فلسطين حتى لا تكون أندلسا أخرى
فلسطين حتى لا تكون أندلسا أخرى
জনগুলি
سلسلة فلسطين_المؤامرة
مؤامرات أعداء الله على الإسلام وأهله كثيرة، وكل مؤامرة لها خطورتها على المسلمين، لكن أشد هذه المؤامرات خطورة على الإسلام وأهله المؤامرة الفكرية ثم المؤامرة الأخلاقية، فإن تأثر المسلمين بأفكار الغرب وأخلاقه أحد أسباب انهزام المسلمين نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، فلابد من تصحيح المفهوم الإسلامي وحل قضايانا بسرعة قبل الزيادة في الألم، واستفحال سيطرة الكفر وأهله علينا.
1 / 1
علاقة احتلال فلسطين باحتلال الأندلس
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإنه في يوم ٢/ربيع الأول/ ٨٩٧هـ الموافق ٢/ ١/١٤٩٢م، وقع أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك الأندلس من المسلمين معاهدة الاستسلام، وذلك بعد قتل انتفاضة المسلمين التي قامت في ربوع غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس، وخرج أبو عبد الله الصغير من مدينة غرناطة، ووقف على تل من التلال القريبة من قصر الحمراء -قصر الحكم في غرناطة- وهو يبكي وينتحب، قالت له أمه عائشة الحرة: أجل! فلتبك كالنساء ملكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.
وخرج المسلمون بذلك خروجًا نهائيًا من الأندلس بعد أن حكمت بالإسلام ثمانية قرون، غير أن الأيام تحمل معها مفاجآت كثيرة، فتلك البلاد التي حكمت بالإسلام هذه المدة الطويلة لا يعيش فيها الآن من المسلمين إلا حوالي مائة ألف مسلم فقط، وهي بذلك تكون من أقل دول العالم احتضانًا للمسلمين، وهو درس لا بد أن يفقهه المسلمون.
وكأني ألحظ في وجوه الحاضرين دهشة وتساؤلات، أشعر أن الزملاء يقولون: يا دكتور! أنت نسيت مجموعة المحاضرات الخاصة بفلسطين وإلا ماذا؟ ما هي حكاية الكلام عن الأندلس؟ أبدًا والله لم أنس، ولن أنسى قضية فلسطين، ولكن العلاقة وثيقة جدًا بين قضية فلسطين الحالية وبين الأندلس الماضية.
من جديد ألحظ دهشة في العيون تظهر -سبحان الله- مع تباعد الزمان، وتباعد المكان، فإن العلاقة وثيقة بين الأندلس وبين فلسطين!! نعم، وثيقة وسنرى الرباط بينهما بعد قليل.
ملحوظة في غاية الأهمية لتاريخ الأندلس، لماذا لم يعد للإسلام ذكر في هذه البلاد إلا من آثار قديمة، وبعض المساجد التي حولت إلى كنائس، بينما احتلت بلاد إسلامية كثيرة غير بلاد الأندلس، ومع ذلك لم يخرج منها الإسلام، احتلت مصر والجزائر وسوريا والسودان وليبيا والعراق، ومعظم بلاد العالم الإسلامي، لكن البلاد ما زالت مسلمة بعد الاحتلال الطويل، أما أسبانيا فالوضع فيها مختلف، لماذا؟ ذلك أن الاحتلال الأسباني للممالك الإسلامية في الأندلس كان احتلالًا استيطانيًا إحلاليًا سرطانيًا، بمعنى: أن الأسبان ما كانوا يدخلون مدينة إسلامية إلا ويقتلون أهلها جميعًا، مذابح جماعية في كل مكان، أو يطردونهم خارج البلاد، وهكذا مع الوقت يتحول سكان البلد المسلمون إلى شهداء أو لاجئين، ثم يأتون بالأسبان من كل مكان يستوطنون هذه البلاد، وهكذا مع مرور الوقت أصبح سكان الأندلس كلهم من الأسبان، وليسوا من المسلمين، واختفى المسلمون بالكلية من ساحة الأندلس.
يا ترى كيف كان حال المسلمين حول بلاد الأندلس في البلاد المجاورة في تونس، في الجزائر، في المغرب، في مصر، في الشام؟ كيف كان حال المسلمين وقت سقوط الأندلس؟ كان المسلمون في فرقة شديدة وضعف، ولاشك أنهم فكروا مع هذا الضعف في استعادة بلاد الأندلس، ولكنهم لم يستطيعوا هذا؛ لضعف قوتهم، ومن المؤكد أن اللاجئين الذين خرجوا من بلاد الأندلس بعد السقوط فكروا يومًا ما في العودة، ولكن لم يستطيعوا؛ لضعف إمكانياتهم وقلة حيلتهم، وهكذا مر شهر وشهران، وعام وعامان، وقرن وقرنان، بل خمسة قرون، وضاعت الأندلس -أسبانيا والبرتغال- من ذاكرة المسلمين.
من من المسلمين الآن يفكر في استعادة بلاد الأندلس؟ الأندلس الآن عبارة عن دولتين، تربطهما مع كل بلاد المسلمين علاقات حميمة، كان المؤرخون قديمًا عندما يتحدثون عن الأندلس بعد سقوطها يقولون: أعادها الله للمسلمين، كما يتحدث مؤرخ فيقول: فتح طارق بن زياد ﵀ بلاد الأندلس -أعادها الله للمسلمين- في سنة ٩٢هـ؛ ذلك لأنها كانت دائمًا في الذاكرة، أما مع تقادم العهد فقد اختفت كلمة: أعادها الله للمسلمين، اختفت من أفواه المؤرخين.
انظروا إلى زيارة قام بها سفير مغربي للأندلس بعد سقوطها بأكثر من مائة عام، هذا السفير اسمه الغزال الفاسي ﵀، سفير سلطان المغرب إلى ملك أسبانيا كارلوس الثالث، زار في هذه السفارة مسجد قرطبة الجامع العظيم، فقال عنه: وهو من أعظم مساجد الدنيا في الطول والعرض والعلو، ومنذ عبرنا هذا المسجد لم تفتر لنا عبرة مما شهدنا من عظمته، وتذكرنا ما كان عليه في عهد الإسلام، وما قرئ فيه من العلوم وتليت فيه من الآيات، وأقيمت به من الصلوات، وقد تخيل في الفكر أن حيطان
1 / 2
تباين الآراء في كيفية حل قضية فلسطين
عندما تسأل المفكرين من أبناء الأمة المخلصين، أو تسأل عموم الناس، تكون الإجابات متباينة ومختلفة، وكثير منها جميل ورائع.
هناك من يقول: إن الجهاد هو الحل الوحيد، وعلى الفلسطينيين أن يستمروا في مقاومتهم، وعلى الحكومات الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها أن تفتح الأبواب لجهاد اليهود.
وهناك من يقول: على العرب أن يتحدوا جميعًا في كلمتهم، ويقفوا أمام اليهود وقفة واحدة في مفاوضة واحدة، بدلًا من التشرذم في لقاءات متفرقة.
وهناك من يقول: على السلطة الفلسطينية أن تضع يدها في يد الفصائل المختلفة داخل فلسطين، وأن يتعاونوا على طرد اليهود بدلًا من تركيز السلطة على تحجيم قوة المقاومين للاحتلال.
هناك من يقول: لا بد من وقف التطبيع، وقطع العلاقات مع اليهود سواء كانت علاقات سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو ثقافية أو غيرها من العلاقات.
هناك من يقول: لا بد من الضغط على مصالح الدول الغربية، وتوحيد الكلمة في اجتماعات الأمم المتحدة، والمحافل الدولية وغير ذلك.
هناك من يقول: لا بد من تمويل المقاومة الفلسطينية بالسلاح الحقيقي، بدلًا من الحجارة؛ ليستكملوا جهدهم بصورة أكبر وأشد.
هناك من يقول: لا بد من السعي لمحاكمة شارون كمجرم حرب، وفتح ملفات صبرا وشاتيلا، وهذا جميل، ولكن هذا يوحي بأن من كان قبله كانوا من الملائكة، سواء باراك أو نتنياهو أو رابين أو بيجن أو جلدا مائير أو غيرهم، كما نسي الناس أن شارون انتخب من عموم اليهود بأعلى نسبة إجماع من سنوات.
حلول كثيرة جدًا يذكرها المفكرون، ويشعر بها عموم الناس، لكن سبحان الله!! جميع هذه الحلول تتفق في شيء واحد، تتفق في أنه ليس في مقدور الشعوب أن تقوم بها، أنا لا أخاطب الحكومات والهيئات الرسمية في هذه المجموعة من المحاضرات، أنا أخاطب عموم المسلمين الغيورين على القضية، أخاطب الدكتور، والمهندس، والمحامي، ورجل الأعمال، أخاطب النجار، والحداد، والسواق، والحلاق، وأستاذ الجامعة، كما أخاطب الرجل البسيط الذي لا يحسن القراءة والكتابة، ولكن يتألم لفلسطين، أخاطب عموم الناس الذين ليس في أيديهم قرار تسيير الجيوش، ولا قطع العلاقات، ولا غلق السفارات، ولا وقف التطبيع، ولا محاكمة شارون، ولا وحدة قادة المسلمين.
الرجل البسيط العادي الذي لا ينتمي إلى حزب من الأحزاب ولا إلى هيئة من الهيئات، ماذا يفعل لفلسطين؟ بمعنى مختصر ما هو دوري ودورك في قضية فلسطين؟ فمن أجل أن تنام في الليل مستريحًا تقول: يا رب! تألمت لما يحدث هناك، ففعلت ما في وسعي، ترى ما هو وسعك؟ وما هي طاقتك؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في هذه السلسلة من المحاضرات إن شاء الله.
مع ملاحظة أن الخطاب لأهل فلسطين سيكون مختلفًا بالكلية هذا الخطاب الذي أتحدث به الآن هو لمن لا يملك أن يجاهد في هذه الأراضي المقدسة، وإلا فلا شيء يعدل الجهاد ضد اليهود.
