وقفات مع أحاديث تربية النبي ﷺ لصحابته
وقفات مع أحاديث تربية النبي ﷺ لصحابته
প্রকাশক
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
সংস্করণের সংখ্যা
السنة السادسة والثلاثون العدد (١١٢) ١٤٢٤هـ
জনগুলি
مُقَدّمَة وتمهيد
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من أرْسلهُ الله رَحْمَة للْعَالمين وَجعله هاديًا ومربيًا وقدوة للْمُؤْمِنين.
لقد أرسل الله نبيه مُحَمَّدًا ﷺ إِلَى هَذِه الْأمة وَأنزل عَلَيْهِ كِتَابه وَأمره أَن يَدْعُو النَّاس إِلَى عبَادَة رَبهم وتوحيده وَترك الشّرك وَعبادَة الْأَصْنَام فَاسْتَجَاب ﷺ لأمر ربه فَقَامَ وأنذر، وصدع بِمَا يُؤمر، وأنذر عشيرته الْأَقْرَبين، ودعا الْعَرَب إِلَى تَوْحِيد رب الْعَالمين، فَاسْتَجَاب لَهُ من أَرَادَ الله هدايته وَأعْرض عَنهُ وعاداه من آثر الغواية والضلال، وَلَقَد كَانَ المستجيبون قليلين مستضعفين يخَافُونَ أَن يتخطفهم النَّاس فاعتنى بهم الرَّسُول ﷺ ورباهم بِحِكْمَتِهِ، وغرس فِي قُلُوبهم العقيدة القويمة وصاغ مِنْهُم صورًا حَيَّة لِلْقُرْآنِ، ونماذج لِلْإِسْلَامِ، فَقَوِيت هَذِه الْقلَّة بعد ضعف، وَكَثُرت بعد قلَّة، ونصرها الله يَوْم نصرته، وحقق آمالها لما صبرت فَانْطَلَقت تنشر الْإِسْلَام فِي أرجاء الأَرْض، وتحطم عروش الْجَاهِلِيَّة ومعتقداتها حَتَّى أتم الله لَهُم ومكنهم فِي الأَرْض فَانْتَشرُوا فِي شَرق الأَرْض وغربها، وفتحوا أقوى الممالك على وَجه الأَرْض فِي ذَلِك الْوَقْت، وبلغوا رِسَالَة رَبهم إِلَى أرجاء المعمورة فِي فَتْرَة وجيزة.
كَانُوا رُعَاة جمال قبل نهضتهم ... وَبعدهَا ملأوا الْعَالم تمدينا
لَو كَبرت بِأَرْض الصين مئذنة ... سَمِعت فِي الغرب تهليل المصلينا
فلنتأمل فِي التربية الَّتِي صنعت هَؤُلَاءِ الْأَبْطَال. ولننظرفي مَنْهَج المربي ﷺ الَّذِي هُوَ قدوة هَؤُلَاءِ الرِّجَال فإنّ من الْوَاجِب علينا أَن نقتفي أثر الرَّسُول ﷺ ونستقي من منهجه فِي الدعْوَة والتربية فَهُوَ قدوتنا وقائدنا ﴿لقد كَانَ لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يرجوا الله وَالْيَوْم الآخر﴾ (١) وَهَذِه
_________
(١) سُورَة الْأَحْزَاب الْآيَة: (٢١) .
1 / 103
وقفات مَعَ منهجه ﷺ فِي التربية وَقد جَعلتهَا وفْق الْآتِي:
أَولا: أسس تربية النَّبِي ﷺ؛ وفيهَا ثَلَاث وقفات:
الوقفة الأولى: فِي التربية على العقيدة وَالْعِبَادَة.
الوقفة الثَّانِيَة: فِي التربية الأخلاقية.
الوقفة الثَّالِثَة: التربية بالقدوة.
ثَانِيًا: أساليب تَرْبِيَته ﷺ؛ وفيهَا ثَلَاث وقفات:
الوقفة الرَّابِعَة: التربية بالثواب وَالْعِقَاب.
الوقفة الْخَامِسَة: التربية بِالْقُرْآنِ.
الوقفة السَّادِسَة: التربية المتوازنة.
وَقد تمّ جمع الْأَحَادِيث وترتيبها حسب الْمُنَاسب فِي نَظَرِي وعلقت على مَا يحْتَاج إِلَى تَعْلِيق وأنقل من أَقْوَال أهل الْعلم من شرَّاح الحَدِيث وَغَيرهم مَا أرَاهُ مناسبا وَمَا كَانَ من الْأَحَادِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا فأكتفي بتخريجه وَمَا كَانَ من غَيرهمَا فأدرس إِسْنَاده وَأثبت مَا توصلت إِلَيْهِ من دَرَجَته بعد تَخْرِيجه.
هَذَا وأسأل الله أَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل خَالِصا لوجهه وَأَن ينفع بِهِ وَهُوَ الْمُوفق سُبْحَانَهُ.
1 / 104
أسس تربية النَّبِي ﷺ؛ وفيهَا ثَلَاث وقفات
الوقفة الأولى: فِي التربية على العقيدة وَالْعِبَادَة
...
أَولا: أسس تربية النَّبِي ﷺ
الوقفة الأولى: التربية على العقيدة وَالْعِبَادَة
لَا شكّ أَن العقيدة الراسخة هِيَ أساس التربية وَلذَلِك فقد مكث النَّبِي ﷺ فِي مَكَّة ثَلَاثَة عشر عَاما يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيد ويربي أَصْحَابه على العقيدة ويغرسها فِي نُفُوسهم فَكَانَ ﷺ طيلة هَذِه الْمدَّة يبْذل غَايَة جهده لتخليص النُّفُوس من شوائب الشّرك ويربي نفوس الْمُؤمنِينَ على صدق التَّوَجُّه لله إِرَادَة وقصدًا وعبودية خَالِصَة، ونجد آيَات الْقُرْآن فِي هَذِه الفترة تركز على أُمُور العقيدة من الْإِيمَان بِاللَّه وَبَيَان صِفَاته وأسمائه وَالْإِيمَان برسله وَكتبه وَمَلَائِكَته والبعث والنشور وَغَيرهَا.
وَكَانَ ﷺ أول مَا يَدْعُو النَّاس إِلَى كلمة التَّوْحِيد لاإله إِلَّا الله وَفِي صَحِيح مُسلم أَنه ﷺ قَالَ لِعَمِّهِ: «يَا عَم قل لَا إِلَه إِلَّا الله كلمة أشهد لَك بهَا عِنْد الله» (١) . وعندما جَاءَهُ وَفد عبد الْقَيْس قَالَ لَهُم آمركُم بِأَرْبَع آمركُم بِالْإِيمَان بِاللَّه ثمَّ فَسرهَا لَهُم فَقَالَ: «شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله» (٢) . ونجده ﷺ عِنْدَمَا يبْعَث أحدا للدعوة إِلَى الله يَأْمُرهُ أَن يبْدَأ بِالتَّوْحِيدِ فِي دَعوته فعندما أرسل ﷺ معَاذًا إِلَى الْيمن قَالَ: «فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم إِلَيْهِ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله» وَفِي بعض الرِّوَايَات «إِلَى أَن يوحدوا الله» (٣)
قَالَ الشَّيْخ العلاَّمة سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب ﵀: وَفِيه دَلِيل على أَن التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ إخلاص الْعِبَادَة لله وَحده لَا شريك لَهُ
_________
(١) مُخْتَصر صَحِيح مُسلم لِلْمُنْذِرِيِّ ص (٨) .
(٢) مُتَّفق عَلَيْهِ انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان فِيمَا اتّفق عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ (١ / ٤) .
