ديكارت مبادئ الفلسفة
ديكارت مبادئ الفلسفة
প্রকাশক
دار الثقافة للنشر والتوزيع
সংস্করণের সংখ্যা
-
জনগুলি
مقدمات
إهداء المترجم
دواعي نشر كتاب المبادئ
...
إهداء المترجم:
تقديم بقلم مترجم الكتاب إلى العربية:
١- دواعي نشر كتاب المبادئ:
كتاب "مبادئ الفلسفة" الذي يسعدني اليوم أن أقدمه إلى قراء العربية أحد المؤلفات الفلسفية التي ما تزال ذات مكانة ممتازة، لا في تاريخ الفلسفة الديكارتية فحسب، بل في تاريخ الفلسفة على العموم. ألفه صاحبه على أثر الحملة العنيفة التي شنها عليه التقليديون من أنصار الفلسفة المدرسية، تلك الحملة التي لم تقتصر على اختيار ميدانها في وطنه فرنسا، بل تجاوزتها إلى هولندا. ولقد أشار الفيلسوف إلى هذه المعركة التي لا هوادة فيها حين كتب إلى صديق له يقول: لقد صممت على أن أكتب مبادئ فلسفتي قبل أن أبرح هذا البلد، وربما نشرتها قبل انقضاء عام. وقصدي أن أكتب عرضا مرتبا لدروس من فلسفتي في صورة دعاوى أقتصر فيها على ذكر جميع النتائج التي انتهيت إليها، والدواعي الحقيقية لها. وهذا أمر أظنني أستطيع أداءه في كلمات قلائل، وأود أن أطبع في الكتاب نفسه دروسا في الفلسفة التقليدية كفلسفة الأخ "أوستاش" مع تعقيباتي على كل مسألة.... وربما وازنت في النهاية بين الفلسفتين المتعارضتين، ولكني أسألك ألا تذكر لأحد شيئا عن قصدي هذا حتى يتم لي نشر ميتافيزيقاي.
بعد ذلك بقليل نشر ديكارت ميتافيزيقاه التي أشار إليها في العبارة السابقة، وهي كتابه "التأملات في الفلسفة الأولى" وحدث أن ألف الأب "بوردان"
1 / 9
كتابا سخر فيه من التأملات الديكارتية، عاقدا العزم -كما يقول- "على أن يضيع ما لمؤلفها من شهرة في روما وفي كل جهة أخرى"، وتساءل اليسوعيون عن موقف ديكارت من تحدي "بوردان" وعهدوا إلى ألب "مرسن" أن يكشف لهم عن نية ديكارت. فكتب ديكارت ردا عليه يقول: "لقد عدلت عما كنت نويته من نقض تلك الفلسفة -أي: المدرسية- لأني أرى أن مجرد نهوض فلسفتي يقوض الفلسفة المدرسية تقويضا لا تحتاج بعده إلى تفنيد آخر"١.
وإذن فقد قنع ديكات بتقويض الفلسفة المدرسية بنشر كتابه "مبادئ الفلسفة" متوخيا فيه أن يبسط مذهبه "على ترتيب خاص يجعل تعلمه ميسورًا" ومؤملا أن "يتحقق الناس بالتجربة أن آراءه ليس فيها شيء مما قد يخشاه رجال التعليم، بل سيجدوا فيها نفعا وإصلاحا كبيرا".
وظهر الكتاب الموعود بأمستردام في ٢٠ يوليو سنة ١٦٤٤ بعنوان هذا نصه: "مبادئ فلسفة رينيه ديكارت".
Renati Decartes principia Philosophiae.
كتبه ديكارت باللغة اللاتينية، وقام الأب "بيكو" فوضع للكتاب فرنسية راجعها ديكارت ونشرت بباريس سنة ١٩٤٧ بالعنوان التالي:
Principes de la philosohie; ecrits en latin par Rene Descartes et traduits en francais par un de ses amis.
وبعث ديكارت إلى مترجم الكتاب رسالة هامة جعلها بمثابة المقدمة للترجمة الفرنسية، أوضح فيها الخلاف بين الفلسفة القديمة والفلسفة الجديدة،
_________
١ مبادئ الفلسفة، المقدمة "طبع ليار ص٩" ٥١-٥٣.
1 / 10
والمميزات التي توجد في فلسفته، وفضلها في تقدم المعارف البشرية تقدما مضطردا غير محدود.
وأهدى ديكارت كتاب المبادئ إلى الأميرة "إليزابث" وهي كبرى بنات الناخب البالاتيني "فردريك الخامس" الذي ملك على بوهيميا مدة قصيرة، وأمها هي "إليزابث على ستيوارت" ابنة جاك الأول ملك إنجلترا، ولقد كانت الأميرة إليزابث على جمال نادر وأخلاق رصينة وذكاء متوقد لا يخلو من القلق، وحظ من الثقافة المتينة المنوعة، هذا إلى دراية وحذق للعلوم الرياضية والفلكية والطبيعية، واتصلت الأميرة بالفيلسوف عن طريق المراسلات، فكانت تستشيره لا في الصعوبات التي كانت تلقاها في المسائل العلمية فحسب، بل في شئونها الخاصة، وكان ديكارت يقدر الأميرة تقديرا عاليا لما امتازت به من صفات نادرة. ونعتقد أن الفلسفة كسبت كسبا عظيما من تلك الصلة وما استتبعته من مراسلات ذات قيمة. فإذا كانت كتب الفيلسوف توقفنا على ديكارت الميتافيزيقي والعالم، فإن رسائله إلى الأميرة تكشف لنا عن جوانح الرجل ودخيلته. وهذا ما يجعل لها أهمية فريدة، فإن كل مذهب لا يساوي في الحقيقة إلا ما يساوي صاحبه، وما وضع فيه من نفسه.
وكان في نية ديكارت أن يجعل كتاب المبادئ في ستة أجزاء:
"مبادئ المعرفة، مبادئ الأشياء المادية، السماء، الأرض، النبات والحيوان، الإنسان".