1 / 3
دراسة المؤامرة الضخمة على الإسلام وأهله
إذا أردنا أن نتحدث عن دور المسلمين عمومًا في حل قضية فلسطين حلًا على سنة الله وسنة رسوله ﷺ، فلا بد من دراسة المؤامرة الضخمة الكبيرة المرتبة والخطيرة التي تدبر للإسلام وأهله، وتدبر بالتبعية لفلسطين، مؤامرة ذات جذور قديمة وطرق عديدة، وهي ذات المؤامرة التي حيكت للمسلمين على مدار العصور، منذ بعثة رسول الله ﷺ وإلى الآن وحتى يوم القيامة، وعلى المسلمين أن ينتبهوا قبل أن أشير إلى هذه المؤامرة، أود فقط أن أشير إلى أنه ليس كل ما يصيب المسلمين يكون ناتجًا بالإجمال عن مؤامرة، فكثيرًا ما يصاب المسلمون نتيجة تقصيرهم وإهمالهم لواجباتهم، فهي أشياء تكون مدبرة، لكن لضعف المسلمين تفلح هذه التدبيرات في إتيان مفعولها.
مثلًا رجل يضيع صلاة الفجر كل يوم، نعم هناك جزء من المؤامرة أن يسهر حتى الساعة الثانية أو الثالثة، ثم ينام قرب الفجر فيضيع صلاة الفجر، فهو ولا شك في ذلك مخطئ، وعليه جانب كبير من التقصير، لكن ليست هي المؤامرة وحدها، مع أنني أعتقد أنه من الصعب جدًا أن تفلح مؤامرة في دحر المسلمين أو هزيمتهم، إلا إذا كان المسلمون ضعفاء، نعم، لا ينصر الكافرون على المسلمين إلا بضعف المسلمين، وسيأتي إن شاء الله تفصيل لذلك في نهاية المحاضرات، لكن هذا لا يمنع من دراسة المؤامرة التي دبرها أعداء المسلمين بعناية، ولا بد للمسلمين أن يحذروا، هذه المؤامرة متنوعة ومتعددة، مؤامرة في كل المجالات، وهي مع ذلك متزامنة.
مؤامرة على سبيل المثال سياسية عن طريق المفاوضات، والسفارات، والأحلاف، والهيئات، والقرارات، هناك مؤامرة عسكرية عن طريق الجيوش والصواريخ والطائرات والبوارج وإف١٦ وأباتشي وغيرها، مؤامرة اقتصادية عن طريق الحصار الاقتصادي وفرض القيود الاقتصادية، وتحديد سلع معينة للإنتاج، وتبوير الأراضي، مؤامرة تفريقية يفرقون فيها بين أقطار المسلمين عن طريق مؤامرات بين الشعوب، فلا تجد بلدًا إلا وتختلف مع جارتها على الحدود والأفكار، مؤامرة أخلاقية عن طريق تمييع أخلاق المسلمين بالإعلام والدش والإنترنت والتلفزيون والصحف الصفراء والخضراء والبيضاء، كل أنواع الصحف، مؤامرة فكرية عن طريق تغيير أفكار المسلمين، وتبديل المعايير الصحيحة، وقلب الموازين العادلة، كل هذه المؤامرات مجتمعة وتجري في وقت واحد متزامن، وكل هذه المؤامرات خطيرة وقاتلة.
1 / 4
المؤامرة الأخلاقية والفكرية وخطورتهما على المجتمعات
يا ترى ما هي أخطر مؤامرة في هذه المؤامرات جميعًا؟ الواحد قد يقول: إذا لم يكن كل هذه المؤامرات خطيرة، فلماذا تحديد أي المؤامرات أخطر أو أقل خطورة مادمنا سندافع عنها جميعًا؟ لكن انظر، إذا همشت مؤامرة من المؤامرات، وقللت من قيمتها؛ ضاعت الأولويات عند المسلمين، فيصرفون الأوقات الكثيرة في رد كيد المؤامرات الضعيفة، ويتركون ما هو أشد؛ ولذلك يجب أن يبحث المسلمون عن أخطر المؤامرات، ويوجهوا إليها طاقتهم مع عدم إغفال الرد على المؤامرات الأخرى.
نرجع هكذا مرة أخرى، وكل واحد يحاول أن يختبر نفسه، أي المؤامرات أشد على المسلمين؟ أتراها المؤامرة السياسية، أم العسكرية، أم الاقتصادية، أم التفريقية بين الشعوب والأفراد، أم الأخلاقية، أم الفكرية؟ كثير من الناس من الممكن أن يختار المؤامرة العسكرية؛ لأنها تبيد أعدادًا كبيرة من البشر في وقت سريع، كلنا نجعل في بالنا قصف الأباتشي، وقتل العشرات أو المئات رقم يلفت الأنظار.
وبعض الناس قد يختار المؤامرة السياسية التي تضيع الحقوق، وتضحك على الشعوب، وتقنع الشعوب أنها أخذت حقها وقد ضاع منها كل شيء.
وقد يختارون المؤامرة الاقتصادية التي تجوع الأمم وتقتل الأفراد، لكن مع خطورة هذه المؤامرات جميعًا فإن أخطرها على الإطلاق هي المؤامرة الفكرية متبوعة بالمؤامرة الأخلاقية، وأنا أعلم أن الجميع يعلم خطورة المؤامرة الأخلاقية على الأمة الإسلامية، إلا أن المؤامرة الفكرية أشد وأنكى في المسلمين، يا ترى ما هو الفرق بين المؤامرة الفكرية والمؤامرة الأخلاقية؟ وما هو الذي يجعل المؤامرة الفكرية أشد، مع كون المؤامرة الأخلاقية من أبشع الأشياء أو المؤامرات التي يمكن أن توجه إلى قلب الأمة الإسلامية؟ سأعطيكم أمثلة على ذلك: السيدة التي تخرج بلا حجاب، وعلتها في ذلك أنها ترى نفسها أجمل بدون حجاب، أو تسعى للزواج، أو لا تجد القدرة على التغيير، أو مكسوفة من صديقتها، هذه المرأة تعاني من مشكلة أخلاقية، فهي تعلم أين الحق وتتبع غيره لضعف في نفسها، بينما السيدة التي تخرج بلا حجاب؛ لأنها ترى أن الحجاب موضة قديمة كما يقولون، ولباسه رجعية وتخلف وجمود، هذه المرأة تعاني من مشكلة فكرية.
أي المشكلتين أخطر: الرجل الذي يأخذ رشوة، ويقول: آخذها لأن ظروفي صعبة، ولولا الظروف الصعبة لم أفعل ذلك.
اللهم سامحني؟ هذا الرجل يعاني من مشكلة أخلاقية، بينما الرجل الذي يقول: لا، هذه ليست رشوة، هذه إكرامية، أو هذا حق مكتسب نتيجة مجهود معين فعلته، ويبدأ في تقنين الرشوة، هذه مشكلة فكرية.
كذلك في أمور العبادات، الرجل الذي لا يصوم ويقول: والله أنا أجوع بسرعة، أو أنا لا أعرف أن أركز وأنا صائم، أو لا أستطيع أن أترك السجائر، أو أن أصحابي كلهم ليسوا بصائمين؟ فهذا رجل طبعًا عنده مشكلة أخلاقية خطيرة، لكن الرجل الذي يقول: إن الصيام هذا يقلل الإنتاج، أو إن الصيام فعل خطأ قد يؤخرنا إلى الوراء.
تستغربون هذا الكلام، لكن هذا الكلام حصل، وقاله زعيم أمة عربية، زعيم توفاه الله، كان يقول: إن الصيام يقلل الإنتاج، ويضعف من الطاقة؛ ولذلك ينصح شعبه ألا يصوم، إي والله كان يقول ذلك.
أو يقول: إن الصيام شرع لأجل الشعور بالفقراء وأنا أشعر بهم، فلماذا الصيام؟! هذا الرجل وأمثاله يعانون من مشكلة فكرية خطيرة جدًا، حتى الفقهاء يقولون: إنه من ترك الصيام وهو يقدر عليه تكاسلًا فهو فاسق، أما من تركه إنكارًا له فهو كافر.
أيضًا في قضية فلسطين قد يقول شخص: أنا أعرف كل الذي يحصل في فلسطين، وبودي أن أساعد، لكنني أرى كذا وكذا من الأمور، فلن أساعدهم، وربنا غفور رحيم، هذا الرجل له دور، لكنه لا يريد أن يقوم بهذا الدور، فهذه مشكلة أخلاقية، فهو رجل لا يوجد فيه نخوة، ولا يوجد فيه شهامة أو حمية لهذا الدين، لكن هناك رجل ثانٍ يقول: ما لنا ولفلسطين، نحن نعيش في بلد وفلسطين بلد ثانٍ، فهذا الرجل الأخير يعاني من مشكلة فكرية.
إذًا المؤامرة الفكرية أعمق وأخطر من المؤامرة الأخلاقية وكلاهما خطير، المؤامرة الفكرية تقلب الباطل حقًا، وتقلب الحق باطلًا، فقد يقاتل المرء حتى الموت من أجل قضية خاطئة، ولو عبث العابثون بفكرك لضاعت حياتك وراء أهداف باطلة لا تساوي في ميزان الله ولا في ميزان الإسلام شيئًا، انظر إلى قول الله ﷾ في كتابه الكريم: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:١٠٣ - ١٠٤]، سبحان الله! وشخص ينشر فسادًا وإباحية وفسقًا ومجونًا ويشجع أفلام العري، ويسمح بظهور النساء شبه عاريات، ثم يظن أنه يقاتل من أجل تنوير الشعوب وتحرير الفكر، ومن أجل توسيع المدارك، بل قد يضحي من أجل ذلك بوقته، وصحته، ومجهوده وماله، هؤلاء هم ﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف:١٠٤].
هذه مشك
1 / 5
دور الأمة كأفراد في قضية فلسطين
نطرح هذا الأمر جانبًا، ونعرض سؤالًا ذكرناه من قبل: ما هو دور الأمة كأفراد في قضية فلسطين؟ أول شيء يخطر على الذهن هو التبرع بالمال، والحق أن التبرع بالمال هام جدًا، وهو يسهم بالقدر الأكبر في مجابهة المؤامرة الاقتصادية والعسكرية، وهذا شيء طيب جدًا، لكن الحق أيضًا أن المال على أهميته ليس هو أهم الأشياء التي يحتاجها أهل فلسطين، بل يحتاجون أشياء كثيرة غيره وقبله، والآن سأقول هذه الأشياء مجملة ثم نفصل فيها تدريجيًا إن شاء الله.
الأمر الأول: الذي تحتاجه القضية الفلسطينية هو تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، بمعنى الدفاع ضد المؤامرة الفكرية.