(٣) مُتَّفق عَلَيْهِ انْظُر اللُّؤْلُؤ والمرجان (١/٥) .
1 / 105
وَترك عبَادَة مَا سواهُ هُوَ أول وَاجِب، فَلهَذَا كَانَ أول مَا دعت إِلَيْهِ الرُّسُل ﵈ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول إِلَّا نوحي إِلَيْهِ أَنه لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدون﴾ (١) وَقَالَ أَيْضا: وَإِذا أَرَادَ الدعْوَة إِلَى ذَلِك فليبدأ بالدعوة إِلَى التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ معنى شَهَادَة أَن لَا إِلَه الله إِذْ لَا تصح الْأَعْمَال إِلَّا بِهِ فَهُوَ أَصْلهَا الَّذِي تبنى عَلَيْهِ وَمَتى لم يُوجد لم ينفع الْعَمَل بل هُوَ حابط إِذْ لَا تصح الْأَعْمَال مَعَ الشّرك. (٢) كَذَلِك نجد النَّبِي ﷺ عِنْدَمَا أرسل عليا ﵁ لفتح خَيْبَر وَأَعْطَاهُ الرَّايَة أمره أَن يَدعُوهُم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ويقاتلهم عَلَيْهَا. (٣) قَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب ﵀ تَعْلِيقا على هَذَا الحَدِيث: وَفِيه أَن الدعْوَة إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله المُرَاد بهَا الدعْوَة إِلَى الْإِخْلَاص بهَا وَترك الشّرك وَإِلَّا فاليهود يَقُولُونَهَا وَلم يفرق النَّبِي (فِي الدعْوَة إِلَيْهَا بَينهم وَبَين من لَا يَقُولهَا من مُشْركي الْعَرَب فَعلم أَن المُرَاد من هَذِه الْكَلِمَة هُوَ اللَّفْظ بهَا واعتقاد مَعْنَاهَا وَالْعَمَل بِهِ (٤)، فَمن هُنَا نرى كَيفَ ركز ﷺ على العقيدة وَالْإِخْلَاص لله وأنهما الركيزة الَّتِي يبْدَأ بهَا فِي الدعْوَة والتربية، وَأَيْضًا فَفِي مبدأ تربية الْمُسلم لوَلَده يجب أَن يغْرس فِي نَفسه التَّوْحِيد والعقيدة الصَّحِيحَة.
وَمن محَاسِن مَا رَأَيْته عِنْد بعض النَّاس أَنهم يعودون الطِّفْل أول مَا ينْطق على كلمة التَّوْحِيد لَا إِلَه إِلَّا الله وَقد رُوي فِي ذَلِك حديثٌ مَرْفُوع «افتحوا على صِبْيَانكُمْ بِلَا إِلَه إِلَّا الله» رَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ فِي شعب الْإِيمَان (٥) لكنه لَا
_________
(١) سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢٥) .
(٢) تيسير الْعَزِيز الحميد شرح كتاب التَّوْحِيد ص ٩٧.
(٣) أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم من حَدِيث سهل بن سعد انْظُر البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي (٧/٤٧٦)
(٤) تيسير الْعَزِيز الحميد ص ١٠٩.
(٥) انْظُر كتاب تَنْزِيه الشَّرِيعَة لِابْنِ عراق الْكِنَانِي (٢ / ٣٦٤)
1 / 106
يثبت. لَكِن على الداعية والمربي أَن يهتم أَولا بالعقيدة ويركز عَلَيْهَا لِأَنَّهَا الركيزة لما بعْدهَا وَلِأَن قُوَّة الْإِيمَان بِاللَّه تَسْتَلْزِم الانقياد لشرعه وتثمر الاستسلام لمنهجه، ونستفيد من الْمنْهَج النَّبَوِيّ أَن من الأوليات فِي تربية الناشئة غرس التَّوْحِيد الْخَالِص فِي قُلُوبهم وَأَن يربوا على مراقبة الله ﷿ والشعور بِقُرْبِهِ وَحفظه لأوليائه وَالْإِيمَان بِقَدرِهِ ونلمس هَذَا وَاضحا فِي تَوْجِيه كريم وتربية صَادِقَة من الْمُصْطَفى ﷺ لِابْنِ عَمه الْغُلَام عبد الله بن عَبَّاس. فقد أخرج أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن عَبَّاس ﵁ قَالَ: كنت خلف النَّبِي ﷺ فَقَالَ: «يَا غُلَام إِنِّي أعلمك كَلِمَات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تَجدهُ تجاهك، إِذا سَأَلت فاسأل الله، وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه، وَاعْلَم أَن الْأمة لَو اجْتمعت على أَن ينفعوك بِشَيْء لم ينفعوك إِلَّا بِشَيْء قد كتبه الله لَك، وَلَو اجْتَمعُوا على أَن يضروك بِشَيْء لم يضروك إِلَّا بِشَيْء قد كتبه الله عَلَيْك، رفعت الأقلام وجفت الصُّحُف» (١) وَفِي رِوَايَة أَحْمد «تعرف على الله فِي الرخَاء يعرفك فِي الشدَّة، وَاعْلَم أَن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا وَأَن النَّصْر مَعَ الصَّبْر وَأَن الْفرج مَعَ الكرب وَأَن مَعَ الْعسر يسرا» فَهَذِهِ توجيهات عَظِيمَة ومبادئ قويمة يغرسها النَّبِي ﷺ فِي نفس هَذَا الْغُلَام النَّاشِئ تبدأ هَذِه الْكَلِمَات بالتربية على المراقبة لله وَحفظ أوامره ونواهيه وَذَلِكَ بِاتِّبَاع الْأَوَامِر وَأَدَاء الْفَرَائِض والمحافظة عَلَيْهَا وَاجْتنَاب النواهي والبعد عَنْهَا وَبِذَلِك يحفظه الله وَيكون مَعَه بالتسديد وَالْحِفْظ والعون ثمَّ التَّوْجِيه إِلَى قُوَّة الارتباط بِاللَّه واللجوء إِلَيْهِ والخضوع لَهُ والتذلل لَهُ بسؤاله وَحده والاستعانة بِهِ وَحده. قَالَ ابْن رَجَب ﵀ فِي معنى الحَدِيث: «إِن من حفظ حُدُود الله
_________
(١) أخرجه التِّرْمِذِيّ (٤/٦٦٧٩) وَقَالَ: حسن صَحِيح وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده (١/٢٩٣، ٣٠٧) والْحَدِيث إِسْنَاده حسن وحسّنه ابْن رَجَب فِي جَامع الْعُلُوم وَالْحكم ص٤٦٢.
1 / 107
وراعى حُقُوقه، وجد الله مَعَه فِي جَمِيع الْأَحْوَال يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه وَيُؤَيِّدهُ ويسدده فَإِنَّهُ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت وَهُوَ تَعَالَى ﴿مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون﴾ (١) . قَالَ قَتَادَة: وَمن يتق الله يكن مَعَه وَمن يكن الله مَعَه فمعه الفئة الَّتِي لاتغلب والحارس الَّذِي لَا ينَام وَالْهَادِي الَّذِي لَا يضل ... وَهَذِه الْمَعِيَّة الْخَاصَّة بالمتقين غير الْمَعِيَّة الْعَامَّة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم﴾ (٢) فان الْمَعِيَّة الْخَاصَّة تَقْتَضِي النَّصْر والتأييد والإعانة» (٣) .