ولكنه لم يستطع إتمام الجزأين الأخيرين لقلة ما لديه من التجارب، فقنع بالأجزاء الأربعة الأولى التي يشمل أولها الميتافيزيقا، ويشمل ثانيها وثالثها ورابعها الفيزيقا المؤسسة على تلك الميتافيزيقا.
1 / 11
فكتاب المبادئ ينقسم إذن أربعة أجزاء: الأول وعنوانه: "مبادئ المعرفة البشرية"، يحوي على التقريب ما يحويه كتاب التأملات لولا أنه بأسلوب آخر، ولولا أن ما وضع في الواحد مطولا وضع في الآخر مختصرا وبالعكس. والجزء الأول هذا، إذا قِيس بالثلاثة الأخرى، وجد عبارة عن نحو عشر الكتاب كله، وهو أقل قدر من الميتافيزيقا لازم لكل فيزيقا في ذلك الوقت.
والجزء الثاني وعنوانه: "مبادئ الأشياء المادية" بيّن ديكارت فيه لِمَ يعتبر الأجسام إلا مادة ممتدة طولا وعرضا وعمقا، ولم يعتبر في تغيراتها المتعاقبة إلا حركات خاضعة لبعض قوانين بسيطة جدا؟
وعنوان الجزء الثالث: "في عالم الشهادة" Du Monda Visible. وهو بحث في الميكانيكا السماوية، يصف ديكارت فيه حركة الأرض والكواكب الأخرى حول الشمس.
وعنوان الجزء الرابع: "في الأرض" ويفسر فيه ديكارت الثقل وظاهرة المد والجزر وخواص المغناطيس ... إلخ، ويبقى الجذبة بين الأجسام؛ لأن فكرة الجذبة فكرة مبهمة.
٢- ماهية الفلسفة ومقصدها عند ديكارت: يرى ديكارت أن الفلسفة هي دراسة الحكمة، والحكمة علم واحد كلي، هي تفسير جامع للكون أو هي نظام شامل للمعرفة البشرية. وليست الفلسفة مجرد مجموعة معارف جزئية خاصة، وإنما هي علم المبادئ العامة، يعني: أنها علم للأصول التي هي أسمى ما في العلوم. وإذن، فالفلسفة عند ديكارت يدخل فيها علم الله وعلم الطبيعة وعلم الإنسان، لكن دعامة الفلسفة عنده إنما هي في الفكر المدرك لذاته، والذي هو في ذاته مدرك الموجود الكامل أي: الله منبع كل وجود، والضامن لكل حقيقة.
٢- ماهية الفلسفة ومقصدها عند ديكارت: يرى ديكارت أن الفلسفة هي دراسة الحكمة، والحكمة علم واحد كلي، هي تفسير جامع للكون أو هي نظام شامل للمعرفة البشرية. وليست الفلسفة مجرد مجموعة معارف جزئية خاصة، وإنما هي علم المبادئ العامة، يعني: أنها علم للأصول التي هي أسمى ما في العلوم. وإذن، فالفلسفة عند ديكارت يدخل فيها علم الله وعلم الطبيعة وعلم الإنسان، لكن دعامة الفلسفة عنده إنما هي في الفكر المدرك لذاته، والذي هو في ذاته مدرك الموجود الكامل أي: الله منبع كل وجود، والضامن لكل حقيقة.
1 / 12
والفلسفة عند فيلسوفنا نظر وعمل، لكن النظر هو بمثابة الأساس الذي يقوم عليه العمل. ولقد بين ديكارت نفسه ماهية الفلسفة وموضوعها في مقدمة كتاب المبادئ، قال: "لفظ الفلسفة هذا معناه: دراسة الحكمة وليس معنى الحكمة قاصرا على الحيطة والتبصر في الأمور، بل تفيد أيضا معرفة كاملة لجميع الأشياء التي يستطيع الإنسان معرفتها إما لهداية حياته، أو للمحافظة على صحته، أو لاختراع جميع الفنون"١.
وإذن، فليست غاية العلم عند ديكارت مقتصرة على المعركة، بل إن من غاياته أن يكفل للإنسان الراحة والهناء. ولعل فكر ديكارت في هذا الموضوع أقل سموا من فكر أرسطو الذي جعل من براءة النظرة وخلوها من المنفعة طابع الفلسفة. على أننا ينبغي ألا نسرع في الحكم على ديكارت فهو نفسه يضيف إلى ما تقدم قوله: "ينبغي على البشر الذين جزؤهم الرئيسي هو الذهن أن يوجهوا أكبر قسط من عنايتهم إلى طلب الحكمة التي هي غذاؤه الصحيح ... وليس من النفوس نفس مهما بلغت من قلة النبل تظل متعلقة بأمور الحواس تعلقا كبيرا يحول دون انصرافها عنها أحيانا، مؤملة خيرا آخر أكبر، وإن كانت تجهل في الأغلب ماهية ذلك الخير ... وهذا الخير الأسمى إذا اعتبر بالنور الطبيعي دون نور الإيمان، لم يكن شيئا آخر غير معرفة الحقيقة بواسطة علتها الأولى، أعني: الحكمة"٢.
وكيف الوصول إلى تلك المعرفة ذات القيمة الكبرى؟
يرى عامة الناس، بل أغلب الفلاسفة، أن المعرفة على أربعة ضروب:
"الضرب الأول لا يحوي إلا معاني بلغت من الوضوح بذاتها أن كان تحصيلها ممكننا من غير تأمل" أو لعل ديكارت قد خطر بباله هنا المعاني
_________
١ ديكارت: "مبادئ الفلسفة"، المقدمة "طبع ليار ص٧".
٢ مبادئ الفلسفة، المقدمة "طبع ليار ص٩".