الأمر الثاني: الدعاء لأهل فلسطين بالثبات والنصر، والدعاء على من ظلمهم بالهلكة والاستئصال، طبعًا بعض الناس قد يستغربون لماذا قدمت فهم القضية على الدعاء؟ أليس من الممكن أن تدعو بشيء لا يرضى عنه الله ﷾، أو تدعو بشيء ليس في مصلحة القضية؟ ألم تسمع حديث رسول الله ﷺ عن عبادة بن الصامت ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، فقال رجل من القوم: إذًا: نكثر الدعاء -أي: نكثر من الدعاء- قال ﷺ: الله أكثر)، هذا الحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
فنحن قد ندعو بشيء فيه إثم يخص قضية فلسطين، مثلًا رجل يذهب ليبيع أرضه فتدعو له بالتوفيق، طبعًا هذا لا يستقيم، رجل يذهب ليقضي على من يجاهد في سبيل الله فتدعو له بالتوفيق، أيضًا هذا لا يستقيم، ذكرني هذا بحديث جاء في الصحيفة مع راقصة تقول: والله أنا بعد كل رقصة أدعو الله أن يوفقني في الرقصة الجديدة، فهي كذا تدعو الله، لكن الله ﷾ لا يستجيب لهذا الإثم وهذه المعصية.
أو كالذي يأخذ رشوة ويخاف أن يراه أحد، فيقول: اللهم استر، فهو يدعو الله ﷾ أن يستره وهو يأخذ الرشوة ويرتكب المنكر ويفعل الفاحشة، إذًا: لا بد أن نفهم القضية أولًا ثم ندعو بالدعاء المناسب.
إذًا: نرجع نحصي وسائل المساعدة إجمالًا ثم نفصل: أولًا: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة.
ثانيًا: الدعاء لأهل فلسطين، وعلى اليهود ومن عاونهم.
ثالثًا: قتل الانهزامية في نفوس المسلمين.
كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يعتقدون أنه من المستحيل أن يهزم المسلمون اليهود، أو أن يستطيعوا أن يتحركوا قيد أنملة في القضية في هذه الآونة، فهذا إحباط شديد ويأس عند كثير من المسلمين، فدورنا في هذه الفترة أن نقتل هذه الانهزامية وأن نعلي من همة المسلمين وبأسهم.
رابعًا: التبرع بالمال، وسيأتي حديث طويل عنه إن شاء الله.
خامسًا: المقاطعة الاقتصادية لكل ما هو يهودي أو من دولة تساعد اليهود.
سادسًا: إصلاح النفس والمجتمع.
فالخمسة الأمور الأولى هي لحل القضية في هذا الوقت الراهن، والأمر السادس إصلاح النفس والمجتمع هو إصلاح القضية على المدى البعيد، إصلاح الأصل الذي بسببه هزم المسلمون، يقول عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه في وصيته الجامعة لـ سعد بن أبي وقاص ﵁ وأرضاه: إنكم لا تنصرون على عدوكم بقوة العدة والعتاد، ولكن تنصرون عليه بطاعتكم لربكم، ومعصيتهم له، فإن تساويتم في المعصية كانت لهم الغلبة عليكم بقوة العدة والعتاد.
نعم الأصل الذي أدى إلى كل هذا الانهيار في مقاومة المسلمين، وأدى إلى انتصار ثلاثة ملايين أو أربعة ملايين، أو خمسة ملايين من اليهود في فلسطين على مليار وثلث مليار في أرض واسعة وبقاع مترامية الأطراف هو ضعف العلاقة مع الله ﷾، وبعد الناس عن الطاعة وعن الكتاب الكريم والسنة المطهرة.
فهذه وسائل ستة -وغيرها كثير- نفصل فيها إن شاء الله الواحدة تلو الأخرى في هذه المجموعة من المحاضرات.
1 / 6
تحريك قضية فلسطين بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة
أولًا: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة.
هذه الجملة تشتمل على ثلاثة مقاطع، تحريك القضية المقطع الأول، بالمفاهيم الصحيحة المقطع الثاني، وبسرعة المقطع الثالث.
1 / 7
تحريك القضية
تحريك القضية سبحان الله!! الله ﷾ حركها لنا، تذكرون أن قضية فلسطين قد خمدت فترة من الزمان بعد معاهدة أوسلو حوالي سبع سنوات كاملة، لكن الله حركها بزيارة شارون للمسجد الأقصى في ٢٨/ ٩/٢٠٠٠م، وهو حدث مع عظمه أهون من أحداث سابقة كثيرة، هناك أحداث كثيرة جدًا غير زيارة شارون لم يتحرك لها المسلمون هذا التحرك، هناك قتل للمسلمين وتدمير وتشريد، هناك مذابح مثل مذبحة صبرا وشاتيلا لم يتحرك لها المسلمون مثلما تحركوا لزيارة شارون وهي أهون من قتل المسلمين، لما زار شارون المسجد الأقصى، هذه الحركة للقضية فَعَّلها ﷾، ولابد أن نشكر هذه النعمة، نعمة تحريك القضية، وشكر النعمة يكون باستمرار تحريك القضية.
فدورك أنت عندما تقابل شخصًا تكلمه عن قضية فلسطين، تتحدث في كل الدوائر المتاحة: دائرة البيت، دائرة الأهل والأقارب، دائرة الأصدقاء، دائرة العمل، كذلك بعض الدوائر السطحية التي تلتقي بها قدرًا دون ترتيب، كأن تكون منتظرًا في عيادة الطبيب، أو تكون جالسًا فتتحدث مع الناس العاديين عن هذا الموضوع، أو راكبًا (تاكسي) وتتحدث مع سائق التاكسي في هذا الموضوع، أو راكبًا قطارًا أو حافلة، فتتحدث مع جارك في المقعد في هذا الموضوع.
وبعض الناس لهم دوائر أوسع، فمن الممكن أن تكتب مقالًا في جريدة أو حتى خطابًا إلى بريد إحدى الصحف، أو تكتب مقالًا في مجلة حائط في مدرسة أو جامعة، أو تخطب خطبة في مسجد إن تيسر لك هذا الأمر، أو على الأقل توعز لخطيب بخطبة عن فلسطين، يذكر الناس فيها بالمفاهيم الصحيحة لقضية فلسطين، ومن الممكن أن تنظم ندوة، أو تشكل صالونًا ثقافيًا، وتأتي بشخص يتكلم فيه عن القضية.
وقد تكلمنا من قبل في السيرة عن دور أسعد بن زرارة ﵁ وأرضاه لما ذهب إلى مصعب بن عمير ﵁ وأرضاه، وكان ذلك في المدينة، فقد كان مصعب بن عمير هو القارئ الذي يعلم الناس، وأسعد بن زرارة ﵁ كان يتعلم من مصعب بن عمير، ولا يملك القدرة على الخطابة التي يملكها مصعب بن عمير، فكان أسعد بن زرارة يهيئ المجالس لـ مصعب بن عمير ويدله على الرجال الذين يتوسم فيهم الخير، ولو سمعوا الدعوة لآمنوا بها واتبعوها، ولاتبع الدعوة بإيمانهم أفراد كثر، وهكذا كان لـ أسعد بن زرارة دور كبير مع أنه لم يكن يتكلم هو بذاته كما يتكلم مصعب بن عمير ﵃ أجمعين.
هناك وسائل أخرى لتحريك القضية كالمظاهرات السلمية، إذ تعتبر وسيلة من وسائل التحريك، ولابد أن يكون لها سمت مختلف عن سمت البلاد الغربية الفاسدة التي ليس لها ضوابط من الأخلاق والشرع، فليس من اللائق أن تشكل مظاهرة من أجل تحريك قضية فلسطين، فتقوم بتكسير المحلات والإفساد في الأرض، أو بسباب لا يليق بالمسلم: (ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء)، لكن بوسائل متعددة في إطار الأخلاق الإسلامية الشريفة لتحريك قضية فلسطين.
المقطع الثاني في الجملة: هو المفاهيم الصحيحة، أؤجله لأنه سيطول بنا.
1 / 8
ضرورة استغلال الوقت في تحريك القضية
المقطع الثالث: وبسرعة.
نقول: تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة، ماذا نقصد بقولنا: بسرعة؟ هناك أناس اشتهرت على ألسنتهم كلمة فيها نوع من الهروب.
يقولون: الزمن جزء من العلاج، يعني: مع مرور الوقت ستحل القضية، وهذا يا إخوة! مخالف تمامًا للواقع، فالوقت ليس في صالحنا كأفراد في الكيان الإسلامي الواسع المترامي الأطراف، وليس في صالح القضية الفلسطينية.
هو ليس في مصلحة القضية الفلسطينية؛ لأنه مع مرور الوقت يزداد الألم الفلسطيني، وتزداد القوة اليهودية، ويزداد التبجح اليهودي، ومع مرور الوقت يزيد عدد الشهداء وهذا في حد ذاته ليس خسارة حقيقة، كما سيأتي الحديث بالتفصيل إن شاء الله، لأنهم فازوا بالشهادة، ولكن الخسارة الحقيقة هي استمرار الظلم دون رادع، استمرار قتل الأبرياء دون رادع، ومع مرور الوقت تهدم المنازل الواحد تلو الآخر، وتجرف الأراضي، ويتزايد عدد من لا مأوى لهم، وبذلك تزيد أوراق الضغط اليهودية.
مع مرور الوقت يزداد تعذيب الأفراد بل الأطفال، واقرءوا مقالًا في جريدة الحياة اللندنية بتاريخ ١٩/ ٧/٢٠٠١م عن التقرير الذي أعدته المحامية السويدية برجيتا عن حجم الإرهاب الفظيع الذي تمارسه المحاكم الإسرائيلية بحق الأطفال الفلسطينيين، وعن الأعمال الوحشية التي لا تصدق في السجون الإسرائيلية، وبحكم القانون للضغط على أهالي الطفل، وذلك يشمل السجن لفترات طويلة، والجلد، والصعق بالكهرباء، والتقييد للأطفال، وما خفي كان أعظم.
مع مرور الوقت تزداد المستوطنات، وتزداد الهجرة اليهودية للأراضي الفلسطينية، ويزداد الإحلال اليهودي للشعب الفلسطيني.
مع مرور الوقت يتناقص الغذاء والدواء والكساء لغلق كل المعابر والحدود، وبذلك يموت الشعب جوعًا ومرضًا.
مع مرور الوقت يزداد عدد اللاجئين والمشردين والفاقدين للمأوى.
