أنها صداقة لله كما كان الحال مع موسى الذي تقول عنه الأسفار:
"ويكلم الرب موسى وجهًا لوجه كما يكلم الرجل صاحبه" "خروج ٣٣: ١١".
إن إحدى أساسيات العقيدة التي نجدها في العهد القديم هي أن الأنبياء قد سمح لهم بشرف الانتساب إلى مجمع الله السماوي١ ومن أجل ذلك كانوا قادرين على سماع كلمته وإعلان ما يدور في ذلك المجمع المقدس:
"إن السيد الرب لا يصنع أمرًا إلا وهو يعلن سره لعبيده الأنبياء".
"عاموس ٣: ٧".
لكن صداقة الأنبياء لله كانت تكلفهم الشيء الكثير.
لدينا البرهان -إذا كان هناك حاجة إلى برهان- على أن الأنبياء الكبار لم يكونوا فقط مجرد أدوات بين يدي الله، بل كانوا كذلك خدامًا في بيته، ولقد كانت لهم عواطفهم وشخصياتهم التي لم تتحلل بانصهارها في الوحي على أي صورة من صور الاتحاد الصوفي الغامض، وكان لهم تفكيرهم الخاص، لكنه تفكير يخدم أغراض الوحي.
وتظهر هذه النبضة بجلاء في حالة أرميا الذي انتظر مدة عشرة أيام حتى جاءته كلمة الله"٢.
_________
١ أيوب ١: ١-٢، ١٥: ٨ مزامير ٨٢، ٨٩: ٧.
٢ المرجع السابق: ص٥١.
1 / 24
فقد استشار الشعب أرميا أن يخبرهم عن الطريق الذي يسيرون فيه، "فقال لهم أرميا النبي: قد سمعت. هأنذا أصلي إلى الرب إلهكم كقولكم ويكون أن كل الكلام الذي يجيبكم الرب أخبركم به ...
وكان بعد عشرة أيام أن كلمة الرب صارت إلى أرميا" ...
"أرميا ٤٢: ٤، ٧".
ملامح مشتركة بين الأنبياء:
يقول هيتون: "إن رجال الله حينما حملوا الرسالة إلى البشر فإنهم بقوا بشرًا كما كانوا، ولهذا أمكنهم أن يبلغوا البشرية في قوة وعزم وحي الله الذي نزل إليهم.
وإذا أردنا الحديث عن القوة الجبرية التي تلقى بها الأنبياء وحي الله، فيجب أن نعلم أنها كانت أقوى نوع من الجبرية وأعظمه، وأنها قامت على أساس علم اختص به الله النبي الذي قام بتبليغه بأمانة.
إن رجال الله لم يولدوا لمهنة، ولم يمروا خلال فترة للتلمذة، ولم تكن هناك نقابة للأنبياء، ينتسبون إليها، كذلك فإنهم لم يتلقوا دراسة خاصة في التعاليم اللاهوتية تؤهلهم لذلك. لقد انتهوا كما بدءوا رجالًا بسطاء، أنقياء، وكان عاموس مثل اليشع، كلاهما جاءته كلمة الله وهو يعمل في الحقل:
"عاموس ٧: ١٥"١.
إن بساطة هذا القول تعطيه الصدق والثقة فيه.
_________
١ انظر أيضًا: الملوك الأول ١٩: ١٩-٢١، وصموئيل الثاني ٧: ٨-٩.
1 / 25