1 / 13
الرياضية، "والثاني يشمل كل ما توقفنا عليه تجربة الحس. والثالث ما تفيدنا إياه المحادثة مع غيرنا من الناس، والرابع مطالعة الكتب"١.
ويلاحظ أن ديكارت لم يضمن في إحصاء عملية الاستدلال. على أن من الصعب علينا أن نقبل ذلك التقييم الذي يضع محادثة الناس ومطالعة الكتب في مستوى واحد مع حدس المعاني الرياضية والتجربة، ولكن تلك الأضرب ليست إلا لصور الدنيا للمعرفة. فلكي تكون المعرفة كاملة ينبغي أن تكون مستنبطة من العلل الأولى. ومهمة الفيلسوف هي البحث عن تلك العلل أو المبادئ: "لقد وجد في كل زمان رجال عظماء حاولوا أن يجدوا مرتبة خامسة لبلوغ الحكمة، هي أسمى وأوثق ولا يعدلها شيء من المراتب الأربع الأخرى، وهي طلب العلل الأولى للمبادئ الحقة التي بها يكون بمقدور الإنسان أن يستنبط أسباب كل ما يستطيع أن يعرف. وأولئك الذين جدوا في هذا المطلب هم الذين سماهم الناس فلاسفة".
وما شرائط تلك المبادئ الأولى؟
ينبغي أن يتوافر في تلك المبادئ شرطان: الأول: أن تكون من الوضوح والبداهة بحيث لا يشك الذهن في حقيقتها إذا جد في النظر فيها. والثاني: أن تعتمد عليها معرفة الأشياء الأخرى، فلا تتم تلك المعرفة بدونها، في حين أن المبادئ يمكن معرفتها بدون تلك الأشياء: "ينبغي أن نستنبط من تلك المبادئ الأولى معرفة الأشياء التي تعتمد عليها بحيث لا يكون من سلسلة الاستنباطات التي تقوم بها شيء إلا وهو شديد الجلاء"٢.
وعلى ذلك يكون منهج الفلسفة هو المنهج الاستنباطي، ومعيارها الوضوح والتميز وربط المعاني.
_________
١ مبادئ الفلسفة، المقدمة "طبع ليار ص١٠".
٢ المبادئ، المقدمة ص١٥.
1 / 14
ب- والفلسفة عند ديكارت واحدة، ولكنها لسهولة التعليم تنقسم عدة أجزاء:
"الجزء الأول هو الميتافيزيقا التي تشمل مبادئ المعرفة، التي بينها تفسير أهم صفات الله، ولامادية نفوسنا، وجميع المعاني الواضحة البسيطة التي هي فينا، والثاني الفيزيقا التي ينظر فيها على العموم بعد إيجاد المبادئ الصحيحة للأشياء المادية؛ كيف نشأ الكون كله؟ ثم علي الخصوص ما طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام التي توجد عليها كالهواء والماء والنار والمغناطيس؟ وبعد ذلك نحتاج إلى أن نفحص أيضا على الخصوص عن طبيعة النبات وطبيعة الحيوان، وبالأخص عن طبيعة الإنسان لكي نستطيع بعد ذلك أن نجد العلوم الأخرى التي فيها منفعة له؛ ولذلك كانت الفلسفة كلها كشجرة جذورها الميتافيزيقا، وجذعها الفيزيقا، والفروع التي تخرج من هذا الجذع هي جميع العلوم الأخرى التي ترجع إلى ثلاثة علوم كبرى، هي: الطب والميكانيكا والأخلاق، وأقصد الأخلاق الأرفع والأكمل التي تفيد معرفة تامة بالعلوم الأخرى؛ ولذلك كانت هي أقصى مرتبة من مراتب الحكمة"١.
فلنلاحظ أن ديكارت قلب النظام المعهود في المعرفة البشرية، وجعل من الميتافيزيقا مدخلا إلى الميكانيكا وإلى الطب وإلى الأخلاق. فالميتافيزيقا عند ديكارت إنما تمدنا بالمبادئ الأولى للأشياء، ويشتق من الفيزيقا علمان عمليان، أو فنان هما: الميكانيكا والطب، وأخيرا يشتق من الفلسفة كلها علم الأخلاق الصحيح الذي هو آخر مراتب الحكمة، والذي هو عبارة عن الحياة على وفاق مع نظام العالم وإخضاع إرادتنا لنظام الأشياء.
جـ- ارتاع ديكارت لما شاهد من عقم الفلسفة المدرسية وبعدها عن الحياة العامة، وأيقن أن الفلسفة يجب أن يكون لها غرض عملي، يجب أن يفيد منها
_________
١ المبادئ، المقدمة "طبع ليار ص٢٠، ٢١".
1 / 15
الإنسان في إصلاح معاشه. وقد تبدو لأول وهلة على فلسفة ديكارت صبغة نظرية بحتة، لكن الحقيقة أن ديكارت لم تفارقه المشاغل العملية أبدا؛ فقد أراد أن يقيم علما طبيا مؤسسا على العقل، وكان دائم العناية بالأخلاق. كتب إلى شانو: "إن أمثل السبل لكي نعرف كيف ينبغي أن نحيا هو أن نعرف أولا من نحن؟ وما العالم الذي نعيش فيه؟ ومن هو خالق هذا الكون الذي فيه مقامنا؟ ".
ولقد أصر ديكارت في القسم السادس من كتاب "المقال في المنهج" على ذلك الاتجاه العملي الذي يجب أن توجه إليه الفلسفة، وبين هذه الأفكار وأفكار "بيكون" مشابهة عجيبة: "بدلا من تلك الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس، يمكن أن نجد فلسفة عملية نستطيع بها إذا عرفنا قوة الهواء وفعله، وفعل النجوم والسموات وجميع الأجسام الأخرى التي تحيط بنا، وكذلك الحال في جميع المهن التي يمارسها صناعنا، نستطيع أن نستعملها على ذلك النحو في جميع الاستعمالات التي اختصت بها، فنجعل بها أنفسنا سادة لها مسيطرين عليها"١.