مع مرور الوقت يزداد التجرؤ اليهودي على المسلمين، فنسمع عن أشياء جديدة ما كنا نسمع عنها في القضية من قبل، نسمع عن حركات اغتيال متكررة لقادة بعينهم، نسمع عن عمليات اختطاف لأفراد بعينهم من عقر دارهم، نسمع عن ضرب للبيوت بالمروحيات والطائرات الأباتشي والأف١٦، بل نسمع عن حديث على الملأ يناقش: هل نقتل زعماء السلطة أم نتركهم هكذا؟ تبجح يهودي صارخ، ورعاية أمريكية وعالمية لهذا الإجرام، حتى إن نائب الرئيس الأمريكي شين يصرح بمنتهى الوقاحة بأنه لا يرى بأسًا في عمليات الاغتيال ما دام هؤلاء الأفراد قنابل بشرية موقوتة.
مع مرور الوقت يحدث شيء خطير اسمه إلف المأساة.
يتعود المسلمون على منظر دماء الشهداء، ومنظر الجرحى بالمئات والآلاف، ومنظر الأمهات الثكالى، ومنظر الأطفال الباكية المشردة، يتعودون على منظر الهدم والتجريف والظلم والإبادة، فلا تتحرك القلوب كما كانت تتحرك، ولا تذرف الدموع كما كانت تذرف، ولا تتأثر المشاعر كما كانت تتأثر، الناس لا تشعر بقيمة الشمس؛ لأنها ألفت أن تراها كل يوم، الناس لا تشعر بجريمة ترك الصلاة؛ لأنها ألفت تركها كل يوم وهكذا، نحن نريد للقضية أن تحل قبل أن تحدث كل هذه الأمور، وقبل أن نألف مأساة فلسطين.
إذًا: الوقت ليس علاجًا وليس مصلحة لقضية فلسطين، كما أن مرور الوقت ليس في صالحنا كأفراد، فالموت يا إخوة! يأتي بغتة، ومن مات قامت قيامته، وسيأتي والله يوم عسير نسأل فيه جميعًا ماذا فعلنا لفلسطين؟ يوم تقترب فيه الشمس من الرءوس، ويشتد فيه الزحام وتزل فيه الأقدام، ولا ينفعنا إلا العمل الصالح، سنسأل: ماذا فعلنا لهؤلاء الذين يقتلون صباح مساء على بعد أميال منك؟ ماذا فعلنا لأرض تغتصب، ودماء تراق، وحرمات تنتهك؟ ماذا فعلنا لتلك المساجد الطاهرة التي تشكو إلى ربها؟ يا ترى! ماذا سنعمل لو متنا في هذا الوقت، وسئلنا عن هذه الأشياء؟ أليس الأفضل أن نجهز إجابة لهذا الوقت وبسرعة؟ يا ترى! لو عرفت أن عصابة تدبر لقتل وسرقة جارك ألا تفعل شيئًا، ألا تتحرك، ألا تأخذك حمية؟ فما بالك لو كان تدبيرًا لقتل أمة وسرقة شعب؟ يا ترى! إذا كنت ماشيًا في الشارع، ومعك ابنك عمره ٨ سنوات أو ١٠ سنوات، فجاء يهودي وأطلق رصاصة استقرت في قلبه أو في رأسه، فسقط بين يديك وسالت دماؤه وأنت لا تملك علاجًا حتى مات أمام عينيك، فترفع رأسك فتجد أكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون، ألا ترفع يدك إلى السماء تدعو على من شاهد ولم يتحرك، وتدعو على من سمع ولم يعقل، وتدعو على من قرأ ولم يفقه؟ يا ترى! لو وضعت أموالك كلها في بيت أثثته بتعب وكد وعرق وجهد، ثم جاءت دبابة فأضاعت جهد السنين، وهدمت أحلام المستقبل، فخرجت تحمل من بقي من أولادك مهرولًا؛ هربًا من حطام بيتك وقد اشتعلت به النيران، فإذا بك تعلم أن أكثر من مليار مسلم يشاهدون ولا يتحركون، ألا ترفع يدك إلى لسماء تشكو إلى خالقك ظلم القريب والبعيد، وتشكو ظلم العدو والصديق؟ يا أخي! ضع نفسك في مكانهم، أليس هؤلاء من المسلمين المشتركين معك في عقيدة واحدة؟ أليسوا من البشر الذين لهم أحلام كأحلامك، وآمال كآمالك، وآلام كآلامك، أم أننا لنو
1 / 9
مفهوم الأمة الإسلامية
أنا أريد يا إخوة! في هذه المحاضرات أن أرسخ في الذهن مفهوم الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية ليست مجموعة من الدول، تربطها علاقات سياسية واقتصادية وثقافية طيبة، لا، الأمة الإسلامية شيء آخر، الأمة الإسلامية كيان واحد وجسد واحد وروح واحدة: (مثل المسلمين في توادهم، وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
تدبر قوله ﷺ، يقول: (مثل المسلمين في توادهم) يقول: المسلمين لا يقول: المصريين، ولا السوريين، ولا الباكستانيين أبدًا، الرابطة التي تجمعنا جميعًا هي الإسلام وليس محل الميلاد، هذا هو الرباط الحقيقي، هذا هو الرباط الاختياري، المرء يختار عقيدته ودينه، لا يختار محل ميلاده، فالأفغاني المسلم الملتزم بدينه وقواعد الإسلام والذي يعيش على بعد آلاف الأميال مني أقرب إلي من الجار في نفس المنزل إذا كان على غير المنهج الصحيح.
أترانا لو ربطنا علاقتنا على كوننا فقط ولدنا على أرض واحدة، أيكون هذا رباطًا صحيحًا؟ ألمجرد أنه ولد على أرض مجاورة أصبح أخًا لي تقيًا كان أو عربيدًا، مؤمنًا كان أو فاسقًا، مسلمًا كان أو يهوديًا؟ المسلمون يا إخوة جسد واحد، جسد يده في السودان ومصر والجزائر والمغرب، ورجله في سوريا ونيجيريا وباكستان والعراق، كبده في السنغال ومالي واليمن وقطر، عينه في الشيشان وكشمير والأردن وأندونيسيا، أذنه في البوسنة وتركيا والكويت والنيجر، قلبه في مكة والمدينة والقدس، (حسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، ليس معقولًا أن يكون القلب مريضًا، وتكون العينان مشغولتين برؤية الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، وفي لهو كامل عن القلب، ليس معقولًا أن يكون الكبد متهالكًا، وتكون الأذن مشغولة بسماع النكات والألحان والمباريات والمشاكل التافهة، ليس معقولًا أن تكون الرجل مقطوعة، وتكون اليدان مشغولتين بعد الأموال وكنز الذهب والفضة، (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا).
أعداء المسلمين يريدون أن يرسخوا في أذهاننا حدودًا ليست بين الأراضي فقط، ولكن بين القلوب والعقول أيضًا، سياسة استعمارية مشهورة جدًا، فرق تسد، وهذه المؤامرة التفريقية التي تكلمنا عليها في بداية الدروس، فقد أدخلوا في روع المسلمين أن يعتز كل بلد بقوميته، حتى يعتز الجزائري بنفسه، ويعتبر نفسه غريبًا عن المصري، ويعتز الأردني بنفسه ويعتبر نفسه غريبًا عن التركي وهكذا.
أدخلوا الفرقة في قلوب المسلمين حتى أصبح المسلم في بلد إذا ساعد مسلمًاَ في بلد آخر يعتبر ذلك تفضلًا منه ومنةً على الآخرين، أبدًا يا إخوة! هذه والله حقوق وليست فضائل، كالذي يدفع زكاته للفقير هذا لا يجب أن يمن على الفقير بزكاته، فالزكاة حق مكتسب وشرعي للفقير، والله قسم الأرزاق، فجعل الناس بين غني يعطي، وبين فقير يأخذ، كذلك قسم الله الابتلاءات على بلاد المسلمين، هذا بلد ابتلي باليهودي فعليه أن يقاوم، وهذا بلد ابتلي بالأمن والمال والرخاء فعليه أن يساعد لا تفضلًا منه بل واجبًا عليه وامتحانًا له.
وبهذا المفهوم مفهوم الجسد الواحد تستطيع أن تفهم حديث رسول الله ﷺ الذي رواه الطبراني: (لا يقفن أحدكم موقفًا يضرب فيه رجل ظلمًا، فإن اللعنة على من حضره، حين لم يدفعوا عنه)، ونحن والله في هذا الوقت لا توجد عندنا حجة، نرى ضرب الفلسطينيين بالرصاص والصواريخ والقنابل على شاشات التلفاز والإنترنت والصحف، نراه حال وقوعه فلا عذر لنا، الوقت يا أخي! ليس في صالحنا، الموت يأتي بغتة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المنافقون:٩ - ١١].
ثم يا أخي! أنت لا تنصر إخوانك في فلسطين بدافع المسئولية فقط، إنه والله لأجر عظيم وثوابٌ جزيل، ولا أقول: جنة بل جنان: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة).
إذًا: على كل المسلمين عربًا كانوا أو غير عرب، قريبين من فلسطين أو بعيدين عنها، في بلد إسلامي أو في غيره من بلاد العالم غير المسلمة، عليهم جميعًا أن يحركوا قضية فلسطين وبسرعة، ولكن عليهم أن يحرصوا أن يحركوها بالمفاهيم الصحيحة، على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ.
ترى ما هي هذه المفاهيم الصحيحة التي نريد أن ترسخ في أذهان المسلمين؟ هذا
1 / 10
سلسلة فلسطين_فلسطين إسلامية
فلسطين أرض إسلامية، وهي تشكل بقعة مقدسة للأمة الإسلامية، فقد ميزها الله بمميزات على سائر البقاع، لكن هذه المميزات ليست سببًا رئيسيًا لتحريرها من أيدي اليهود، إذ إن السبب الرئيسي لتحريرها هو أنها إسلامية، وهذه المميزات التي أعطاها الله لها حوافز تزيد محبة المسلمين لها.
2 / 1
إحساس المسلم بفلسطين إحساس نابع من القلب
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلنا من الذين حفظوا للقرآن حرمته، وممن عظموا منزلته، وممن تأدبوا بآدابه، وممن التزموا بأحكامه، وممن حللوا حلاله، وممن حرموا حرامه، وممن عمل بمحكمه، وممن آمن بمتشابهه.
اللهم إنا نسألك إيمانًا دائمًا، ويقينًا صادقًا، وقلبًا خاشعًا، وعلمًا نافعًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا.
آمين آمين، وصل اللهم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
أما بعد: مع الحلقة الثانية من حلقات قضية فلسطين، تحدثنا في الحلقة الأولى عن ربط قضية فلسطين بالأندلس، وعن خطورة قضية فلسطين، وعن المؤامرات الكثيرة التي تحاك لأمة المسلمين، وبالتبعية لفلسطين، وعن دور الأمة إجمالًا في حل قضية فلسطين، وعن المؤامرة الفكرية التي ذكرنا خطورتها على الأمة الإسلامية، وتحدثنا أيضًا عن مفهوم الأمة الإسلامية، وعن الدور الأول تجاه قضية فلسطين، وهو تحريك القضية بالمفاهيم الصحيحة وبسرعة.