وَانْظُر إِلَى عناية النَّبِي ﷺ بِالتَّوْحِيدِ وتربية الناشئة عَلَيْهِ وترسيخه فِي النُّفُوس بقوله ﷺ «إِذا سَأَلت فاسأل الله» فَإِن هَذَا التَّوْجِيه يُربي النَّفس على الِاسْتِغْنَاء بالخالق عَن الْخلق وعَلى الْقرب من الله والتوجه إِلَيْهِ فِي كل الْأَحْوَال وَالْإِيمَان بقدرته وغناه سُبْحَانَهُ.
قَالَ ابْن رَجَب ﵀: قَوْله ﷺ: «إِذا سَأَلت فاسأل الله» أَمر بإفراد الله تَعَالَى بالسؤال وَنهى عَن سُؤال غَيره من الْخلق، وَقد أَمر ﷾ بسؤاله فَقَالَ: ﴿واسألوا الله من فَضله﴾ (٤) وَفِي التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود ﵁ مَرْفُوعا: «من لَا يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ» (٥) وَفِيه أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة ﵁: «اسألوا الله من فَضله فَإِن الله يحب أَن يسْأَل» (٦)
_________
(١) سُورَة النَّحْل (١٢٨) .
(٢) سُورَة الْحَدِيد (٤) .
(٣) انْظُر كتاب ابْن رَجَب نور الاقتباس فِي مشكاة وَصِيَّة النَّبِي ﷺ لِابْنِ عَبَّاس ص: (٦٧، ٦٦) .
(٤) سُورَة النِّسَاء: آيَة/٣١.
(٥) سنَن التِّرْمِذِيّ رقم (٣٣٧٣) وَرَوَاهُ أَحْمد (٢/٤٤٢) وَصَححهُ الْحَاكِم (١/٤٩١) لَكِن فِي سَنَده الخوزي وَهُوَ لين الحَدِيث.
(٦) التِّرْمِذِيّ (٣٥٧١) وَفِي إِسْنَاده حَمَّاد بن وَاقد الصفار وَهُوَ ضَعِيف.
1 / 108
وَفِي حَدِيث أخر: «ليسأل أحدكُم ربَه حَاجته كلهَا حَتَّى يسْأَله شسع نَعله إِذا انْقَطع» (١) .
وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَحَادِيث كَثِيرَة وَفِي النَّهْي عَن سُؤال الْخلق أَحَادِيث كَثِيرَة صَحِيحَة وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود وَابْن عمر ﵄ مَرْفُوعا: «لَا يزَال العَبْد يسْأَل وَهُوَ غَنِي حَتَّى يخْلق وَجهه فَمَا يكون لَهُ عِنْد الله وَجه» (٢) وَقد بَايع النَّبِي ﷺ جمَاعَة من الصَّحَابَة على أَن لَا يسْأَلُوا النَّاس شَيْئا، مِنْهُم الصّديق ﵁ وَأَبُو ذَر وثوبان، وَكَانَ أحدهم يسْقط سَوْطه وخطام نَاقَته فَلَا يسْأَل أحدا أَن يناوله إِيَّاه ﵃. وَاعْلَم أَن سُؤال الله تَعَالَى دون خلقه هُوَ الْمُتَعَيّن عقلا وَشرعا وَذَلِكَ من وُجُوه مُتعَدِّدَة مِنْهَا أَن السُّؤَال فِيهِ بذل لماء الْوَجْه وذل للسَّائِل وَذَلِكَ لَا يصلح إِلَّا لله وَحده فَلَا يصلح الذل إِلَّا لله بِالْعبَادَة وَالْمَسْأَلَة وَذَلِكَ من غَايَة الْمحبَّة الصادقة ... وَهَذَا الذل وَهَذِه الْمحبَّة لَا تصلح إِلَّا لله وَحده وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة الْعِبَادَة الَّتِي يخْتَص بهَا الْإِلَه الْحق. أ.؟ (٣) ثمَّ نجد فِي آخر الحَدِيث الموجه إِلَى الْغُلَام ابْن عَبَّاس ﵁ التَّوْجِيه إِلَى الْيَقِين بِالْقدرِ وَفِيه تربية على الْقُوَّة وَالصَّبْر على الضّر وَنزع الْخَوْف من الْخلق. وَالرَّسُول الْكَرِيم ﷺ أَرَادَ أَن يغْرس كل هَذَا فِي أَبنَاء هَذِه الْأمة الْقُوَّة وَالْيَقِين، الْقُوَّة الَّتِي يقتحمون بهَا الْأَهْوَال ويركبون الصعاب نصْرَة لله ولدينه، وَالْيَقِين بِأَن النَّفْع والضر بيد الله سُبْحَانَهُ وبتقديره سُبْحَانَهُ فَمَا أعظم هَذِه التربية النَّبَوِيَّة وَمَا أحوجنا إِلَيْهَا الْيَوْم؟ إِن التربية على العقيدة ركيزة مهمة، وأصل يَبْنِي عَلَيْهِ غَيره فقوة الْإِيمَان تَسْتَلْزِم الانقياد
_________
(١) سنَن التِّرْمِذِيّ رقم: (٣٦١٢) وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه (٨٦٦) .
(٢) أخرجه الْبَزَّار فِي مُسْنده وَقَالَ الهيثمي: فِيهِ مُحَمَّد بن أبي ليلى وَفِيه كَلَام مجمع الزَّوَائِد (٣/٩٦) .
(٣) انْظُر نور الاقتباس لِابْنِ رَجَب ص (٨٧) .
1 / 109
وَالتَّسْلِيم فعلى قدر إِيمَان الشَّخْص وَقُوَّة عقيدته تَأتي قُوَّة الْتِزَامه بمنهج الله. وَمن مهمات العقيدة الَّتِي يجب أَن ترسخ فِي النُّفُوس، التَّوَكُّل على لله فَهِيَ من صِفَات الْإِيمَان كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ﴾ (١) وكما فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ﴾ (٢) وَيُوجه النَّبِي ﷺ صحابته إِلَى التَّوَكُّل الصَّادِق وَيبين لَهُم أَثَره فَيَقُول: «لَو أَنكُمْ توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كَمَا يرْزق الطير تَغْدُو خماصا وَتَروح بطانا» (٣) والْحَدِيث مصداق لقَوْله تَعَالَى ﴿وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه﴾ (٤) ويُعلي الرَّسُول ﷺ شَأْن التَّوَكُّل علوا كَبِيرا عِنْدَمَا بَين أَن من أمته سبعين ألفا يدْخلُونَ الْجنَّة بِلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب وهم من بلغُوا كَمَال التَّوَكُّل فَبين أَنهم «الَّذين لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ» (٥) . فهم تركُوا الاسترقاء «وَهُوَ طلب الْقِرَاءَة لمن كَانَ مَرِيضا» والكي لكَمَال توكلهم وَلم يتشاءموا بالطير لعلمهم أَن النَّفْع والضر بيد الله فالتوكل عَلَيْهِ وَحده.
وَيضْرب رَسُول الله ﷺ الْمثل الْأَعْلَى فِي قُوَّة التَّوَكُّل بالاعتماد على الله والثقة بِهِ فَفِي معركة أحد عِنْدَمَا جمعت لَهُ قُرَيْش
_________
(١) سُورَة الْأَنْفَال / آيَة: ٢.
(٢) سُورَة إِبْرَاهِيم / آيَة:.١١
(٣) من حَدِيث عمر بن الْخطاب ﵁ أخرجه التِّرْمِذِيّ ك: الزّهْد ب التَّوَكُّل على الله ح٢٣٤٤ (٤/٥٧٣) وَقَالَ حسن. وَأخرجه أَحْمد (١/٣٠) وَابْن حبَان (الْإِحْسَان ٢/٥٠٩) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك (٤ / ٣١٨) وَإسْنَاد الحَدِيث حسن.