وفضل التفلسف عند ديكارت ليس مقصورا على سمو النظر وشرف المرتبة، بل إن فيه أيضا منفعة عملية، والفلسفة ضرورية لإصلاح أخلاقنا ولهداية حياتنا، إذ ترشدنا إلى ماهية الخير الأسمى. وديكارت يميز هنا -كما فعل الرواقيون- نوعين من الخيرات: خيرات ليس أمرها بأيدينا، وخيراتهي في مقدورنا، والخيرات من النوع الأول ليست هي الخير الحق، وقد قال ديكارت: "الخير الأسمى لكل واحد عبارة عن التصميم على فعل الخير، وما يحدثه ذلك من رضى في النفس، ولا أرى غيره خيرا يعدله في جلال قدرة، ويكون بمقدور كل واحد، فإن خيرات البدن والحظ واليسار ليست على الإطلاق في مقدورنا"، ولا
_________
١ ديكارت، "المقال في المنهج" القسم السادس.
1 / 16
يرى ديكارت فرقا بين الخير الأسمى وبين معرفة الحق. قال في المقال: "إرادتنا لا تتجه إلى الإقبال على شيء، أو الانصراف عنه إلا بقدر ما يمثله لنا ذهننا حسنا أو قبيحا. ويلزم عند ذلك أنه يكفي أن نحكم على الأشياء حكما حسنا ليكون فعلنا حسنا" وإذن فليس هنالك حقيقة علمية وحقيقة أخلاقية. فالإرادة توجهها الأفكار، وهي تحسن حين تدبرها أفكار واضحة متميزة، وتسيء حين تتجه بأفكار غامضة مبهمة. وإذن، فالعلم والفضيلة شيء واحد، والخطأ والرذيلة أمران متماثلان. إنما قاعدة إرادتنا هو أن نريد نظام العالم" "ولا شيء هو في تمام استطاعتنا إلا أفكارنا". فإذا صح ذلك وجب أن نسعى لتغيير رغباتنا بدلا من محاولة تغيير نظام العالم. ويترتب على ذلك أن الفضيلة واحدة، وأن من كان له فضيلة فله جميع الفضائل.
ونحن نتبين في نظرات ديكارت هذه مشابهة للنظرات الأخلاقية التي عرفناها عند سقراط والرواقيين.
والواقع أن النظرة الديكارتية إلى الفلسفة إنما هي في صميمها نظرة قدماء الفلاسفة وأغلب فلاسفة القرون الوسطى، وديكارت في هذا كله ما زال يمت إلى الماضي بسبب وثيق. وكل ما هنالك من فرق عميق بين القديم والحديث إنما نجده في المنهج الفلسفي الجديد؛ ومن ثم في النتائج التي نتجت عنه. وفلسفة ديكارت قد اتخذت أيضا صورة استدلالية استنباطية، فسنرى أنه من المبدأ الأول للأشياء تستخرج الأشياء بحركة متصلة من حركات الفكر، لكن ديكارت إنما وضع نصب عينيه أن لا يستخدم إلا مبادئ هي من البداهة والوضوح، بحيث لا يستطيع العقل أن يشك في صحتها. وهذه البداهة والوضوح سيذيعان بالضرورة في سلسلة الأشياء التي تستخلص من تلك المبادئ.
1 / 17
٢- الجزء الأول من "مبادئ الفلسفة":
إن المكان الذي يخص به ديكارت الميتافيزيقا كثير الدلالة على منحى الفيلسوف. كانت الكتب المستعملة في المدارس والمعاهد تضع الميتافيزيقا بعد الفيزيقا، أعني: كانت تضعها آخر الدروس. فمثلا كتاب "الأخ أوستاش دوسان بول" Fr. Eustache de St. Paul المسمى "Summa philosophiae، quadripartita. De rebus Dialecticis، Moralibus، physreis & metaphyaieis.
ظاهر في ترتيبه أن الجزء الأول يشمل المنطق والثاني الأخلاق والثالث الفيزيقا والرابع الميتافيزيقا. فالميتافيزيقا تقع في النهاية في هذا الكتاب وكذلك شأن الفلاسفة الإسلاميين كابن سينا ... لكن ديكارت قد خالف ذلك مخالفة ظاهرة فبدأ بالميتافيزيقا. وهذا القلب للترتيب التقليدي كان بمثابة ثورة في عهد الفيلسوف، فلم تعد الفلسفة عبارة عن الارتفاع عن الأشياء المشهودة إلى غير المشهودة، ومن العالم إلى الله، باعتبار أن الميتافيزيقا مرتبة عالية لا نجد فوقها إلا العلم الأعلى أو اللاهوت، وإنما الفلسفة تفسير للعالم بواسطة المبادئ التي تكفلها لنا الميتافيزيقا، وليس من الضروري أن تنصرف الفلسفة عن اللاهوت. ولكن تلك المعرفة العالية ليست مع ذلك هي قصد الفلسفة عن اللاهوت، إنما تنزع الفلسفة إلى علم الطبيعة ومقصدها الأكبر أن تعطي لعلم الطبيعة المبادئ التي هو بحاجة إليها.
نجد إذن في الجزء الأول من المبادئ ما كان موضوع كتاب التأملات١. وديكارت يعنون هذا الجزء قصدا "مبادئ المعرفة"، على أن ترتيب الموضوعات لم يتغير إلا في نقطة واحدة؛ فدليل وجود الله من ماهيته لم يعد هنا الدليل الثالث بل الأول، باعتباره أقرب الأدلة إلى الحدس. والدليلان الآخران لا يأتيان
_________
١ راجع ترجمتنا العربية للتأملات، الطبعة الثانية، القاهرة ١٩٥٦.
