وصل كتاب مولاي، جعلني الله فداه في النوائب كلها، مفصلها ومجملها، فأوصل نعمةً جددت الوصل، وأعادت الطول والفضل، وسادت ما تقدم من أخواتها رفعة وجلالًا، وعلت على ما سلف من أترابها علية وجمالًا، وذكرت كل ما قدم عن نعمه، وتقدم من كرمه، لا لقصور عن الأولى فيما يتلوها ويؤكدها، ولا لفتور عن الأخرى فيما ينشرها ويجددها، لكن لكل جديد لذة تستطاب، ولكل قادم فرحى في المآب، ولكل غريب دولة في الأحباب، وطرفة في الأزمان والأحقاب.
وأقبل علي بالسرور بإقباله فملك عناني، واسترقني بقدومه بأرق أجفاني، وغمرني ما يغمر الصب بمن يهواه، وسرني ما يسر الوامق بمن يراه، وعاد علي عائد بالبشاشة يعتادني، وطرقني طارق (بالمسرة) ينتابني، واجتمعت المسار في قلبي فتزاحمت وتلاصقت وتآلفت البشائر في صدري فتلاءمت وتضايقت، واستخفني الطرب في كل نوب، وحف بناحيتي من كل أوب، فيالها نعمةً زادت في الأمل ففسحته، وعمرت الصدر وشرحته، ويا لها منّة حلت العقد وأرضته، وباعدت الهجر وأوهته، ويا لها يدًا أيدت الأفضال وهذبته، وأوصلت الوصال وقربته، أحيا الله من أحيا نفسي بقدومها ووفودها، وأبقى من استبقاني برجوعها وورودها، وخفف ظهر من أثقل ظهري بحملها، وأضعف جوارحي بنقلها، فالحمد لله الذي رده إلى عادته المألوفة بعد جماحه، وعطفه علي عادة ظني فيه ومخيلتي له، إلى أيامه الغر وأوقاته الزهر، التي تفوق أيام الشباب حسنًا وبهجة، وإشراقًا وجدة، وساعاته التي هي أشهى من مسارقة النظر، ومخالسة القبل، وعيشه الذي ينسي سكرة الصب، ولذة الحب، وعهده الذي يوفي العهد، وينجز الوعد، وكتابه الذي هو أحسن من رياض الزهر، واشغف من العيون المراض، وأبهج من قدوم الغائب. وأزكى من الروض العازب، فكأن الأيام عفت آثار ما صنعه الهجر، ومحت نوافثها من الصدر، فأخمدت نارًا كان الغدر أومض شعاعها، وسكنت نفسًا كان الشوق هاج نزاعها، وقد كنت أتصور ذلك وأعلمه، وأتخيل موقعه وأتوسمه، قبل أن تقربه الزلفى، وتتواتر به البشرى، من رجوعه إلي، وانعطافه علي، فكان برقه غير جهام، وحسامه غير كهام، وأملي فيه محققًا، وظني به مصدقًا، والله يكفيني نوائب الهجر، ويقيني غوائل الغدر، ويقيمه على هذه الخليقة الوسيمة، ويجريه على هذه الطريقة المستقيمة، ولا يخيب فيه حسن ظنوني، ولا يكدر فيه صفاء يقيني، (إن شاء الله والسلام) .
وشمس المعالي القائل وقد جرت عليه نكبة:
قل للذي بصروف الدَّهرِ عيَّرنا ... هل عاندَ الدَّهرُ إلاّ من له خطرُ
أما ترى البحرَ تطفو فوقهُ جيفٌ ... ويستقرُّ بأقصى قعرهِ الدُّررُ
فإن تكن عبثتْ أيدي الزَّمانِ بنا ... ونالنا منْ تمادي بؤسهِ ضررُ
ففي السَّماءِ نجومٌ ما لها عدد ... وليس يُكْسَف إلاّ الشمسُ والقمرُ
وأما بيته الثاني فمن قول ابن الرومي:
دهرٌ علا قدرُ الوضيعِ به ... وغدا الرفيعُ يهينهً شرفهْ
كالبحر يرسُبُ فيهِ لُؤلُؤهُ ... سفلًا وتطفو فوقهُ جيفهْ
أكثر ابن الرومي من هذا المعنى، ومن جيد ما قاله منه قوله:
لمْ يضحكِ الشيبُ في فوديهِ بل كلحا ... سمِّ القبيح من الأسماء ما قبحا
في قصيدة يقول فيها:
قالت: علا النَّاسُ إلاّ أنت، قلت لها ... كذاكَ يسفلُ في الميزان ما رجحا
وقوله: "ففي السماء نجوم" في البيت الأخير من قول أبي تمام:
إنّ الرِّياح إذا ما استعصفتْ قصفتْ ... عيدان نجدٍ ولم يعبأنَ بالرَّتم
بناتُ نعشٍ ونعشٌ لا كسوف لها ... والشَّمس والبدر منه الدَّهر في الوقم
ولشمس المعالي وقد أهدى إليه عضد الدولة سبعة أقلام:
قد بعثنا إليك سبعة أقلا ... مٍ لها في البهاء حظٌّ عظيم
مرهفاتٍ كأنَّها ألسنُ الحيّ ... ياتِ قد حاز حدها التقويم
وتفاءلت إن ستحوي الأقا ... ليم بها كلُّ واحدٍ إقليم
وأهدى أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابئ إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلابًا بقدر الدرهم محكم الصنعة، وكتب إليه:
أهدى إليكَ بنو الحاجاتِ واحتفلوا ... بمهرجانٍ عظيمٍ أنتَ تعليه
لكنَّ عبدك إبراهيمَ حين رأى ... سموَّ قدركَ عن شيءٍ يدانيه
لم يرضَ بالأرضِ يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلكَ الأعلى بما فيه
1 / 7