(٤) من سُورَة الطَّلَاق الْآيَة:٣.
(٥) رَوَاهُ البُخَارِيّ ك: الرقَاق ب. يدْخل الْجنَّة سَبْعُونَ ألفا (٤ / ١٩٩) وَمُسلم ك: الْإِيمَان ب: الدَّلِيل على دُخُول طوائف من الْمُسلمين الْجنَّة بِلَا حِسَاب (١/ ١٩٩) .
1 / 110
لتستأصله، توكل على الله فكفاه. يَقُول ابْن عَبَّاس ﵁: «حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل، قَالَهَا إِبْرَاهِيم حينما ألقِي فِي النَّار وَقَالَهَا مُحَمَّد ﷺ حينما قيل لَهُ إِن النَّاس قد جمعُوا لكم» (١) .
واقرأ معي هَذِه الْقِصَّة وفيهَا صُورَة رائعة من صور توكله وثباته واعتماده على الله ﷾: عَن جَابر ﵁ قَالَ «غزونا مَعَ رَسُول الله ﷺ غَزْوَة نجد فَلَمَّا أَدْرَكته القائلة وَهُوَ فِي وادٍ كثير العضاه فَنزل تَحت شَجَرَة واستظل بهَا وعلق سَيْفه، فَتفرق النَّاس فِي الشّجر يَسْتَظِلُّونَ، وبينما نَحن كَذَلِك إِذْ دَعَانَا رَسُول الله ﷺ فَجِئْنَا فَإِذا أَعْرَابِي قَاعد بَين يَدَيْهِ أَتَانِي وَأَنا نَائِم فاخترط سَيفي فَاسْتَيْقَظت وَهُوَ قَائِم على رَأْسِي فَقَالَ: إِن هَذَا مخترط سَيفي صَلتا قَالَ: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشامه «يَعْنِي أغمده» ثمَّ قعد فَهُوَ هَذَا وَلم يعاتبه رَسُول الله) (٢) . وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَات «فَدفع جِبْرِيل فِي صَدره فَوَقع السَّيْف من يَده فَأَخذه النَّبِي ﷺ وَقَالَ: من يمنعك أَنْت مني، قَالَ: لَا أحد. قَالَ: قُم فَاذْهَبْ لشأنك، فَلَمَّا ولى قَالَ: أَنْت خير مني» . (٣) فَانْظُر كَيفَ دعاهم الرَّسُول ﷺ ليشهدوا هَذَا الْموقف وَكَيف أَن الله مَنعه من هَذَا الرجل الَّذِي اخْتَرَطَ سَيْفه لقُوَّة توكله وثقته بربه.
وَهَكَذَا نجد فِي تربية الرَّسُول ﷺ لأَصْحَابه تربيتهم على الثِّقَة بِاللَّه والاعتماد والتوكل عَلَيْهِ وَالْيَقِين بنصره لأوليائه، فَبَيْنَمَا كَانَ الْمُسلمُونَ الْأَوَائِل تَحت طائلة عَذَاب الْمُشْركين واستضعافهم لَهُم حَيْثُ عانوا مِنْهُم الأمرّين.
_________
(١) أخرجه البُخَارِيّ ك: التَّفْسِير، سُورَة آل عمرَان (٨ / ٢٢٩)
(٢) أخرجه البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة ذَات الرّقاع (٧ / ٤٢٩)
(٣) انْظُر فتح الْبَارِي (٧ / ٤٢٧)
1 / 111
جَاءُوا لرَسُول الله ﷺ كَمَا فِي حَدِيث خباب قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّد بردة لَهُ فِي ظلّ الْكَعْبَة فقلناألا تستغفر لنا أَلا تَدْعُو لنا؟ فَقَالَ: «قد كَانَ من قبلكُمْ يُؤْخَذ الرجل فيحفرله فِي الأَرْض فَيجْعَل فِيهَا ثمَّ يُؤْتى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع على رَأسه فَيجْعَل نِصْفَيْنِ وَيُمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد مادون لَحْمه وعظمه مَا يصده ذَلِك عَن دينه، وَالله ليتمنّ الله هَذَا الْأَمر حَتَّى يسير الرَّاكِب من صنعاء إِلَى حَضرمَوْت لَا يخَاف إِلَّا الله وَالذِّئْب على غنمه وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون» (١) .
هَذِه الْكَلِمَات تربية على الْيَقِين بنصر الله والثقة بِمَا عِنْده وَرفع الهمة فِي نفوس الصَّحَابَة بِضَرْب الْمثل لَهُم بصبر الدعاة السَّابِقين لَهُم. بل علا ﷺ بهمة أَصْحَابه لتتطلع إِلَى الْجنَّة وَتحْتَسب مَا يُصِيبهَا عِنْد الله فها هُوَ ﷺ يمر بآل يَاسر وهم يُعَذبُونَ فَيَقُول: «صبرا آل يَاسر فَإِن مَوْعدكُمْ الْجنَّة» . رَوَاهُ الْحَاكِم (٢) وَطَرِيق الْجنَّة محفوف بالمكاره فَلَا بدمن الصَّبْر وَلَا بُد من تربية النُّفُوس على التَّحَمُّل وَالصَّبْر وَإِذا ارتبطت الْقُلُوب بالجزاء الأخروي صبرت وصابرت لِأَنَّهَا تستشعر أَن لَهَا ثَوابًا على ذَلِك هُوَ النَّعيم وَالْجنَّة الَّتِي لَا نصب فِيهَا وَلَا تَعب والنفوس إِذا ذاقت حلاوة الْإِيمَان هان عَلَيْهَا كل شَيْء دونه وَصَارَ زَادهَا فِي الثَّبَات على الطَّرِيق. وَلذَلِك نجد من أولويات التربية النَّبَوِيَّة تربية النُّفُوس على الْعِبَادَة الصادقة والصلة القوية بِاللَّه والارتباط بِهِ فَالصَّلَاة من أهم مَا يجب أَن يتعلمه ويعمله الْمُسلم بعد الشَّهَادَتَيْنِ وَهِي أعظم صلَة للْعَبد بربه. وَلذَلِك كَانَ الرعيل الأول لَهُم حَظّ وافر مِنْهَا فَكَانُوا يقومُونَ اللَّيْل مَعَ الرَّسُول ﷺ حَتَّى تورمت أَقْدَامهم.
_________
(١) أخرجه لبخاري فِي صَحِيحه (فتح ٧ / ١٢٦) .
(٢) الْمُسْتَدْرك (٣ / ٣٨٣) .