1 / 18
إلا بعد ذلك: دليل وجود الله من فكرته في ذهننا، ودليل وجود الله من وجود ذهننا مع فكرة كهذه "المواد ١٤، ١٥، ١٦ الدليل الأول، والمواد ١٧، ١٨، ١٩ الدليل الثاني، والمواد ٢٠، ٢١، الدليل الثالث".
أما التشبيه المأخوذ من فكرة آلة صناعية، وهي الفكرة التي تحتاج إلى علة تفسرها فلم يكن موجودا إلا في الردود على الاعتراضات لا في التأملات، وأدخله ديكارت في المبادئ "مادة ١٧"، وفي بقية ذلك اتبع ديكارت في كتاب المبادئ الترتيب الذي اتبعه في كتاب التأملات. وإن بين الكتابين تجاوبا، وعلى الخصوص بين الخاتمة؛ ففي الناحيتين تعالج مسألة الخطأ لا على العموم "فإن نظرية الخطأ في مكانها خلال المناقشة" بل الأخطاء الحقيقية التي نقع فيها أثناء البحث عن الحقيقة، مع إحصائها في البداية وفي النهاية ذكر عللها وعواقبها، وهي إفساد الفلسفة، وآية ذلك التعاليم المدرسية. ومع ذلك، فديكارت يبين هنا بأوضح مما قد بينه في التأملات نصيب الكسب وحرية الاختيار، يفسر الخطأ بضعف الإرادة التي تتراخى، والشك الذي هو كتحرر الذهن هو فعل من أفعال النشاط تمسك به الإرادة زمام نفسها "المواد: ٣١-٤٤".
ويصر فيلسوفنا أكثر مما فعل على فكرة "اللامتناهي" في حين أنه في التأملات قد مال إلى اعتبار الله الموجود الكامل، ومع ذلك فبين الكتابين فرق عظيم، ولو تتبعناه إلى النهاية لأدى إلى توجيه الميتافيزيقا وجهة الأخلاق أكثر من توجيهها وجهة العلم. لكن ديكارت لا يقدر وقوع أمر كهذا، وإنما تقوده فكرة اللامتناهي إلى تفسيرين، كلاهما أدخل في باب العلم: اللامتناهي في العظم
فضاء يضاف إلى فضاء بلا وقوف عند حد، واللامتناهي في الصغر، ومادة تنقسم بلا تناهٍ "المواد ٢٦، ٢٧" فمن الجهتين ينفتح مجال واسع أمام الذهن لمعرفة الكون. ولكن ديكات قد استعمل الحيطة فاستعاض عن "اللامتناهي"
1 / 19
"ذلك اللفظ الخطر" بلفظ "اللامحدود" indefini وهو في هذا لم يفعل أكثر من اتباع ذهنه في ميله الطبيعي، لقد كان يشعر بأن ذهنه متناهٍ. فكل تأكيد سواء كانت الأشياء لامتناهية أو لم تكن، يجعل الذهن متساويا للانهائية الله، وذلك ادعاء باطل. على أن ذلك الموقف المتحوط الحذر كان يلائم أخلاق ديكارت، فهو يتجنب الفصل في ذلك الموضوع الخطر، موضوع لاتناهي العالم، ولا يرد بشأنه على رجال الدين، بل إنه يتفادى كل سؤال مقحم محرج من جانبهم، وبهذا يستبعد الصعوبات العملية التي قد تنجم عن اعتبار العلل الغائبة "مادة ٢٠، ٤٠، ٤١". إن ذهننا لا يستطيع في تبجح سخيف أن يدعي المقدرة على النفاذ إلى مقاصد الله، وهو يستبعد أيضا كل صعوبة لاهوتية تنتج من سبق التدبير الإلهي، ذلك السابق المتناهي، فيما يظهر، مع الحرية الإنسانية. ولقد نبهه جاسندي إلى ذلك الأمر، ولقد عاد ديكارت إليه في كتاب المبادئ وإن كان قد تعرض لبيان وجهة نظره فيه من قبل.
وربما جاز لنا أيضا أن نعزو إلى حيطة ديكارت منحه التعاليم المدرسية قسطا كبيرا من العناية في الجزء الأول من المبادئ. فهو يعالج مشكلة "الليات" ويعيد الكلام في "التقسيمات الحقيقية والصورية والعرضية"١ التي كان قد تعرض لها من قبل في نهاية رده على كاتيروس٢. وكان ديكارت قد أراد أن يبسط فلسفة تعطي الجواب الشافي عن كل مسألة، من أجل ذلك لا نراه يرفض المسائل التي كانت لها منزلة الشرف عند المدرسيين، بل يعالجها على طريقة ما، مبينا أن فلسفته تستطيع أيضا أن تحملها، إذ إن فلسفة جديدة لا تحل محل الفلسفة التي تريد تقويضها إلا إذا استخدمت أنقاضها كمولد وأدوات لمبانيها الخاصة.
_________
١ المبادئ، مواد ٥١ إلى ٦٥.
٢ مؤلفات ديكارت، طبع آدم وتانري م ٨، ص٢٤-٣٢.
1 / 20
لم يكن تاريخ الفلسفة في القرن السابع عشر علما وكانت فكرة الناس عن مذاهب القدماء من أبسط الفكرات، إلا أنها صحيحة مضبوطة. ويقسم ديكارت قدماء الفلاسفة شيعتين: الذين يشكون وليسوا بأقل الناس حكمة، والذين يدعون من غير حق أنهم على يقين؛ وعلى هذا النحو يقسم "بسكال" الناس إلى شكاك وقطعيين١.