قبل الحديث عن هذا الدور الكبير، دور تحريك القضية بالمفاهيم وبسرعة، أجيب عن سؤال جاء من أخ بخصوص الحلقة السابقة.
أخ يسأل ويقول: تعليقًا على أن المسلمين كالجسد الواحد، وأنه ليس من المعقول أن يشتكي القلب أو اليد، وتظل العين لاهية برؤية المباريات والمشاكل التافهة والمسلسلات وما إلى ذلك هل تطلب منا أن نعيش في كآبة مستمرة تضامنًا مع أهل فلسطين؟
الجواب
الحق أنا لم أقل: أنك ستعيش في كآبة تضامنًا مع أهل فلسطين، أنا لا أطلب منك تمثيل الحزن أو تعمد البعد عن أماكن الفرح إمعانًا في الكآبة، لكن ما ذكرته هو أن هذا شعور ذاتي لا يحتاج من الإنسان أن يبذل له مجهودًا، شعور الجسد الواحد، إذا أصيب قلبك فهل تدعي العين الألم؟ أو تدعي القدم الألم؟ أم أنها فعلًا تشعر بالألم دون ادعاء؟ لو مات إنسان عزيز عليك، هل تحتاج إلى بذل مجهود لفصل نفسك عن أماكن اللهو، أم أن هذا شعور ذاتي تلقائي نتيجة الحزن الحقيقي؟! ما أريده هو أن تحس بالقضية إحساسًا صادقًا، وساعتها سيأتي الحزن بشكل طبيعي، بل سيتبع الحزن عمل إيجابي، يبغي التغيير والإصلاح، وأضرب مثالًا يوضح الصورة: موقف مشهور جدًا في التاريخ، موقف صلاح الدين الأيوبي ﵀، عندما روي أمامه حديث عن رسول الله ﷺ، وكان في هذا الحديث: أن رسول الله ﷺ يضحك، فكان الرواة لهذا الحديث يضحكون عندما يذكرون ضحك رسول الله ﷺ، فلما روي هذا الحديث أمام صلاح الدين الأيوبي لم يضحك، فسألوا عن ذلك فقال: كيف أضحك والأقصى أسير في أيدي الصليبيين؟ هو لا يستطيع أن يضحك؛ لأنه يحس فعلًا بالقضية، هو لا يفتعل الحزن تضامنًا مع المشردين من أهل فلسطين، ولا يدعي الألم احترامًا لمشاعر الآخرين، ولكنه بالفعل يعاني كما يعانون، ويتألم كما يتألمون، هو جزء لا يتجزأ من الجسد الواحد، ولا بد أن يشعر بشعوره، ويتألم لآلامه، ويحزن لأحزانه، ويفرح لأفراحه دون تكلف ولا افتعال، فأنت إن أدركت القضية على حقيقتها، وأن لك دورًا فيها دخل الحزن في قلبك مؤكدًا لا افتعال فيه ولا تكلف، هذا ما أريده، ولا أريد منك أن تفتعل الحزن لقضية فلسطين.
2 / 2
تحديد هدف ما لا بد أن يكون وفق منهجية صحيحة
في المحاضرة السابقة تحدثنا عن الدور الأول عن أهمية تحريك القضية وبسرعة، ووقفنا عند ذكر المفاهيم الصحيحة لقضية فلسطين، اليوم نبدأ في الحديث عن بعض هذه المفاهيم الهامة، الحق أن سوء الفهم لهذه المعاني أو المفاهيم قد يؤدي بنا إلى انحراف خطير بعيد تمامًا عن جادة الطريق، سوء الفهم لهذه المعاني يعني انسياقًا وراء المؤامرة الفكرية.
المفهوم الأول الذي نريد أن نناقشه في هذه المحاضرة هو تحديد الهدف، هل يستقيم أن تكون مسافرًا فتعد العدة للسفر من سيارة ومتاع وأموال وميعاد وتجهيز وترتيب، ثم تأتي يوم السفر وتكتشف أنك لا تدري إلى أين تسافر، ما هي الوجهة! ما هو الهدف! هذا بالطبع لا يستقيم؛ لأن إعدادك لمدينة مجاورة غير الإعداد لمدينة بعيدة، فسفرك إلى الإسكندرية ليس مثل سفرك إلى أسوان، وليس مثل سفرك إلى مكة، وليس مثل سفرك إلى لندن، أو سفرك إلى أي مكان، كل مكان يتطلب إعدادًا خاصًا، تحديد الهدف، وتحديد الوجهة.
أترجم هذا الكلام إلى
السؤال
لماذا نحرر فلسطين؟ وهذا سؤال في غاية الأهمية.
ما هي الدوافع وراء الحركة، وبذل الجهد والعرق والمال والنفس؟ مهم جدًا أن نجيب باستفاضة عن هذا السؤال، وأن نفرغ له وقتًا وجهدًا؛ لأن المؤامرة الفكرية التي تحدثنا عنها في الحلقة السابقة أول ما تضرب ستضرب الأهداف والدوافع، وهذا قد يحبط العمل.
لماذا نحرر فلسطين؟ سأعرض لكم إجابات أعرف أنها تخطر في بال كثير من المسلمين، إجابات كثيرة متعددة، ولكني أشعر أن إجابة واحدة في هذه الإجابات تعد هي الإجابة الصحيحة.
سأعرض هذه الإجابات الواحدة تلو الأخرى، وعلى المستمعين أن يحاولوا أن يلتقطوا من بينها إجابة يعتقدون أنها هي الإجابة الصحيحة.
الإجابة الأولى: هل لأنها عربية ونحن عرب؟ الإجابة الثانية: هل لأنها القدس المدينة المقدسة المباركة؟ الإجابة الثالثة: هل لأن بها المسجد الأقصى مسرى رسول الله ﷺ، وأولى القبلتين وثالث الحرمين؟ الإجابة الرابعة: هل لحل مشكلة اللاجئين المشردين في بقاع العالم المختلفة؟ الإجابة الخامسة: هل لوقف نزيف دماء الفلسطينيين؟ الإجابة السادسة: هل لأنها فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام قديمًا في عهد عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه؟ هذه ستة اختيارات، اختر من بينها واحدة، فكل الإجابات قد يصلح للإجابة، لكن ما هي أصح الإجابات على سؤال خطير: لماذا نحرر فلسطين؟ أنا أريد من الذي يسمع يحاول التفكير معي، نحن نعمل دراسة عن الدور الذي من الممكن أن نؤديه نحو قضية فلسطين، إن لم نفهم فعلًا لماذا نحرر فلسطين، سنخسر معظم الطريق، وسنتكسر، وستضعف الشوكة لا محالة.
أعود وأذكركم مرة أخرى، هل لأنها عربية؟ هل لأن بها القدس؟ هل لأن بها المسجد الأقصى؟ هل لحل مشكلة اللاجئين؟ هل لوقف نزيف الدماء؟ أم هل لأنها فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام قديمًا في عهد عمر بن الخطاب ﵁؟ أشعر أن قسمًا كبيرًا من الحضور مع كل إجابة من الإجابات، الجميع مقسمون بين هذه الإجابات، الاختلاف كبير؛ لأن الإعلان يشرح لنا في كل يوم هدفًا لتحرير فلسطين، مرة بالحديث عن كونها عربية، مرة من أجل القدس، مرة من أجل المسجد الأقصى، مرة من أجل إسلامية البلاد، وهكذا اختلف المسلمون كثيرًا في الهدف الذي من أجله نحرر فلسطين، الحقيقة أنا من كل هذه الإجابات أختار الإجابة الأخيرة؛ لأنها فتحت بالإسلام وحكمت بالإسلام قديمًا في عهد عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه.
2 / 3
موقف الشرع الإسلامي من فتح بلاد فلسطين وغيرها
تذكرون عندما تحدثنا عن فتح بلاد الشام فتحت بلاد فلسطين في سنة ١٣هـ وأتم الفتح في سنة ١٨هـ، ومنذ ذلك الحين أصبحت فلسطين قطرًا إسلاميًا.
يعني: أنا أحرر فلسطين ببساطة؛ لأنها إسلامية في المقام الأول، هذا بلا شك عليه تعليقات كثيرة: أولًا: ما موقف الشرع الإسلامي؟ نحن الآن مختلفون، أعلم أن الكثير يقولون: نحررها؛ لأنها عربية، وآخرين: لأن بها القدس، وآخرين: لأن بها المسجد الأقصى وهكذا اختلفنا، نرجع إلى حديث رسول الله ﷺ الذي ذكرناه في المحاضرة السابقة، يقول ﷺ: (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ).
فالآن نحن اختلفنا ما بين إسلامية وعربية ووقف لنزيف الدماء وقضية القدس وغيرها، تعالوا نرجع إلى سنة نبينا ﷺ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تعالوا نرجع إلى الشرع الإسلامي وإلى الفقه الإسلامي، هناك باب كبير جدًا في الفقه اسمه باب الأرض المغنومة، الأرض التي دخلها المسلمون بالفتح الإسلامي، ما هو موقفنا من هذه الأرض كأرض فلسطين أو كغيرها من الأراضي التي دخلها المسلمون فاتحين؟ فالأرض التي دخلها المسلمون فتحًا أو صلحًا وقف إسلامي، وعلى هذا اجتماع فقهاء المسلمين، لكن اختلفوا اختلافًا يسيرًا في كيفية تصرف الحاكم المسلم في هذه الأرض المغنومة، فـ أبو حنيفة والشافعي وابن حنبل ﵏ جميعًا اتفقوا على أنه يجوز أن يفعل في الأرض المفتوحة أحد أمرين: إما أن يوزع أربعة أخماسها على الفاتحين ويضم الخمس الباقي إلى خزانة الدولة، كما قسم رسول الله ﷺ بعض أراضي خيبر.
والرأي الثاني: أن يضمها كلها إلى بيت مال المسلمين، ولا يوزع منها شيئًا على الفاتحين، وذلك ليستفيد منها المسلمون إلى يوم القيامة، ولا تبقى حكرًا على مجموعة الفاتحين الأوائل، ومرجعهم في هذا الأمر الأخير إلى عمر بن الخطاب ﵁، روى البخاري عن أسلم مولى عمر قال: قال عمر ﵁: أما والذي نفسي بيده! لولا أن أترك آخر الناس بيانًا -أي: فقراء- ليس لهم من شيء ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله ﷺ خيبر، ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها.