1 / 112
ورد عَن عَائِشَة ﵂ قَالَت: «لما نزلت ﴿يَا أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا﴾ قَامَ الرَّسُول ﷺ وَأَصْحَابه حولا حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم وَأمْسك الله خاتمتها اثْنَي عشر شهرا ثمَّ أنزل الله التَّخْفِيف فَصَارَ قيام اللَّيْل تَطَوّعا من بعد فَرِيضَة» أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه (١) وَلَقَد وَجه الْمُصْطَفى الْكَرِيم ﷺ إِلَى الْعِنَايَة بِأَمْر الصَّلَاة مُنْذُ الصغر فَهُوَ يُخَاطب الْآبَاء وَيَقُول: «مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ لسبع وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لعشر» أخرجه أَبُو دَاوُد (٢) ودلت أَحَادِيث الرَّسُول ﷺ على الْعِنَايَة والاهتمام بِالصَّلَاةِ وَأَنَّهَا أعظم الْأَركان بعد الشَّهَادَتَيْنِ. وَمَا ذَاك إِلَّا لما فِيهَا من صلَة بِاللَّه تهذب النُّفُوس وتزكي الرّوح وتُقوم السلوك وتنهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر. فعلى المربين أَن يعتنوا بِهَذَا الْجَانِب المهم وَأَن يغرسوا فِي نفوس الناشئة حب الصَّلَاة، والحرص على أَدَائِهَا وإقامتها على الْوَجْه الْأَكْمَل وَأَن يَكُونُوا لَهُم فِي ذَلِك قدوة. روى عبدا لله بن عَمْرو رضى الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله ﷺ أَنه ذكر الصَّلَاة يَوْمًا فَقَالَ: «من حَافظ عَلَيْهَا كَانَت لَهُ نورا وبرهانًا وَنَجَاة يَوْم الْقِيَامَة، وَمن لم يحافظ عَلَيْهَا لم تكن لَهُ برهَان وَلَا نور وَلَا نجاة، وَكَانَ يَوْم الْقِيَامَة مَعَ قَارون وهامان وَفرْعَوْن وأبيَّ بن خلف» أخرجه أَحْمد وَابْن حبَان (٣) وَعَن أنس بن مَالك ﵁ قَالَ: كَانَت عَامَّة وَصِيَّة رَسُول الله ﷺ حِين حَضرته الْوَفَاة وَهُوَ يُغَرْغر بِنَفسِهِ «الصَّلَاة وَمَا ملكت أَيْمَانكُم» رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَاللَّفْظ لَهُ (٤) وَعَن أبي هُرَيْرَة ﵁ عَن النَّبِي صلى الله
_________
(١) صَحِيح مُسلم (ك. صَلَاة الْمُسَافِرين ب: جَامع صَلَاة اللَّيْل ١ / ٥١٢) .
(٢) سنَن أَبى دَاوُد (ك. الصَّلَاة ب: مَتى يُؤمر الْغُلَام بِالصَّلَاةِ ح:٤٩٥/ ٤٩٦) وَإِسْنَاده حسن.
(٣) مُسْند أَحْمد (٢/١٦٩) بِإِسْنَاد جيد. وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه (موارد الظمآن ك: الصَّلَاة ب: من حَافظ على الصَّلَاة ص ٨٧) .
(٤) الْمسند للْإِمَام أَحْمد (٣/١١٥) وَسنَن ابْن ماجة ك: الْوَصَايَا ب: هَل أوصى رَسُول الله ﷺ [٢ / ٩٠٠، ٩٠١] وَهُوَ صَحِيح الْإِسْنَاد.
1 / 113
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِن أول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد يَوْم الْقِيَامَة من عمله الصَّلَاة، فَإِن صلحت فقد أَفْلح وأنجح، وَإِن فَسدتْ فقد خَابَ وخسر، فَإِن انْتقصَ من فريضته شَيْء قَالَ الرب ﷿: انْظُرُوا هَل لعبدي من تطوع فيكمل مِنْهَا مَا انْتقصَ من الْفَرِيضَة، ثمَّ يكون سَائِر أَعماله على هَذَا» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه (١) فَانْظُر إِلَى تَعْظِيم النَّبِي ﷺ أَمر الصَّلَاة وتأكيده الْمُحَافظَة عَلَيْهَا حَتَّى وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، ثمَّ بَيَانه لفضلها وأجرها وعظيم عُقُوبَة من فرط فِيهَا.
وَمن معالم التربية النَّبَوِيَّة غرس الْيَقِين بِالآخِرَة فِي النُّفُوس والتذكير بهَا وَجعلهَا هِيَ الهمّ والغاية الَّتِي يسْعَى إِلَيْهَا الْمُسلم. وَالْيَقِين بِالآخِرَة من أعظم أَسبَاب صَلَاح النُّفُوس واستقامتها وَهُوَ ركن أصيل فِي إِيمَان العَبْد الْمُسلم وصلاحه واستقامته وَلِهَذَا نجد أَن الله ﷾ جعله من أهم صِفَات الْمُؤمنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿...وبالآخرة هم يوقنون﴾ (٢) ونجد الْقُرْآن الْكَرِيم لَا تَخْلُو صفحة من صفحاته من التَّذْكِير بِالآخِرَة وَمَا فِيهَا. وَلَقَد كَانَ مَنْهَج النَّبِي ﷺ ربط النُّفُوس بِالآخِرَة وَبِمَا فِيهَا من النَّعيم الْمُقِيم وَمَا فِيهَا من الْجَزَاء وَالْعِقَاب الْأَلِيم.
وَيتبع ذَلِك تحقير الدُّنْيَا وَسُرْعَة زَوَالهَا واغترار أَهلهَا بهَا. وتجده ﷺ كثيرا مَا يُصَدّر أوامره وتوجيهاته بقوله: «من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ...» مِمَّا يدْفع للْعَمَل للآخرة وَإِرَادَة وَجه الله وثوابه وَفِي غَزْوَة الخَنْدَق عِنْدَمَا كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار يحفرون الخَنْدَق وَرَأى النَّبِي ﷺ مَا بهم من النصب والجوع قَالَ: «اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة فَاغْفِر
_________
(١) سنَن أبي دَاوُد رقم (٨٦٤) وَالتِّرْمِذِيّ رقم (٤١٣) وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَابْن ماجة رقم (١٤٢٥) والْحَدِيث كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ حسن.
(٢) سُورَة الْبَقَرَة آيَة (٥) .
1 / 114
للْأَنْصَار والمهاجرة» (١) وتجده ﷺ يحرص على تَوْجِيه أَصْحَابه إِلَى مَا يَنْفَعهُمْ فِي الْآخِرَة ويزهدهم فِي مَتَاع الدُّنْيَا. حدَّث عقبَة بن عَامر ﵁ قَالَ: خرج علينا رَسُول الله ﷺ وَنحن فِي الصُفَّة فَقَالَ: «أَيّكُم يحب أَن يَغْدُو كل يَوْم إِلَى بُطحان أَو إِلَى العقيق فَيَأْتِي مِنْهُ بناقتين كوماوين (٢) فِي غير إِثْم ولاقطيعة رحم؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله. نحب ذَلِك. قَالَ: «أَفلا يَغْدُو أحدكُم إِلَى الْمَسْجِد فَيعلم أَو يقْرَأ آيَتَيْنِ من كتاب الله (خير لَهُ من ناقتين وَثَلَاث خير لَهُ من ثَلَاث وَأَرْبع خيرله من أَربع وَمن أعدادهن من الْإِبِل» . رَوَاهُ مُسلم (٣) فَتَأمل كَيفَ فَضَّل ﷺ قِرَاءَة آيَات من كتاب الله على نَفِيس المَال عِنْدهم، وهاهو يحفز ﷺ أَصْحَابه إِلَى التزود للآخرة والزهد فِي الدُّنْيَا، وَيسْتَعْمل ﷺ للترغيب بِالآخِرَة وربط النُّفُوس بهَا أساليب مقنعة تدفع النُّفُوس للتزود والجدّ وَالْعَمَل لهَذِهِ الْحَيَاة الْبَاقِيَة. عَن عبد الله بن مَسْعُود ﵁ قَالَ: قَالَ النَّبِي ﷺ: «أَيّكُم مَال وَارثه أحب إِلَيْهِ من مَاله؟» قَالُوا: يَا رَسُول الله مَا منا أحد إِلَى مَاله أحب إِلَيْهِ. قَالَ: «فَإِن مَاله مَا قَدَّم، وَمَال وَارثه مَا أخَّر» رَوَاهُ البُخَارِيّ (٤)
والأمثلة من السّنة النَّبَوِيَّة كَثِيرَة تدل على عناية الرَّسُول ﷺ بربط النُّفُوس بالجزاء الأخروي. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَة ﵃ لما تربت نُفُوسهم على هَذَا المبدأ يجْعَلُونَ الْآخِرَة هِيَ مقصدهم وغايتهم وَمُرَاد سَعْيهمْ ويحرصون على بذل النَّفس والنفيس للفوز بهَا وَالظفر بنعيمها.