لم يقتصر ديكارت على أن جعل من الطائفة الأولى الأكاديميين، بل يجعل منهم أيضا أسلاف الأكاديميين حتى أفلاطون وسقراط نفسه. وهو يمتدحهم؛ لأنهم أقروا بسذاجة أنهم ما عرفوا حقا، بل شبيها بالحق، ولا ننسى النصيب الذي جعله ديكارت لهذا المذهب في فلسفته، إذ هو يفتتحها بالشك. وديكارت يؤيد أولا قضية الشك في ظاهر الأمر، ولكنه سرعان ما يرجع ويفارقهم فرقة نهائية لكن الفلاسفة الآخرين أقل صراحة من الشكاك في نظر ديكارت. هم يعلنون أنهم مالكون للحق، ويرون حقا مبادئ ليست كذلك ولعل ديكارت يقصد هنا أرسطو مع أنصاره المحدثين وديمقريطس. وديكارت منصف لتلك الفلسفة الثانية، فإن المبادئ التي يتخذها هو كالامتداد والشكل والحركة توجد من قبل عند ديمقريطس وعند أرسطو نفسه، ولكنها مخلوطة بفروض أخرى تفسد حقيقتها، ويستخلصها ديكارت من تلك اللوثة المنكودة ويجلي ما لتلك المبادئ من بداهة.
وعلى هذا النحو يستعمل فيلسوفنا من المذاهب القديمة القسم القطعي والقسم الارتيابي، ويدخلهما في مذهبه فيعطيهما بطابع جديد. ذلك أننا نجد ديكارت يأخذ أسباب الشك فيبررها هذه المرة ويحملها إلى القمة، ولكن ينتهي الأمر بأن تتعارض تلك الأسباب من نفسها. ومن جهة أخرى نجد أسباب القسمين تكتسب قوة لم تكن لها قط من قبل. من أجل هذا، تجيب فلسفة ديكات عن التعريف
_________
١ "حديث بسكال مع مسيو دوساسي".
1 / 21
الذي كان أطلقه عليها أولا، والذي وضح شرطين كافيين: الموضوع الكامل وبداهة المبادئ ثم إمكان استخلاص جميع المعلومات التي توجد في الطبيعة، وبعبارة أخرى: هي مزج موفق بين الفيزيقا والرياضة.
وههنا نجد الإصلاح الكبير بل الثورة التي قام بها فيلسوفنا؛ فهو لم يكف عن التصريح بذلك في كتاب المبادئ في خاتمة الأجزاء الأربعة، وفي كل لحظة في صلب الكتاب. وهنالك شخص على الأقل قد فهم ذلك، وبين بوضوح مدى ذلك العمل وهو الأب "بيكو"١، وهو يذكر بحق أن الفيزيقا كانت إلى عهده هي علم الطبيعة كله، وأن الرياضة لم تكن إلا جزءًا منها بين أجزاء أخرى كبيرة، ولكن ديكارت قد قلب ذلك النظام، فالرياضة أصبحت على يديه كل شيء ولن تكون الفيزيقا إلا جزءًا.
والموضوعات التي تدرسها الرياضة تشمل عددا لامتناهيا من الممكنات. والعالم الحقيقي الواقع إنما هو أحد هذه الممكنات وهو خاضع لنفس القواعد ولنفس القوانين التي تخضع لها جميع العوالم الأخرى. وإذن فلكي نفهم العالم الواقع جيدا ينبغي أولا أن نعرف قوانينه، وهكذا تستعاد حقوق الرياضة وامتيازاتها، وبفضل الرياضة تستطيع الفيزيقا -إذ ترضى بأن تصبح تابعة لها- أن تدعي لنفسها شرف العلم الصحيح. وقبل ذلك قال غاليليو بأن الرياضة تعطينا المفتاح، أو هو مكتوب بحروف جفرية والرياضة تعطينا الجفرة؛ ولكن أهي الجفرة الصحيحة الحقيقية الواقعية؟ ما علينا بعد هذا إذا كنا بها نستطيع أن نترجم عن الأشياء أو أن نفسرها. أجل، إن الآثار التي نشاهدها في هذا العالم يمكن أن تتحقق بوسائل غير ما نظن، ولكن هذه معقولة لنا، وتلائم حاجاتنا. وإذن فهي لنا كالوسائل الصحيحة، وتحل عندنا محل الوسائل الحقيقية
_________
١ ديكارت "رسالة الانفعالات" المقدمة.
1 / 22
التي لا نعرفها. بل إذا استطعنا يوما أن نعرف الوسائل الحقيقية لو صح أنها موجودة وليست خرافة، فلسنا نكسب من ذلك شيئا لا للنظر -ما دمنا قد كسبنا بدونها من قبل معرفة للأشياء صحيحة واضحة متميزة- ولا للعمل ما دامت تلك المعرفة تمكننا من أن نؤثر على الطبيعة١. فالواقع هو كله عندنا في الفكرة الواضحة المتميزة، وهي ماهية الحقيقة وجوهرها. والكلمة الأخيرة في تلك الفيزيقا -كما كان الحال في الميتافيزيقا عند ديكارت- هي "المثالية الجوانية". وفيلسوفنا يريد اليقين المطلق التام، فهو يستدل تبعا لذلك، وهو أخيرا يلتجئ إلى الموجود الكامل كما لو كانت قضيته خاسرة، قال: "إن الشك في عقلنا، أو في فكرنا بمثابة العيب في حق الله"٢.
هذا، وقد راعيت في الترجمة على العموم أن تكون مطابقة لأصلها اللاتيني الذي كتبه ديكارت، وإن كنت قد رجحت في بعض المواضع صياغة الترجمة الفرنسية التي راجعها الفيلسوف قبل نشرها.
ولا يفوتني ههنا أن أنوّه بطبعتين للمبادئ بالفرنسية، انتفعت بهما في تعليقاتي على الكتاب: الأولى طبعة "لوي ليار" والثانية طبعة "دور إندان".
القاهرة إبريل ١٩٥٩
عثمان أمين
_________
١ "مؤلفات ديكارت" طبع آدم وتانري م ٣، ص٣٢٧.
٢ "مؤلفات ديكارت" م ٣ ص٩٩، وم ٩ "القسم الثاني" ص١٢٣، مادة ٧، ٢٢.
1 / 23
إهداء المؤلف
مدخل
...