فالإمام مالك لا يرى إلا هذا الرأي الأخير فقط، رأي عمر بن الخطاب بأن الأرض تكون لبيت مال المسلمين، ولا تقسم على الفاتحين.
إذًا: الأرض التي فتحت بالإسلام، أصبحت ملكًا للمسلمين، ملكًا أبديًا لا تغيير له ولا تبديل، هذه الحقيقة الفقهية سيترتب عليها أشياء كثيرة هامة: أولًا: هل فتح المسلمون أرض فلسطين كلها، أم فتحوا جزءًا منها؟ فتحوها كلها.
هذا معلوم.
إذًا: أصبحت أرض فلسطين أرضًا إسلامية خالصة منذ أن فتحت ابتداءً من سنة ١٣هـ إلى سنة ١٨هـ، فكل أرض فلسطين من البحر إلى النهر كما يقولون، أي: من البحر الأبيض المتوسط إلى نهر الأردن، ومن لبنان في الشمال إلى رفح وخليج العقبة في الجنوب، أعلم أن هذا في نظر الكثيرين كلام عجيب، وأنه أحلام وأوهام، لكنه شرع الله ﷾، وأبدًا ما كان شرع الله أوهامًا ولا أحلامًا.
ثانيًا: يزداد العجب مع هذا الفقه عندما تنظر حولك في بلاد العالم بحثًا عن البلاد التي فتحت بالإسلام، فأصبحت بحكم الشرع الإسلامي بلادًا إسلامية.
على سبيل المثال: بلاد الأندلس -إسبانيا والبرتغال- ونحن تكلمنا كثيرًا في محاضرات سابقة عن فتح أسبانيا والبرتغال، هذه البلاد حكمت بالإسلام، ثم دارت الدورة وجاءت الدولة لغير المسلمين وانتزعت من أيدي المسلمين بالنصارى، وضاع الحكم الإسلامي هناك، لكن هذا الضياع للحكم الإسلامي في هذه البلاد لم يلغ إسلامية هذه البلاد، بل ستظل إسلامية إلى يوم القيامة.
فمن شرع الله أنه إذا دخل الإسلام بلدًا فلا يجب أن يخرج منها أبدًا، بل وعليه أن يسعى للدخول إلى غيرها، هذه هي الرسالة الخاتمة، والمسلمون هم جند الله الناشرون لها، والمدافعون عنها، والشهداء في سبيلها؛ حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله.
إن الله ﷾ خلق العباد لغاية، قال ﷾ في كتابه الكريم: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات:٥٦]، فهؤلاء الذين يعيشون في بلاد أخرى غير بلاد المسلمين لا يعبدون الله ﷾، ولا يؤدون ما خلقهم الله لأجله، وبذلك وجب على المسلمين أن ينطلقوا إليهم يعلمونهم هذا الدين، ويدخلونه في بلادهم، ويزيلون الطغمة الحاكمة التي تبعدهم عن شرع الله ﷾، وعن رسالته الخاتمة للبشرية، رسالة رسول الله ﷺ.
كنت أقول هذه المعلومات أمام رجل صديق فقال: يا أخي! وما شأنك أنت؟ اتركه يعبد ما يشاء، ويسجد لمن يشاء.
لا حول ولا قوة إلا بالله العل
2 / 4
موقف الشرع الإسلامي من أرض إسلامية احتلها الكفار
لو احتل جزء من الأرض الإسلامية ماذا يكون الوضع؟ اجتمع فقهاء المسلمين على أنه يتعين الجهاد في سبيل الله لتحرير أي جزء محتل من بلاد المسلمين، ولو كان شبرًا واحدًا، يتعين الجهاد يا إخوة! أي: يصبح فرض عين كالصلاة والصيام في رمضان والزكاة.
والفروض بصفة عامة إما فرض عين وإما فرض كفاية، ومعنى فرض عين: يتعين على الفرد المسلم أن يقوم به بنفسه، ولا يسقط بإقامة البعض له مثل الصلاة المفروضة، فلا يصح أن يصلي أحد بالنيابة عن الآخر، وكذلك الزكاة إن كان يمتلك الزكاة الذي وجب عليه نصاب وحال عليه الحول، وإذا لم يقم به الفرد المسلم أثم واستحق عقابًا من الله ﷾.
أما فرض الكفاية: فهي الفروض التي تجب على بعض الناس دون البعض الآخر، ولو فعلوها وسدوا العجز لسقط الإثم عن الجميع، ولو لم يفعلها أحد أثم جميع المسلمين، كالأذان مثلًا، فإنه لا يجب على كل المسلمين أن يقوموا عند وقت الأذان ويؤذنون، وإنما يكفي المسلمين أن يقوم رجل ويؤذن للصلاة.
كذلك صلاة الجنازة، ورد الشبهات عن الإسلام مثلًا، ومثل بعض الأمور التي تتصل بإصلاح النظام المعيشي، مثل الزراعة والطب والصناعة والهندسة، كثير من الأمور يكفي أن يكون فيها بعض المسلمين يقومون بها حتى يسقط الإثم عن بقية المسلمين.
وبالنسبة للجهاد هو في الأصل فرض كفاية، إذا قام به بعض المسلمين وحصلت بهم الكفاية سقط الإثم عن بقية المسلمين؛ لحديث رسول الله ﷺ الذي رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: (بعث رسول الله ﷺ بعثًا إلى بني لحيان فقال: لينبعث من كل رجلين أحدهما، والأجر بينهما).
إذًا: الجهاد في الأصل فرض كفاية، لكنه يتعين فيصبح مثل الصلاة المفروضة وصيام رمضان في أمور ثلاثة: أولًا: أن يحضر المكلف صف القتال، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ﴾ [الأنفال:١٥].
ثانيًا: إذا استنفر الحاكم أحدًا من المكلفين، فمثلًا لو كان هناك خلافة إسلامية وكان هناك جهاد في بلاد الشام والحاكم استنفر رجالًا من اليمن تعين عليهم أن يتحركوا وللجهاد؛ لما رواه البخاري عن ابن عباس ﵄ قال: قال النبي ﷺ: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا).
ثالثًا: إذا احتل العدو جزءًا من أرض المسلمين، -وهذا شبيه جدًا بالموقف الذي نحن بصدده الآن في فلسطين- فإنه يتعين على أهل البلد المحتل أن يخرجوا جميعًا للقتال إن كان دفع العدو لا يتحقق إلا بخروجهم جميعًا، فإن لم يكفوا عاونهم الأقرب فالأقرب من بلاد المسلمين، ولو أتى ذلك على مسلمي الأرض جميعًا.
يقول أبو حنيفة ﵀: فإن غلب العدو على بلد من بلاد المسلمين أو ناحية من نواحيها ففرض عين -أي: الجهاد- فتخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن مولاه، وكذا يخرج الولد من غير إذن والديه، والغريم بغير إذن دائنه.
ثم يقول: امرأة سبيت من الشرق وجب على أهل المغرب تخليصها.
فسبحان الله! نفس الكلمات يا إخوة! تتكرر، ولكن بصيغ مختلفة في فقه المالكية والشافعية والحنابلة، فهذا أمر مجمع عليه، أنه إذا احتل جزء من أرض المسلمين ولو جزء يسير؛ وجب على المسلمين وتعين عليهم أن يحرروه.
إذا: ً أي بلد فتح بالإسلام قتالًا أو صلحًا أصبح بلدًا إسلاميًا، وتعين على المسلمين تحريره إن احتل شبر منه، فلسطين أو غير فلسطين من البلاد الإسلامية المحتلة.
لكن هناك أولويات، فليس من المعقول أن يكون الموقف ساخنًا جدًا في فلسطين والشيشان وكشمير، ونحن نقوم بتجميع الجيوش، ونذهب لتحرير إسبانيا مثلًا أو فرنسا أو اليونان، فلا بد أن يكون هناك أولويات عند المسلمين في القضايا الحادة الساخنة، مثل قضية فلسطين أو الشيشان أو كشمير أو البوسنة والهرسك أو كوسوفا، توجه إليها الجيوش وتوجه إليها الطاقات، ويوجه إليها الجهد.
فقد يقول قائل: هذا كلام جميل، لكن ينافي الحلول الواقعية التي ذكرتها في البداية، ونحن قلنا في البداية: إننا نتحدث مع الطبيب والمهندس والنجار والسباك والحداد، ونتحدث مع عموم الأمة، ولا نتحدث مع من بيده أن يخرج الجيوش ويجهز الطاقات للحروب، فهل هذا فيه تعارض مع ما ذكرناه في بداية المحاضرات؟
الجواب
أولًا: نحن نتحدث عن مفاهيم أساسية: حتى تعمل لا بد أن تفهم أولًا، ولا بد أن تعرف حقوقك حتى تستطيع أن تقاتل من أجلها، وهذه المحاضرات يا إخوة! سيسمعها أحد رجلين، إما في داخل فلسطين وإما في خارج فلسطين، فلو كان السامع في داخل فلسطين ولديه الفرصة للجهاد لا بد أن يعلم أنه قد تعين عليه الجهاد، ولا بد أن يعلم حدود حقوقه التي لا يجوز له التنازل عنها، ولو كان السامع لهذه المحاضرات خارج بلاد فلسطين فعليه أن يعين على هذا الجهاد.
روى البخاري و
2 / 5
بيان أهداف شريعة الحق وأهداف شريعة الباطل
سؤال قد يطرح: هذا المنطلق للأراضي الإسلامية المحتلة بهذا الإدراك الشامل والمفهوم الواسع يتعارض مع ما يسمى بالشرعية الدولة، فإن الشرعية الدولية الآن فرضت حدودًا في كل دولة، فلا يجوز أن تعبر حسب قولهم.
الجواب
هناك نوعان من الشرعية في العالم، هناك شريعة الحق، وشريعة الباطل، واصطلح المبطلون في هذا العصر على تسمية شريعة الباطل بالشرعية الدولية، فالشرعية الدولية هي شريعة الغاب القوي فيها يأكل الضعيف، ولا فرق في الشرعية الدولية بين صاحب الحق وبين مغتصب الحق، المهم من هو الأقوى، ولا فرق في الشرعية الدولية بين الظلم والعدل، المهم من الأقوى، ولا فرق في الشرعية الدولية بين الرحمة والقسوة، المهم من الأقوى.