_________
(١) أخرجه البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة الخَنْدَق.٧ /٣٩٢ وَمُسلم ك: الْجِهَاد ب: غَزْوَة الْأَحْزَاب رقم١٨٠٥.
(٢) الكوماء من الْإِبِل: عَظِيمَة السنام.
(٣) صَحِيح مُسلم ك: صَلَاة الْمُسَافِرين ب: فضل قِرَاءَة الْقُرْآن رقم (٨٠٣) (١/٥٥٢) .
(٤) صَحِيح البُخَارِيّ ك: الرقَاق ب: مَا قدم من مَاله فَهُوَ لَهُ (١١ / ٢٦٠) .
1 / 115
يتَمَثَّل ذَلِك فِي الصُّور الرائعة لجهادهم وبذلهم نُفُوسهم رخيصة فِي سَبِيل الله روى البُخَارِيّ عَن أنس ﵁ قَالَ: «لما طُعِن حَرَام بن ملْحَان - وَكَانَ خَاله - يَوْم بِئْر مَعُونَة، قَالَ بِالدَّمِ هَكَذَا، فنضحه على وَجهه وَرَأسه ثمَّ قَالَ فزت وَرب الْكَعْبَة» (١) وَأخرج البُخَارِيّ أَيْضا قصَّة عُمَيْر بن الْحمام ﵁ فِي غَزْوَة أحد حينما قَالَ للنَّبِي ﷺ: «أَرَأَيْت إِن قتلت فَأَيْنَ أَنا؟ قَالَ فِي الْجنَّة. فَألْقى تمرات فِي يَده ثمَّ قَالَ: لَئِن حييت حَتَّى آكل تمراتي هَذِه إِنَّهَا لحياة طَوِيلَة ثمَّ قَاتل حَتَّى قتل» (٢) وَهَكَذَا نرى هَذِه الثَّمَرَة الْعَظِيمَة للتربية النَّبَوِيَّة بِحَيْثُ يبْذل الْمَرْء نَفسه رخيصة فِي سَبِيل الله ويبيعها لله تَعَالَى، فَمَا أعظم هَذِه التربية، وَفِي الْمُقَابل نرى كثيرا من الْأَحَادِيث عَنهُ ﷺ تزهد فِي الدُّنْيَا وَتبين حقارتها، وَفِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة ألَّفت فِيهَا مؤلفات كالمؤلفات فِي الزّهْد. اسْتمع إِلَيْهِ ﷺ وَهُوَ يضْرب مثلا للدنيا بِالنِّسْبَةِ للآخرة فَيَقُول: «وَالله مالدنيا فِي الْآخِرَة إلامثل مَا يَجْعَل أحدكُم إصبعه فِي اليم فلينظربم يرجع» رَوَاهُ مُسلم (٣) وَتَأْتِي آيَات الْقُرْآن قبل ذَلِك مؤكِّدة هَذَا الْمَعْنى يَقُول تَعَالَى ﴿اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر بَيْنكُم وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته ثمَّ يهيج فتراه مصفرًَّا ثمَّ يكون حطامًا وَفِي الْآخِرَة عذابٌ شَدِيد ومغفرةٌ من الله ورضوان وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور﴾ (٤) لَكِن من الْمَعْلُوم أَن الْإِسْلَام لَا يغْفل أَمر الْعَمَل للدنيا
_________
(١) صَحِيح البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة الرجيع فتح (٧ / ٣٨٦)
(٢) صَحِيح البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة أحد (٧ / ٣٥٤) وَأخرج قصَّته مُسلم لَكِن فِيهَا أَن ذَلِك كَانَ فِي غَزْوَة بدر..
(٣) صَحِيح مُسلم ك: الْجنَّة وَصفَة نعيمها وَأَهْلهَا ب: فنَاء الدُّنْيَا ح (٢٨٥٨) (٤/٢١٩٣
(٤) سُورَة الْحَدِيد آيَة / رقم: ٢٠.
1 / 116
والتمتع بحلالها ﴿وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا﴾ (١) وَفِي دُعَاء الْمُؤمنِينَ الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم ﴿رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة﴾ (٢) فَلَيْسَ الزّهْد فِي الدُّنْيَا بِتَرْكِهَا والانقطاع للآخرة بل أَن لَا تكون الدُّنْيَا فِي الْقلب وَإِن كَانَت فِي الْيَد يَقُول صَاحب كتاب وَقْفَة تربوية: «لم يخلق الله الدُّنْيَا ثمَّ يحرّمها على خلقه، بل ذمها عِنْدَمَا يتخذها هَذَا الْمَخْلُوق هدفًا يحيا وَيَمُوت من أَجله فتنسيه الهدف الَّذِي خلق من أَجله، وَهُوَ الْعِبَادَة أما إِذا كَانَت الدُّنْيَا مزرعة للآخرة فَمَا أجملها، وَمَا ألذّها وأسعد مَا فِيهَا. لقد كثرت عِبَارَات السّلف ﵃ عَن النَّوْع الأول من الدُّنْيَا، تِلْكَ الَّتِي تلهي صَاحبهَا عَمَّا خلق من أَجله أُولَئِكَ الَّذين أدخلوها فِي قُلُوبهم..ينبههم التَّابِعِيّ الْجَلِيل مَالك بن دِينَار بقوله: «إِن الله جعل الدُّنْيَا دَار سفر، وَالْآخِرَة دَار مقرّ فَخُذُوا لمقركم من سفركم، وأخرجوا الدُّنْيَا من قُلُوبكُمْ قبل أَن تخرج مِنْهَا أبدانكم» (٣)
إِنَّه لم يسْتَطع أحد من أُولَئِكَ العمالقة من الصَّحَابَة ﵃ وَالتَّابِعِينَ وَالصَّالِحِينَ من بعدهمْ أَن يقومُوا بِتِلْكَ الطَّاعَات، ويتبوءوا تِلْكَ الْمنَازل الْعَالِيَة، إِلَّا بعد أَن أخرجُوا تِلْكَ الدُّنْيَا الملهية من قُلُوبهم وَأَن يجعلوها بِأَيْدِيهِم» (٤) .
_________
(١) سُورَة الْقَصَص آيَة (٧٧) .
(٢) سُورَة الْبَقَرَة آيَة (٢٠١) .
(٣) صفة الصفوة لِابْنِ الْجَوْزِيّ (٣/٢٨٥) .
(٤) وَقْفَة تربوية للشَّيْخ عبد الحميد البلالي ص:١٣٧.
1 / 117
الوقفة الثَّانِيَة: فِي التربية الأخلاقية
...