إهداء المؤلف:
إهداء إلى حضرة صاحبة الشوكة ١ الأميرة إليزابث كبرى بنات فردريك، ملك بوهيميا، وكونت بالاتينا والأمير الناخب للإمبراطورية:
سيدتي:
إن أعظم نفع ظفرت به من المؤلفات التي نشرتها من قبل هو أنني قد نلت بسببها شرف الالتفات إليّ من سموك، وحظيت حينا بالتحدث إلى جنابك، فتيسر لي بهذا أن أتبين في شخصك خصالا قيمة نادرة جعلتني أعتقد أنني أسدي خدمة للجمهور إذا أنا قدمتها إلى الخلف قدوة تحتذى. لا يليق بي أن أتملق أو أن أكتب أشياء ليس لي بها معرفة يقينية، وعلى الخصوص في الصفحات الأولى لهذا الكتاب، الذي قصدت فيه إلى أن أضع مبادئ جميع الحقائق التي يستطيع الذهن الإنساني أن يعرفها. وإن التواضع الكريم الذي نراه متألقا في جميع أفعال سموك يجعلني على ثقة من أن الكلام البسيط الصريح الذي ينطق به رجل، لا يكتب إلا ما يعتقد، سيلقي لديك من ارتياح أكثر مما تلقي خطب الثناء المنمقة بعبارات التفخيم، التي يعمد إليها من درسوا فن المديح. ولهذا لن أضع في هذه الرسالة شيئا ما لم تكن التجربة والعقل قد جعلاني مستيقنا منه. وسوف أكتب في الديباجة كما في بقية الكتاب على النحو الذي يلائم الفيلسوف.
_________
١ "صاحبة الشوكة" "Serenissime" لقب كان يمنح لبعض الشخصيات العالية، ولبعض الولادة.
1 / 25
إن هناك فرقا بين الفضائل الحقيقية والفضائل التي ليست إلا ظاهرية، كما أن هنالك فرقا كبيرا بين الفضائل التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة والفضائل التي تكون مصحوبة بالجهل أو بالخطأ، والفضائل التي أسميها ظاهرية ليست في حقيقة الأمر إلا رذائل.
ولكن من حيث إنها ليست من الشيوع بقدر الرذائل الأخرى التي هي أضداد لها، ومن حيث إنها أبعد عنها من الفضائل التي تشغل منزلة وسطى، فقد جرت عادة الناس أن يقدروها أكثر مما يقدرون من الفضائل؛ ولذلك لما كان عدد من يخافون المخاطر خوفا شديدا جدا أكثر من عدد من يخافونها قليلا جدا، غلب على الناس أن يقابلوا بين التهور والاستحياء كما يقابلون بين فضيلة ورذيلة، وزاد تقديرهم للتهور على تقديرهم للشجاعة الحقيقية. ولذلك أيضا وجدنا المبذرين يمدحون عادة أكثر مما يمدح أهل السخاء، ووجدنا الأخيار المخلصين حقا لا ينالون من الاشتهار بالبر والتقوى قدر ما ينال المخرفون والمنافقون.
وكثير من الفضائل الحقيقية لا تصدر عن معرفة حقيقية، بل إن منها ما يصدر أيضا عن نقص أو خطأ، فغالبا ما تكون البساطة علة لرقة القلب، والخوف علة للتقوى، واليأس علة للشجاعة. والفضائل المصحوبة بنقص يختلف بعضها عن بعض ويسميها الناس أيضا بأسماء مختلفة. أما الفضائل الخالصة الكاملة التي لا تصدر إلا عن معرفة الخير، فهي كلها من طبيعة واحدة، ويمكن أن يشتمل عليها اسم الحكمة؛ لأن كل من صدقت عزيمته وثبتت إرادته على أن يستعمل عقله دوما أحسن ما وسعه من استعمال، وان يتوخى في جميع أفعاله ما يراه أحسن الأشياء، وهو حكيم حقا بقدر ما تهيئه له طبيعته. وبهذا وحده يكون عادلا ومعتدلا، ويكون مالكا لكل الفضائل الأخرى، وتكون كلها مجتمعة فيه بقسطاس مستقيم، فلا تطغى إحداها على الأخرى. وهذا هو السبب في أن هذه
1 / 26
الفضائل مع كونها أكمل جدا من الفضائل التي تلمع وتبرز بسبب امتزاجها ببعض النقص، غير أنه لما كانت العامة أقل التفاتا إليها، لم تجر العادة بأن تنظم لها عقود الثناء١.