فالشرعية الدولية منعت دخول التطعيمات ولبن الأطفال للعراق إلى أن مات عشرات الألوف من الأطفال، الشرعية الدولية أجازت ضرب المدنيين في العراق والبنية التحتية غير العسكرية: محطات الكهرباء، المصانع، المدارس، المستشفيات، الشرعية الدولية أجازت ضرب مصنع الأدوية الوحيد في السودان؛ لأنها أعلنت تطبيق شرع الله ولو جزئيًا في بعض الولايات، الشرعية الدولية أعطت كشمير للهند مع علمهم بغالبيتها المسلمة، الشرعية الدولية تركت الصين تأكل المسلمين في تركمانستان الشرقية، ولعلكم سمعتم بعشرات المسلمين الذين أعدموا قريبًا، وأذاعت الخبر الـ BBC، وجاء الخبر في الديلي تلغراف البريطانية، أنه أعدم عشرات من المسلمين بعد أن أجبروا على أن يحتسوا الخمر في وجبتهم الأخيرة، وداروا بهم في كل بلاد تركمانستان حتى يكونوا عبرة لغيرهم، فالشرعية الدولية تركت الصين تأكل المسلمين ولم تحرك صاروخًا في اتجاه الصين، الشرعية الدولية تركت الصرب تذبح وتغتصب بالبوسنة والهرسك وكوسوفا، وبعد ذلك بتسع سنين يحاكمون ميلوسوفيتش، وكأنه انتصار كبير للعدالة الدولية! فالشرعية الدولية يا إخوة! ما هي إلا اصطلاح اجتمع عليه مجرمو الحرب في العالم؛ لتنفيذ رغبات الدول القوية.
قل لي بالله عليك! لماذا هذا الشكل المتباين بين موقف أمريكا تجاه الكويت عند احتلال العراق لها، وبين موقف أمريكا من اليهود في فلسطين، والذين ظلموا في الكويت هم مسلمون، والذين ظلموا في فلسطين مسلمون أيضًا، فهذا احتلال ظالم وهذا احتلال ظالم.
فلماذا تحركت الشرعية الدولية ولم يستطع بوش الأب أن ينام حزنًا على مصائب المسلمين في الكويت، إلا عندما جمع أهل الأرض جميعًا بما فيهم المسلمين لتحرير الكويت، وهنا تحرك غالب المسلمين بشهامة لتحرير الكويت، وأخرج المصحف وقرأ العلماء: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الحجرات:٩].
لماذا ينام بوش الأب وكلينتون ثم بوش الابن ملء جفونهم! واحتلال إسرائيل لفلسطين مستمر بصورة أبشع بكثير من احتلال العراق للكويت؟! ثم أين شهامة المسلمين الذين تحركوا لنجدة الكويت؟ أين شهامتهم وجيوشهم في قضية فلسطين؟ لماذا لم يخرجوا المصحف، ولماذا سكت العلماء الذين روجوا لتحرير الكويت؟! أليس في المصحف آيات تحض على نجدة أهل فلسطين وعلى قتال اليهود؟! لماذا فرضت الشرعية الدولية في الكويت تحرك نصف مليون جندي وآلة عسكرية ضخمة جدًا؟! ولماذا لم تفرض الشرعية الدولية في فلسطين إلا طاولة مفاوضة وأربعة أو خمسة كراسي حولها؟! فالشرعية الدولية اصطلاح لا يعرف حقًا ولا باطلًا، لا يعرف إلا القوة.
أما شريعة الحق -شريعة الله- فهي أمر مختلف تمامًا، هي شرعية تقوم في الأساس على احترام خالق هذا الكون، شرعية تعرف الحق كما عرفه مالك الملك ذو الجلال والإكرام، وتعرف الباطل كذلك كما عرفه مالك الملك ذو الجلال والإكرام، شرعية تقوم على أساس نشر العدل المطلق والرحمة المطلقة بين الخلق، شرعية تريد الخير للعالمين والرحمة لهم، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:١٠٧].
والصراع قديم جدًا بين الشرعية الدولية لأهل الباطل وبين الشرعية الإسلامية لأهل الحق، فقد اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يعبدوا أصنامًا من دون الله، يعني: قرار الأمم المتحدة في مكة زمان رسول الله ﷺ أن يعبدوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فهل هذا الاجتماع يعطي هذه العبادة صورة الحق؟ اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يعذبوا المسلمين ويصادروا أموالهم وديارهم، وهي عملية تجميد أموال كما نسمع، اصطلحوا على أن يفرضوا آراءهم بسلاحهم، فهل هذا التعذيب حق؟ اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يحاصروا المسلمين في شعب أبي طالب ثلاث سنوات كاملة، فهل كان هذا الحصار حقًا؟ اصطلح أهل مكة من الأشراف الكافرين على أن يقتلوا رسول الله ﷺ قبل حادثة الهجرة ل
2 / 6
تصحيح المفهوم حول السبب الدافع لتحرير فلسطين
نراجع الاختيارات التي كنا قد طرحناها تحت
السؤال
لماذا نحرر فلسطين؟ الاختيار الأول: هل لأنها عربية؟ الاختيار الثاني: هل لأن بها القدس؟ الاختيار الثالث: هل لأن بها المسجد الأقصى؟ الاختيار الرابع: هل لحل مشكلة اللاجئين؟ الاختيار الخامس: هل لوقف نزيف الدماء؟ الاختيار السادس: هل لأنها فتحت بالإسلام فأصبحت أرضًا إسلامية؟! واخترنا الإجابة الأخيرة، واستنتجنا من ذلك بأن بلاد فلسطين بكاملها إسلامية، ولذلك نحررها، ولكن ما عيوب الإجابات الأخرى أم أنها صحيحة؟ تعالوا بنا نفصلها واحدة واحدة ونرى هل الإجابة سليمة أم غير سليمة؟
2 / 7
تحرير فلسطين لكون القدس فيها
نأخذ مثلًا إجابة أن بها القدس، هل نحرر فلسطين لأن بها القدس؟ القدس طبعًا مدينة شريفة ومباركة، وذات قيمة هامة جدًا عند المسلمين، تأخذ موقعها المتميز مباشرة بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة، وفوق القيمة الدينية العالية فهي ثغر قديم من ثغور الإسلام، وأرض جهاد دائم، وأهلها في رباط إلى يوم القيامة، لكن الحقيقة أن شيئًا خطيرًا سيحدث إذا قلنا: إننا نحرر فلسطين من أجل القدس، فإنه سيأتي العدو عند لحظة من لحظات المساومة ويقول لك: خذ القدس واترك كذا وكذا من أرض فلسطين؛ ولذلك فالعدو نفسه سيعلي جدًا من قيمة القدس في إعلامه وسفاراته ومفاوضاته حتى إذا سمح لك بأخذها فتح لك الطريق لتسلم غيرها بسهولة، والأمم المتحدة من شدة خبثها أنها لما قامت بمؤامرة تقسيم فلسطين عام ١٩٤٧م فصلت القدس لوحدها وجعلتها تحت رعاية دولية، وبذلك رفعت من قيمتها جدًا عند المساومة، فيأتي الفلسطيني المفاوض ويقول: لا بد أن آخذ القدس، سأقيم دولة فلسطينية عاصمتها القدس، فيوافقونه بعد جدال، ثم يكتشف وكأنه قد فقد بصره ساعة المفاوضات أنه لم يأخذ إلا ٢٢% فقط من الأرض فيها القدس، وسلم ٧٨% من الأرض خالصة لليهود، ثم يكتشف أيضًا كارثة أخرى بعد أيام أو شهور أن ٦٠% من الضفة الغربية فيها مستوطنات يهودية، وفي النهاية يجد نفسه لا يملك إلا ١٠% أو أقل مهلهلة تمامًا، لكن الحمد لله معه القدس!! ونحن متفقون أن أرض فلسطين بأكملها إسلامية محتلة واجبة التحرير، وهذا الذي كان المفاوضون ينادون به من قبل، نأخذ أرض فلسطين بأكملها، لكن سبحان الله! إنها المؤامرة، فهناك أناس يدبرون، وأناس لا يمانعون في الوقوع في المؤامرة، ثم هناك مرحلة أخطر في المساومات، فإنه عندما يشاهد ضعفًا أكبر في صف المفاوضين يبدأ بالمفاوضة في تقسيم القدس فتصبح هناك قدس شرقية وقدس غربية.
والله أذكر عنوانًا رئيسًا في صحيفة عربية مشهورة يقول: لا تفريط في القدس الشرقية.
والغربية؟ هل الغربية أصبحت ملك اليهود؟! وبقية فلسطين يجوز فيها التفريط؟! ثم بعد ذلك مرحلة أخطر وأخطر في المفاوضات، وهو ما تم في أوسلو في المفاوضات السرية، والتي ظهرت في الصحف بعدها بشهور، أن اليهود اتفقوا مع أبي مازن المفاوض الفلسطيني البارز على إنشاء أحياء جديدة في شرق مدينة القدس يطلقون عليها اسم القدس، ويأخذ اليهود مدينة القدس الأصلية، ويسمونها أورشليم، بينما يأخذ الفلسطينيون الأحياء الجديدة ويسمونها القدس، وحينذاك الحمد لله إسرائيل أخذت أورشليم، وفلسطين صارت عاصمتها القدس، والحمد لله سيأخذ الفلسطينيون مدينة في شرق القدس، وشيء طيب أنهم لم يعملوها في بلد أخرى، في الأردن أو في لبنان ويسمونها القدس.
إذًا: شيء خطير جدًا أن أقول: أنا أحرر فلسطين من أجل القدس، لكن أنا أحرر فلسطين من أجل فلسطين؛ لذلك أنادي أن تظهر دائمًا الدعاية لفلسطين تحت عنوان فلسطين وليس القدس، مثلًا تقول: فلسطين إسلامية، ولا تقول: القدس إسلامية، تقول: فلسطين لنا، ولا تقول: القدس لنا، تقول: لا تفريط في فلسطين، ولا تقول: لا تفريط في القدس، وهكذا.