الوقفة الثَّانِيَة: التربية الأخلاقية
لقد أعْطى الرَّسُول ﷺ للأخلاق منزلَة عالية تمثلت فِي توجيهاته ﷺ، وَمَا أعطَاهُ للأخلاق من أهمية، وَمَا بذله فِي سَبِيل ترسيخ الْأَخْلَاق، وغرسها فِي نفوس أَصْحَابه منهجًا رائعًا آتى ثماره وَكَانَ خير مَنْهَج فِي تَقْوِيم السلوك والدعوة لِلْخلقِ الْحسن. يتَمَثَّل ذَلِك فِي الْأُمُور الْآتِيَة:
أَولا: كَانَ ﷺ قبل أَن يُوَجه أَصْحَابه إِلَى اتّباع الْخلق الْحسن كَانَ خير قدوة لَهُم فِي ذَلِك فقد كَانَ ﵇ قمة سامقة فِي الْأَخْلَاق السامية حَتَّى شهد لَهُ بذلك الْقُرْآن الْكَرِيم قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم﴾ (١) وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم﴾ (٢) فقد أدب الله (نبيه بآداب حَسَنَة، وَجعل لَهُ برحمته هَذِه الْأَخْلَاق الْعَالِيَة ﴿فبمَا رَحْمَة من الله لنت لَهُم وَلَو كنت فظًا غليظ الْقلب لانفضوا من حولك﴾ (٣) وَكَانَ ﵇ يَسْتَقِي من الْقُرْآن أخلاقه، فَعَن عَائِشَة ﵂ أَنَّهَا سُئلت عَن خلق رَسُول الله (فَقَالَت: «كَانَ خلقه الْقُرْآن» أخرجه مُسلم (٤) وَلَقَد كَانَ (يُعَامل جَمِيع النَّاس مُعَاملَة خلقية عالية حَتَّى خَدَمُه قَالَ: أنس بن مَالك ﵁: «خدمت رَسُول الله عشر سِنِين فَمَا قَالَ لي: أفٍ قطّ، وَمَا قَالَ لشَيْء صَنعته لم صَنعته؟ وَلَا لشَيْء تركته لم تركته؟
وَكَانَ رَسُول الله أحسن النَّاس خلقا، وَلَا مسست خَزًّا وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئا كَانَ أَلين من كفِّ رَسُول الله ﷺ وَلَا شممت مسكًا
_________
(١) سُورَة الْقَلَم / آيَة: ٤.
(٢) سُورَة التَّوْبَة / أَيَّة: ١٢٨.
(٣) سُورَة آل عمرَان / آيَة: ١٥٩.
(٤) أخرجه مُسلم ك: صَلَاة الْمُسَافِرين ب: جَامع صَلَاة اللَّيْل ح٧٤٦ (١/٥١٣) .
1 / 118
قطّ وَلَا عطرًا كَانَ أطيب من عرق النَّبِي» رَوَاهُ مُسلم (١) .
وَكَانَ لهَذِهِ الْأَخْلَاق أثر عَظِيم فِي نفوس أَصْحَابه (. فقد شهدُوا لَهُ (بِحسن الْخلق واقتفوا أَثَره فِي ذَلِك، عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ (قَالَ: لم يكن رَسُول الله (فَاحِشا وَلَا متفحشًا وَكَانَ يَقُول: «إنّ من خياركم أحسنكم أَخْلَاقًا» مُتَّفق عَلَيْهِ (٢) . وَعَن أنس (قَالَ: كَانَ رَسُول الله أحسن النَّاس خلقا وَكَانَ لي أَخ فطيم يُسمى أَبَا عُمَيْر لَدَيْهِ عُصْفُور مَرِيض اسْمه النغير فَكَانَ رَسُول الله يلاطف الطِّفْل الصَّغِير وَيَقُول لَهُ: يَا أَبَا عُمَيْر مَا فعل النغير» أخرجه البُخَارِيّ (٣) وَعَن عَائِشَة ﵂ قَالَت: «ماخُيِّر رَسُول الله ﷺ بَين أَمريْن إِلَّا اخْتَار أيسرهما مالم يكن إِثْمًا فَإِن كَانَ إِثْمًا كَانَ أبعد النَّاس عَنهُ، وَمَا انتقم الرَّسُول ﷺ لنَفسِهِ فِي شَيْء قطّ إِلَّا أَن تنتهك حُرْمَة الله فينتقم، وَمَا ضرب رَسُول الله ﷺ شَيْئا قطّ بِيَدِهِ وَلَا امْرَأَة وَلَا خَادِمًا إِلَّا أَن يُجَاهد فِي سَبِيل الله تَعَالَى» مُتَّفق عَلَيْهِ (٤) .
وَعَن أنس ﵁ قَالَ: «إِن كَانَت الأَمَةُ لتأْخذ بيد رَسُول الله ﷺ فتنطلق بِهِ حَيْثُ شَاءَت» رَوَاهُ البُخَارِيّ (٥) وَمن المواقف
_________
(١) صَحِيح مُسلم ك: الْفَضَائِل ب: كَانَ رَسُول الله ﷺ أحسن النَّاس خلقا (٤/١٨٠٤) وَانْظُر (٤/١٨١٤) وَأخرجه التِّرْمِذِيّ (ك: الْبر والصلة ب: مَا جَاءَ فِي النَّبِي ٤/٣٦٨) .
(٢) البُخَارِيّ (ك: الْأَدَب ب: حسن الْخلق والسخاء ١٠/٥٢٦) وَمُسلم (ك: الْفَضَائِل ب: كَثْرَة صِيَامه ﷺ ٤/١٨١٠) .
(٣) البُخَارِيّ (ك: الْأَدَب ب: الانبساط إِلَيّ النَّاس ١٠/٥٢٦) .
(٤) البُخَارِيّ (ك: الْأَدَب ب: قَول النَّبِي ﷺ يسروا وَلَا تُعَسِّرُوا ١٠/٥٢٤، ٥٢٥) وَمُسلم (ك: الْفَضَائِل ب: مباعدته ﷺ للآثام ٤/١٨١٣) .
(٥) أخرجه البُخَارِيّ ك: الْأَدَب ب: الْكبر (١٠/٤٨٩) ح (٧٢: ٦) .
1 / 119
الَّتِي تدل على سمو أخلاقه ﷺ مارواه مُعَاوِيَة بن الحكم السّلمِيّ ﵁ قَالَ: «بَينا أَنا أُصَلِّي مَعَ رَسُول الله ﷺ إِذْ عَطَسَ رجل من الْقَوْم. فقلتُ: يَرْحَمْكَ اللهُ، فَرَمَانِي الْقَوْم بِأَبْصَارِهِمْ، فقلتُ: واثُكْلَ أُمَيَاهْ ﴿مَا شأنُكم تنْظرُون إليَّ؟ وَجعلُوا يضْربُونَ بِأَيْدِيهِم على أَفْخَاذهم، فلَمَّا رأيتُهم يُصَمِّتُونَنِي، لكِنِّي سَكَتُّ، فلمّا صلَّى رَسُول الله ﷺ، فبأبي هُوَ وأمِّي مَا رأيتُ معلِّمًا قبلَه وَلَا بعدَه أحسنَ تَعْلِيما مِنْهُ، فواللهِ ماكَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلَا شَتَمَنِي قَالَ: «إنَّ هَذِه الصّلاة لَا يَصِحُّ فِيهَا شَيْء من كَلَام النّاس، إِنَّما هِيَ للتَّسبيح والتَّكبير وَقِرَاءَة الْقُرْآن» أخرجه مُسلم (١) فَانْظُر لحسن الْخلق وَالْحكمَة والرفق فِي التَّوْجِيه من المربي الْعَظِيم ﷺ، وَعَن أنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة ﵄ قَالَ: «جَاءَ أَعْرَابِي فَدخل الْمَسْجِد ثمَّ صلى ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمدًا وَلَا ترحم مَعنا أحدا. فَقَالَ ﷺ لقد تحجرت وَاسِعًا ثمَّ لم يلبث أَن بَال فِي طَائِفَة الْمَسْجِد فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله ﷺ: مَه﴾ مَه! قَالَ: فَقَالَ رَسُول الله ﷺ: «لاتزرموه، دَعوه فَلَقَد بعثتم ميسرين وَلم تبعثوا معسرين» . قَالَ فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَال ثمَّ أَن رَسُول الله ﷺ دَعَاهُ ثمَّ قَالَ: «إِن هَذِه الْمَسَاجِد لَا تصلح لشَيْء من هَذَا الْبَوْل وَلَا القذر إِنَّمَا هِيَ لذكر الله ﷿ وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن»؛ ثمَّ دَعَا بذَنُوب من مَاء فصُبَّ على بَوْله» أخرجه الْجَمَاعَة بِأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة (٢) وَلَقَد كَانَ لهَذَا التَّعْلِيم الْحَكِيم والمعاملة الْحَسَنَة أَثَرهَا
_________
(١) صَحِيح مُسلم (ك: الْمَسَاجِد ومواضع الصَّلَاة ب: تَحْرِيم الْكَلَام فِي الصَّلَاة (١/٣٨١) ح:٥٣٧
(٢) البُخَارِيّ (ك: الْوضُوء ب: ترك النَّبِي ﷺ وَالنَّاس الْأَعرَابِي حَتَّى فرغ من بَوْله فِي الْمَسْجِد ١/٣٢٢) وَأخرجه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي الْبَاب الَّذِي بعده، وَمُسلم (ك: الطَّهَارَة ب: وجوب غسل الْبَوْل وَغَيره من النَّجَاسَات إِذا حصلت فِي الْمَسْجِد ١/٢٣٦) ح: (٢٨٤) وَأَبُو دَاوُد (ك: الطَّهَارَة ب: الأَرْض يُصِيبهُ الْبَوْل ١/٢٦٤ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَاللَّفْظ لَهُ ح: ٣٨٠) .