يضاف إلى هذا أن من بين الأمرين المطلوبين للحكمة على نحو ما وصفنا -أعني: إدراك الذهن لما هو خير، واستعداد الإرادة لأن تتبعه على الدوام- أن هنالك أمرا هو مناط الإرادة وحده يمكن أن يملكه الناس جميعا على السواء؛ نظرا إلى أن قرائح بعض الناس أقل جودة من قرائح غيرهم٢. ولكن مع أن من لم يرزقوا جودة القريحة يستطيعون أن يبلغوا من الحكمة ما تؤهلهم له
_________
١ في هذه الفقرة الموجزة فرّق ديكارت بين الفضائل الظاهرية والفضائل الحقيقية. وفي الفضائل الحقيقية ميز بين تلك التي تصدر عن معرفة الحقيقة معرفة صحيحة وتلك التي تكون مصحوبة بجهل أو خطأ، والفضائل الظاهرية هي رذائل يظنها العوام فضائل كالتهور والتبذير. ومن الفضائل الحقيقية ما ينشأ أحيانا من عيب أو خطأ؛ فالبساطة يمكن أن تكون علة لرقة القلب، واليأس علة للشجاعة. أما الفضائل الكاملة فمصدرها معرفة الخير، ويرى ديكارت أن الخير لا يفترق عن الحق؛ فإنه "لما كانت إرادتنا لا تتجه إلى الإقدام على شيء أو تجنب شيء إلا حسبما يقدمه الذهن لنا على أنه حسن أو سيئ، فيكفي أن نحكم حكم حسنا لكي نعمل عملا حسنا". فلا فرق عند ديكارت بين حقيقة علمية وحقيقة أخلاقية؛ لأن الإرادة تتوجه بالأفكار، وهي تعمل حسنا حين تسترشد بأفكار واضحة متميزة، وتعمل سيئا حين تترك زمامها لأفكارها غامضة مبهمة. وإذن فالعلم والفضيلة شيء واحد، وكذلك الخطأ والرذيلة لا يفترقان، ودستور إرادتنا هو أن نريد أن نظلم العالم: "فليس هنالك أمر هو كله في مقدورنا إلا خطرات نفوسنا". وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نسعى إلى تغيير رغباتنا بدلا من أن نفكر في تغيير نظام العالم. وينتج من ذلك أن الفضيلة واحدة لا تتجزأ، فمن ملك فضيلة واحدة فقد ملك الفضائل جميعا، ونتبين في هذا العرض الموجز للأخلاق الديكارتية أثر المذاهب الأخلاقية عند سقراط والرواقيين. "انظر كتابنا "الفلسفة الرواقية"، الطبعة الثانية، القاهرة ١٩٥٩، وأيضا: كتابنا "ديكارت" الطبعة الرابعة، القاهرة ١٩٥٧".
٢ لكل إنسان ذهن، أي: ملكة يتصور بها الأفكار الواضحة المتميزة، لكن طاقة هذه الملكة ليست بدرجة واحدة عند الناس جميعا. غير أن هذا لا يعني أن بين الناس اختلافا في الماهية؛ لأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس.
1 / 27
طبائعهم، وأن ينالوا رضى الله بفضائلهم، ما داموا مستمسكين بعرا العزيمة الصادقة مصممين على أن يعملوا كل ما يرونه خيرا، وأن لا يدخروا جهدا في تعلم الواجبات التي يجهلونها. بيد أن من يقصدون إلى فعل الخير بعزم صادق، ويبذلون في تثقيف أنفسهم عناية خاصة، ويملكون أيضا قريحة نفاذة، لا جرم يصلون إلى مرتبة من الحكمة أرفع من مرتبة غيرهم. وإني لأرى أن هذه الأمور الثلاثة قد اجتمعت في سموك بغاية الكمال، فعنايتك بتثقيف نفسك تتجلى في أنه لا شيء من ملهيات البلاط ولا الأسلوب المألوف في تربية الأميرات، ذلك الأسلوب الذي يصرفهن عادة عن الدرس والتحصيل، قد استطاع أن يحول بينك وبين أن تدرسي بمزيد من العناية أحسن ما في العلوم، ونفاذ قريحتك الذي لا نظير له يتبين من أنك نفذت إلى أسرار العلوم وأحطت بها إحاطة دقيقة في زمن وجيز جدا. ولكن عندي دليل يخصني أنا، وهو أنني لم ألق قط شخصا قد استطاع أن يفهم، بمثل ما بلغت من إحاطة وإتقان، كل ما تشتمل عليه مؤلفاتي؛ فإن هنالك كثيرين، حتى من بين ذوي الأذهان الفذة والعلم الغزير، يجدونها غامضة جدا. وقد لاحظت عند جمهرة المتبحرين في الرياضيات أنهم غير مستعدين إطلاقا لهم مباحث الميتافيزيقا، ولاحظت من جهة أخرى أن من يستسهلون هذه لا قدرة لهم على أن يفهموا تلك؛ ولهذا أستطيع أن أقول محقا: إنني لم ألق قط إلا ذهن سموك وحده الذي يستسهل هذه وتلك على السواء، ولهذا يحق لي أن أصفه بأنه ذهن لا نظير له. ولكن الشيء الذي يزيد من إعجابي هو أن هذه الإحاطة بجميع العلوم على هذا النحو من التنوع والكمال، لم أجدها عند عالم من الشيوخ أنفق سنوات عديدة في الدرس والتحصيل، بل عند أميرة ما زالت شابة محياها أقرب إلى أن يمثل محيا إحدى
1 / 28
ربات الجمال١ اللواتي يتحدث عنهن الشعراء، من أن يمثل محيا إحدى ربات الشعر٢ أو محيا العالمة "مينرفا"٣.
وختاما، ألاحظ في سموك كل ما هو مطلوب من جانب الذهن للحكمة الكاملة الفائقة، وليس هذا فحسب، بل كل ما يمكن أن يكون مطلوبا من جانب الإرادة أو الأخلاق، وفيها نرى علو الهمة والرقة، ملتئمتين مع الجلالة التئاما جعل صروف الدهر -مع أنها وجهت إليك ضرباتها المتواليات، ومع أنها بدت وكأنها قد بذلت كل ما في وسعها لتحويلك عن طبعك الرضي- لم تستطع قط أن توغر صدرك أو تكسر قلبك. وقد تضطرني هذه الحكمة الكاملة إلى إكبارك إكبارا يجعلني لا أقتصر على الاعتقاد أنك صاحبة الفضل في هذا الكتاب، إذ يبحث في الفلسفة التي هي دراسة الحكمة، بل يجعلني أشعر بأن حرصي على التفلسف، أي: السعي إلى تحصيل الحكمة، ليس أشد من حرصي على أن أكون يا سيدتي، لسموك،
الخادم المتواضع جدا،
والمطيع المتواضع جدا،
ديكارت
_________
١ ربات الجمال Les Graces هن في أساطير اليونان ثلاث ربات يمثلن أفتن ما في جمال المرأة.
٢ ربات الشعر Les Muses تسع أخوات يمثلن ربات الشعر، والفنون عند اليونان.
٣ مينرفا Minerve من آلهة الرومان تمثل ربة الحكمة، وراعية للفنون والصناعات.
1 / 29