2 / 8
تحرير فلسطين لكون المسجد الأقصى فيها
الأخطر والأخطر والأخطر، أن نقول: إننا نحرر فلسطين من أجل الأقصى، وهذا كلام سيستغرب منه الكثيرون، لكن لنحلل هذا المنطلق: أولًا: ستتطور المساومة والفصال إلى حد خطير، سيقولون: لا مساس بالمقدسات الإسلامية، الأقصى وقبة الصخرة؛ ولذلك نعطيك الأقصى وقبة الصخرة ونأخذ فلسطين والقدس، ثم مرحلة أخرى من المساومات، يقولون: لضمان الأمان أكثر نجعل الأقصى تحت حماية دولية وليس تحت حماية المسلمين، فيفقد المسلمون ملكيتهم للأقصى ويصبحون زوارًا له، نعم يزورونه بحرية كما يزورون مسجد قرطبة في إسبانيا اليوم، ثم مرحلة جديدة بعد ذلك، هكذا خطوة خطوة، وهي إعطاء الأقصى ولكن بدون جدار واحد فقط من جدرانه، يدعون أن هذا الجدار هو حائط المبكى وبقايا هيكل سليمان ﵇، ثم خطوة أخرى خطيرة جدًا عندما يلاحظون موت الشارع الإسلامي، وهي هدم الأقصى وإقامة هيكل سليمان ﵇، ولكن من الممكن أن تحدث ثورة في العالم الإسلامي، فيقولون لهم: لماذا تثورون؟ سنعطيكم قبة الصخرة.
وقبة الصخرة يا إخوة! أقل شرفًا من الأقصى، فيقولون: لماذا لا نقنع المسلمين أن المسجد الأقصى هو قبة الصخرة؟ فينشرون دعاية فيها أن قبة الصخرة الصفراء المشهورة وكأنها المسجد الأقصى، وكثير جدًا من المسلمين كانوا يظنون أن هذه القبة الصفراء الذهبية المشهورة هي قبة الأقصى إلى وقت قريب، لكن الحمد لله مؤخرًا بدأ بعض المسلمين يعلم أن الأقصى الحقيقي غير قبة الصخرة الصفراء المشهورة.
إذًا: عندما نقول: نحن نحرر فلسطين لأن فيها الأقصى، فإنهم سيساومون على الأقصى الذي تريده، ويأخذون بقية البلاد، وليس هذا فقط، بل هناك أمور أخرى لا تقل خطورةً بالنسبة لفهم القضية، نحن قلنا: إنهم سيساوموننا على كل شيء ويعطوننا الأقصى، هذا لو أعطونا.
ثانيًا: هل الأقصى كبناء أغلى في القيمة، أم دماء المسلمين الذين يعيشون في مدن قد تبعد كثيرًا عن الأقصى، في رام الله والخليل وغزة ونابلس وغيرها، حتى في غير فلسطين؟ أنا لن أتطوع بالإجابة ولكن أترك الإجابة إلى معلمي ومعلم الأجيال ومرشدي ومرشد العالمين رسول الله ﷺ.
روى ابن ماجه عن عبد الله بن عمر ﵄ قال: (رأيت رسول الله ﷺ يطوف بالكعبة ويقول: ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده! لحرمة المؤمن أعظم عند الله منك، ماله ودمه وإن نظن به إلا خيرًا).
وروى الترمذي عن عبد الله بن عمر ﵁ أنه نظر يومًا إلى الكعبة، فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك.
سبحان الله! المؤمن أعظم حرمة عند الله من الكعبة، والكعبة بلا شك أعظم شرفًا من الأقصى.
إذًا: خطأ كبير في الفهم ألا يتحرك المسلمون لقتل الأبرياء من الفلسطينيين بينما ينتفضون لزيارة شارون إلى الأقصى.
أقول: جميل ولا شك أن ينتفض المسلمون لدخول شارون الأقصى، ولكن لا بد أن يكون رد الفعل أشد وأعنف عند المسلمين إذا قتل مسلم من مسلمي فلسطين، فما بالك بالمئات من أهل فلسطين؟! خطأ كبير في الفهم أن يهتم المسلمون وينتفضوا لحفر نفق تحت الأقصى، ولا يهتمون ولا ينتفضون لذبح ثلاثة آلاف من المسلمين في صبرا وشاتيلا، وما تحركوا إلا على استحياء بعد أن فتحت الموضوع إذاعة الـ BBC البريطانية بعد ١٩ عامًا من الحديث، ساعتها بدأنا نتكلم ونرفع قضايا في بلجيكا وغيرها، لكي نرجع حق المسلمين الذين ذبحوا منذ ١٩ عامًا.
فدماء المسلمين غالية جدًا، وإن هدم الأقصى فسيتجدد بناؤه إن شاء الله، لكن لو أريق دم المسلم من يعيده إلى أسرته في الدنيا، حرمة كبيرة وذنب عظيم أن يقتل المسلم ولا ينتفض المسلمون، بل إن الرسول ﷺ يسمو بدم المسلم سموًا أعلى من الكعبة والأقصى، بل والدنيا جميعًا، فيقول في الحديث الشريف الذي رواه أبو داود عن البراء بن عازب ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)، هذا الحديث رواه أيضًا النسائي والترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄.
فلا بد من ترتيب الأولويات، دماء المسلمين تأتي قبل مقدسات المباني.
إذًا: اعتقاد المسلمين أننا نحرر فلسطين فقط لكونها تحتوي على المسجد الأقصى ينطوي عليه خطران كما ذكرنا: الخطر الأول: المساومة على الأقصى في مقابل بقية فلسطين.
والخطر الثاني: تعظيم قيمة الأقصى أكثر من دماء المسلمين.
والخطر الثالث: هو هل يلزم وجود مكان مقدس في البلد كالأقصى أو الكعبة حتى يتحرك المسلمون لتحريرها؟ هل تضعف حمية المسلمين عن مساعدة أهل الشيشان؛ لأنهم لا يمتلكون أقصى في بلادهم؟ هل لا تتفطر قلوب المسلمين على نساء البوسنة المغتصبات؛ لأنهن لا يمتلكن كعبة في بلادهن؟ هل لا تغلي
2 / 9
تحرير فلسطين لأنها مسرى رسول الله ﷺ
من الأشياء التي خص الله بها فلسطين كونها مسرى رسول الله ﷺ، فلا بد أن نسأل أنفسنا: لماذا ذهب رسول الله ﷺ في رحلته العظيمة إلى السماء إلى القدس أولًا، كان من الممكن أن يأتي الله له بالأنبياء يصلون معه في مكة وهي أشرف بلا شك، أو يصلي بهم في السماء، ولكن سبحان الله! في ذلك إيحاءات كثيرة: أولًا: تسلم الرسول ﷺ لقيادة البشرية من مركز القيادة القديم وآخر عهده أنبياء اليهود.
ثانيًا: إلقاء حب هذا المكان بصورة أكبر في قلوب المؤمنين.
ثالثًا: جعل الله الأقصى القبلة الأولى للمسلمين، وظلت كذلك ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا في المدينة المنورة، كما جاء في رواية البخاري، ثم حولت القبلة بعد ذلك إلى الكعبة، فكان الأقصى هو أولى القبلتين، وبذلك يضاف شيء جديد بالإضافة إلى كونه مسرى رسول الله ﷺ، فيزداد المسلمون حبًا له ولمحله القدس وفلسطين، والعلاقة بين القدس والكعبة وثيقة، فغير المسرى والقبلة هو التالي مباشرة في البناء على الأرض للكعبة.
أخرج الإمام مسلم ﵀ عن أبي ذر ﵁ قال: (سألت رسول الله ﷺ عن أول مسجد وضع على الأرض؟ قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى.
قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا، ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركت الصلاة فصل).
ولهذه الميزات العظيمة جعل الله له مزية رابعة خاصة جدًا، فالمسلم قد يشد الرحال من بعيد ليأتي ويصلي في المسجد الأقصى، فهذه مزية خاصة ليست إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد رسول الله ﷺ، والمسجد الأقصى، وذلك كما جاء في البخاري: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)، فلا يجوز لأحد أن يسافر من بلد إلى بلد -حتى ولو كان في نفس القطر- ليذهب ويصلي في مسجد ما، إلا في هذه المساجد الثلاثة.
المزية الخامسة: يخبر ﷺ أن أجر الصلاة فيه إلى خمسمائة صلاة، وهذه أيضًا مزية بالنسبة لغيره من المساجد.
المزية السادسة: يبارك الله ﷾ في الأرض التي تحيط بالأقصى، وهي أرض فلسطين، وأرض الشام بصفة عامة: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾ [الإسراء:١] ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:٧١].
ويقول رسول الله ﷺ في الحديث الذي رواه الطبراني وصححه الألباني: (الشام أرض المحشر والمنشر).
المزية السابعة: أكثر من ذلك أن الله لا يبارك فقط في الأرض إلى يوم القيامة، بل يبارك في ساكني فلسطين أيضًا إلى يوم القيامة، روى الطبراني وصححه الألباني: أن رسول الله ﷺ قال: (عليكم بالشام، فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه).
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، على من يغزوهم قاهرين، لا يضرهم من ناوءهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.
قيل: يا رسول الله! وأين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس).
كل هذه الأمور ترفع جدًا من قيمة فلسطين، لكن كما ذكرنا ليست هي المبرر الأول لتحرير فلسطين، بل المبرر الأول كون الأرض إسلامية، وهذه الميزات حوافز زائدة على المبرر الأول، وذلك كما تنقذ طفلًا من الموت فهذا واجب، لكن أن يكون الطفل ولدك هذا يضاف إلى كونه واجبًا، فهو شيء فطري لا يستطيع الإنسان أن يتخلى عنه إلا أصحاب النفوس الخبيثة جدًا.
سؤال مهم: لماذا يعطي الله كل هذه المزايا لهذه الأرض، فيزيد حب المسلمين لها ويتحركون إليها أسرع مما يتحركون إلى غيرها، لماذا لم يجعل مثلًا المسجد الأقصى في الجزائر، فيسارع المسلمون إلى الجزائر إذا احتلت، أو في مصر فيبادر المسلمون إليها، أو في غيرها من البلاد، لماذا فلسطين بالذات؟
الجواب
لا أعتقد أن السبب فقط في كونها أرض ديانات سابقة ورسالات عديدة، ولكن أعتقد أن الله ﷾ لما كان يعلم بسابق علمه للأحداث أن هذه البقعة من الأرض ستظل مكانًا لصراع دائم مستمر بين قوى الأرض المختلفة وبين المسلمين أراد أن يزيدها محبة في القلب؛ لأنه سوف يتكرر القتال فيها مرات ومرات، فقد أتاها الصليبيون من أبعد النقاط عنها في العالم المعمور وقت ذاك، واحتلوها ٢٠٠ سنة كاملة، وكان من الممكن أن ينسى المسلمون القضية لتقادم الزمان، لكن أبدًا ما نسيها المسلمون، ثم جاء اليهود من الشتات والتيه الحديث من كل بلاد العال
2 / 10