1 / 120
فِي نفس ذَلِك الْأَعرَابِي فها هُوَ يروي قصَّته وَيَقُول كَمَا روى أَبُو هُرَيْرَة قَالَ: يَقُول الْأَعرَابِي بعد أَن فقه: «فَقَامَ النَّبِي ﷺ إِلَيّ بِأبي هُوَ وَأمي فَلم يسب وَلم يؤنب وَلم يضْرب» أخرجه ابْن مَاجَه (١) هَكَذَا كَانَ تعامله ﷺ كَانَ أحسن الْخلق خُلقا وأفضلهم تَعْلِيما روى البُخَارِيّ عَن أنس ﵁ قَالَ: «كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول الله ﷺ وَعَلِيهِ بُرْد غليظ الْحَاشِيَة فأدركه أَعْرَابِي فَجَذَبَهُ جذبة شَدِيدَة حَتَّى نظرت إِلَى صفحة عاتق رَسُول الله ﷺ وَقد أثرت بهَا حَاشِيَة الْبرد من شدَّة جذبته ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، مُرْلي من مَال الله الَّذِي عنْدك، فَالْتَفت إِلَيْهِ رَسُول الله وَضحك وَأمر لَهُ بعطاء» أخرجه البُخَارِيّ (٢) هَكَذَا كَانَت أخلاقه ﷺ وَلَقَد كَانَ لهَذِهِ الْأَخْلَاق الْعَالِيَة أَثَرهَا فِي نفوس أَصْحَابه الَّذين سادوا من بعده الدُّنْيَا بأخلاقهم وَذَلِكَ عِنْدَمَا اقتدوا بِهِ وَسَارُوا على أَثَره.
ثَانِيًا: جعل الرَّسُول ﷺ للأخلاق مكانة عالية فِي النُّفُوس فَمن ذَلِك أَن جعلهَا من مَقَاصِد بعثته ﵇ فقد صحَّ عَنهُ ﷺ قَوْله: «إِنَّمَا بعثت لأتمم مَكَارِم الْأَخْلَاق وَفِي رِوَايَة صَالح الْأَخْلَاق» أخرجه الإِمَام مَالك فِي الْمُوَطَّأ وَأحمد فِي مُسْنده وَصَححهُ ابْن عبد الْبر (٣) فَلَقَد علق أَمر الْبعْثَة بتتميم الْأَخْلَاق، وتتميم الْأَخْلَاق لَهُ طريقتان:
_________
(١) ابْن مَاجَه (ك: الطَّهَارَة رقم٥٢٢ وَأحمد حَدِيث رقم (١٠١٢٩)
(٢) البُخَارِيّ ك: اللبَاس ب: البرود والحبرة والشملة (١٠/٢٧٥) وَفِي الْأَدَب ب: الْقسم
(١٠/٥٠٣)
(٣) موطأ مَالك (٢/٩٠٤) والمسند (٢/٣١٨) وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب المفردرقم: (٢٨٣) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك (٢/٦١٣) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيّ وَصَححهُ ابْن عبد الْبر (التَّمْهِيد ٢٤/٣٣٣)
1 / 121
الطَّرِيقَة الأولى: أَن يسْتَبْدل الْخلق الجاهلي بِخلق إسلامي إيماني.
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة: استبدال نِيَّة الخُلق إِن كَانَ الخُلق حسنا.
وَمن الْمَعْلُوم أَن أهل الْجَاهِلِيَّة كَانَت لَهُم أَخْلَاق حَسَنَة كالشجاعة وَالْكَرم وَغَيرهَا وَلَكِن كَانَت مقاصدهم فِيهَا سَيِّئَة، فيقصدون من وَرَاء ذَلِك الْفَخر وَكسب ثَنَاء النَّاس ومدحهم، فجَاء الْإِسْلَام وَغير تِلْكَ الْمَقَاصِد، فَجعل من قَاتل شجاعة فَهُوَ فِي سَبِيل الشَّيْطَان وَمن قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله ويثاب على ذَلِك وَمن أنْفق ليقال جواد فَهُوَ فِي سَبِيل الشَّيْطَان وَيَأْثَم على ذَلِك وَمن أنْفق فِي سَبِيل الله نَالَ الْأجر والمثوبة من الله. قَالَ الْبَاجِيّ: كَانَت الْعَرَب أحسن النَّاس أَخْلَاقًا بِمَا بَقِي عِنْدهم من شَرِيعَة إِبْرَاهِيم وَكَانُوا قد
ضلوا بالْكفْر عَن كثير مِنْهَا فبُعث ﷺ ليتم محَاسِن الْأَخْلَاق بِبَيَان مَا ضلوا عَنهُ وَبِمَا قضى فِي شَرعه. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يدْخل فِيهِ الصّلاح
وَالْخَيْر كُله وَالدّين وَالْفضل والمروءة وَالْإِحْسَان وَالْعدْل فبذلك بعث ليتممه (١)
أَيْضا أخبر ﷺ أَن أحاسن النَّاس خلقا أقربهم مِنْهُ مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة. عَن جَابر ﵁ أَن رَسُول الله ﷺ قَالَ:
«إِن من أحبكم إِلَيّ وأقربكم مني مَجْلِسا يَوْم الْقِيَامَة، أحاسنكم أَخْلَاقًا. وَإِن أبغضكم إِلَيّ وأبعدكم مني يَوْم الْقِيَامَة الثرثارون، والمتشدقون، والمتفيهقون» قَالُوا يَا رَسُول الله قد علمنَا الثرثارون والمتشدقون فَمَا المتفيهقون؟ قَالَ: «المتكبرون» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حَدِيث حسن (٢) وَكَذَلِكَ كَانَ ﷺ يَأْمر بمعاملة النَّاس بالخلق الْحسن ويقرن ذَلِك بالتقوى
_________
(١) انْظُر التَّمْهِيد لِابْنِ عبد الْبر (٢٤/٣٣٤)
(٢) أخرجه التِّرْمِذِيّ ك: الْبر والصلة رقم (١٩٤١) وَأخرجه أَحْمد فِي الْمسند رقم (٢/١٨٩) وَحسنه الألباني (الصَّحِيحَة رقم: ٧٩١)
1 / 122